الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 170119
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170119 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

القاصعة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن الله أرسل الأنبياء على شاكلة يستطيع معها أن يؤمن الناس بدعوتهم إلى الله دون إكراه ، بحيث لو لم يكونوا كذلك لكان الإيمان إجباريا ، إذ

يقول : «ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان ومغارس الجنان وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرضين لفعل ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء ...»(1) .

وورد في كتاب الكافي ذيل الآية محل البحث «لو أنزل الله من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين. ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين».(2)

وممّا يسترعي النظر أنه ورد في بعض الكتب المعروفة كالإرشاد للشيخ المفيد ، وروضة الكافي ، وكمال الدين للشيخ الصدوق ، وتفسير القمي ، أن الإمام الصادقعليه‌السلام قال في تفسير الآية :( إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ) قال : «تخضع رقابهم ـ يعني بني أمية ـ وهي الصيحة في السماء باسم صاحب الأمر ـ صلوات الله عليه ـ».(3)

وواضح أنّ المراد من هذه الرّوايات هو بيان مصداق من هذا المفهوم الواسع للآية ، إذ ستخضع أخيرا جميع الحكومات الباغية والمتجبرة والظالمة التي تواصل السير على منهج حكومة بني أمية ، وذلك عند ما يظهر المصلح المهديعليه‌السلام إمام الحكومة العالمية ، فتستسلم إذعانا لقدرته وحماية الله له وتنحني له إجلالا.

2 ـ أحد البحوث التي كثر الكلام فيها والتعليق عليها في القرون الأولى ـ أو الصدر الأوّل ـ للإسلام هو البحث أو الكلام عن كون كلام الله قديما أو حادثا؟!

وقد انجرّ هذا الكلام إلى كتب التّفسير أيضا ، وقد استدل جماعة من المفسّرين بالتعبير الوارد في الآية آنفا «محدث» على كون القرآن حادثا.

__________________

(1) راجع نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة ، رقم 192 «تواضع الأنبياء».

(2) الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.

(3) تفسير الميزان ، ونور الثقلين ذيل الآيات محل البحث.

٣٤١

إلّا أنّه ـ كما أشرنا من قبل أيضا ـ فإنّ أساس هذا البحث لا يمكن أن يكون منطقيّا بأيّ وجه ، ويبدو أنّ ذوي السلطة أو أولي الأمر في ذلك الزمان من بني أمية وبني العباس ، كان لهم الأثر الكبير في هذه البحوث المضلة ليحرفوا أفكار المسلمين عن المسائل المهمّة والجديّة ، وليشغلوا علماء المسلمين بهذه المسائل حفاظا على حكومتهم وسلطتهم.

لأنّه إذا كان المراد من كلام الله هو محتوى القرآن ، فهو من الأزل في علم الله والله خبير بكل ما فيه ، وإذا كان المراد منه نزول الوحي وكلمات القرآن وحروفه ، فذلك حادث قطعا ولا خلاف فيه.

فبناء على ذلك فالقرآن تارة هو قديم بذلك النحو ، وأخرى هو حادث قطعا بهذه الصورة ، فعلى المجتمع الإسلامي أن يكون فطنا ولا سيما العلماء ، فلا يبتلوا بالبحوث المضلة الانحرافية المبتدعة من قبل الجبابرة وأعداء الإسلام.

* * *

٣٤٢

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) )

التّفسير

الزوجية في النباتات :

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن إعراض الكفار عن الآيات التشريعية (أي القرآن المجيد) ، أمّا في الآيات محل البحث فالكلام عن الآيات التكوينية ودلائل الله في خلقه وما أوجده سبحانه ، فالكفار لم يصمّوا آذانهم ويوصدوا أبواب قلوبهم بوجه أحاديث النّبي وكلماته فحسب ، بل كانوا يحرمون أعينهم رؤية دلائل الحق المنتشرة حولهم.

فتقول الآية الأولى من هذه الآيات :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .(1)

__________________

(1) يتعدي الفعل «يرى» عادة إلى المفعول بدون حرف الجر (إلى) وقد تتعدى إلى المفعولين ، وإنّما تعدت هنا بحرف الجر (إلى) لأنّ المراد منها النظر العميق الدقيق لا الرؤية السطحية

٣٤٣

والتعبير بـ «زوج» في شأن النباتات يستحق الدقّة فبالرغم من أنّ أغلب المفسّرين قالوا بأن الزوج يعني النوع أو الصنف ، وأن الأزواج معناها الأصناف والأنواع ، إلّا أنّه ما يمنع أن نفسر معنى الزوج بما يتبادر إلى الذهن من المعنى المعروف وهو الإشارة إلى الزوجيّة في النباتات؟!

كان الناس فيما مضى يدركون أن بعض النباتات لها جنسان (ذكر وأنثى) وكانوا يستعينون بتلقيح النباتات لتثمر وكانت هذه المسألة معروفة وواضحة تماما في النخيل

إلّا أنّ العالم السويدي والخبير بعلم النبات «لينه» وفّق لأول مرّة في أواسط القرن الثامن عشر الميلادي لاكتشاف هذه الحقيقة ، وهي أن الزوجية في عالم النباتات قانون عام تقريبا ، والنباتات كسائر الحيوانات تحمل عن طريق تلقيح الذكر لأنثاه ثمّ تقذف بالثمار

غير أنّ القرآن المجيد أشار إلى هذه الظاهرة «الزوجية في النبات» في آيات مختلفة مرارا قبل هذا العالم السويدي بقرون ، كما هي الحال في الآيات محل البحث. وفي الآية الرّابعة من سورة الرعد ، والآية العاشرة من سورة لقمان ، والآية السابعة من سورة ق. وهذه الإشارة بنفسها إحدى معاجز القرآن العلمية!

وكلمة «كريم» في الأصل تعني كل شيء قيّم وثمين ، فقد تستعمل في الإنسان ، وقد تستعمل في النبات ، وقد تستعمل في الكتاب [أي الرسالة المعهودة بين المتراسلين] أيضا كما هي الحال في شأن حديث ملكة سبأ عن كتاب سليمان إليها إذا قالت :( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) .(1)

والمراد من( كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) هو النباتات المهمّة ذوات الفائدة ، وطبعا ما من نبات إلّا وله فائدة أو فوائد جمّة ، ومع تقدم العلم تتجلى هذه

__________________

(1) النمل ، 29.

٣٤٤

الحقيقة يوما بعد يوم.

وتأتي الآية التالية لتقول مؤكّدة بصراحة :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) .

أجل إن الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن هذا التراب الذي لا قيمة له ظاهرا ، بما فيه من تركيب معين هو مبدأ ظهور أنواع الأزهار الجميلة ، والأشجار المثمرة الظليلة ، والفواكه ذات الألوان الزاهية ، وما فيها من خواص مختلفة. وهو ـ أي التراب ـ يبيّن منتهى قدرة الله ، إلّا أن أولئك الذين طبع على قلوبهم في غفلة وجهل إلى درجة يرون معها آيات الله بأعينهم ، ومع ذلك يجحدونها ويكفرون بها ، ويترسخ في قلوبهم العناد والجدل!

لذلك فإنّ الآية هذه تعقّب قائلة :( وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

أي إنّ عدم الإيمان لدى أولئك أمسى كالصفة الراسخة فيهم ، فلا عجب أن لا ينتفعوا من هذه الآيات ، لأنّ قابليّة المحل من شرائط التأثير الأصيلة أيضا كما نقرأ قوله تعالى:( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) .(1)

وفي آخر آية من الآيات محل البحث يرد الخطاب في تعبير يدلّ على التهديد والترهيب والتشويق والترغيب ، فيقول سبحانه :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )

«العزيز» معناه المقتدر الذي لا يغلب ولا يقهر ، فهو قادر على إظهار الآيات العظمى ، كما أنه قادر على إهلاك المكذبين وتدميرهم إلّا أنّه مع كل ذلك رحيم ، ورحمته وسعت كل شيء ، ويكفي الرجوع بإخلاص إليه في لحظة قصيرة! لتشمل رحمته من أناب إليه وتاب ، فيعفو عنه بلطفه ورحمته!

ولعل تقديم كلمة «العزيز» على «الرحيم» لأنّه لو تقدمت كلمة الرحيم على العزيز لأشعرت الإحساس بالضعف ، إلّا أنّه قدم سبحانه الوصف بالعزيز ليعلم أنّه وهو في منتهى قدرته ذو رحمة واسعة!

* * *

__________________

(1) البقرة ، الآية 2.

٣٤٥

الآيات

( وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) )

التّفسير

بداية رسالة موسى :

قلنا إنّ في هذه السورة بيانا لقصص سبعة من الأنبياء الكرام العظام ، ليكون درس اعتبار لعامّة المسلمين ، ولا سيما المسلمين الأوائل في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فأوّل قصّة تتناولها هذه السورة هي قصة موسىعليه‌السلام ، وتشرح جوانب مختلفة من حياته ومواجهته لفرعون واتباعه حتى هلاكهم بالغرق في النيل!

وقد جاء الكلام عن بني إسرائيل وموسى وفرعون وقومه حتى الآن في سور شتى «كالبقرة والمائدة والأعراف ويونس والإسراء وطه» كما ورد الكلام في هذا الشأن أيضا في بعض السور التالية!

٣٤٦

وهذه البحوث وإن تكررت ـ بحسب الظاهر ـ إلّا أن الإمعان أو التدقيق فيها يكشف عن أن كلّ بحث منها يتناول جانبا خاصّا من هذه القصّة ذات المحتوى العزيز ، ويعوّل على هدف معين!

مثلا حين نزلت الآيات ـ محل البحث ـ كان المسلمون قلّة ضعافا وكان أعداؤهم كثرة أولي قوّة وبأس شديد ، بحيث لا يمكن الموازنة بين الفرقتين ، فكان ينبغي أن يبيّن الله قصص الأمم السابقة المشابهة لحال هؤلاء ، ليعلم المسلمون أن هذه القوّة التي يمتلكها الأعداء وهذا الضعف الظاهري الذي يكتنف المسلمين لن يؤدي أيّ منهما بنفسه إلى اندحار المسلمين ، ولتزداد معنويات المسلمين وتثبّت استقامتهم ومقاومتهم

وممّا يلفت النظر تكرار عبارة :( وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) بعد تمام الحديث عن كل نبي وهو التعبير ذاته الوارد في بداية هذه السورة في شأن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا الاتساق في التعبير شاهد حيّ على أن ذكر هذه الجوانب من قصص الأنبياء إنّما هو للظروف المتشابهة التي اكتنفت المسلمين من حيث الحالة النفسية والاجتماعية كما كان عليها الأنبياء السابقون

فتقول الآيتان الأوليان من الآيات محل البحث( وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ) . ويتركون ظلمهم وفسادهم وعنادهم للحق.

وينبغي الالتفات إلى أنّ الصفة الوحيدة المذكورة عن قوم فرعون هنا هي الظلم ، ومن الواضح أن الظلم له معنى جامع واسع ومن مصاديقه الشرك كما تقول الآية (13) من سورة لقمان( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )

كما أنّ استعباد بني إسرائيل واستثمارهم وما قارنهما من زجر وتعذيب من المصاديق الأخرى أيضا ، ثمّ بعد هذا كله فإن قوم فرعون ظلموا أنفسهم بأعمالهم المخالفة ، وهكذا يمكن تلخيص أهداف دعوة الأنبياء جميعهم بمبارزة الظلم

٣٤٧

بجميع أبعاده!

ويحكي القرآن مقالة موسى الكليم لربّ العزة وما طلبه منه من مزيد القوة والعون لحمل الرسالة العظمى ، فيقول في الآية التالية :( قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) وأخشى أن أطرد قبل أن أكمل أداء رسالتي بما ألاقيه من صخب وتكذيب فلا يتحقق الهدف المنشود

وكان لموسى الحق في كلامه هذا تماما ، لأنّ فرعون وأتباعه وحاشيته كانوا مهيمنين على مصر ، بحيث لم يكن لأحد أن يخالفهم ولو برأيه ، وإذا أحسّوا بأدنى نغمة مخالفة لأي شخص بادروا إلى الإجهاز عليه فورا

وإضافة إلى ذلك فان صدري لا يتّسع لاستيعاب هذه الرسالة الالهية :( وَيَضِيقُ صَدْرِي ) .

ثمّ بعد هذا كله فلساني قد يعجز عن بيانها :( وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي )

فلذلك فإني أطلب أن تشدّ أزري بأخي( فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ) .(1)

لنؤدي رسالتك الكبرى بأكمل وجه بتعاضدنا في مواجهة الظالمين والمستكبرين.

وبغض النظر عن كلّ ذلك فإنّ قوم فرعون يطاردونني( وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ ) كما يعتقدون لأنّي قتلت واحدا منهم ـ حين كان يتنازع مع إسرائيلي مظلوم ـ بضربة حاسمة! وأنا قلق من ذلك( فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) .

وفي الحقيقة إنّ موسىعليه‌السلام كان يرى أربع مشاكل كبرى في طريقه ، فكان يطلب من الله حلّها لأداء رسالته وهذه المشاكل هي

مشكلة التكذيب.

مشكلة ضيق الصدر.

__________________

(1) في هذه الجملة حذف وتقديره : فأرسل جبرئيل إلى هارون.

٣٤٨

مشكلة عدم الفصاحة الكافية.

ومشكلة القصاص!

ويتّضح ضمنا أنّ موسى لم يكن خائفا على نفسه ، بل كان خوفه أن لا يصل إلى الهدف والمقصد للأسباب آنفة الذكر ، لذلك فقد كان يطلب من الله سبحانه مزيد القوّة لهذه المواجهة!

طلبات موسىعليه‌السلام من الله في هذا الصدد خير شاهد على هذه الحقيقة ، إذ طلب أن يشرح صدره وحلّ عقدة لسانه وأن يرسل إلى هارون للمعاضدة في التبليغ كما جاء ذلك في سورة طه بصورة أكثر تفصيلا إذ قال :( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ) .

فاستجاب الله طلب موسى ودعوة الصادقة و( قالَ كَلَّا ) فلن يستطيعوا قتلك ، أو كلّا لن يضيق صدرك وينعقد لسانك ، وقد أجبنا دعوتك أيضا في شأن أخيك ، فهو مأمور معك في هذه المهمّة :( فَاذْهَبا بِآياتِنا ) لتدعوا فرعون وقومه إلى توحيد الله.

ولا تظنّا بأنّ الله بعيد عنكم أو لا يسمع ما تقولان( إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ )

فأنا معكما ولن أترككما أبدا ، وسأنصركما في الحوادث الصعبة ، فاذهبا مطمئني الخاطر ، وامضيا في هذا السبيل بأقدام ثابتة وعزيمة راسخة!

وهكذا فإنّ الله سبحانه أعطى لموسى الاطمئنان الكافي في جمل ثلاث وحقّق له طلبه إذ طمأنه بقوله :( كَلَّا ) على أنّ قوم فرعون لن يقتلوه ولن يستطيعوا ذلك ولن تحدث له مشكلة بسبب ضيق صدره أو التلكؤ في لسانه وبقوله :( فَاذْهَبا بِآياتِنا ) أرسل أخاه ليعينه على أمره. وبقوله :( إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) وعدهما أنّهما سيكونان أبدا تحت ظل خيمته وحمايته!

٣٤٩

وممّا ينبغي الالتفات إليه ورود الضمير في آخر الجملة بصيغة الجمع في قوله :( إِنَّا مَعَكُمْ ) ولعل ذلك إشارة إلى أن الله حاضر مع موسى وهارون ومن يواجهانهما من الطغاة والفراعنة في جميع المحاورات ، ويسمع ما يدور بينهم جميعا ، فينصر موسى وأخاه هارون على أولئك الطغاة!

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أن كلمة «مع» دالة على النصرة والحماية فلا تشمل قوم فرعون ، غير سديد ، بل إن «مع» تعني حضور الخالق الدائم في جميع الميادين والمحاورات حتى مع المذنبين ، حتى مع المذنبين ، وحتى مع الموجودات التي لا روح فيها ، فهو في كل مكان ولا يخلو منه مكان.

والتعبير بـ «مستمعون» ، أي الإصغاء المقرون بالتوجه هو تأكيد على هذه الحقيقة أيضا.

* * *

٣٥٠

الآيات

( فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) )

التّفسير

مواجهة فرعون مواجهة منطقية وقاطعة :

انتهت في الآيات المتقدمة المرحلة الأولى لمأمورية «موسىعليه‌السلام » وهي موضوع الوحي «والرسالة» وطلبه أسباب الوصول إلى هذا الهدف الكبير!

وتعقيبا على المرحلة الآنفة تأتي الآيات ـ محل البحث ـ لتمثل المرحلة الثّانية ، أي مواجهة موسى وهارون لفرعون ، والكلام المصيري الذي جرى بينهم! تقول الآية الأولى من هذه الآيات مقدمة لهذه المرحلة :( فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا

٣٥١

إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وجملة( فَأْتِيا فِرْعَوْنَ ) تكشف عن أنّهما ينبغي أن يواجها فرعون نفسه بأيّة قيمة أو أيّ ثمن كان

والتعبير بـ «رسول» بصيغة الإفراد مع أنّهما «موسى وهارون» نبيّان مرسلان ، يشير إلى وحدة دعوتهما ، فكأنّهما روحان في بدن واحد لهما خطّة واحدة وهدف واحد.(1)

وضمن دعوتكما لفرعون بأنّكما رسولا ربّ العالمين اطلبا منه أن يرسل بني إسرائيل ويرفع يده عنهم :( أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

وبديهي أن المراد من الآية أن يرفع فرعون عن بني إسرائيل نير العبوديّة والقهر والاستعباد ، ليتحرروا ويأتوا مع موسى وهارون ، وليس المراد هو إرسال بني إسرائيل معهما فحسب.

وهنا يلتفت فرعون فيتكلم بكلمات مدروسة وممزوجة بالخبث والشيطنة لينفي الرسالة ويقول لموسى :( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ).

إذ التقطناك من أمواج النيل الهادرة فأنقذناك من الهلاك ، وهيّأنا لك مرضعة ، وعفونا عن الحكم الصادر في قتل أبناء بني إسرائيل الذي كنت مشمولا به ، فتربّيت في محيط هادئ آمن منعّما وبعد أن تربيت في بيتنا عشت زمانا( وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) .

ثمّ توجه إلى موسى وذكّره بموضوع قتل القبطي فقال :( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) .

__________________

(1) يقول الراغب في «المفردات» : «الرّسول» من الكلمات التي تطلق على المفرد والجمع ، وإن جمعت أحيانا على «الرسل» فمنهم من يرى أنها مصدر أيضا ومعناها الرسالة ، ونعرف أنه لا تثنية ولا جمع في المصدر. وقد ورد في لسان العرب أنّ الرّسول بمعنى الرسالة ، إلّا أن هذه الكلمة تحمل المعنى الوصفي حتما ، وكثيرا ما تجمع أو تثنى وقد ورد في سورة طه عن هذه القصة وقصة موسى وهارون : «إنّا رسولا ربك ...»!

٣٥٢

إشارة إلى أنه كيف يمكنك أن تكون نبيّا ولديك مثل هذه السابقة؟!

ثمّ بعد هذا كله :( وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ ) ! (أي بنعمة فرعون) فلطالما جلست على مائدتنا وتناولت من زادنا فكيف تكون نبيّا وأنت كافر بنعمتي؟!

وفي الحقيقة ، كان فرعون يريد أن يجعل موسى محكوما بهذه التهم المواجهة إليه ، وبهذا المنطق الاستدراجي.

والمراد من قصّة القتل المذكورة هنا هو ما جاء في سورة القصص «الآية 15 منها» حيث جاء فيها أن موسى وجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّه ، فاستغاثة الذي هو من شيعته على الذي من عدوّه فوكزه موسى فقضى عليه انتصارا لشيعته!

وعند ما سمع موسى كلمات فرعون الممزوجة بالخبث والشيطنة أجاب على إشكالات فرعون الثلاثة ، إلّا أنه قدّم الإجابة على الإشكال الثّاني نظرا لأهميته.

(أو أنه أساسا لم يجد الإشكال الأوّل يستحق الإجابة ، لأن تربية الشخص لا تكون دليلا على عدم جواز هداية مربّية إن كان المربي ضالا ، ليسلك سبيل الرشاد).

وعلى كل حال أجابه موسىعليه‌السلام :( قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) .

وهنا كلام طويل بن المفسّرين على المراد من كلمة «الضالين» الواردة في تعبير موسىعليه‌السلام لأنّه كما نعلم لا مجال لأن تكون للنبيّ سابقة سوء حتى قبل مرحلة النبوّة لأنّها تزلزل موقعه في أفكار عامّة الناس ، ويبقى الهدف من بعثته ناقصا غير تام ، ولذلك فإنّ العصمة في الأنبياء لازمة حتى قبل زمان نبوتهم! هذا من جهة

ومن جهة أخرى ينبغي أن يكون هذا الكلام جوابا مسكتا ومفحما لفرعون! لذلك فإن كثيرا من المفسّرين يعتقدون أن المراد من «الضال» هنا هو كونه أخطأ في الموضوع ، أي أن موسى كانت ضربته للرجل القبطي لا بقصد القتل ، بل لكي

٣٥٣

يحمي المظلوم ويدافع عنه ، ولم يدر أنّه ستؤول ضربته إلى الإجهاز عليه وقتله ، فبناء على ذلك فإنّ الضالّ هنا معناه «الغافل» والمراد منه الغافل عن العاقبة التي أدّى عمله إليها.

وقال بعض المفسّرين : إنّ المراد من ذلك أنّه لم يكن أيّ خطأ في قتل القبطي الظالم لأنّه كان مستحقا ، بل إنّ موسىعليه‌السلام يريد أن يقول : إنّه لم يدر أن عاقبة عمله ستكون على هذا الوجه ، وأنه لا يستطيع البقاء في مصر وعليه أن يخرج بعيدا عن وطنه ، وأن يتأخر منهجه «في أداء رسالته».

ولكن الظاهر أنّ هذا لا يعدّ جوابا لفرعون ، بل هو موضوع كان لموسى أن يبيّنه لأتباعه ومن حوله من محبّيه! لا أنه ردّ على إشكال فرعون!

والتّفسير الثّالث الذي من المحتمل أن يكون مناسبا أكثر لمقام موسىعليه‌السلام ـ من جهات متعددة ـ ويتلاءم وعظمة كيانه ، أن موسىعليه‌السلام استخدم التورية في تعبيره جوابا على كلام فرعون ، فقال كلاما ظاهره أنّه لم يعرف طريق الحق في ذلك الزمان لكنّ الله عرّفه إياه بعدئذ ، ووهب له حكما ـ فجعله من المرسلين ، إلّا أنه كان يقصد في الباطن أنه لم يدر أن عمله حينئذ سيؤدي إلى هذه النتيجة! من الجهد والعناء واضطراب البال ـ مع أنّ أصل عمله كان حقا ومطابقا لقانون العدالة «أو أنه يوم كانت هذه الحادثة قد وقعت كان موسىعليه‌السلام قد ضلّ طريقه فصادف أمامه هذه القضيّة»

ونحن نعرف أن «التورية» هي أن يقول الإنسان كلاما باطنه حق ، إلّا أن الطرف الآخر يفهم من ظاهره شيئا آخر ، وهذا الأمر يقع في موارد خاصّة يبتلى الإنسان فيها بالحرج أو الضيق ، ولا يريد أن يكذب ، وهو في الوقت ذاته على ظاهر كلامه(1)

__________________

(1) هذا الكلام يوافق مضمون الحديث الوارد عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير الآية ، راجع كتاب عيون اخبار الرضا ، ج 4 ، ص 48 نقلا عن «نور الثقلين».

٣٥٤

ثمّ يضيف موسى قائلا :( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) !

وهناك اختلاف بين كلمات المفسّرين في المراد من «الحكم» في هذه الآية ، أهو مقام النبوة ، أم مقام العلم ، أم سواهما؟! لكن مع ملاحظة ذيل الآية نفسها المذكور فيها مقام الرسالة بإزاء الحكم يتّضح أنّه غير الرسالة والنبوّة!

والشاهد الآخر على هذا الموضوع الآية (79) من سورة آل عمران إذ قال :( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ ).

إن كلمة «الحكم» تعني في اللغة : المنع من أجل الإصلاح ، هذا هو الأصل في ما وضعت له ، ولذا سمّوا لجام الحيوان «حكمة» على وزن (صدقة) ثمّ أطلقت هذه الكلمة على ما يطابق الحكمة ، ومن هنا سمي العقل والعلم حكما أيضا لهذا التناسب ، وقد يقال : إنّه يستفاد من الآية (14) من سورة القصص أن موسىعليه‌السلام كان قد بلغ مقام الحكم والعلم قبل هذه القضية إذ تقول :( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ) .

فنجيب على ذلك أن للعلم والحكمة مراحل مختلفة ، فكان موسىعليه‌السلام قد بلغ مرحلة منهما من قبل ، وحين بلغ مقام النبوّة أدرك المرحلة الأكمل!

ثمّ يردّ موسىعليه‌السلام على كلام فرعون الذي يمنّ به عليه في أنّه ربّاه وتعهده منذ طفولته وصباه ، معترضا عليه بلحن قاطع فيقول :( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

صحيح أنّ يد الحوادث ساقتني ـ وأنا طفل رضيع ـ إلى قصرك ، لأتربّى في كنفك ، وكان في ذلك بيان لقدرة الله ، لكن ترى كيف جئت إليك؟ ولم لا تربيت في أحضان والديّ وفي بيتهما؟!

ألم يكن ذلك لأنّك عبّدت بني إسرائيل وصفّدت أيديهم بنير الأسر! حتى

٣٥٥

أمرت أن يقتل الأطفال الذكور وتستحيا النساء للخدمة؟!

فهذا الظالم المفرط من قبلك ، كان سببا لأن تضعني أمي في الصندوق حفاظا عليّ ، وتلقيني في أمواج النيل ، وكانت مشيئة الله أن تسوق الأمواج «زورقي» الصغير حتى توصله إلى قصرك أجل إن ظلمك الفاحش هو الذي جعلني رهين منّتك وحرمني من بيت أبي الكريم ، وصيرني في قصرك الملوّث!

وبهذا التّفسير يتّضح ارتباط جواب موسى بسؤال فرعون تماما.

كما يحتمل في تفسير هذه الآية أنّ مراد موسىعليه‌السلام هو الاعتراض على فرعون بأنّه لو كانت تربيتي عندك نعمة من قبلك ، فهي إزاء ظلمك لبني إسرائيل بمثابة القطرة في مقابل البحر ، فأية نعمة لك عليّ مع ما عندك من الظلم والجور على الناس؟!

والتّفسير الثّالث لجواب موسى لفرعون ، هو أنّه : لو تربيت في قصرك وتمتعت بنعمك المختلفة ، فلا تنس بناه قصرك الأوائل فهم أرقّاء من قومي ، والموجودون لجميع تلك النعم هم أسراؤك من بني إسرائيل ، فكيف تمنّ عليّ بجهود قومي وأتعابهم؟!

وهذه التفاسير الثلاثة لا تتنافى جميعا ، وإن كان التّفسير الأوّل من بعض الجهات أكثر وضوحا!

ويستفاد من عبارة : «من المرسلين» ضمنا بأنّني لست الوحيد المرسل من قبل الله. فمن قبلي جاء رسل عدّة ، وأنا واحد منهم ، إلّا أن فرعون نسيهم أو تناساهم!!

* * *

٣٥٦

الآيات

( قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) )

التّفسير

الاتهام بالجنون والتهديد بالسجن :

حين واجه موسىعليه‌السلام فرعون بلهجة شديدة : وأجابه بضرس قاطع ، وأفحم فرعون في ردّه ، غيّر فرعون مجرى كلامه ، وسأل موسى عن معنى كلامه أنّه رسول ربّ العالمين ، و( قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ )

ومن المستبعد جدّا أن يكون فرعون قد سأل موسىعليه‌السلام هذا السؤال لفهم الحقيقة ومعرفة الموضوع ، بل يبدو أنّه سأله متجاهلا ومستهزئا.

٣٥٧

إلّا أنّ موسى ـ على كل حال ـ لم يجد بدا كسائر الباحثين الواعين اليقظين ، أن يجيب على فرعون بجدّ وحيث أن ذات الله سبحانه بعيدة عن متناول أفكار الناس ، فإنّه أخذ يحدثه عن آيات الله في الآفاق وآثاره الحيّة إذ( قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) .

فالسماوات بما فيهن من عظمة ، والأرض على سعتها والموجودات المتعددة بألوانها بحيث لا تساوي أنت وقصرك بإزائها إلّا ذرّة في مقابل المجرّة! كلّها من خلق ربّي ، فمثل هذا الخالق المدبّر لهذا العالم جدير بالعبادة ، لا الموجود الضعيف التافه مثلك!

وينبغي الالتفات إلى أن عبدة الأوثان كانوا يعتقدون أنّ لكلّ موجود في هذا العالم ربّا ، وكانوا يعدّون العالم تركيبا من نظم متفرقة ، إلّا أن كلام موسىعليه‌السلام يشير إلى أن هذا النظام الواحد المتحكم على هذه المجموعة في عالم الوجود دليل على أن له ربّا واحدا

وجملة( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) لعلها إشارة إلى أنّ موسىعليه‌السلام يريد أن يفهم فرعون ومن حوله ـ ولو تلويحا ـ أنه يعرف أن الهدف من هذا السؤال ليس إدراك الحقيقة لأنّه لو أراد إدراك الحقيقة والبحث عنها لكان استدلاله كافيا فكأنّه يقول لهم : افتحوا أعينكم قليلا وتفكروا ساعة في السماوات والأرض بما فيهما من الآثار وعجائب المخلوقات لتطلعوا على معالمها وتصححوا نظرتكم نحو الكون!

إلّا أن فرعون لم يتيقظ من نومة الغافلين بهذا البيان المتين المحكم لهذا المعلم الكبير الرّباني السماوي فعاد لمواصلة الاستهزاء والسخرية ، واتبع طريقة المستكبرين القديمة بغرور ، و( قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ) .

ومعلوم من هم الذين حول فرعون؟ فهم أشخاص من نسيجه وجماعة من أصحاب القوّة والظلم والقهر والمال.

٣٥٨

يقول ابن عباس : كان الذين حول فرعون هناك خمسمائة نفر ، وهم يعدّون من خواص قومه.(1)

وكان الهدف من كلام فرعون أن لا يترك كلام موسى المنطقي يؤثر في القلوب المظلمة لأولئك الرهط فعدّه كلاما بلا محتوى وغير مفهوم.

إلّا أن موسىعليه‌السلام عاد مرّة أخرى إلى كلامه المنطقي دون أي خوف ولا وهن ولا إيهام ، فواصل كلامه و( قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) .

إن موسىعليه‌السلام بدأ في المرحلة الأولى بـ «الآيات الآفاقية» ، وفي المرحلة الثّانية أشار إلى «الآيات الانفسية» ، وأشار إلى أسرار الخلق في وجود الناس أنفسهم وآثار ربوبية الله في أرواح البشر وأجسامهم ، ليفكر هؤلاء المغرورون على الأقلّ في أنفسهم ويحاولوا التعرّف عليها وبالتالي معرفة من خلقها.

إلّا أن فرعون تمادى في حماقته ، وتجاوز مرحلة الاستهزاء إلى اتهام موسى بالجنون ، فـ( قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ )

وذلك ما اعتاده الجبابرة والمستكبرون على مدى التاريخ من نسبة الجنون إلى المصلحين الرّبانيين!

وممّا يستجلب النظر أن هذا الضالّ المغرور لم يكن مستعدّا حتى لأنّ يقول : «إنّ رسولنا الذي أرسل إلينا» ، بل قال : «إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم» ، لأن التعبير برسولكم ـ أيضا ـ له طابع الاستهزاء المقترن بالنظرة الاستعلائية يعني : إنني أكبر من أن يدعوني رسول وكان الهدف من اتهامه موسى بالجنون هو إحباط وإفشال منطقه القويّ المتين لئلا يترك أثرا في أفكار الحاضرين.

إلّا أن هذه التهمة لم تؤثر في روح موسىعليه‌السلام ومعنوياته العالية ، وواصل بيان آثار الله في عالم الإيجاد في الآفاق والأنفس ، مبينا خط التوحيد الأصيل فـ( قالَ

__________________

(1) راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآية محل البحث.

٣٥٩

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) .

فإذا كنت ـ يا فرعون ـ تحكم حكما ظاهريّا في أرض محدودة تدعى مصر ، فإنّ حكومة ربّي الواقعية تسع المشرق والمغرب وما بينهما جميعا ، وآثاره تشرق في وجوه الموجودات! وأساسا فإنّ هذه الشمس في شروقها وغروبها وما يتحكم فيها من نظام ، كل ذلك بنفسه آية له ودليل على عظمته إلّا أنّ العيب كامن فيكم ، لأنّكم لا تعقلون ، ولم تعتادوا التفكير (وينبغي الالتفات إلى أن جملة( إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) هي إشارة إلى أنه لو كنتم تتفكرون وتستعملون العقل في ماضي حياتكم وحاضرها لتوصلتم إلى إدراك هذه المسألة).

وفي الواقع إن موسىعليه‌السلام أجاب على اتهامهم إياه بالجنون بأسلوب بليغ بأنّه ليس مجنونا ، وأن المجنون هو من لا يرى كل هذه الآثار ودلائل وجود الخالق ، والعجيب أنه مع وجود الآثار على باب الدار والجدار ، فانه يوجد من لا يفكر في هذه الآثار!».

وصحيح أنّ موسىعليه‌السلام أشار بادئ الأمر إلى تدبير أمر السماوات والأرض ، إلّا أنه حيث أن السماء عالية جدا ، وأن الأرض ذات أسرار غريبة ، فقد وضع موسىعليه‌السلام أخيرا إصبعه على نقطة لا يمكن لأحد إنكارها ، ويواجهها الإنسان كلّ يوم ، وهي نظام طلوع الشمس وغروبها وما فيها من منهج دقيق وليس لأحد من البشر أن يدعي أنّ بيده نظامها أبدا

والتعبير بـ «ما بينهما» إشارة إلى الوحدة والارتباط في ما بين المشرق والمغرب ، وهكذا كان التعبير في شأن السماوات والأرض.( قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ) .

ويبيّن التعبير( رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) أيضا ارتباط النسل والوحدة فيه

غير أن هذا المنطق المتين الذي لا يتزعزع غاظ فرعون بشدة ، فالتجأ إلى

٣٦٠