الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180636 / تحميل: 6346
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والشرب وغيرهما من متطلبات الجسد وقد وضع (جيهاردت) الألماني كتاباً في تقوية الإرادة، جعل أساسه الصوم، وذهب إلى أنّ الصوم هو الوسيلة الفعّالة لسلطان الروح على الجسد، وأنّ الإنسان يعيش مالكاً زمام نفسه وليس أسيراً لميوله المادية.

هذه بعض حكم وفوائد الصوم، وقد أدلى الإمامعليه‌السلام بالكثير من فوائده.

شهر رمضان:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعل الصوم في (شهر رمضان) خاصة دون سائر الشهور؟

قيل: لأنّ (شهر رمضان) هو الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن، وفيه فرّق بين الحق والباطل، كما قال الله عزّ وجل:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (1) .

وفيه نبّئ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر وفيها يفرق كل أمر حكيم، وهو رأس السنة يقدّر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر أو ضر أو منفعة أو رزق أو أجل؛ ولذلك سميت ليلة القدر).

ولهذه الحكم فرض الله تعالى الصوم في هذا الشهر المبارك وميّزهعلى بقية الشهور.

اقتصار الصوم على شهر رمضان:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم أمروا بصوم (شهر رمضان) لا أقل من ذلك ولا أكثر؟

قيل: لأنّه قوة العبادة الذي يعم فيها القوي والضعيف وإنّما أوجب الله الفرايض على أغلب الأشياء وأعم القوي ثم رخص لأهل الضعف ورغب أهل القوّة في الفضل ولو كانوا يصلحون على أقل من ذلك لنقصهم ولو احتاجوا إلى أكثر من ذلك لزادهم).

إنّ حكمة الله تعالى وتدبيره للأشياء اقتضت أن تكون مصلحة العباد صيام

____________________

(1) سورة البقرة آية 185.

٤١

ثلاثين يوماً ولو كانت المصلحة أقل من ذلك لنقصهم، كما أنّ المصلحة لو كانت أكثر لزوّدهم عليه.

ترك الحائض للصوم والصلاة:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم إذا حاضت المرأة لا تصوم ولا تصلّي؟

قيل: لأنّها في حد نجاسة(1) فأحب الله أن لا تعبده إلاّ طاهرة ولأنّه لا صوم لـمَن لا صلاة له).

ولهذه الجهة فقد سقط الصوم والصلاة عن الحائض إلاّ أنّها تقضي الصوم دون الصلاة إذا طهرت من الحيض.

قضاء الحائض للصوم:

قال عليه‌السلام : (فلم صارت تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟

قيل لعلل شتّى: فمنها أنّ الصيام لا يمنعها من خدمة نفسها وخدمة زوجها وإصلاح بيتها والقيام بأمرها، والاشتغال بمرمة معيشتها والصلاة تمنعها من ذلك كله لان الصلاة تكون في اليوم والليلة مرارا فلا تقوى على ذلك والصوم ليس كذلك.

ومنها: أنّ الصلاة فيها عناء وتعب واشتغال الأركان وليس في الصوم شيء من ذلك وإنّما هو الإمساك عن الطعام والشراب وليس فيه اشتغال الأركان.

ومنها: أنّه ليس من وقت يجيء إلاّ عليها صلاة جديدة في يومها وليلتها وليس الصوم كذلك؛ لأنّه ليس كلّما حدث يوم وجب عليها الصوم وكلّما حدث وقت الصلاة وجبت عليها الصلاة).

ولهذه العلل الوثيقة فقد أسقط الشارع الصلاة عن الحائض قضاءً؛ لأنّ في الإتيان بها مشقّة وجهداً على المرأة بخلاف الصوم فإنّ قضاءه ليس فيه جهد

وحرج عليها.

____________________

(1) لعلّ الصحيح في حال نجاسة.

٤٢

قضاء شهر رمضان:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: إذا مرض الرجل أو سافر في شهر رمضان فلم يخرج من سفره، أو لم يفق من مرضه حتى يدخل عليه (شهر رمضان) آخر وجب عليه الفداء للأول وسقط القضاء فإذا أفاق بينهما أو أقام ولم يقضه وجب عليه القضاء والفداء؟

قيل: لأنّ ذلك الصوم إنّما وجب عليه في تلك السنة في ذلك الشهر، فأمّا الذي لم يفق فإنّه لما أن مرت عليه السنة كلها، وقد غلب الله تعالى عليه فلم يجعل له السبيل إلى أدائه، سقط عنه، وكذلك كلما غلب الله عليه مثل المغمى عليه الذي يغمى عليه يوماً وليلة فلا يجب عليه قضاء الصلاة، كما قال الصادقعليه‌السلام : كلما غلب الله عليه العبد فهو أعذر له؛ لأنّه دخل الشهر وهو مريض فلا يجب عليه الصوم في شهره ولا سنته للمرض الذي كان فيه ووجب عليه الفداء؛ لأنّه بمنزلة مَن وجب عليه صوم فلم يستطع أداءه فوجب عليه الفداء كما قال الله عزّ وجل:( فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) (1) ، وكما قال الله عزّ وجل:( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (2) فأقام الصدقة مقام الصيام إذا عسر عليه...).

عرض الإمامعليه‌السلام إلى المريض إذا استمرّ به المرض من رمضان إلى رمضان الآخر ولم يبرأ فإنّه لا قضاء عليه، وإنّما تجب عليه الفدية والسبب في ذلك أنّه لا تكليف له بالقضاء لمرضه، وأمّا مَن برأ في أثناء السنة ولم يصم ما عليه فإنّه يجب عليه القضاء؛ وذلك لتمكّنه كما تجب عليه الفدية، وعقّب الإمام على ذلك بقوله: (فإن قال قائل: فإن لم يستطع إذ ذاك فهو الآن يستطيع؟

قيل له: إنّه لـمّا دخل عليه شهر رمضان آخر وجب عليه الفداء للماضين؛ لأنّه كان بمنزلة مَن وجب عليه صوم في كفّارة فلم يستطعه فوجب عليه الفداء، وإذا وجب الفداء سقط الصوم والصوم ساقط والفداء لازم، فإن أفاق فيما بينهما ولم يصمه وجب عليه الفداء لتضييعه والصوم لاستطاعته).

____________________

(1) سورة المجادلة: آية 4.

(2) سورة البقرة: آية 196.

٤٣

الصوم بدل تحرير الرقبة:

قال عليه‌السلام : (فلم وجب في الكفّارة على مَن لم يجد تحرير رقبة الصيام دون الحج والصلاة وغيرهما؟

قيل: لأنّ الصلاة والحج وسائر الفرائض مانعة للإنسان من التقلّب في أمر دنياه ومصلحة معيشته مع تلك العلل التي ذكرناها في الحائض التي تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة).

ولهذه العلل فقد جعل الشارع الصيام بدلاً من تحرير الرقبة، ولم يجعل الصلاة والحج وغيرها عوضاً عنها؛ لأنّ لازم ذلك تعطيل الأعمال وعدم استطاعة الإنسان على تحصيل معاشه.

صيام شهرين متتابعين:

قال عليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم وجب عليه صوم شهرين متتابعين دون أن يجب عليه شهراً واحداً أو ثلاثة أشهر؟

قيل: لأنّ الفرض الذي فرض الله على الخلق وهو شهر واحد فضوعف في هذا الشهر في كفارته توكيداً وتغليظاً عليه).

التتابع في صيام شهرين:

قالعليه‌السلام : (فلم جعلا متتابعين؟

قيل: لئلاّ يهون عليه الأداء فيستخف به لأنّه إذا قضاه متفرقاً هان عليه القضاء).

إنّ التتابع في صيام الشهرين إنّما هو عقوبة لـمَن أفطر متعمّداً منتهكاً حرمات الله تعالى فشدّد عليه تعالى بذلك.

الحج:

وتحدث الإمام عن العلّة في تشريع الحج وعلل بعض الأحكام المتصلة به.

وجوب الحج:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم أمر بالحج؟

٤٤

قيل: لعلّة الوفادة إلى الله عزّ وجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد وحظر الأنفس عن اللذات، شاخص في الحر والبرد ثابت ذلك عليه دايم مع الخضوع والاستكانة والتذلّل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع في شرق الأرض وغربها ومن في البرد والحر(1) ممّن يحج وممّن لا يحج من بين تاجر وجالب وبائع ومشتري وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها من النفقة ونقل أخبار الأئمةعليهم‌السلام إلى كل صقع وناحية كما قال الله تعالى:( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (2) .

الحج مؤتمر عام يهدف إلى غايات عظيمة ومنافع مهمّة تعود بالخير العميم على العالم الإسلامي، وقد أدلى الإمام الرضاعليه‌السلام ببعضها، ولو أردنا أن نستقصي ثمرات الحج وفوائده لضاق بنا المجال وأهم ما فيه تعارف الشعوب الإسلامية بعضها بحاجات البعض منها؛ وذلك للوصول إلى مستوى رفيع بين شعوب العالم وأُمم الأرض، ومضافاً لذلك هي الناحية الاقتصادية فإن لكل شعب من الشعوب الإسلامية صناعات ومنتوجات لا توجد في غيرها وبواسطة الحج يمكن إبرام اتفاقات تجارية فيما بينها لتبادلها.

وعلى أي حال فالحج يرمز إلى رفع مستوى الحياة الفكرية والعملية والاقتصادية للمسلمين، ولا يضاهيه أي مؤتمر من مؤتمرات الدول العالمية.

الحج مرة واحدة:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم أمروا بحجّة واحدة لا أكثر من ذلك؟

قيل له: لأنّ الله تعالى وضع الفرايض على أدنى القوم مرة كما قال الله عزّ وجل:( فما استيسر من الهدي ) يعني شاة؛ ليسع له القوي والضعيف، وكذلك سائر الفرائض إنّما وضعت على أدنى القوم قوّة فكان من تلك الفرائض الحج

____________________

(1) لعلّ الصحيح: في البر والبحر.

(2) سورة التوبة: آية 122.

٤٥

المفروض واحداً، ثم رغب بعد أهل القوّة بقدر طاقتهم).

حجّة الإسلام إنّما تجب على المسلم مرة واحدة ولم يفرض فيها التعدد للحكمة التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام ، وهي أنّ الإسلام قد وضع تكاليفه وأحكامه على أدنى الناس قوّة وأدناهم قوّة في البدن والمال لا يتمكن الحج أكثر من مرة واحدة.

فلذا وجب على الجميع مرة واحدة، نعم قد يجب الحج بالنذر وشبهه وبالإجارة، وغير ذلك ممّا ذكره الفقهاء.

الإحرام:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم أمروا بالإحرام؟

قيل: لأن يخشعوا قبل دخول حرم الله عزّ وجل وأمنه ولئلاّ يلهوا ويشتغلوا بشيء من أمر الدنيا وزينتها، ويكونوا جادين فيما بينهم قاصدين نحوه مقبلين عليه بكليتهم مع ما فيه من التعظيم لله تعالى ولبيته، والتذلّل لأنفسهم عند قصدهم إلى الله تعالى ووفادتهم إليه راجين ثوابه راهبين من عقابه ماضين نحوه مقبلين إليه بالذل والاستكانة والخضوع).

إنّ الحاج إذا أحرم للحج أو للعمرة فيجب عليه أن يبتعد عن شهوات نفسه وملذّاتها، ويخرج عن مألوفاتها فتحرم عليه وسائل الرفاهية والزينة من النساء ولبس المخيط والطيب وحلق شعر رأسه ويجتنب هجر الكلام ومره فلا جدال ولا فسوق في الحج.

إنّ الإحرام رياضة للنفس على احتمال المشاق والمكروه وفيها من التعظيم لله تعالى، وإذلال النفس أمامه، إلى غير ذلك من الحكم التي ذكرها الإمامعليه‌السلام .

الطواف بالبيت:

قالعليه‌السلام فيما كتبه لمحمد بن سنان: (وعلّة الطواف بالبيت إن الله تبارك وتعالى قال للملائكة:( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) فردوا على الله تعالى بهذا الجواب فندموا ولاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله عزّ وجل أن يتعبد بمثل تلك العبادة فوضع في السماء الرابعة

٤٦

بيتاً بحذاء العرش يسمى الضراح ثم وضع في السماء الدنيا بيتا يسمى (المعمور) بحذاء البيت المعمور، ثم أمر آدم فطاف به فتاب الله عزّ وجل عليه وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة).

إنّ الطواف حول الكعبة المقدسة فيه من الدروس الرفيعة التي منها: أنّه تخليد لذلك المكان العظيم الذي بناه شيخ الأنبياء إبراهيمعليه‌السلام لعبادة الله الواحد القهّار في وقت لم يكن هناك بيت للعبادة سواه، ومنها: أنّ الطواف معراج للمؤمن كالصلاة ففيه سمو للروح واتصال بالخالق العظيم، إلى غير ذلك من الثمرات والفوائد.

استلام الحجر:

قالعليه‌السلام : (وعلّة استلام الحجر: أنّ الله تبارك وتعالى لـمّا أخذ ميثاق بني آدم ألقمه الحجر، فمن ثمّ كلف الناس تعاهد ذلك الميثاق، ومن ثمّ يقال: عند الحجر أمانتي أديتها وميثاق تعاهدته لتشهد لي بالموافاة، ومنه قول سلمان ليجيء الحجر يوم القيامة مثل أبي قبيس له لسان وشفتان يشهد لـمَن وافاه بالموافاة).

لقد تحدث الإمامعليه‌السلام عن الحكمة في استلام الحجر الأسود الذي هو موضع تقديس وتعظيم عند المسلمين، فقد كرّمه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقبّله، وممّا لا شبهة أنّ ذلك ينم عن سمو هذا الحجر الذي يشهد لـمَن وافاه يوم القيامة بالموافاة له.

الحج في ذي الحجة:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعل وقتها عشر ذي الحجّة؟

قيل: لأنّ الله تعالى أحب أن يعبد بهذه العبادة أيام التشريق، وكان أوّل ما حجّت إليه الملائكة وطافت به في هذا الوقت فجعله سنة ووقتاً إلى يوم القيامة فأمّا النبيون: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليه وعليهم أجمعين وغيرهم من الأنبياء إنّما حجّوا في هذا الوقت فجعلت سنّة في أولادهم إلى يوم القيامة).

ولهذه الأسباب فقد جعل الحج في هذا الوقت المبارك دون غيره.

٤٧

كلمة فيليب حتي في الحج:

ومن الجدير بالذكر أن نختم هذا البحث عن الحج بكلمة للدكتور فيليب حتى قال: (ولا يزال الحج على كرّ العصور نظاماً لا يبارى في تشديد عرى التفاهم الإسلامي والتأليف بين مختلف طبقات المسلمين وبفضله يتسنّى لكل مسلم أن يكون رحّالة مرة في حياته على الأقل، وأن يجتمع مع غيره من المؤمنين اجتماعاً أخويّاً ويوحد شعوره مع شعور مَن سواه من القادمين من أطراف الأرض، وبفضل هذا النظام يتيسّر للزنوج والبربر والصينيين والفرس والترك والعرب وغيرهم - أغنياء كانوا أم فقراء عظماء أم صعاليك - أن يتآلفوا لغةً وإيماناً وعقيدةً، وقد أدرك الإسلام نجاحاً لم يتفق لدين آخر من أديان العالم في القضاء على فوارق الجنس واللون والقومية خاصةً بين أبنائه؛ فهو لا يعترف بفاصل بين أفراد البشر إلاّ الذي يقوم بين المؤمنين وبين غير المؤمنين، ولا شك أن الاجتماع في مواسم الحج أدّى خدمة كبرى في هذا السبيل)(1) .

الزكاة:

قالعليه‌السلام : فيما كتبه لمحمد بن سنان عن أجوبة مسائله في علل الأحكام قال:

(وعلّة الزكاة من أجل قوت الفقراء وتحصين أموال الأغنياء لأنّ الله تبارك وتعالى كلّف أهل الصحّة القيام بشأن أهل الزمانة - وهم المرضى - والبلوى كما قال الله تعالى:( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) (2) في أموالكم بإخراج الزكاة وفي أنفسكم بتوطين الأنفس على الصبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم الله عزّ وجل، والطمع في الزيادة مع ما فيه من الرأفة والرحمة لأهل الضعف والعطف على أهل المسكنة، والحث لهم على المواساة، وتقوية الفقراء، والمعونة على أمر الدين، وهم عظة لأهل الغنى وعبرة لهم؛ ليستدلوا على فقراء الآخرة بهم، وما لهم من الحث في ذلك على الشكر لله تبارك وتعالى لما خولهم وأعطاهم، والدعاء والتضرّع والخوف من أن يصيروا مثلهم في أمور كثيرة في أداء الزكاة والصدقات، وصلة الأرحام،

____________________

(1) تأريخ العرب 1 / 187 ط 2.

(2) سورة آل عمران: آية 186.

٤٨

واصطناع المعروف).

الزكاة نظام اجتماعي خلاّق يحفظ التوازن بين طبقات الأُمّة، ويقضى على داء الفقر الذي هو مأوى لكل جريمة ففي البيئات التي يشيع الفقر فيها تروّج المذاهب المتطرفة وتستحل الأعمال الوحشية.

إنّ الزكاة تطهّر النفوس من البخل والقسوة والأثرة والطمع، وغير ذلك من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي تبعث على الفتن والكراهية والعدوان... وقد تحدث الإمامعليه‌السلام عن ثمراتها ومصالحها التي تعود على المجتمع بالخير العميم.

علل بعض المحرمات:

وأدلى الإمامعليه‌السلام بالعلل التي من أجلها حُرّمت بعض الأعمال في الإسلام ذلك فيما كتبه إلى محمد بن سنان عن أجوبة مسائله وهي:

1 - قتل النفس:

قالعليه‌السلام : (وحرّم الله قتل النفس لعلّة فساد الخلق في تحليله لو أحل وفنائهم وفساد التدبير).

تعتبر جريمة القتل العمد من أخطر الجرائم وأشدّها إخلالاً بالأمن وقد حرّمه الإسلام وشدّد في العقوبة على الجاني قال تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ) (1) ولو حلّت هذه الجريمة لأوجبت فساد الخلق وفناءهم.

2 - عقوق الوالدين:

قالعليه‌السلام : (وحرّم الله عقوق الوالدين لما فيه من الخروج عن التوقير...).

إنّ الله تعالى قرن حقوق الوالدين بحقوقه وطاعتهما بطاعته، وإنّ من أفحش المحرّمات عقوقهما والتنكّر لما أسدياه على الولد من ألوان البر والإحسان.

3 - الزنا:

قالعليه‌السلام : (وحرّم الزنا لما فيه من الفساد من قتل الأنفس وذهاب الأنساب وترك التربية للأطفال، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد).

____________________

(1) سورة البقرة: آية 179.

٤٩

الزنا من أفحش ألوان الرذائل ووصفه القرآن بالفاحشة قال تعالى:( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً ) (1) .

والزاني يشكل جريمة على المجتمع الإنساني؛ لأنّه إن نشأ منه طفل فإنّه ينشأ بلا أب يرعاه ويصاب بالعقد النفسية، ويقترف أفظع الجرائم، بالإضافة إلى إضاعة الأنساب، بينما الزواج ناموس طبيعي يفرض على المرء أن يبذل حياته لتربية أطفاله تربية صالحة ليكونوا قرّة عينٍ له.

عقوبة الزاني:

قالعليه‌السلام : (وعلة ضرب الزاني على جسده بأشد الضرب لمباشرته الزنا واستلذاذ كله به فجعل الضرب عقوبة له وعبرة لغيره وهو أعظم الجنايات).

وكان من محاسن التشريع الإسلامي أن شرع العقوبات الصارمة لهذه الرذيلة وهي مائة جلدة لغير المحصن والرجم للمحصن قال تعالى:( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).

الشهادة المثبتة للزنا:

قالعليه‌السلام : (والعلّة في شهادة أربعة - أي الشهود - في الزنا واثنين في سائر الحقوق لشدة حد المحصن؛ لأنّ فيه القتل فجعلت الشهادة فيه مضاعفة لما فيه من قتل نفسه وذهاب نسب ولده ولفساد الميراث).

إنّ عقوبة الزنا لا تثبت إلاّ بأربعة شهود عدول يرون حقيقة الزنا بالمشاهدة ولا بد أن يشهدوا جميعاً، فإذا تخلّف واحد منهم تعرض الثلاثة الباقون لعقوبة

القذف والحكمة في هذا التشديد لئلاّ يتجرّأ الناس على اتهام بعضهم بعضاً دون مبالاة.

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 32.

(2) سورة النور: آية 2.

٥٠

4 - اللواط والمساحقة:

قالعليه‌السلام : (وعلّة تحريم الذكران للذكران والإناث بالإناث لما ركب في الإناث، وما طبع عليه الذكران، ولما في إتيان الذكران الذكران والإناث الإناث من انقطاع النسل وفساد التدبير وخراب الدنيا).

أمّا اللواط فإنّه من الجرائم الخُلُقية، وفيه خروج عن سنن الطبيعة، وقد سمّاه الله تعالى بالفاحشة قال تعالى:( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ) (1) .

وعقوبة اللواط القتل؛ لأنّ في هذه الجريمة إضاعة الأنساب وخراب الدنيا كما قال الإمامعليه‌السلام .

وأمّا المساحقة فإنّها من الرذائل الخلقية، وفيها شذوذ عن سنّة الله تعالى وخروج عن طبيعة الإنسان.

5 - النظر إلى شعور النساء:

قالعليه‌السلام : وحرّم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج والى غيرهن من النساء؛ لما فيه من تهيج الرجال، وما يدعو التهييج إليه من الفساد والدخول فيما لا يحل، ولا يحل، وكذلك ما أشبه الشعور إلاّ الذي قال الله تعالى:( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ) (2) .

أي غير الجلباب فلا بأس بالنظر إلى شعور مثلهن.

إنّ النظر إلى شعر المرأة وزينتها يكهرب الرجل ويدفعه إلى اقتراف الحرام، أمّا النظر إلى شعر العجائز الطاعنات في السن فإنّه لا يبعث غراماً ولا يولّد شهوة؛ فلذا أباحه الإسلام.

6 - الربا:

وعرض الإمامعليه‌السلام إلى بيان الأسباب والعلل في تحريم الربا؛ وذلك في عدة بيانات وهي:

____________________

(1) سورة العنكبوت: آية 28.

(2) سورة النور: آية 60.

٥١

أ - قالعليه‌السلام : (وعلّة تحريم الربا: إنّما نهى الله عنه لما فيه من فساد الأموال؛ لأنّ الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً فبيع الربا وكس على كل حال على المشتري وعلى البايع فحرّم الله تبارك وتعالى الربا لعلة فساد الأموال كما حظر عل السفيه أن يدفع ماله إليه لما يتخوف عليه من إفساده حتى يؤنس منه رشده فلهذه العلّة حرم الله الربا وبيع الدرهمين يداً بيد).

ب - قالعليه‌السلام : (وعلّة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرم وهي كبيرة بعد البيان، وتحريم الله تعالى لها، ولم يكن ذلك منه - أي من المرابي - إلاّ استخفاف بالتحريم للحرام والاستخفاف بذلك دخول في الكفر).

ج - قالعليه‌السلام : (وعلّة تحريم الربا بالنسيئة لعلّة ذهاب المعروف وتلف الأموال، ورغبة الناس في الربح، وتركهم القرض والفرض، وصنايع المعروف، ولما في ذلك من الفساد والظلم وفناء الأموال).

حرّم الإسلام تحريماً شاملاً الربا واعتبره من أفحش أنواع الظلم وهو يتنافى مع تعاليم الإسلام التي تدعو إلى المعونة والمساعدة والرحمة، والربا يسبب العداوة والبغضاء، وينشر البؤس والفقر بين الناس.

إنّ الربا يؤدّي إلى وجود طبقة رأسمالية في المجتمع تتضخم عندها الأموال وهي لا تعمل ولا تبذل جهداً في الحركة الاقتصادية.

وقد ثبت أنّ الربا وسيلة لاستعمار الشعوب واحتلالها، فالحكومات التي تستقرض تتضاعف عليها الفوائد فتعجز عن تسديدها وتقع بذلك تحت شبكة الاستعمار الذي ينهب الثروات ويترك البؤس شائعاً في البلاد.

وجاء تحريم الربا في القرآن تحريماً قاطعاً، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ) (1) ، وقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (2) .

____________________

(1) سورة آل عمران: آية 130 - 131.

(2) سورة البقرة: آية 278.

٥٢

وقد لعن الإسلام صاحب رأس المال والمدين والكاتب والشاهد؛ لأنّهما أعانا على ما نهى الله عنه.

7 - أكل مال اليتيم:

قالعليه‌السلام : (وحرم أكل مال اليتيم ظلماً لعلل كثيرة من وجوه الفساد أول ذلك أنّه إذا أكل الإنسان مال اليتيم ظلماً فقد أعان على قتله؛ إذ اليتيم غير مستغن، ولا محتمل لنفسه ولا علم بشأنه، ولا له مَن يقوم عليه ويكفيه كقيام والديه فإذا أكل ماله فكأنّه قد قتله وصيّره إلى الفقر والفاقة مع ما خوف الله عزّ وجل، وجعل من العقوبة في قوله عزّ وجل:( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ ) (1) .

ولقول أبي جعفرعليه‌السلام : (إنّ الله عزّ وجل وعد في أكل مال اليتيم عقوبتين: عقوبة في الدنيا، وعقوبة في الآخرة ففي تحريم مال اليتيم استبقاء اليتيم واستقلاله بنفسه والسلامة للعقب أن يصيبه ما أصابه لما وعد الله فيه من العقوبة، مع ما في ذلك من طلب اليتيم بثأره إذا أدرك ووقوع الشحناء والعداوة والبغضاء حتى يتفانوا).

لقد شدّد الإسلام في تحريم أكل مال اليتيم وأمر بصيانة أمواله والمحافظة عليها حتى يبلغ، قال تعالى:( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) (2) .

وقد أدلى الإمامعليه‌السلام بالأسباب الناجمة عن حرمة أكل مال اليتيم.

8 - السرقة:

قالعليه‌السلام : (وحرمة السرقة لما فيه من فساد الأموال، وقتل الأنفس لو كانت مباحة، ولما تأتي في التغاصب من القتل والتنازع والتحاسد، وما يدعو إلى ترك التجارات والصناعات في المكاسب واقتناء الأموال إذا كان الشيء المقتنى لا يكون أحد أحق به من أحد).

____________________

(1) سورة النساء: آية 9.

(2) سورة النساء: آية 6.

٥٣

أمّا السرقة فهي من أفحش المحرّمات؛ لأنّها أكل لأموال الناس بغير حق فالسارق يأخذ مال الغير الذي أفنى عمره في تحصيله ويترك شبح الفاقة جاثماً عليه، وينعم هو بما سرقه منه وهو من أسوأ ألوان الظلم، وقد جعل الشارع العظيم عقوبة السارق قطع اليد قال تعالى:( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ) (1).

ويشترط في السرقة التي توجب قطع اليد عدّة شروط ذكرها الفقهاء، فإذا توفّرت فتقطع يد السارق.

قطع يد السارق اليمنى:

قالعليه‌السلام : (وعلّة قطع اليمين من السارق، ولأنّه يباشر الأشياء بيمينه، وهي أفضل أعضائه وأنفعها له، فجعل قطعها نكالاً وعبرة للخلق لئلاّ يبغوا أخذ الأموال من غير حلّها، ولأنّه أكثر ما يباشر السرقة بيمينه.

وحرم غصب الأموال وأخذها من غير حلّها لما فيه من أنواع الفساد، والفساد محرم لما فيه من الفناء وغير ذلك من وجوه الفساد).

ولهذه الأسباب الوثيقة التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام فقد أمر الإسلام بقطع يد السارق اليمنى دون اليسرى.

9 - الخمر:

قالعليه‌السلام : (حرّم الله الخمر لما فيها من الفساد، ومن تغييرها عقول شاربيها وحملها إيّاهم على إنكار الله عزّ وجل، والفرية عليه وعلى رسله وساير ما يكون منهم من الفساد والقتل والقذف والزنا وقلّة الاحتجاز من شيء من الحرام؛ فبذلك قضينا على كل مسكر من الأشربة أنّه حرام محرّم لأنّه يأتي من عاقبتها ما يأتي من عاقبة الخمر فليجتنبه مَن يؤمن بالله واليوم الآخر ويتولاّنا وينتحل مودّتنا فإنّه لا عصمة بيننا وبين شاربيها).

أمّا مضار الخمر على الإنسان وعلى المجتمع فهي كثيرة لا تحصى، وقد حرّمها

____________________

(1) سورة المائدة: آية 38.

٥٤

الإسلام تحريما باتّاً، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ (1) وَالأَنْصَابُ (2) والأزلام (3) رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (4) .

إنّ الخمر سبب لكل رذيلة ومنشأ لارتكاب كل منكر، وأنّ كثيراً من حوادث الزنا والسرقة وغيرهما من الجرائم تنشأ من الخمر، مضافاً إلى تدميره لصحّة الإنسان فإنّ الكحول التي فيها تتسرب إلى دم الإنسان حتى أنّه لو أخذ مقدار من دم السكران فإنّه يحترق كما يحترق السبيرتو، مضافاً إلى ما يسبّبه من التهاب الجهاز الهضمي وارتفاع الضغط الدموي، وغير ذلك، وقد ذكرنا أضراره الصحيّة في كتابنا(العمل وحقوق العامل في الإسلام) .

10 - الميتة:

قالعليه‌السلام : (وحرّمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة الخ...).

أمّا أكل الميتة فهو يسبب كثيراً من الأمراض، وربّما أدّى الأكل منها إلى الوفاة (5) فإنّ الجراثيم لا تزال ملازمة لها، وإن تعقيم لحم الميتة بطريق النار لا يجدي شيئاً، كما نصّ على ذلك الطب الحديث.

11 - الدم:

قالعليه‌السلام : (وحرّم الله عزّ وجل الدم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان؛ ولأنّه يورث الماء الأصفر، ويبخر الفم، وينتن الريح، ويسيء الخُلُق، ويورث القسوة للقلب، وقلّة الرأفة والرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل والده وصاحبه).

وحرم الإسلام شرب الدم؛ لأنّه يحمل إفرازات وسموماً قاتلة، أمّا إذا أخذ من دم حيوان مريض فإنّ الجراثيم التي فيه تنتقل إلى مَن يتناوله، وبإجماع الأطباء أنّ الدم لا يعتبر غذاءً مطلقاً.

____________________

(1) الميسر: هو القمار.

(2) حجارة أو أصنام كان العرب يذبحون قرابينهم عندها.

(3) الأزلام: قطع من الخشب بهيئة السهام كانوا في الجاهلية يستقسمون بها لأجل التفاؤل والتشاؤم.

(4) سورة المائدة: آية 90.

(5) الإسلام والطب الحديث للدكتور عبد العزيز إسماعيل (ص 17).

٥٥

12 - الطحال:

قالعليه‌السلام : (وحرم الطحال؛ لما فيه من الدم، ولأنّ علته وعلّة الدم والميتة واحدة؛ لأنّه يجرى مجراها في الفساد).

أمّا الطحال فقد حرمه الإسلام واعتبره كالدم والميتة؛ وذلك لما يترتب على تناوله من الأضرار والمفاسد لجسم الإنسان كما أفاد الإمامعليه‌السلام .

13 - الخنزير والقرد:

قالعليه‌السلام : (وحرم الخنزير؛ لأنّه مشوّه، جعله الله عزّ وجل عظة للخلق وعبرة وتخويفاً ودليلاً على ما مسخ على خلقته، ولأنّ غذاءه أقذر الأقذار مع علل كثيرة.

وكذلك حرم القرد؛ لأنه مسخ مثل الخنزير، وجعل عظة وعبرة للخلق ودليلاً على ما مسخ على خلقته وصورته، وجعل فيه شبهاً من الإنسان ليدل على أنّه من الخلق المغضوب عليهم).

لقد حرم الإسلام لحم الخنزير، وقد أنقذ المسلمين بذلك من شر عظيم يقول بيتي وديسكون: إنّ الإصابة بدودة لحم الخنزير تكاد تكون عامة في جهات خاصة من (فرنسا) و (ألمانيا) و (وإيطاليا) و (بريطانيا)، ولكنّها تكاد تكون نادرة الوجود في البلاد الشرقية؛ لتحريم دين أهلها أكل لحم الخنزير، وينقل لحم الخنزير كذلك مرض (الترنجينا) للإنسان.

وفيما يلي بعض الحقائق عن لحم الخنزير ومدى خطورته:

أ - لا يمكن للطبيب الأخصائي أن يقرّر أنّ خنزيراً غير مصاب بهذه الديدان بل أنّ جميعها مصابة بها.

ب - إنّ الأنثى الواحدة من هذه الديدان تضع (1500 جنين) في الغشاء المخاطي المبطّن لأمعاء المصاب فتوزع الملايين المولودة من الإناث جميعاً بطريق الدورة الدموية وتبثها في جميع أجزاء الجسم وتتجمع الأجنة في العضلات.

٥٦

فتسبّب آلاماً شديدة والتهابات عضلية مؤلمة جداً، ويصاب بعد ذلك بأورام خبيثة.

ج - أنّه لا يوجد علاج لهذا المرض، ومضافاً لذلك فإنّ لحم الخنزير ينقل للإنسان بعض الجراثيم العفنة (والبارا تيفود) وهي تسبب للإنسان تسمّماً حاداً مصحوباً بالتهابات شديدة في الجهاز الهضمي قد تسبب الوفاة في بضع ساعات(1) .

14 - الأرنب:

قالعليه‌السلام : (وحرم الأرنب؛ لأنّها بمنزلة السنور ولها مخالب كمخالب السنّور وسباع الوحش فجرت مجراها مع قذرها في نفسها، وما يكون منها من الدم كما يكون من النساء؛ لأنّها مسخ).

أمّا الأرنب فحرام أكله، وقد ذكر الإمامعليه‌السلام علل ذلك، ولكنّ بعض المذاهب الإسلامية لم تستقذره وأباحت أكله.

15 - سباع الطير والوحش:

قالعليه‌السلام : (وحرم سباع الطير والوحش كلها لأكلها الجيف ولحوم الناس والعذرة وما أشبه ذلك؛ فجعل الله عزّ وجل دلائل ما يحل من الوحش والطير وما حرم كما قال أبيعليه‌السلام : كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير حرام وكل ما كانت له قانصة من الطير فحلال.

وعلّة أخرى يفرق بين ما يحل من الطير وما حرم قولهعليه‌السلام : كل ما دفّ ولا تأكل ما صف).

وحرم الإسلام سباع الطير: كالبازي والرخمة، وكذا يحرم من الطيور ما ليس له قانصة ولا حوصلة ولا صيصية وهي الشوكة خلف رجل الطائر خارجة عن الكف ويكفي وجود واحدة منها في حل الطير(2) .

وقد علّل الإمامعليه‌السلام الحرمة بأنّها تأكل الجيف ولحوم الناس والعذرة، ويتأثّر لحمها بذلك، فلحومها غير صالحة لمعدة الإنسان.

16 - ما أهل به لغير الله:

قالعليه‌السلام : (وحرم ما أُهلّ به لغير الله الذي أوجب الله عزّ وجل

____________________

(1) روح الدين الإسلامي (ص 405) ط الثالثة.

(2) منهاج الصالحين 2 / 274.

٥٧

على خلقه من الإقرار به وذكر اسمه على الذبائح المحلّلة، ولئلاّ يسوى بين ما تقرب به إليه وبين ما جعل عبادة للشياطين، والأوثان؛ لأنّ في تسمية الله عزّ وجل الإقرار بربوبيته وتوحيده وما في الإهلال لغير الله من الشرك به والتقرّب به إلى غيره؛ ليكون ذكر الله وتسميته على الذبيحة فرقاً بين ما يحل الله وبين ما حرّم الله).

لقد حرّم ما أهل به لغير الله تعالى ممّا يتقرّب به إلى الأصنام والأوثان، وهو ما تعمله الجاهلية الأولى التي لا تملك وعياً ولا فكراً، فهي كالبهائم، وقد حرّم الإسلام ذبائحها استقذاراً لأفكارها وأعمالها وأنّ ذبائحهم غير نظيفة ولا صالحة للأكل.

كراهة أكل لحوم البغال:

قالعليه‌السلام : (وكره أكل لحوم البغال والحمير الأهلية لحاجة الناس إلى ظهورها واستعمالها، والخوف من قلّتها، لا لقذر خلقتها، ولا لقذر غذائها).

لقد كره الإسلام أكل لحوم البغال والحمير الأهلية؛ وذلك لأنّهما من أهم وسائل النقل في تلك العصور، وذبحها ممّا يوجب الشحّة في وسائل النقل؛ فلذا كره الإسلام ذبحها، أمّا لحمها فهو صالح للأكل وليس فيه شيء ممّا يوجب الضرر بالصحّة العامّة.

زواج الرجل بأربعة نسوة:

قالعليه‌السلام : (وعلّة تزويج الرجل أربعة نسوة وتحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد؟

لأنّ الرجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، والمرأة لو كان لها زوجان وأكثر من ذلك لم يعرف الولد لـمَن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها، وفي ذلك فساد الأنساب والمواريث والمعارف).

لقد بيّن الإمامعليه‌السلام الحكمة في جواز زواج الرجل بأربع نساء دون المرأة، فليس لها ذلك، فإنّه لو أُبيح لها الزواج بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإنّ مَن يولد منها لـمَن يكون من الزوجين؟ وبذلك تضيع الأنساب وتفسد المواريث.

الطلاق ثلاثاً:

قالعليه‌السلام : (وعلّة الطلاق ثلاثاً لما فيه من المهلة فيما بين الواحدة إلى الثلاث لرغبة تحدث أو سكون غضبه إن كان، وليكون ذلك تخويفاً وتأديباً للنساء وزجراً لهن عن معصية أزواجهن فاستحقّت المرأة الفرقة والمباينة لدخولها

٥٨

فيما لا ينبغي معصية زوجها).

طلاق العدّة هو أن يطلق الرجل زوجته مع اجتماع الشرائط، ثم يراجع قبل خروجها من العدة فيواقعها، ثم يطلقها في طهر آخر فتحرم عليه حتى تنكح زوجاً آخر، وقد ذكر الإمامعليه‌السلام الحكمة في هذا الطلاق وأسبابه.

المطلقة تسع تطليقات:

قالعليه‌السلام : (وعلّة تحريم المرأة بعد تسع تطليقات، فلا تحل له أبداً عقوبة لئلاّ يتلاعب بالطلاق، ولا يستضعف المرأة، وليكون ناظراً في أموره متيقظاً معتبراً، وليكون يأسا لهما من الاجتماع بعد تسع تطليقات).

المرأة إذا طُلّقت على النحو المذكور في المسألة السابقة فتزوّجها شخص ثم طلقها فتزوجها زوجها الأول فطلقها ثلاثاً، على النهج السابق، حرمت عليه حتى تنكح زوجاً آخر، فإذا تزوجها آخر وطلقها ثم تزوجها زوجها الأول فطلقها ثلاثاً على النهج السابق حرمت عليه مؤبّداً، وقد علّل الإمامعليه‌السلام ذلك بما ذكره، وأمّا إذا كان الطلاق ليس عدياً فإنّها لا تحرم المطلقة مؤبّداً وإن زاد عدد الطلاق على التسع.

ميراث المرأة:

أما ميراث المرأة فإنّها ترث نصف ما يرث الرجل وقد عللعليه‌السلام ذلك بتعليلين وهما:

الأول: قالعليه‌السلام : (وعلّة إعطاء النساء نصف ما يعطي الرجال من الميراث؛ لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت والرجل يعطي، فلذلك وفر على الرجال).

الثاني: قالعليه‌السلام : (وعلّة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى؛ لأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت، وعليه أن يعولها، وعليه نفقتها، وليس على المرأة أن تعول الرجل، ولا يؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر الله تعالى على الرجال لذلك، وذلك قول الله عزّ وجل:( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا ) (1) .

بما أنّ الرجل مسؤول عن الإنفاق على المرأة بما تحتاجه من المسكن والطعام

____________________

(1) سورة النساء: آية 234.

٥٩

واللباس، وغير ذلك ممّا ذكره الفقهاء؛ فلذا كان ميراثها نصف ميراث الرجل كما أفاد الإمامعليه‌السلام ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن علل بعض الأحكام التي أُثرت عن الإمامعليه‌السلام .

أحوال الأنبياء والأمم السالفة:

وسُئل الإمامعليه‌السلام عن علل أحوال بعض الأنبياء والأمم السالفة فأجاب وفيما يلي بعضها:

غرق فرعون:

روى إبراهيم بن محمد الهمداني قال: قلت لأبي الحسن على بن موسى الرضاعليه‌السلام : لأيّ علّة أغرق الله عزّ وجل فرعون، وقد آمن به وأقرّ بتوحيده؟

قالعليه‌السلام : (لأنّه آمن عند رؤية البأس، والإيمان عند رؤية البأس غير مقبول؛ وذلك حكم الله تعالى في السلف والخلف، قال الله عزّ وجل: ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ) (1) وقال عزّ وجل: ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (2) وهكذا فرعون لما أدركه الغرق قال: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فقيل له: ( آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) (3) .

وقد كان فرعون من قرنه إلى قدمه في الحديد وقد لبسه على بدنه، فلمّا أغرق ألقاه الله على نجوة من الأرض ببدنه ليكون لـمَن بعده علامة، فيرونه مع ثقله بالحديد على مرتفع من الأرض وسبيل التثقيل أن يرسب ولا يرتفع وكان ذلك آية وعلامة.

ولعلّة أخرى أغرق الله عزّ وجل فرعون وهي أنّه استغاث بموسى لـمّا أدركه الغرق، ولم يستغث بالله، فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا موسى لم تغث فرعون؟ لأنّك لم

____________________

(1) سورة المؤمن: آية 84 - 85.

(2) سورة الأنعام: آية 158.

سورة يونس: آية 90 - 92.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

بدلا من أن تأتيهم بدليل ، هددتهم بعذاب الله الّذي شمل من سبقهم من الكفّار ، وأنذرتهم بعقابه المخزي فوجهت الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) .

فأنتم تعترفون أن هذه الوعود تلقّاها أسلافكم ، فلم يكترثوا بها ، ولم يروا ضررا فهلّا سرتم في الأرض قليلا ، لتشهدوا آثار هؤلاء المجرمين المنكرين للتوحيد والمعاد ، وخاصة الآثار في المناطق القريبة من الحجاز لتنظروا أن الأمر ليس كما تزعمون.

ولكن سيحين موعدكم فلا تعجلوا فأنتم كأولئك ستواجهون المصير المحتوم والعاقبة المخزية إذا لم تصلحوا أنفسكم!.

والقرآن دعا مرارا إلى السير في الأرض ، ومشاهدة آثار الماضين ، والمدن الخاوية الخربة التي حاق بأهلها سوء العذاب ، وقصور الظالمين المتداعية ، والقبور الدارسة والعظام النخرة ، والأموال التي خلفها أصحابها المغرورون!!

إنّ مطالعة تلك الآثار التي تعبّر عن التأريخ الحيّ لأولئك الماضين ، توقظ القلوب الغافلة! وتبصّرها بالحق والواقع كذلك ، فإن مشاهدة واحد من هذه الآثار يترك في القلب أثرا لا تتركه مطالعة عدّة كتب تأريخية!.

(كان لنا بحث مفصل في هذا المجال ذيل الآية ١٣٧ من سورة آل عمران).

ممّا ينبغي ملاحظته أنّه جاء في هذه الآية التعبير بـ «المجرمين» بدلا من «المكذبين» وهو إشارة إلى أن تكذيبهم لم يكن لأنّهم أخطأوا في التحقيق ، بل أساسه العناد واللجاجة. وتلوثهم بأنواع الجرائم!

وحيث أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يشفق عليهم لإنكارهم ، ويحزن لعنادهم ، ويحترق قلبه من أجلهم ، إذ كان حريصا على هدايتهم ، وكان يواجه مؤامراتهم أيضا فإنّ الآية التالية تسري عن قلب النّبي فتقول له :( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ولا تقلق من مؤامراتهم( وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) .

١٢١

إلّا أنّ هؤلاء المنكرين المعاندين ، بدلا من أن يأخذوا إنذار النّبي المشفق عليهم مأخذ الجد فيتعظوا بوعظه ويستر شدوا بنصحه ، أخذوا يسخرون منه( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

ومع أنّ المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ الموضوع ذكر بصيغة الجمع «إن كنتم صادقين» لأنّ المؤمنين الصادقين كانوا قد ضموا صوتهم إلى صوت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا فهم مخاطبون بما خوطب به كذلك!

وهنا يردّ القرآن على استهزائهم وسخريتهم بلهجة موضوعية ، فيقول مخاطبا نبيّه :( قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ ) .

فعلام تستعجلون؟! وعلام تستصغرون عقاب الله؟! أفلا ترحمون أنفسكم؟! ترى ، هل عذاب الله ضرب من الهزل أو المزاح؟ فعسى أن يأخذكم الله بعذابه لكلامكم هذا فيهلككم فلم هذا العناد واللجاجة؟!

«ردف» فعل مشتق من (ردف) على وزن (حرف) ومعناه كون الشيء خلف الشيء الآخر ، ولذا يطلق على من يركب الفرس خلف صاحبه (رديف) كما يطلق الرديف على الأشخاص أو الأشياء التي تقف صفا واحدا بعضها خلف بعض.

وهناك كلام عن المراد من العذاب الذي كانوا يستعجلون به ، فقيل : هو ما أصابهم يوم بدر من هزيمة كبرى ، إذ صرع من عتاتهم سبعون رجلا وأسر سبعون رجلا!.

كما ويحتمل أنّ المراد منه العقاب العام الذي دفع أخيرا ، ببركة وجود النّبي إذ كان رحمة للعالمين ، والآية (٣٣) من سورة الأنفال شاهدة عليه( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) .

والتعبير بـ «عسى» لعله على لسان النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وحتى لو كان من قبل الله سبحانه ـ فعلى خلاف ما يتصوّره بعضهم ، فإنّه ليس فيه أي إشكال إذ هو إشارة إلى وجود مقدمات الشيء ومقتضياته ، مع إمكان أن تقترن هذه المقدمات

١٢٢

بالمانع ، فلا تصل إلى النتيجة النهائية (فلاحظوا بدقّة)!.

ثمّ يتحدث القرآن في الآية التالية عن هذه الحقيقة : وهي أنّ الله إذا لم يعجل في عقابكم ، فذلك بفضله وبرحمته ، حيث يمهل عباده الإمهال الكافي لإصلاح أنفسهم ، فيقول :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ) .

وإذا كانوا يتصورون أن تأخير العقاب لعدم علم الله سبحانه لما يدور في خلدهم من نيات سيئة وأفكار ضالة ، فهم في غاية الخطأ :( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ) (١) .

فهو يعلم خفاياهم بمقدار ما يعلم من ظاهرهم وما يعلنون ، والغيب والشهادة عنده سيّان.

فهذه المفاهيم هي من نتاج علمنا المحدود ، وإلّا فهي في مقابل غير المحدود تفقد معانيها وتتلاشى حدودها.

وهنا ذكر «علم الله بما تكنّ القلوب» مقدما على علمه بالأفعال الخارجية ، ولعل ذلك هو بسبب أهمية النيات والإرادة! كما يمكن أن يكون التقديم لأنّ الأفعال الخارجية ناشئة عن النيات الداخلية ، والعلم بالعلة مقدم على العلم بالمعلول!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا : إنّه ليس علم الله منحصرا بما تكن القلوب وما تعلن ، بل علمه واسع مطلق!( وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) (٢) .

وواضح أن «الغائبة» لها معنى واسع ، فهي تحمل في مفهومها كلّ ما خفي عن حسّنا وغاب وتشمل أعمال العباد الخفية والنيات الباطنية ، وأسرار

__________________

(١) «تكنّ» مأخوذ من كنّ على وزن جنّ ، وهذا الفعل يطلق على ما تستر فيه الأشياء وتحفظ ، وهنا كناية عن ما يخطر في قلوب الكفّار من خواطر وأفكار عدوانية!

(٢) «الغائبة» اسم فاعل مشتق يدل على الوصف ، وكما يعتقد بعضهم «التاء» ليست في هذه الكلمة للتأنيث ، بل هي إشارة للأشياء المخفية ، فهي للمبالغة في الخفاء إلا أنّه لا مانع من أن نحتمل أن التاء للتأنيث ، وأن موصوفها محذوف ، وتقديره : وما من خصلة غائبة. أو أشياء غائبة ، والله العالم

١٢٣

السماوات والأرض وقيام الناس للحساب يوم القيامة ، زمان نزول العذاب ، وأمثال ذلك. ولا دليل على أن نفسّر «الغائبة» هنا بواحد من هذه الأمور المذكورة آنفا ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ.

والمراد بـ «الكتاب المبين» هو اللوح المحفوظ ، وعلم الله الذي لا نهاية له ، وقد بحثنا هذا الموضوع في ذيل الآية (٥٩) من سورة الأنعام.

* * *

ملاحظات

التحقيق في الآيات المتقدمة يدل على أن منكري المعاد من أجل أن يتنصّلوا من عبء الإيمان بالقيامة والمسؤوليات الناشئة عنه ، كانوا يتوسلون بثلاثة طرق :

١ ـ استبعاد العودة للحياة بعد أن يغدو الإنسان ترابا ، لاعتقادهم أنّ التراب لا يمكن أن يكون أساسا للحياة!

٢ ـ قدم هذه العقيدة وعدم الجدة فيها.

٣ ـ عدم نزول العذاب على منكري المعاد لأنّه لو كان حقّا أن يبتلى المنكرون بالعذاب فلم لا ينزل عليهم!

وقد ترك القرآن الجواب على الإشكالين الأوّل والثاني ، لأنّنا نرى بأم أعيننا أنّ التراب مصدر الحياة وأساسها ، وكنا في البداية ترابا ثمّ صرنا أحياء!

وكون الشيء قديما لا ينقص من أهميّته أيضا لأنّ قوانين هذا العالم الأصيلة ثابتة ومستقرة من الأزل حتى الأبد وفي الأصول الفلسفية والمسائل الرياضيّة والعلوم الأخر أصول كثيرة ثابتة فهل كون امتناع اجتماع النقيضين قديما ، أو جدول ضرب فيثاغورس قديما ، دليلا على ضعفه؟! وإذا رأينا العدل حسنا والظلم سيئا منذ القدم ، ولا يزال كذلك ، فهل هو دليل على بطلانه فكثيرا

١٢٤

ما يتفق أن القدم دليل على الأصالة.

وأمّا في شأن الإشكال الثالث ، فيجيب القرآن : ألّا تعجلوا فعدم نزول العذاب من لطف الله ، فهو يمهلكم ولا يعذبكم عاجلا ، لكن إذا جاء عذابه فلا مفرّ منه.

* * *

١٢٥

الآيات

( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) )

التّفسير

عمى القلوب لا يقبلون دعوتك!

كان الكلام في الآيات السابقة عن المبدأ والمعاد أمّا في الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام على مسألة النبوّة ، وحقّانيّة القرآن ، ليكتمل بهما هذا البحث!.

ومن جهة أخرى فقد كان الكلام في الآيات السابقة عن علم الله الواسع غير المحدود ، وفي الآيات محل البحث مزيد تفصيل في هذا الشأن.

أضف إلى ذلك أنّ الخطاب كان فيما سبق من الآيات موجها للمشركين ، وهنا يوجه الخطاب نحو الكفار الآخرين كاليهود واختلافاتهم!.

١٢٦

فتقول الآيات أوّلا :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

لقد اختلف بنو إسرائيل فيما بينهم في مسائل كثيرة! فقد اختلفوا في شأن مريم وعيسىعليهما‌السلام . وفي شأن النّبي الذي بشّرت به «التّوراة» من هو؟

كما أنّهم اختلفوا في ما بينهم في كثير من المسائل الدينية والأحكام الشرعية فجاء القرآن موضحا هذه الأمور بجلاء ، وقال : إن المسيحعليه‌السلام عرف نفسه بصراحة فـ( قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (١) .

وقال أيضا : إنّ المسيح ولد من دون أب ، وليس أمره محالا و( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) (٢) .

وأمّا النّبي الذي بشرت به التّوراة فتنطبق أوصافه على نبي الإسلام محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تنطبق على أحد سواه!.

وعلى كل حال فإنّ واحدة من مهامّ القرآن هي مواجهة الاختلافات المتولّدة من اختلاط الخرافات وحقائق التعليمات التي جاء بها الأنبياء وكل نبي مسئول أن يحسم الاختلافات الناشئة من التحريف والخلط بين الحقّ والباطل وحيث أن هذا العبء لا يمكن أن ينهض به رجل أمي لم يسبق له أن يقرأ ، وفي محيط جاهلي ، فيتّضح أنّه مرسل من قبل الله!

ولما كانت مواجهة الاختلافات والوقوف بوجهها مدعاة للهدى والرحمة ، فإنّ الآية التالية تشير إلى هذا «الأصل الكلي» وتقول :( وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

أجل ، إنّه هدى ورحمة من حيث حسم الخلافات ومبارزة الخرافات ، هدى ورحمة لأنّ دليل حقانيته كامن في عظمة محتواه!

__________________

(١) سورة مريم ، الآية ٣٠.

(٢) آل عمران ، الآية ٥٩.

١٢٧

هدى ورحمة لأنّه يهدي إلى سبيل الحق ويدل عليه!.

وذكر «المؤمنين» هنا خاصّة هو لما ذكرناه آنفا من أنّه ما لم تتوفر مرحلة من الإيمان في الإنسان ، وهي مرحلة الاستعداد لقبول الحق والتسليم لله ، فإنّه لا يستطيع الاستفادة من هذا المصدر الإلهي الفيّاض.

وحيث أنّ جماعة من بني إسرائيل وقفت بوجه القرآن والحقائق الواردة فيه ، لأوامر الله ، فإنّ الآية التالية تقول في شأنهم :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) .

وبالرغم من أنّ هذه الآية لم تصرّح بأن قضاء الله بينهم سيكون يوم القيامة

إلّا أنّه بقرينة آيتين أخريين تتحدثان عن اختلافات بني إسرائيل ، وأن الله يقضي بينهم يوم القيامة ، يتّضح أنّ مراد الآية محل البحث هو هذا المعنى ذاته.

ففي الآية (١٧) من سورة الجاثية يقول سبحانه :( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .

كما ورد في ذيل الآية (٩٣) من سورة يونس ، هذا النص المتقدم نفسه.

ووصف الله «بالعزيز» و «العليم» إشارة إلى ما ينبغي توفره في القاضي من هاتين الصفتين ، «العلم» بصورة كافية و «القدرة» على إجراء الحكم ، والله سبحانه أعلم من الجميع وأعزّهم.

وهذا الكلام إضافة إلى أنّه يبيّن عظمة القرآن ، وهو تهديد لبني إسرائيل ، فهو في الوقت ذاته تسلية عن قلب النّبي وتسرية عنه ، لذا فالآية التالية تقول :( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) .

توكل على الله العزيز الذي لا يغلب ، والعليم بكل شيء توكل على الله الذي أنزل القرآن على عظمته فجعله عندك ، فتوكل عليه ولا تقلق من المشركين والمعاندين ، لأنّه يرعاك و( إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ) .

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : إذا كان القرآن حقّا مبينا فلما ذا خالفوه؟

١٢٨

فالآيات التالية تجيب على هذا السؤال ، فتقول : إذا كان أولئك لا يذعنون للحق المبين ، ولا يؤثر في قلوبهم هذا الكلام المتين ، فلا مجال للعجب لـ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ) (١) .

بل تسمع الأحياء الذين يبحثون عن الحق وأرواحهم توّاقة إليه ، أمّا إحياء الموتى ـ أو موتى الأحياء ـ لتعصبهم وعنادهم واستمرارهم على الذنب ، فلا ترهق فكرك ونفسك من أجلهم وحتى لو كانوا احياء فإنهم صمّ لا يسمعون فلا يمكنهم أن يسمعوا صوتك ، وخاصة إذا أداروا إليك ظهورهم وابتعدوا عنك( وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) .

ولعلهم لو كانوا عندك وكنت تصرخ فيهم لبلغت بعض أمواج صوتك إلى مسامعهم ، إلّا أنّهم مع صممهم يبتعدون عنك.

كما أنّهم لو كانوا مع هذه الحال يبصرون بأعينهم لاهتدوا إلى الصراط المستقيم ، ولو ببعض العلامات ، إلّا أنّهم عمي( وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ ) .

وهكذا فقد أوصدت جميع طرق إدراك الحقيقة بوجوههم ، فقلوبهم ميتة ، وآذانهم صمّ موقرة ، وأعينهم عمي! فأنت يا رسول الله( إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) ويشعرون في أنفسهم بالإذعان للحق.

وفي الحقيقة إن الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ تتحدثان عن مجموعة واضحة من عوامل المعرفة وارتباط الإنسان بالعالم الخارجي وهي :

«حس التشخيص» ، والعقل اليقظ ، في مقابل القلب الميت.

«الأذن الصاغية» لاكتساب الكلام الحق ، عن طريق السمع.

__________________

(١) قال جماعة من المفسّرين : إن هذه الجملة والجمل الأخر التي تليها بمثابة الدليل على لزوم توكل النّبي على الله وعدم يأسه مع أن الظاهر أنّها جواب على سؤال يثار في شأن القرآن وكونه هو «الحق المبين».

١٢٩

«والعين الباصرة» لرؤية وجه الحق ووجه الباطل ، عن طريق البصر.

إلّا أن العناد واللجاجة والتقليد الأعمى والذنب كلها تعمي العين التي بها يرى الإنسان الحقيقة ، وتوفر سمعه ، وتميت قلبه.

ومثل هؤلاء المعاندين المذنبين ، لو جاء جميع الأنبياء والأولياء والملائكة لهدايتهم ، لما أثّروا فيهم شيئا ، لأنّ ارتباطهم بالعالم الخارجي مقطوع ، وهم غارقون في «مستنقع ذواتهم» فحسب!.

ونظير هذا التعبير ورد في سورة البقرة وسورة الروم وسور أخر من القرآن (وكان لنا بحث آخر في نعمة «وسائل المعرفة» في تفسير سورة النحل ذيل الآية ٧٨.

ومرّة أخرى نذكّر بهذه اللطيفة وهي أنّ المراد من الإيمان والتسليم ليس معناه أنّهم قبلوا حقائق الدين من قبل ، فيكون من باب تحصيل الحاصل ، بل الهدف من ذلك أن الإنسان إذا لم يكن فيه شوق للحق وخضوع لأمر الله ، فإنه لا يصغي إلى كلام النّبي أبدا.

* * *

بحثان

١ ـ أسباب التوكل

«التوكل» مأخوذ من «الوكالة» ، وهو في منطق القرآن يعني الاعتماد على الله وجعله وليّا وكيلا ، وعدم القلق والخوف من كثرة المشاكل والموانع وعظم حجمها ، بسبب التوكل على الله!

وهذا الأمر واحد من دلائل الإيمان المهمّة ومدعاة للنصر والتوفيق!.

والطريف أنّ الآيات المتقدمة عدّت التوكل في شيئين :

أحدهما : القدرة والعلم لمن يتوكل عليه الإنسان.

١٣٠

والآخر : وضوح الطريق الذي اختاره الإنسان!.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن يقول : لا مدعاة للضعف والخوف والوحشة ، فأنت تعوّل على الله العزيز الذي لا يقهر ، والعليم الخبير بكل شيء هذا من جهة ثمّ إنّك على الطريق الواضح والحق اللائح من جهة أخرى فالمدافع عن الحق المبين علام يخاف؟!

وإذا ما رأيت جماعة خالفتك فلا تحزن أبدا فهي لا تملك عيونا باصرة ، ولا آذانا صاغية ، ولا قلوبا حيّة! وهي خارجة أساسا عن طريق الهداية والتبليغ وإنّما يلتفّ حولك طلاب الحق وعشاق الله ، والعطاشى إلى العدل حيث يخفّون نحو منبع القرآن الزلال ، ليرتووا من نميره العذب.

٢ ـ الموت والحياة في منطق القرآن!

هناك كثير من الألفاظ لها مداليل ومعان شتّى بحسب النظرات المختلفة ، ومن هذه الألفاظ ، لفظا الحياة والموت. «فالحياة» بالنظرة المادية تعني الحياة الطبيعة «الفيزيائية» فحسب ، أي متى كان القلب ينبض ، والدم يجرى في العروق إلى أعضاء الجسم كافة ، وكانت الحركة وعملية الجذب والدفع في البدن ، كان البدن حيا أمّا إذا سكنت هذه الحركة ، فتدل على «الموت» القطعي الذي يعرف بالاختبار الدقيق خلال عدّة لحظات!.

إلّا أنّ النظرة القرآنية تختلف عن النظرة المادية ، فكثير من الناس يعدون أحياء بحسب النظرة المادية ـ إلّا أنّهم أموات بحسب النظرة القرآنية كأولئك الذين أشارت إليهم الآيات المتقدمة وعلى العكس منهم الشهداء ، فهم بحسب الظاهر أموات ، لكنّهم بالمنطق القرآني أحياء خالدون!

والسبب في هذا الاختلاف بين النظرتين ، هو أنّ الإسلام بالإضافة إلى أنّه يعدّ معيار الحياة الإنسانية وشخصية الإنسان في القيم الروحانية ، فهو يرى في

١٣١

إيصال النفع الى الآخرين وعدمه معيار الوجود الحياة وعدمها في الإنسان.

فالإنسان الذي يرى بحسب الظاهر حيّا ، إلّا أنّه غارق في الشهوات ، فلا يسمع صرخة لمظلوم ، ولا صوتا لمنادي الحق ، ولا ينظر بعين بصيرة فيرى آثار الله في خلقه ، ولا يفكر ولو لحظة واحدة في مستقبله وماضيه فمثل هذا الإنسان ميّت في منطق القرآن. أمّا الذين ما تزال آثارهم تملأ الدنيا بعد موتهم ، وأفكارهم أسوة وقدوة للآخرين ، فهؤلاء أحياء خالدون(١) .

وبغض النظر عن هذه الأمور كلّها فالإسلام ـ حسب ما لدينا من المدارك ـ يؤمن بالحياة البرزخية للناس والعجب أن بعض الوهابيين الجهلة يصرون على نفي أي نوع من أنواع الحياة والعلم بعد الوفاة ، حتى للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمنعون التوسل به ، لأنّه بزعمهم ميّت ولا أثر للميت ، والأعجب من ذلك أنّهم يستندون إلى الآيات ـ محل البحث ـ لتأييد دعواهم!!

في حين أنّ بعضهم الآخر يصرّح على أنّ للنبيّ نوعا من الحياة البرزخية ، حياة أشرف من حياة الشهداء المصرّح بها في القرآن ، وقال : إنّه يسمع سلام المسلّم عليه(٢) .

والرّوايات في هذا الشأن كثيرة وافرة عن الفريقين الشيعة والسنة ، أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة المعصومين يسمعون من يسلّم عليهم من بعيد أو قريب ، ويردّون عليه سلامهم ، كما أنّ أعمال الأمّة تعرض عليهم(٣) .

ونقرأ في حديث ورد في صحيح البخاري في قصّة معركة بدر أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع بعض أصحابه وقف على «القليب» وقد ألقيت فيه أجساد قتلى المشركين ، فناداهم بأسمائهم ، وقال : هلّا أطعتم الله ورسوله ، لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ،

__________________

(١) كان لنا بحث مفصل «في الموت والحياة الروحيين» في ذيل الآية (٢٤) من سورة الأنفال.

(٢) الرسالة الثّانية من الهديّة السنية لمحمّد بن عبد الوهاب ، ص ٤١.

(٣) لمزيد من الإيضاح يراجع كتاب كشف الارتياب ص ١٠٩ للسيد محسن الأمين العاملي.

١٣٢

فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقا فقال عمر : يا رسول الله ، تكلم أجسادا لا روح فيها فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(١) .

ونقرأ في قصّة الجمل عن الأصبغ بن نباتة ، أنّه لما انهزم أصحاب الجمل ركب عليعليه‌السلام بغلة رسول الله الشهباء وسار في القتلى يستعرضهم فمرّ بـ «كعب بن سور» قاضي البصرة وهو قتيل ، فقال : أجلسوه ، فأجلس. فقال : ويلمّك يا كعب بن سور ، لقد كان لك علم لو نفعك ولكن الشيطان أضلك فأزلّك فعجلك إلى النّار(٢) .

ونقرأ في نهج البلاغة ـ أيضا ـ أنّهعليه‌السلام بعد رجوعه من صفين بلغ مقبرة كانت خلف سور الكوفة ، فخاطب الموتى فقال كلاما في تقلب الدنيا ثمّ قال : «هذا ما عندنا فما خبر ما عندكم ثمّ أضافعليه‌السلام أمّا لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى»(٣) .

وهذا بنفسه دليل على أنّهم يسمعون إلّا أنّهم لا يسمح لهم بالردّ ولو أذن لهم لأجابوا!.

فجميع هذه التعبيرات «إشارة» إلى حياة الإنسان البرزخية.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ٩٧ ، باب قتل أبي جهل.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ١ ، ص ٢٤٨.

(٣) نهج البلاغة ـ الكلمات القصار رقم ١٣٠.

١٣٣

الآيات

( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) )

التّفسير

لمّا كانت الآية السابقة تتحدث عن استعجال الكفّار بالعذاب ونزوله ، أو تحقق القيامة وانتظارهم بفارغ الصبر ووقوع ذلك ، وكانوا يقولون للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) . ومتى يوم القيامة؟! فإنّ الآيات ـ محل البحث ـ تشير إلى بعض الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، وتجسد عاقبة المنكرين الوخيمة ، فتقول :( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) .

والمراد من قوله تعالى :( وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ) هو صدور أمر الله وما وعدهم من العقاب والجزاء أو وقوع يوم القيامة وحضور علائمها ، العلائم التي يخضع لها كل من يراها ، ويستسلم لأمر الله ، ويحصل عنده اليقين بأنّ وعد الله حق ، وأن

١٣٤

القيامة قد اقتربت وحينئذ توصد أبواب التوبة لأنّ الإيمان في مثل هذه الظروف يقع اضطرارا.

وبالطبع فإنّ هذين المعنيين متلازمان لأنّ اقتراب القيامة يقترن بنزول العذاب ومجازاة الكافرين.

ولكن ما هي «دابة الأرض»؟ وما مصداقها؟ وأية مهمّة تحملها؟ فالقرآن يجمل ولا يفصل ، وكأنّه يريد أن يترك الموضوع مجملا غامضا ، ليكون الكلام فيه أكثر تأثيرا وباعثا على التهويل.

فيقول مختصرا : يخرج الله موجودا يتحرك «أو دابة من الأرض» بين يدي القيامة ، فيتكلم مع الناس ويقول : «إنّ الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله».

وبتعبير آخر : إنّ مهمّة هذه الدابة هي تفريق الصفوف وتمييز المنافقين والمنكرين من المؤمنين.

وبديهي أن المنكرين يرجعون إلى أنفسهم عند مشاهدة هذه الآيات ، ويندمون على ما سلف منهم وعلى أيّامهم المظلمة ، ولكن ما عسى أن ينفعهم الندم وأبواب التوبة موصدة؟!

وهناك مسائل كثيرة ومطالب وفيرة في خصوصيات «دابة الأرض» وجزئياتها وصفاتها في الرّوايات الإسلامية الواردة في كتب الفريقين ، الشيعة وأهل السنة ، وسنتعرض إليها ذيل هذه الآيات في باب البحوث إن شاء الله.

ثمّ تشير الآيات إلى علامة أخرى من علامات القيامة ، فتقول :( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

«والحشر» معناه إخراج جماعة ما من مقرّها والسير بها نحو ميدان الحرب أو غيره! و «الفوج» ، كما يقول الراغب في المفردات : الجماعة التي تتحرك بسرعة.

وأمّا «يوزعون» فمعناه حبس الجماعة وإيقافها حتى يلحق الآخر منها بالأوّل وهذا التعبير يطلق ـ عادة ـ على الجماعات الكثيرة ، نظير ما قرأنا في

١٣٥

شأن جنود سليمان في هذه السورة ذاتها.

فبناء على هذا يستفاد من مجموع الآية أن يوما سوف سيأتي يحشر الله فيه من كل أمّة جماعة ، ويهيؤهم للحساب والجزاء على أعمالهم!.

والكثير من الأعاظم يعتقدون بأنّ هذه الآية تشير إلى مسألة الرجعة وعودة جماعة من الصالحين وجماعة من الطالحين إلى هذه الدنيا قبيل يوم القيامة لأنّ التعبير لو كان عن القيامة لم يكن قوله «نحشر من كل أمّة فوجا» صحيحا إذ في القيامة يكون الحشر عاما للجميع ، كما جاء في الآية (٤٧) من سورة الكهف قوله تعالى :( وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) .

والشاهد الآخر على أنّ الآيات هذه تتحدث عمّا يقع قبيل القيامة ، هو أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن الحوادث التي تقع قبل القيامة ، والآيات التي تلي الآيات محل البحث تتحدث عن الحوادث التي تقع قبيل القيامة أيضا فمن البعيد أن تتحدث الآيات السابقة واللاحقة عن ما يقع قبل القيامة ، وهذه الآيات محل البحث ـ فقط ـ تتحدث عن ما يقع في يوم القيامة.

وهناك روايات كثيرة في هذا الصدد عن مسألة الرجعة سنتناولها في البحوث القادمة إن شاء الله ، إلّا أن المفسّرين من أهل السنة يعتقدون أن الآية ناظرة إلى يوم القيامة ، وقالوا : إنّ المراد بالفوج هو إشارة إلى رؤساء الجماعات وأئمتهم! وأمّا عدم الانسجام بين الآيات الذي يحدثه هذا التّفسير ، فقالوا : إنّ الآيات بحكم التأخير والتقديم ، فكأن الآية (٨٣) حقّها أن تقع بعد الآية (٨٥).

إلّا أننا نعلم أن تفسير الفوج بالمعنى الآنف الذكر خلاف الظاهر ، وكذلك عدم انسجام الآيات بأنّها في حكم التأخير والتقديم هو خلاف الظاهر أيضا.

( حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

__________________

(١) جملة (أمّا ذا كنتم تعملون) جملة استفهاميّة و (أما) مركبة من (أم) التي هي حرف عطف وتأتي بعد همزة

١٣٦

وقائل هذا الكلام هو الله سبحانه ، والمراد من «الآيات» هي المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، أو أوامر الله ، أو الجميع!.

والمراد من جملة( وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ) هو أنّكم بدون أن تتحققوا وتطّلعوا على حقيقة الأمر ، كذبتم الآيات ، وهذا منتهى الجهل وعدم المعرفة أن ينكر الإنسان شيئا دون أن يتحقق منه!.

وفي الحقيقة فإنّهم يسألون عن شيئين.

الأوّل : تكذيبهم دون أن يفحصوا عن الحق.

والآخر : عن أعمالهم التي كانوا يقومون بها.

وإذا كانت الآية ـ آنفة الذكر ـ تتحدث عن القيامة ، فمفهومها واضح. وأمّا إذا كانت تشير إلى مسألة الرّجعة ـ كما يقتضيه انسجام الآيات ـ فهي إشارة إلى أنّه عند ما يرجع إلى هذه الدنيا طائفة من المجرمين فولي الأمر الذي يمثل الله ، وهو خليفته في الأرض ، يتحقق منهم ويسألهم عمّا فعلوه في حياتهم ، ثمّ يجازيهم حسب ما يستحقون من الجزاء الدنيوي ، ولا يمنع هذا من عذاب الآخرة ، كما أن كثيرا من المجرمين ينالون الحدّ الشرعي في هذه الدنيا ، ويستوفون جزاءهم ، فإذا لم يتوبوا فإنّ ما يستحقون من العقاب ينتظرهم في الآخرة.

وبديهي أنّ هؤلاء المجرمين لا يستطيعون الإجابة على أيّ من هذين السؤالين ، لذلك فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محل البحث تضيف قائلة :( وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ ) .

وهذا القول أو العذاب دنيوي ، إذا فسّرنا الآية بالرجعة ، أو هو عذاب الآخرة إذا فسّرنا الآية بيوم القيامة.

* * *

__________________

الاستفهام عادة ، وتسمّى بالمعادلة ، و (ما) الاستفهامية. ومعنى الآية : أو أيّ شيء كنتم تعملون.

١٣٧

بحوث

١ ـ ما هي دابة الأرض؟!

«الدّابة» معناها ما يدب ويتحرك ، و «الأرض» معناها واضح وخلافا لما يتصوّره بعضهم بأنّ الدّابة تطلق على غير الإنسان بل الحق أنّها ذات مفهوم واسع يشمل الإنسان أيضا ، كما نقرأ في الآية (٦) من سورة هود( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ) ، وفي الآية (٦١) من سورة النحل( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) .

وفي الآية (٢٢) من سورة الأنفال( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ) .

إلّا أنّه ـ كما ذكرنا في تفسير الآية آنفا ـ فإنّ القرآن لا يفصّل في بيان هذه الكلمة وإنّما يذكرها على إجمالها ، فكأنّ البناء كان على الإجمال والإبهام ، والوصف الوحيد المذكور لها بأنّها تكلم الناس وتميز المؤمن من غير المؤمن إلّا أنّ هناك كلاما طويلا في الرّوايات الإسلامية وأقوال المفسّرين في الشأن ، ويمكن تلخيص مجموعها في تفسيرين :

١ ـ فطائفة تعتقد بأنّ هذه «الدابة» حيوان غير مألوف ومن غير جنس الإنسان له شكل عجيب ، ونقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز!.

هذه الدابة تخرج في آخر الزمان ، وتتحدث عن الإيمان والكفر ، وتفضح المنافقين وتسمهم بميسمها!

٢ ـ وطائفة تعتقد ـ حسب الرّوايات الإسلامية الواردة في هذا الشأن ـ أنّها إنسان فوق العادة ـ إنسان متحرك فعّال! وواحد من أفعاله الأصلية تمييز المؤمنين عن المنافقين ووسمهم حتى أنّه يستفاد من بعض الرّوايات أن معه عصا موسىعليه‌السلام وخاتم سليمان ونحن نعرف أن عصا موسى رمز للقدرة والإعجاز ، وخاتم سليمان رمز للحكومة والسلطة الإلهية! فإذا هذا الإنسان

١٣٨

رجل قويّ ذو سلطة وهيمنة!

وقد جاء في حديث عن «حذيفة بن اليمان» عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصف هذه الدابة قوله : «لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، فتسم المؤمن بين عينيه ويكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه ويكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان»(١) .

وقد طبق هذا المفهوم في روايات كثيرة على «أمير المؤمنين»عليه‌السلام ففي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ رجلا قال لعمار بن ياسر : في القرآن آية شغلت بالي وجعلتني في شك قال عمار : أيّة آية هي؟ قال : آية( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) فيقول عمار : والله لا أجلس على الأرض ولا آكل طعاما ولا أشرب ماء حتى أريكها. ثمّ يأخذه عمار إلى الإمام علي ، وهو يأكل طعاما فلما بصر به الإمام علي ناداه فجاء عمار عنده وأكل معه!.

فتعجب الرجل ولم يصدق هذا المشهد ، إذ كان عمار قد حلف ووعده أن لا يجلس على الأرض ولا يأكل ولا يشرب حتى يريه دابة الأرض ، فكأنّه نسي وعده!.

فلمّا قام عمار وودّع عليّا قال له الرجل : عجيب منك أن تقسم بالله أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس على الأرض ، حتى تريني دابة الأرض! فقال له عمار : أريتكها لو كنت تعقل(٢) .

ونظير هذا المعنى في تفسير العياشي ، إلّا أنّه ورد اسم «أبي ذر» مكان عمار(٣) .

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية محل البحث.

(٢) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث

(٣) المصدر السابق.

١٣٩

وينقل العلّامة المجلسيرحمه‌الله في بحار أنواره بسند معتبر عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : انتهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه ، فحرّكه برجله ، ثمّ قال : قم يا دابة الله ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله أنسمّي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟

فقال لهم : «لا والله ما هو إلّا له خاصّة وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه( وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ) ثمّ قال : يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ، ومعك ميسم تسم به أعداءك»(١) .

وبناء على هذه الرّواية ، فالآية تنطبق على الرجعة وتنسجم هي والآية التي تليها في الرجعة!.

ويقول المرحوم «أبو الفتوح الرازي» في تفسيره في ذيل الآية : طبقا للأخبار التي جاءتنا عن طريق أصحابنا ، فإن دابة الأرض كناية عن المهدي «صاحب الزمانعليه‌السلام »(٢) .

ومع الأخذ بنظر الإعتبار لهذا الحديث والأحاديث المتقدمة ، يمكن أن يستفاد من دابة الأرض مفهوم واسع ، ينطبق على أي إمام عظيم يخرج في آخر الزمان ويميز الحق عن الباطل.

وهذا التعبير الوارد في الرّوايات الاسلامية بأن معه عصا موسىعليه‌السلام التي هي رمز القوة والإنتصار ، وخاتم سليمانعليه‌السلام الذي يرمز للحكومة الإلهية ، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة!.

كما أنّ ما ورد في الرّوايات الإسلامية من أنّها تسم المؤمن بين عينيه فيكتب مؤمنا ، وتسم الكافر فيكتب كافرا ينسجم والقول بأنّها إنسان!.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٥٢ ، خ ٣.

(٢) تفسير الرازي ، ج ٨ ص ٤٢٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592