الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 170137
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170137 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ) فلا تغتم ولا تحزن ، فإنّها شكاة ظاهر عنك عارها».(1)

التّفسير

هكذا كان جميع الأنبياء

في عدّة آيات سابقة وردت واحدة من ذرائع المشركين بهذه الصيغة : لماذا يأكل رسول الله الطعام ، ويمشي في الأسواق؟ وأجيب عليها بجواب إجمالي ومقتضب ، أمّا الآية مورد البحث فتعود إلى نفس الموضوع لتعطي جوابا أكثر تفصيلا وصراحة ، فيقول تعالى :( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ ) فقد كانوا من البشر ويعاشرون الناس ، وفي ذات الوقت( وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ) وامتحانا.

وهذا الامتحان ، قد يكون بسبب أنّ اختيار الأنبياء من جنس البشر ومن أوساط الجماهير المحرومة هو امتحان عظيم بذاته ، لأنّ البعض يأبون أن ينقادوا لمن هو من جنسهم ، خاصّة إذا كان في مستوى واطئ من حيث الإمكانات المادية ، وهم في مستوى عال ماديا ، أو أن أعمارهم أكبر ، أو أنّهم أكثر شهرة في المجتمع.

ويرد احتمال آخر في المراد بالفتنة ، وهو أنّ الناس عموما بعضهم لبعض فتنة ، ذلك أن المتقاعدين والعجزة والمرضى والأيتام والمزمنين فتنة للأقوياء والأصحاء السالمين ، وبالعكس ، فإنّ الأفراد الأصحاء الأقوياء فتنة للضعفاء والعجزة.

ترى هل أنّ الفريق الثّاني راض برضا الله! أم لا؟

__________________

(1) وإن كان قد جاء مضمون الرواية أعلاه في كثير من التفاسير ، ولكن ما ذكرناه أعلاه مطابق للرواية التي أوردها القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» ج 13 ، ص 5 دار إحياء التراث العربي / بيروت.

٢٢١

وهل أن الفريق الأوّل يؤدي مسئوليته وتعهده إزاء الفريق الثّاني ، أم لا؟! من هنا ، لا تقاطع بين هذين التّفسيرين فمن الممكن أن يجتمع كلاهما في المفهوم الواسع للآية في أن الناس بعضهم لبعض فتنة.

وعلى أثر هذا القول ، جعل الجميع موضع الخطاب فقال تعالى :

( أَتَصْبِرُونَ ) ؟

ذلك لأنّ أهم ركن للنجاح في جميع هذه الامتحانات هو الصبر والاستقامة والشجاعة الصبر والاستقامة أمام خيالات الغرور الذي يمنع من قبول الحق

الصبر والاستقامة أمام المشكلات الناشئة من المسؤوليات وأداء الرسالات ، وكذلك الجلد أمام المصائب والحوادث الأليمة التي لا تخلو منها حياة الإنسان على كل حال.

والخلاصة : أنّ من الممكن اجتياز هذا الامتحان الإلهي العظيم بقوّة الاستقامة والصبر.(1)

ويقول تعالى في ختام الآية بصيغة التحذير :( وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً ) فينبغي ألا يتصور أحد أن شيئا من تصرفاته حيال الاختبارات الإلهية يظل خافيا ومستورا عن عين الله وعلمه الذي لا يخفى عليه شيء. إنّه يراها بدقة ويعلمها جميعا.

سؤال :

يرد ها هنا استفسار ، وهو أن ردّ القرآن على المشركين في الآيات أعلاه قائم على أن جميع الأنبياء ، كانوا من البشر. وهذا لا يحلّ المشكلة ، بل يزيد من حدّتها ، ذلك أن من الممكن أن يعمموا إشكالهم على جميع الأنبياء.

__________________

(1) من أجل توضيح أكثر في مسألة الاختبارات الإلهية ، والغاية من هذه الاختبارات وسائر أبعاد ذلك ، بحثنا ذلك بشكل مفصّل في ذيل الآية (55) من سورة البقرة.

٢٢٢

والجواب :

أنّ الآيات القرآنية المختلفة تدلّ على أن إشكالهم على شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعا خاصا به ، ولهذا كانوا يقولون : ما لهذا الرّسول

يقول القرآن في جوابهم : ليس هذا منحصرا بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فجميع الأنبياء كانت لهم مثل هذه الأوصاف ، وعلى فرض أنّهم سيعممون هذا الأشكال على جميع الأنبياء ، فقد أعطى القرآن جوابهم أيضا حيث يقول :( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) «كي يستطيع أن يكون أسوة وأنموذجا للناس في كل مجالات». إشارة إلى أن الإنسان فقط يستطيع أن يكون مرشدا للإنسان ، فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكلاته ومسائله.

* * *

٢٢٣

الآيات

( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) )

التّفسير

الادعاءات الكبيرة :

قلنا أنّ المشركين يصرون على الفرار من ثقل التعهدات والمسؤوليات التي يضعها على عواتقهم الإيمان بالله واليوم الآخر ، فكانوا يقولون تارة : لماذا يحتاج الرّسول إلى الطعام ويمشي في الأسواق؟ حيث قرأنا الإجابة عليها في الآيات السابقة.

الآيات الحالية ، تطرح شكلين آخرين من ذرائعهم وتجيب عليها ، فيقول

٢٢٤

تعالى أوّلا :( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ) .

فعلى فرض أنّنا سنقبل أنّ النّبي يستطيع أن يعيش الحياة العادية مثلنا. لكن أن يتنزل الوحي عليه وحده ، ولا نراه نحن ، فهذا ما لا يمكن القبول به ، ما المانع من أن يظهر الملك فيؤكّد صحة نبوة الرّسول؟ أو أن يسمعنا بعضا من الوحي!؟ أو أن نرى ربّنا بأعيننا حتى لا يبقى عندنا مكان لأي شك أو شبهة!؟

هذه هي الأسئلة التي تمنعنا من قبول دعوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

المهم هو أن القرآن يصنف هؤلاء المتعللين بالذرائع تحت عنوان( لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ) ، حيث يدل على أنّ منبع هذه الأقوال الواهية هو عدم الإيمان بالآخرة ، وعدم القبول بالمسؤولية أمام الله.

في الآية (7) من سورة الحجر نقرأ أيضا شبيها لهذا القول ، حيث قالوا( لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) وقرأنا أيضا في مطلع سورة الفرقان هذه أن المشركين كانوا يقولون :( لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) .

في حين أن من حق أي إنسان لإثبات قضية ما ، أن يطالب بالدليل فقط.

أمّا نوع الدليل ، فمن المسلّم أنّه لا فرق فيه ، في الوقت الذي أثبت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بإظهار المعجزات ومن جملتها القرآن نفسه ـ حقانية دعوته بوضوح ، إذن فما معنى هذه الذرائع؟

وأفضل دليل على أنّهم لم يكونوا يقولون هذه الأقوال من أجل التحقيق حول نبوة النّبي ، هو أنّهم طلبوا أن يشاهدوا الخالق ، وأنزلوه إلى حدّ جسم يمكن رؤيته ، ذلك الطلب نفسه الذي طلبه مجرمو بني إسرائيل أيضا ، فسمعوا الجواب القاطع على ذلك ، حيث ورد شرحه في سورة الأعراف الآية 143.

لذا يقول القرآن في الإجابة على هذه الطلبات في آخر الآية مورد البحث :( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ) .

«العتو» على وزن «غلو» ، بمعنى الامتناع عن الطاعة ، والتمرد على الأمر ،

٢٢٥

مصحوبا بالعناد واللجاجة.

وتعبير «في أنفسهم» من الممكن أن يكون بمعنى : أنّ هؤلاء صاروا أسارى الغرور والتكبّر في أنفسهم. ومن الممكن أن يكون أيضا بمعنى أنّهم أخفوا كبرهم وغرورهم في قلوبهم وأظهروا هذه المعاذير.

في عصرنا وزماننا أيضا ، يوجد أشخاص يكررون منطق المشركين الغابرين ، فيقولون : ما دمنا لا نرى الله في مختبراتنا ، ولا نشاهد الروح تحت مبضع الجراحة ، فلن نصدّق! بوجودهما ومنبع الإثنين واحد وهو الاستكبار والعتو.

ومن حيث الأصل ، فإنّ جميع الأشخاص الذين يحصرون وسائل المعرفة في الحس والتجربة فقط ، يكررون نفس هذا القول بشكل ضمني ، فكلّ الماديين داخلون في هذا الصنف ، في حين أنّ الحواس لا تدرك إلّا جزء ضئيلا لا يذكر من مادة هذا العالم.

ثمّ يقول تعالى بصيغة التهديد : إنّ هؤلاء الذين يطلبون أن يروا الملائكة ، سوف يرونهم آخر الأمر ، لكن( يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ) .(1)

بلى سوف لن يسرّوا برؤية الملائكة في ذلك اليوم ، لأنّهم سيرون علامات العذاب برؤيتهم الملائكة ، وسوف يغمرهم الرعب إلى حد أنّهم سيطلقون صرخات الإستغاثة التي كانوا يطلقونها في الدنيا حال الإحساس بالخطر أمام الآخرين ، فيقولون : الأمان الأمان ، اعفوا عنّا :( وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً ) .

ولكن لا هذه الجملة ـ ولا غيرها ـ لها أثر على مصيرهم المحتوم ، ذلك لأنّ النار التي هم أوقدوها ستلتهم أطرافهم شاءوا أم أبوا ، وستتجسد أمامهم الأعمال السيئة التي ارتكبوها ، فلا يملكون شيئا لأنفسهم.

كلمة «حجر» (على وزن قشر) تقال في الأصل للمنطقة التي حجروها

__________________

(1) كلمة (لا) ها هنا ، قد تكون للنفي ، كما قال كثير من المفسّرين ، ويحتمل أيضا أن تكون لانشاء الدعاء السلبي ، حيث يصبح معنى الجملة في هذه الصورة ، هكذا : «في ذلك اليوم لا كانت بشرى للمجرمين».

٢٢٦

وجعلوها ممنوعة الورود ، وعند ما يقال «حجر إسماعيل» فلأن حائطا أنشئ حوله فحجز داخله. يقولون للعقل أيضا «حجرا» لأنّه يمنع الإنسان من الأعمال المخالفة. لذا نقرأ في الآية (5) من سورة الفجر( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) ، وأيضا «اصحاب الحجر» الذين ورد اسمهم في القرآن (الآية 80 من سورة الحجر) وهم قوم صالح الذين كانوا ينحتون لأنفسهم بيوتا حجرية محكمة في قلوب الجبال ، فكانوا يعيشون في أمانها.

هذا في ما يخص كلمة «حجر».

أمّا جملة «حجرا محجورا» فقد كانت اصطلاحا بين العرب ، إذا التقوا بشخص يخافونه ، فأنّهم يقولون هذه الجملة أمامه لأخذ الأمان.

كان هذا عرف العرب ، خاصّة في الأشهر الحرم ، حيث كانت الحرب ممنوعة ، فحينما يواجه شخص آخر ، ويحتمل خرق هذا العرف والتعرض للأذى ، فإنّه يكرر هذه الجملة ، والطرف المقابل ـ أيضا ـ مع سماعة لها كان يعطيه الأمان ، فيخرجه من القلق والاضطراب والخوف.

على هذا فإنّ معنى الجملة المذكورة هو : «أريد الأمان ، الأمان الذي لا رجعة فيه ولا تغيير».(1)

اتّضح ممّا قلناه أعلاه ، أنّ المجرمين هنا هم أصحاب هذا القول ، وتناسب الأفعال الموجودة في الآية ، والسير التاريخي ، وسابقة هذه الجملة في أوساط العرب ـ أيضا ـ يستدعي هذا ، ولكن البعض احتمل أنّ الملائكة هم أصحاب هذا القول ، وهدفهم منع المشركين من رحمة الله.

وقال آخرون : إنّ أصحاب هذا القول هم المجرمون ، يقولونه بعضهم لبعض ، ولكن الظاهر هو المعنى الأول ، حيث اختاره كثير من المفسّرين ، أو ذكروه كأوّل

__________________

(1) ومن الناحية الأدبية فإنّ «حجرا» مفعول لفعل مقدر و «محجورا» جاءت للتوكيد ، فهي في الأصل (أطلب منك منعا لا سبيل إلى رفعه ودفعه).

٢٢٧

تفسير لذلك.(1)

أمّا أي يوم ذلك اليوم الذي يلتقي فيه المجرمون بالملائكة؟ فقد ذكر المفسّرون احتمالين : أحدهما : هو يوم الموت حيث يرى الإنسان ملك الموت ، كما نقرأ في الآية (93) من سورة الأنعام :( وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) . والثّاني : أنّ المقصود هو يوم القيامة والنشور ، حيث يكون المجرمون أمام ملائكة العذاب فيشاهدونهم.

ومع الانتباه إلى الآيات الآتية التي تتكلم عن النشور ، خصوصا جملة( يَوْمَئِذٍ ) التي تشير إليه ، يتبيّن أنّ التّفسير الثّاني هو الأقرب.

الآية التي بعدها تجسد مصير أعمال هؤلاء المجرمين في الآخرة ، فتقول :( وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) .

كلمة «العمل» على ما قاله «الراغب» في المفردات بمعنى : كل فعل يكون بقصد ، ولكن الفعل أعم منه ، فهو يطلق على الأفعال التي تكون بقصد أو بغير قصد.(2)

جملة «قدمنا» من «القدوم» بمعنى «المجيء» أو «الذهاب على أثر شيء» وهي هنا دليل على تأكيد وجدّية المسألة ، يعني مسلّما وبشكل قاطع أن جميع أعمال أولئك التي قاموا بها عن قصد وإرادة ـ وإن كانت أعمال خير ظاهرا ـ سنمحوها كما تمحى ذرات الغبار في الهواء ، لشركهم وكفرهم.

__________________

(1) تفسير الميزان ، تفسير الفخر الرازي ، في ظلال القرآن ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، ذيل آية البحث.

(2) يذهب (الراغب) الى هذا الفرق في مادة «عمل» ، ولو أنّ له بيانا خلاف ذلك في مادة «فعل». لكن مع الالتفات إلى موارد استعمال هاتين الكلمتين يكون هذا الفرق صحيحا ، طبعا يمكن أن يكون له استثناءات كما يقولون للثيران التي تعمل «عوامل».

٢٢٨

آفات العمل الصالح :

كلمة «هباء» بمعنى ذرات الغبار الصغيرة جدّا التي لا ترى بالعين المجرّدة وفي الحال العادية أبدا إلّا في الوقت الذي يدخل نور الشمس إلى الغرفة المظلمة من ثقب أو كوّة ، فيكشف عن هذه الذرات ويمكن مشاهدتها.

هذا التعبير يدل على أن أعمال أولئك لا قيمة لها ولا اثر إلى حدّ كأنّهم لم يعملوا شيئا ، وإن كانوا قد سعوا واجتهدوا سنين طويلة.

هذه الآية نظيرة الآية (18) من سورة إبراهيم التي تقول :( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) .

الدليل المنطقي لذلك واضح أيضا ، لأنّ الشيء الذي يعطي عمل الإنسان الشكل والمحتوى ، هو النيّة والدافع وغاية العمل النهائية ، فأهل الإيمان يتوجهون لإنجاز أعمالهم بدافع إلهي وعلى أساس أهداف مقدسة طاهرة ، وخطط سليمة صحيحة ، في حين أن من لا إيمان لهم ، فغالبا يقعون أسارى التظاهر والرياء والغرور والعجب ، فيكون سببا في انعدام أية قيمة لأعمالهم.

على سبيل المثال ، نحن نعرف مساجد من مئات السنين ، لم تترك عليها القرون الماضية أدنى تأثير ، وبعكسها نرى بيوتا تظهر فيها الشروخ وعلامات الضعف مع مضي شهر واحد أو سنة واحدة ، فالأولى بنيت من كل النواحي بناء محكما بأفضل المواد مع توقع الحوادث المستقبلية ، أمّا الثّانية فلأن الهدف من بنائها هو تهيئة المال والثروة عن طريق المظاهر والحيلة ، فالعناية فيها كانت بالزخرفة فقط.(1)

من وجهة نظر المنطق الإسلامي ، فإن للأعمال الصالحة آفات ، ينبغي مراقبتها بدقة ، فقد يكون العمل أحيانا خرابا وفاسدا منذ البداية ، كمثل العمل الذي يتخذ

__________________

(1) بحثنا في هذا الصدد بصورة أكثر تفصيلا في (ذيل الآية 18 من سورة إبراهيم).

٢٢٩

(رياء).

وأحيانا أخرى يلحقه الفساد أثناء العمل كما لو أصاب الإنسان الغرور والعجب حينه فتزول قيمة عمله بسبب ذلك.

وقد يمحى أثر العمل الصالح بعد الانتهاء منه بسبب القيام بأعمال مخالفة ومنافية ، كمثل الإنفاق الذي تتبعه «منّة» ، أو كالأعمال الصالحة التي يعقبها كفر وارتداد.

حتى ارتكاب الذنوب أحيانا يترك أثره على العمل الصالح بعدها ـ طبقا لبعض الرّوايات الإسلامية ـ كما نقرأ في مسألة شارب الخمر حيث لا تقبل أعماله عند الله أربعين يوما.(1)

على أية حال ، فللإسلام منهج فذ ، دقيق وحساس في مسألة خصوصيات العمل الصالح. نقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال :

يبعث اللهعزوجل يوم القيامة قوما بين أيديهم نور كالقباطي ، ثمّ يقول له :

( هَباءً مَنْثُوراً ) ثمّ قال : أمّا والله ـ يا أبا حمزة ـ إنّهم كانوا يصومون ويصلون ، ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه ، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام أنكروه ، قال : والهباء المنثور هو الذي تراه يدخل البيت في الكوة مثل شعاع الشمس».(2)

وبما أن القرآن ـ عادة ـ يضع الحسن والسيء متقابلين حتى يتّضح وضع كل منهما بالمقايسة فإنّ الآية التي بعدها تتحدث عن أهل الجنّة فتقول :( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ) .

ليس معنى هذا الكلام أنّ وضع أهل جهنم حسن ، ووضع أهل الجنّة أحسن ، لأنّ صيغة «أفعل التفضيل» تأتي أحيانا حيث يكون أحد الأطراف واجدا

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 427 ، مادة «خمر».

(2) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، ج 4 ، ص 9.

٢٣٠

للمفهوم ، والآخر فاقدا له كليا. مثلا نقرأ في الآية (40) من سورة فصّلت :( أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

«مستقر» بمعنى محل الاستقرار.

و «مقيل» بمعنى محل الاستراحة في منتصف النهار ، من مادة «قيلولة» ، وقد جاءت بمعنى النوم منتصف النهار.

* * *

٢٣١

الآيتان

( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) )

التّفسير

تشقق السماء بالغمام :

مرّة أخرى يواصل القرآن في هذه الآيات البحث حول القيامة ، ومصير المجرمين في ذلك اليوم ، فيقول أوّلا : إن يوم محنة وحزن المجرمين هو ذلك اليوم الذي تنشق فيه السماء بواسطة الغيوم :( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً ) .(1)

«الغمام» من «الغم» بمعنى ستر الشيء ، لذلك فالغيم الذي يغطي الشمس يقال له «الغمام» ، وكذلك الحزن الذي يغطي القلب يسمّونه «الغم».

__________________

(1) جملة «يوم تشقق السماء» في الواقع عطف على جملة «يوم يرون الملائكة» التي مرّت سابقا ، وعلى هذا فأنّ «يوم» هنا متعلق بذلك الشيء الذي كان في الآية السابقة ، يعني جملة «لا بشرى». ويعتقد جماعة أنّه متعلق بفعل مقدّر ، مثل (أذكر) و «الباء» في «الغمام» يمكن أن تكون بمعنى الملابسة ، أو بمعنى «عن» ، أو للسببية كما تقدم في تفسير الآيات أعلاه.

٢٣٢

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ ردّ على طلبات المشركين ، وعلى إحدى ذرائعهم ، لأنّهم كانوا يتوقعون أن يأتي الله والملائكة ـ طبقا لأساطيرهم وخرافاتهم من خلال الغيم ، فيدعونهم إلى الحق ، وفي أساطير اليهود جاء ـ أيضا ـ أنّ الله أحيانا يظهر ما بين الغيوم.(1)

يقول القرآن في الردّ عليهم : نعم الملائكة (وليس الله) يأتون إليهم يوما ما ، لكن أي يوم؟ اليوم الذي تتحقق فيه مجازاة وعقوبة هؤلاء المجرمين ، وينهي ادعاءاتهم الباطلة.

ولكن ما هو المقصود من تشقق السماء بالغمام ، مع أنّنا نعلم أن لا وجود حولنا لشيء يسمى السماء ، يكون قابلا للتشقق؟

قال بعض المفسّرين مثل «العلامة الطباطبائي» في تفسير «الميزان» : المقصود هو تشقق سماء عالم الشهود ، وزوال حجاب الجهل والغباء وظهور عالم الغيب ، فيكون للإنسان إدراك ورؤية تختلف كثيرا عمّا هي عليه اليوم ، فحينئذ تزول الحجب ، فيرون الملائكة وهي تتنزل من العالم الأعلى.

ثمّة تفسير آخر ، هو أنّ المقصود من السماء هو الأجرام السماوية التي تتلاشى على أثر انفجارات متوالية ، فيملأ الغيم الحاصل من هذه الإنفجارات ومن تلاشي الجبال صفحة السماوات ، وبناء على هذا فالأفلاك السماوية تتشقق مع الغيوم الحاصلة من ذلك.(2)

آيات كثيرة من القرآن المجيد ، خصوصا التي وردت في السور القصار آخر القرآن ، تبيّن هذه الحقيقة ، حيث تملأ جميع عوالم الوجود تغيرات عظيمة ، وانقلاب وتحول عجيب ، تتلاشى الجبال وتتناثر في الفضاء كذرات الغبار ، الشمس تفقد نورها وكذلك النجوم. ويلتقي الشمس والقمر ، وتملأ نواحي الأرض

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ج 6 ، ص 154 (ذيل الآية مورد البحث).

(2) «الباء» من الناحية الأدبية في هذه الحالة للملابسة.

٢٣٣

زلزلة وهزّة عجيبة.

نعم ، في مثل ذلك اليوم ، زوال السماء ، بمعنى الأجرام السماوية ، وتلبّس السماء بغيوم كثيفة ، سيكون أمرا طبيعيا.

من الممكن توضيح نفس هذا التّفسير بنحو آخر :

شدّة التغيرات ، وانفجارات الكواكب والسيارات يصير سببا في تغطية السماء بغيم كثيف ، ولكن توجد انشقاقات بين هذا الغيم ، وعلى هذا فالسماء التي ترى بالعين في الأحوال العادية ، تتشقق بواسطة هذه الغيوم الانفجارية العظيمة.(1)

تفسيرات أخرى قيلت لهذه الآية أيضا لا تتوافق مع الأصول العلمية والمنطقية ، وفي نفس الوقت فالتّفسيرات الثلاثة الآنفة لا تتنافى مع بعضها ، فمن الممكن أن ترتفع حجب العالم المادي عن عين الإنسان من جهة ، فيشاهد عالم ما وراء الطبيعة ، ومن جهة أخرى ستتلاشى الأجرام السماوية ، وتظهر الغيوم الانفجارية ، فتبرز التشققات ما بينها في ذلك اليوم ، يوم نهاية هذا العالم وبداية النشور ، يوم أليم جدّا للمجرمين الظالمين المعاندين الذين لا إيمان لهم.

بعد ذلك يتناول القرآن الكريم أوضح علائم ذلك اليوم فيقول :( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ ) .

حتى أولئك الذين كان لهم في هذا العالم نوع من الملك المجازي والمحدود والفاني والسريع الزوال ، يخرجون أيضا من دائرة الملك ، فتكون الحاكمية من كلّ النواحي وجميع الجهات لذاته المقدسة خاصّة ، وبهذا( وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً ) .

نعم ، في ذلك اليوم تزول القوى الكاذبة تماما ، وتكون الحاكمية لله خاصّة ، فتتداعى قلاع الكافرين ، وتزول قوى الجبابرة والطواغيت ، وإن كانوا جميعا في

__________________

(1) في هذه الحالة «الباء» في «بالغمام» للسببية.

٢٣٤

هذا العالم ـ أيضا ـ لا شيء أمام إرادته تبارك وتعالى. وإذا كان لهم في هذه الدنيا بهرجة ، فبأي ملاذ يلوذون من الجزاء الإلهي في يوم القيامة ، يوم انكشاف الحقائق وزوال المجازات والخيالات والأوهام ، ولهذا سيكون ذلك اليوم يوما بالغ الصعوبة عليهم ، في الوقت الذي يكون على المؤمنين سهلا يسيرا وهينا جدّا.

في حديث عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) فقلت : ما أطول هذا اليوم!؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «والذي نفسي بيده إنّه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا».(1)

والتأمل الدقيق في سائر آيات القرآن يكشف عن دلائل صعوبة ذلك اليوم على الكافرين ، ذلك أنّنا نقرأ من جهة( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) .(2)

ومن جهة أخرى( ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ ) .(3)

ومن جهة ثالثة( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً ) .(4)

حتى الشفاعة التي هي وحدها طريق النجاة ، تكون للمذنبين الذين كانت لهم صلة بالله وبأولياء الله( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .(5)

وايضا( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) ،(6) فلا يسمح لهم بالاعتذار ، فما بالك بقبول الاعذار الواهية!!

* * *

__________________

(1) تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن» ، ج 13 ، ص 23 ، ج 7 ، ص 4739.

(2) سورة البقرة ، الآية 166.

(3) سورة تبّت ، الآية 2.

(4) سورة الدخان ، الآية 41.

(5) سوره البقرة ، الآية 255.

(6) سورة المرسلات ، الآية 36.

٢٣٥

الآيات

( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) )

سبب النّزول

«قال ابن عباس : نزل قوله تعالى :( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ) في عقبة بن أبي معيط ، وأبي بن خلف ، وكانا متخالّين ، وذلك أن عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه ، وكان يكثر مجالسة الرّسول ، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما ودعا الناس ، فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى طعامه ، فلما قربوا الطعام قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله ، فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. وبلغ ذلك أبي بن خلف فقال : صبئت يا عقبة؟ قال : لا والله ما صبأت ، ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلّا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم ، فقال أبي : ما كنت براض عنك أبدا حتى تأتي فتبزق في وجهه ،

٢٣٦

ففعل ذلك عقبة وارتدّ ، وأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف ، فضرب عنقه يوم بدر صبرا ، وأمّا أبي بن خلف فقتله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أحد بيده في المبارزة».

وقال الضحاك : لما بزق عقبة في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد بزاقه في وجهه ، فأحرق خديه ، وكان أثر ذلك فيه حتى مات.

وقيل نزلت في كل كافر أو ظالم تبع غيره في الكفر أو الظلم وترك متابعة أمر الله تعالى.(1)

نزلت الآيات أعلاه لترسم صورة مصير الرجل الذي يبتلى بخليل ضال ، ويجره إلى الضلال.

وقلنا مرارا أنّ سبب النّزول وإن يكن خاصّا ، إلّا أنّه لا يقيد مفهوم الآيات أبدا ، وعمومية المفهوم تشمل جميع المصاديق.

* * *

التّفسير

أضلني صديق السوء

يوم القيامة له مشاهد عجيبة ، حيث ورد بعض منها في الآيات السابقة ، وفي هذه الآيات اشارة الى قسم آخر منها ، وهي مسألة حسرة الظالمين البالغة على ماضيهم ، يقول تعالى أوّلا :( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) (2) .

«يعضّ» من مادة «عضّ» (على وزن سدّ) بمعنى الأزم بالأسنان ، ويستخدم

__________________

(1) مجمع البيان ، ج 7 ، ص 166.

(2) جملة( يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ ) عطف على «يوم يرون» التي مضت قبل عدّة آيات ، بعض يعتبرها أيضا متعلقة بجملة مقدرة «اذكر».

٢٣٧

هذا التعبير عادة بالنسبة إلى الأشخاص المهووسين من شدّة الحسرة والأسف ، كما في المثل العربي ، لأن الإنسان في مثل هذه الحالات لا يعض الإصبع دائما ، بل يعض ظاهر اليد أحيانا ، وكثيرا ما يقال ـ كما في الآية الآية مورد البحث ـ «يديه» يعني كلتا اليدين حيث تبيّن شدّة الأسف والحسرة بنحو أبلغ.

وهذا العمل يصدر من هؤلاء الأشخاص حينما يطلعون على ماضيهم ، ويعتبرون أنفسهم مقصرين ، فيصممون على الانتقام من أنفسهم بهذا الشكل لتهدئة سورة الغضب في نفوسهم والشعور بالراحة.

وينبغي حقّا ، أن يسمى ذلك اليوم( يَوْمَ الْحَسْرَةِ ) كما ورد هذا الوصف بالذات في القرآن ليوم القيامة أيضا (سورة مريم الآية 39) ، ذلك لأن المجرمين يرون أنفسهم في أتعس حال بين يدي الحياة الخالدة ، في الوقت الذي كانوا يستطيعون خلال أيام من الصبر والاستقامة ومجاهدة النفس والإيثار أن يستبدلوا ذلك بحياة مشرفة وسعيدة ، وهو يوم أسف أيضا حتى بالنسبة إلى المحسنين ، فهم يأسفون على أنّهم : لماذا لم يحسنوا أكثر.

ثمّ يضيف القرآن الكريم أنّ هذا الظالم المعتدي الغارق في عالم الأسف ، يقول :( يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ) .(1)

واضح أن المقصود بـ «فلان» هو ذلك الذي أضله : الشيطان أو صديق السوء أو القريب الضال ، وفرد مثل «أبي» لـ «عقبة» الذي ورد في سبب النّزول.

هذه الآية ـ والآية التي قبلها ـ تعرضان حالتي نفي وإثبات متقابلتين في مكان واحد ، يقول تعالى :( يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ) ، وهنا يقول :( ... لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ) حيث كانت التعاسة كلها في ترك الارتباط بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبول الارتباط بهذا الخليل الضال.

__________________

(1) «خليل» تطلق بمعنى الصديق الخاص الحميم حيث يجعله الإنسان مشاورا لنفسه. وللخليل معان أخرى أيضا قد أوردناها في ذيل الآية (125) من سورة النساء.

٢٣٨

ثمّ يستمر ويقول :( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ) .

لو كانت الفاصلة كبيرة بيني وبين الإيمان والسعادة الخالدة في الدنيا لم أكن آسف الى هذا الحد ، ولكني كنت قاب قوسين أو أدنى من السعادة الدائمة فصدّني رفيق السوء هذا عن عين ماء الحياة ظامئا وأغرقني في دوامة التعاسة.

«الذكر» في الجملة أعلاه ، له معنى واسع ، ويشمل كل الآيات الإلهية التي نزلت في الكتب السماوية ، بل يدخل في إطاره كلّ ما يوجب يقظة ووعي الإنسان.

وفي ختام الآية يقول تعالى :( وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) ذلك لأنّه يجر الإنسان إلى مواقع الخطر والطرق المنحرفة ، ثمّ يتركه حيران ويذهب لسبيله.

وينبغي الانتباه إلى أنّ «خذولا» صيغة مبالغة ، بمعنى كثير الخذلان.

وحقيقة الخذلان هي أي يعتمد الشخص على صديقه تمام الاعتماد ، ولكن هذا الصديق يرفع يده عن مساعدته وإعانته تماما في اللحظات الحساسة.

في هذه الجملة الأخيرة( وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً ) قد تكون من مقولة الله تعالى على سبيل الإنذار لجميع الظالمين والظالمين ، أو تتمة لمقولة هؤلاء الأفراد المتحسرين في القيامة ، ذكر المفسّرون تفسيرين ، وكل منهما منسجم مع معنى الآية ، غير أن كونها مقولة الله تعالى أكثر انسجاما.

* * *

بحث

أثر الصديق في مصير الإنسان :

لا شك في أن عوامل بناء شخصية الإنسان ـ بعد عزمه وإرادته وتصميمه ـ أمور مختلفة ، من أهمها الجليس والصديق والمعاشر ، ذلك لأنّ الإنسان قابل للتأثر

٢٣٩

شاء أم أبى ، فيأخذ قسطا مهما من أفكاره وصفاته الأخلاقية عن طريق أصدقائه ، ولقد ثبتت هذه الحقيقة من الناحية العلمية وعن طريق التجربة والمشاهدات الحسية أيضا.

قابلية التأثر هذه نالت اهتماما خاصّا لدى الإسلام إلى حدّ أنّه نقل في الرّوايات الإسلامية ،

عن نبيّ الله سليمانعليه‌السلام أنّه قال : «لا تحكموا على رجل بشيء حتى تنظروا إلى من يصاحب ، فإنّما يعرف الرجل بأشكاله وأقرانه ، وينسب إلى أصحابه وأخدانه».(1)

يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في خطبة له : «ومن اشتبه عليكم أمره ولم تعرفوا دينه ، فانظروا إلى خلطائه ، فإن كانوا أهل دين الله فهو على دين الله ، وإن كانوا على غير دين الله ، فلا حظّ له من دين الله».(2)

حقّا ، إنّ أثر الصديق في سعادة وشقاوة إنسان ما قد يكون من أهم العوامل أحيانا ، فقد يؤدي به إلى دركات الشقاء الأبدي ، وقد يرقى به أحيانا إلى غاية المجد.

الآيات الحالية وسبب نزولها ، تبيّن ـ بوضوح ـ كيف أنّ الإنسان قد يقترب من السعادة ، لكنّ وسوسة شيطانية واحدة من صديق سيء تقلبه رأسا على عقب وتقلب مصيره ، حيث سيعضّ على يديه من الحسرة يوم القيامة ، وستتعالى منه صرخة «يا ويلتى».

في كتاب «العشرة» وردت روايات كثيرة في نفس هذا الموضوع ، تبيّن أن الإسلام شديد ودقيق وثاقب النظرة في مسألة اختيار الصديق.

ننهي هذا البحث القصير بنقل حديثين في هذا الموضوع ، ومن أراد الاطلاع أكثر في هذا الموضوع فليراجع كتاب «العشرة» من بحار الأنوار ، الجزء 74.

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، ص 27 مادة (صدق).

(2) بحار الأنوار ، ج 74 ، ص 197.

٢٤٠