الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١١

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 504

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 504
المشاهدات: 170101
تحميل: 6042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 504 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 170101 / تحميل: 6042
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 11

مؤلف:
العربية

الحكم ، ومكثوا في مصر حاكمين مدّة.(1)

وظاهر الآيات المتقدمة يناسب هذا التّفسير.

في حين أن بعض المفسّرين يعتقد أن بني إسرائيل تحركوا نحو بيت المقدس بعد هلاك فرعون وأتباعه ، إلّا أنّهم بعد مدّة مديدة رجعوا إلى مصر وشكلوا فيها حكومتهم.(2)

وتتطابق فصول التوراة الحالية المتعلقة بهذا القسم مع هذا التّفسير.

ويعتقد بعض آخر من المفسّرين أن بني إسرائيل صاروا جماعتين أو فئتين ، فجماعة منهم بقيت في مصر وحكمت فيها ، وتحركت جماعة منهم مع موسى نحو بيت المقدس.

وذكر احتمال آخر ، وهو أن بني إسرائيل حكموا مصر بعد موسىعليه‌السلام وفي زمان النّبي سليمان بن داود ، والآية( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ ) ناظرة إلى هذا المعنى!

إلّا أنّه مع ملاحظة أن موسىعليه‌السلام نبي ثائر كبير ، فمن البعيد جدّا أن يترك هذه الأرض التي تهاوت أركان حكومتها وقد أصبحت مقاليد أمورها بيده فيذرها كليا دون أن يخطط لها خطة ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة ، ولا سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال ، وتعودوا على محيطها ، فبناء على هذا لا يخرج الأمر من أحد حالين أمّا أن نقول : إن بني إسرائيل عادوا جميعا إلى مصر وحكموا فيها ، أو أن نقول : إن قسما منهم بقوا في مصر بأمر موسىعليه‌السلام واستولوا على العرش وحكموا في مصر! وفي غير هاتين الحالين لا يتجلّى مفهوم لإخراج الفراعنة منها ووراثة بني إسرائيل لها

__________________

(1) راجع مجمع البيان والقرطبي : ذيل الآيات محل البحث ، كما أن الألوسي فسّر هذا الموضوع في روح المعاني تفسيرا يستحق النظر!

(2) روح المعاني ذيل الآيات محل البحث.

٣٨١

2 ـ ترتيب الآيات

يشرح القرآن فيما يأتي من الآيات كيفية غرق فرعون واتباعه ، وهذا الأمر يدعو إلى التساؤل : كيف يذكر القرآن إخراج فرعون وقومه من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم وإيراثه «ذلك» بني إسرائيل! ثمّ يذكر كيفية غرق فرعون وقومه؟ مع أن الترتيب الطبيعي للآيات ليس كذلك

هذا الأمر ربّما يكون من قبيل بيان الإجمال ثمّ التفصيل ، أي أن القرآن ذكر الموضوع أوّلا بصورة مجملة ، ثمّ وضحه في الآيات الاخر! كما يمكن أن يكون من قبيل ذكر النتيجة ، ثمّ شرح المقدمات «فتدبر».

* * *

٣٨٢

الآيات

( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) )

التّفسير

عاقبة فرعون وأتباعه الوخيمة

في هذه الآيات يبرز المشهد الأخير من قصّة موسى وفرعون ، وهو كيفية هلاك فرعون وقومه ، ونجاة بني إسرائيل وانتصارهم!

وكما قرأنا في الآيات المتقدمة فإنّ فرعون أرسل المدائن حاشرين ، وهيأ مقدارا كافيا من «القوّة» والجيش ، قال بعض المفسّرين : كان ما أرسله فرعون على أنّه مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل ، وتبعهم نفسه بألف ألف مقاتل «أي

٣٨٣

مليون».(1)

تحركوا في جوف الليل ليدركوهم بسرعة ، فبلغوهم صباحا كما تقول الآية الأولى من الآيات محل البحث :( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) (2) ( فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) .

فأما منا بحر خضم متلاطم بالأمواج ، ومن ورائنا بحر من الجيوش المتعطشة للدماء بتجهيزاتها الكاملة هؤلاء الغاضبون علينا وهم الذين قتلوا أطفالنا الأبرياء سنين طوالا وفرعون نفسه رجل دموي جبار فعلى هذا سيحاصروننا بسرعة ، ويقتلوننا جميعا بحدّ السيوف ، أو سيأسروننا ويعذبوننا ، والقرائن جميعها تدل على ذلك.

وهنا مرّت لحظات عسيرة على بني إسرائيل لحظات مرّة لا يمكن وصف مرارتها ولعل جماعة منهم تزلزل إيمانهم وفقدوا معنوياتهم وروحياتهم.

إلّا أنّ موسىعليه‌السلام كان مطمئنا هادئ البال ، وكان يعرف أن وعد الله في هلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل لا يتخلف أبدا ولن يخلف الله وعده رسله!

لذلك التفت إلى بني إسرائيل الفزعين بكمال الاطمئنان والثقة و( قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .

ولعلّ هذا التعبير يشير إلى وعد الله لموسى وأخيه هارون حين أمرهما بإنذار قومهما ، إذ قال لهما : إني معكما أسمع وأرى.(3)

إذ كان موسى يعلم أن الله معه في كل مكان ، وخاصّة تعويله في كلامه على كلمة (ربّي) أي الله المالك والمربّي هذا يدل على أنّ موسىعليه‌السلام كان يدري أنّه

__________________

(1) كلمة مليون وأخواتها (مليار ، بليون إلخ) من مصطلحات العصر وهي غير عربية ، وكان العرب يقولون ألف ألف.

(2) قال بعض المفسّرين : المراد من «مشرقين» ، أن بني إسرائيل ساروا نحو الشرق ، واتّباع فرعون وقومه بالاتجاه نفسه ، لأنّ بيت المقدس يقع شرق مصر!

(3) سورة طه ، الآية 46.

٣٨٤

لا يطوي هذا الطريق بخطاه ، بل بلطف الله القادر الرحيم

وفي هذه الحال التي قد يكون البعض سمعوا كلامه دون أن يصدقوه ، وكانوا ينتظرون آخر لحظات حياتهم ، صدر أمر الله كما يقول القرآن :( فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ).

تلك العصا التي هي في يوم آية إنذار ، وفي يوم آخر آية رحمة ونجاة!

فامتثل موسىعليه‌السلام أمر ربه فضرب البحر ، فإذا أمامه مشهد رائع عجيب ، تهللت له أسارير وجوه بني إسرائيل ، إذا انشقّ البحر( فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) !

و «انفلق» مأخوذ من «الفلق» ومعناه الإنشقاق و «فرق» من مادة «فرق» على زنة «حلق» ومعناه الانفصال!

وبتعبير آخر ، كما يقول الراغب في مفرداته : أن الفرق بين (فلق) و (فرق) هو أن الأوّل يشير إلى الإنشقاق (أو الانشطار) والثّاني يشير إلى الانفصال ، ولذا تطلق الفرقة والفرق على القطعة أو الجماعة التي انفصلت عن البقيّة!

«الطود» معناه الجبل العظيم ، ووصف الطود بالعظمة في الآية تأكيد آخر على معناه.

وعلى كل حال ، فإنّ الله الذي ينفذ أمره في كل شيء ، وبأمره تموج البحار وتتصرف الرياح وتتحرك العواصف وكل شيء في عالم الوجود من رشحات فضله وقدرته أصدر أمره الى البحر ، وأمواجه ، فالتحمت الأمواج وتراكمت بعضها إلى بعض ، وظهرت ما بينها طرق سالكة ، فمرّت كل فرقة من بني إسرائيل في إحدى الطرق!

إلّا أنّ فرعون وأتباعه بالرغم من مشاهدتهم هذه المعجزة الكبرى الواضحة لم يذعنوا للحق ، ولم ينزلوا عن مركب غرورهم ، فاتبعوا موسى ورهطه ليبلغوا مصيرهم المحتوم ، كما يقول القرآن في هذا الشأن :( وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ )

٣٨٥

وهكذا ورد فرعون وقومه البحر أيضا ، واتبعوا عبيدهم القدماء الذين استرقّوهم بطغيانهم ، وهم غافلون عن أن لحظات عمرهم تقترب من النهاية ، وأن عذاب الله سينزل فيهم!

وتقول الآية التالية :( وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ) .

وحين خرج آخر من كان من بني إسرائيل من البحر ، ودخل آخر من كان من أتباع فرعون البحر ، صدر أمر الله فعادت الأمواج إلى حالتها الأولى فانهالت عليهم فجأة ، فهلك فرعون وقومه في البحر ، وصار كل منهم كالقشّة في وسط الأمواج المتلاطمة.

ويبيّن القرآن هذه الحالة بعبارة موجزة متينة فيقول :( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ )

وهكذا انتهى كل شيء في لحظة واحدة فالأرقاء أصبحوا أحرارا ، وهلك الجبابرة ، وانطوت صفحة من صفحات التأريخ ، وانتهت تلك الحضارة المشيدة على دماء المستضعفين ، وورث الحكومة والملك المستضعفون بعدهم.

أجل( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) فكأنّ في أعينهم عمى ، وفي آذانهم وقرا ، وعلى قلوب أقفالا.

فحيث لا يؤمن فرعون وقومه مع ما رأوا من المشاهد العجيبة ، فلا تعجب إذا ألّا يؤمن بك المشركون ـ يا محمد ـ ولا تحزن عليهم لعدم إيمانهم ، فالتاريخ ـ يحمل بين طياته وثناياه كثيرا من هذه المشاهد!

والتعبير بـ «أكثرهم» إشارة إلى أن جماعة من قوم فرعون آمنوا بموسى والتحقوا بأصحابه ، لا آسية امرأة فرعون فحسب ، ولا رفيق موسى المخلص المذكور في القرآن على أنه مؤمن من آل فرعون ، بل آخرون أيضا كالسحرة التائبين مثلا.

أمّا آخر آية من هذه الآيات فتشير في عبارة موجزة وذات معنى غزير إلى قدرة الله ورحمته المطلقة واللامتناهية ، فتقول :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) .

٣٨٦

فمن عزته أنه متى شاء أن يهلك الأمم المسرفة الباغية أصدر أمره فأهلكها ، ولا يحتاج أن يرسل جنودا من ملائكة السماء لإهلاك أمّة جبّارة فيكفي أن يهلكها بما هو سبب حياتها ، كما أهلك فرعون وقومه بالنيل الذي كان أساس حياتهم وثروتهم وقدرتهم ، فإذا هو يقبرهم فيه!!

ومن رحمته أنّه لا يعجل في الأمر أبدا ، بل يمهل سنين طوالا. ويرسل معاجزه إتماما للحجة ، ومن رحمته أن يخلص هؤلاء المستعبدين من قبضة الجبابرة الظالمين.

* * *

مسائل مهمة :

1 ـ معبر بني إسرائيل!

ورد التعبير في القرآن مرارا عن موسى أنه عبر بقومه «البحر»(1) كما جاء في بعض الآيات لفظ «اليمّ» بدلا من البحر.(2)

والآن ينبغي أن نعرف ما المراد من «البحر» و «اليم» هنا ، أهو إشارة إلى النهر الكبير الواسع في مصر ، النيل الذي يروي جميع أراضيها؟ أم هو إشارة إلى البحر الأحمر «المعروف ببحر القلزم في بعض المصطلحات»؟

يستفاد من التوراة الحالية ـ وكذلك من كلمات بعض المفسّرين ـ أنه إشارة إلى البحر الأحمر إلّا أن القرائن الموجودة والمتوفرة تدل على أنّ المراد منه هو نهر النيل ، لأن «البحر» كما يقول الراغب في مفرداته يعني في اللغة الماء الكثير الواسع ، واليم بهذا المعنى أيضا. فلا مانع إذا من إطلاق الكلمتين على نهر النيل.

وأمّا القرائن المؤيدة لهذا الرأي فهي :

__________________

(1) اقرأ في سورة «يونس : الآية 90 ـ وطه الآية 77 ـ والشعراء الآية 63 ، والآية محل البحث أيضا.

(2) اقرأ سورة طه الآية 78 ـ والقصص الآية 40 ـ والذاريات الآية 40.

٣٨٧

1 ـ أنّ منطقة سكن الفراعنة التي كانت مركزا لمدن مصر العامرة كانت نقطة قريبة من النيل حتما وإذا أخذنا بنظر الإعتبار معيار محلهم الفعلي «الأهرام» أو ما حولها ، فإنّ بني إسرائيل لا بدّ لهم أن يعبروا نهر النيل ليصلوا إلى الأرض المقدسة ، لأن هذه المنطقة تقع غرب النيل ولا بدّ لهم من أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الأرض المقدسة! «فلاحظوا بدقة»!

2 ـ أنّ الفاصلة بين المناطق العامرة(1) من مصر والتي هي قريبة من النيل بالطبع ، بعيدة عن البحر الأحمر بحيث لا يمكن أن تطوى المسافة بينها وبين البحر بليلة أو نصف ليلة

ويستفاد من الآيات المتقدمة بوضوح أن بني إسرائيل غادروا أرض الفراعنة ليلا ، وطبيعي أن تكون المغادرة في الليل. أمّا فرعون وجيشه فقد اتبعوهم حتى بلغوهم مشرقين «عند الصباح».

3 ـ لم تكن حاجة ليعبر بنو إسرائيل البحر الأحمر حتى يصلوا الأرض المقدسة ، إذ كانت هناك منطقة يابسة ضيقة قبل حفر ترعة السويس «أو ما يصطلح عليها بقناة السويس» إلّا أن نفترض أن البحر الأحمر كان متصلا بالبحر الأبيض المتوسط في الزمن السابق ، ولم تكن هناك منطقة يابسة ، وهذا الفرض غير ثابت بأيّ وجه!

4 ـ يعبّر القرآن عن قصة موسى بإلقائه في «اليم» «من قبل أمه» الآية 39 من سورة طه ، كما يعبر عن غرق فرعون وأتباعه بقوله :( فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ) الآية 78 من السورة ذاتها. وكلتا القضيتين في قصة واحدة وسورة واحدة أيضا (طه) وكون اللفظين مطلقين ـ (اليم) في الآية السابقة و (اليم) في الآية اللاحقة ـ يشعر بأنّهما واحد ومع ملاحظة أن أمّ موسى لم تلق موسى في

__________________

(1) العامرة هنا اسم فاعل بمعنى المفعول أي المعمورة.

٣٨٨

البحر الأحمر قطعا ، بل ألقته في النيل طبقا لما تذكره التواريخ ، فيعلم أن غرق فرعون وقومه كان في النيل «فلاحظوا بدقّة».

2 ـ كيفية نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه

هناك بعض المفسّرين ممن لا يميل إلى كون نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون وقومه معجزة ، بل حادثة طبيعية ، كما يصرّون على ذلك ، فوجّهوا ذلك كله بأسباب طبيعية.

لذلك قالوا : إنّ هذا الموضوع يمكن تطبيقه بواسطة الجسور المتحركة المستعملة في العصر الحديث.(1)

وقال بعضهم : إنّ موسىعليه‌السلام كان مطلعا على طرق خاصّة ، وكان يمكنه العبور من البرازخ (أو الطرق الموجودة في بحر سوف) أي خليج السويس ، إلى جزيرة سيناء. وانفلاق البحر ـ في الآيات محل البحث ـ إشارة إلى هذا المعنى(2)

وقال بعضهم : من المحتمل جدا أن يكون وصول موسى وقومه البحر عند منتهى جزره ، فاستطاع أن يعبر بهم من النقاط اليابسة ويجتازها بسرعة ، ولكن عند ما ورد فرعون وقومه البحر شرع المدّ فورا فأغرقوا بالنيل حينئذ وهلكوا

ولكن الحق أن أيّا من هذه الاحتمالات لا ينسجم وظاهر الآيات ـ إن لم نقل وصريح الآيات ـ ومع قبول معاجز الأنبياء الوارد بيانها مرارا في سور القرآن ، وخاصّة معجزة عصا موسى نفسها ، فلا حاجة لمثل هذه التوجيهات

فما يمنع أن تتراكم أمواج النيل بعد ضربها من قبل موسى بالعصا بأمر الله الحاكم على قانون العليّة في عالم الوجود ، وتنجذب متأثرة بما فيها من سرّ غامض ، لتترك طريقا يبسا بيّنا (يمرّ في وسط البحر) ثمّ تتلاشى هذه الجاذبيّة بعد

__________________

(1) أعلام القرآن ، ص 622.

(2) المصدر السابق.

٣٨٩

مدة ، ويعود البحر إلى حالته الطبيعية وإلى أمواجه المتلاطمة! وليس هذا استثناء في قانون العليّة ، بل هو اعتراف بتأثير علل غير معتادة ، لا نعرفها لقصور علمنا أو لقلّة معلوماتنا!

3 ـ الله عزيز رحيم

ينبغي ملاحظة هذه اللطيفة ، إذ جاءت الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ بمثابه استنتاج لما جرى من أمر موسى وفرعون وقومهما ، وانتصار جيش الحق وانهزام الباطل! إذ تصف هذه الآية «الله» سبحانه بالعزيز الرحيم

فالوصف الأوّل إشارة إلى أنّ قدرته لا تضعف ولا تقهر ، والوصف الثّاني إشارة إلى أنه يوصل رحمته لعباده جميعا ، وخاصّة بتقديم وصف (العزيز) على (الرحيم) لئلا يتوهّم أن رحمته من منطلق الضعف ، بل هو مع قدرته رحيم!

وبالطبع فإنّ من المفسّرين من يرى أن وصفه بالعزيز إشارة إلى اندحار أعدائه ، ووصفه بالرحيم إشارة إلى انتصار أوليائه ، إلّا أنه لا مانع أبدا أن يشمل الوصفان الطائفتين معا لأنّ الجميع ينعمون برحمته حتى المسيئون والجميع يخافون من سطوته حتى الصالحون

* * *

٣٩٠

الآيات

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) )

التّفسير

أعبد ربّا هذه صفاته :

كما ذكرنا في بداية هذه السورة ، فإنّ الله يبيّن حال سبعة من الأنبياء العظام ، ومواجهاتهم أقوامهم لهدايتهم ، لتكون «مدعاة» تسلية للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين القلّة معه في عصره ، وفي الوقت ذاته إنذار لجميع الأعداء والمستكبرين أيضا

٣٩١

لذلك تعقّب هذه الآيات على قصّة موسى وفرعون المليئة بالدروس لتبيّن قصة إبراهيم ومواجهاته المشركين ، وتبدأ هذه الآيات بمحاورة إبراهيم لعمه آزر(1) فتقول :

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ) .

ومن بين جميع الأخبار المتعلقة بهذا النبيّ العظيم يركّز القرآن الكريم على هذا القسم :( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ ) ؟

ومن المسلّم به أنّ إبراهيم كان يعلم أيّ شيء يعبدون ، لكن كان هدفه أن يستدرجهم ليعترفوا بما يعبدون ، والتعبير بـ «ما» مبيّن ضمنا نوعا من التحقير!

فأجابوه مباشرة( قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ) ! وهذا التعبير يدلّ على أنّهم يحسّوا بالخجل من عملهم هذا ، بل يفتخرون به ، إذا كان كافيا أن يجيبوه : نعبد أصناما ، إلّا أنّهم أضافوا هذه العبارة :( فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ ) ! التعبير بـ «نظلّ» يطلق عادة على الأعمال التي تؤدي خلال اليوم ، وذكره بصيغة الفعل المضارع إشارة إلى الاستمرار والدوام.

كلمة «عاكفين» مأخوذة من «العكوف» ، ومعناه التوجه نحو الشيء وملازمته باحترام ، وهي تأكيد لما سبق من التعبير.

«الأصنام» جمع الصنم ، وهو الهيكل أو التمثال المصنوع من الذهب أو الخشب أو ما شاكلهما للعبادة ، وكانوا يتصورون أنها مظهر للتقديس

وعلى كل حال ، فإنّ إبراهيم لما سمع كلامهم رشقهم بنبال الإشكال والاعتراض بشدّة ، وقمعهم بجملتين حاسمتين جعلهم في طريق مغلق ، فـ( قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ) ؟!

إن أقلّ ما ينبغي توفره في المعبود هو أن يسمع نداء عابده ، وأن ينصره في

__________________

(1) بيّنا مرارا أنّ لفظ «الأب» يطلق في لغة العرب والقرآن على الوالد كما يطلق على العم ، وهنا استعمل هذا اللفظ بمعناه الثاني.

٣٩٢

البلاء ، أو يضره عند مخالفة أمره!

إلّا أن هذه الأصنام ليس فيها ما يدلّ على أن لها أقلّ إحساس أو شعور أو أدنى تأثير في عواقب الناس ، فهي أحجار أو فلزات «أو معادن أو خشب لا قيمة لها! وإنّما أعطتها الخرافات هذه الهالة وهذه القيمة الكاذبة!

إلّا أن عبدة الأصنام الجهلة المتعصبين واجهوا سؤال إبراهيم بجوابهم القديم الذي يكررونه دائما ، فـ( قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

وهذا الجواب الذي يكشف عن تقليدهم الأعمى لأسلافهم الجهلة هو الجواب الوحيد الذي استطاعوا أن يردّوا به على إبراهيمعليه‌السلام ، وهو جواب دليل بطلانه كامن فيه ، وليس أي عاقل يجيز لنفسه أن يقفو أثر غيره ويصم أذنيه ويغمض عينيه ، ولا سيما أن تجارب الخلف أكثر من السلف عادة ، ولا يوجد دليل على تقليدهم الأعمى!

والتعبير بـ( كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) تأكيد أكثر على تقليدهم ، أي نفعل كما كانوا يفعلون ، سواء عبدوا الأصنام أم سواها.

فالتفت إبراهيم موبّخا لهم ومبينا موقفة منهم و( قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ )

أجل إنّهم جميعا أعدائي وأنا معاديهم ، ولا أسالمهم أبدا

وممّا ينبغي الالتفات إليه أن إبراهيم الخليلعليه‌السلام يقول : «فإنّهم عدوّ لي» وإن كان لازم هذا التعبير أنّه عدوّ لهم أيضا ، إلّا أن هذا التعبير لعله ناشئ من أن عبادة الأصنام أساس الشقاء والضلال وعذاب الدنيا والآخرة «للإنسان» ، وهذه الأمور في حكم عداوتها للإنسان. أضف إلى ذلك أنه يستفاد من آيات متعددة من القرآن أن الأصنام تبرأ من عبدتها يوم القيامة وتعاديهم ، وتحاججهم بأمر الله وتنفر

٣٩٣

منهم.(1)

واستثناء ربّ العالمين مع أنّه لم يكن من معبوداتهم ، وكما يصطلح عليه استثناء منقطع ، إنّما هو للتأكيد على التوحيد الخالص.

كما يرد هذا الاحتمال وهو أن من بين عبدة الأصنام من كان يعبد الله إضافة إلى عبادة الأصنام ، فاستثنى إبراهيم «ربّ العالمين» من الأصنام ، رعاية لهذا الموضوع

وذكر الضمير «هم» الذي يستعمل عادة للجمع «في العاقلين» وقد ورد في شأن الأصنام ، لما ذكرناه من بيان آنفا

ثمّ يصف إبراهيم الخليل ربّ العالمين ويذكر نعمه المعنوية والماديّة ، ويقايسها بالأصنام التي لا تسمع الدعاء ولا تنفع ولا تضرّ ، ليتّضح الأمر جليّا

فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول :( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) فقد هداني في عالم التكوين ، ووفر لي وسائل الحياة المادية والمعنوية ، كما هداني في عالم التشريع فأوحى إليّ وأرسل إليّ الكتاب السماوي

وذكر «الفاء» بعد نعمة الخلق ، هو إشارة إلى أن الهداية لا تنفصل عن الخلق أبدا ، وجملة (يهدين) الواردة بصيغة الفعل المضارع ، دليل واضح على استمرار هدايته ، وحاجة الإنسان إليه في جميع مراحل عمره!

فكأن إبراهيم في كلامه هذا يريد أن يبيّن هذه الحقيقة ، وهي إنّني كنت مع الله منذ أن خلقني ، ومعه في جميع الأحوال ، وأشعر بحضوره في حياتي ، فهو وليي حيث ما كنت ويقلبني حيثما شاء!

وبعد بيان أولى مراحل الربوبية ، وهي الهداية بعد الخلق ، يذكر إبراهيم الخليلعليه‌السلام النعم المادية فيقول :( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) .

__________________

(1) لمزيد الإيضاح في هذا الصدد يراجع تفسير الآية (82) من سورة مريم.

٣٩٤

أجل ، إنّني أرى النعم جميعا من لطفه ، فلحمي وجلدي وطعامي وشرابي ، كل ذلك من بركاته!

ولست مشمولا بنعمة في حال الصحة فقط ، بل في كل حال( وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) .

ومع أنّ المرض أيضا قد يكون من الله ، إلّا أن إبراهيم نسبه إلى نفسه رعاية للأدب في الكلام

ثمّ يتجاوز مرحلة الحياة الدنيا إلى مرحلة أوسع منها إلى الحياة الدائمة في الدار الآخرة ، ليكشف أنه على مائدة الله حيثما كان ، لا في الدنيا فحسب ، بل في الآخرة أيضا. فيقول :( وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ) .

أجل ، إنّ موتي بيده وعودتي إلى الحياة مرّة أخرى منه أيضا

وحين أرد عرصات يوم القيامة أعلّق حبل رجائي على كرمه :( وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) .

وممّا لا شك فيه أن الأنبياء معصومون من الذنب ، وليس عليهم وزر كي يغفر لهم ...إلّا أنّه ـ كما قلنا سابقا ـ قد تعدّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين أحيانا ، وقد يستغفرون أحيانا من عمل صالح لأنّهم تركوا خيرا منه فيقال عندئذ في حق أحدهم : ترك الأولى.

فإبراهيمعليه‌السلام لا يعوّل على أعماله الصالحة ، فهي لا شيء بإزاء كرم الله ، ولا تقاس بنعم الله المتواترة ، بل يعوّل على لطف الله فحسب ، وهذه هي آخر مرحلة من مراحل الانقطاع إلى الله!

وملخّص الكلام أن إبراهيمعليه‌السلام من أجلّ أن يبيّن المعبود الحقيقي يمضي نحو خالقيّة الله أولا ، ثمّ يبيّن بجلاء مقام ربوبيته في جميع المراحل :

فالمرحلة الأولى مرحلة الهداية.

ثمّ مرحلة النعم الماديّة ، وهي أعمّ من إيجاد المقتضي والظروف الملائمة أو

٣٩٥

دفع الموانع

والمرحلة الأخيرة هي مرحلة الحياة الدائمة في الدار الأخرى ، فهناك يتجلّى وجه الرب بالهبات والصفح عن الذنوب ومغفرتها!

وهكذا يبطل إبراهيم الخرافات التي كانت في قومه ، من تعدد الآلهة والأرباب وينحني خضوعا للخالق العظيم.

* * *

٣٩٦

الآيات

( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) )

التّفسير

دعاء إبراهيمعليه‌السلام :

من هنا تبدأ أدعية إبراهيم الخليل وسؤالاته من الله ، فكأنّه بعد أن دعا قومه الضالين نحو الله ، وبيّن آثار الربوبية المتجليّة في عالم الوجود يتجه بوجهه نحو الله ويعرض عنهم ، فكل ما يحتاجه فانه يطلبه من الله ، ليكشف للناس ولعبدة الأصنام أنه مهما أرادوه من شؤون الدنيا والآخرة ، فعليهم أن يسألوه من الله ، وهو تأكيد آخر ـ ضمني ـ على ربوبيته المطلقة.

فأوّل ما يطلبه إبراهيم من ساحته المقدسة هو( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .

فالمقام الأوّل هنا الذي يريده إبراهيم لنفسه من الله هو الحكم ، ثمّ الإلحاق

٣٩٧

بالصالحين

و «الحكم» و «الحكمة» كلاهما من جذر واحد و «الحكمة» كما يقول عنها الراغب في مفرداته : هي الوصول إلى الحق عن طريق العلم ومعرفة الموجودات والأفعال الصالحة ، وبتعبير آخر : هي معرفة القيم والمعايير التي يستطيع الإنسان بها أن يعرف الحق حيثما كان ، ويميز الباطل في أي ثوب كان ، وهو ما يعبّر عنه عند الفلاسفة بـ «كمال القوّة النظرية».

وهي الحقيقة التي تلقّاها لقمان من ربّه( وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ ) .(1) وعبّر عنها بالخير الكثير في الآية (269) من سورة البقرة( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) .

ويبدو أنّ للحكم مفهوما أسمى من الحكمة أي إنّه العلم المقترن بالاستعداد للتنفيذ والعمل ، وبتعبير آخر : إن الحكم هو القدرة على القضاء الصحيح الخالي من الهوى والخطأ! أجل ، إنّ إبراهيمعليه‌السلام يطلب من الله قبل كل شيء المعرفة العميقة الصحيحة المقرونة بالحاكميّة ، لأن أي منهج لا يتحقق دون هذا الأساس!

وبعد هذا الطلب يسأل من الله إلحاقه بالصالحين ، وهو إشارة إلى الجوانب العملية ، أو كما يصطلح عليها بـ «الحكمة العملية» في مقابل الطلب السابق وهو «الحكمة النظرية»!

ولا شك أن إبراهيمعليه‌السلام كان يتمتع بمقام «الحكم» وكان في زمرة الصالحين أيضا فلم سأل الله ذلك؟!

الجواب على هذا السؤال هو أنّه ليس للحكمة حد معين ، ولا لصلاح الإنسان حدّ ، فهو يطلب ذلك ليبلغ المراتب العليا من العلم والعمل يوما بعد يوم ، حتى وهو

__________________

(1) سورة لقمان ، الآية 12.

٣٩٨

في موقع النبوة ، وأنه من أولي العزم لا يكتفي بهذه العناوين

ثمّ ـ إضافة إلى ذلك ـ فإنّ إبراهيمعليه‌السلام يعلم أن كل ذلك من الله سبحانه ، ومن الممكن في أي لحظة أن تسلب هذه المواهب أو تزل به القدم ، لذا فهو يطلب دوامها من الله إضافة إلى التكامل ، كما أننا نخطو ونسير إن شاء الله في الصراط المستقيم ، ومع ذلك فكلّ يوم نسأل ربّنا في الصلاة أن يهدينا الصراط المستقيم ، ونطلب منه التكامل ومواصلة هذا الطريق!

وبعد هذين الطلبين يطلب موضوعا مهما آخر بهذه العبارة :( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) .

أي اجعلني بحال تذكرني الأجيال الآتية بخير ، واجعل منهجي مستمرا بينهم فيتخذوني أسوة وقدوة لهم فيتحركون ويسيرون في منهاجك المستقيم وسبيلك القويم

فاستجاب الله دعاء إبراهيم كما يقول سبحانه في القرآن الكريم :( وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ) .(1)

ولا يبعد أن يكون هذا الطلب شاملا لما سأله إبراهيم الخليل ربه بعد بناء الكعبة ، فقال :( رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ) .(2)

ونعرف أن هذا الدعاء تحقق بظهور نبيّ الإسلام. وذكر إبراهيم الخليل بالخير في هذه الأمة عن هذا الطريق ، وبقي هذا الذكر الجميل مستمرا

ثمّ ينظر إبراهيم إلى أفق أبعد من أفق الدنيا ، ويتوجه إلى الدار الآخرة ، فيدعو بدعاء رابع فيقول :( وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) .

«جنة النعيم» التي تتماوج فيها النعم المعنوية والمادية ، النعم التي لا زوال لها

__________________

(1) سورة مريم ، الآية 50.

(2) البقرة ، الآية 129.

٣٩٩

ولا اضمحلال النعم التي لا يمكن أن نتصورها نحن ـ سجناء الدنيا ـ فهي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت!

وقلنا سابقا : إن التعبير بالإرث في شأن الجنّة إمّا لأنّ معنى الإرث الحصول على الشيء دون مشقّة وعناء ، ومن المسلّم أن تلك النعم التي في الجنّة تقاس بطاعاتنا ، فطاعاتنا بالنسبة لا تمثل شيئا إليها! أو أنّ ذلك ـ طبقا لما ورد في بعض الرّوايات ـ لأن كل إنسان له بيت في الجنة وآخر في النار ، فإذا دخل النّار ورث الآخرون بيته في الجنّة

وفي خامس أدعيته يتوجه نظره إلى عمّه الضالّ ، وكما وعده أنّه سيستغفر له ، فإنّه يقول في هذا الدعاء :( وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ ) .

وهذا الوعد هو ما صرحت به الآية (114) من سورة التوبة إذ تحكي عنه( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ) ! وعده من قبل ، وكان هدفه أن ينفذ إلى قلبه عن هذا الطريق ، وأن يجرّه إلى طريق الإيمان ، لذلك قال له مثل هذا القول وعمل به أيضا وطبقا لرواية عن ابن عباس أن إبراهيمعليه‌السلام استغفر لعمّه آزر مرارا ، إلّا أنه حين غادر آزر الدنيا كافرا وثبت عداؤه للدين الحق ، قطع إبراهيم استغفار عن عمه ، كما نرى في ذيل الآية النص التالي :( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) .(1)

وأخيرا فإنّ دعاءه السادس من ربّه في شأن يوم التغابن ، يوم القيامة ، بهذه الصورة( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) .

(ولا تخزني) ، مأخوذ من مادة (خزي) على زنة (حزب) وكما يقول الراغب في مفرداته ، معناه الذل والانكسار الروحي الذي يظهر على وجه الإنسان من

__________________

(1) لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية 114 سورة التوبة.

٤٠٠