الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 170006
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170006 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

بحثان

1 ـ فلسفة الاستئذان والمفاسد المترتبة على عدم الالتزام به

لا يكفي اللجوء إلى القوة لاقتلاع جذور المفاسد الاجتماعية كالأعمال المخلة بالشرف ، ولا يرجى نتيجة مرضية من العقاب فقط في القضايا الاجتماعية.

وإنّما يستوجب اتباع عدة أمور كالتثقيف الإسلامي ، وتعليم آدابه الخلقية ، واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية. وإلى جانب هذه الأمور يكون العقاب كعامل لردع المنحرفين عن الطريق السوي.

ولهذا السبب بدأت سورة النور ـ وهي في الواقع سورة العفاف والشرف ـ بالحديث عن جلد الرجال الزناة والنساء الزانيات ، كما تحدثت في نفس الوقت عن تسهيل الزواج ورعاية الحجاب الإسلامي ، والنهي عن النظر بلذة وتحريم اتهام الآخرين بشرفهم وناموسهم ، وأخيرا استئذان الأبناء حين الدخول إلى غرفة الوالدين.

وهذا يدلّ على عدم إغفال الإسلام أي من هذه التفاصيل التي لها علاقة بمسألة العفاف والشرف.

وعلى الخدم أن يستأذنوا حين الدخول إلى غرفة الزوجين الخاصّة اللذين يخدمانهما ، كذلك يستوجب على الأطفال البالغين عدم الدخول إلى الغرفة المذكورة دون استئذان ، وتعليم الأطفال غير البالغين الذين يرتبطون ارتباطا وثيقا بالوالدين ، أن لا يدخلوا غرفة الوالدين دون استئذان وعلى الأقل في الأوقات الثلاثة التي أشارت إليها الآية «قبل صلوة الفجر وحين الظهر ومن بعد صلوة العشاء».

وهذا نوع من الأدب الإسلامي ، رغم قلّة الالتزام به مع كلّ الأسف. ورغم بيان القرآن ذلك بصراحة في الآيات السابقة. فإنّه من النادر أن يتناوله الخطباء

١٦١

والكتّاب ، ولا يعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني الحاسم؟!

ورغم أنّ ظاهر الآية يوجب هذا الحكم ، وحتى لو اعتبرناه مستحبا فإنّه ينبغي الحديث عنه ، وبحث جزئياته ورغم تصور بعض السذج بأن الأطفال لا يدركون شيئا عن هذه الأمور ، وأن خدم البيت لا يهتمون بها ، فإنّ الثابت هو حساسية الأطفال بالنسبة لهذه القضية (فكيف بالنسبة للكبار). وقد يؤدي إهمال الوالدين ورؤية الأطفال لمشاهد ممنوعة إلى انحرافهم خلقيا وأحيانا إلى إصابتهم بأمراض نفسية.

وقد واجهنا أشخاصا اعترفوا بأنّهم أثيروا جنسيا ، أو أصيبوا بعقد نفسية لمشاهد جنسية من هذا القبيل وقد شبّت في قلوب البعض منهم نار الحقد على الوالدين ، إلى درجة الرغبة في قتلهما ، أو الانتحار. كلّ ذلك بسبب الأثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين ، وعدم حيطتهم حين الممارسة الجنسية أو مقدماتها.

هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم الإسلامي الذي بلغه العلماء المعاصرون ، بينما جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرنا. وهنا نجد لزاما علينا توصية الآباء والأمهات بالجدية في الحياة الزوجية ، وتعليم أولادهم الاستئذان حين الدخول إلى غرفتهما ، واجتناب كلّ عمل قد يثير الأولاد ويحركهم. ومن هذه الأعمال مبيت الزوجين بغرفة فيها أولاد بالغون ، فيجب اجتناب ذلك بالقدر الممكن. وأن يعلما بأنّ هذه الأمور تؤثّر بشكل كبير في مستقبل أولادهما.

وممّا يلفت النظر حديث للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه «إيّاكم وأن يجامع الرجل امرأته والصبي في المهد ينظر إليهما»(1) .

__________________

(1) بحار الأنوار ، المجلد 103 ، صفحة 295.

١٦٢

2 ـ حكم الحجاب بالنسبة للنساء العجائز :

لا خلاف في أصل هذا الاستثناء في حكم الحجاب بين علماء المسلمين ، لأنّ القرآن صريح في هذا الأمر. إلّا أنّ هناك أقوالا في خصوصيات هذا الحكم.

فبالنسبة لعمر هؤلاء النسوة ، والحد الذي يجب أن يبلغنه ليكنّ من القواعد ، هناك أقوال. فبعض الأحاديث الإسلامية تنص على أنّ المراد هو «المسنّة».(1)

بينما فسرته أحاديث أخرى بـ «القعود عن النكاح»(2) .

ولكن عدد من المفسّرين يرى أنّها تعني «النساء اللواتي لا يطمئن ، فيصلن إلى مرحلة عدم الحمل. ولا يرغب أحد في الزواج بهنّ»(3) .

ويبدو أنّ جميع هذه التعابير تشير إلى واقع محدد ، هو بلوغهن سنا لا يتزوجن عادة. وقد يحدث نادرا أن يقدم بعضهن على الزواج في هذا العمر.

كما جاءت تعابير مختلفة في الأحاديث الإسلامية حول المقدار من الجسم المسموح بكشفه ، لأنّ القرآن الكريم ذكر المسألة بشكل عام( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ ) ويقصد بهذه الثياب الملابس الفوقانية.

وجاء في بعض الأحاديث جوابا على سؤال : أي الثياب يجوز وضعها؟

يجيب الإمام الصادقعليه‌السلام «الجلباب»(4) .

بينما ذكر حديث آخر أنه «الجلباب والخمار»(5) .

ويبدو أنّ هذه الأحاديث غير متناقضة ، وقصدها جواز الكشف عن رؤوسهن ، وعدم تغطية الشعر والرقبة والوجه. كما قالت أحاديث أخرى ـ وقال فقهاء ـ بشمول الاستثناء إلى حدّ الرسغ. ولا سند لدينا يسمح بأكثر من ذلك.

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 14 ، كتاب النكاح ، الباب 110 ، الحديث 4.

(2) المصدر السابق ، الحديث 5.

(3) الجواهر ، المجلد 29 ، صفحة 85 وكنز العرفان ، المجلد 2 ، ص 226.

(4) وسائل الشيعة ، كتاب النكاح ، الباب 110 ، الحديث 1.

(5) المصدر السابق ، الحديث 2 و 4.

١٦٣

وعلى كلّ حال ، فإنّ ذلك مسموح لهنّ بشرط أن يكنّ( غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ ) وأن يخفين الزينة التي تحت الحجاب ، والتي من الواجب إخفاؤها من قبل جميع النساء ، وأن لا يرتدين الملابس التي تنزين بها النساء ، والتي تثير انتباه الآخرين.

وبتعبير آخر : إنّه مسموح لهنّ بعدم التحجب على أن يخرجن إلى الشارع بلباس محتشم ودون تزين بزينة.

وهذا كلّه ليس حكما إلزاميا. إذ أنّ الأفضل لهن أن يخرجن محجبات كالنساء الأخريات ، كما جاء في آخر الآية المذكورة ، إذ هنّ معرضات إلى الزلل ـ وإن كان نادرا.

* * *

١٦٤

الآية

( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) )

التّفسير

البيوت التي يسمح بالأكل فيها :

تحدثت الآيات السابقة عن الاستئذان في أوقات معينة ، أو بشكل عام حين الدخول إلى المنزل الخاصّ بالأب والأم.

أمّا الآية موضع البحث فإنّها استثناء لهذا الحكم ، حيث يجوز للبعض

١٦٥

وبشروط معينة ، الدخول إلى منازل الأقرباء وأمثالهم ، وحتّى أنّه يجوز لهم الأكل فيها دون استئذان ، حيث تقول هذه الآية أولا( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) .

لأنّ أهل المدينة كانوا ـ كما ورد بصراحة في بعض الأحاديث ـ وقبل قبولهم الإسلام ، يمنعون الأعمى والأعرج والمريض من المشاركة في مائدتهم ، ويتنفّرون من هذا العمل.

وعلى عكس ذلك كانت مجموعة منهم بعد إسلامها ، تفرد لمثل هؤلاء موائد خاصّة ، ليس لاحتقارهم المشاركة معهم على مائدة واحدة ، وإنّما لأسباب إنسانية ، فالأعمى قد لا يرى الغذاء الجيد في المائدة ، وهم يرونه ، ويأكلونه ، وهذا خلاف الخلق السليم ، وكذلك الأمر بالنسبة للأعرج والمريض ، حيث يحتمل تأخرهما عن الغذاء ، وتقدم السالمين عليهما. ولهذا كلّه لم يشاركوهم الغذاء على مائدة واحدة. ولهذا كان الأعمى والأعرج والمريض يسحب نفسه حتى لا يزعج الآخرين بشيء. ويعتبر الواحد منهم نفسه مذنبا إن شارك السالمين غذاءهم في مائدة واحدة.

وقد استفسر من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الموضوع ، فنزلت الآية السابقة التي نصّت على عدم وجود مانع من مشاركة الأعمى والأعرج والمريض للصحيح غذاءه على مائدة واحدة.(1)

وقد فسر آخرون هذه العبارة باستثناء هذه الفئات الثلاث من حكم الجهاد ، أو أنّ القصد أنّه مسموح لكم استصحاب العاجزين معكم إلى الأحد عشر بيتا التي أشارت إليها الآية في آخرها ، ليشاركوكم في غذائكم.

إلّا أن هذين التفسيرين ـ كما يبدو ـ بعيدان عن قصد الآية ، ولا ينسجمان مع

__________________

(1) ذكرت هذا التّفسير أيضا ، التفاسير التالية «الدر المنثور» و «نور الثقلين» و «مجمع البيان» و «الصافي» و «التّفسير الكبير» و «التبيان».

١٦٦

ظاهرها. (فتأملوا جيدا).

ثمّ يضيف القرآن المجيد( وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) .

والمقصود بعبارة بيوتكم الأبناء أو الزوجات.

( أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ ) .

( أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ ) .

( أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ) .

( أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ) .

( أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ ) .

( أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ ) .

( أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ ) .

( أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ ) .

( أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) .

( أَوْ صَدِيقِكُمْ ) .

بالطبع فإنّ هذا الحكم له شروط وإيضاحات سيأتي ذكرها في آخر تفسير الآية.

ثمّ تضيف الآية( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) .

ذكر أنّ مجموعة من المسلمين كانوا يمتنعون عن الأكل منفردين ، بل كانوا يبقون جياعا لمدّة حتى يجدوا من يشاركهم غذاءهم ، فعلمهم القرآن المجيد أن تناول الغذاء مسموح بصورة جماعية أو فردية.(1)

ويرى البعض : إنّ مجموعة من العرب كانت تقدم غذاء الضيف على حدة احتراما له ، ولا يشاركونه الغذاء (حتى لا يخجل أثناء تناوله الطعام).

__________________

(1) تفسير التبيان ، للآية موضع البحث.

١٦٧

لقد رفعت الآية المذكورة هذه التقاليد واعتبروا غير محمودة(1) .

وقال آخرون : إنّ البعض كان يرى عدم جواز تناول الأغنياء الغذاء مع الفقراء ، والمحافظة على الفروق الطبقية حتى على مائدة الطعام. لهذا نفى القرآن المجيد هذا التقليد الخاطئ والظالم بذكره العبارة السابقة.(2)

ولا مانع من احتواء الآية السابقة لكلّ هذه المعاني.

ثمّ تشير الآية إلى أحد التعاليم الأخلاقية فتقول :( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) واختتمت بهذه العبارة( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

وقال بعض المفسّرين : إنّ المقصود من عبارة «بيوتا» في هذه الآية ، هي البيوت الأحد عشرة المذكورة سابقا.

وقال آخرون : إنّها المساجد.

ولكن يبدو أنها عامّة ، تشمل جميع البيوت ، سواء الأحد عشر بيتا التي يجوز للمرء الأكل فيها ، أو غيرها كبيوت الأصدقاء والأقرباء. حيث لا يوجد دليل على تضييق المفهوم الواسع لهذه الآية.

ولكن ما هو المقصود من عبارة( فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ) ؟

نجد هنا عددا من التفاسير : حيث يرى البعض من المفسّرين أنّه سلام البعض على البعض ، مثلما جاء في قصّة بني إسرائيل (سورة البقرة الآية 54)( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) .

ورأى آخرون أنّه يعني السّلام على الزوجة والأبناء والأهل ، حيث هم بمنزلة النفس ، لهذا استخدمت الآية تعبير «الأنفس» ، كما جاء هذا التعبير أيضا في آية المباهلة (سورة آل عمران الآية 61). وهذا يبيّن لنا أن قرب الشخص من

__________________

(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق.

١٦٨

الآخر قد يصل إلى درجة أنّه يكون كنفسه ، أي يكونان كنفس واحدة ، مثلما كان عليّعليه‌السلام من الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية السابقة أشارت إلى بيوت لم يسكنها أحد ، حيث يحيي المرء نفسه عند دخولها فيقول : السّلام عليكم من قبل ربّنا. أو : السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ونرى عدم وجود تناقض بين هذه التفاسير. حيث يجب السّلام عند الدخول إلى أيّ منزل كان ، ويجب أن يسلم المؤمنون بعضهم على بعض ، ويسلّم أهل المنزل أحدهم على الآخر. وأمّا إذا لم يجد أحدا في المنزل فيحيي المرء نفسه ، حيث تعود هذه التحيات بالسلامة على الإنسان ذاته.

لهذا نقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام يجيب فيه على سؤال يخصّ تفسير هذه الآية فيقول : «هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم».(1)

وفي حديث عن الباقرعليه‌السلام أيضا ، يقول فيه : «إذا دخل الرجل منكم بيته فإنّ كان فيه فليسلم عليه ، وإن لم يكن فيه أحد فليقل : السّلام علينا من عند ربّنا ، يقول اللهعزوجل «تحيّة من عند الله مباركة طيبة»(2) .

* * *

بحوث

1 ـ هل أن تناول غذاء الآخرين غير منوط بإذنهم؟

كما شاهدنا في الآية السابقة ، أنّ الله تعالى سمح أن يأكل الإنسان في بيوت أقربائه المقرّبين وبعض الأصدقاء وأمثالهم ، وأصبح عدد هذه البيوت أحد عشر بيتا. ولم تشترط الآية استئذانهم لتناول الطعام ، ولا شك في عدم وجوب

__________________

(1) نور الثقلين ، المجلد الثالث ، ص 627.

(2) المصدر السابق.

١٦٩

الاستئذان. إذ أنّ بوجود الإذن بالأكل يمكن تناول الغذاء العائد لأي شخص ، وبذلك لا تبقى ميزة لهذه المجموعة المؤلفة من أحد عشر بيتا.

فهل يشترط توفر الرضى القلبي يتناول الغذاء «وكما يقال من شاهد الحال».

بسبب الصلة الوثيقة بين الطرفين إن ظاهر اطلاق الآية ينفي هذا الشرط ، إذ يكفي احتمال حصول رضاه فقط وعادة يحصل الرضى.

أمّا إذا كانت الحالة تؤكّد عدم رضى صاحب الطعام في تناول غذاءه ، فبالرغم من اطلاق الآية وشمولها لهذا المورد أيضا ، إلّا أنّه لا يبعد انصراف الآية عن هذا المورد ، وخاصّة أنّ مثل هذا المورد نادر الوقوع ، ومن المعلوم أنّ الإطلاقات لا تشمل الأفراد النادرة.

وعلى هذا فإنّ الآية المذكورة تخصص الآيات والرّوايات التي تشترط في التصرف بأموال الآخرين إحراز رضاهم في دائرة محدودة. وتكرر القول بأن هذا التخصيص. في نطاق محدد ، أي تناول الغذاء بمقدار الحاجة تناولا بعيدا عن الإسراف.

والذي ذكرناه متعارف عليه بين كبار فقهائنا. وجاء بعضه بصراحة في الأحاديث الإسلامية ، حيث ذكر رواية معتبرة عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال عند الاستفسار منه عبارة «أو صديقكم» الوارد في هذه الآية قالعليه‌السلام : «هو والله الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه»(1) .

كما ذكرت أحاديث أخرى بهذا المضمون ، أكّدت أنّه لا يشترط الاستئذان في هذه الحالات. (وبالطبع لا يوجد خلاف بين الفقهاء حول عدم جواز الأكل من غذاء الآخرين دون استئذان ، الذي نهت عنه الآية بصراحة مع العلم بهذا النهي.

لهذا أهملت الآية السابقة ذكره).

__________________

(1) وسائل الشيعة ، المجلد 16 ، صفحة 434 ، كتاب الأطعمة والأشربة ـ أبواب آداب المائدة ـ الباب 24 الحديث 1.

١٧٠

وحول عبارتي «عدم الإفساد» و «عدم الإسراف» فقد صرحت بعض الأحاديث بذلك أيضا(1) .

ولا بد من الإشارة إلى أنّه ورد حديث في هذا الباب يقول بأنّه يمكن الاستفادة فقط من غذاء خاص وليس أيّ غذاء ، إلّا أنّ الفقهاء أعرضوا عن هذا الحديث لضعف سنده.

واستثنى بعض المفسّرين الأطعمة الممتازة التي يحفظها صاحب المنزل لنفسه ، أو لضيوفه المقربين ، أو لمناسبات خاصّة. وهذا الاستثناء غير بعيد ، بسبب انصراف الآية عنه(2) .

2 ـ فلسفة هذا الحكم الإسلامي :

يمكن أن يثير هذا الحكم تساؤلا بالمقارنة مع الأحكام الشديدة التي نصت عليها التعاليم في تحريم الغصب ، هو : كيف سمح الإسلام بذلك ، رغم تشديده في قضية التصرف بأموال الآخرين؟!

إنّنا نرى أنّ هذا السؤال ينسجم مع طبيعة البيئات المادية تماما ، كالمجتمع الغربي ، حيث يطرد الأبناء من المنزل حين البلوغ! ولا يهتمون بالوالدين حين إصابتهم بالعجز أو الشيخوخة! حيث نشاهد الأبناء هناك ، لا يثمنون أتعاب الوالدين ولا يشفقون عليهما ، بسبب تسلط التفكير المادي على العلاقات الاجتماعية في الغرب! ولا خبر هناك عن العاطفة الإنسانية والشفقة!

إلّا أنّ التعاليم الإسلامية والعواطف الإنسانية التي تمتد جذورها في المجتمع الإسلامي ، خاصّة بين الأهل والأقرباء والأصدقاء ، قد ميّزت المجتمع الإسلامي عن المجتمع الغربي.

__________________

(1) المصدر السابق ، الحديث 4.

(2) لإيضاح أكثر يراجع جواهر الكلام المجلد 36 ، صفحة 406 ، (كتاب الأطعمة والأشربة).

١٧١

والواقع أنّ الإسلام جعل علاقات الأقرباء والأصدقاء أسمى من الأمور المادية ، وهذا يعكسه الصفاء والود اللذان يسودان المجتمع الإسلامي الحقيقي ، حيث يبتعد أفراد هذا المجتمع عن الصفات غير المحمودة كالبخل وحب الذات.

ولا ريب أن أحكام الغصب تكون نافذة في غير هذه الدائرة. ولكن الإسلام في داخل هذه الدائرة يفضل القضايا العاطفية والروابط الإنسانية ، فهي التي ينبغي أن تسود العلاقات بين الأقرباء والأصدقاء جميعا.

3 ـ من هو الصديق؟

لا شك أنّ للصداقة مفهوما واسعا ، وهي تعني هنا بالتأكيد الأصدقاء الخاصين الذين تربطهم علاقات وثيقة ، وهذه العلاقة توجب التزاور فيما بينهم والأكل من طعام الآخر ، ولا حاجة هنا ـ كما أسلفنا ـ إلى إحراز الرضا ، بل يجوز الأكل بمجرّد عدم العلم بعدم رضا صاحب الغذاء.

لهذا قال بعض المفسّرين حول هذه الآية : الصديق هو الذي يصدق في علاقاته معك.

وقيل : الصديق هو الذي يصدّق ظاهره باطنه وكما يبدو فإن الجميع يشيرون إلى حقيقة واحدة.

ويتّضح من هذه العبارة أنّ الذي لا يسمح بمشاركة صديقة لغذائه ، لا يمكن اعتباره صديقا!

ومن المناسب هنا أن نقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام ضمّ مفهوم الصداقة الواسع وشروطها الكاملة :

«لا تكون الصداقة إلّا بحدودها ، فمن كانت فيه هذه الحدود أو شيء منها فأنسبه إلى الصداقة ، ومن لم يكن فيه شيء منها فلا تنسبه إلى شيء من الصداقة.

فأوّلاها : أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.

١٧٢

والثّاني : أن يرى زينك زينه وشينك شينه.

والثّالثة : أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال.

والرّابعة : أن لا تمنعك شيئا تناله مقدرته.

والخامسة : وهي تجمع هذه الخصال أن لا يسلمك عند النكبات».(1)

4 ـ تفسير عبارة( ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ )

جاء في بعض أسباب النّزول أنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا يسلمون أحيانا مفاتيح منازلهم إلى الذين لا يشملهم الجهاد. حين توجههم إلى الجهاد في سبيل الله. وكانوا يسمحون له بتناول الطعام من هذه المنازل ، إلّا أنّ هؤلاء كانوا يمتنعون من الأكل في هذه المنازل خوفا من ارتكاب إثم في ذلك.

وحسب هذه الرواية فإنّ المراد من عبارة( ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) هو ما ذكرنا.(2) وروي عن ابن عباس أيضا أن قصد الآية هو وكيل الشخص على ما يملكه من ماء وبستان ومواشي ، حيث سمح له بتناول الفاكهة من بستان الموكّل بقدر حاجته والشرب من حليب ماشيته.

كما فسّر آخرون ذلك بحارس المخزن الذي يسمح له بتناول قليل من المواد الغذائية الموجودة في هذا المخزن.

ومع ملاحظة سائر المجموعات التي ورد ذكرها في هذه الآية ، يبدو أنّها تقصد الذين يسلمون مفاتيح منازلهم لأشخاص مؤثقين ومقربين لهم ، وهذا التقارب الوثيق بينهما يؤدي إلى أن يكونوا في صف الأقرباء والأصدقاء المقرّبين ، وسواء كان وكيلا رسميا أم لا.

__________________

(1) أصول الكافي ، المجلد الثاني ، صفحة 467.

(2) تفسير القرطبي ، المجلد الثّاني عشر ، ص 315 (وجاء في وسائل الشيعة المجلد السادس عشر ، صفحة 436 ، الباب 24 من أبواب المائدة حديث بهذا المضمون).

١٧٣

وإذا لاحظنا أنّ بعض الأحاديث تفسر عبارة( ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ ) بالوكيل الذي يتعهد بالإشراف على أموال شخص آخر ، فإنّ ذلك مصداق للآية وليس لتحديد معناها وحصرها بهذا التّفسير.

5 ـ السّلام والتحية

«التحية» مشتقّة من الحياة ، بمعنى الدعاء لسلامة الآخرين ، سواء كانت بشكل السّلام عليكم ، أو السّلام علينا ، أو قولا كحيّاك الله ، فكل هذا إعراب عن المحبة التي يبديها الشخص عند لقائه بآخر ، وتدعى بالتحية.

ويقصد بعبارة( تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) . ربط التحية بالله بشكل ما ، أي «السّلام عليكم» ، سلام الله عليكم ، أو نسأل الله أن يسلمكم ، إذ أن كل موحّد يرى ربط الدعاء بالله ، وطبيعي أنّ الدعاء بهذا الشكل يكون مباركا وطيبا. (تناولنا بحث السّلام وأهميته ووجوب الردّ على التحية ، في تفسير الآية 86 من سورة النساء).

* * *

١٧٤

الآيات

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) )

سبب النّزول

ذكرت عدة أسباب لنزول الآية الأولى من الآيات أعلاه ، فقد جاء في بعض الأحاديث أنّ هذه الآية نزلت في «حنظلة بن أبي عياش» الذي صادف زواجه ليلة معركة أحد ، وكان الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشاور أصحابه حول هذه المعركة ، فجاءه

١٧٥

حنظلة يستأذنه المبيت عند زوجته ، فأجازهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد بكّر حنظلة للالتحاق بصفوف المسلمين ، وكان على عجل من أمره بحيث لم يتمكن من الاغتسال. ودخل المعركة على هذه الحال ، وقاتل حتى قتل في سبيل الله.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض».

لهذا سمي حنظلة بعدها بـ «غسيل الملائكة»(1) .

وذكر سبب آخر لنزول هذه الآية حيث «روى ابن إسحاق» في سبب نزول هذه الآيات أنّه لما سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتجمع قريش والأحزاب على حربه ـ وما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة. فعمل فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترغيبا للمسلمين في الأجر ، وعمل معه المسلمون فيه فدأب ودأبوا ، وأبطأ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين لا ينجزون إلّا اليسير من العمل ، أو يتسللون إلى أهليهم بغير علم رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إذنه ، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بدّ منها ، يذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسأله في اللحوق بحاجته فيأذن له.

فإذا قضى حاجته ، رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له ، فأنزل الله تعالى في أولئك المؤمنين( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ) الآية ، ثمّ قال تعالى يعني المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ ) الآية(2) .

* * *

__________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم ، حسبما نقله تفسير نور الثقلين ، المجلد الثالث ، صفحة 628.

(2) في ظلال القرآن ـ طبعة دار إحياء الكتب العربية ـ الجزء السابع عشر ، ص 126.

١٧٦

التّفسير

لا تتركوا النبيّ وحده!

قال بعض المفسّرين حول علاقة هذه الآيات بسابقتها ، وفيهم المرحوم «الطبرسي» في مجمع البيان «وسيد قطب» في تفسير في ظلال القرآن : بما أنّ الآيات السابقة طرحت للبحث جانبا من أسلوب التعامل مع الأصدقاء والأقرباء.

فإنّ الآيات موضع البحث تناولت كيفية تعامل المسلمين مع قائدهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقد أكّدت التزام الوقار أمامه ، وطاعته وعدم ترك الجماعة إلّا بإذنه.

ويمكن أيضا أنّ الآيات السابقة تحدثت عن ضرورة طاعة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن علائم طاعته عدم تركه أو القيام بعمل ما دون إذن منه ، لهذا تحدثت الآيات ـ موضع البحث ـ حول هذا الموضوع. فتقول أوّلا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ ) .

والمراد من «أمر جامع» كلّ عمل يقتضي اجتماع الناس فيه ويتطلب تعاونهم ، سواء كان عملا استشاريا ، أو مسألة حول الجهاد ومقاتلة العدو ، أو صلاة جمعة في الظروف الاستثنائية وأمثالها.

وإذا وجدنا أنّ بعض المفسّرين ، قالوا بأنّه يعني الاستشارة أو الجهاد أو صلاة الجمعة أو العيد فنقول : إنّهم عكسوا جانبا من معاني هذه الآية. وأسباب النّزول السابقة أيضا هي من مصاديق هذا الحكم العام.

وفي الحقيقة إنّ هذا من شروط النظم والتنظيم ولا يمكن لأية مجموعة منظمة منسجمة أن تهمله ، فغياب شخص واحد قد تترتب عليه صعوبات ويلحق ضررا بالهدف النهائي ، خاصّة إذا كان قائد الجماعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلامه مطاع.

كما يجب الانتباه إلى أنّ الإذن لا يعني الاستئذان الشكلي لقضاء الشخص أعماله الخاصّة والتفرغ لتجارته. وإنّما أن يكون صادقا في الاستئذان. فإذا وجد القائد أن غياب هذا الشخص يلحق ضررا ، فمن حقه أن لا يأذن له ، وعليه أن

١٧٧

يضحي بمصلحته من أجل هدف أسمى. لهذا تضيف الآية :( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ ) .

ومن الواضح أنّ هؤلاء المؤمنين لا يستأذن أحدهم لعمل بسيط في حين أنّهم اجتمعوا لأمر أهم ، والمقصود من عبارة «شأنهم» ، الأعمال الضرورية والمهمّة فقط.

ومن جهة أخرى ، لا تعني إذن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأشخاص دون دراسة جوانب المسألة وأثر حضور وغياب الأفراد ، بل جاء هذا التعبير ليطلق يد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لا يأذن لأحد حين إحساسه بضرورة حضوره في الجماعة.

ودليل هذا الكلام ما جاء في الآية (43) من سورة التوبة حيث يلام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإذنه بعض الأفراد :( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ) .

وتبيّن هذه الآية كيف أوجبت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التحقيق قبل الإذن ، وأن يلاحظ أبعاد هذه المسؤولية الإلهية.

وتقول الآية في الختام :( وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وهنا يطرح سؤال : ما الغرض من هذا الاستغفار؟ فهل هم مذنبون رغم أخذهم الإذن من الرّسول بالمغادرة ، كي يحتاجوا إلى استغفاره لهم؟

وللجواب على هذا السؤال هناك وجهان :

أحدهما : أن يستغفر لهم تنبيها على أنّ الأولى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن لهم ، لأن ذلك يعتبر تقديم الشخص لمصلحته الخاصّة على مصلحة المسلمين ، ولا يخلو هذا الأمر من «الترك الاولى» ولذا يحتاج الى الاستغفار (كالاستغفار

١٧٨

على عمل مكروه).(1)

كما تبيّن هذه العبارة ضرورة عدم الاستئذان بالقدر الممكن. واتباع التضحية والإيثار حتى لا يتورطوا بارتكاب عمل تركه أولى كمغادرة الجماعة لعمل بسيط.

والوجه الثاني : يحتمل أنّه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة لتمسّكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان.(2)

ولكن نرى عدم وجود تناقض بين هذين الوجهين ، كما أنّه من الطبيعي أن لا تخصّ هذه التعاليم التنظيمية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه فقط. وإنّما هي واجبة الإتباع إزاء كلّ قائد إلهي ، سواء كان نبيا أم إماما أم عالما نائبا لهما ، حيث يتوقف مصير المسلمين على هذه الطاعة. كما يحتمه ـ إضافة إلى القرآن ـ العقل والمنطق ، لأنّ الاستمرار التنظيم يتوقف على رعاية هذه المبادئ ، ولا يمكن إدارة المجتمع بدونها.

والمدهش تفسير كبار مفسّري أهل السنة لهذه الآية بأنّها دليل على جواز الاجتهاد وتوقف الحكم على رأي المجتهد. ولا يخفى أنّ الاجتهاد المطروح في مباحث الأصول والفقه يخص الأحكام الشرعية ، ولا يتعلق بالاجتهاد في الموضوعات حيث أنّ الاجتهاد في الموضوع لا يقبل الإنكار ، فكل قائد جيش أو مدير دائرة أو مشرف على جماعة يجتهد في القضايا الإجرائية الخاصّة بدائرة عمله. وليس هذا دليلا على إمكان الاجتهاد في الأحكام الشرعية العامّة بإيجاب حكم بدعوى المصلحة العامّة ، أو نفي حكم أو تشريع آخر.

ثمّ بيّنت الآية التالية حكما آخر له علاقة بتعاليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث

__________________

(1) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، وروح المعاني ، وتفسير القرطبي للآيات موضع البحث.

(2) التّفسير الكبير للفخر الرازي ـ في تفسيره للآية موضع البحث صفحة 39 من طبعة دار الكتب العلمية بطهران ـ الطبعة الثّانية.

١٧٩

تقول :( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) .

إن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما يدعوكم للاجتماع ، فإنه لا بدّ من أن يكون لمسألة إلهية مهمّة ، لهذا يجب عليكم الاهتمام بدعوته ، والالتزام بتعاليمه ، وألّا تهملوها ، فأمره من الله ودعوته منه سبحانه وتعالى.

ثمّ تضيف الآية( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

«يتسللون» مشتقّة من «تسلل» ، وتعني سحب الشيء من موضعه ، كأنّ يقال: سلّ السيف من غمده. كما يطلق على الذين يفرون سرّا من مكان تجمع محدد لهم ، كلمة «متسللون».

«لواذا» مشتقّة من «ملاوذة» بمعنى الاختفاء ، وتعني هنا اختفاء البعض وراء البعض أو خلف جدار ، أو بتعبير آخر : استغفال الآخرين ثمّ الفرار من مكان تجمعهم ، وهذا ما كان يقوم به المنافقون حينما يوجه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة للجهاد أو لأمر مهم آخر ، يقول لهم القرآن المجيد : «إنّ عملكم النفاقي هذا إن خفي على الناس فإنّه لا يخفى على الله ، وسيعاقبكم على هذه الأعمال ومخالفتكم لاوامر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة».

ماذا يقصد به «فتنة» هنا؟ قال بعض المفسّرين : إنّها القتل ، وآخرون قالوا : إنّها تعني الضلال ، كما قال بعضهم : إنّها السلطان الظالم ، وقيل : إنّها بلاء النفاق الذي يتوغل في قلب الإنسان.

كما يحتمل أن تعني الفتنة الفتن الاجتماعية ومشاكلها ، وأن يسود الهرج والمرج في المجتمع ، وابتلائه بالهزيمة ، وسائر الفتن الاخرى التي يبتلى بها المجتمع في حالة عصيانه أوامر قائده.

وعلى كلّ حال فالفتنة ذات مفهوم واسع يضمّ جميع هذه الأمور وغيرها ، مثلما يضمّ العذاب الأليم عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة أو كليهما.

١٨٠