الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 170157
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170157 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

وممّا يجب الانتباه إليه في تفسير الآية محل البحث وجود احتمالين إضافة إلى ما ذكرناه هما :

الأوّل : أنّ القصد من قوله تعالى :( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) أنّكم عند ما تدعو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينبغي أن تدعوه بأدب واحترام يليق بمنزلته ، وليس كما تدعون بعضكم بعضا ، والسبب يكمن في أنّ جماعة من المسلمين لم يتعلموا ـ بعد ـ الآداب الإسلامية في التعامل مع الآخرين ، فكانوا ينادون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعبارة : يا محمّد! وهذا لا يليق بنداء قائد إلهي كبير.

وتستهدف الآية تعليم الناس أن يدعوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعبارات رزينة وبأسلوب مؤدب ، كأن يدعوه : يا رسول الله ، أو : يا نبيّ الله.

وهذا التّفسير ورد في بعض الرّوايات أيضا إلّا أنّه لا ينسجم مع ظاهر الآية التي تحدثت عن الاستجابة لدعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجوب عدم الغياب عن الجماعة دون استئذان منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن نقول : إن كلا المعنيين مقصودان للآية واحدة ، وأن مفهوم الآية شامل للتفسيرين الأوّل والثّاني.

والآخر : ويبدو أنّه ضعيف جدّا ، وهو ألّا تجعلوا دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أحد الأشخاص ولعنه له كدعاء بعضكم على بعض(1) ، لأنّ دعاء ولعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتمّ وفق حساب دقيق وخاضع للتعاليم الإلهية ، وهو نافذ حتما.

ولكن ليس لهذا التّفسير علاقة بأوّل الآية ونهايتها ، ولم يرد حديث إسلامي خاصّ به ، ولهذا السبب لا يمكن قبوله.

وتجدر الإشارة إلى أنّ علماء الأصول فسّروا عبارة( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) بأنّ أوامر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدل على الوجوب ، إلّا أنّ هذا الاستدلال فيه نواقص أشير إليها في علم الأصول.

__________________

(1) لقد جاء بعد كلمة الدعاء «لام» فإنّها تعني الابتهال والدعاء ، أمّا إذا جاء الحرف «على» فإنّها تعني الدعاء على شخص لغير صالحه ، وإذا افتقدت الجملة أي من هذين الحرفين فيحتمل أن تتضمّن العبارة المعنيين.

١٨١

وآخر آية من الآيات موضع البحث ، ـ والتي هي آخر سورة النور ـ إشارة بليغة إلى قضية المبدأ والمعاد التي تعتبر دافعا لامتثال التعاليم الإلهية جميعا ، وضمان لتنفيذ جميع الأوامر والنواهي ، ومنها التي وردت في هذه السورة حيث تقول :( أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

فإنّ الله العالم بكلّ شيء( قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ ) أي يعلم أسلوبكم في التعامل وأعمالكم واعتقادكم ومقاصدكم ، فكلّها واضحة له سبحانه وتعالى. وثابتة في لوحة علمه( وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ) ويجازيهم بها( وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

وممّا يلفت النظر تأكيد الآية ثلاث مرات على علم الله بأعمال البشر. ليشعر الإنسان أنّه مراقب بشكل دائم ، ولا يخفى على الله شيء من أعمال هذا الإنسان أبدا. ولهذا الإعتقاد أثره التربوي الكبير ويضمن سيطرة الإنسان على نفسه إزاء الانحرافات والذنوب.

إلهي ، نوّر قلوبنا بنور العلم والإيمان ، وقوّ مشكاة وجودنا للمحافظة على هذا الإيمان ، لنجتاز صراطك المستقيم الذي سار عليه أنبياؤك لكسب رضاك ، ولتحفظنا بلطفك من كل انحراف.

ربّاه ، نوّر أبصارنا بنور العفة ، وقلوبنا بنور المعرفة ، وأرواحنا بنور التقوى ، ونور وجودنا كله بنور الهداية ، واحفظنا من التيه والغفلة ، وأعذنا من وساوس الشيطان.

إلهي ، وطّد أركان حكومة العدل الإسلامي من أجل تنفيذ حدودك ، واحفظ مجتمعنا من الزلل والسقوط في هاوية الرذيلة ، إنك على كل شيء قدير.

نهاية سورة النور

* * *

١٨٢

سورة الفرقان

مكيّة

وعدد آياتها سبع وسبعون آية

١٨٣
١٨٤

«سورة الفرقان»

محتوى سورة الفرقان :

هذه السورة بحكم كونها من السور المكية(1) ، فإن أكثر ارتكازها على المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد ، وبيان نبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمواجهة مع الشرك والمشركين ، والإنذار من العواقب الوخيمة للكفر وعبادة الأصنام والذنوب.

وتتألف هذه السورة في مجملها من ثلاثة أقسام : ـ

القسم الأوّل : الذي يشكل مطلع هذه السورة ، يدحض منطق المشركين بشدّة ، ويستعرض ذرائعهم ، ويردّ عليها ، ويخوفهم من عذاب الله ، وحساب يوم القيامة ، وعقوبات جهنم الأليمة ، ويذكّرهم بمقاطع من قصص الأقوام الماضية الذين افترستهم على أثر مخالفتهم لدعوة الأنبياء ـ الشدائد والبلايا والعقوبات ، وذلك على سبيل الدرس والعبرة لهؤلاء المشركين المعاندين.

في القسم الثاني : لأجل إكمال هذا البحث ، تبحث الآيات بعض دلائل التوحيد ومظاهر عظمة الله في الأكوان ، بدءا من ضياء الشمس إلى ظلمة وعتمة الليل ، وهبوب الرياح ، ونزول الأمطار ، وإحياء الأراضي الموات ، وخلق السماوات والأرضين في ستة أيّام ، وخلق الشمس والقمر ، وسيرهما المنظم في الأفلاك السماوية ، وما شابه ذلك.

__________________

(1) يصر بعض المفسّرين على أن ثلاث آيات من هذه السورة (68 ، 69 ، 70) نزلت في المدينة ، ولعل ذلك لأنّ أحكاما مثل قتل النفس والزنا ، شرّعت في هذه الآيات ، في حين أن التدقيق في الآيات التي قبلها والتي بعدها ، يكشف جيدا عن أنّ السياق واحد متصل ومنسجم تماما حول( عِبادُ الرَّحْمنِ ) وبيان أوصافهم ، لذا فالظاهر أن السورة نزلت كلها في مكّة.

١٨٥

فالقسم الأوّل في الحقيقة ـ يحدد مفهوم (لا إله) ، والقسم الثّاني يحدد مفهوم (إلّا الله).

القسم الثالث : مختصر جذاب جدّا ، وجامع لصفات المؤمنين الحقيقيين (عباد الرحمن) وعباد الله المخلصين ، في مقايسة مع الكفار المتعصبين الذين ذكروا في القسم الأوّل ، فتتحدد منزلة كل من الفريقين تماما. كما أنّنا سنرى أنّ هذه الصفات مجموعة من الاعتقاديات والأعمال الصالحة ومكافحة الشهوات ، وامتلاك الوعي الكافي ، والإحساس والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية.

واسم هذه السورة قد أخذ من آيتها الأولى ، التي تعبر عن القرآن بـ «الفرقان» (الفاصل بين الحق والباطل).

فضيلة سورة الفرقان :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن «من قرأ سورة الفرقان (وتدبّر في محتواها وعمل بما ورد فيها) بعث يوم القيامة وهو مؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور».(1) (أي مؤمن بأن الساعة ...)

ونقل في حديث آخر عن إسحاق بن عمار عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام أنّه قال له : «يا ابن عمار ، لا تدع قراءة سورة( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) فإن من قرأها في كل ليلة لم يعذبه الله أبدا ، ولم يحاسبه ، وكان منزله في الفردوس الأعلى».(2)

كما أننا سنرى ـ في تفسير هذه السورة ـ أن كلّ من تلا بحق صفات عباد الله المخلصين المبيّنة في السورة كما هي ، وامتزجت بقلبه وروحه ، وبنى صفاته أعماله طبقا لها فإنّ منزله الفردوس الأعلى.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان آخر الآية مورد البحث.

(2) ثواب الأعمال للصدوق ، طبقا لنقل نور الثقلين ، ج 4 ، ص 2.

١٨٦

الآيتان

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) )

التّفسير

المقياس الأعلى للمعرفة :

تبدأ هذه السورة بجملة «تبارك» من مادة «بركة» ، ونعلم أنّ الشيء ذو بركة ، عبارة عن أنّه ذو دوام وخير ونفع كامل. يقول تعالى :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) .(1) الملفت للانتباه أنّ ثبوت البركة لذات الخالقعزوجل بواسطة نزول الفرقان ، يعني أنّه أنزل قرآنا فاصلا بين الحق والباطل ، وهذا يدل على أن أعظم الخير والبركة هي أن يمتلك الإنسان بيده وسيلة المعرفة ـ معرفة الحق من الباطل.

وهنا وقفة مهمّة أيضا ، وهي أنّ كلمة «الفرقان» وردت بمعنى «القرآن» تارة ، وتارة بمعنى معجزات مميزة للحق من الباطل ، ووردت بمعنى «التوراة» تارة

__________________

(1) ورد شرح كلمة «البركة» في ج 5 ، آخر الآية (54) من سورة الأعراف ، شرح اصل «البركة».

١٨٧

أخرى.

عن القرآن والفرقان ، أهما شيئان ، أو شيء واحد؟ فقال : «القرآن : جملة الكتاب ، والفرقان : المحكم الواجب العمل به».

ولا منافاة بين هذا القول وبين أنّ الفرقان هو جميع آيات القرآن ، والمراد هو أنّ آيات القرآن المحكمات تعتبر مصداقا أوضح وأبرز للفرقان وللتمييز بين الحق والباطل.

ولموهبة «الفرقان والمعرفة» أهمية بالغة بحيث أنّ القرآن المجيد ذكرها كمكافأة عظيمة للمتقين :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) (1) .

نعم ، فبدون التقوى لا يمكن تمييز الحق من الباطل ، لأنّ الأهواء والذنوب تلقي على وجه الحق حجابا كثيفا ، وتعمي بصر ابن آدم وبصيرته.

وعلى أية حال ، فالقرآن المجيد هو الفرقان الأعلى.

القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في نظام حياة البشر.

القرآن وسيلة لتشخيص الحق من الباطل في مسير الحياة الفردية والاجتماعية ، وهو الميزان والمحك على صعيد الأفكار والعقائد ، والقوانين ، والأحكام ، والآداب ، والأخلاق.

وهذه الوقفة مهمّة أيضا ، حيث يقول تعالى( نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ) نعم ، فمقام العبودية والانقياد التامّين هو الذي يحقق اللياقة لنزول الفرقان ، ولتلقي موازين الحق والباطل.

والنكتة الأخيرة التي طرحت في هذه الآية ، تبيّن أنّ هدف الفرقان النهائي هو إنذار العالمين ، الإنذار الذي نتيجته الإحساس بالمسؤولية تجاه التكاليف الملقاة على عاتق الإنسان. وعبارة «للعالمين» كاشفة عن أنّ شريعة الإسلام

__________________

(1) سورة الأنفال ، الآية 29.

١٨٨

عالمية لا تختص بمنطقة معينة ، ولا بقوم أو عنصر معينين. بل إن بعضهم قد استدل منها على خاتمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أن «العالمين» كما أنّها غير محدودة من حيث المكان ، فكذلك مطلقة من حيث الزمان أيضا ، فـ «العالمين» تشمل جميع الأجيال القادمة أيضا (فتأمل!).

الآية الثّانية تصف الله الذي نزل الفرقان بأربع صفات ، صفة منها هي الأساس ، والبقية نتائج وفروع لها ، فتقول أوّلا :( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (1) .

نعم ، إنّه الحاكم على كل عالم الوجود ، وكل السماوات والأرض ، فلا شيء خارج عن سلطة حكومته ، وبالالتفات إلى تقدم «له» على «ملك السموات» الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى ، ذلك لأن حكومته عامّة وخالدة وواقعية ، بخلاف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة. وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه.

ثمّ يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الأخرى ، فيقول تعالى :( وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) (2) .

وكما قلنا من قبل فإن الحاجة إلى الولد من حيث الأصل إمّا لأجل الاستفادة من طاقته البشرية في الأعمال ، أو لأجل الاستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة ، أو لأجل الاستئناس به في حال الوحدة ، ومن المعلوم أن ذاته المقدسةعزوجل منزّهة عن أي واحد من تلك الاحتياجات.

وبهذا الترتيب ، يدحض اعتقاد النصارى بأنّ «المسيح»عليه‌السلام ابن الله ، أو ما

__________________

(1) كلمة (الملك) كما يقول «الراغب» في «المفردات» بمعنى تملك الشيء والحاكمية عليه ، في حين أن (الملك) ليس دليلا على الحاكمية وتصرف المالك دائما. وبهذا الترتيب : فكل ملك ملكا ، في حين أنّ ليس كل ملك ملكا.

(2) ورد إيضاح أكثر حول نفي الولد عن الله تعالى ، ودلائل ذلك في تفسير الآية (116) من سورة البقرة.

١٨٩

يعتقده اليهود أنّ «العزير» ابن الله ، وكذلك يدحض اعتقاد مشركي العرب ، ثمّ يضيف جل ذكره :( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) .

فإذا كان لمشركي العرب اعتقاد بوجود الشريك أو الشركاء ، ويتوهمونهم شركاء لله في العبادة ، ويتوسلون بهم من أجل الشفاعة ، ويسألونهم المعونة لقضاء حوائجهم ، حتى آل بهم الأمر أنّهم كانوا يقولون بصراحة ـ حين التلبية للحج ـ جملا قبيحة ملوثة بالشرك ، مثل : «لبيك لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك». فإنّ القرآن يدين ويدحض كل هذه الأوهام.

ويقول تعالى في العبارة الأخيرة :( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) .

ليس كمثل اعتقاد الثنويين الذين يعتقدون بأن قسما من موجودات هذا العالم مخلوقات «الله» ، وأن قسما منها مخلوقات «الشيطان».

وبهذا الترتيب كانوا يقسمون الخلق والخلقة بين الله والشيطان ، ذلك لأنّهم كانوا يتوهمون الدنيا مجموعة من «الخير» و «الشر» ، والحال ألّا شيء في عالم الوجود إلّا الخير من وجهة نظر الموحد الحق. فإذا رأينا شرّا ، فإمّا أن يكون ذا جنبة «نسبية» أو «عدمية» ، أو أن يكون نتيجة لأعمالنا (فتأمل)!.

* * *

بحث

تقدير الموجودات بدقة :

ليس نظام العالم الدقيق والمتقن ـ وحده ـ من الدلائل المحكمة على معرفة الله وتوحيده ، فتقديراته الدقيقة أيضا دليل واضح آخر ، أنّنا لا يمكن أن نعتبر مقادير موجودات هذا العالم المختلفة ، وكميتها وكيفيتها المحسوبة ، معلولة للصدفة التي لا تتوافق مع حساب الاحتمالات.

وقد تقصّى العلماء الأمر في هذا الصدد ، وأزاحوا الستار عن أسراره

١٩٠

المدهشة التي تذهل فكر الإنسان ، وتترك لسانه يترنم بتمجيد عظمة وقدرة الخالق بلا اختيار.

ونعرض لكم ـ ها هنا ـ جانبا من ذلك :

يقول العلماء : لو كانت قشرة الأرض أسمك ممّا هي عليه الآن بمقدار بضعة أقدام ، لما وجد غاز «الاوكسجين» الذي يعتبر المادة الاصلية للحياة ، ولو كانت البحار أعمق من عمقها الفعلي عدّة أقدام لا متصت جميع ما في الجو من الكاربون والاوكسجين ، ولما أمكن وجود حياة لحيوان ونبات على سطح الأرض ، ويحتمل أن تقوم قشرة الأرض والبحار بامتصاص كل الأوكسجين ، وكان على الإنسان أن ينتظر نمو النباتات التي تلفظ الأوكسجين.

وطبقا للحسابات الدقيقة في هذا المجال يتّضح أنّ للأوكسجين مصادر مختلفة ، ولكن مهما كان مصدره فإنّ كميته مطابقة لاحتياجاتنا بالضبط.

ولو كانت طبقة الغلاف الجوي أرق ممّا هي عليه الآن ممّا هو ، فإنّ بعض الشهب التي تحترق كل يوم بالملايين في الهواء الخارجي ، كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية ، وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثّانية ، وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة ، ولو تعرض الإنسان للاصطدام بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة ، لتحول الى رماد لمجرّد حرارته.

الغلاف الجوي سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ، دون أن تضر بالإنسان ، إلّا إذا عرّض نفسه لها مدة أطول من اللازم. وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من اعماق الأرض طول الدهور ، ومعظمها سام ، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع ، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان.

إنّ الجهاز الذي يقوم بهذه الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء ،

١٩١

أى البحار والمحيطات التي هي مصدر الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ، وأخيرا استمد الإنسان نفسه جميع تلك المقومات الحيوية منهما ، فدع من يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته تعالى ، ويقرّ بواجباته شاكرا!

إنّ التعادل العجيب بين الأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية ، وعالم النبات كلّه ، قد استرعت أنظار كل العالم المفكر ، غير أن أهمية ثاني أوكسيد الكاربون لم يدركها الجميع بعد ، وثاني أوكسيد الكاربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا ، وهو غاز ثقيل ، ولحسن الحظ يعلق بالأرض ، ولا يتمّ فصله إلى أوكسجين وكاربون إلّا بصعوبة كبيرة ، وإذا أشعلت نارا ، فإنّ الخشب ـ الذي يتكون غالبا من الأوكسجين والكاربون والهيدروجين ـ يتحلل تحت تأثير الحرارة ويتحد الكاربون مع الأوكسجين بشدّة ، وينتج من ذلك ثاني أوكسيد الكاربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الأوكسجين فنحصل على بخار الماء. ومعظم الدخان هو كاربون خالص غير متحد مع غيره.

وحين يتنفس رجل فإنّه يستنشق الأوكسجين فيتلقاه الدم ، ويقوم بتوزيعه الى جميع أنحاء جسمه ، ويقوم هذا الأوكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبيا ، النتيجة هي ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء.

وبذلك يتسلل ثاني أوكسيد الكاربون إلى رئتيه ، ويعود الى الجو مرّة اخرى من خلال الزفير ، وكلّ كائن حيواني حي يمتص الاوكسجين ويلفظ ثاني اوكسيد الكاربون.

ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان ـ مهما يكن من وحشيته ، أو ضخامته ، أو مكره ـ من السيطرة على العالم غير أنّ الإنسان وحده بامكانه قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر ، وسرعان ما يلقى جزاءه القاسي على ذلك ماثلا في تطورات آفات الحيوان

١٩٢

والحشرات والنبات.

والواقعة الآتية مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان ، فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبّار (الكاكتوس) في أستراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطي مساحة تقرب من مساحة إنجلترا ، وزاحم أهالي المدن والقرى ، وأتلف مزارعهم ، وحال دون الزراعة ، ولم يجد الأهالي وسيلة لصده عن الانتشار ، وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع الصامت ، يتقدم في سبيله دون عائق!

وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلّا على ذلك الصبار ولا تتغذى بغيره ، وهي سريعة الانتشار وليس لها عدو يعوقها في أستراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبّار ، ثمّ تراجعت ، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية ، تكفي لصد الصبّار عن الانتشار إلى الأبد.

وهكذا توافرت الضوابط والموازين ، وكانت دائما مجدية.

ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم وتقتل بذلك النوع البشري مع أن البعوض متوفر في جميع أنحاء العالم حتى في القطبين؟ ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك.

ولماذا لم تتطور ذبابة «تسي تسي» «الذبابة المنومة» حتى تستطيع أن تعيش في غير مناطقها الحارة ، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفتاكة التي لم يكن منها وقاء حتى الأمس القريب ، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية ، ليعلم أن بقاء الجنس البشري معها يدعو حقا إلى الدهشة!(1) .

* * *

__________________

(1) اقتباس من كتاب «الإنسان لا يقوم وحده» تأليف كريسي موريسون ، ترجمه محمود صالح الفلكي بعنوان (العلم يدعو للإيمان) ، من الصفحات 65 ، 66 ، 70 ، 71 ، 159 ، 160.

١٩٣

الآيات

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) )

التّفسير

الاتهامات المتعددة الألوان :

هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ تتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة ، في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان. ثمّ في الادعاءات الواهية لعبدة الأوثان ، واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن ، وشخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الآية الأولى ـ في الواقع ـ تجر المشركين إلى المحاكمة ، ولتحريك وجدانهم

١٩٤

تقول بمنطق واضح وبسيط ، وفي نفس الوقت قاطع وداحض :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) .

المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود ، ولا يدعي المشركون هذا الادعاء لأوثانهم ، بل يعتقدون أنّها مخلوقة لله.

وبعد ، فما ذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا ، فما بالك بما تستطيعه للآخرين!؟

( وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً ) .

والأصول المهمّة عند الإنسان هي هذه الأمور الخمسة بالذات : النفع والضر ، والموت ، والحياة ، والنشور.

فمن يكن بحق مالكا أصيلا لهذه الأمور ، يكن بالنسبة إلينا جديرا بالعبادة.

لكن هذه الأصنام غير قادرة أصلا على هذه الأمور لنفسها ، فكيف تريد أن توفّر هذه الأمور لمن يعبدها من المشركين؟!

أي منطق مفتضح هذا!؟ أن ينقاد الإنسان ويتذلل على أعتاب موجود لا اختيار له في نفسه ، فما بالك باختياره للآخرين!؟

هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب ، بل إنّها لا يؤمل منها شيء في الآخرة أيضا.

هذا التعبير يدل على أنّ هذه الفئة من المشركين ، المخاطبة في هذه الآيات ، كانت تقبل بالمعاد نوعا من القبول (المعاد الروحي لا الجسدي) ، أو أن القرآن ـ حتى مع عدم اعتقادهم بمسألة المعاد ـ يتناول القضية كمسلّمة ، فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد ، وهذا مألوف ، فالإنسان أحيانا يكون أمام شخص منكر للحقيقة ، لكنّه يدلي بكلامه طبقا لأفكاره هو ، دون اعتناء بأفكار ذلك المنكر.

خاصّة وأنّ دليلا ضمنيا على المعاد قد كمن في نفس الآية ، لأنّ خالقا حينما يبتدع مخلوقا ـ وهو مالك موته وحياته وضرّه ونفعه ـ لا بدّ أن يكون له هدف من خلقه ،

١٩٥

ولا يمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون الإيمان بالنشور ، ذلك لأنّه إذا انتهى بموت الإنسان كل شيء ، فسوف تكون الحياة فارغة بلا معنى ، وهذا يدلّ على أن ذلك الخالق لم يكن حكيما.

إذا تأملنا جيدا وجدنا مسألة «الضرر» جاءت في الآية قبل «النفع» وذلك لأن الإنسان ينفر من الضرر بالدرجة الأولى ، ولهذا كانت جملة «دفع الضرر أولى من جلب المنفعة» أحد القوانين العقلائية.

وإذا كان «الضرر» و «النفع» و «الموت» و «الحياة» و «المنشور» جاءت بصيغة النكرة ، أيضا ، فلأجل بيان هذه الحقيقة ، وهي أن هذه الأوثان لا تملك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، حتى في مورد واحد ، فما بالك بالموارد كلها!؟

وإذا ذكرت «لا يملكون» و «لا يخلقون» بصيغة «جمع المذكر العاقل» (في حال أنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور) فذلك لأنّ هذا الخطاب لا يتعلق بالأوثان الحجرية والخشبية فحسب ، بل بالجماعة التي كانت تعبد الملائكة أو المسيح ، ولأن العاقل وغير العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة ، فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب «التغليب» كما في الاصطلاح الأدبي.

أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقا لاعتقاد المخاطبين به ، حتى يثبت عجزهم وعدم استطاعتهم ، يعني : إذا كنتم تعتقدون أن هذه الأوثان ذات عقل وشعور ، فلما ذا لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضررا ، أو أن تجلب منفعة!؟

الآية التالية ـ تتناول تحليلات الكفار ـ أو حججهم على الأصح ـ في مقابل دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ) .

في الواقع ، إنّهم من أجل أن يلقوا عن عواتقهم مسئولية تحمل الحق ـ شأن كل الذين أصروا على معارضة القادة الربانيين على طول التاريخ ـ اتهموا الرّسول

١٩٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا بالافتراء والكذب ، خاصّة وأنّهم قد استخدموا لفظة «هذا» ليحقروا القرآن.

ثمّ من أجل أن يثبتوا أنّه غير قادر على الإتيان بمثل هذا الكلام ـ لأنّ الإتيان بمثل هذا الكلام المبين مهما يكن بحاجة إلى قدرة علمية وافرة ، وما كانوا يريدون التسليم بهذا ـ ومن أجل أن يقولوا أيضا : إنّ هذا خطّة مدبرة ومحسوبة ، قالوا : إنّه لم يكن وحده في هذا العمل ، بل أعانه قوم آخرون ، وهذه مؤامرة بالتأكيد ، ويجب الوقوف بوجهها.

بعض المفسّرين قالوا : إنّ المقصود بـ( قَوْمٌ آخَرُونَ ) جماعة من اليهود.

وقال آخرون : إنّ المقصود بذلك ثلاثة نفر كانوا من أهل الكتاب ، وهم : «عداس» و «يسار» و «حبر» أو «جبر».

على أية حال ـ بما أنّ هذه المواضيع لم يكن لها وجود في أوساط مشركي مكّة ، وإنّ قسما منها مثل قصص الأنبياء الأولين كان عند اليهود وأهل الكتاب ـ فقد كان المشركون مضطرين الى نسبة هذه المطالب الى أهل الكتاب كي يخمدوا موجة إعجاب الناس من سماع هذه الآيات.

لكن القرآن يردّ عليهم في جملة واحدة فقط ، تلك هي :( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً ) .(1) «الظلم» هنا لأنّ رجلا أمينا طاهرا وصادقا مثل الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّهموه بالكذب والافتراء على الله ، وبالاشتراك مع جماعة من أهل الكتاب. فظلموا أنفسهم والناس أيضا.

و «الزور» هنا أن قولهم لم يكن له أساس مطلقا ، لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاهم عدّة مرات إلى الإتيان بسورة وآيات مثل القرآن ، فعجزوا وضعفوا أمام هذا التحدي.

__________________

(1) «جاؤا» من مادة «مجيء» : يراد بها عادة معنى «القدوم» ، لكنّها وردت هنا بمعنى «الإتيان» ، كما نقرأ أيضا في الآية (81) سورة يونس أن موسىعليه‌السلام قال للسحرة «ما جئتم به السحر».

١٩٧

وهذا بالذات يدل على أن هذه الآيات ليست من صنع عقل البشر ، لأنّ الأمر لو كان كذلك ، لكانوا يستطيعون بمعونة جماعة اليهود وأهل الكتاب أن يأتوا بمثلها. ومن هنا فإنّ عجزهم دليل على كذبهم ، وكذبهم دليل على ظلمهم.

لهذا فالجملة ، القصيرة( فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً ) رد بليغ وداحض في مواجهة ادعاءاتهم الواهية.

كلمة «زور» في الأصل من «زور» (على وزن غور) أخذت بمعنى : أعلى الصدر ، ثمّ أطلقت على كل شيء يتمايل عن حدّ الوسط ، وبما أنّ «الكذب» انحرف عن الحق ، ومال إلى الباطل ، فقد ، سمّوه «زورا».

تتناول الآية التالية لونا آخر من التحليلات المنحرفة والحجج الواهية للمشركين فيما يتعلق بالقرآن ، فتقول :( وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ) .

لا شيء عنده من قبل نفسه ، لا علم ولا ابتكار ، فكيف له بالنبوّة والوحي! إنّه استعان بآخرين ، فجمع عدّة من الأساطير القديمة ، وأطلق عليها اسم الوحي والكتاب السماوي. وهو يستلهمها من الآخرين طيلة اليوم من أجل الوصول إلى هذا الهدف( فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) .

إنّه يتلقى المعونة لأجل هدفه في الأوقات التي يقلّ فيها تواجد الناس ، أي بكرة وعشيا.

هذا الكلام ـ في الحقيقة ـ تفسير وتوضيح للاتهامات التي نقلت عنهم في الآية السابقة. إنّهم في هذه الجملة القصيرة أرادوا أن يفرضوا على القرآن مجموعة من نقاط الضعف:

أوّلها : أن ليس في القرآن موضوع جديد مطلقا ، بل مجموعة من الأساطير القديمة.

والثّانية : أنّ نبي الإسلام لا يستطيع الاستمرار بدعوته ـ حتى يوما واحدا ـ بدون مساعدة الآخرين ، فلا بدّ أن يملوا الموضوعات عليه بكرة وعشيا ، وعليه أن

١٩٨

يكتبها.

والأخرى : أنّه يعرف القراءة والكتابة. فإذا قال : إنّني أمّي ، فهي دعوى كاذبة.

إنّهم ـ في الواقع ـ كانوا يريدون أن يفرقوا الناس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة هذه الأكاذيب والاتهامات ، في الوقت الذي يعلم كل العقلاء الذين عاشوا مدّة في ذلك المجتمع ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن قد درس عند أحد ، مضافا إلى أنّه لم تكن له أية رابطة مع جماعة اليهود وأهل الكتاب. وإذا كان يستلهم من الآخرين كل يوم بكرة وعشيا ، فكيف أمكن أن يخفى على أحد؟ فضلا عن هذا ، فإن آيات القرآن كانت تنزل عليه في السفر والحضر ، بين الناس ومنفردا ، وفي كل حال.

مضافا إلى كل هذا ، كان القرآن مجموعة من التعليمات الاعتقادية ، والأحكام العملية ، والقوانين ، ومجموعة من قصص الأنبياء ، ولم تكن قصص الأنبياء لتشكل كل القرآن ، مضافا إلى أنّ ما ورد من قصص الأقوام الأولين في القرآن لم يكن له شبه لما جاء في العهدين (التوراة والإنجيل) المحرفين ، وأساطير العرب الخرافية ، لذلك لأنّ ما في العهدين مليء بالخرافات ، والقرآن منزّه عنها ، ولو وضعنا القرآن والعهدين جنبا إلى جنب ، وقايسنا بينهما ، فسوف تتجلى حقيقة الأمر جيدا.(1)

لذا فالآية الأخيرة تصرح بصيغة الرد على هذه الاتهامات الواهية ، فتقول :( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) . إشارة إلى أن محتوى هذا الكتاب ، والأسرار ، المتنوعة فيه من علوم ومعارف وتاريخ الأقوام الأولين ، والقوانين والاحتياجات البشرية ، وحتى أسرار عالم الطبيعة والأخبار المستقبلية ،

__________________

(1) يعتقد جماعة من المفسّرين أنّ المراد من جملة (اكتتبها) : هو أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد من الآخرين أن يكتبوا له هذه الآيات ، وكذلك ، جملة (تملى عليه) مفهومها : هو أنّ أولئك كانوا يلقونها إليه ، وكان هو يحفظها. لكنّه مع الالتفات إلى أنّنا لا دليل لدينا على حمل هاتين الجملتين على خلاف الظاهر ، يكون التّفسير الذي ورد في المتن هو الأصح ، ففي الواقع إن أولئك كانوا يريدون أن يتهموا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا الطريق ، بأنّه يقرأ ويكتب ، لكنّه كان يظهر نفسه أميا عمدا.

١٩٩

تدل على أن ليس من صنع ومتناول عقل البشر ، ولم ينظم بمساعدة هذا أو ذاك.

بل بعلم الذي هو جدير بأسرار السماء والأرض ، والمحيط بكل شيء علما.

لكن مع كل هذا ، فإن القرآن يترك طريق التوبة مفتوحا أمام هؤلاء المغرضين والمنحرفين ، فيقول تبارك وتعالى في ختام الآية( إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) .

فبمقتضى رحمته أرسل الأنبياء ، وأنزل الكتب السماوية ، وبمقتضى غفوريته سيعفو في ظل الإيمان والتوبة عن ذنوبكم التي لا تحصى.

* * *

٢٠٠