الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166377
تحميل: 5277


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166377 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

إضافة إلى ذلك فالتصريح في القرآن بأنّها تكلم الناس يساعد على هذا المعنى!.

ومن مجموع ما مرّ نصل هنا إلى أنّ الدّابة تطلق في الأغلب على غير الناس ، وقد استعملها القرآن في الأعم من الإنسان وغيره أو في خصوص الإنسان ، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فالقرائن المتعددة الموجودة في الآية ذاتها ، والرّوايات الكثيرة في تفسير الآية ، تدل على أنّ المراد من «دابة الأرض» هنا إنسان نشط فعال بما ذكرنا له من خصائص آنفا ، فهو يميز الحق من الباطل والمؤمن من المنافق والكافر.

إنسان يخرج في آخر الزمان قبيل يوم القيامة ، وهو بنفسه آية من آيات عظمة الخالق!.

٢ ـ الرجعة في الكتاب والسنة!

من المسائل التي تجدر بالملاحظة ، في الآيات ـ محل البحث ـ ظهور بعض من هذه الآيات في مسألة الرجعة!.

و «الرجعة» من عقائد الشيعة المعروفة ، وتفسيرها في عبارة موجزة بهذا النحو : «بعد ظهور المهديعليه‌السلام وبين يدي القيامة ، يعود طائفة من المؤمنين الخلّص ، وطائفة من الكفار الأشرار ، إلى هذه الدنيا فالطائفة الأولى تصعد في مدارج الكمال والطائفة الثّانية تنال عقابها الشديد!.

يقول «الشريف المرتضى» الذي هو من أعاظم الشيعة : إنّ الذي تذهب الشيعة الإمامية إليه ، أن الله تعالى يعيد عند ظهور الإمام المهديعليه‌السلام أقواما ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوز بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم ، فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق وعلوّ كلمة أهله!

١٤١

ثمّ يضيف السيد المرتضى قائلا : والدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه ، فإنا نرى كثيرا من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة ، وإذا ثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور ، فالدليل إلى إثباتها إجماع الإمامية على وقوعها(١) .

ويظهر بالطبع ـ من كلمات بعض قدماء علماء الشيعة وكذلك من كلام العلامة «الطبرسي» في مجمع البيان ـ أن «الأقليّة» القليلة من الشيعة لا تؤمن بهذه العقيدة ، أي «الرجعة» وفسّروها بعودة حكومة أهل البيتعليهم‌السلام ، لا رجوع الأشخاص وحياتهم بعد موتهم في هذه الدنيا ، إلّا أنّ مخالفة هذه القلة لا تؤثر في الإجماع.

وعلى كل حال ، فهنا مطالب كثيرة ، ومن أجل ألّا نخرج عن أسلوب بحثنا نشير إليها بإيجاز في ما يلي :

١ ـ لا ريب أنّ إحياء جماعة من الموتى في هذه الدنيا ليس محالا! كما أن إحياء جميع البشر في يوم القيامة ممكن ، والتعجب من هذه المسألة كتعجب المشركين «من أهل الجاهلية» من مسألة المعاد ، والسخرية منها كالسخرية من المعاد! لأنّ العقل لا يحكم على مثل هذا الأمر بالاستحالة وقدرة الله واسعة بحيث أنّ هذه الأمور عندها سهلة يسيرة هيّنة!.

٢ ـ جاء ذكر الرجعة في القرآن المجيد إجمالا ، ووقوعها في خمسة مواطن في شأن الأمم السالفة.

ألف : في ما يتعلق بالنّبي الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، وعظام أهلها نخرة متفرقة هنا وهناك. فتساءل في نفسه وقال :( أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها ) فأماته الله مائة عام ثمّ أحياه فقال له : كم لبثت؟! قال : لبثت يوما أو

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٥١١ ، مادة رجع.

١٤٢

بعض يوم قال : بل لبثت مائة عام «مؤدّى الآية ٢٥٩ ـ من سورة البقرة».

وسواء كان هذا النّبي عزيرا أم سواه ، فلا فرق في ذلك ، المهم أنّ القرآن صرح بحياته بعد موته في هذه الدنيا فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه!.

ب ـ يتحدث القرآن ـ في الآية (٢٤٣) من سورة البقرة ذاتها ـ عن جماعة أخرى خرجت من ديارها خوفا من الموت ، وامتنعت من الذهاب إلى سوح القتال بحجّة مرض الطاعون ، فأماتها الله ثمّ أحياها( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين لم يتحملوا وقوع مثل هذه الحادثة غير المألوفة ، وعدوها مثالا فحسب ، إلّا أنّ من الواضح أنّ مثل هذه التأويلات إزاء ظهور الآية ـ بل صراحتها ـ لا يمكن المساعدة عليه!.

ج ـ وفي الآيتين ٥٥ و ٥٦ من سورة البقرة أيضا ، يتحدث القرآن عن بني إسرائيل فيقول :( وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

د ـ ونقرأ في الآية (١١٠) ضمن معاجز عيسى قوله تعالى :( وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي ) .

ويدل هذا التعبير على أنّ المسيحعليه‌السلام أحيا الموتى فعلا ، بل التعبير بالفعل المضارع (تخرج) يدلّ على أنّه أحيا الموتى مرارا ، وهذا الأمر بنفسه يعد نوعا من الرجعة لبعضهم!

ه ـ وأخيرا ففي الآيتين (٧٢) و (٧٣) من سورة البقرة ، إشارة إلى مقتل رجل من بني إسرائيل ووقوع الجدال والنزاع في شأن قاتله ، وما أمرهم الله أن يفعلوه بضرب القتيل ببعض البقرة ـ الواردة خصائصها في الآية ٧٢ ـ إذ يقول سبحانه :( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ، فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

١٤٣

كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .

وبالإضافة إلى هذه المواطن الخمسة التي أشرنا إليها ، فهناك مواطن أخر في القرآن ، منها قصّة أصحاب الكهف ، وهي قصّة تشبه الرجعة. وقصّة الأربعة من الطير التي أمر إبراهيم أن يذبحها فأتينه سعيا بعد ذبحهن وتفريقهن على رأس كل جبل جزءا منهنّ ، ليتّضح له إمكان المعاد للناس ويكون مجسدا برجوع هذه الطيور إلى الدنيا.

وعلى كل حال! كيف يمكن أن يؤمن الشخص بالقرآن وأنّه كتاب سماوي ، ثمّ ينكر هذه الآيات الواضحة في الرجعة؟ وهل الرجعة ـ أساسا ـ إلّا العودة للحياة بعد الموت؟!

أو ليست الرجعة مثلا مصغرا من القيامة في هذه الدنيا.

فمن يؤمن بالقيامة بمقياسها الواسع ، كيف يمكنه أن يعترض على مسألة الرجعة وأن يسخر منها؟! وأن يقول قائل كأحمد أمين المصري في كتابه «فجر الإسلام» اليهودية ظهرت بالتشيع بالقول بالرجعة(١) .!!

وأي فرق بين كلام أحمد أمين هذا ، وإنكار عرب الجاهلية لمسألة المعاد الجسماني؟!

٣ ـ ما ذكرناه ـ إلى هنا ـ يثبت إمكان الرجعة ، وأمّا ما يؤيد وقوعها فروايات كثيرة نقلها الثقات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وحيث لا يسع بحثنا نقلها والتحقيق فيها ، فيكفي أن نذكر ما عدّه المرحوم العلّامة المجلسي في بحار أنواره وما جمعه منها ، إذ يقول : وكيف يشك مؤمن بحقيّة الأئمة الأطهارعليهم‌السلام فيما تواتر عنهم في قريب من مائتي حديث صريح(٢) ، رواها نيّف وأربعون من الثقات العظام والعلماء الأعلام ، في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم فإذا لم يكن مثل هذا

__________________

(١) انظر عقائد الإمامية ـ للشيخ محمّد رضا المظفر ص ٧١.

(٢) يعني «بالرجعة».

١٤٤

متواترا ففي أيّ شيء يمكن دعوى التواتر(١) ؟!

٤ ـ فلسفة الرجعة!

إنّ أهم سؤال يثار في هذا الصدد ، هو : ما الهدف من الرجعة قبل يوم القيامة؟! ومع ملاحظة ما يستفاد من الرّوايات الإسلامية من أنّ هذا الموضوع ليس عامّا بل يختصّ بالمؤمنين الخلّص الذين هم في مرحلة عالية من الإيمان ، والكفار والطغاة الظلمة الذين هم في مرحلة منحطة من الكفر والظلم فيبدو أن الرجعة لهاتين الطائفتين للدنيا ثانية هي من أجل إكمال الطائفة الأولى حلقتها التكاملية ، وأن تذوق الطائفة الثّانية جزاءها الدنيوي.

وبتعبير آخر : إن الطائفة المؤمنة «خالصة الإيمان» الذين واجهوا الموانع والعوائق في مسير تكاملهم المعنوي في حياتهم ولم يتكاملوا الكمال اللائق باستعدادهم ، فإنّ حكمة الله تقتضي أن يتكاملوا عن طريق الرجعة لهذه الدنيا وأن يكونوا شهداء الحكومة العالميّة للحقّ والعدل ، وأن يساهموا في بناء هذه الحكومة ، لأنّ المساهمة في بناء مثل هذه الحكومة من أعظم الفخر!.

وعلى عكس الطائفة الآنفة الذكر ، هناك طائفة من المنافقين والجبابرة المعاندين ، ينبغي أن ينالوا جزاءهم الدنيوي بالإضافة إلى جزاءهم الأخروي ، كما ذاق ـ قوم فرعون وثمود وعاد وقوم لوط جزاءهم ـ ولا طريق لأن يذوقوا عذاب الدنيا إلّا بالرجعة!.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام في بعض أحاديثه «إن الرجعة ليست بعامة ، وهي خاصّة ، لا يرجع الّا من محض الإيمان محضا ، أو محض الشرك محضا»(٢) .

ولعل الآية (٩٥) من سورة الأنبياء( وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ١٢٢.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ٣٩.

١٤٥

لا يَرْجِعُونَ ) تشير إلى هذا المعنى أيضا ، لأنّها تتحدث عن عدم رجوع أولئك الذين ذاقوا عذابهم الشديد في هذه الدنيا ، فيتّضح منها أن أولئك الذين لم يذوقوا مثل هذا الجزاء ينبغي أن يرجعوا ، فيذوقوا عذابهم «فلاحظوا بدقة».

كما يرد هذا الاحتمال أيضا ، وهو أنّ رجعة «الطائفتين هاتين» في ذلك المقطع الخاص من الزمان هي بمثابة درسين كبيرين وآيتين مهمتين من آيات عظمة الله ـ ومسألة القيامة و «المبدأ والمعاد» ـ للناس ، ليبلغوا أسمى درجات الكمال المعنوي بمشاهدتهما ويزداد إيمانهم ولا يكونوا مفتقرين إلى شيء أبدا.

٥ ـ ويتصور بعضهم أنّ الإعتقاد بالرجعة لا ينسجم وأصل حرية الإرادة والإختيار عند البشر!.

وممّا بيّناه آنفا يتّضح أنّ هذا اشتباه محض ، لأنّ رجوع من يرجع إلى هذه الدنيا سيكون في ظروف طبيعية ، ويتمتع بحرية كاملة.

وما يقوله بعضهم بأنّه من الممكن أن يتوب الجبابرة والكفار المعاندون بعد الرجعة ويعودوا إلى الحق ، فجوابه أنّ هؤلاء الأفراد غارقون في الظلم والفساد والكفر بحيث أن هذه الأمور مندمجة مع روحهم ونسيجهم ولا يتصور توبتهم!.

كما أنّ القرآن يحكي في ردّه على طلب أهل النّار يوم القيامة الرجوع إلى الدنيا ، ليقضوا ما فاتهم ولا يعملوا السيئات فيقول :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .(١)

كما يتّضح الجواب على إشكال بعضهم من أنّ الرجعة لا تنسجم مع الآية (١٠٠) من سورة المؤمنون لأنّه طبقا لهذه الآية فإن المشركين يطلبون الرجوع إلى هذه الدنيا ليعملوا صالحا ، ويقول كل منهم :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) فيرد عليه بالقول :( كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ) .

__________________

(١) الأنعام ، الآية ٢٨.

١٤٦

فالجواب على هذا الإشكال ، أن هذه الآية عامة والرجعة خاصة «فلاحظوا بدقة».

٦ ـ وآخر الكلام هنا أنّ الشيعة مع اعتقادهم بالرجعة التي أخذوها عن أهل البيتعليهم‌السلام فإنّهم لا يحكمون على منكري الرجعة بالكفر ، لأنّ الرجعة من ضروريّات المذهب الشيعي لا من ضروريات الإسلام.

فبناء على ذلك فإنّ هذه المسألة لا تقطع وشائج الأخوة الإسلامية مع الآخرين إلّا أن الشيعة تواصل دفاعها المنطقي عن عقيدتها هذه.

وينبغي الالتفات إلى أن هناك خرافات تمتزج أحيانا بالرجعة فتشوّه وجهها في نظر البعض ، فينبغي أن نعول على الأحاديث الإسلامية الصحيحة في الشأن ، وأن نتجنب الأحاديث المطعون فيها أو المشكوكة.

وما ذكرناه هنا خلاصة موجزة عمّا يتعلق بالرجعة ، وينبغي مراجعة الكتب التي تتحدث عن هذا الشأن لمن أراد أن يستزيد ويعرف خصائص أخر للرجعة أو جزئياتها.

ومع ملاحظة هذا المقدار الذي بيّناه يتّضح الجواب على الحملات المسعورة من قبل أولئك الذين لم يطّلعوا على هذا الموضوع من إخواننا أهل السنة «كما فعل «الآلوسي» في تفسيره روح المعاني ذيل الآيات محل البحث» وأن إشكالهم على مسألة الرجعة ناشئ من عدم تعقلهم لها حتى عدّوها أسطورة!.

* * *

١٤٧

الآيات

( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) )

التّفسير

حركة الأرض إحدى معاجز القرآن العلميّة :

مرّة أخرى تتحدث هذه الآيات عن مسألة المبدأ والمعاد ، وآثار عظمة الله ، ودلائل قدرته في عالم الوجود ، وحوادث القيامة ، فتقول :( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً ) وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعدا للايمان( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وهذه ليست أوّل مرّة يتحدث فيها القرآن عن الليل والنهار الحيويّة ، ونظامي النور والظلمة ، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضا وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية ، وهو يهدف إلى بناء الشخصية الإنسانية ونحن نعرف أن أصول التعليم

١٤٨

والتربية تقتضي أحيانا أن يتكرر الموضوع في «فواصل» مختلفة ، وأن يذكّر الناس به ليبقى في الذهن كما يقال.

فالسكن أو الهدوء الذي يحصل من ظلمة الليل ، مسألة علمية وحقيقة مسلّم بها ، فسدل الليل ليست أسبابا إجبارية لتعطيل النشاطات اليومية فحسب ، بل لها أثر عميق على سلسلة الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات ، ويجرها إلى الراحة والنوم العميق ، أو كما يعبر القرآن عنه بالسكون!.

وكذلك العلاقة بين ضوء النهار والسعي والحركة التي هي من خصائص النور من الناحية العلمية ـ أيضا ـ ولا مجال للتردد فيها. فنور الشمس لا يضيء محيط الحياة ليبصر الإنسان به مأربه فحسب ، بل يوقظ جميع ذرات وجود الإنسان ويوجهه إلى الحركة والنشاط!.

فهذه الآية توضح جانبا من التوحيد الرّبوبي ، ولما كان المعبود الواقعي هو ربّ «عالم الوجود» ومدبّره ، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان! وتدعو المشركين إلى إعادة النظر في عبادتهم.

وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجما مع هذا النظام ، فيستريح في الليل ويسعى في النهار ، ليبقى نشطا صحيحا دائما لا كالمنقاد لهواه الذي يطوي الليل يقظا ساهرا وينام النهار حتى الظهر!.

والطريف أن كلمة «مبصر» نسبت إلى النهار ووصف بها ، مع أنّها وصف للإنسان في النهار ، وهذا نوع من التأكيد الجميل للاهتمام بالنشاط في النهار ، كما يوصف الليل أحيانا بأنه «ليل نائم»(١) .

__________________

(١) هذا النوع من التعبير يسمّى عند البلاغيين بـ «المجاز العقلي» ، ويراد منه إسناد الفعل أو ما في معناه «كاسم الفاعل واسم المفعول» لغير ما وضع له لعلاقة ، منها العلاقة الزمانية ، فيقال مثلا : نهار الزاهد صائم وليله قائم. (المصحح)

١٤٩

وهذا التفاوت في التعبير في الآية ، هو لبيان فائدة الليل والنهار ، إذ جاء في شأن الليل( لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) وعبر عن النهار بـ (مبصر) فلعل هذا الاختلاف في التعبير إشارة إلى أن الهدف الأصلي من وجود الليل هو السكون والهدوء ، والهدف من الضوء والنهار ليس النظر فحسب ، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة والاستمتاع بها «فلاحظوا بدقة».

وعلى كل حال ، فهذه الآية وإن كانت تتكلم مباشرة عن التوحيد وتدبير عالم الوجود ، إلّا أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد ، لأنّ النوم بمثابة الموت ، واليقظة بمثابة الحياة بعد الموت!.

والآية التالية تتحدث عن مشاهد القيامة ومقدماتها ، فتقول : واذكر( يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) أي خاضعين.

ويستفاد من مجموع آيات القرآن أنّ النفخ في الصور يقع مرّتين أو ثلاث مرات.

فالمرّة الأولى يقع النفخ في الصور عند نهاية الدنيا وبين يدي القيامة! وبها يفزع من في السماوات والأرض إلّا من شاء الله!

والثّانية «عند النفخ» يموت الجميع من سماع الصيحة ، ولعل هاتين النفختين واحدة.

والمرّة الثّالثة ينفخ في الصور عند البعث وقيام القيامة إذ يحيا الموتى جميعا بهذه النفخة ، وتبدأ الحياة الجديدة معها.

وهناك كلام بين المفسّرين الى أنّ الآية محل البحث هل تشير الى النفخة الأولى أم الثّانية أم الثّالثة؟! القرائن الموجودة في الآية وما بعدها من الآيات تنطبق على النفختين ، وقيل : بل هي تشمل الجميع.

إلّا أن الظاهر من الآية يدل على أن النفخة هنا إشارة إلى النفخة الأولى التي

١٥٠

تقع في نهاية الدنيا ، لأنّ التعبير بـ (فزع) وهو يعني الخوف أو الاستيحاش الذي يستوعب جميع القلوب ، يعدّ من آثار هذه النفخة ونعلم أن الفزع في يوم القيامة هو بسبب الأعمال لا من أثر النفخة!.

وبتعبير آخر : إن ظاهر «فاء» التفريع في «ففزع» أن الفزع ناشئ من النفخة في الصور ، وهذا خاص بالنفخة الأولى ، لأنّ النفخة الأخيرة ليست لا تثير الفزع فحسب ، بل هي مدعاة للحياة والحركة ، وإذا حصلت حالة فهي من أعمال الإنسان نفسه!.

وأمّا ما المراد بالنفخ في الصور ،؟ هناك كلام طويل بين المفسّرين سنتناوله في ذيل الآية (٦٨) من سورة «الزمر» بإذن الله!.

وأمّا جملة( إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ) المذكورة للاستثناء من الفزع العام ، فهي إشارة للمؤمنين الصالحين سواء كانوا من الملائكة أو سائر المؤمنين في السماوات والأرض ، فهم في اطمئنان خاص! لا تفزعهم النفخة في الصور الأولى ولا الأخرى إذ نقرأ في الآيات التي تلي هذه الآيات قوله تعالى :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) .

وأمّا جملة( وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ ) فظاهرها عام وليس فيه أي استثناء ، حتى الأنبياء والأولياء يخضعون لله ويذعنون لمشيئته ، وإذا ما لاحظنا قوله تعالى في الآية (١٢٧) من سورة الصافات :( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) ، فلا منافاة بينها وبين عموم الآية محل البحث ، فالآية محل البحث إشارة إلى أصل الحضور في المحشر ، وأمّا الثّانية فهي إشارة إلى الحضور للمحاسبة ومشاهدة الأعمال!.

والآية التالية تشير إلى إحدى آيات عظمة الله في هذا العالم الواسع ، فتقول :( وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَ

١٥١

شَيْءٍ ) (١) .

فمن يكون قادرا على كل هذا النظم والإبداع في الخلق ، لا ريب في علمه و( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) .

يعتقد كثير من المفسّرين أن هذه الآية تشير إلى الحوادث التي تقع بين يدي القيامة ، لأننا نعرف أن في نهاية هذه الدنيا تقع زلازل وانفجارات هائلة ، وتتلاشى الجبال وتنفصل بعضها عن بعض ، وقد أشير الى هذه الحقيقة في السور الأخيرة من القرآن كرارا.

ووقوع الآية في سباق آيات القيامة دليل وشاهد على هذا التّفسير.

إلّا أن قرائن كثيرة في الآية تؤيد تفسيرا آخر ، وهو أن الآية آنفة الذكر من قبيل آيات التوحيد ودلائل عظمة الله في هذه الدنيا ، وتشير إلى حركة الأرض التي لا نحس بها.

* * *

وتوضيح ذلك :

١ ـ إنّ الآية تقول : تحسب الجبال ساكنة وجامدة مع أنّها تمرّ مرّ السحاب وهذا التعبير واضح أنّه لا ينسجم مع الحوادث التي تقع بين يدي القيامة لأنّ هذه الحوادث من الوضوح بمكان بحيث يعبر عنها القرآن( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ) .(٢)

٢ ـ تشبيه حركة الجبال بحركة السحاب يتناسب مع الحركات المتناسقة الهادئة ، ولا يتناسب والإنفجارات العظيمة التي تصطك منها المسامع!.

__________________

(١) «صنع الله» منصوب بفعل محذوف تقدير (أنذر صنع الله) أو ما شاكله.

(٢) سورة الحج ، الآية ٢.

١٥٢

٣ ـ التعبير الآنف الذكر يدلّ على أنّه في الوقت الذي ترى الجبال بحسب الظاهر جامدة ، إلّا أنّها في الواقع تتحرك بسرعة «على حالتها التي ترى فيها جامدة» أي أن الحالتين تبينان شيئا واحدا.

٤ ـ والتعبير بـ «الإتقان» الذي يعني الإحكام والتنظيم ، يتناسب زمان استقرار نظام العالم ، ولا يتناسب وزمان انهياره وتلاشيه.

٥ ـ جملة( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ ) مع ملاحظة أنّ «تفعلون» فعل مضارع ، تدل على أنّها تتعلق بهذه الدنيا ، لأنّها تقول : إن الله خبير بأعمالكم التي تصدر في الحال والمستقبل. ولو كانت ترتبط بانتهاء العالم ، لكان ينبغي أن يقال : إنّه خبير بما فعلتم. «فتأملوا بدقّة».

ويستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذه الآية تكشف عن إحدى عجائب الخلق ، وهي في الواقع تشبه ما جاء في الآيتين آنفتي الذكر :( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ) .

وبناء على ذلك فالآيات محل البحث قسم منها في التوحيد ، وقسم منها في المعاد!.

وما نستنتجه من هذا التّفسير ، هو أن هذه الجبال التي نتصورها ساكنة «جامدة» هي في سرعة مطرّدة في حركتها ومن المقطوع به أنّه لا معنى لحركة الجبال من دون حركة الأرض المتصلة بها ، فيتّضح من الآية أنّ الأرض تتحرك كما يتحرك السحاب!.

ووفقا لحسابات علماء اليوم فإنّ سرعة حركة الأرض حول نفسها تقرب من (٣٠) كيلومتر في كل دقيقة ، وسرعة سيرها في حركتها الانتقالية حول الشمس أكثر من هذا المقدار

لكن علام عني بالجبال دون غيرها؟ لعل ذلك إنّما هو لأنّ الجبال يضرب بها المثل لثقلها وقرارها ، وتعدّ مثلا حسنا لبيان قدرة الله سبحانه ، فحيث أن هذه

١٥٣

الجبال على عظمتها وما فيها من ثقل ، تتحرك كالسحاب بأمر الله «مع الأرض» فقدرته على كل شيء «بينة ، وثابتة»!.

وعلى كل حال ، فالآية آنفة الذكر تعدّ من معاجز القرآن العلمية لأننا نعلم أن أوّل العلماء الذين اكتشفوا حركة كرة الأرض هو «غاليو» الإيطالي و «كبرنيك» اللذين أظهرا هذه الحقيقة للملأ في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر! بالرغم من أن رجال الكنيسة حكموا عليهما حكما صارما ، وتعرضا لمضايقات كثيرة

إلّا أنّ القرآن كشف الستار عن وجه هذه الحقيقة قبل ذلك بألف عام تقريبا وبيّن حركة الأرض بالأسلوب الآنف الذكر على أنّها بعض أدلة التوحيد!

ويرى بعض فلاسفة الإسلام ، في الوقت الذي يقبلون فيه التّفسير الثاني ، وهو الإشارة إلى حركة الجبال في هذا العالم ، أن الآية ناظرة إلى «الحركة الجوهرية» في الأشياء ، واعتقدوا أنّ الآية منسجمة والنظرية المعروفة بالحركة الجوهرية ومؤيدة لها(١)

* * *

__________________

(١) المراد من «الحركة الجوهرية» هو أنّ أشياء عالم المادة بالإضافة إلى ما يحصل فيها من تغييرات مختلفة في الكيفية والكمية والمكان وما أشبه ذلك! فيها حركة في داخلها «وجوهرها» أي أنّها وجود سيال ومتحرك ، والتغييرات الظاهرية هي انعكاس عن التغييرات الداخلية لها وبتعبير آخر : إن لدينا وجودين مختلفين ذاتا الوجود الثابت «الوجود ما وراء المادي» ، ووجود سيال ومتحرك «الوجود المادي» وأهم دليل على إثبات هذه النظرية مسألة وجود الزمان للموجودات المادية وعدم انفصال التغييرات الظاهرية عن التغييرات الباطنية ، ويطول بنا البحث في هذا الصدد وهو خارج عن موضوعنا هنا.

١٥٤

الآيات

( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣) )

التّفسير

آخر ما أمر به النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن أعمال العباد وعلم الله بها أمّا الآيات محل البحث فيقع الكلام في مستهلّها عن جزائهم وثواب أعمالهم وأمنهم من فزع يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) .

وهناك اختلاف بين تعبيرات المفسّرين في المراد من «الحسنة» في هذه الآية :

١٥٥

ففسّرها بعضهم بكلمة التوحيد «لا إله إلّا الله» والإيمان بالله.

وفسّرها بعضهم بولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام والأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الرّوايات المتعددة عن أهل البيت ، ومن جملتها ما جاء في رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : يا أبا عبد الله ألا أخبرك بقول اللهعزوجل :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال : بلى يا أمير المؤمنين جعلت فداك ، فقال : «الحسنة معرفة الولاية حبّنا أهل البيت ، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثمّ قرأعليه‌السلام الآية»(١) .

وبالطبع فإنّ معنى الآية واسع ـ وقد أشرنا إلى ذلك مرارا ـ كما أنّ الحسنة هنا معناها واسع أيضا فهي تشمل الصالحات والأعمال الخالصة ، ومن ضمنها الإيمان بالله وبرسوله وولاية الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، التي تعدّ في طليعة الأعمال الحسنة ، ولا يمنع أن تكون هناك أعمال صالحة أخرى تشملها الآية.

أمّا ما أورده بعضهم بأنّه : على فرض العموم في «الحسنة» فسوف تشمل الإيمان بالله وهل هناك خير من الإيمان حتى يقول سبحانه : من جاء بالحسنة فله خير منها؟

فالجواب على هذا الإشكال واضح لأنّ رضا الله خير من الإيمان. وبتعبير آخر: جميع هذه الأمور مقدمة له وذو المقدمة خير من المقدمة!.

وهناك سؤال آخر يثار هنا ، وهو أن ظاهر بعض الآيات ـ كالآية ٢ من سورة الحج ـ أنّ الفزع يعمّ الجميع في يوم القيامة ، فكيف أستثني أصحاب الحسنات منه؟.

فالآية (١٠٣) من سورة الأنبياء توضح الجواب على هذا السؤال فتقول :

__________________

(١) اصول الكافي ، وفقا لما جاء في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٠٤.

١٥٦

( لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

و «الفزع الأكبر» ـ هو كما نعلم ـ فزع يوم القيامة ، وفزع الدخول في نار جهنّم ـ أعاذنا الله منها ـ لا الفزع الحاصل من النفخة في الصور «فلاحظوا بدقّة».

ثمّ يتحدث القرآن عن الطائفة الأخرى التي تقابل أصحاب الحسنات فتقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ) .

وليس لهذه الطائفة أيّ توقع غيرها( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و «كبّت» مأخوذ من «كبّ» على وزن «جدّ» ومعناه في الأصل إلقاء الشيء على وجهه على الأرض ، فبناء على هذا فإنّ ذكر «وجوههم» في الآية هو من باب التوكيد!.

وإلقاء هذه الطائفة على وجوهها في النّار من أسوأ أنواع العذاب. إضافة إلى ذلك ، فإنّ أولئك حين كانوا يواجهون الحقّ يلوون وجوههم ورؤوسهم ، وكانوا يواجهون الذنوب بتلك الوجوه فرحين فالآن لا بدّ أن ـ يبتلوا بمثل هذا العذاب.

وجملة( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لعلها جواب على سؤال يلقى هنا ، وهو ما لو قيل : إنّ هذا الجزاء «العقاب» شديد ، فيجاب : بأنّ هذا الجزاء إن هو إلّا عملك في الدنيا ، فهل تجزون إلّا ما كنتم تعلمون «فلاحظوا بدقة».

ثمّ يوجه الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآيات الثلاث من آخر هذه السورة ، ويؤكّد له هذه الحقيقة وهي أن يخبر أولئك المشركين بأن عليه أن يؤدي رسالته ووظيفته سواء آمنتم أم لم تؤمنوا؟!

فتقول الآية الأولى من هذه الآيات :( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ) .

هذه البلدة المقدسة التي يتلخّص كل وجودكم وشرفكم بها البلدة المقدسة التي كرمها الله وكرّمكم بما أنزل فيها من البركات إلّا أنّكم بدل أن تشكروا نعمة الله كفرتم بها!

البلدة المقدسة التي هي حرم أمن الله ، وأشرف بقعة على وجه الأرض ، وأقدم معبد للتوحيد!

١٥٧

أجل أعبد ربّ هذه البلدة المقدسة( الَّذِي حَرَّمَها ) وجعل لها خصائص وأحكاما وحرمة ، وأمورا أخر لا تتمتع بها أية بلدة أخرى في الأرض!.

لكن لا تتصوروا أن هذه البلدة وحدها لله ، بل له كل شي في عالم الوجود( وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ) .

والأمر الثّاني الذي أمرت به هو أن أسلم وجهي له( وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

وهكذا فإن الآية بيّنت وظيفتين أساسيتين على النّبي وهما (عبادة الواحد الأحد ، والتسليم المطلق لأمره).

والآية التالية تبيّن أسباب الوصول إلى هذين الهدفين فتقول :( وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ ) .

أتلوه فأستضيء بنوره ، وأنتهل من عذب معينه الذي يهب الحياة! وأن أعول في جميع مناهجي على هديه. أجل فالقرآن وسيلتي للوصول إلى هذين الهدفين المقدسين ، والمواجهة لكل أنواع الشرك والانحراف والضلال ومكافحتها ، ثمّ تعقب الآية لتحكي عن لسان الرسول وهو يخاطب قومه : لا تتصوروا أنّكم إذا آمنتم انتفعت من وراء ذلك لنفسي ، كما أن الله غني عنكم ، بل( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) .

وكل ما يترتب على الهداية من منافع دنيوية ، كانت أم أخروية فهي عائدة للمهتدي نفسه والعكس صحيح( وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .

وعواقبه الوخيمة لا تصيبني فوظيفتي البلاغ والإنذار وإراءة سبيل الحق ، والإصرار على أن تسلكوا سبيل الحق ، إلّا أنّ من أراد أن يبقى في طريق الضلال ، فإنّما يشقى وحده ، فيكون من الخاسرين.

١٥٨

الطريف أنّ القرآن يقول في شأن الهداية :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) ولكنّه لا يقول في شأن الضلال : ومن ضل فضرره عليه ، بل يقول :( فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ) .

وهذا الاختلاف في التعبير لعله إشارة إلى أنّ النّبيعليه‌السلام يقول : إنّي لا أسكت بوجه الضالين أبدا ، ولا أتركهم على حالهم ، بل أظلّ أنذرهم وأواصل الإنذار ولا أعيا عن ذلك ، لأنني من المنذرين (بالطبع هناك آيات وردت في القرآن في شأن الهداية والضلالة ، وفيها التعبير «لنفسه وعليها» للموضوعين كقوله تعالى :( فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَ ) فعليها لكننا نعلم أنّ هذا الاختلاف في التعبيرات منسجم مع اختلاف المقامات ، وربّما جاء لإلقاء المعاني المختلفة والمتفاوتة)!

والجدير بالذكر أنّ هذه السورة شرعت ببيان أهمية القرآن ، وانتهت بالأمر بتلاوته ، فبدايتها ونهايتها عن القرآن.

والأمر الأخير ـ في آخر آية من هذه السورة ـ موجه للنبيّ أن يحمد الله على هذه النعم الكبرى ، ولا سيما نعمة الهداية فيقول :( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) هذا الحمد أو الثناء يعود لنعمة القرآن ، كما يعود للهداية أيضا ، ويمكن أن يكون مقدمة للجملة التالية( سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها ) .

وهذا التعبير إشارة إلى أنّه مع مرور الزمان وتقدم العلم والمعرفة ، سينكشف كل يوم بعض أسرار عالم الوجود ، ويرفع ستار جديد عنها وستعرفون نعم الله وعظمة قدرته وعمق حكمته يوما بعد يوم وإراءة الآيات هذه مستمرّة دائما ولا تنقطع مدى عمر البشر.

إلّا أنّكم إذا واصلتم طريق الخلاف والانحراف ، فلن يترككم الله سدى وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون.

١٥٩

ولا تتصوروا بأنّ الله إذا أخر عقابكم بلطفه ، فهو غير مطلع على أعمالكم ، وأنّها لا تسجل في اللوح المحفوظ.

وجملة( وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) الواردة بنفسها أو مع شيء من التفاوت اليسير في تسع آيات من القرآن جملة موجزة ، وهي تهديد ذو معنى عميق ، وإنذار لجميع الناس.

والحمد لله رب العالمين

نهاية سورة النمل

* * *

١٦٠