الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181121 / تحميل: 6370
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) )

التّفسير

عند ما تعدّ الطهارة عيبا كبيرا!

لاحظنا ـ في ما سبق من البحوث ـ منطق نبي الله العظيم «لوط» ، ذلك المنطق المتين أمام المنحرفين الملوثين ، وبيانه الاستدلالي الذي كان يعنّفهم على عملهم القبيح ، ويكشف لهم نتيجة جهلهم وعدم معرفتهم بقانون الخلق وبجميع القيم الإنسانية.

والآن ، لنستمع الى جواب هؤلاء المنحرفين بماذا أجابوا منطق «لوط»؟!

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) .

١٠١

فجوابهم كاشف عن انحطاطهم الفكري والسقوط الأخلاقي البعيد!.

أجل إنّ الطهارة تعدّ عيبا ونقصا في المحيط الموبوء ، وينبغي أن يلقى أمثال يوسف المتعفف في السجن ، وأن يطرد آل لوط نبيّ الله العظيم ويبعدوا ـ لأنّهم يتطهرون ـ خارج المدينة ، وأن يبقى أمثال «زليخا» أحرارا أولي مقام كما ينبغي أن يتمتع قوم لوط في مدينتهم دون حرج!.

وهذا هو المصداق الجلي لكلام القرآن في الضالين ، إذ يقول :( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) بسبب أعمالهم السيئة المخزية.

ويحتمل في جملة( إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) أن قوم لوط لانحرافهم وغرقهم في الفساد ، وتطبعهم وتعودهم على التلوّث ، كانوا يقولون مثل هذا الكلام من باب السخرية والاستهزاء أي إنّهم يتصورون أن أعمالنا قبيحة وغير طاهرة! وأن تقواهم من التطهر ، فما أعجب هذا الكلام! إنه لمهزلة!.

وليس هذا غريبا أن يتبدل إحساس الإنسان ـ نتيجة تطبعه بعمل قبيح ـ فيتغير سلوكه ونظرته فقد سمعنا بقصّة الدباغ المعروفة ، إذ ورد أن رجلا كان يدبغ الجلود المتعفنة دائما ، وتطبعت «شامّته» برائحة الجلود «العفنة» فمرّ ذات يوم في سوق العطارين ، فاضطرب حاله وأغمي عليه ، لأنّ العطور لا تناسب «شامّته» فأمر رجل حكيم أن يؤخذ إلى سوق الدباغين لانقاذه من الموت فهذا مثال حسيّ طريف لهذا الموضوع المنطقي.

جاء في الرّوايات أن لوطا كان يبلغ قومه حوالي ثلاثين عاما وينصحهم ، إلّا أنّه لم يؤمن به إلّا أسرته وأهله باستثناء زوجته فإنّها كانت من المشركين وعلى عقيدتهم(١) .

بديهي أن مثل هؤلاء القوم لا أمل في إصلاحهم في عالم الدنيا ، فينبغي أن يطوى «طومار» حياتهم ، لذلك تقول الآية التالية في هذا الشأن( فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٣٨٢.

١٠٢

إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) (١) .

وبعد أن خرج آل لوط في الموعد المعين «سحر ليلة كانت المدينة غارقة فيها بالفساد» فلمّا أصبح الصباح نزلت عليهم الحجارة من السماء ، وتزلزلت الأرض بهم ، فدفنوا جميعا تحت الحجارة والأنقاض ، والى هذا تشير الآية الكريمة التالية( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ) .

وكان لنا بحث مفصل في قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة وآثار الانحراف الجنسي ، في ذيل الآيات ٧٧ ـ ٨٣ من سورة هود ، ولا حاجة إلى تكراره.

إن قانون الخلق عيّن لنا مسيرا لو سلكناه لكان ذلك مدعاة لتكاملنا وحياتنا ، ولو انحرفنا عنه لكان باعثا على سقوطنا وهلاكنا.

فقانون الخلق جعل الجاذبية الجنسية بين الجنسين المتخالفين عاملا لبقاء نسل الإنسان واطمئنان روحه. وتغيير المسير نحو الانحراف الجنسي «اللواط أو السحاق» يذهب بالاطمئنان الروحي والنظام الاجتماعي.

وحيث أن لهذه القوانين الاجتماعية جذرا في الفطرة ، فالتخلف «أو الانحراف» يسبب الاضطراب وعدم الانسجام في نظام وجود الإنسان!.

فلوط نبيّ الله العظيم نبّه قومه المنحرفين إلى هذا الأساس «الفطري» فقال لهم :( أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) ؟! فالجهل وعدم معرفتكم بقانون الحياة والسفاهة هو الذي يقودكم إلى الضلال والتيه!.

فلا عجب أن تتغير سائر قوانين الخلق في شأن هؤلاء القوم الضالين ، فبدلا من أن يغاثوا بماء من السماء يهب الحياة يمطرون بالحجارة وبدلا من أن تكون الأرض مهادا وثيرا لهم تضطرب وتتزلزل ويقلب عاليها سافلها ، لئلا يقتصر الحال على هلاكهم فحسب ، بل لتمحى آثارهم!.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث ، وبعد بيان ما جرى على لوط وقومه

__________________

(١) «الغابرين» جمع الغابر ومعناه هنا الباقي من الذاهبين من المكان.

١٠٣

المنحرفين ، يتوجه الخطاب إلى النّبي الكريم «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستنتج ممّا سبق ، فيقول له :( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) .

الحمد والثناء الخاص لله ، لأنّه أهلك أمما مفسدين كقوم لوط ، لئلا تتلوث الأرض من وجودهم!.

الحمد لله الذي أبار قوم صالح ثمود ، وفرعون وقومه المفسدين ، وجعل آثارهم عبرة للمعتبرين.

وأخيرا فالحمد لله الذي أنعم وتفضل على عباده المؤمنين كداود وسليمان وأمثالهما ، وأولاهم القوّة والقدرة ، وهدى القوم الضالين كقوم سبأ.

ثمّ يضيف قائلا :( وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ) .

سلام على موسى وصالح ولوط وسليمان وداود ، وسلام على جميع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين ، ومن والاهم بإحسان.

ثمّ يقول :( آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) (١) !!

رأينا في قصص هؤلاء الأنبياء أن الأصنام لم تستطع عند نزول البلاء أن تسعف اتباعها ، أو تقوم بأدنى مساعدة لهم! غير أن الله سبحانه لم يترك عباده وحدهم في هذه الخطوب ، بل أعانهم بلطفه الذي لا ينفذ!

* * *

__________________

(١) (آلله) أصلها (أالله) فانقلبت إحدى الهمزتين ألفا ثمّ صارت مدة كما هي عليه الآن وجملة (أمّا يشركون) أصلها (أم ما يشركون) إذ أدغمت (أم) المعادلة الاستفهامية بما الموصولة فصارت (أمّا).

١٠٤

الآيات

( أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) )

التّفسير

أمع كلّ هذه الأدلة ما تزالون مشركين؟!

في آخر آية من آيات البحث السابق ، وبعد ذكر جوانب مثيرة من حياة

١٠٥

خمسة أنبياء عظام ، ألقي هذا السؤال الوجيز المتين( آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) ؟!

أمّا في الآيات محل البحث فتفصّل السؤال وتوجه للمشركين خمس آيات تبدأ بخمسة أسئلة ، لتناقش المشركين وتحاكمهم ، وتكشف دلائل التوحيد في الآيات الخمس في اثني عشر مثلا!

فالآية الأولى من هذه الآيات تتحدث عن خلق السماوات والأرض ، ونزول الماء من السماء والبركات الناشئة عنه ، فتقول : هل أن معبوداتكم أفضل( أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ) .(١) (٢)

«الحدائق» جمع «الحديقة» ، وهي كما يقول كثير من المفسرين : البستان الذي يحيطه الجدار أو الحائط ، ومحفوظ من جميع الجهات ، ومنها سمّيت حدقة العين حدقة لأنّها محفوظة بين الجفنين والهدب ، أمّا الراغب فيقول في المفردات : إنّ الحديقة تطلق في الأصل على الأرض المجتمع فيها الماء ، كما أنّ حدقة العين فيها الماء دائما.

ويستفاد من مجموع هذين الرأيين أن الحديقة بستان له جدار وماء كاف.

و «البهجة» على وزن (لهجة) معناها الجمال وحسن الظاهر الذي يسر الناظرين.

ويتوجه الخطاب نحو العباد في ختام الآية فيقول :( ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ) .

__________________

(١) كلمة (ذات) في «ذات بهجة» جاءت مفردة ، مع أن حدائق جمع وهي موصوفها ، وذلك لأنّ الحدائق جمع تكسير ، وجمع التكسير قد يأتي أحيانا بمعنى الجماعة ، وهي ـ أي لفظة الجماعة ـ مفرد وصفتها مفردة أيضا

(٢) هذه الآية في الحقيقة فيها حذف وتقديره : ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض؟ وفي الحقيقة إن السؤال في الآية السابقة كان هكذا : الله خير أم الشركاء؟ وهنا يبدأ السؤال بالعكس : ما يشركون خير أم من خلق السماوات والأرض.

١٠٦

فأنتم تستطيعون أن تنثروا البذور وتسقوا الأرض ، لكن الذي جعل الحياة في قلب البذرة ، وأمر الشمس أن تشرق على الأرض ، والماء ينزل من السماء حتى تنبت البذرة فتكون شجرا ، هو الله فحسب.

فهذه حقائق لا يمكن إنكارها ، ولا أن تنسب لغير الله فهو الذي خلق السماوات والأرض ، وهو الذي أنزل الغيث من السماء ، وهو مبدأ هذه البهجة والحسن والجمال في عالم الحياة!.

إن مجرّد التأمل في لون الزهرة الجميلة ، وأوراقها اللطيفة المنظمة التي تشكل حلقة رائعة كاف أن يجعل الإنسان عارفا بعظمة الخالق وقدرته وحكمته فهذه الأمور تهز قلب الإنسان وتدعوه إلى الله.

وبتعبير آخر فإن التوحيد في الخلق يؤدي الى «توحيد الخالق» ، والتوحيد في الربوبيّة «توحيد مدبّر هذا العالم» باعث على «توحيد العبادة»!.

ولذلك فالقرآن يقول في نهاية الآية :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ولكن هؤلاء جهلة عدلوا عن الله وعبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم( بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) (١) .

والسؤال الثّاني بحث عن موهبة استقرار الأرض وثباتها ، وأنّها مقر الإنسان في هذا العالم ، فيقول : هل أنّ أصنامكم أفضل ،( أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ ) (٢) كما تحافظ على القشرة الارضية من الزلازل ، كما( وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ) ومانعا من اختلاط البحر المالح بالبحر العذب.

وهكذا فقد ورد في هذه الآية ذكر أربع نعم عظيمة ، ثلاث منها تتحدث عن استقرار الأرض! فتقول :

إن استقرار الأرض في الوقت الذي تتحرك بسرعة وتدور حول نفسها

__________________

(١) قد يكون (يعدلون) من مادة (العدول) أي الانحراف والرجوع من الحق إلى الباطل ، أو أنّه مادة (عدل) على وزن (قشر) ومعناه المعادل والنظير ففي الصورة الأولى مفهوم الآية أنّهم ينحرفون عن الله الواحد إلى غيره ، وفي الصورة الثّانية مفهومها أنّهم يجعلون له عديلا.

(٢) «الخلال» في الأصل معناه الشق بين الشيئين. و «الرواسي» جمع «راسية» ، وهي الثابتة.

١٠٧

وحول الشمس ، وتتحرك في المنظومة الشمسية وحركة هادئة وفي وتيرة واحدة ، إلى درجة أن سكّانها لا يحسّون بحركتها أبدا فكأنّها أوتدت في مكان واحد! وبقيت ثابتة فلا يرى فيها أقلّ حركة.

والنعمة الأخرى وجود الجبال ، التي قلنا عنها سابقا أنّها تحيط بالأرض ، وجذورها متصلة بعضها ببعض كالحاجر القوي الذي يقاوم الضغوط الداخلية للأرض ، وحركات الجزر والمدّ الذين يحصلان بسبب جاذبية القمر ، كما أنّها تعبر مانعا امام الأعاصير والسيول من أن تدمّر الأرض بطغيانها!

والنعمة الأخرى الحجاب الحاجز بين البحرين ، والحائل الطبيعي الذي يحول بين الماء المالح والماء العذب ، وهذا الحجاب ـ غير المرئي ـ هو الاختلاف في درجة الغلظة بين الماء العذب والماء المالح ، أو كما يصطلح عليه اختلاف «الوزن النوعي» الخاص الذي يسبب عدم انحلال مياه الأنهار العظيمة العذبة التي تنصب في البحار المالحة لمدّة طويلة ، وعند حالة «المدّ» تتمدد هذه المياه العذبة على السواحل الصالحة للزراعة فتسقيها (وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع ذيل الآية ٥٣ من سورة الفرقان).

وفي الوقت ذاته جعل الله خلال أجزاء الأرض المختلفة أنهارا تسقي المزارع والأحياء فتخضرّ البساتين وتثمّر الأشجار وبعض مصادر هذه المياه تكمن في قمم الجبال وبعضها بين الطبقات الأرضيّة!.

ترى هل يمكن أن يكون هذا النظام قد ولد عن طريق الصدفة العمياء الصمّاء ، والمبدأ الفاقد للعقل والحكمة؟! وهل للأصنام تأثير في هذا النظام البديع المثير للدهشة؟!

حتى عبدة الأصنام لا يدعون مثل هذا الادعاء! لذلك يكرر القرآن في ختام الآية هذا السؤال :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ؟! حاش لله( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

السؤال الثّالث من هذه الأسئلة الخمسة التي تحكي عن محاورة ومحاكمة

١٠٨

المعنوية يتحدث عن حلّ المشكلات ، وفتح الطرق الموصدة ، وإجابة الدعاء ، إذ تقول الآية التالية :( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ) .

أجل عند ما تغلق جميع أبواب عالم الأسباب بوجه الإنسان ، ويبلغ النصل إلى العظم ، ويغدو مضطرا حيرانا لا حيلة له ، فإنّ الذي يحلّ المعضلة ، ويفتح الأقفال ، ويزيل السدود عن الطرق ، وينثر في القلوب نور الأمل ، ويفتح أبواب الرحمة بوجه الناس المتحيرين ، هو الله لا غير!.

وحيث أنّ الناس يدركون هذه الحقيقة بالفطرة في اعماق نفوسهم جميعا ، فإنّ المشركين حين يقعون بين أمواج البحر المتلاطمة ينسون جميع معبوديهم ويتوجهون نحو لطف الله ، كما يقول القرآن :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (١)

لذلك تضيف الآية قائلة : إنّه لا ينقذكم من هذه المآزق والشدائد فحسب ، بل :( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ولكنكم لا تتعضون بهذه الدلائل( قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ) (٢) .

وحول مفهوم المضطر ، ومسألة استجابه الدعاء وشروطها ، بحوث ستأتي في نهاية هذه الآيات!

والمراد من( خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) لعله بمعنى «سكنة الأرض» وأصحابها لأنّ الله جعل الإنسان حاكما على هذه الأرض ، مبسوط اليد فيها بما أولاه من النعم وأسباب الرفاه والدعة والاطمئنان!.

ولا سيما حين يقع الإنسان في شدّة ، فيغدو مضطرا ويتجه نحو خالقه الكريم ـ فيرفع بكرمه البلايا والموانع ـ فتستحكم أسس هذه الخلافة وهنا

__________________

(١) العنكبوت ، الآية ٦٥.

(٢) (ما) في قوله تعالى :( قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ ) زائدة ظاهرا ، ونعرف أن الحروف الزائدة في كثير من المواطن للتأكيد ، و (قليلا) صفة لمصدر محذوف وتقديره : تتذكرون تذكرا قليلا.

١٠٩

تتجلى العلاقة بين شطري الآية.

كما قد يكون المراد بهذا المعنى ، وهو أنّ الله جعل ناموس الحياة أن يخلف قوم قوما على الدوام ، بحيث لو لم يكن هذا التناوب لم تغد الصورة متكاملة(١) !.

ويثير القرآن في السؤال الرّابع مسألة الهداية فيقول : هل أن الأصنام أفضل ،( أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) بواسطة النجوم( وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) ؟!!.

فالرياح التي تدل على نزول الغيث ، وكأنّها رسل البشرى تتحرك قبل نزول الغيث ، إنّها في الحقيقة تهدي الناس إلى الغيث أيضا.

والتعبير بـ( بُشْراً ) في شأن الرياح ، والتعبير بـ( بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) في شأن الغيث ، كلاهما تعبيران طريفان لأنّ الرياح هي التي تحمل الرطوبة في الجو وتنقل أبخرة الماء من على وجه المحيطات بشكل قطعات من السحب على متونها ، إلى النقاط اليابسة ، وتخبر عن قدوم الغيث!

وكذلك الغيث الذي ينشد نغمة الحياة على وجه البسيطة ، وحيثما نزل حلت البركة والرحمة(٢) .

(ذكرنا شرحا مفصلا في تأثير الرياح في نزول الغيث في ذيل الآية ٥٧ من سورة الأعراف).

ويخاطب القرآن في ختام الآية المشركين مرّة أخرى فيقول :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ؟! ثمّ يضيف دون أن ينتظر الجواب قائلا( تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

أمّا في آخر آية من الآيات محل البحث ، فيثير القرآن السؤال الخامس في

__________________

(١) فبناء على هذا المعنى يكون (خلفاء الأرض) بمعنى : خلفاء في الأرض.

(٢) «بشر» على وزن «عشر» ـ كما ذكرنا آنفا ـ مخفف بشر على وزن «كتب» ، وهي جمع «بشور» على وزن «قبول» ومعناه المبشر.

١١٠

شأن المبدأ والمعاد بهذه الصورة ، فيقول : هل أنّ أصنامكم أفضل ،( أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) فهل بعد ذلك تعتقدون بوجود معبود غير الله( قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ؟!

وفي الواقع فإن الآيات المتقدمة كلها كانت تتكلم على المبدأ ، وايات عظمة الله في عالم الخلق والوجود ، ومواهبه ونعمه ، إلّا أنّه في الآية الأخيرة ينتقل البحث من معبر ظريف إلى مسألة المعاد ، لأنّ بداية الخلق نفسها دليل على تحققها ، والقدرة على بداية الخلق تعد دليلا واضحا على المعاد.

ومن هنا يتّضح الجواب على السؤال الذي يثيره كثير من المفسّرين ، وهو أن المشركين المخاطبين بهذه الآيات أغلبهم لم يعتقدوا بالمعاد «المعاد الجسماني» فكيف يمكن أن يوجه إليهم هذا السؤال مع هذه الحال ويطلب منهم الإقرار.

فالجواب عليه أن هذا السؤال مقرون بدليل يسوق الطرف الآخر للإقرار ، لأنّه باعترافهم أن بداية الخلق من الله ، وهذه المواهب والنعم كلّها منه ، لكي تقبل عقولهم إمكان المعاد والرجوع الى الحياة في يوم القيامة مرّة أخرى.

والمراد من (الرزق السماوي) هو الغيث ونور الشمس وأمثال ذلك ، أمّا (الرزق الارضي) فالنباتات والمواد الغذائية المختلفة التي تنمو على الأرض مباشرة ، أو عن طريق غير مباشر كالأنعام والمعادن والمواد المختلفة التي يتمتع بها الإنسان في حياته!.

* * *

بحوث

١ ـ من المضطر الذي يجاب إذا دعاه؟

مع أنّ الله ـ يجيب دعاء الجميع عند تحقق شروط الدعاء ، إلّا أنّ في الآيات آنفة الذكر اهتماما بالمضطر ، وذلك لأنّ من شروط إجابة الدعاء أن يغمض

١١١

الإنسان عينيه عن عالم الأسباب كليّا ، وأن يجعل قلبه وروحه بين يدي رحمة الله ، وأن يرى كل شيء منه وله! وأن حل كل معضلة بيده ، وهذه النظرة وهذا الإدراك إنّما يتحققان في حال الاضطرار.

وصحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب والمسببات ، والمؤمن يبذل منتهى سعيه وجهده في هذا الشأن إلّا أنّه لا يضيع في عالم الأسباب أبدا ويرى كل شيء من بركات ذاته المقدسة ، ويرى من وراء الحجاب ببصره النافذ «مسبب الأسباب» فيطلب منه ما شاء!.

أجل ، إذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة ، فإنه يوفّر لنفسه أهم شرط لإجابة الدعاء.

الطريف أنّه قد ورد في بعض الرّوايات تفسير هذه الآية بقيام المهدي صلوات الله وسلامه عليه!

ففي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «والله لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد الله حقّه قال والله هو المضطر في كتاب الله في قوله :( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) »(١) !

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «نزلت في القائم من آل محمّدعليهم‌السلام هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا اللهعزوجل فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض»(٢) .

ولا شك أن هذا التّفسير ـ كما رأينا نظائره الكثيرة ـ لا يحصر المراد من هذه الآية بالمهديعليه‌السلام ، بل مفهوم الآية واسع ، والمهديعليه‌السلام واحد من مصاديقها الجليّة إذ الأبواب في زمانه موصدة ، والفساد عمّ البسيطة ، والبشرية في طريق

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٩٤.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٩٤.

١١٢

مسدود ، وحالة الاضطرار ظاهرة في جميع العالم فعندئذ يظهر الإمام في أقدس بقعة فيطلب كشف السوء ، فيلبي الله دعوته ، ويجعله بداية «الظهور» المبارك في العالم ، ويستخلفه في الأرض هو وأصحابه ، فيكون مصداقا لقوله تعالى( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) .

«كان لنا بحث في شروط إجابة الدعاء وأهميته ، وفي سبب عدم الإجابة ، فصّلناه في ذيل الآية (١٨٦) من سورة البقرة»

٢ ـ الاستدلال المنطقي في كلّ مكان

نقرأ في آيات القرآن ـ مرارا ـ أنّه يطالب المخالفين بالدليل ، وخاصة بقوله :( هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) وقد جاء هذا النص في أربعة مواضع البقرة : الآية ١١٥ ، الأنبياء :الآية ٢٤ ، النمل : الآية ٦٤ ، والقصص : الآية ٧٥ كما أنّه أكّد في مواضع أخرى على البرهان خاصة «والمراد من البرهان : أصدق دليل».

وهذا المنطق (المطالبة بالبرهان) للإسلام يحكي عن محتواه الغني والقوي ، لأنّه يسعى لأن يواجه مخالفيه مواجهة منطقية ، فكيف يطالب الآخرين بالبرهان وهو لا يكترث به؟! فآيات القرآن المجيد مملوءة بالاستدلالات المنطقية والبراهين العلمية في المسائل المتعددة!.

وهذا الأمر على خلاف ما حرفته المسيحية اليوم ـ وعوّلت عليه ، وترى أن الدين هو ما يوحيه القلب!! وتفصل العقل عنه إذ تراه أجنبيا عنه حتى أنّها تؤمن بالتناقضات العقلية كالتوحيد في التثليث ، ومن هنا فقد سمحت للخرافات أن تدخل في الدين ، مع أن الدين لو خلا من العقل والاستدلال العقلي فسوف لا يقوم دليل عليه ، ويكون ذلك الدين وما يضادّه سواء!.

وتبرز عظمة هذا المنهج (وهو الاهتمام بالبرهان ودعوة المخالفين إلى الاستدلال المنطقي) حين نلتفت إلى أن الإسلام ظهر في محيط يعيش الخرافات

١١٣

التي لا أساس لها والمسائل غير المنطقية في جميع مفاصل منظومته الفكرية والمعرفية!!

٣ ـ خلاصة عامّة ومرور على الآيات السابقة

في الآيات السابقة كان اهتمام القرآن منصبا لإثبات «توحيد المعبود» على «توحيد الخالق» ، و «توحيد الرب» اي (توحيد الخلق وتوحيد التدبير) وتحدّث عن اثنتي عشرة آية وعلامة لله العظيم في عالم الوجود :

١ ـ السماء والأرض.

٢ ـ نزول الغيث.

٣ ـ بركاته في الحياة.

٤ ـ قرار الأرض.

٥ ـ الأنهار.

٦ ـ الجبال الرواسي.

٧ ـ الحاجز بين البحرين (العذب والمالح).

٨ ـ إجابة دعوة العباد.

٩ ـ هدايتهم في ظلمات البر والبحر.

١٠ ـ إرسال الرياح بشرا بين يدي رحمته.

١١ ـ بدء الخلق وإعادته.

١٢ ـ رزق الإنسان «وسائر الخلق» من السماء والأرض.

هذه المواهب «والنعم» الاثنتا عشرة بيّنت في خمس آيات وضمن خمسة أسئلة!. وكانت تعالج الأمور الخمسة التالية على التوالي :

١ ـ الخلق.

٢ ـ والاستقرار.

١١٤

٣ ـ كشف الضرّ.

٤ ـ الهداية.

٥ ـ إعادة الحياة (بعد الموت).

وقد عقّب ذيل كل واحد من الأسئلة الخمسة ، بقوله تعالى :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) ؟! وقد أوضح القرآن في نهاية كل سؤال أمورا ، فأشار في نهاية الآية الأولى إلى انحراف المخالفين عن الحق.

وأشار في الآية الثّانية إلى جهلهم.

وأشار في الآية الثّالثة إلى عدم تفكيرهم!

وأشار في الآية الرابعة إلى انحطاط أفكارهم.

وطالبهم في نهاية الآية الخامسة بالاستدلال!

وقد أبدى القرآن بشكل عام مجموعة من الأسئلة الجامعة والمنسجمة بعضها مع بعض.

* * *

١١٥

الآيات

( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) )

التّفسير

لمّا كان البحث في آخر الآيات السابقة عن القيامة والبعث ، فإن الآيات ـ محل البحث ـ تعالج هذه المسألة من جوانب شتى ، فتجيب أولا على السؤال الذي يثيره المشركون دائما ، وهو قولهم : متى تقوم القيامة؟ و «متى هذا الوعد»؟! فتقول :( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) !

لا شك أن علم الغيب ـ ومنه تاريخ وقوع القيامة ـ خاص بالله ، إلّا أنّه لا منافاة في أن يجعل الله بعض ذلك العلم عند من يشاء من عباده ، كما نقرأ في الآيتين (٢٦) و (٢٧) من سورة الجن( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا

١١٦

مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ) .

وبتعبير آخر فإنّ علم الغيب بالذات ، وبصورته المستقلة والمطلقة غير المحدودة ، خاصّ بالله سبحانه ، وكل علوم الآخرين مسترفدة من علمه تعالى. ولكن مسألة تاريخ وقوع القيامة مستثناة من هذا الأمر أيضا ، ولا يعلم بها أحد «إلّا الله»(١) .

ثمّ يتكلم القرآن عن عدم علم المشركين بيوم القيامة وشكهم وجهلهم ، فيقول :( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ) .

«ادّارك» في الأصل «تدارك» ومعناه التتابع أو لحوق الآخر بالأوّل ، فمفهوم جملة :( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) أنّهم لم يصلوا إلى شيء بالرغم ممّا بذلوه من تفكير ، وجمعوا المعلومات في هذا الشأن ، لذلك فإنّ القرآن يضيف مباشرة بعد هذه الجملة( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ) . لأنّ دلائل الآخرة ظاهرة في هذه الدنيا ، فعودة الأرض الميتة إلى الحياة في فصل الربيع ، وإزهار الأشجار وإثمارها مع أنّها كانت في فصل الشتاء جرداء! ومشاهدة عظمة قدرة الخالق في مجموعة الخلق والوجود ، كلها دلائل على إمكان الحياة بعد الموت ، إلّا أنّهم كالعمي الذين لا يبصرون كل شيء!

وبالطبع فإنّ هناك تفاسير أخر للجملة أعلاه ، منها أنّ المراد من( ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) أن أسباب التوصل للعلم في شأن الآخرة متوافرة ومتتابعة ، إلّا أنّهم عمي عنها.

وقال بعضهم : إنّ المراد منها أنّهم عند ما تكشف الحجب في يوم الآخرة ، فإنّهم سيعرفون حقائق الآخرة بشكل كاف.

__________________

(١) كان لنا بحوث مفصلة في علم الغيب في الأجزاء السابقة في هذا التّفسير.

١١٧

إلّا أنّ الأنسب من بين هذه التفاسير الثلاثة هو التّفسير الأوّل حيث يناسب بقية الجمل في الآية ، والبحوث الواردة في الآيات الأخر!.

وهكذا فقد ذكرت ثلاث مراحل لجهل المنكرين (للآخرة).

الأولى : أنّ إنكارهم وإشكالهم هو لأنّهم يجهلون خصوصيّات الآخرة «وحيث أنّهم لم يروها فهم يظنون الحقيقة خيالا».

الثّانية : أنّهم في شك من الآخرة أساسا ، وسؤالهم عن زمان تحققها ناشئ من أنّهم في شك منها!.

الثّالثة : أن جهلهم وشكهم ليس منشؤهما أنّهم لا يملكون دليلا أو دلائل كافية على الآخرة ، بل الأدلة متوفرة إلّا أن أعينهم عمي عنها!

والآية التالية : توجز منطق منكري القيامة والبعث في جملة واحدة ، فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ ) ؟!

فهم مقتنعون بهذا المقدار ، أنّ هذه المسألة بعيدة (أن يتحول الإنسان إلى تراب ثمّ يعود إلى الحياة)! مع أنّهم كانوا أوّل الأمر ترابا وخلقوا من التراب ، فما يمنع أن يعودوا إلى التراب ، ثمّ يرجعون أحياء بعد أن كانوا ترابا!

الطريف أنّنا نواجه مثل هذا الاستبعاد في ثمانية مواضع من القرآن ، فهم يشكون في مسألة القيامة في المواضع آنفة الذكر بمجرّد استبعاد عودتهم إلى الحياة من «التراب» ثانية!.

ثمّ يحكي القرآن عمّا يضيفه المشركون من قول :( لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ ) ولكن لم نجد أثرا لهذا الوعد ولن يوجد( إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

فما هي سوى خرافات وخزعبلات القدماء.

فبناء على هذا فإنّهم يبدأون من الاستبعاد ثمّ يجعلونه أساسا للإنكار المطلق فكأنّهم كانوا ينتظرون أن تتحقق القيامة عاجلا ، وحيث أنّهم لم يشهدوا

١١٨

ذلك في حياتهم فهم ينكرونه.

وعلى كل حال ، فهذه التعبيرات جميعها تدل على غفلتهم وغرورهم!.

ويستفاد ـ ضمنا من هذا التعبير ـ أنّهم أرادوا أن يسخروا من كلام النّبي في شأن يوم القيامة ، ويطعنوا عليه ، فيقولوا : إن هذه الوعود الباطلة سبقت لأسلافنا ، فلا جديد فيها يستحق بذل التفكير والمراجعة!.

* * *

١١٩

الآيات

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) )

التّفسير

لا يضيق صدرك بمؤامراتهم :

كان الكلام في الآيات السابقة عن إنكار المعاندين الكفار للمعاد ، واستهزائهم وتكذيبهم باليوم الآخر.

ولما كان البحث المنطقي غير مجد لهؤلاء القوم المعاندين والأعداء الألدّاء ، بالإضافة إلى ما أقامته الآيات الأخر من الدلائل الوافرة على المعاد ممّا يرى كلّ يوم في عالم النباتات وفي عالم الأجنّة ، وما إلى ذلك ، فإنّ الآيات محل البحث

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

الذنوب والعداء الدائم لطلاب الحق والقادة الصادقين كل هذه الأمور تلقي على فكر الإنسان حجابا يفقده القدرة على رؤية أقل شعاع لشمس الحقيقة والحق ، ولأنّ هذه الحالة من نتائج الأعمال التي يقوم بها الإنسان ، فلا تكون دليلا على الجبر ، بل هي عين الإختيار ، والذي يتعلق بالله تعالى أنّه جعل في مثل هذه الأعمال أثرا.

هناك آيات عديدة في القرآن تشير إلى هذه الحقيقة ، وقد أشرنا الى ذلك في ذيل الآية (7) من سورة البقرة وآيات أخرى يمكن مراجعتها

وفي آخر الآية ـ محل البحث ورد كلام بمثابة الجملة المعترضة ليؤكّد المواضيع التي بحثت قصّة نوح في الآيات السابقة واللاحقة ، فتبيّن الآية أن الأعداء يقولون : إنّ هذا الموضوع صاغه «محمّد» من قبل نفسه ونسبه إلى الله( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) .

ففي جواب ذلك قل يا رسول الله : إن كان ذلك من عندي ونسبته إلى الله فذنبه عليّ( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي ) ولكني بريء من ذنوبكم( وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ «الإجرام» مأخوذ من مادة «جرم» على وزن «جهل» وكما أشرنا إلى ذلك ـ سابقا ـ فإنّ معناه قطف الثمرة غير الناضجة ، ثمّ أطلقت على كل ما يحدث من عمل سيء ، وتطلق على من يحث الآخر على الذنب أنّه أجرم ، وحيث أن الإنسان له ارتباط في ذاته وفطرته مع العفاف والنقاء ، فإنّ الإقدام على الذنوب يفصل هذا الارتباط الإلهي منه.

2 ـ احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية الأخيرة ليست ناظرة الى نبي الإسلام ، بل ترتبط بنوحعليه‌السلام نفسه ، لأنّ جميع هذه الآيات تتحدث عن نوحعليه‌السلام ، والآيات

٥٢١

المقبلة تتحدث عنه أيضا ، فمن الأنسب أن تكون هذه الآية في نوحعليه‌السلام ، والجملة الاعتراضية خلاف الظاهر ، ولكن مع ملاحظة ما يلي :

أوّلا : إنّ شبيه هذا التعبير وارد في سورة الأحقاف الآية (8) في نبي الإسلام.

ثانيا : جميع ما جاء في نوحعليه‌السلام في هذه الآيات كان بصيغة الغائب ، ولكن الآية ـ محل البحث ـ جاءت بصيغة المخاطب ، ومسألة الالتفات ـ أي الانتقال من ضمير الغيبة إلى المخاطب ـ خلاف الظاهر ، وإذا أردنا أن تكون الآية في نوحعليه‌السلام فإنّ جملة «يقولون» بصيغة المضارع ، وجملة «قل» بصيغة الأمر ، يحتاجان كليهما إلى التقدير!

ثالثا : هناك حديث في تفسير البرهان في ذيل هذه الآية عن الإمامين الصادقين الباقر والصادقعليهما‌السلام يبيّن أنّ الآية المتقدمة نزلت في كفار مكّة.

من مجموع هذه الدلائل نرى أن الآية تتعلق بنبي الإسلام ، والتهم التي وجهت إليه كان من قبل كفار مكّة ، وجوابه عليهم.

وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ الجملة الاعتراضية ليست كلاما لا علاقة له بأصل القول ، بل غالبا ما تأتي الجمل الاعتراضية لتؤكّد بمحتواها مفاد الكلام وتؤيده ، وإنما ينقطع ارتباط الكلام أحيانا لتخف على المخاطب رتابة الإيقاع وليبعث الجدة واللطافة في روح الكلام ، وبالطبع فإنّ الجملة الاعتراضية لا يمكن أن تكون أجنبية عن الكلام بتمام المعنى ، وإلّا فتكون على خلاف البلاغة والفصاحة ، في حين أنّنا نجد دائما في الكلمات البليغة والفصيحة جملا اعتراضية.

3 ـ من الممكن أن يرد هذا الإشكال عند مطالعة الاية الأخيرة ، وهو قول النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو نوحعليه‌السلام للكفار : إن يكن هذا الكلام افتراء فإثمه علي. ترى هل يعني قبول مسئولية الإثم «الافتراء» أنّ كلام الكفار حقا ومطابقا للواقع ، وعلى الناس أن يتابعوه ويطيعوه!؟

ولكن مع تدقيق النظر في الآيات السابقة نحصل على جواب هذا الإشكال ،

٥٢٢

وهو أنّ الأنبياء في الحقيقة أرادوا القول : إنّ كلامنا يقوم على الاستدلالات العقلية ، فعلى فرض المحال أنّنا لم نكن مبعوثين من قبل الله فإثم ذلك على أنفسنا ، وهذا بغض النظر عن الاستدلالات العقلية ، ولكنّكم أيّها الكفار ستبقون بمخالفتكم صرعى الإثم دائما ، الإثم المستمر والباقي «لا حظ كلمة تجرمون التي جاءت بصيغة المضارع والتي تدل على الاستمرار «فتأمل جيدا».

* * *

٥٢٣

الآيات

( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) )

التّفسير

بداية النّهاية :

إنّ قصّة نوحعليه‌السلام الواردة في آيات هذه السورة ، بيّنت بعدّة عبارات وجمل ، كل جملة مرتبطة بالأخرى ، وكل منها يمثل سلسلة من مواجهة نوحعليه‌السلام في قبال المستكبرين ، ففي الآيات السابقة بيان لمرحلة دعوة نوحعليه‌السلام المستمرة والتي كانت في غاية الجدية ، وبالاستعانة بجميع الوسائل المتاحة حيث استمرت سنوات طوالا ـ آمنت به جماعة قليلة قليلة من حيث العدد وكثيرة من حيث الكيفية والاستقامة.

٥٢٤

وفي الآيات محل البحث إشارة إلى المرحلة الثّالثة من هذه المواجهة ، وهي مرحلة انتهاء دورة التبليغ والتهيؤ للتصفية الإلهية.

ففي الآية الأولى نقرأ ما معناه : يا نوح ، إنّك لن تجد من يستجيب لدعوتك ويؤمن بالله غير هؤلاء :( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) .

وهي إشارة إلى أنّ الصفوف قد امتازت بشكل تام ، والدعوة للإيمان والإصلاح غير مجدية ، فلا بدّ إذا من الاستعداد لتصفية والتحول النهائي.

وفي نهاية الآية تسلية لقلب نوحعليه‌السلام أن لا تحزن على قومك حين تجدهم يصنعون مثل هذه الأعمال( فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ) ونستفيد من هذه الآية ـ ضمنا ـ أنّ الله يطلع نبيّه نوحا على قسم من أسرار الغيب بمقدار ما ينبغي ، كما نجد أنّ الله تعالى يخبره بأنّه لن يؤمن بدعوته في المستقبل غير أولئك الذين آمنوا به من قبل ، وعلى كل حال لا بدّ من إنزال العقاب بهؤلاء العصاة اللجوجين ليطهر العالم من التلوّث بوجودهم ، وليكون المؤمنون في منأى عن مخالبهم ، وهكذا صدر الأمر بإغراقهم ، ولكن لا بدّ لكل شيء من سبب ، فعلى نوح أن يصنع السفينة المناسبة لنجاة المؤمنين الصادقين لينشط المؤمنون في مسيرهم أكثر فأكثر ، ولتتم الحجّة على غيرهم بالمقدار الكافي أيضا.

وجاء الأمر لنوح أن( ... اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) .

إنّ المقصود من كلمة «أعيننا» إشارة إلى أن جميع ما كنت تعمله وتسعى بجد من أجله في هذا المجال هو في مرءاي ومسمع منّا ، فواصل عملك مطمئن البال.

وطبيعي أنّ هذا الإحساس بأنّ الله حاضر وناظر ومراقب ومحافظ يعطي الإنسان قوة وطاقة ، كما أنّه يحسّ بتحمل المسؤولية أكثر.

كما يستفاد من كلمة «وحينا» أيضا أن صنع السفينة كان بتعليم الله ، وينبغي أن يكون كذلك ، لأنّ نوحاعليه‌السلام لم يكن بذاته ليعرف مدى الطوفان الذي سيحدث في المستقبل ليصنع السفينة بما يتناسب معه ، وإنّما هو وحي الله الذي يعينه في

٥٢٥

انتخاب أحسن الكيفيات.

وفي نهاية الآية ينذر الله نوحا أن لا يشفع في قومه الظالمين ، لأنّهم محكوم عليهم بالعذاب وإن الغرق قد كتب عليهم حتما( وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) .

هذه الجملة تبين بوضوح أنّ الشفاعة لا تتيسر لكل شخص ، بل للشفاعة شروطها ، فإذا لم تتوفر في أحد الأشخاص فلا يحق للنّبي أن يشفع له ويطلب من الله العفو لأجله (راجع المجلد الأوّل من هذا التّفسير ذيل الآية 48 من سورة البقرة).

أمّا عن قوم نوح فكان عليهم أن يفكروا بجد ـ ولو لحظة واحدة ـ في دعوة النّبي نوحعليه‌السلام ويحتملوا على الأقل أن هذا الإصرار وهذه الدعوات المكررة كلها من «وحي الله» فتكون مسألة العذاب والطوفان حتمية!! إلّا أنّهم واصلوا استهزاءهم وسخريتهم مرّة أخرى وهي عادة الأفراد المستكبرين والمغرورين( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ ) .

«الملأ» والأشراف الراضون عن أنفسهم يسخرون من المستضعفين في كل مكان ، ويعدونهم أذلاء وحقراء لأنّهم لا قوّة لهم ولا ثروة!! ومضافا بل حتى أفكارهم وإن كانت سامية ، ومذهبهم وإن كان ثابتا وراسخا ، وأعمالهم وإن كانت عظيمة وجليلة كل ذلك في حساب «الملأ» حقير تافه ..! ولذلك لم ينفعهم الإنذار والنصيحة. فلا بدّ أن تنهال أسواط العذاب الأليم على ظهورهم يقال أن الملأ من قوم نوح والأشراف كانوا جماعات ، وكل جماعة تختار نوعا من السخرية والاستهزاء بنوح ليضحكوا ويفرحوا بذلك الاستهزاء!

فمنهم من يقول : يا نوح ، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجارا آخر الأمر!

٥٢٦

ومنهم من يقول : حسنا تصنع السفينة ، فينبغي أن تصنع لها بحرا ، أرأيت إنسانا عاقلا يصنع السفينة على اليابسة. ومنهم من يقول : واها لهذه السفينة العظيمة ، كان بإمكانك أن تصنع أصغر منها ليمكنك سحبها إلى البحر.

كانوا يقولون مثل ذلك ويقهقهون عاليا ، وكان هذا الموضوع مثار حديثهم وبحثهم في البيوت وأماكن عملهم ، حيث يتحدثون عن نوح وأصحابه وقلّة عقلهم : تأملوا الرجل العجوز وتفرّجوا عليه كيف انتهى به الأمر ، الآن ندرك أن الحق معنا حيث لم نؤمن بكلامه، فهو لا يملك عقلا صحيحا!!

ولكن نوحا كان يواصل عمله بجدية فائقة وأناة واستقامة منقطعة النظير لأنّها وليدة الإيمان ، وكان لا يكترث بكلمات هؤلاء الذين رضوا عن أنفسهم وعميت قلوبهم ، وإنّما يواصل عمله ليكمله بسرعة. ويوما بعد يوم كان هيكل السفينة يتكامل ويتهيأ لذلك اليوم العظيم ، وكان نوحعليه‌السلام أحيانا يرفع رأسه ويقول لقومه الذين يسخرون منه هذه الجملة القصيرة( قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ ) .

ذلك اليوم الذي يطغى فيه الطوفان فلا تعرفون ما تصنعون ، ولا ملجأ لكم ، وتصرخون معولين بين الأمواج تطلبون النجاة ذلك اليوم يسخر منكم المؤمنين ومن غفلتكم وجهلكم وعدم معرفتكم ويضحكون عليكم.

( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ) إشارة إلى أنّه بالرغم من أنّ مضايقاتكم لنا مؤلمة ، ولكننا نتحمل هذه الشدائد ونفتخر بذلك أوّلا ، كما أنّ ذلك مهما يكن فهو منقض وزائل ، أمّا عذابكم المخزي فهو باق ودائم ثانيا ، وهذان الأمران معا لا يقبلان القياس.

* * *

٥٢٧

ملاحظات

1 ـ التصفية لا الانتقام

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ عذاب الله يفتقد جنبة الانتقام ، لأنّه عبارة عن تصفية نوع من البشر وزوالهم لعدم جدارتهم بالحياة ، وليبقى الصالحون من بعدهم إنّ مثل هؤلاء المستكبرين الفاسدين والمفسدين لا أمل بإيمانهم ، ولا حق لهم في الحياة في نظر نظام الخلق ، وهكذا كان قوم نوح لأنّ الآيات السابقة تبيّن له أنّه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن ، فلا أمل بإيمانهم فتهيأ لصنع «الفلك»( وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .

وهذا الموضوع يبدو جليا في دعاء هذا النّبي على قومه ، فنحن نقرأ في سورة نوحعليه‌السلام ( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) .

وأساسا فإنّ لكل موجود هدفا في نظام الخلقة ، وحين ينحرف هذا الموجود عن هدفه ويغلق على نفسه جميع طرق الإصلاح ، يكون وجوده وبقاؤه بلا معنى ، ولا بد من أن يزول شاء أم أبى ، وكا يقول الشاعر :

لا نضرة عندي ولا ورق ولا

ورد ولا ثمر ففيم بقائي

2 ـ علائم المستكبرين :

إنّ المستكبرين الأنانيين يحولون المسائل الجدية التي لا تنسجم مع رغابتهم وميولهم ومنافعهم إلى لعب واستهزاء. ولهذا السبب فإنّ الاستهزاء بالحقائق ـ ولا سيما فيما يتعلق بحياة المستضعفين ـ يشكل جزءا من حياتهم فكثيرا ما نجدهم من أجل أن يعطوا لجلساتهم المليئة بآثامهم رونقا وجمالا يبحثون عن مؤمن خالي اليد ليسخروا منه ويستهزءوا به.

وإذا اتفق أنّ أحد المؤمنين لم يكن في مجلسهم فسوف يذكرون واحدا من

٥٢٨

المؤمنين في غيابه ويسخرون منه ويضحكون! إنّهم يتصورون أنفسهم بأنّهم العقل المطلق ، ويظنون أنّ الثروة العظيمة ـ والتي هي من الحرام ـ دليل على شخصيتهم وعظمتهم وقيمتهم! وأنّ الآخرين فاقدو الشخصية ولا قيمة لهم وغير لائقين!

ولكن القرآن المجيد يوجه أشدّ هجومه على مثل هؤلاء الأفراد المغرورين المتكبرين ، ولا سيما استهزاؤهم المحكوم عليه بغضب الله وسخطه!

نقرأ في التاريخ الإسلامي ـ على سبيل المثال ـ أن «أبا عقيل الأنصاري» هذا العامل الفقير والمؤمن كان يسهر الليل في حمل الماء من آبار «المدينة» إلى البيوت ويستوفي أجره بتميرات ، ثمّ يأتي بهذه التميرات إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عزوة «تبوك» على أنّها مساعدة لجيش الإسلام ، فيلتفت المنافقون المستكبرون ويسخرون منه ، فتنزل آيات من القرآن لها وقع الصاعقة عليهم( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

3 ـ سفينة نوح :

لا شكّ أنّ سفينة نوح لم تكن سفينة عاديّة ولم تنته بسهولة مع وسائل ذلك الزمان آلاته ، إذ كانت سفينة كبيرة تحمل بالإضافة إلى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات ، وتحمل متاعا وطعاما كثيرا يكفي للمدّة التي يعيشها المؤمنون والحيوانات في السفينة حال الطوفان ، ومثل هذه السفينة بهذا الحجم وقدرة الاستيعاب لم يسبق لها مثيل في ذلك الزمان. فهذه السفينة ستجري في بحر بسعة العالم ، وينبغي أن تمرّ سالمة عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها.

٥٢٩

لذلك تقول بعض روايات المفسّرين : إنّ طول السفينة كان ألفا ومائتي ذراع ، وعرضها كان ستمائة ذراع «كل ذراع يعادل نصف متر تقريبا».

ونقرأ في بعض الرّوايات أنّ النساء ابتلين قبل الطوفان بأربعين عامّا بالعقم وعدم الإنجاب ، وكان ذلك مقدمة لعذابهم وعقابهم.

* * *

٥٣٠

الآيات

( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) )

التّفسير

شروع الطّوفان :

رأينا في الآيات المتقدمة كيف صنع نوحعليه‌السلام وجماعته المؤمنون سفينة النجاة بصدق. وواجهوا جميع المشاكل واستهزاء الأكثرية من غير المؤمنين ، وهيأوا أنفسهم للطوفان ، ذلك الطوفان الذي طهّر سطح الأرض من لوث المستكبرين

٥٣١

الكفرة.

والآيات ـ محل البحث ـ تتعرض لموضوع ثالث ، وهو كيف كانت النهاية؟ وكيف تحقق نزول العذاب على القوم المستكبرين ، فتبيّنه بهذا التعبير( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ ) .

التنّور : بتشديد النون ، هو المكان الذي ينضج الخبز فيه بعد أن كان عجينا.

لكن ما مناسبة فوران الماء في التنور واقتراب الطوفان؟

اختلف المفسّرون فكانت لهم أقوال كثيرة في ذلك

قال بعضهم : كان العلامة بين نوح وربّه لحلول الطوفان أن يفور التنّور ، ليلتفت نوح وأصحابه إلى ذلك فيركبوا في السفينة مع وسائلهم وأسبابهم.

وقال جماعة آخرون : إنّ كلمة «التنور» استعملت هنا مجازا وكناية عن غضب الله ، ويعني أن غضب الله اشتدّت شعلته وفار ، فهو إشارة الى اقتراب حلول العذاب المدمّر ، وهذا التعبير مطرّد حيث يشبّهون شدّة الغضب بالفورة والاشتعال!

ولكن يبدو أنّ احتمال أن يكون التنور قد استعمل بمعناه الحقيقي المعروف أقوى ، والمراد بالتنّور ليس تنّورا خاصّا ، بل المقصود بيان هذه المسألة الدقيقة ، وهي أن حين فار التنّور بالماء ـ وهو محل النّار عادة ـ التفت نوحعليه‌السلام وأصحابه إلى أن الأوضاع بدأت تتبدل بسرعة وأنّه حدثت المفاجأة ، فأين «الماء من النّار»؟!

وبتعبير آخر : حين رأوا أنّ سطح الماء ارتفع من تحت الأرض وأخذ يفور من داخل التنور الذي يصنع في مكان يابس ومحفوظ ، من الرطوبة علموا أن أمرا مهمّا قد حدث وأنّه قد ظهر في التكوين أمر خطير ، وكان ذلك علامة لنوحعليه‌السلام وأصحابه أن ينهضوا ويتهيئوا.

ولعلّ قوم نوح الغافلين رأوا هذه الآية. وهي فوران التنور بالماء في بيوتهم ولكن غضوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم عند مثل العلائم الكبيرة حتى أنّهم لم

٥٣٢

يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر وأن إنذارات نوح حقيقية.

في هذه الحالة بلغ الأمر الإلهي نوحا( قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) .

لكن كم هم الذين آمنوا معه؟( وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

هذه الآية تشير من جهة إلى امرأة نوح وابنه كنعان ـ اللذين ستأتي قصتهما في الآيات المقبلة ـ وقد قطعا علاقتهما بنوح على أثر انحرافهما وتآمرهما مع المجرمين ، فلم يكن لهما حق في ركوب السفينة ليكونا من الناجين ، لأنّ الشرط الأوّل للركوب كان هو الإيمان.

وتشير الآية من جهة أخرى إلى أنّ ثمرة جهاد نوحعليه‌السلام بعد هذه السنين الطوال والسعي الحثيث المتواصل في التبليغ لدعوته ، لم يكن سوى هذا النفر المؤمن القليل!

بعض الرّوايات تقول أنّه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصا فقط، وتشير بعض الرّوايات الأخرى إلى عدد أقل من ذلك ، وهذا الأمر يدل على ما كان عليه هذا النّبي العظيم نوحعليه‌السلام من الصبر والاستقامة «في درجة قصوى بحيث كان معدل ما يبذله من جهد لهداية شخص واحد عشر سنوات تقريبا ، هذا التعب الذي لا يبذله الناس حتى لأولادهم!.

جمع نوحعليه‌السلام ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة ، وحين أزف الوعد واقترب الطوفان وأو شك أن يحل عذاب الله أمرهم أن يركبوا في السفينة( وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها ) (1) .

لماذا؟! لكي يعلمهم أنّه ينبغي أن تكونوا في جميع الحالات في ذكر الله تعالى وتستمدوا العون من اسمه وذكره( إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

فبمقتضى رحمته جعل هذه السفينة تحت تصرفكم واختياركم لتنجيكم من

__________________

(1) المجرى والمرسى : اسما زمان ، ويعني الأوّل وقت التحرك ، والثّاني وقت التوقف.

٥٣٣

الغرق وبمقتضى عفوه وغفرانه يتجاوز عن أخطائكم.

وأخيرا حانت اللحظة الحاسمة ، إذ صدر الأمر الإلهي فتلبدت السماء بالغيوم كأنّها قطع الليل المظلم ، وتراكم بعضها على بعض بشكل لم يسبق له مثيل ، وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها تخبر عن حادثة «مهولة ومرعبة جدّا».

شرع المطر وتوالى مسرعا منهمرا أكثر فأكثر ، وكما يصفه القرآن في سورة القمر( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) .

ومن جهة أخرى ارتفعت المياه الجوفية بصورة رهيبة بحيث تفجرت عيون الماء من كل مكان.

وهكذا اتصلت مياه الأرض بمياه السماء ، فلم يبق جبل ولا واد ولا تلعة ولا نجد إلّا استوعبه الماء وصار بحرا محيطا خضمّا أمّا الأمواج فكانت على أثر الرياح الشديدة تتلاطم وتغدو كالجبال. وسفينة نوح ومن معه تمضي في هذا البحر( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ) فإنّ مصيرك الى الفناء إذا لم تركب معنا.

لم يكن نوح هذا النّبي العظيم أبا فحسب ، بل كان مربيّا لا يعرف التعب والنصب ، ومتفائلا بالأمل الكبير بحيث لم ييأس من ابنه القاسي القلب ، فناداه عسى أن يستجيب ، ولكن ـ للأسف ـ كان أثر المحيط السيء عليه أكبر من تأثير قلب أبيه المتحرّق عليه.

لذلك فإنّ هذا الولد اللجوج الأحمق ، وظنّا منه أن ينجو من غضب الله أجاب والده نوحا و( قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ) ولكنّ نوحا لم ييأس مرّة أخرى فنصحه أن يترك غروره ويركب معه و( قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) ولا ينجو من هذا الغرق إلّا من شمله لطف الله( إِلَّا مَنْ رَحِمَ ) .

٥٣٤

الجبل أمره سهل وهين ، وكرة الأرض أمرها هين كذلك الشمس والمجموعة الشمسية بما فيها من عظمة مذهلة لا تعدل ذرّة إزاء قدرة الله الأزليّة.

أليس أعلى الجبال بالنسبة لكرة الأرض بمثابة نتوءات صغيرة على سطح برتقالة؟! أليست هذه الأرض التي ينبغي أن يتضاعف حجمها إلى مليون ومائتي ألف مرّة حتى تبلغ حجم الشمس ، وهذه الشمس التي تعدّ نجما متوسطا في السماء من بين ملايين الملايين من النجوم في متسع عالم الخلق ، فأيّ خيال ساذج وفكر بليد يتوقع من الجبل أن يصنع شيئا؟

وفي هذه الحالة التي كان ينادي نوح ابنه ولا يستجيب الابن له ارتفعت موجة عظيمة والتهمت كنعان بن نوح وفصل الموج بين نوح وولده( وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) .

* * *

بحوث

1 ـ هل كان طوفان نوح مستوعبا للعالم؟!

من خلال ظاهر الآيات يبدو لنا أنّ الطوفان لم يكن لمنطقة من الأرض دون أخرى ، بل غطى كل سطح الأرض ، لأنّ كلمة «الأرض» ذكرت بصورة مطلقة ، كما في الآية (26) من سورة نوح( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) كما في الآية (44) المقبلة من سورة هود( وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ) وهكذا ذكر كثير من المؤرخين ـ أيضا ـ أنّ طوفان نوح كان عالميا ، ولذلك يرجع نسل جميع البشر اليوم إلى واحد من أبناء نوح الثلاثة «حام وسام ويافث» الذين بقوا بعده مدة!

وفي التاريخ الطبيعي نعثر على فترة تدعى فترة الأمطار ذات السيول ، فلو لم تكن هذه الفترة الزمنية قبل تولّد الحيوانات ، فهي تنطبق على طوفان نوح.

٥٣٥

وهذه النظرية موجودة أيضا التاريخ الطبيعي للأرض ، وهي أن محور الكرة الأرضية يتغير تدريجا ، بحيث يكون القطبان الشمالي والجنوبي مكان خط الإستواء ، ويحلّ خط الإستواء محلّهما ، وواضح أنّ الحرارة التي تكون في أعلى درجاتها تذيب الثلوج القطبية فترتفع مياه البحار حتى تستوعب كثيرا من اليابسة ، ومع النفوذ في ثنايا الأرض وطياتها تحدث العيون المتفجرة ، وكل ذلك يبعث على كثرة السحب والأمطار.

كما أنّ مسألة اختيار نوحعليه‌السلام من كل نوع من الحيوانات زوجين وحملها معه على السفينة يؤيد كون الطوفان عالميّا أيضا ، وإذا عرفنا أنّ نوحا كان يسكن الكوفة ـ كما تقول الرّوايات ـ وأن طرف الطوفان وحافته ـ طبقا للرّوايات الأخرى ـ كان في مكّة وبيت الله الحرام ، فهذا نفسه أيضا مؤيد «لعالميّة الطوفان».

ولكن مع هذه الحال ، فلا يبعد أن يكون الطوفان في منطقة معينة من الأرض ، لأنّ إطلاق الأرض على المنطقة الواسعة من العالم تكرر في عدد من آيات القرآن ، كما نقرأ في قصّة بني إسرائيل( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ) (1) .

وحمل الحيوانات في السفينة ربّما كان لئلا ينقطع نسلها في ذلك القسم من الأرض ، خصوصا أن نقل الحيوانات وانتقالها في ذلك اليوم لم يكن أمرا هيّنا «فتدبر»

! وهناك قرائن أخرى تقدم ذكرها يمكن أن يستفاد منها أنّ الطوفان لم يستوعب الكرة الأرضية كلّها.

وهناك مسألة تسترعي الانتباه ـ أيضا ـ وهي أنّ طوفان نوح كان بمثابة العقاب لقومه ، وليس لنا دليل على أن دعوة نوح شملت الأرض كلها ، وعادة فإنّ وصول دعوة نوح في مثل زمانه إلى جميع نقاط الأرض أمر بعيد ولكن على كل حال

__________________

(1) الأعراف ، 127.

٥٣٦

فالهدف القرآني من بيان هذه القصّة للعبرة وبيان المسائل التي تربي الآخرين ، سواء كان الطوفان عالميا أو غير عالمي.

2 ـ هل تقبل التوبة بعد نزول العذاب؟!

يستفاد من الآيات المتقدمة أنّ نوحاعليه‌السلام استمر يدعو ولده حتى بعد شروع الطوفان، وهذا دليل على أنّه لو آمن ابنه «كنعان» لقبل إيمانه.

ويرد هنا سؤال وهو أنّه بالنظر إلى آيات القرآن الأخرى والتي مرّت «نماذج» منها ، تنصّ على أنّ أبواب التوبة تغلق بعد نزول العذاب لأنّ المجرمين في هذه الحالة إذ يرون العذاب محدقا بهم فالغالبية منهم يتوبون عن إكراه واضطرار لرؤية العذاب بأعينهم ، فعندئذ تكون توبتهم بلا محتوى وفاقدة للاعتبار.

ولكن بالتدقيق في الآيات السابقة يمكن الجواب على هذا السؤال ، هو أنّ شروع الطوفان وما جرى في بداية الأمر ، لم يكن علامة واضحة للعذاب ، بل كان يتصور أنّه مطر شديد لا مثيل له وعلى هذا فإنّ ابن نوح حين قال لأبيه( سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ ) ظنّا منه أنّ الطوفان والمطر كانا طبيعيين. ففي هذه الحالة لا يبعد أن تكون أبواب التوبة ما تزال مفتوحة ، ويمكن أن يرد سؤال آخر في شأن ابن نوح ، وهو أنّه لم نادى نوح ابنه دون سائر الناس في هذه اللحظة الحرجة؟!

ويمكن أن يكون الجواب أنّ نوحا أدّى وظيفته في الدعوة العامّة للآخرين وبضمنها دعوته لولده ، إلّا أنّه كان يتحمل وظيفة أصعب بالنسبة لولده ، وهي وظيفة «الابوّة» إلى جانب وظيفة «النّبوة» فلهذا السبب كان يؤكّد على أداء وظيفته بالنسبة لولده إلى آخر لحظة.

والاحتمال الآخر وكما يقول المفسّرون أنّ ابن نوح لم يكن في صفّ الكفار ولا في صف المؤمنين ، بل كما يقول القرآن :( كانَ فِي مَعْزِلٍ ) فلأنّه لم يكن مع

٥٣٧

المؤمنين فإنّه كان يستحق العقاب ، ولأنّه لم يكن مع الكافرين فإنّه كان يستحق أن يتوجه إليه التبليغ واللطف والمحبّة بصورة أكثر أضف إلى ذلك أن ابتعاده عن الكفار وكونه في معزل ، كان يقوي أمل نوح في أن يندم ولده على الابتعاد عنه.

وهناك احتمال آخر ، وهو أنّ ابن نوح لم يكن يخالف أباه بصراحة ، بل كان منافقا وكان يوافق أباه في الظاهر أحيانا ، فلذلك طلب نوح من ربّه له النجاة.

وعلى كل حال فإنّ الآية السابقة لا تنافي مضامين الآيات الأخرى التي تشير إلى انسداد أبواب التوبة حال نزول العذاب.

3 ـ دروس تربوية من طوفان نوح :

إنّ هدف القرآن الأصلي من ذكر قصص الماضين بيان دروس وعبر ومسائل تربوية ، وفي هذا القسم من قصّة نوح مسائل مهمّة جدّا نشير إلى قسم منها :

أ ـ تطهير وجه الأرض :

صحيح أنّ الله رحيم ودود ، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّه حكيم أيضا ، فبمقتضى حكمته أنّه عند ما لا تؤثر دعوة الناصحين والمربيّن الإلهيين في قوم فاسدين ، فلا حق لهم بعد ذلك في الحياة وسينتهون نتيجة للثورات الاجتماعية أو الطبيعية وتحت وطأة التنظيم الحياتي.

وهذا الأمر غير منحصر في قوم نوح ولا بزمان معين ، إنما هو سنة الله في خلقه وعبادة في جميع العصور والأزمان حتى في عصرنا الحاضر ، وأي إشكال في أن تكون كل من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثّانية صورة من صور «تطهير الأرض».

٥٣٨

ب ـ لم كان العقاب أو الطوفان؟!

صحيح أن قوما أو أمّة كانوا فاسدين وينبغي زوالهم ومهما تكن وسائل إزالتهم فالنتيجة واحدة ، ولكن بالتدقيق في الآيات المتقدمة نستفيد أنّ هناك تناسبا بين الذنوب وعقاب الله دائما وأبدا. «فتدبر جيدا».

كان فرعون يرى قدرته وعظمته تتجلى في «نهر النيل» ومياهه كثير البركات ، لكن الطريف أنّ هلاك فرعون ونهايته كان في النيل.

وكان نمرود يعتمد على «جيشه» العظيم ، لكننا نعلم أنّ جيشا ـ لا يعتد به ـ من الحشرات هزمه وجنوده أجمعين.

وكان قوم نوح أهل زراعة «وأنعام» وكانوا يجدون كل خيراتهم في «حبات المطر» لكن نهايتهم كانت بالمطر أيضا

ومن هنا يتّضح جليا أنّ حساب الله في غاية الدقّة ، ولو لا حظنا الطغاة العتاة في عصرنا وفي الحرب العالمية الأولى والثّانية كيف أبيدوا بأسلحتهم الحديثة والمتطورة لا تضح المعنى اكثر.

فلا ينبغي أن نعجب أنّ هذه الصناعات المتقدمة التي اعتمدوا عليها في استعمار الشعوب واستثمار خيراتهم واستضعافهم أدت إلى زوالهم.

ج ـ اسم الله على كل حال وفي كل مكان

قرأنا في الآيات المتقدمة أنّ نوحاعليه‌السلام يوصي أصحابه أن لا ينسوا ذكر اسم الله في بداية حركة السفينة وعند توقفها ، فكل شيء يتقوم باسمه وبذكره ، وينبغي أن نستمد العون من ذاته القدسيّة ، كل حركة وكل توقف ، حال الهدوء وحال الإعصار والطوفان ، كل هذه الحالات ينبغي أن تبدأ باسمه ، لأنّ كل عمل يبدأ دون ذكر اسمه فهو «أبتر ومقطوع» ، وكما ورد عن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الشريف

٥٣٩

«كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر»(1) وليس ذكر الله من باب التشريف ، بل هو هدف وغاية ، فكل عمل ليس فيه هدف إلهي فهو أبتر ، لأنّ الأهداف المادية تتلاشى وتنتهي إلّا الأهداف الإلهية فهي غير قابلة للفناء ، وحين تبلغ الأهداف المادية الذروة تنطفئ وتزول ، إلّا أنّ الأهداف الإلهية خالدة وباقية كذاته المقدسة.

د ـ المرتكزات الجوفاء :

من الطبيعي أنّ كل أحد يعتمد في التغلّب على الصعاب ومواجهة المشاكل في حياته إلى أمر ما ، فجماعة يعتمدون على الثروة والمال ، وجماعة على المقام والمنصب ، وجماعة يلجأون إلى القدرة الجسمية ، وآخرون إلى أفكارهم ولكن ـ كما تخبرنا الآيات المتقدمة ويرينا التاريخ ـ لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقاوم أدنى مقاومة أمام أمر الله وقدرته ، حيث يكون مثله كمثل خيط العنكبوت يتلاشى أمام هبوب الرياح الشديدة.

فابن نوحعليه‌السلام لغروره وغفلته كان غارقا في مثل هذا الوهم ، وظن أنّ الجبل سيعصمه من طوفان غضب الله ويحميه ولكن موجة واحدة من ذلك الطوفان المتلاطم كشفت سراب ظنّه وأنهت حياته.

من هنا نقرأ في بعض الأدعية «إنّي هارب منك إليك»(2) أي : لو كان هناك ملجأ أمام طوفان غضبك يا ربّ ، فهذا الملجأ هو ذاتك المقدسة والعودة إليك لا إلى سواك.

__________________

(1) سفينة البحار ص 663 الجزء الأول.

(2) دعاء أبي حمزة الثمالي.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592