الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181091 / تحميل: 6369
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

إضافة إلى ذلك فالتصريح في القرآن بأنّها تكلم الناس يساعد على هذا المعنى!.

ومن مجموع ما مرّ نصل هنا إلى أنّ الدّابة تطلق في الأغلب على غير الناس ، وقد استعملها القرآن في الأعم من الإنسان وغيره أو في خصوص الإنسان ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فالقرائن المتعددة الموجودة في الآية ذاتها ، والرّوايات الكثيرة في تفسير الآية ، تدل على أنّ المراد من «دابة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفا ، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة ، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق!.

٢ ـ الرجعة في الكتاب والسنة!

من المسائل التي تجدر بالملاحظة ، في الآيات ـ محل البحث ـ ظهور بعض من هذه الآيات في مسألة الرجعة!.

و «الرجعة» من عقائد الشيعة المعروفة ، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو : «بعد ظهور المهديعليه‌السلام وبين يدي القيامة ، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص ، وطائفة من الكفار الأشرار ، إلى هذه الدنيا فالطائفة الأولى تصعد في مدارج الكمال والطائفة الثّانية تنال عقابها الشديد!.

يقول «الشريف المرتضى» الذي هو من أعاظم الشيعة : إنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه ، أن الله تعالى يعيد عند ظهور الإمام المهديعليه‌السلام أقواما ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوز بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلوّ كلمة أهله!

١٤١

ثمّ يضيف السيد المرتضى قائلا : والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه ، فإنا نرى كثيرا من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة ، وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور ، فالدليل إلى إثباتها إجماع الإمامية على وقوعها(١) .

ويظهر بالطبع ـ من كلمات بعض قدماء علماء الشيعة وكذلك من كلام العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان ـ أن «الأقليّة» القليلة من الشيعة لا تؤمن بهذه العقيدة ، أي «الرجعة» وفسّروها بعودة حكومة أهل البيتعليهم‌السلام ، لا رجوع الأشخاص وحياتهم بعد موتهم في هذه الدنيا ، إلّا أنّ مخالفة هذه القلة لا تؤثر في الإجماع.

وعلى كل حال ، فهنا مطالب كثيرة ، ومن أجل ألّا نخرج عن أسلوب بحثنا نشير إليها بإيجاز في ما يلي :

١ ـ لا ريب أنّ إحياء جماعة من الموتى في هذه الدنيا ليس محالا! كما أن إحياء جميع البشر في يوم القيامة ممكن ، والتعجب من هذه المسألة كتعجب المشركين «من أهل الجاهلية» من مسألة المعاد ، والسخرية منها كالسخرية من المعاد! لأنّ العقل لا يحكم على مثل هذا الأمر بالاستحالة وقدرة الله واسعة بحيث أنّ هذه الأمور عندها سهلة يسيرة هيّنة!.

٢ ـ جاء ذكر الرجعة في القرآن المجيد إجمالا ، ووقوعها في خمسة مواطن في شأن الأمم السالفة.

ألف : في ما يتعلق بالنّبي الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك. فتساءل في نفسه وقال :( أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها ) فأماته الله مائة عام ثمّ أحياه فقال له : كم لبثت؟! قال : لبثت يوما أو

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥١١ ، مادة رجع.

١٤٢

بعض يوم قال : بل لبثت مائة عام «مؤدّى الآية ٢٥٩ ـ من سورة البقرة».

وسواء كان هذا النّبي عزيرا أم سواه ، فلا فرق في ذلك ، المهم أنّ القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه!.

ب ـ يتحدث القرآن ـ في الآية (٢٤٣) من سورة البقرة ذاتها ـ عن جماعة أخرى خرجت من ديارها خوفا من الموت ، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجّة مرض الطاعون ، فأماتها الله ثمّ أحياها( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة ، وعدوها مثالا فحسب ، إلّا أنّ من الواضح أنّ مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية ـ بل صراحتها ـ لا يمكن المساعدة عليه!.

ج ـ وفي الآيتين ٥٥ و ٥٦ من سورة البقرة أيضا ، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول :( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

د ـ ونقرأ في الآية (١١٠) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى :( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ) .

ويدل هذا التعبير على أنّ المسيحعليه‌السلام أحيا الموتى فعلا ، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدلّ على أنّه أحيا الموتى مرارا ، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعا من الرجعة لبعضهم!

ه ـ وأخيرا ففي الآيتين (٧٢) و (٧٣) من سورة البقرة ، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله ، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة ـ الواردة خصائصها في الآية ٧٢ ـ إذ يقول سبحانه :( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

١٤٣

كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها ، فهناك مواطن أخر في القرآن ، منها قصّة أصحاب الكهف ، وهي قصّة تشبه الرجعة. وقصّة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعيا بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءا منهنّ ، ليتّضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسدا برجوع هذه الطيور إلى الدنيا.

وعلى كل حال! كيف يمكن أن يؤمن الشخص بالقرآن وأنّه كتاب سماوي ، ثمّ ينكر هذه الآيات الواضحة في الرجعة؟ وهل الرجعة ـ أساسا ـ إلّا العودة للحياة بعد الموت؟!

أو ليست الرجعة مثلا مصغرا من القيامة في هذه الدنيا.

فمن يؤمن بالقيامة بمقياسها الواسع ، كيف يمكنه أن يعترض على مسألة الرجعة وأن يسخر منها؟! وأن يقول قائل كأحمد أمين المصري في كتابه «فجر الإسلام» اليهودية ظهرت بالتشيع بالقول بالرجعة(١) .!!

وأي فرق بين كلام أحمد أمين هذا ، وإنكار عرب الجاهلية لمسألة المعاد الجسماني؟!

٣ ـ ما ذكرناه ـ إلى هنا ـ يثبت إمكان الرجعة ، وأمّا ما يؤيد وقوعها فروايات كثيرة نقلها الثقات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وحيث لا يسع بحثنا نقلها والتحقيق فيها ، فيكفي أن نذكر ما عدّه المرحوم العلّامة المجلسي في بحار أنواره وما جمعه منها ، إذ يقول : وكيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة الأطهارعليهم‌السلام فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح(٢) ، رواها نيّف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام ، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم فإذا لم يكن مثل هذا

__________________

(١) انظر عقائد الإمامية ـ للشيخ محمّد رضا المظفر ص ٧١.

(٢) يعني «بالرجعة».

١٤٤

متواترا ففي أيّ شيء يمكن دعوى التواتر(١) ؟!

٤ ـ فلسفة الرجعة!

إنّ أهم سؤال يثار في هذا الصدد ، هو : ما الهدف من الرجعة قبل يوم القيامة؟! ومع ملاحظة ما يستفاد من الرّوايات الإسلامية من أنّ هذا الموضوع ليس عامّا بل يختصّ بالمؤمنين الخلّص الذين هم في مرحلة عالية من الإيمان ، والكفار والطغاة الظلمة الذين هم في مرحلة منحطة من الكفر والظلم فيبدو أن الرجعة لهاتين الطائفتين للدنيا ثانية هي من أجل إكمال الطائفة الأولى حلقتها التكاملية ، وأن تذوق الطائفة الثّانية جزاءها الدنيوي.

وبتعبير آخر : إن الطائفة المؤمنة «خالصة الإيمان» الذين واجهوا الموانع والعوائق في مسير تكاملهم المعنوي في حياتهم ولم يتكاملوا الكمال اللائق باستعدادهم ، فإنّ حكمة الله تقتضي أن يتكاملوا عن طريق الرجعة لهذه الدنيا وأن يكونوا شهداء الحكومة العالميّة للحقّ والعدل ، وأن يساهموا في بناء هذه الحكومة ، لأنّ المساهمة في بناء مثل هذه الحكومة من أعظم الفخر!.

وعلى عكس الطائفة الآنفة الذكر ، هناك طائفة من المنافقين والجبابرة المعاندين ، ينبغي أن ينالوا جزاءهم الدنيوي بالإضافة إلى جزاءهم الأخروي ، كما ذاق ـ قوم فرعون وثمود وعاد وقوم لوط جزاءهم ـ ولا طريق لأن يذوقوا عذاب الدنيا إلّا بالرجعة!.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في بعض أحاديثه «إن الرجعة ليست بعامة ، وهي خاصّة ، لا يرجع الّا من محض الإيمان محضا ، أو محض الشرك محضا»(٢) .

ولعل الآية (٩٥) من سورة الأنبياء( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ١٢٢.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٣٩.

١٤٥

لا يَرْجِعُونَ ) تشير إلى هذا المعنى أيضا ، لأنّها تتحدث عن عدم رجوع أولئك الذين ذاقوا عذابهم الشديد في هذه الدنيا ، فيتّضح منها أن أولئك الذين لم يذوقوا مثل هذا الجزاء ينبغي أن يرجعوا ، فيذوقوا عذابهم «فلاحظوا بدقة».

كما يرد هذا الاحتمال أيضا ، وهو أنّ رجعة «الطائفتين هاتين» في ذلك المقطع الخاص من الزمان هي بمثابة درسين كبيرين وآيتين مهمتين من آيات عظمة الله ـ ومسألة القيامة و «المبدأ والمعاد» ـ للناس ، ليبلغوا أسمى درجات الكمال المعنوي بمشاهدتهما ويزداد إيمانهم ولا يكونوا مفتقرين إلى شيء أبدا.

٥ ـ ويتصور بعضهم أنّ الإعتقاد بالرجعة لا ينسجم وأصل حرية الإرادة والإختيار عند البشر!.

وممّا بيّناه آنفا يتّضح أنّ هذا اشتباه محض ، لأنّ رجوع من يرجع إلى هذه الدنيا سيكون في ظروف طبيعية ، ويتمتع بحرية كاملة.

وما يقوله بعضهم بأنّه من الممكن أن يتوب الجبابرة والكفار المعاندون بعد الرجعة ويعودوا إلى الحق ، فجوابه أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظلم والفساد والكفر بحيث أن هذه الأمور مندمجة مع روحهم ونسيجهم ولا يتصور توبتهم!.

كما أنّ القرآن يحكي في ردّه على طلب أهل النّار يوم القيامة الرجوع إلى الدنيا ، ليقضوا ما فاتهم ولا يعملوا السيئات فيقول :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .(١)

كما يتّضح الجواب على إشكال بعضهم من أنّ الرجعة لا تنسجم مع الآية (١٠٠) من سورة المؤمنون لأنّه طبقا لهذه الآية فإن المشركين يطلبون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا صالحا ، ويقول كل منهم :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) فيرد عليه بالقول :( كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) .

__________________

(١) الأنعام ، الآية ٢٨.

١٤٦

فالجواب على هذا الإشكال ، أن هذه الآية عامة والرجعة خاصة «فلاحظوا بدقة».

٦ ـ وآخر الكلام هنا أنّ الشيعة مع اعتقادهم بالرجعة التي أخذوها عن أهل البيتعليهم‌السلام فإنّهم لا يحكمون على منكري الرجعة بالكفر ، لأنّ الرجعة من ضروريّات المذهب الشيعي لا من ضروريات الإسلام.

فبناء على ذلك فإنّ هذه المسألة لا تقطع وشائج الأخوة الإسلامية مع الآخرين إلّا أن الشيعة تواصل دفاعها المنطقي عن عقيدتها هذه.

وينبغي الالتفات إلى أن هناك خرافات تمتزج أحيانا بالرجعة فتشوّه وجهها في نظر البعض ، فينبغي أن نعول على الأحاديث الإسلامية الصحيحة في الشأن ، وأن نتجنب الأحاديث المطعون فيها أو المشكوكة.

وما ذكرناه هنا خلاصة موجزة عمّا يتعلق بالرجعة ، وينبغي مراجعة الكتب التي تتحدث عن هذا الشأن لمن أراد أن يستزيد ويعرف خصائص أخر للرجعة أو جزئياتها.

ومع ملاحظة هذا المقدار الذي بيّناه يتّضح الجواب على الحملات المسعورة من قبل أولئك الذين لم يطّلعوا على هذا الموضوع من إخواننا أهل السنة «كما فعل «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني ذيل الآيات محل البحث» وأن إشكالهم على مسألة الرجعة ناشئ من عدم تعقلهم لها حتى عدّوها أسطورة!.

* * *

١٤٧

الآيات

( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) )

التّفسير

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة :

مرّة أخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد ، وآثار عظمة الله ، ودلائل قدرته في عالم الوجود ، وحوادث القيامة ، فتقول :( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعدا للايمان( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة ، ونظامي النور والظلمة ، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضا وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية ، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية ونحن نعرف أن أصول التعليم

١٤٨

والتربية تقتضي أحيانا أن يتكرر الموضوع في «فواصل» مختلفة ، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.

فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل ، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها ، فسدل الليل ليست أسبابا إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب ، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات ، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق ، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.

وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية ـ أيضا ـ ولا مجال للتردد فيها. فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب ، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.

فهذه الآية توضح جانبا من التوحيد الرّبوبي ، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ «عالم الوجود» ومدبّره ، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان! وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.

وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجما مع هذا النظام ، فيستريح في الليل ويسعى في النهار ، ليبقى نشطا صحيحا دائما لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظا ساهرا وينام النهار حتى الظهر!.

والطريف أن كلمة «مبصر» نسبت إلى النهار ووصف بها ، مع أنّها وصف للإنسان في النهار ، وهذا نوع من التأكيد الجميل للاهتمام بالنشاط في النهار ، كما يوصف الليل أحيانا بأنه «ليل نائم»(١) .

__________________

(١) هذا النوع من التعبير يسمّى عند البلاغيين بـ «المجاز العقلي» ، ويراد منه إسناد الفعل أو ما في معناه «كاسم الفاعل واسم المفعول» لغير ما وضع له لعلاقة ، منها العلاقة الزمانية ، فيقال مثلا : نهار الزاهد صائم وليله قائم. (المصحح)

١٤٩

وهذا التفاوت في التعبير في الآية ، هو لبيان فائدة الليل والنهار ، إذ جاء في شأن الليل( لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) وعبر عن النهار بـ (مبصر) فلعل هذا الاختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء ، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب ، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والاستمتاع بها «فلاحظوا بدقة».

وعلى كل حال ، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرة عن التوحيد وتدبير عالم الوجود ، إلّا أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد ، لأنّ النوم بمثابة الموت ، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها ، فتقول : واذكر( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات.

فالمرّة الأولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلّا من شاء الله!

والثّانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة ، ولعل هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة إذ يحيا الموتى جميعا بهذه النفخة ، وتبدأ الحياة الجديدة معها.

وهناك كلام بين المفسّرين الى أنّ الآية محل البحث هل تشير الى النفخة الأولى أم الثّانية أم الثّالثة؟! القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين ، وقيل : بل هي تشمل الجميع.

إلّا أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأولى التي

١٥٠

تقع في نهاية الدنيا ، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الاستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب ، يعدّ من آثار هذه النفخة ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة!.

وبتعبير آخر : إن ظاهر «فاء» التفريع في «ففزع» أن الفزع ناشئ من النفخة في الصور ، وهذا خاص بالنفخة الأولى ، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب ، بل هي مدعاة للحياة والحركة ، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه!.

وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور ،؟ هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (٦٨) من سورة «الزمر» بإذن الله!.

وأمّا جملة( إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) المذكورة للاستثناء من الفزع العام ، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواء كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض ، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأولى ولا الأخرى إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) .

وأمّا جملة( وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) فظاهرها عام وليس فيه أي استثناء ، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته ، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (١٢٧) من سورة الصافات :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) ، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث ، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر ، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال!.

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع ، فتقول :( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَ

١٥١

شَيْءٍ ) (١) .

فمن يكون قادرا على كل هذا النظم والإبداع في الخلق ، لا ريب في علمه و( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) .

يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة ، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض ، وقد أشير الى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كرارا.

ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير.

إلّا أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيرا آخر ، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا ، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها.

* * *

وتوضيح ذلك :

١ ـ إنّ الآية تقول : تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(٢)

٢ ـ تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة ، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.

__________________

(١) «صنع الله» منصوب بفعل محذوف تقدير (أنذر صنع الله) أو ما شاكله.

(٢) سورة الحج ، الآية ٢.

١٥٢

٣ ـ التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة ، إلّا أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة» أي أن الحالتين تبينان شيئا واحدا.

٤ ـ والتعبير بـ «الإتقان» الذي يعني الإحكام والتنظيم ، يتناسب زمان استقرار نظام العالم ، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.

٥ ـ جملة( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) مع ملاحظة أنّ «تفعلون» فعل مضارع ، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا ، لأنّها تقول : إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل. ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم ، لكان ينبغي أن يقال : إنّه خبير بما فعلتم. «فتأملوا بدقّة».

ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق ، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر :( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) .

وبناء على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد ، وقسم منها في المعاد!.

وما نستنتجه من هذا التّفسير ، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة» هي في سرعة مطرّدة في حركتها ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها ، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!.

ووفقا لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (٣٠) كيلومتر في كل دقيقة ، وسرعة سيرها في حركتها الانتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار

لكن علام عني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها ، وتعدّ مثلا حسنا لبيان قدرة الله سبحانه ، فحيث أن هذه

١٥٣

الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل ، تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع الأرض» فقدرته على كل شيء «بينة ، وثابتة»!.

وعلى كل حال ، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو «غاليو» الإيطالي و «كبرنيك» اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكما صارما ، وتعرضا لمضايقات كثيرة

إلّا أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريبا وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد!

ويرى بعض فلاسفة الإسلام ، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني ، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم ، أن الآية ناظرة إلى «الحركة الجوهرية» في الأشياء ، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها(١)

* * *

__________________

(١) المراد من «الحركة الجوهرية» هو أنّ أشياء عالم المادة بالإضافة إلى ما يحصل فيها من تغييرات مختلفة في الكيفية والكمية والمكان وما أشبه ذلك! فيها حركة في داخلها «وجوهرها» أي أنّها وجود سيال ومتحرك ، والتغييرات الظاهرية هي انعكاس عن التغييرات الداخلية لها وبتعبير آخر : إن لدينا وجودين مختلفين ذاتا الوجود الثابت «الوجود ما وراء المادي» ، ووجود سيال ومتحرك «الوجود المادي» وأهم دليل على إثبات هذه النظرية مسألة وجود الزمان للموجودات المادية وعدم انفصال التغييرات الظاهرية عن التغييرات الباطنية ، ويطول بنا البحث في هذا الصدد وهو خارج عن موضوعنا هنا.

١٥٤

الآيات

( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣) )

التّفسير

آخر ما أمر به النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) .

وهناك اختلاف بين تعبيرات المفسّرين في المراد من «الحسنة» في هذه الآية :

١٥٥

ففسّرها بعضهم بكلمة التوحيد «لا إله إلّا الله» والإيمان بالله.

وفسّرها بعضهم بولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام والأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الرّوايات المتعددة عن أهل البيت ، ومن جملتها ما جاء في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : يا أبا عبد الله ألا أخبرك بقول اللهعزوجل :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : بلى يا أمير المؤمنين جعلت فداك ، فقال : «الحسنة معرفة الولاية حبّنا أهل البيت ، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثمّ قرأعليه‌السلام الآية»(١) .

وبالطبع فإنّ معنى الآية واسع ـ وقد أشرنا إلى ذلك مرارا ـ كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضا فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة ، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة ، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة أخرى تشملها الآية.

أمّا ما أورده بعضهم بأنّه : على فرض العموم في «الحسنة» فسوف تشمل الإيمان بالله وهل هناك خير من الإيمان حتى يقول سبحانه : من جاء بالحسنة فله خير منها؟

فالجواب على هذا الإشكال واضح لأنّ رضا الله خير من الإيمان. وبتعبير آخر: جميع هذه الأمور مقدمة له وذو المقدمة خير من المقدمة!.

وهناك سؤال آخر يثار هنا ، وهو أن ظاهر بعض الآيات ـ كالآية ٢ من سورة الحج ـ أنّ الفزع يعمّ الجميع في يوم القيامة ، فكيف أستثني أصحاب الحسنات منه؟.

فالآية (١٠٣) من سورة الأنبياء توضح الجواب على هذا السؤال فتقول :

__________________

(١) اصول الكافي ، وفقا لما جاء في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٠٤.

١٥٦

( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

و «الفزع الأكبر» ـ هو كما نعلم ـ فزع يوم القيامة ، وفزع الدخول في نار جهنّم ـ أعاذنا الله منها ـ لا الفزع الحاصل من النفخة في الصور «فلاحظوا بدقّة».

ثمّ يتحدث القرآن عن الطائفة الأخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) .

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و «كبّت» مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض ، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد!.

وإلقاء هذه الطائفة على وجوهها في النّار من أسوأ أنواع العذاب. إضافة إلى ذلك ، فإنّ أولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يلوون وجوههم ورؤوسهم ، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين فالآن لا بدّ أن ـ يبتلوا بمثل هذا العذاب.

وجملة( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لعلها جواب على سؤال يلقى هنا ، وهو ما لو قيل : إنّ هذا الجزاء «العقاب» شديد ، فيجاب : بأنّ هذا الجزاء إن هو إلّا عملك في الدنيا ، فهل تجزون إلّا ما كنتم تعلمون «فلاحظوا بدقة».

ثمّ يوجه الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة ، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته سواء آمنتم أم لم تؤمنوا؟!

فتقول الآية الأولى من هذه الآيات :( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ) .

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات إلّا أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها!

البلدة المقدسة التي هي حرم أمن الله ، وأشرف بقعة على وجه الأرض ، وأقدم معبد للتوحيد!

١٥٧

أجل أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة( الَّذِي حَرَّمَها ) وجعل لها خصائص وأحكاما وحرمة ، وأمورا أخر لا تتمتع بها أية بلدة أخرى في الأرض!.

لكن لا تتصوروا أن هذه البلدة وحدها لله ، بل له كل شي في عالم الوجود( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) .

والأمر الثّاني الذي أمرت به هو أن أسلم وجهي له( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما (عبادة الواحد الأحد ، والتسليم المطلق لأمره).

والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول :( وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ ) .

أتلوه فأستضيء بنوره ، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة! وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين ، والمواجهة لكل أنواع الشرك والانحراف والضلال ومكافحتها ، ثمّ تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه : لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي ، كما أن الله غني عنكم ، بل( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) .

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية ، كانت أم أخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح( وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .

وعواقبه الوخيمة لا تصيبني فوظيفتي البلاغ والإنذار وإراءة سبيل الحق ، والإصرار على أن تسلكوا سبيل الحق ، إلّا أنّ من أراد أن يبقى في طريق الضلال ، فإنّما يشقى وحده ، فيكون من الخاسرين.

١٥٨

الطريف أنّ القرآن يقول في شأن الهداية :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) ولكنّه لا يقول في شأن الضلال : ومن ضل فضرره عليه ، بل يقول :( فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .

وهذا الاختلاف في التعبير لعله إشارة إلى أنّ النّبيعليه‌السلام يقول : إنّي لا أسكت بوجه الضالين أبدا ، ولا أتركهم على حالهم ، بل أظلّ أنذرهم وأواصل الإنذار ولا أعيا عن ذلك ، لأنني من المنذرين (بالطبع هناك آيات وردت في القرآن في شأن الهداية والضلالة ، وفيها التعبير «لنفسه وعليها» للموضوعين كقوله تعالى :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَ ) فعليها لكننا نعلم أنّ هذا الاختلاف في التعبيرات منسجم مع اختلاف المقامات ، وربّما جاء لإلقاء المعاني المختلفة والمتفاوتة)!

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة شرعت ببيان أهمية القرآن ، وانتهت بالأمر بتلاوته ، فبدايتها ونهايتها عن القرآن.

والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ موجه للنبيّ أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى ، ولا سيما نعمة الهداية فيقول :( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن ، كما يعود للهداية أيضا ، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية( سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ) .

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة ، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود ، ويرفع ستار جديد عنها وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوما بعد يوم وإراءة الآيات هذه مستمرّة دائما ولا تنقطع مدى عمر البشر.

إلّا أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والانحراف ، فلن يترككم الله سدى وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

١٥٩

ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه ، فهو غير مطلع على أعمالكم ، وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة( وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة ، وهي تهديد ذو معنى عميق ، وإنذار لجميع الناس.

والحمد لله رب العالمين

نهاية سورة النمل

* * *

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

فيها أيّ لبس أو غموض.

البيعة للإمام:

وعقد المأمون لبيعة الإمام الرضاعليه‌السلام مهرجاناً شعبياً عاماً خضرته الوزراء، وكبار رجال الدولة، وقادة القوات المسلحة وبقيّة أبناء الشعب، وفي طليعتهم العلويون والعباسيون، وكان ذلك في يوم الثلاثاء في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك(1) سنة (201 ه‍)(2) .

وجلس المأمون على دست الخلافة، ووضع للإمام الرضاعليه‌السلام وسادتين عظيمتين حتى لحق بمجلس المأمون، وعليه عمامة، وقد تقلّد سيفاً، وأمر المأمون ولده العباس أن يبايع للإمام فكان أوّل مَن بايعه(3) ثم بايعه الناس.

كيفية البيعة:

أمّا كيفية بيعة الناس للإمامعليه‌السلام فكانت فريدة لم يألفها ملوك الأمويين والعباسيين، فقد رفععليه‌السلام يده، وتلقّى بظهرها وجهه الشريف،

وباطنها وجوه المبايعين، وبهر المأمون من ذلك، وراح يقول للإمام:

(ابسط يدك للبيعة...).

فأجابهعليه‌السلام :

(إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا كان يبايع)(4) ولعلّ ذلك يستند إلى

قوله تعالى:( يد الله فوق أيديهم ) فلا يصح أن تكون يد المبايع فوق يد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو فوق يد الإمامعليه‌السلام .

الإمام يخبر بعدم تمامية هذا الأمر:

ولـمّا جلس الإمام الرضاعليه‌السلام ذلك المجلس، وقد لبس الخلع، والخطباء والشعراء يشيدون بفضله، ويدعون الناس إلى مبايعته نظرعليه‌السلام

إلى بعض مواليه، وقد داخله السرور، وعمّته الأفراح، فأشار إليه فأسرع نحوه فأسرّ إليه قائلاً:

____________________

(1) عيون التواريخ 3 / ورقة 221.

(2) سر السلسلة العلوية (ص 38) مرآة الزمان 6 / ورقة 40 تأريخ القضاعي.

(3) البحار.

(4) مقاتل الطالبيين.

٢٨١

(لا تشعل قلبك بشيء ممّا ترى من هذا الأمر، ولا تستبشر فإنه لا يتم)(1)، وتحقّق ما أخبر به الإمامعليه‌السلام فإنّه لم تتم هذه البيعة للإمام، وخاس المأمون بعهده ووعده، فغدر بالإمام ودسّ إليه سمّاً فاغتاله.

خطبة المأمون:

ولـمّا انتهت مراسيم البيعة قام المأمون فاعتلى المنبر، وخطب الناس فقال في جملة خطابه:

(أيّها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، والله لو قرأت هذه الأسماء على الصم البكم لبرأوا بإذن الله عزّ وجل)(2) .

خطبة الإمام الرضا:

ولـمّا تمّت البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام ، وطلب منه المأمون أن يعتلي المنبر، ويخطب الناس، فصعد المنبر وقال بعد حمد الله والثناء عليه:

(أيّها الناس إنّ لنا عليكم حقا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكم علينا حق به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب علينا الحق لكم...).

ولم يذكر الإمام غير هذه الكلمات(3) التي أعرب فيها عن حقّه على الناس؛ لأنّه ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي برّ بدينهم ودنياهم، وأخرجهم من حياة التيه والضياع، فإذا وفوا له بحقّه، وأقاموه خليفة عليهم فقد وجب عليه أن يقيم في ربوعهم الحق، بجميع رحابه ومفاهيمه.

خطبة العبّاس:

وانبرى العباس الخطيب، فخطب خطاباً رائعاً بليغاً، وختم خطابه بهذا البيت:

____________________

(1) الفضول المهمة (ص 238).

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 147.

(3) عيون أخبار الرضا.

٢٨٢

لا بد للناس من شمس، ومن قمر

فأنت شمس، وهذا ذلك القمر(1)

الممتنعون من البيعة للإمام:

وامتنع جماعة من البيعة للإمامعليه‌السلام ، فقد حقدوا عليه، وكرهوه، ونقموا على المأمون ببيعته بولاية العهد للإمام وهم:

1 - عيسى الجلودي.

2 - علي بن عمران.

3 - أبو يونس(2) .

وأمر المأمون بإلقاء القبض عليهم وإيداعهم في السجن.

تنفيذ حكم الإعدام فيهم:

وأمر المأمون بإخراج هؤلاء الثلاثة الممتنعين من البيعة للإمام من السجن، فلمّا مثلوا عنده رأوا الإمام إلى جانبه فتميزوا غيظاً وغضباً، وانبرى علي بن أبي عمران فقال للمأمون:

(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تخرج هذا الأمر الذي جعله الله لكم، وخصكم به، وتجعله في أيدي أعدائكم، ومن كان آباؤك يقتلونهم، ويشردونهم في البلاد...).

فصاح المأمون: (يا بن الزانية، وأنت بعد على هذا؟...).

ثم أمر بضرب عنقه، فنفذ ذلك فيه، وأدخل عليه أبو يونس فلمّا رأى الإمام إلى جانب المأمون محاطاً بهالة من الحفاوة والتكريم ساءه ذلك، وخاطب المأمون قائلاً:

(يا أمير المؤمنين هذا الذي بجنبك، والله صنم يعبد من دون الله...).

فأمر المأمون بإعدامه فأعدم، ودخل عليه الجلودي، وكان من أعدي الناس لأهل البيتعليهم‌السلام ، وهو الذي بعثه الرشيد لسلب بنات رسول الله (ص) في

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 364).

(2) عيون أخبار الرضا.

٢٨٣

يثرب، ومصادرة ما عليهنّ من حلي وحلل، فجاء إلى بيت الإمام الرضاعليه‌السلام وأراد الهجوم على بيت الإمام، وسلب ما على العلويات من ثبات فأبى الإمام فلم يعن به الجلودي، وأخذ الإمام يتوسّل إليه، ويعده بأن يأتي ما أراد فانصاع لقوله، ودخل الإمام إلى بيته فجمع له كل ما على العلويات من حلي وحلل فجاء به إلى الجلودي فأخذه، وقد طلب الإمام من المأمون أن يهب له الجلودي، فقال المأمون:

(يا سيدي هذا الذي فعل ببنات محمد (ص) ما فعل من سلبهن؟...).

ونظر الجلودي إلى الإمام وهو يكلّم المأمون ويتوسّل إليه في العفو عنه فظن الغبي أنّه يريد الانتقام منه لما فعله معه، فقال للمأمون:

(يا أمير المؤمنين أسألك بالله، وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قول هذا في...).

والتفت المأمون إلى الإمام الرضا فقال له:

(يا أبا الحسن قد استعفى، ونحن نبرّ قسمه...).

وخاطب المأمون الجلودي فقال له:

(لا والله لا أقبل قوله فيك...).

ثم التفت إلى الشرطة، وقال لهم: ألحقوه بصاحبيه، فقُدّم وضربت عنقه(1) .

قرارات هامّة:

وأصدر المأمون قرارات هامّة بمناسبة عقده ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وهي:

1 - إعطاء الجنود رواتبهم سنة كاملة.

2 - ترك لباس الأسود الذي كان لباس العباسيين(2) ولبس اللباس الأخضر؛ لأنّ ذلك فيما أحسب هو لباس أهل الجنة، قال تعالى:( وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) (3) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 161 - 162.

(2) ورد في بعض الأخبار أنّ جبرئيل هبط على النبي (ص) في قباء أسود فقال (ص): له يا جبرئيل ما هذا الزي؟ فقال: زي ولد عمّك العبّاس، يا محمد ويل لولدك من ولد عمّك العباس، جاء ذلك في وسائل الشيعة 3 / 279.

(3) سورة الكهف: آية 31.

٢٨٤

3 - ضرب الدراهم والدنانير باسم الإمام الرضاعليه‌السلام وقد أورد السيد عبد القادر أحمد اليوسف نماذج من تلك النقود ما يلي:

(الدينار)

كتب في مركز وجهه: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له).

وكتب على النطاق: بسم الله ضرب هذا الدينار بسمرقند سنة اثني ومائتين.

وكتب على الطوق:( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) .

وكتب في مركز القفا: الله، محمد رسول الله، المأمون خليفة الله، ممّا أمر الأمير الرضا ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن علي بن أبي طالب.

وكتب على طوق مركز القفا: (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).

(الدرهم)

نقل عبد القادر صورة الدرهم من متحف برلين المرقّم (1295) صورة الكتابة في مركز الوجه: (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له) سنة ثلاث ومائتين.

كتابة الطوق( لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ) .

كتابة القفا: (الله، محمد رسول الله، المأمون خليفة الله، ممّا أمر به الرضا).

كتابة الطوق: (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين ولو كره المشركون).

صورة أخرى من الدرهم الموجود في المتحف البريطاني في لندن تحت رقم (289).

مركز الوجه: كتب عليه (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له).

النطاق: كتب عليه سنة اثنين.

الطوق: كتب عليه (لله الأمر من قبل ومن بعد).

مركز القفا: مر به...

... المسلمين علي بن موسى

... علي بن أبي طالب

٢٨٥

... ذو الرياستين.

الطوق: محمد رسول الله.

إنّ هذه النقاط هي حروف ممحاة لأنّها مصوّرة هكذا (الكتلوكات) العالمية، ومسحت هذه الكتابة نتيجة قدم هذه النقود، وتداولها الكثير، وتوجد نماذج من الدراهم ضربت سنة (704 ه‍) تيمّناً بسكّة الإمام، وقد كتب عليها ما كتب على السكّة الأصلية(1) .

زواج الإمام بابنة المأمون:

وعرض المأمون على الإمام الرضاعليه‌السلام أن يتزوّج الأميرة السيدة أم حبيب(2) فقبل الإمام ذلك وتزوّج بها، وإنّما عمد المأمون تقرّباً للإمام، وحتى تقوى العلاقة بينهما، ويرى بعض المحلّلين للأخبار أنّ سبب ذلك أن تكون ابنته عيناً لأبيها على جميع تصرّفات الإمام وتحرّكاته، وهذا ليس ببعيد عن سياسة المأمون ودهائه.

البيعة للإمام في جميع الأقطار:

وأمر المأمون جميع ولاته وعمّاله في جميع الأقطار والأقاليم الإسلامية بأخذهم البيعة للإمام الرضا بولاية العهد من جميع المواطنين، وهذه بعض الأقاليم التي أخذ منها البيعة.

1 - يثرب:

واستقبلت يثرب بجميع قطاعاتها الشعبية نبأ ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام بمزيد من الأفراح والابتهاج، وسارع والي يثرب عبد الجبار المساحقي إلى الجامع النبوي ليأخذ البيعة من أهالي المدينة إلى الإمام بعد أن أمره المأمون بذلك، واعتلى أعواد المنبر فخطب الناس وكان من جملة خطابه: أيّها الناس هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا على بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم.

____________________

(1) الإمام علي الرضا ولي عهد المأمون (ص 62 - 65).

(2) ذكر أبو الفرج ان الإمام الرضا تزوج بابنة المأمون أم الفضل، وهو خطأ والصحيح انه تزوج بأم حبيب.

٢٨٦

ستة آباؤهم من خير من يشرب صوب الغمام(1) .

لقد كانت البيعة للإمام الرضا من أهم ما تصبوا إليه الأمة الإسلامية، ومن أغلى أمانيها، فهي تتقرّب بفارغ الصبر رجوع الحكم للإمام؛ ليقيم فيها العدل الخالص، وينشر الأمن والرخاء في ربوعها، وينقذها من جور العباسيين وظلمهم.

2 - مصر:

وكتب المأمون إلى عامله على مصر (السري) يأمره بأخذ البيعة من المصريين لولي عهده الإمام الرضا، وقد ورد الكتاب على (السري) في شهر محرّم سنة (202 ه‍) وقام (السري) بأخذ البيعة إلى الإمامعليه‌السلام ، إلاّ أنّ إبراهيم بن المهدي شيخ المغنّين ببغداد قام في إفساد هذه البيعة فقد كتب إلى وجوه الجند وقادتهم بمصر يأمرهم بخلع المأمون وولي عهده، وبالوثوب على (السري)، وقد استجاب له جماعة منهم الحارث بن زرعة بن محزم بالفسطاط، و عبد العزيز الوزير الجروي بأسفل الأرض، وسلامة بن عبد الملك الأزدي الطحاوي بالصعيد، وسليمان بن غالب بن جبريل، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الجبار الأزدي فناهضوا (السري)، ودعوا الناس إلى بيعة إبراهيم وجعلوا الوالي على مصر عبد العزيز الأزدي، فحاربهم (السري)، وظفر بعبد العزيز، وبجمع من أهل بيته فقتل بعضهم، وبعث ببعضهم مع ابنه عبد العزيز إلى المأمون فقتلهم، وهرب الباقون إلى الحروري وذلك لمنعته(2) وأخمدت بذلك الثورة، وبايع الناس إلى الإمام.

3 - مكّة:

ووجّه المأمون إلى مكّة المكرّمة عيسى الجلودي ليأخذ البيعة من أهلها للإمام، وكان في مكة مقيماً إبراهيم أخو الإمام الرضاعليه‌السلام ، ودعا عيسى المكيين إلى بيعة الإمام (علله السلام) والى لبس اللباس الأخضر، فاستجابوا له فرحين شاكرين، داعين للمأمون على تحقيق أمنيتهم، وأملهم في هذه البيعة(3).

4 - الكوفة:

وتلقّت الأكثرية الساحقة في الكوفة بمزيد من الفرح والسرور نبأ البيعة للإمام،

____________________

(1) العقد الفريد 5/226.

(2) الولاة وكتاب القضاء (ص 168).

(3) تاريخ اليعقوبي 3/277.

٢٨٧

وقد عهد المأمون لأخذ البيعة من الكوفيين العباس نجل الإمام موسىعليه‌السلام ، وأمدّه إبراهيم بن عبد الحميد بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك فإنّ أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك، وأنا معك، وقام العباس بهذه المهمّة فاستجاب له جمهور كبير منهم، وقال له قوم: إن كنت تدعو للمأمون ثم من بعده لأخيك فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك، فقال لهم العباس: أنا أدعو إلى المأمون أوّلاً، ثم من بعده لأخي الرضا.

وامتنع هؤلاء من البيعة للإمام، وأخذوا يندّدون بمَن بايع، ويدعونهم إلى نكث البيعة، ولـمّا علم إبراهيم بن المهدي تخاذل أهل الكوفة أوعز إلى جيشه المقيم في النيل بقيادة سعيد، وأبي البيط، لإخضاع الكوفة، والقضاء على التمرّد، وسرت جيوش إبراهيم حتى انتهت إلى (القنطرة) قرب (دير الأعور) فاعترضتهم قوّة عسكرية بقيادة العلوية علي بن محمد بن جعفر، وأبي عبد الله شقيق الزعيم الكبير أبي السرايا فالتحمت معها، وأخيراً انتصرت جيوش إبراهيم بن مهدي.

وزحفت جيوش إبراهيم نحو (الكوفة)، وقد ارتدت اللباس الأسود، وكان شعارها (يا منصور لا طاعة للمأمون) وجبن أهل الكوفة من مناجزتهم فأرسلوا وفداً لطلب الأمان للعباس وجماعته من القائد العام لجيش إبراهيم فأجابهم إلى ذلك، وشرط عليهم أن يخرج العباس وأصحابه من الكوفة، وأقبل الوفد إلى العباس، وهو لا يعلم بذلك فقالوا له: إنّ عامة مَن معك غوغاء، وقد ترى ما يلقى الناس من الحرب والنهب والقتل فاخرج من بين أظهرنا لا حاجة لنا فيك(1) .

وخرج العباس من الكوفة وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير، واستبان له أنّ أهل الكوفة لا ذمّة لهم، ولا وفاء لهم بعهد ووعد ودخلت جيوش إبراهيم الكوفة، ولم تحدث أيّة مصادمات بينها وبين الجماعة التي بايعت الإمام بولاية العهد.

هذه بعض المناطق التي أخذت فيها البيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

____________________

(1) تأريخ الطبري.

٢٨٨

ناقدون للإمام:

ووجّه جماعة من الشيعة وغيرهم نقداً للإمام الرضاعليه‌السلام على قبوله لولاية العهد من قبل المأمون العباسي كان منهم:

1 - محمد بن عرفة:

واقبل محمد بن عرفة نحو الإمام، وقال له: (يا بن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟).

فأجابه الإمام:

(ما حمل جدّي أمير المؤمنينعليه‌السلام على الدخول في الشورى)(1)

لقد أرغم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على الدخول في الشورى التي عقدها عمر بن الخطاب لانتخاب الخليفة من بعده، وقد أعلن الإمام عن أساه

وحزنه لانضمامه مع أعضاء الشورى، قائلاً: (فيا لله وللشورى متى اعترض الريب في مع الأول حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر) وكما أرغم جده وأكره على الدخول في الشورى فكذلك أرغم هو على قبول ولاية العهد.

2 - رجل:

وأنكر عليه رجل تقلّده لولاية العهد قائلاً له:

(كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟).

فقالعليه‌السلام له:

- أيّهما أفضل النبي أو الوصي؟

- النبي.

- أيّهما أفضل المسلم أو المشرك؟

- لا بل المسلم.

- إنّ العزيز (عزيز مصر) كان مشركاً، وكان يوسف نبياً، وإنّ المأمون مسلم، وأنا وصي، ويوسف سأل العزيز أن يولّيه حين قال له: اجعلني على خزائن الأرض، وأنا أُجبرت على ذلك(2) .

____________________

(1) وسائل الشيعة 12 / 148.

(2) وسائل الشيعة 12 / 146.

٢٨٩

3 - الريّان بن الصلت:

ودخل الريان بن الصلت على الإمام الرضاعليه‌السلام فقال له: (يا بن رسول الله إنّ الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا؟)

فأجابه الإمام:

(قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك، وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم إنّ يوسف كان نبياً رسولاً، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال له: اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك، على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان)(1) .

وأعرب الإمام عن كراهته البالغة وبغضه الشديد لهذا المنصب إلاّ أنّه أرغم وأجبر على ذلك.

4 - خارجي:

وأقبل خارجي يشتد نحو الإمام فقال له: أخبرني عن دخولك لهذا الطاغية فيما دخلت فيه، وهم عندك كفّار، وأنت ابن رسول الله (ص)، فما حملك على هذا؟

فقالعليه‌السلام :

وهؤلاء أكفر عندك أم عزيز مصر وأهل مملكته؟ أليس هؤلاء على حال يزعمون أنّهم موحِّدون، وأولئك لم يوحّدوا الله ولم يعرفوه، ويوسف بن يعقوب نبي ابن نبي، فسأل العزيز وهو كافر فقال:( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وكان يجلس مجلس الفراعنة، وإنّما أنا رجل من ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أجبرني على هذا الأمر، وأكرهني عليه، ما الذي أنكرت، ونقمت عليّ وراح الخارجي يقول: (أشهد أنّك ابن رسول الله، وانك صادق)(2) .

وأعرب الإمامعليه‌السلام في أحاديثه مع الناقدين له عن إرغامه على قبول ولاية العهد، فقد خيّر بينها وبين القتل فاختار ولاية العهد لإنقاذ نفسه من الهلاك الذي لا يعود بأيّة فائدة على القضية الإسلامية.

____________________

(1) وسائل الشيعة 12 / 147.

(2) وسائل الشيعة 12 / 149 - 150.

٢٩٠

الناقمون على المأمون:

ونقمت القوى المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام على المأمون لعقده بولاية العهد للإمام الرضا، واعتبروا ذلك تحويلاً للخلافة عن الأسرة العباسية التي ينعمون في ظلالها.

وكان من أشد الناقمين على المأمون الأسرة العباسية، فقد اعتبرت ذلك خطراً على مملكتهم، وقد قامت قيامتهم، وورمت أنوفهم، وقاموا بما يلي من الإجراءات:

خلع المأمون:

وخلع العباسيون بيعة المأمون، واعتبروها لاغيه، وأعلنوا أمام الجماهير عصيانهم للمأمون، وطلبوا من المواطنين رفض بيعته، وبيعة ولي عهده، فاستجاب لهم خلق كثير، وبذلك فلم تعد بيعة للمأمون في أعناقهم.

البيعة لإبراهيم بن شكلة:

وعمد العباسيون إلى بيعة عميدهم إبراهيم بن شكلة(1) شيخ المغنّين، والموسيقين في بغداد، ودعي له بالخلافة، وسمّي بالمرضي(2) وكانت خلافته موضع استهزاء وسخرية من قبل الأوساط الواعية والمفكّرة؛ وذلك لاستهتاره، وتحلّله من جميع القيم والأعراف وفيه يقول الشاعر الاجتماعي الثائر دعبل الخزاعي:

نصر ابن شكلة بالعراق وأهله

فهفا إليه كل أطلس مائقِ(3)

إن كان إبراهيم مضطلعاً بها

فلتصلحن من بعده لمخارقِ

ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ

ولتصلحن من بعده للمارقِ

أنّى يكون وليس ذاك بكائنٍ

يرث الخلافة فاسقٌ عن فاسقِ(4)

لقد سخر دعبل من الخلافة التي تولاّها هذا المائق المتحلّل، وإذا صلحت له فلتصلح من بعده لأقرانه المغنّين أمثال: زلزل ومخارق، ومن سخرية الأقدار أن تؤول الخلافة الإسلامية لإبراهيم، ويتولّى شؤون المسلمين وكان إبراهيم - فيما يقول

____________________

(1) شكلة: أم إبراهيم وكانت جارية سوداء، وكان إبراهيم شديد عظيم الجثة حتى قيل له التنين، وفيات الأعيان 1 / 20.

(2) تأريخ اليعقوبي.

(3) نعر: صاح، والأطلس: الذئب، والمائق: المغيظ الباكي.

(4) وفيات الأعيان 1 / 21، تأريخ بغداد لطيفور (ص 160).

٢٩١

المؤرّخون - من أعدى الناس لآل عليعليه‌السلام ، وحينما علم بعقد ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ورم أنفه وانتفخت أوداجه غيظاً وغضباً وأثر عنه من الشعر في ذلك هذه الأبيات:

فلا جزيت بنو العباس خيراً

على زعمي ولا اغتبطت بري

أتوني مهطعين وقد أتاهم

بوار الدهر بالخير الجلي

وحلّ عصائب الأملاك منها

وشدّت في رؤوس بني علي

فضجّت أن تشد على رؤوس

تطالبها بميراث النبي(1)

وفي عهده أصيبت الخزينة المركزية بالعجز، واجتمع الأجناد على بلاطه مطالبين بأرزاقهم، فخرج إليهم رسوله، وقال لهم: إنّه لا مال عنده، وطلب أحد الظرفاء، فقال: بدلاً من المال فليخرج الخليفة فيغنّي لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، ولأهل ذلك الجانب ثلاثة أصوات(2) .

ونظم دعبل هذه الصورة المضحكة بقوله:

يا معشر الأجناد لا تقنطوا

وارضوا بما كان ولا تسخطوا

فسوف تعطون حنينية

يلتذّها الأمرد والأشمط(3)

والمعبديات لقوادكم

لا تدخل الكيس ولا تربط(4)

وهكذا يرزق قوّاده

خليفة مصحفه البربط(5)

قد ختم الصك بأرزاقكم

وصحّح العزم فلا تسخطوا

بيعة إبراهيم مشؤومة

يقتل فيها الخلق أو يقحطوا(6)

رسالة المأمون للعبّاسيين:

وتبودلت رسائل السب والقذف بين المأمون وأعمامه وأقربائه العباسيين، وكان من بينها هذه الرسالة التي بعثها المأمون للعباسيين(7) ، وهذا نصّها بعد البسملة:

____________________

(1) الولاة وكتاب القضاة (ص 168).                              (2) وفيات الأعيان 1 / 21.

(3) الأمرد: الذي لا لحية له، الأشمط: الذي له لحية.

(4) المعبديات: أصوات من الغناء تنسب إلى معبد المغني.

(5) البربط: الطبل.                                                  (6) عصر المأمون 3 / 255 - 256

(7) وهي جواب عن رسائلهم التي بعثوها للمأمون، وطلبوا منه الإجابة عليها فأجابهم بهذه الرسالة التي جرّدتهم من كل محتوى نبيل وشريف.

٢٩٢

(الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآل محمد على رغم أنف الراغمين، أمّا بعد:

عرف المأمون كتابكم، وتدبير أمركم، ومخض زبدتكم، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم، وعرفكم مقبلين ومدبرين، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل، وصرف وجوه الحق عن مواضعها، ونبذكم كتاب الله والآثار، وكلّما جاءكم به الصادق محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى كأنّكم من الأمم السالفة، التي هلكت بالخسفة والغرق، والريح والصيحة والصواعق والرجم.

أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد، لولا أن يقول قائل: إنّ المأمون ترك الجواب عجزاً لما أجبتكم، من سوء أخلاقكم، وقلّة أخطاركم وركاكة عقولكم، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم، فليستمع مستمع، فليبلغ شاهد غائباً...).

وحفل هذا المقطع من كلام المأمون بما يلي:

1 - إنّه ابتدأ رسالته بالصلاة على النبي، ثم عطف عليه آله فصلّى عليهم وعقّب ذلك بقوله: (على رغم الراغمين) وعنى الراغمين بني العباس الذين جهدوا على محو ذكر آل النبي (ص)، وإزالة أرصدتهم الروحية والفكرية من دنيا الإسلام.

2 - إنّ المأمون مطّلع على خفايا نفوس العباسيين، وعالم بدخائل قلوبهم، عرفهم مقبلين ومدبرين، عرفهم مندفعين نحو الباطل نابذين للحق، تاركين لكتاب الله، وما جاء به الرسول الأعظم (ص).

3 - إنّه إنّما أجابهم عن رسائلهم لا عناية بهم، وإنّما كي لا يقال إنّه عاجز عن الجواب... ولنعد لنقرأ الفصل الثاني من رسالة المأمون.

(أمّا بعد: فإنّ الله تعالى بعث محمداً (ص) على فترة من الرسل، وقريش في أنفسها وأموالها، لا يرون أحداً يساميهم، ولا يباريهم، فكان نبينا (ص) أميناً من أوسطهم بيتاً، وأقلّهم مالاً فكان أول مَن آمن به خديجة بنت خويلد، فواسته بمالها، ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو ابن سبع سنين، لم يشرك بالله شيئاً طرفة عين، ولم يعبد وثناً، ولم يأكل رباً، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم، وكانت عمومة رسول الله إمّا مسلم مهين أو كافر معاند، إلاّ حمزة فإنّه لم يمتنع من الإسلام،

٢٩٣

ولا يمتنع الإسلام منه، فمضى لسبيله على بينة من ربّه.

وأمّا أبو طالب فإنّه كفله وربّاه، ولم يزل مدافعاً عنه، ومانعاً منه، فلمّا قبض الله أبا طالب فهم القوم، واجتمعوا عليه ليقتلوه فهاجر إلى القوم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون مَن هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون...).

عرض هذا المقطع إلى بعثة الرسول الأعظم (ص) في مجتمع متكبّر يرى أنّه لا يدانيه، ولا يساويه أحد، وفي فجر الدعوة المشرقة ما آمن به إلاّ أم المؤمنين السيدة خديجة، وقد رصدت لدعوته جميع أموالها، ومن بعدها آمن به الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكان عمره الشريف سبع سنين، ولم يسجد لصنم ولم يعبد وثناً، وإنّما عبد الله تعالى عن إيمان وإخلاص.

أمّا أعمام النبي (ص) فكان فيهم المشرك والحاقد والضال، وهو أبو لهب.

وكان فيهم بطل الإسلام أسد الله الشهيد حمزة الذي أعزّ الله به الإسلام، ونافح عن الرسول بكل بسالة حتى استشهد.

وخيرة أعمام النبي (ص) هو أبو طالب الذي آمن بالإسلام واعتنق أهدافه ومبادئه، ووقف إلى جانب الرسول (ص) يحميه، ويدفع عنه كيد المعتدين، ولـمّا انتقل هذا العملاق العظيم إلى حظيرة القدس، فقد النبي (ص) المحامي والمدافع عنه، وهمّت قريش بقتله فخرج (ص) مهاجراً إلى (يثرب) فاتخذها مقرّاً لدعوته، وعاصمة لحكومته، فقد وجد فيها الصفوة الصادقة المتفانية في الذب عنه، ولنعد إلى فصل آخر من فصول هذه الرسالة:

(ولم يقم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب، فإنه آزره، ووقاه بنفسه، ونام في مضجعه، ثم لم يزل بعد مستمسّكاً بأطراف الثغور، وينازل الأبطال، ولا ينكل عن قرن، ولا يولّي عن جيش، منيع القلب يؤمر على الجميع، ولا يؤمر عليه أحد، أشد الناس وطأة على المشركين، وأعظمهم جهادا في الله، وأفقههم في دين الله، وأقرأهم لكتاب الله وأعرفهم بالحلال

والحرام.

وهو صاحب الولاية في حديث (غدير خم) وصاحب قوله (ص): (أنت منّي

٢٩٤

بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي) وصاحب يوم الطائف، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى والى رسول الله (ص)، وصاحب الباب فتح له، وسد أبواب المسجد وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة، وأخو رسول الله (ص) حين آخى بين المسلمين.

وهو منيع جزيل، وهو صاحب آية( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وهو ختن خديجة، وهو ابن عم رسول الله (ص) رباه وكفله، وهو ابن أبي طالب في نصرته وجهاده، وهو نفس رسول الله (ص) في يوم المباهلة.

وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر يتقلدان أمرا حتى يسألانه عنه، فما رأى أنفذاه، ولم يره ردّاه، وهو دخل من بني هاشم في الشورى، ولعمري لو قدر أصحابه على دفعه عنه، كما دفع العباس رضوان الله عليه، ووجدوا إلى ذلك سبيلاً لدفعوه.

فأمّا تقديمكم العباس عليه، فإنّ الله تعالى يقول:( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ) .

والله لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل والآي المفسّرة في القرآن خلّة واحدة في رجل من رجالكم أو غيره؛ لكان مستأهلاً للخلافة، مقدّماً على أصحاب رسول الله (ص) بتلك الخلّة، ثم لم تزل الأمور تترقّى به إلى أن ولي أمور المسلمين فلم يعن بأحد من بني هاشم إلاّ بعبد الله بن عباس، تعظيماً لحقه، ووصلة لرحمه، وثقة به فكان من أمره الذي يغفر الله له...).

وعرض هذا المقطع إلى بعض فضائل الإمام أبي الحسين رائد الحكمة والعلم في دنيا الإسلام، والتي منها دفاعه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد آزره، ووقاه بنفسه ومهجته، وبات على فراشه حينما احتمت قريش على قتلهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نازل الأبطال، فحصد رؤوسهم دفاعا عن الإسلام، فكان من أشدّ الناس وطأة على الكافرين والملحدين، فما أعظم عائدته على الإسلام!

ومن فضائله أنّه كان أعلم المسلمين، وأفقههم، وأكثرهم إحاطة ودراية بأحكام الدين، وشريعة سيد المرسلين وقد عقد النبي (ص) له الولاية، وجعله خليفة من بعده في (غدير خم) وقال مقالته الذائعة: (مَن كنت مولاه فهذا علي مولاه

٢٩٥

اللهم من والاه، وعاد من عاداه)، وأشاد النبي (ص) به مرّة أخرى فقال له: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي).

وكان من سموّ منزلته، وعظيم شأنه عند النبي (ص) أنّه أمر بسد جميع الأبواب التي كانت على جامعه الأعظم، ولم يستثن منها إلاّ باب علي فإنّها ظلّت مفتوحة، لم تغلق، ومن مناقبه أنّه صاحب الراية (يوم خيبر )، فهو الذي فتح حصون (خيبر ) وقضى على اليهود، وهو صاحب عمرو بن عبد ود الذي جبن المسلمون عن منازلته، فلم يبرز إليه سوى بطل الإسلام وحاميه الإمامعليه‌السلام .

ومن مناقب الإمام أمير المؤمنين أنّ النبي (ص) لـمّا آخى بين المسلمين، فبقي علي وحده فآخاه النبي (ص) وقال له: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة.

ومن مناقبه وفضائله أنّه نزلت فيه وفي ولديه وزوجته سيدة نساء العالمين الآية الكريمة( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) .

ومن مناقبه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله زوّجه بسيدة نساء المسلمين وبضعته فاطمة الزهراءعليها‌السلام فلم يكن لها كفوء سواه.

ومن عظيم مناقبه أنّه نفس النبي (ص) كما دلّت على ذلك بوضوح آية المباهلة، فكان سلام الله عليه بمواهبه وعبقرياته امتداداً ذاتياً لشخصية الرسول

الكريم التي ملأت الآفاق نوراً.

ونظراً لسموّ ذاته، وعظيم مكانته كان أبو بكر وعمر لا ينفذان أمراً حتى يأخذا رأيه فيه، ومن الطبيعي أنّ ذلك الأمر ممّا يتعلّق بأحكام الدين.

وفي هذا المقطع أنّه لو وجدت بعض فضائل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في رجل من المسلمين لكان أهلاً ليتقلّد الخلافة والإمرة على المسلمين، هذا بعض ما قاله المأمون في هذا المقطع، ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(ثم نحن وهم يد واحدة - كما زعمتم - حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا،

فأخفناهم، وضيّقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إيّاهم، ويحكم إنّ بني أمية إنّما قتلوا مَن سلّ منهم سيفاً، وإنّا معشر بني العباس قتلناهم جملاً فلتسألن أعظم الهاشمية، بأيّ ذنبٍ قتلت، ولتسألن نفوساً ألقيت في دجلة والفرات، ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء، هيهات، إنّه مَن عمل مثقال ذرة خير يره، ومَن يعمل مثقال

٢٩٦

ذرة شراً يره).

عرض هذا المقطع إلى بعض ما جرى على آل النبي (ص) من المأسي من حكّام بني العباس، فقد جهدوا على ظلمهم، وتصفيتهم جسدياً، يقول المنصور الدوانيقي للإمام الصادقعليه‌السلام : (لأقتلنّك، ولأقتلن أهلك، حتى لا أبقي منكم قامة سوط)(1) .

وقال المنصور: (قتلت من ذرّية فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم جعفر بن محمد...)(2) .

وقال إسماعيل الديباج عندما هرب من المنصور:

لم يروه ما أراق البغي من دمنا

في كل أرض فلم يقصر من الطلبِ

وليس يشفي غليلاً في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها ابنا لبنت نبي(3)

وقد عرض المأمون إلى ألوان رهيبة ممّا صبّه العباسيون على السادة العلويين من المآسي، والتي منها:

أ - إبادة العلويين جملاً.

ب - إلقاؤهم وهم أحياء في حوض دجلة والفرات حتى ماتوا غرقاً.

ج - دفنهم وهم أحياء في بغداد والكوفة.

إلى غير ذلك من صنوف الإرهاق والتنكيل الذي عاناه أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من العباسيين...

ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة:

(وأمّا ما وصفتم في أمر المخلوع، وما كان فيه من لبس، فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم، إذ هونتم عليه النكث، وزينتم له الغدر، وقلتم له: ما عسى أن يكون من أمر أخيك، وهو رجل مغرب، ومعك الأموال والرجال، نبعث إليه فيؤتى به، فكذبتم ودبرتم، ونسيتم قول الله تعالى:( ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ) وأعرب المأمون - في هذا المقطع - عن الأحداث التي جرت بينه وبين أخيه الأمين، وإنّها

____________________

(1) المناقب 3 / 357، البحار 47 / 178.

(2) الأدب في ظل التشيع (ص 68).

(3) النزاع والتخاصم للمقريزي (ص 51).

٢٩٧

تستند إلى العباسيين فهم الذين حبّبوا إليه خلع المأمون والنكاية به، ولم يكن ما وقع عن رأي الأمين وتدبيره، وهذا فصل آخر من هذه الرسالة:

(وأمّا ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا فما بايع له المأمون إلاّ مستبصراً في أمره، عالماً بأنّه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلاً، ولا أظهر عفّة، ولا أورع ورعاً، ولا أزهد زهداً في الدنيا، ولا أطلق نفساً، ولا أرضى في الخاصة والعامة، ولا أشد في ذات الله منه، وأنّ البيعة له لموافقة رضى الربّ عزّ وجل، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم.

ولعمري لو كانت بيعتي محاباة لكان العباس ابني وسائر ولدي أحبّ إلى قلبي، وأحلى في عيني، ولكن أردت أمراً، وأراد الله أمراً، فلم يسبق أمري أمر الله).

وحكى هذا المقطع بيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وأنّها لم تكن محاباة، أو اندفاعاً وراء العواطف والأهواء، وإنّما كانت عن اجتهاد وتبصّر، وتدبّر في أمور المسلمين؛ وذلك لما يتمتّع به الإمام العظيم من الصفات الرفيعة، والتي منها:

أ - إنّ الإمام أفضل إنسان على وجه الأرض.

ب - إنّ الإمام أعفّ إنسان.

ج - الورع عن محارم الله.

د - إجماع المسلمين على تعظيمه، وتقديمه بالفضل على غيره.

ه‍ - إنّهعليه‌السلام لا تأخذه في الله لومة لائم.

وهذه الصفات هي التي دفعت المأمون إلى البيعة للإمام بولاية العهد، ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا ما ذكرتم ممّا مسّكم من الجفاء في ولايتي فلعمري ما كان ذلك إلاّ منكم بمظافرتكم علي، وممايلتكم إيّاه، فلمّا قتلته، وتفرّقتم عباديد فطوراً أتباعاً لابن أبي خالد، وطوراً أتباعاً لأعرابي، وطوراً أتباعاً لابن شكلة، ثم لكل مَن سلّ سيفاً عليّ، ولولا أنّ شيمتي العفو، وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحداً، فكلكم حلال الدم محل بنفسه).

وأعرب المأمون عن الجفاء والحرمان الذي لحق بالعباسيين في عهده، فإنّهم هم السبب في ذلك، فقد أيّدوا الأمين وناصروه، ولـمّا قُتل انضموا إلى كل مَن أعلن

٢٩٨

التمرّد على حكومته أمثال: إبراهيم بن شكلة، وغيره؛ وبذلك فقد ملأوا قلب المأمون حقداً عليهم، ولولا أنّ طبيعته التجاوز - كما يقول - لما أبقى عباسياً على وجه الأرض، وهذا فصل آخر من رسالته يقول:

(وأمّا ما سألتم من البيعة للعباس ابني... أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ويلكم إنّ العباس غلام حدث السن، ولم يؤنس رشده، ولم يمهل وحده، ولم تحكمه التجارب، تدبّره النساء، وتكلّفه الإماء، ثم لم يتفقّه في الدين، ولم يعرف حلالاً من حرام إلاّ معرفة لا تأتي به رعية، ولا تقوم به حجّة، ولو كان مستأهلاً قد أحكمته التجارب، وتفقّه في الدين، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا، وصرف النفس عنها ما كان له عندي إلاّ ما كان لرجل من عك وحمير، فلا تكثروا من هذا المقال فإنّ لساني لم يزل مخزوناً عن أمور وأنباء كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف، علماً بأنّ الله بالغ أمره، ومظهر قضاه يوماً.

فإذا أبيتم إلاّ كشف الغطاء، وقشر العظاء، فالرشيد أخبرني عن آبائه، عمّا وجده في كتاب الدولة وغيرها، أنّ السابع من ولد العباس، لا يقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلّقة عليهم بحياته، فإذا أودعت فودعها، إذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلاً، وهيهات مالكم إلاّ السيف، يأتيكم الحسني الثائر البائر، فيحصدكم حصداً، أو السفياني المرغم، والقائم المهدي لا يحقن دماءكم إلاّ بحقّها...).

وحفل هذا المقطع بذكر الأسباب التي دعت المأمون إلى عدم ترشيح ولده العباس لولاية العهد، فإنّه لم يستجمع الشرائط التي ينبغي توفّرها في ولي العهد من العلم والفضل والتقوى وغيرها، فقد كان العباس غلاماً لم تهذّبه الأيام، ولم تصقله التجارب، ولم يقم على تكوينه علم أو ثقافة، وإنّما كان صبياً تدير أموره النسوان، وتدبّر شؤونه الأمهات، فكيف يصح أن يرشّحه لهذا المنصب الخطير؟

وأضاف المأمون بعد هذا إلى أنّ الرشيد أخبره عمّا وجده في كتاب الدولة من أنّ نهاية الدولة العباسية تكون بعد الملك السابع من بني العباس، وبعده لا تقوم للعباسيين قائمة.

وقد أخطأ الرشيد فقد استمرّت الدولة العباسية بعد السابع من ملوكهم، وكانت نهايتها على يد هولاكو التتار، فقد حصد رؤوس العباسيين، وأزال ملكهم

٢٩٩

وسلطانهم... ولنستمع إلى فصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وأمّا ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى بعد استحقاق لها في نفسه، واختيار منّي له، فما كان ذلك منّي إلاّ أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودّة بيننا وبينهم، وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء بيسير ما يصيبهم منه...).

وأعرب المأمون أنّ بيعته للإمام الرضاعليه‌السلام كانت من أجل صالح العباسيين، ففي هذه البيعة قد حقن دماءهم، ولعلّ سبب ذلك هو انفجار البلاد

بثورات متصلة تنادي للرضا من آل محمد (ص) ليقيم في ربوع الوطن العدل السياسي والعدل الاجتماعي، وحينما جاء بالإمام الرضا ونصبه ولي عهده خمدت تلك الثورات، ولو استمرّت لقضت على الحكم العباسي، وقضت على العباسيين...

ونعود لفصل آخر من هذه الرسالة يقول:

(وإن تزعموا أنّي أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فإنّي في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم وأنتم ساهون، لاهون، تائهون، في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم، وما أظللتم عليه من النقمة، وابتزاز النعمة، همّة أحدكم أن يمسي مركوباً، ويصبح مخموراً، تباهون بالمعاصي، وتبتهجون بها، وآلهتكم البرابط، مخنّثون مأفونون، لا يتفكّر متفكّر منكم في إصلاح معيشة، ولا استدامه نعمة، ولا اصطناع مكرمة، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم.

أضعتم الصلاة، واتبعتم الشهوات، وأكببتم على اللذات فسوف تلقون غيّاً، وأيم الله لربّما أفكر في أمركم فلا أجد أمّة من الأمم استحقوا العذاب حتى نزل بهم لخلّة من الخلال إلاّ أصبت تلك الخلّة بعينها فيكم، مع خلال كثيرة لم أكن أظن أنّ إبليس اهتدى إليها، ولا أمر بالعمل بها، وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح أنّه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الأرض، وقد اتخذتموهم شعاراً ودثاراً، استخفافاً بالمعاد وقلّة يقين بالحساب، وأيّكم له رأي يتبع أو روية تنفع فشاهت الوجوه، وعفرت الخدود...).

لقد وصف المأمون أسرته بأقبح الصفات التي لا يتصف بها إلاّ أراذل البشر، وشذّاذ الآفاق، لقد صوّرهم بصورة تشمئز منها النفوس، ويترفّع عنها أقل الناس

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592