الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 169994
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 169994 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

القصيرة بين الليل والنهار كانت ستبطل تأثيرهما وفائدتهما. فضلا عن أنّ القوّة المركزية الطاردة كانت سترتفع بحيث ستقذف جميع الموجودات الأرضية بعيدا عن الكرة الأرضية.

والخلاصة أنّ التأمل في هذا النظام يوقظ فطرة معرفة الله في الإنسان من جهة (ولعل التعبير بالتذكر والتذكير إشارة إلى هذه الحقيقة) ، ومن جهة أخرى يحي روح الشكر فيه ، وقد أشير إلى ذلك بقوله تعالى :( أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) .

الجدير بالذكر أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات التي نقلت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأئمّة المعصومين في تفسير الآية ، أن تعاقب الليل والنهار من أجل أن الإنسان إذا أهمل أداء واجب من واجباته تجاه الله سبحانه وتعالى فإنّه بإمكانه جبرانه أو قضاءه في الوقت الآخر منهما. هذا المعنى من الممكن أن يكون تفسيرا ثانيا للآية ، وممّا سبق من كون الآيات القرآنية ذات بطون ، فلا منافاة بين هذا المعنى والمعنى الأوّل أيضا.

وفي ذلك ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «كلّ ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار ، قال الله تبارك وتعالى :( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار ، وما فاته بالنهار بالليل».(1)

نفس هذا المعنى نقله «الفخر الرازي» عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

* * *

__________________

(1) من لا يحضره الفقيه ، طبقا لنقل نور الثقلين ، ج 4 ذيل الآية.

٣٠١

الآيات

( وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) )

التّفسير

الصفات الخاصّة لعباد الرحمن :

هذه الآيات ـ فما بعد ـ تستعرض بحثا جامعا فذا حول الصفات الخاصّة لعباد الرحمن ، إكمالا للآيات الماضية حيث كان المشركون المعاندون حينما يذكر اسم الله «الرحمن» يقولون وملء رؤوسهم استهزاء وغرور «وما الرحمن!؟

ورأينا أن القرآن يعرّف لهم «الرحمن» ضمن آيتين ، وجاء الدور الآن ليعرّف «عباد الرحمن».

تبيّن هذه الآيات اثنتي عشرة صفة من صفاتهم الخاصّة ، حيث يرتبط بعضها بالجوانب الاعتقادية ، وبعض منها أخلاقي ، ومنها ما هو اجتماعي ، بعض منها

٣٠٢

يتعلق بالفرد ، وبعض آخر بالجماعة ، وهي أوّلا وآخرا مجموعة من أعلى القيم الإنسانية.

يقول تعالى :( وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) .(1)

إن أوّل صفة لـ : «عباد الرحمن» هو نفي الكبر والغرور والتعالي ، الذي يبدو في جميع أعمال الإنسان حتى في طريقة المشي ، لأنّ الملكات الأخلاقية تظهر نفسها في حنايا أعمال وأقوال وحركات الإنسان بحيث أن من الممكن تشخيص قسم مهم من أخلاقه ـ بدقّة ـ من أسلوب مشيته.

نعم ، إنّهم متواضعون ، والتواضع مفتاح الإيمان ، في حين يعتبر الغرور والكبر مفتاح الكفر.

لقد رأينا بأم أعيننا في الحياة اليومية ، وقرأنا مرارا في آيات القرآن أيضا ، أن المتكبرين المغرورين لم يكونوا مستعدين حتى ليصغوا إلى كلام القادة الإلهيين ، كانوا يتلقون الحقائق بالسخرية ، ولم تكن رؤيتهم أبعد من أطراف أنوفهم ، ترى أيمكن أن يجتمع الإيمان في هذه الحال مع الكبر؟!

نعم ، هؤلاء المؤمنون ، عباد ربهم الرحمن ، والعلامة الأولى لعبوديتهم هو التواضع التواضع الذي نفذ في جميع ذرات وجودهم ، فهو ظاهر حتى في مشيتهم.

فإذا رأينا أنّ إحدى أهم القواعد التي يأمر الله بها نبيّه هي( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً ) (2) فلنفس هذا السبب أيضا ، وهو أن التواضع روح الإيمان.

حقّا إذا كان للإنسان أدنى معرفة بنفسه وبعالم الوجود ، فسيعلم كم هو ضئيل

__________________

(1) «هون» مصدر ، وهو بمعنى الناعم والهادي المتواضع ، واستعمال المصدر في معنى اسم الفاعل هنا للتوكيد ، يعني أنّهم في ما هم عليه كأنّهم عين الهدوء والتواضع.

(2) سورة الإسراء ، الآية 37.

٣٠٣

حيال هذا العالم الكبير ، حتى وإن كانت رقبته كالجبال ، فإن أعلى جبال الأرض أمام عظمة الأرض أقل من تعرجات قشر (النارنج) بالنسبة إليها ، تلكم الأرض التي هي نفسها لا شيء بالنسبة إلى الأفلاك العظيمة.

ترى أليست هذه الحالة من الكبر والغرور ، دليلا على الجهل المطلق!؟

نقرأ في حديث رائع عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه كان يعبر أحد الأزقة يوما ما ، فرأى جماعة من الناس مجتمعين ، فسألهم عن سبب ذلك فقالوا : مجنون شغل الناس بأعمال جنونية مضحكة ، فقال : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتريدون أن أخبركم من هو المجنون حقا ، فسكتوا وأنصتوا بكل وجودهم فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المتبختر في مشيه ، الناظر في عطفيه ، المحرك جنبيه بمنكبيه ، الذي لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه ، فذلك المجنون ، وهذا مبتلى!».

الصفة الثّانية لـ «عباد الرحمن» الحلم والصبر ، كما يقول القرآن في مواصلته هذه الآية( وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) .

السّلام الذي هو علامة اللامبالاة المقترنة بالعظمة ، وليس الناشئ عن الضعف.

السّلام دليل عدم المقابلة بالمثل حيال الجهلة الحمقى ، سلام الوداع لأقوالهم غير المتروية ، ليس سلام التحية الذي هو علامة المحبة ورابطة الصداقة.

والخلاصة ، أنه السّلام الذي هو علامة الحلم والصبر والعظمة.

نعم ، المظهر الآخر من مظاهر عظمتهم الروحية ، هو التحمل وسعة الصدر اللذين بدونهما سوف لا يطوي أي إنسان طريق «العبودية لله» الصعب الممتلئ بالعقبات ، خصوصا في المجتمعات التي يكثر فيها الفاسدون و «مفسدون» وجهلة.

وتتناول الآية الثّانية ، خاصيتهم الثالثة التي هي العبادة الخالصة لله ، فيقول تعالى :( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً ) .

في عتمة الليل حيث أعين الغافلين نائمة ، وحيث لا مجال للتظاهر والرياء ،

٣٠٤

حرّموا على أنفسهم لذة النوم ، ونهضوا إلى ما هو ألذّ من ذلك ، حيث ذكر الله والقيام والسجود بين يدي عظمتهعزوجل ، فيقضون شطرا من الليل في مناجاة المحبوب ، فينورون قلوبهم وأرواحهم بذكره وباسمه.

ورغم أن جملة «يبيتون» دليل على أنّهم يقضون الليل بالسجود والقيام إلى الصباح ، لكن المعلوم أنّ المقصود هو شطر كبير من الليل ، وإن كان المقصود هو كل الليل فإنّ ذلك يكون في بعض الموارد.

كما أن تقديم «السجود» على «القيام» بسبب أهميته ، وإن كان القيام مقدّم على السجود عمليا في حال الصلاة.(1)

الصفة الرّابعة لهم هي الخوف من العذاب الإلهي( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) . أي شديدا ومستديما.( إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ) .

ومع أنّهم مشتغلون بذكر الله وعبادته في الليالي ، ويقضون النهار في إنجاز تكاليفهم ، فإنّ قلوبهم أيضا مملوءة بالخوف من المسؤوليات ، ذلك الخوف الباعث على القوّة في الحركة أكثر وأفضل باتجاه أداء التكاليف ، ذلك الخوف الذي يوجه الإنسان من داخله كشرطي قوي ، فينجز تكاليفه على النحو الأحسن دون أن يكون له آمر ورقيب ، في ذات الوقت الذي يرى نفسه مقصرا أمام الله.

كلمة «غرام» في الأصل بمعنى المصيبة ، والألم الشديد الذي لا يفارق الإنسان. ويطلق «الغريم»(2) على الشخص الدائن ، لأنّه يلازم الإنسان دائما من أجل أخذ حقّه.

ويطلق «الغرام» أيضا على العشق والعلاقة المتوقدة التي تدفع الإنسان بإصرار باتجاه عمل أو شيء آخر ، وتطلق هذه الكلمة على «جهنم» لأنّ عذابها

__________________

(1) ينبغي الانتباه إلى أنّ «سجدا» جمع «ساجد» ، وقياما» جمع «قائم».

(2) تطلق «الغريم» على «الدائن» و «المدين» أيضا. (لسان العرب مادة غرم).

٣٠٥

شديد ودائم لا يزول.

ولعل الفرق بين «مستقرا» و «مقاما» أن جهنم مكان دائم للكافرين فهي لهم «مقام» ، ومكان مؤقت للمؤمنين ، أي «مستقر» ، وبهذا الترتيب يكون قد أشير إلى كلا الفريقين الذين يردان جهنم.

ومن الواضح أن جهنم محل إقامة ومستقر سيء ، وشتان بين الراحة والنعيم وبين النيران الحارقة.

ومن المحتمل أيضا أن تكون «مستقرا» و «مقاما» كلاهما لمعنى واحد ، وتأكيد على دوام عقوبات جهنم ، وهو صحيح في مقابل الجنّة ، حيث نقرأ عنها في آخر هذه الآيات نفسها( خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً ) .(1)

في الآية الأخيرة يشير جل ذكره إلى الصفة الممتازة الخامسة لـ «عباد الرحمن» التي هي الاعتدال والابتعاد عن أي نوع من الإفراط والتفريط في الأفعال ، خصوصا في مسألة الإنفاق ، فيقول تعالى :( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .

الملفت للانتباه أنه يعتبر أصل الإنفاق أمرا مسلما لا يحتاج إلى ذكر ، ذلك لأن الإنفاق أحد الأعمال الضرورية لكل إنسان ، لذا يورد الكلام في كيفية إنفاقهم فيقول : إن إنفاقهم إنفاق عادل (معتدل) بعيد عن أي إسراف وبخل ، فلا يبذلون بحيث تبقى أزواجهم وأولادهم جياعا ، ولا يقترون بحيث لا يستفيد الآخرون من مواهبهم وعطاياهم.

في تفسير «الإسراف» و «الإقتار» كنقطتين متقابلتين ، للمفسّرين أقوال مختلفة يرجع جميعها إلى أمر واحد ، وهو أنّ «الإسراف» هو أن ينفق المسلم أكثر من الحد ، وفي غير حق ، وبلا داع ، و «الإقتار» هو أن ينفق أقل من الواجب.

__________________

(1) سورة الفرقان ، الآية 76.

٣٠٦

في إحدى الروايات الإسلامية ، ورد تشبيه رائع للإسراف والإقتار وحد الاعتدال ، تقول الرّواية : تلا أبو عبد اللهعليه‌السلام هذه الآية :( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) . قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره اللهعزوجل في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى كفّه كلّها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ أخذ قبضة أخرى فأرخى بعضها وأمسك بعضها وقال : هذا القوام».(1)

كلمة «قوام» (على وزن عوام) لغة بمعنى العدل والاستقامة والحد والوسط بين شيئين ، و «قوام» (على وزن كتاب) : الشيء الذي يكون أساس القيام والاستقرار.

* * *

مسألتان

1 ـ طريقة مشي المؤمنين

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ التواضع أحد علائم «عباد الرحمن» ، التواضع الذي يهيمن على أرواحهم بحيث يظهر حتى في مشيتهم ، التواضع الذي يدفعهم إلى التسليم أمام الحق. لكن من الممكن أحيانا أن يتوهم البعض في التواضع ضعفا وعجزا وخورا وكسلا ، وهذا النمط من التفكير خطير جدّا.

التواضع في المشي ليس هو الضعف والخطوة الخائرة ، بل إنّ الخطوات المحكمة التي تحكي عن الجدية والقدرة هي من صميم التواضع.

نقرأ في سيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أحد أصحابه يقول : «ما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كأنّما الأرض تطوى له ، وإنّا لنجهد أنفسنا وإنّه لغير

__________________

(1) الكافي : طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 29.

٣٠٧

مكترث».(1)

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ ) أنّه قال : «والرجل يمشي بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر».(2)

وورد في حديث آخر ، في حالات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد كان يتكفأ في مشيه كأنّما يمشي في صبب».(3)

يعني حينما كان الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمشي فإنّه يخطو خطوات سريعة دونما استعجال ، كأنّما يمشي في منحدر.

على أية حال فإنّ طريقة المشي ليست مقصودة بذاتها ، بل هي نافذة إلى معرفة الحالة الروحية للإنسان ، والآية في الحقيقة تشير إلى نفوذ روح التواضع والخشوع في أرواح وقلوب «عباد الرحمن».

2 ـ البخل والإسراف

لا شك أنّ «الإسراف» واحد من الأعمال الذميمة بنظر القرآن والإسلام ، وورد ذم كثير له في الآيات والرّوايات ، فالإسراف كان نهجا فرعونيا :( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .(4)

والمسرفون هم أصحاب جهنم والجحيم( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .(5) ومع الالتفات إلى أنّه أصبح ثابتا اليوم أن منابع الثروات الأرضية ليست

__________________

(1) في ظلال القرآن ، ذيل الآية مورد البحث ، وفي تفسير القرطبي ينقل رواية أخرى في هذا الصدد أيضا لها شبه كبير بما قلناه أعلاه.

(2) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

(3) تفسير روح المعاني ، ذيل الآية مورد البحث.

(4) سورة يونس ، الآية 83.

(5) سورة غافر ، الآية 43.

٣٠٨

كثيرة جدا نسبة إلى زيادة الكثافة السكانية للبشرية حتى يمكن للإنسان أن يسرف ، وكل إسراف سيكون سببا في حرمان أناس لا ذنب لهم ، فضلا عن أن الإسراف عادة قرين التكبر والغرور والبعد عن خلق الله.

في نفس الوقت فإنّ التقتير والبخل أيضا ، ذميم وقبيح وغير مقبول بنفس الدرجة ، فالأصل على أساس النظرة التوحيدية ، أن الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي ، ونحن جميعا مستخلفون من قبله ، وكلّ نوع من التصرف دون إجازته ورضاه فهو قبيح وغير مقبول ، ونحن نعلم أن الله لم يأذن بالإسراف ولم يأذن بالبخل.

* * *

٣٠٩

الآيات

( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (71) )

التّفسير

بحث آخر في صفات عباد الرحمن :

ميزة «عباد الرحمن» السادسة التي وردت في هذه الآيات هي التوحيد الخالص الذي بيعدهم عن كل أنواع الشرك والثنوية والتعددية في العبادة ، فيقول تعالى :( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

فقد أنار التوحيد آفاق قلوبهم وحياتهم الفردية والاجتماعية ، وانقشعت عن سماء أفكارهم وأرواحهم ظلمات الشرك.

٣١٠

الصفة السابعة طهارتهم من التلوث بدم الأبرياء( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ ) .(1)

ويستفاد جيدا من الآية أعلاه أن جميع الأنفس الإنسانية محترمة في الأصل ، ومحرم إراقة دمائها إلّا إذا تحققت أسباب ترفع هذا الاحترام الذاتي فتبيح إراقة الدم.

صفتهم الثّامنة هي أن عفافهم لا يتلوث أبدا :( وَلا يَزْنُونَ ) .

إنّهم على مفترق طريقين : الكفر والإيمان ، فينتخبون الإيمان ، وعلى مفترق طريقين الأمان واللاأمان في الأرواح ، فهم يتخيرون الأمان ، وعلى مفترق طريقين : الطهر والتلوث : فهم يتخيرون النقاء والطهر. إنّهم يهيئون المحيط الخالي من كل انواع الشرك والتعدي والفساد والتلوث ، بجدهم واجتهادهم.

وفي ختام هذه الآية يضيف تعالى من أجل التأكيد أكثر :( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) .

«الإثم» و «آثام» في الأصل بمعنى الأعمال التي تمنع من وصول الإنسان إلى المثوبة ، ثمّ أطلقت على كل ذنب ، لكنّها هنا بمعنى جزاء الذنب.

قال بعضهم أيضا : إن «إثم» بمعنى الذنب و «آثام» بمعنى عقوبة الذنب(2) فإذا رأينا أن بعض المفسّرين ذكروها بمعنى صحراء أو جبل أو بئر في جهنم فهو في الواقع من قبيل بيان المصداق.

وحول فلسفة تحريم الزنا ، قدمنا بحثا مفصلا في ذيل الآية (33) سورة الإسراء.

ومن الملفت للنظر في الآية أعلاه ، أنها بحثت أولا في مسألة الشرك ، ثمّ قتل

__________________

(1) الاستثناء في الجملة أعلاه «استثناء مفرغ» اصطلاحا ، وكان في التقدير هكذا «لا يقتلون النفس التي حرم الله بسبب من الأسباب إلّا بالحق».

(2) تفسير الفخر الرازي.

٣١١

النفس ، ثمّ الزنا ، ويستفاد من بعض الرّوايات أن هذه الذنوب الثلاثة تكون من حيث الأهمية بحسب الترتيب الذي أوردته الآية.

ينقل ابن مسعود عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قال : قلت : ثمّ أيّ؟ قال : «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال : قلت : ثمّ أيّ؟ قال : «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها.(1)

وبالرغم من أن الكلام في هذا الحديث ، ورد عن نوع خاص من القتل والزنا ، لكن مع الانتباه إلى إطلاق مفهوم الآية يتجلى أنّ هذا الحكم يشمل جميع أنواع القتل والزنا ، وما في الرّواية مصداق أوضح لهما.

تتكئ الآية التالية أيضا على ما سبق ، من أن لهذه الذنوب الثّلاثة أهمية قصوى ، فيقول تعالى :( يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) .

ويتجسد هنا سؤالان :

الأوّل : لماذا يتضاعف عذاب هذا النوع من الأشخاص؟ ولماذا لا يجازون على قدر ذنوبهم؟ وهل ينسجم هذا مع أصول العدالة!؟

الثّاني : إنّ الكلام هنا عن الخلود في العذاب ، في حين أنّ الخلود هنا مرتبط بالكفار فقط. والذنب الأوّل من هذه الذنوب الثلاثة التي ذكرت في الآية يكون كفرا ، فقط ، وأمّا قتل النفس والزنا فليسا سببا للخلود في العذاب.

بحث المفسّرون كثيرا في الإجابة على السؤال الأول ، وأصح ما أوردوه هو أن المقصود من مضاعفة العذاب أن كل ذنب من هذه الذنوب الثلاثة المذكورة في هذه الآية سيكون له عقاب منفصل ، فتكون العقوبات بمجموعها عذابا مضاعفا.

__________________

(1) صحيح «البخاري» و «مسلم» طبقا لنقل مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث.

٣١٢

فضلا عن أنّ ذنبا ما يكون أحيانا مصدر الذنوب الأخرى ، مثل الكفر الذي يسبب ترك الواجبات وارتكاب المحرمات ، وهذا نفسه موجب لمضاعفة العذاب الإلهي.

لهذا اتّخذ بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على هذا الأصل المعروف أن : «الكفار مكلفون بالفروع كما أنّهم مكلفون بالأصول».

وأمّا في الإجابة على السؤال الثّاني : فيمكن القول أن بعض الذنوب عظيم إلى درجة يكون عندها سببا في الخروج من هذه الدنيا بلا إيمان ، كما قلنا في مسألة قتل النفس في ذيل الآية (93) سورة النساء.(1)

ومن الممكن أن يكون الأمر كذلك في مورد الزنا أيضا ، خاصّة إذا كان الزنا بمحصنة.

ومن المحتمل أيضا أن «الخلود» في الآية أعلاه يقصد به من يرتكب هذه الذنوب الثلاثة معا ، الشرك وقتل النفس والزنا ، والشاهد على هذا المعنى : الآية التالية حيث تقول :( إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ) .

واعتبر بعض المفسّرين ـ أيضا ـ أن «الخلود» هنا بمعنى المدة الطويلة لا الخالدة ، لكن التّفسير الأوّل والثّاني أصح.

ومن الملفت للنظر هنا ـ فضلا عن مسألة العقوبات العادية ـ عقوبة أخرى ذكرت أيضا هي التحقير والمهانة ، أي البعد النفسي من العذاب ، وقد تكون بذاتها تفسيرا لمسألة مضاعفة العذاب ، ذلك لأنّهم يعذبون عذابا جسديا وعذابا روحيا.

لكن القرآن المجيد كما مرّ سابقا ، لم يغلق طريق العودة أمام المجرمين في أي وقت من الأوقات ، بل يدعو المذنبين إلى التوبة ويرغبهم فيها ، ففي ، الآية التالية يقول تعالى هكذا:( إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ

__________________

(1) التفسير الأمثل ، الجزء الثالث.

٣١٣

سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

كما مرّ بنا في الآية الماضية ، ففي الوقت الذي ذكرت ثلاثة ذنوب هي من أعظم الذنوب ، تركت الآية باب التوبة مفتوحا أمام هؤلاء الأشخاص ، وهذا دليل على أن كل مذنب نادم يمكنه العودة إلى الله ، بشرط أن تكون توبته حقيقية ، وعلامتها ذلك العمل الصالح (المعوّض) الذي ورد في الآية ، وإلّا فإن مجرّد الاستغفار باللسان أو الندم غير المستقر في القلب لا يكون دليلا على التوبة أبدا.

المسألة المهمّة فيما يتعلق بالآية أعلاه هي : كيف يبدل الله «سيئات» أولئك «حسنات»؟

* * *

تبديل السيئات حسنات :

هنا عدّة تفاسير ، يمكن القبول بها جميعا :

1 ـ حينما يتوب الإنسان ويؤمن بالله ، تتحقّق تحولات عميقة في جميع وجوده ، وبسبب هذا التحول والانقلاب الداخلي تتبدل سيئات أعماله في المستقبل حسنات ، فإذا كان قاتلا للنفس المحترمة في الماضي ، فإنّه يتبنى مكانها في المستقبل الدفاع عن المظلومين ومواجهة الظالمين. وإذا كان زانيا ، فإنّه يكون بعدها عفيفا وطاهرا ، وهذا التوفيق الإلهي يناله العبد في ظل الإيمان والتوبة.

2 ـ أن الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وفضله وإنعامه يمحو سيئات أعمال العبد بعد التوبة ، ويضع مكانها حسنات ، نقرأ في رواية عن أبي ذر : قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا صغار ذنوبه ، وتخبأ كبارها ، فيقال : عملت يوم كذا وكذا ، وهو يقرّ ليس بمنكر ، وهو مشفق من الكبائر أن تجيء ، فإذا أراد الله خيرا قال : أعطوه مكان كل سيئة حسنة ، فيقول : يا ربّ لي ذنوب ما رأيتها ها هنا؟» قال : ورأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ،

٣١٤

ثمّ تلا :( فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ) .(1)

3 ـ التّفسير الثّالث هو أن المقصود من السيئات ليس نفس الأعمال التي يقوم بها الإنسان ، بل آثارها السيئة التي تنطبع بها روح ونفس الإنسان ، فحينما يتوب ويؤمن تجتث تلك الآثار السيئة من روحه ونفسه ، وتبدل بآثار الخير ، وهذا هو معنى تبديل السيئات حسنات.

ولا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة قطعا ، ومن الممكن أن تجتمع كل هذه التفاسير الثلاثة في مفهوم الآية.

الآية التالية تشرح كيفية التوبة الصحيحة ، فيقول تعالى :( وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ) .(2)

يعني أن التوبة وترك الذنب ينبغي ألا تكون بسبب قبح الذنب ، بل ينبغي ـ إضافة إلى ذلك ـ أن يكون الدافع إليها خلوص النية ، والعودة إلى الله تبارك وتعالى.

لهذا فإنّ ترك شرب الخمر أو الكذب بسبب إضرارهما مثلا ، وإن كان حسنا ، لكنّ القيمة الأسس لهذا الفعل لا تتحقق إلّا إذا استمدّ من الدافع الربّاني.

بعض المفسّرين ذكروا تفسيرا آخر لهذه الآية ، وهو أن هذه الجملة جواب على التعجب الذي قد تسببه الآية السابقة أحيانا في بعض الأذهان ، وهو : كيف يمكن أن يبدل الله السيئات حسنات؟! ، فتجيب هذه الآية : حينما يؤوب الإنسان إلى ربه العظيم ، فلا عجب في هذا الأمر.

تفسير ثالث ذكر لهذه الآية ، وهو أن كلّ من تاب من ذنبه فإنّه يعود إلى الله ، ومثوبته بلا حساب.

__________________

(1) عوالي اللئالي ، طبقا لنقل نور الثقلين ، ج 4 ، ص 33.

(2) «متاب» مصدر ميمي بمعنى التوبة ، ولأنّه مفعول مطلق هنا ، فهو للتوكيد.

٣١٥

وبالرغم من عدم وجود منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة ، لكن التّفسير الأوّل أقرب ، خاصّة وأنّه يتفق مع الرّواية المنقولة في تفسير علي بن إبراهيم القمي في ذيل هذه الآية.

* * *

٣١٦

الآيات

( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) )

التّفسير

جزاء «عباد الرحمن» :

في متابعة للآيات الماضية التي كررت القول في خصائص «عباد الرحمن» ، تشرح هذه الآيات بقية هذه الصفات :

الصفة الرفيعة التاسعة لهم ، هي احترام وحفظ حقوق الآخرين : إنّ هؤلاء لا يشهدون بالباطل مطلقا :( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) .

المفسّرون الكبار فسّروا هذه الآية على نحوين :

٣١٧

اعتبر بعضهم «الزور» بمعنى «الشهادة بالباطل» كما قلنا أعلاه ، لأنّ «الزور» لغة بمعنى التمايل والانحراف ، وحيث أن الكذب والباطل والظلم من الانحرافات ، فإن «الزور» يطلق عليها.

هذه العبارة (شهادة الزور) في كتاب الشهادات في فقهنا ، موجودة بنفس هذا العنوان ، وقد نهي عنها في روايات متعددة ، وإن لم نرفي تلك الرّوايات استدلالا بالآية أعلاه.

التّفسير الآخر : هو أنّ المقصود من «الشهود» هو «الحضور» يعني أن عباد الرحمن لا يتواجدون في مجالس الباطل.

وفي بعض الرّوايات التي وردت عن طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، فسّرت بـ «الغناء» أي تلك المجالس التي يتمّ فيها إنشاد اللهو مصحوبا بأنغام الآلات الموسيقية أو بدونها.

لا شك أنّ مراد هذا النوع من الرّوايات ليس هو تحديد مفهوم «الزور» الواسع بـ «الغناء» ، فالغناء واحد من مصاديقه البارزة إنه يشمل سائر مجالس اللهو واللعب وشرب الخمر والكذب والغيبة وأمثال ذلك.

ولا يستبعد أيضا أن يجتمع كلا التّفسيرين في معنى الآية ، وعلى هذا فعباد الرحمن لا يؤدون الشهادة الكاذبة ، ولا يشهدون مجالس اللهو والباطل والخطيئة ، ذلك لأنّ الحضور في هذه المجالس ـ فضلا عن ارتكاب الذنب ـ فإنه مقدمة لتلوث القلب والروح.

ثمّ يشير تعالى في آخر الآية إلى صفتهم الرفيعة العاشرة ، وهي امتلاك الهدف الإيجابي في الحياة ، فيقول :( وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ) .

إنّهم لا يحضرون مجالس الباطل ، ولا يتلوثون باللغو والبطلان. ومع الالتفات إلى أن «اللغو» يشمل كل عمل لا ينطوي على هدف عقلائي ، فإن ذلك يدل على أن «عباد الرحمن» يتحرون دائما الهدف المعقول والمفيد والبناء ، وينفرون من

٣١٨

اللاهدفية والأعمال الباطلة ، فإذا اعترضهم هذا النوع من الأعمال في مسير حياتهم ، مروا بمحاذاتها مرور اللامبالي ، ولا مبالاتهم نفسها دليل على عدم رضاهم الداخلي عن هذه الأعمال ، فهم عظماء بحيث لا تؤثر عليهم الأجواء الفاسدة ولا تغيرهم.

ولا شك أنّ عدم اعتنائهم بهذه الأمور من جهة أنّهم لا طريق لهم إلى مواجهة الفساد والنهي عن المنكر ، وإلّا فلا شكّ أنّهم سوف يقفون ويؤدون تكاليفهم حتى المرحلة الأخيرة.

الصفة الحادية عشر لهذه النخبة امتلاك العين الباصرة والأذن السامعة حين مواجهتهم لآيات الخالق ، فيقول تعالى :( وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً ) .

من المسلّم أنّ المقصود ليس الإشارة إلى عمل الكفار ، ذلك لأنّهم لا اعتناء لهم بآيات الله أصلا ، بل إن المقصود : فئة المنافقين أو مسلمو الظاهر ، الذين يقعون على آيات الله بأعين وآذان موصدة ، دون أن يتدبروا حقائقها ويسبروا غورها ، فيعرفوا ما يريده الله ويتفكروا فيه ، ويستهدوه في أعمالهم.

ولا يمكن طي طريق الله بعين وأذن موصدتين ، فالأذن السامعة والعين الباصرة لازمتان لطي هذا الطريق ، العين الناظرة في الباطن ، المتعمقة في الأشياء ، والأذن المرهفة العارفة بلطائف الحكمة.

ولو تأملنا جيدا لأدركنا أن ضرر هذه الفئة ذات الأعين والآذان الموصدة وفي ظنها أنّها تتبع الآيات الإلهية ، ليس أقلّ من ضرر الأعداء الذين يطعنون بأصل شريعة الحق عن وعي وسبق إصرار ، بل أن ضررهم أكثر بمراتب أحيانا.

التلقي الواعي عن الدين هو المعين الأساس للمقاومة والثبات والصمود ، لأن من اليسير خداع من يقتصر على ظواهر الدين ، وبتحريفه يتم الانحراف عن الخط الأصيل ، فيهوي بهم ذلك إلى وادي الكفر والضلالة وعدم الإيمان.

٣١٩

هذا النوع من الأفراد أداة بيد الأعداء ، ولقمة سائغة للشياطين ، المؤمنون وحدهم هم المتدبرون المبصرون السامعون كمثل الجبل الراسخ ، فلا يكونون لعبة بيد هذا أو ذاك.

نقرأ في حديث عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن قول اللهعزوجل :( وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً ) ، قال : «مستبصرين ليسوا بشكاك».(1)

الصفة الثّانية عشر الخاصّة لهؤلاء المؤمنين الحقيقيين ، هي التوجه الخاص إلى تربية أبنائهم وعوائلهم ، وإيمانهم بمسؤوليتهم العظيمة إزاء هؤلاء( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) .

بديهي أن معنى هذا ليس أن يقبعوا في زاوية ويتضرعوا بالدعاء ، بل إن الدعاء دليل شوقهم وعشقهم الداخلي لهذا الأمر ، ورمز جدهم واجتهادهم.

من المسلّم أنّ أفرادا كهؤلاء لا يقصرون في بذل ما لديهم من طاقة وقدرة في تربية أبنائهم وأزواجهم ، وتعريفهم بأصول وفروع الإسلام ، وسبل الحق والعدالة وفي ما لا تصل إليه قدرتهم وطاقتهم ، فإنّهم يدعون الله ، يسألونه التوفيق بلطفه.

فالدعاء الصحيح من حيث الأصل ، ينبغي أن يكون هكذا : السعي بمقدار الاستطاعة ، والدعاء خارج حدّ الاستطاعة.

«قرّة العين» كناية عمّن يسرّ به ، هذا التعبير أخذ في الأصل من كلمة «قر» التي بمعنى البرد ، وكما هو معروف (وقد صرح به كثير من المفسّرين) أن دمعة الشوق والسرور باردة ، ودموع الحزن والغم حارة حارقة ، لذا فـ «قرّة عين» بمعنى الشيء الذي يسبب برودة عين الإنسان ، يعني أن دمعة الشوق تنسكب من عينيه ، وهذه كناية جميلة عن السرور والفرح.(2)

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 4 ، ص 43.

(2) الشاهد على هذا القول ، الشعر الذي نقله القرطبي في تفسيره عن أحد الشعراء العرب.

فكم سخنت بالأمس عين قريرة

وقرت عيون دمعها اليوم ساكب

٣٢٠