الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181170 / تحميل: 6371
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) .(١)

وسواء كان «الرّكون» هنا بمعنى الميل القلبي ، أو بمعنى الإعانة الظاهرية ، أو إظهار الرضا والمحبّة ، أو طلب الخير لهم هذه المعاني التي ذكرها المفسّرين «للركون» يجمعها مفهوم جامع لها ، وهو الاتكاء والاعتماد والتعلق وما إلى ذلك ، وهذا المفهوم شاهد حي على مقصودنا.

ونقرأ في هذا الصدد حديثا للإمام على بن الحسينعليه‌السلام مع «محمّد بن مسلم الزهري» الذي كان رجلا عالما ، إلّا أنّه كان يتعاطف ويتعاون مع الجهاز الأموي ولا سيما مع هشام بن عبد الملك ، يحذّره الإمام في حديثه هذا من إعانة الظالمين والركون إليهم ، وهو حديث مثير جدّا وقد جاء فيه : «أو ليس بدعائهم إيّاك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم ، سلّما إلى ظلالتهم ، داعيا إلى عينهم سالكا سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرّبوا عليك! فانظر لنفسك فإنّه لا ينظر إليها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسئول»(٢) .

والحقّ أنّ هذا المنطق البليغ المؤثر للإمامعليه‌السلام لكل عالم من وعّاظ السلاطين مرتبط بالظالمين راكن إليهم ، يمكن أن يبصّره بمصيره المشؤوم عاقبته المخزية.

ويذكر ابن عباس أن آية( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) من جملة الآيات التي تؤكّد على أن الركون للمجرمين ذنب عظيم ، وإعانة المؤمنين إطاعة لأمر الله سبحانه.

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢) تحف العقول ، ص ٦٦.

٢٠١

قالوا لبعض العلماء : إنّ فلانا أصبح كاتبا للظالم الفلاني ، ولا يكتب له إلّا الدخل والخرج. وحياته وحياة عائلته مرهونة بما يحصل عليه من مال لقاء هذا العمل ، وإلّا فسيقع هو وأسرته في فقر مدقع.

فكان جواب هذا العالم : أمّا سمع قول العبد الصالح «موسى»( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا بحثان مستوفيان في مجال إعانة الظالمين في ذيل الآية (٢) من سورة المائدة وذيل الآية (١١٢) من سورة هود ، فلا بأس بمراجعتهما.

٢٠٢

الآيات

( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) )

التّفسير

موسى يتوجّه إلى مدين خفية :

نواجه في هذه الآيات المقطع الرّابع من هذه القصّة ذات المحتوى الكبير.

حيث أن مقتل الفرعوني في مصر انتشر بسرعة ، والقرائن المتعددة تدلّ على

٢٠٣

أن القاتل من بني إسرائيل ، ولعل اسم موسىعليه‌السلام كان مذكورا من بين بني إسرائيل المشتبه فيهم.

وبالطبع فإنّ هذا القتل لم يكن قتلا عاديا ، بل كان يعد شرارة لانفجار ثورة مقدمة للثورة ولا شك أن جهاز الحكومة لا يستطيع تجاوز هذه الحالة ببساطة ليعرّض أرواح الفرعونيين للقتل على أيدي عبيدهم من بني إسرائيل.

لذلك يقول القرآن في بداية هذا المقطع( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) (١) .

وهو على حال من الترقب والحذر ، فوجئ في اليوم التالي بالرجل الإسرائيلي الذي آزره موسى بالأمس يتنازع مع قبطي آخر وطلب من موسى أن ينصره( فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) (٢) .

ولكن موسى تعجب منه واستنكر فعله و( قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) إذ تحدث كل يوم نزاعا ومشادة مع الآخرين ، وتخلق مشاكل ليس أوانها الآن ، إذ نحن نتوقع أن تصيبنا تبعات ما جرى بالأمس ، وأنت اليوم في صراع جديد أيضا!!

ولكنّه كان على كل حال مظلوما في قبضة الظالمين (وسواء كان مقصرا في المقدمات أم لا) فعلى موسىعليه‌السلام أنّ يعينه وينصره ولا يتركه وحيدا في الميدان ،( فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ) ج صاح ذلك القبطي :( قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) ويبدو من عملك هذا أنّك لست إنسانا منصفا( إِنْ

__________________

(١) كلمة «يترقب» مأخوذة من «الترقب» ، ومعناه الانتظار ، وموسى هنا في انتظار نتائج هذه الحادثة ، ومحل الجملة إعرابا ـ خبر بعد خبر ، وإن قيل أنها حال ، إلا أن هذا القول ضعيف.

(٢) كلمة «يستصرخ» مشتقة من مادة «الاستصراخ» ، ومعناها الإستغاثة ، ولكنها في الأصل تعني الصياح أو طلب الصياح من الآخر ، وهذا عادة ملازم للإعانة

٢٠٤

تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) (١) .

وهذه العبارة تدلّ بوضوح على أن موسىعليه‌السلام كان في نيّته الإصلاح من قبل ، سواء في قصر فرعون أو خارجه ، ونقرأ في بعض الرّوايات أن موسىعليه‌السلام كانت له مشادات كلامية مع فرعون في هذا الصدد ، لذا فإن القبطي يقول لموسى : أنت كل يوم تريد أن تقتل إنسانا ، فأيّ إصلاح هذا الذي تريده أنت؟! في حين أن موسىعليه‌السلام لو كان يقتل هذا الجبار ، لكان يخطو خطوة أخرى في طريق الإصلاح

وعلى كل حال فإنّ موسى التفت إلى أن ما حدث بالأمس قد انتشر خبره ، ومن أجل أن لا تتسع دائرة المشاكل لموسى فإنّه أمسك عن قتل الفرعوني في هذا اليوم.

ومن جهة أخرى فإنّ الأخبار وصلت إلى قصر فرعون فأحسّ فرعون ومن معه في القصر أن تكرار مثل هذه الحوادث ينذره بالخطر ، فعقد جلسة شورى مع وزرائه وانتهى «مؤتمرهم» إلى أن يقتلوا موسى ، وكان في القصر رجل له علاقة بموسى فمضى إليه وأخبره بالمؤامرة وكما يقول القرآن الكريم :( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) .

ويبدو أنّ هذا الرجل هو «مؤمن آل فرعون» الذي كان يكتم إيمانه ويدعى «حزقيل» وكان من أسرة فرعون ، وكانت علاقته بفرعون وثيقة بحيث يشترك معه في مثل هذه الجلسات.

وكان هذا الرجل متألما من جرائم فرعون ، وينتظر أن تقوم ثورة «إلهية»

__________________

(١) يعتقد جماعة من المفسّرين أن هذه الجملة قالها الإسرائيلي لموسى ، لأنّه ظن أن موسى يريد قتله ، ولكن القرائن الكثيرة في الآية تنفي هذا الاحتمال!

٢٠٥

ضده فيشترك معها.

ويبدو أنّه كان له أمل كبير بموسىعليه‌السلام إذ كان يتوسم في وجهه رجلا ربّانيا صالحا ثوريّا ، ولذلك فحين أحسّ بأن الخطر محدق بموسى أوصل نفسه بسرعة إليه وأنقذه من مخالب الخطر ، وسنرى بعدئذ أن هذا الرجل لم يكن في هذا الموقف فحسب سندا وظهيرا لموسى ، بل كان يعدّ عينا لبني إسرائيل في قصر فرعون في كثير من المواقف والأحداث.

أمّا موسىعليه‌السلام فقد تلقى الخبر من هذا الرجل بجدّية وقبل نصحه ووصيته في مغادرة المدينة( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) .

وتضرع إلى الله بإخلاص وصفاء قلب ليدفع عنه شرّ القوم و( قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

فأنا أعلم يا ربّ أنّهم ظلمة ولا يرحمون ، وقد نهضت ـ دفاعا عن المحرومين ـ بوجه الظالمين ، ولم آل جهدا ووسعا في ردع الأشرار عن الإضرار بالطيبين ، فأسألك ـ يا ربّي العظيم ـ أن تدفع عنّي أذاهم وشرّهم.

ثمّ قرر موسىعليه‌السلام أن يتوجه إلى مدينة «مدين» التي كانت تقع جنوب الشام وشمال الحجاز ، وكانت بعيدة عن سيطرة مصر والفراعنة ولكنه شاب تربّى في نعمة ورفاه ويتجه إلى سفر لم يسبق له في عمره أن يسافر إليه ، فلا زاد ولا متاع ولا صديق ولا راحلة ولا دليل ، وكان قلقا خائفا على نفسه ، فلعل أصحاب فرعون سيدركونه قبل أن يصل إلى هدفه «مدين» ويأسرونه ثمّ يقتلونه فلا عجب أن يظل مضطرب البال!

أجل ، إن على موسىعليه‌السلام أن يجتاز مرحلة صعبة جدّا ، وأن يتخلص من الفخ الذي ضربه فرعون وجماعته حوله ليصطادوه ، ليستقرّ أخيرا إلى جانب المستضعفين ويشاطرهم آلامهم بأحاسيسه وعواطفه ، وأن يتهيأ لنهضة إلهية

٢٠٦

لصالحهم وضد المستكبرين.

إلّا أنّه كان لديه في هذا الطريق وعواطفه رأس مال كبير وكثير لا ينفد أبدا ، وهو الإيمان بالله والتوكل عليه ، لذا لم يكترث بأي شيء وواصل السير( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) (١) .

* * *

__________________

(١) «تلقاء» مصدر أو اسم مكان ، ومعناه هنا : الجهة والصوب الذي قصده.

٢٠٧

الآيات

( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) )

التّفسير

عمل صالح يفتح لموسى أبواب الخير :

نواجه هنا المقطع الخامس من هذه القصّة ، وهي قضيّة ورود موسىعليه‌السلام إلى مدينة مدين.

هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحدا أمضى عدّة أيّام في الطريق ، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبدا ، ولم يكن له بها معرفة ، وكما يقول بعضهم : اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافيا ، وقيل : إنّه قطع الطريق في

٢٠٨

ثمانية أيّام ، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب ، وورمت قدماه من كثرة المشي.

وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعا لجوعه ، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلّا قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة.

وبدأت معالم «مدين» تلوح له من بعيد شيئا فشيئا ، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة ، ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم.

يقول القرآن في هذا الصدد :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ ) (١) .

فحركه هذا المشهد حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام ، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم ، وعليهم آثار العفّة والشرف ، جاء إليهما موسىعليه‌السلام ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و( قالَ ما خَطْبُكُما ) (٢) .

ولم لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!

لم يرق لموسىعليه‌السلام أن يرى هذا الظلم ، وعدم العدالة وعدم رعاية المظلومين ، وهو يريد أن يدخل مدينة مدين ، فلم يتحمل ذلك كله ، فهو المدافع عن المحرومين ومن أجلهم ضرب قصر فرعون ونعمته عرض الحائط وخرج من وطنه ، فهو لا يستطيع أن يترك طريقته وسيرته وأن يسكت أمام الجائرين الذين لا ينصفون المظلوم!

فقالت البنتان : إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي هؤلاء الرعاة اغنامهم :

__________________

(١) «تذودان» مشتقة من «ذود» على زنة «زرد» ومعناها المنع ، فهما إذا كانتا تذودان أغنامهما لئلا تختلط بالأغنام الأخرى.

(٢) ما خطبكما : أي ما شأنكما وما شغلكما هنا؟!

٢٠٩

( قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ) (١) .

ومن أجل أن لا يسأل موسى : أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه ، أضافتا مكملتين كلامهما( وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام ، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلة لنا إلّا أن نؤدي نحن هذا الدور.

فتأثر موسىعليه‌السلام من سماعه حديثهما بشدة. فأي أناس هؤلاء لا ينصفون المظلوم ، ولا هم لهم غير أنفسهم.

فتقدم وأخذ الدلو وألقاها في البئر يقال : إن هذه الدلو كان يجتمع عليها عدّة نفر ليخرجوها بعد امتلائها من الماء ، إلّا أن موسىعليه‌السلام استخرجها بقوته وشكيمته وهمّته بنفسه دون أن يعينه أحد( فَسَقى لَهُما ) أغنامهما.

ويقال : إنّ موسىعليه‌السلام حين اقترب من البئر لام الرعاء ، قال : أي أناس أنتم لا همّ لكم إلّا أنفسكم! وهاتان البنتان جالستان؟! ففسحوا له المجال وقالوا له : هلمّ واملأ الدلو ، وكانوا يعلمون أن هذه الدلو حين تمتلئ لا يستخرجها إلّا عشرة أنفار من البئر.

ولكن موسىعليه‌السلام بالرغم من تعب السير في الطريق والجوع ملأ الدلو وسحبها بنفسه وسقى أغنام المرأتان جميعها( ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

أجل إنّه متعب وجائع ، ولا أحد يعرفه في هذه المدينة ، فهو غريب ، وفي الوقت ذاته كان مؤدبا وإذا دعا الله فلا يقول : ربّ إنّي أريد كذا وكذا ، بل يقول :( رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) أي إنّه يكشف عن حاجته فحسب ، ويترك الباقي إلى لطف الله سبحانه.

لكن هلمّ إلى العمل الصالح ، فكم له من أثر محمود! وكم له من بركات

__________________

(١) «يصدر» مأخوذ من مادة «صدر» ومعناه الخروج من الماء ، «والرعاء» جمع راع ، وهو سائس الغنم.

٢١٠

عجيبة! خطوة نحو الله ملء دلو من أجل إنصاف المظلومين ، فتح لموسى فصلا جديدا ، وهيأ له. من عالم عجيب من البركات المادية والمعنوية ووجد ضالته التي ينبغي أن يبحث عنها سنين طوالا.

وبداية هذا الفصل عند ما جاءته احدى البنتين تخطو بخطوات ملؤها الحياء والعفة ويظهر منها أنّها تستحي من الكلام مع شاب غريب : رجوعهما إليه بهذه السرعة على غير ما اعتادتا عليه ، فقصتا عليه الخبر ، فأرسل خلفه( فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ ) فلم تزد على أن( قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا ) .

فلمع في قلبه إشراق من الأمل ، وكأنّه أحس بأنّ واقعة مهمّة تنتظره وسيواجه رجلا كبيرا! رجلا عارفا بالحق وغير مستعد أن يترك أي عمل حتى لو كان ملء الدلو أن يجزيه عليه ، هذا الرجل ينبغي أن يكون إنسانا نموذجيا ورجلا سماويا وإلهيّا ربّاه ما أروعها من فرصة.

أجل ، لم يكن ذلك الشخص الكبير سوى «شعيب» النّبي الذي كان يدعو الناس لسنين طوال نحو الله ، كان مثلا لمن يعرف الحق ويطلب الحق ، واليوم إذ تعود بنتاه بسرعة يبحث عن السبب ، وحين يعرف الأمر يقرر أن يؤدي ما عليه من الحق لهذا الشاب كائنا من كان.

تحرك موسىعليه‌السلام ووصل منزل شعيب ، وطبقا لبعض الروايات ، فإنّ البنت كانت تسير أمام موسى لتدله على الطريق ، إلّا أن الهواء كان يحرّك ثيابها وربّما انكشف ثوبها عنها ، ولكن موسى لما عنده من عفة وحياء طلب منها أن تمشي خلفه وأن يسير أمامها ، فإذا ما وصلا إلى مفترق طرق تدله وتخبره من أي طريق يمضي إلى دار أبيها شعيب :(١)

دخل موسىعليه‌السلام منزل شعيبعليه‌السلام ، المنزل الذي يسطع منه نور النبوّة وتشع

__________________

(١) انظر : أبو الفتوح الرازي ـ ذيل الآيات.

٢١١

فيه الروحانية من كل مكان وإذا شيخ وقور يجلس ناحية من المنزل يرحب بقدوم موسىعليه‌السلام ، ويسأله :

من أين جئت؟! وما عملك؟! وما تصنع في هذه المدينة. وما مرادك وهدفك هنا؟!

ولم أراك وحيدا؟!

وأسئلة من هذا القبيل

يقول القرآن في هذا الصدد :( فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فأرضنا بعيدة عن سيطرتهم وسطوتهم ولا تصل أيديهم إلينا ، فلا تقلق ولا تشعر نفسك الوحشة ، فأنت في مكان آمن ولا تفكر بالغربة ، فكل شيء بلطف الله سيتيسر لك!

فالتفت موسى إلى أنّه وجد استاذا عظيما تنبع من جوانبه عيون العلم والمعرفة والتقوى ، وتغمر وجوده الروحانيّة ويمكن أن يروي ظمأه منه.

كما أحسّ شعيب أنّه عثر على تلميذ جدير ولائق ، وفيه استعداد لأن يتلقى علومه وينقل إليه تجارب العمر!

أجل كما أن موسى شعر باللذة حين وجد أستاذا عظيما كذلك أحس شعيب بالفرح والسرور حين عثر على تلميذ مثل موسى.

* * *

مسألتان

١ ـ أين كانت مدين؟!

«مدين» : اسم مدينة كان يقطنها «شعيب» وقبيلته ، هذه المدينة كانت تقع في شرق خليج العقبة [وشمال الحجاز وجنوب الشامات] وأهلها من أبناء إسماعيل

٢١٢

«الذبيح» ابن إبراهيم الخليلعليهما‌السلام ، وكانت لهم تجارة مع مصر وفلسطين ولبنان.

أمّا اليوم فيطلق على «مدين» اسم «معان».

كما أن بعضا من المفسّرين يعتقدون أن مدين اسم لجماعة كانت تعيش ما بين خليج العقبة وجبل سينا المعروف بطور سيناء ، وجاء اسمها في التوراة بـ «مديان» أيضا(١) .

كما يرى البعض : إنّ أساس تسمية هذه المدينة «بمدين» هو لأنّ أحد أبناء إبراهيم الخليل واسمه «مدين» كان يعيش في هذه المدينة(٢) .

وفي الوقت الحاضر يبدو في الخرائط الجغرافية للأردن أن إحدى مدنها في الجنوب الغربي منها ، واسمها «معان» تحمل الأوصاف ذاتها التي كانت في مدين وتنطبق عليها تماما.

٢ ـ دروس كثيرة توحي بالعبر :

في هذا القسم من قصّة موسىعليه‌السلام دروس كثيرة توحي بالعبر :

أـ إنّ أنبياء الله هم حماة المظلومين دائما ، فموسى سواء كان في مصر أو كان في مدين كان يسيئه أن يرى ظلما وتجاوزا على حقوق الآخرين ، وكان ينهض لنصرة المظلوم ولم لا يكون كذلك ، وأحد أهداف بعثة الأنبياء نصرة المظلوم.

ب ـ أداء عمل صغير لله له بركات كثيرة!

لم يفعل موسى سوى أنّه جلب دلوا من الماء وسقى الأغنام للبنتين ، ولم يكن له هدف سوى مرضاة الله الخالق سبحانه!

ولكن كم كان لهذا العمل الصغير من خير وبركة؟! لأنّه صار سببا لأن يصل

__________________

(١) راجع أعلام القرآن ، ص ٥٧٢.

(٢) راجع روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ٥١.

٢١٣

إلى منزل شعيب نبي الله ، وأن يتخلّص من الغربة ، وأن يجد مأوى يطمئن إليه ، وصار من نصيبه الأكل الهنيء والثياب والزوجة الصالحة ، وأهم من كل ذلك إنّه وصل إلى شعيب ، ذلك الشيخ الكبير الذي يتمتع بضمير حي وله دين سماوي ، فعاش معه عشر سنين وأصبح مهيأ لقيادة الأمة في ذلك الوقت

ج ـ إنّ رجال الله لا يتركون أي عمل سدى ـ وخاصّة ما يعمله المخلصون ـ دون أن يؤدوا أجره ولهذه السبب فإنّ شعيبا حين بلغه ما قدمه موسىعليه‌السلام من عمل ـ وهو شاب لم يكن معروفا لم يكن معروفا هناك ـ لم يقرّ حتى أرسل خلفه ليعطيه أجره.

د ـ وهذه المسألة تثير الانتباه ، وهي أن موسى كان يذكر الله دائما ، ويطلب منه العون في كل أمر ، يوكل حل مشاكله إليه.

فحين قتل القبطي وعرف أنّه «ترك الأولى» استغفر ربّه فورا و( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

وحين خرج من مصر سأل الله أن يحفظه و( قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وحين وصل أرض مدين( قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ! ) .

وحين سقى أغنام «شعيب» وتولى إلى الظل دعا ربّه( فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

وهذا الدعاء الأخير ـ خاصة ـ الذي دعا به في وقت تحوط فيه الأزمات وهو في أشدّ الحاجات ، دعا به وهو في غاية التأدب والخشوع ، ولم يسأل الله أن يحقق له ما يحتاج ، بل سأل المزيد وقال :( رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

ه ـ لا ينبغي التصور أن موسىعليه‌السلام إنّما كان يذكر الله في الشدائد فحسب ، فهو لم ينس ذكر الله حتى حين كان في نعمة ورفاهية من العيش ، إذ كان يعيش في

٢١٤

قصر فرعون ـ لذلك ورد في الرّوايات «درج موسى كان يوما عند فرعون فعطس موسى فقال : الحمد لله ربّ العالمين. فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال : ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته ـ وكان طويل اللحية ـ فهلبها أي قلعها ، فآلمه ألما شديدا ، فهم فرعون بقتله فقالت له امرأته ، هذا غلام حدث لا يدري ما يقول وقد لطمته بلطمه إيّاك. فقال فرعون : بلى يدري ...» إلخ(١) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

٢١٥

الآيات

( قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) )

التّفسير

موسى في دار شعيب :

هذا هو المقطع السادس من قصّة حياة موسىعليه‌السلام المثيرة ، جاء موسى إلى منزل شعيب ، منزل قرويّ بسيط ، منزل نظيف ومليء بالروحيّة العالية ، وبعد أن قصّ عليه قصّته ، بادرت إحدى بنتي شعيب بالقول ـ وبعبارة موجزة ـ : إنّني أقترح أن تستأجره لحفظ الأغنام ورعايتها : وقالت( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) .

هذه البنت التي تربّت في حجر النّبي الكبير ، ينبغي أن تتحدث بمثل هذا

٢١٦

الحديث الوجيز الكريم ، وأن تؤدي الكلام حقّه بأقلّ العبارات.

ترى من أين عرفت هذه البنت أنّ هذا الشاب قويّ وأمين أيضا؟ مع أنّها لم تره الّا لأوّل مرّة على البئر ، ولم تتّضح لها سوابق حياته!

والجواب على هذا السؤال واضح وجليّ إذ لاحظت قوته وهو ينحيّ الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم ، وأمّا أمانته وصدقه فقد اتّضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها ، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها ، لئلا تضرب الريح ثيابها!.

أضف إلى ذلك من خلال نقله قصته لشعيب فقد اتّضحت قوته في دفعه القبطي عن الإسرائيلي وقتله إيّاه بضربة واحدة وأمانته وصدقه في عدم مساومته الجبابرة.

فرضي شعيبعليه‌السلام باقتراح ابنته ، وتوجه إلى موسى و( قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) ثمّ أضاف قائلا :( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (١) .

وعلى كل حال ، فلا أريد إيذاءك( وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

فأنّا ألتزم بالعهد والميثاق وأفي بما نتعاقد عليه ، ولا أشدّد عليك في الأمور ، وأتعامل معك معاملة حسنة وصالحة إن شاء الله.

ومن خلال هذا الاقتراح هناك أسئلة كثيرة حول الزواج من ابنة شعيب والمهر وسائر الخصوصيات ، وسنبحث عنها في البحوث القادمة إن شاء الله.

واستجابة لهذا القرار والعقد الذي أنشأه شعيب مع موسى وافق موسى

__________________

(١) هذا المضمون نفسه ورد في رواية منقولة في تفسير علي بن إبراهيم ، فقال لها شعيب : أمّا قوته فقد عرفتنيه إنّه يستقى الدلو وحده ، فبم عرفت أمانته؟ فقالت : «إنّه لمّا قال لي تأخري عنّي ودليني على الطريق فإنّا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنّه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته».

٢١٧

و( قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ )

ثمّ أردف مضيفا بالقول :( أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ ) أي سواء قضيت عشر سنين أو ثماني سنين «حجج» فلا عدوان علي

ومن أجل استحكام العقد بينهما جعل موسىعليه‌السلام الله كفيلا وقال :( وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ! ) .

وبهذه البساطة أصبح موسى صهرا لشعيب على ابنته.

* * *

بحوث

١ ـ شرطان أساسيان للإدارة الصحيحة

في العبارة القصيرة التي وردت في الآيات المتقدمة على لسان بنت شعيب في شأن استئجار موسى ، كان من أهم الشروط وأكثرها أصالة شرطان لخّصا في «القوّة» و «الأمانة».

ومن البديهي أنّ القوّة المذكورة ـ آنفا ـ ليس المراد منها قوّة الجسم فحسب ، بل القدرة على تحمّل المسؤولية أيضا.

فالطبيب «القوي الأمين» هو الطبيب الذي له معرفة جيدة وكافية في عمله ، وله تسلّط عليه أيضا.

والمدير القوى هو الذي يعرف «أصول الإدارة» ويعرف الأهداف المطلوبة وله تسلط في وضع الخطط و «البرامج» ، وله سهم وافر في الابتكار وتنظيم الأعمال ويعبئ القوى في سبيل الوصول للهدف المعين.

وفي الوقت ذاته يكون مشفقا وناصحا وأمينا وصادقا في العمل.

والأشخاص الذين يقنعون في تحمل المسؤولية وجود الأمانة والطهارة فحسب ، هم مخطئون بمقدار خطأ من يعتمد على سمة التخصص والعلم فحسب.

٢١٨

فالمتخصصون الخونة والعلماء المنحرفون يضربون ضربتهم كما يضربها المخلصون الذين لا حظ لهم من الاطلاع والمهارة في العمل.

وإذا أردنا أن نخرّب دولة ما فينبغي أن نوكل الأمور إلى إحدى هاتين الطائفتين إلى مدراء خائنين لـ «الأمانة» ، إلى المخلصين الذين لاحظ لهم من العلم والإدارة والنتيجة واحدة.

إنّ منطق الإسلام هو أن يوكل كل عمل إلى شخص قوي أمين مقتدر ، ليصل نظام المجتمع إلى الكمال ، وإذا ما تأمّلنا في سبب زوال الحكومات في طول التأريخ ، وفكّرنا في الأمر ، وجدنا العامل الأصلي هو إيكال الأمر إلى إحدى هاتين الطائفتين اللتين تكلمنا عنهما آنفا.

ومن الطريف أنّ منهج الإسلام في جميع الأمور أنّه يقرن «العلم مع التقوى» جنبا إلى جنب.

فمرجع التقليد لا بدّ أن يكون «مجتهدا عادلا» والقاضي وكذلك القائد يجب أن يكون «مجتهدا عادلا» وبالطبع فإن شروطا أخرى ينبغي توفرها أيضا ، ولكن أساس هذه الشروط جميعا شرطان هما «العلم المقترن بالتقوى والعدل».

٢ ـ اسئلة عن زواج موسى من بنت شعيب!

ذكرنا ـ آنفا ـ أنّ الآيات المتقدمة تحمل بين ثنايها أسئلة متعددة ، وعلينا أن نجيب عليها ولو باختصار :

أـ هل يجوز من الناحية الشرعية والفقهية ، أن تكون الزوجة غير معلومة ، بل يقال عند إجراء صيغة العقد «أزوّجك إحدى البنتين مثلا»؟

والجواب : ليس من المعلوم أن العبارة السابقة( أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ) ذكرت عند إجراء صيغة العقد بل الظاهر أنّه جرى كلام ومقدمات للعقد والزواج ، وبعد موافقة موسى على الزواج ، ثمّ تجري صيغة العقد على واحدة

٢١٩

بعينها.

ب ـ هل يمكن أن يكون المهر مجهولا ، أو مرددا بين النقصان والتمام؟!

والجواب : يفهم من لغة الآية أن المهر الواقعي كان ثماني سنوات خدمة أمّا السنتان الأخريان فموكلتان لرغبة موسى ، إن شاء أدّاهما ، وإلّا فلا!

ج ـ وهل يجوز أساسا أن يكون المهر «خدمة وعملا»؟!

وكيف يمكن الزواج من امرأة على هذا المهر والدخول بها ، والمهر بعد لم يتمّ ، ولا يمكن إتمامه في مكان واحد!

والجواب : إنّه لا دليل على عدم جواز مثل هذا المهر ، بل إطلاقات الأدلة على المهر في شريعتنا ـ أيضا ـ تشمل كل شيء ذي قيمة!

كما أنّه لا يلزم أداء المهر في مكان واحد ، بل يكفي أن يكون في ذمّة الرجل ، والمرأة مالكة له.

وأصل السلامة والاستصحاب يقضيان أنّ هذا الرجل يحيا مدّة ويستطيع أداء هذا المهر.

د ـ أساسا كيف يمكن جعل الخدمة للأب مهرا للبنت؟! فهل المرأة بضاعة تباع في مقابل الخدمة(١) ؟!

والجواب : لا شكّ أن شعيبا كان يحرز رضا ابنته على مثل هذا المهر ، ولديه وكالة منها على هذا العقد ، وبتعبير آخر : إن المالك الأصلي لما في ذمّة موسى ، هي زوجته «بنت شعيب».

ولكن حيث أنّهم كانوا يعيشون في بيت واحد وفي غاية الصفاء والنقاء ، ولم تكن بينهم فرقة وانفصال «كما هي الحال بالنسبة إلى كثير من الأسر القروية

__________________

(١) قال المحقق الحلي في الشرائع «يصح العقد على منفعة كتعليم الصنعة والسورة من القرآن وكل عمل محلل ، وعلى إجارة الزوج نفسه مدّة معينة» ويضيف الفقيه الكبير الشيخ محمّد حسن صاحب الجواهر بعد ذكر تلك العبارة قوله : «وفاقا للمشهور» (جواهر الكلام ، ج ٣١ ، ص ٤).

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الليلة الحادية عشر

٢٤١

٢٤٢

المجلس الأول

القصيدة: للشيخ عبد الحسين شكر(١)

ت ١٢٨٧ه

لم أنس زينبَ بعد الخدرِ حاسرةً

تُبدي النياحةَ ألحانا فأحانا

مسجورةَ القلبِ إلا أنَّ أعينَها

كالمعصراتِ تَصُبُّ الدمعَ عُقيانها

تدعو أباها أميرَ المؤمنين ألا

يا والدي حكمتْ فينا رعايانا

وغاب عنا المحامي والكفيلُ فَمن

يحمي حمانا ومن يُؤوي يتامانا

إن عسعس الليلُ وارى بذلَ أوجهِنا

وإن تنفّس وجهُ الصبحِ أبدانا

ندعوا فلا أحدٌ يصبو لدعوتِنا

وإن شكونا فلا يُصغى لشكوانا

قم يا عليُّ فما هذا القعودُ وما

عهدي تغض على الأقذاءِ أجفانا

وتنثني تارةً تدعو مشائخَها

من شيبة الحمد أشياخاً وشبانا

قوموا غِضابا من الأجداث وانتدبوا

واستنقدوا من يد البلوى بقايانا

ويلَ الفراتِ أباد اللهُ غامرَه

وردَّ واردَه بالرغم لهفانا

لم يُطفِ حرَّ غليلِ السبطِ باردُه

حتى قضى في سبيل الله عطشانا

لم يُذبحِ الكبشُ حتى يُروَ من ظمأٍ

ويُذبحُ ابنُ رسولِ الله ظمئانا(٢)

____________________

(١) - أقول وذكر صاحب رياض المدح والرثاء أنها للشاعر الكربلائي الحاج محمد علي كمونة.

(٢) - شعراء الغري ج٥ ص١٥٤.

٢٤٣

(نصاري)

اشحال ام الحزن زينب او كلثوم

عليها الليل من خيَّم او اظلم

اشحال الحرم وشحال اليتامه

ليل اهدعش من خيَّم ظلامه

گامت تذكر احسين او عمامه

او عليها الهظم فوگ الحزن خيَّم

غدت للحرم بالصيوان حَنَّه

هاي اتصيح يبني او تجر ونه

او ذيج اتصيح راحوا كل اهلنه

بعد ذاك الشمل هيهات يلتم

وليله اتصيح يوليدي يالاكبر

نايم عالثره او جسمك امطبَّر

عسن يوم اللفينه يوم الاگشر

إولا هل عالخلگ شهر المحرم

او رمله اتصيح يوليدي يجاسم

ابدال العرس عالتربان نايم

اگعد عاين الحال الفواطم

گبعت بالمذلَّه او لبست الهم

الرباب اتصيح يبني او نور عيناي

ورم صدري او درت لك ثداياي

يعبد الله انگطع برباك رجواي

او عگب عينك عليه النوم يحرم

(أبوذية)

يعاذل لا تلوم الگلب تنلام

عليه امن المصايب ثگل تنلام

خيمه ما بگت للحرم تنلام

بيها او تستچن ذيچ المسيه

الحوراء زينبعليها‌السلام تجمع العيال بعدما شتتها العدو

يا لها من ليلة مؤلمة مرت على بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك العز الشامخ الذي لم يفارقهن منذ أوجد الله كيانهن فلقد كن بالأمس في سرادق العظمة وأخبية الجلالة، وبقين في هذه الليلة في حلك دامس من فقد تلك

٢٤٤

الأنوار الساطعة. بين رحل منتهب، وخباء محترق، وحماة صرعى، لا محامي لهن، ولا كفيل، ولا يدرين من يدافع عنهن إذا دهمهن داهم. ومن يكسن فورة الفاقدات ويخفض من وجدهن.

قال بعض الأكابر: في هذه الليلة، قامت الحوراء زينبعليها‌السلام بجمع العيال، والأطفال في مكان واحد، فلما جمعتهم أخذ الأطفال ينظر بعضهم إلى بعض ودموعهم تتحادر على الخدود، وأخذوا يسألون الحوراء زينب عن أهاليهم من الرجال هذه تنادي: عمه زينب أين أبي؟ وذاك ينادي: أين عمي؟ وأخر ينادي: عمة أين أخي؟ بماذا تجيبهم زينب؟ أتقول لهم إنهم صرعى على وجه الأرض؟ أم عندها جواب آخر؟ نعم قامت إليهم، فأخذت تضم الطفلة إلى صدرها لتهدئها عن البكاء والعويل، فإذا هدأت، أخذت الأخرى ضمتها إلى صدرها. وكأني بها في تلك اللحظات، لحظات اللوعة والألم، تلتفت إلى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

(مجردات)

خويه اتحيرت والله ابيتاماك

ما ينحمل يحسين فرگاك

والمثل هذا الوكت ردناك

(نصاري)

صاحت يبو اليمه ابدمع جاري

بناتك زيَّدن عگبك مراري

يخويه المن اسكت يو أباري

او تدري اشچم طفل عگبك تيتم

ولكنها لم تسمع من الحسين جوابا. وأنَّى له بالجواب، وقد فرق بين رأسه وجسده؟ ولهذا حولت بوجهها إلى الغري شاكية مصابها لأبيها أمير

٢٤٥

المؤمنينعليه‌السلام :

(مجردات)

بويه عليه الليل هود

وانه حرمه غريبه او مالي أحد

بيمن يبويه الگلب يضمد

بالحسين هلعندي امدد

وابن والدي العباس مارد

خلصوا هلي الله لحد

(مجردات)

يبويه علينه خيَّم الليل

او دارت علينه الزلم والخيل

او جسام والأكبر مچاتيل

او عباس مرمي ابغير تغسيل

او الحسين بيه مثِّلوا تمثيل

او سجادنه مطروح وانحيل

(فائزي)

امسه المسه والنار ما خلت لنا اخيام

صيوان ما ظل تلتجي ابفيه هاليتام

اگبل عليه الليل وازدادت الوحشه

او ما شوف غير ايتام تتصارخ ابدهشه

او شيخ العشيره احسين محد شال نعشه

مطروح وابجنبه علي الأكبر او جسّام

اصبحت واشبول الهواشم حولي اوگوف

وامسيت مالي اگناع اتستر بالكفوف

اوما شوف غير أطفال تتصارخ امن الخوف

وين المعزّة او وين زهرة ذيچ الأيام

٢٤٦

(أبوذية)

يا ناعي دصيح ابصوت وليان

يحيدر يا امطوع الإنس واليان

ترى زينب بگت من غير وليان

تحشِّم وينكم يهل الحميه

***

أبا حسنٍ تُغضي وتلتذُ بالكرى

وبالكف أمست تَستُر الوجهَ زينبُ

٢٤٧

المجلس الثاني

القصيدة: للسيد أحمد النواب الكربلائي

ت ١٣١١ه

الدمعُ لا يرقى مدى الأزمانِ

لرزيةِ المذبوحِ والعطشانِ

هذي المدامعُ سيلُها متواصلٌ

من كل قاصٍ في الأنام ودانِ

لهفي على العباسِ وهو مجدَّلٌ

والسبطُ يدعو في رحى الميدان

ظهري انحنى من عُظمِ ما قد حلَّ بي

يا أوصلَ الأصحابِ والإخوان

ثم انثنى نحوَ الخيامِ مناديا

هذا الوداعُ ولا وداعٌ ثان

نادته زينبُ والجَوى بفؤادِها

روحي الفدا يا سيدَ الأكوان

أأخيَّ كيف أراك في حرِّ الثرى

داميْ الوريدِ مضرَّجَ الجُثمان

يا ويلتا يا حسرتا يا لهفتا

تبدو السبايا من بني عدنان

جئنا من الحرم المنيعِ بعزةٍ

وحمايةِ الفرسان والشجعان

ثم انثنينا راجعين بلا حمىً

غيرَ اليتامى والأسيرِ العاني

والسبطُ مطروحٌ ثلاثا بالعرى

ملقى بلا غُسلٍ ولا أكفان(١)

____________________

(١) - أدب الطف ج٨، ص٧٨.

٢٤٨

(فائزي)

گوموا انروح الكربله انغسل الشبان

وانشيل جسم احسين وانفصِّل الأكفال

او راسه يشيعه انزّله عن راس السنان

والحرم نرجعها او لزينب ناخذ اخمار

ظلت تراهي امسلبه وحسين مطروح

او عدها عليل او من ونينه ايذوّب الروح

حرمه بلا والي تنادي وين أنا روح

واحسين كلفني ابيتامه اصغار واكبار

حرمه او غريبه او والدمع بالخد همّال

واتصيح وين أهلي اوعمامي اتعاين الحال

عندي جنازه امعطَّله او لا عندي ارجال

سمعوا يشيعه هالمصايب مثلها صار

(أبوذية)

جسمي امن الحزن يا ناس ينهار

او دمع العين علوجنات ينهار

عسنك لا تجي يا ريت ينها

ابشمس وعداي تتفرج عليه

السيدة زينبعليها‌السلام تفتقد

الرباب زوجة الإمام الحسينعليه‌السلام

لا أعرف ليلة أصعب من ليلة الحادي عشر من المحرم مرت على أطفال

٢٤٩

آل الرسول وبنات الزهراء البتول.

أمسوا ليلتهم، والحماة صرعى على وجه الأرض مجزرون، كالأضاحي، وأمسوا ليلتهم وهم بأيدي عدو ليس في قلبه رحمة، بحيث إذا بكت طفلة من أطفال الحسينعليه‌السلام أسكتوها بكعب الرمح، وبالسياط التي تتلوى على متنها، وهي تستغيث وتنادي: وا محمداه، ولا محمد لي اليوم، وا علياه ولا علي لي اليوم، وا حسيناه ولا حسين لي اليوم، وا عباساه ولا عباس لي اليوم.

وفي تلك الليلة افتقدت الحوراء زينب الرباب زوجة الحسين، فأخذت تبحث عنها بين النساء فلم تجدها، فنزلت إلى ساحة المعركة لعلها تجدها عند جسد الحسينعليه‌السلام فلما صارت قريبة من الجسد سمعت أنينا، وحنينا وقائلة تقول: بني عبد الله! صدري اوجعني، وثدياي درّا. فعرفت زينب أنها الرباب قال: رباب ما الذي جاء بك إلى هنا؟ قالت يا بنت رسول الله انه لما أباح لنا القوم الماء در للبن في صدري فجئت لأرضع ولدي.

(مجردات)

جيت ارضع ابني الماشرب ماي

درَّت بيت حيدر ثداياي

بلكت يزينب يسمع انداي

ويگوم روحي اولبة احشاي

وغياب فگده مرَّد اچلاي

هو الكبد والروح والراي

راح الذي زهرتي ابدنياي

والمن اديرن بعد عيناي

بس هذا عندي او گطع رجواي

واشلون بعده ايهوّد ابچاي

وفي تلك اللحظات اغتنمت السيدة زينب الفرصة لتعبر عن آلامها ومصائبها، وبث شكواها إلى أخيا الحسينعليه‌السلام وكأني:

٢٥٠

من أي رزءٍ أشتكي ومصيبةٍ

فراقُكَ أم هتكي وذُلّي وغربتي

أم الجسمُ مرضوضا أم الشيبُ قانيا

أم الرأسُ مرفوعا كبدر الدجنة

أم العابدُ السجادُ أضحى مغلَّلا

عليلا يُقاسي في العدا كلَّ كربةِ

قال الشيخ أسد حيدر (رحمه‌الله ):

توجهت - زينب - إلى مصرع أخيها الحسينعليه‌السلام فأكبت على جسده الطاهر وهي تحاول موضعا يسمح لها بتقبيله لكثرة النبال وجمود الدم على جسده الطاهر فلم تجد، وأخذت تخاطبه بحرارة(١) وكأني:

(مجردات)

أمسى المسه يحسين وحدي

او متحيره ويدي اعلى خدي

بس الأطفال اتنوح عندي

يحسين يومك مرد چبدي

اولا تنطي نيران وجدي

يا ضوه اعيوني او بدر سعدي

لون البگه يحسين يجدي

بالعين إلك والروح لفدي

(أبوذية)

الحرم خويه بالهضم يحسين

من بعدك ابحال الحرم يحسين

يخويه بگت بس نسوان يحسين

وانته اموسد الغبره رميه

***

أأخيَّ مالك عن بناتِك معرضا

والكلُّ منك بمنظرٍ وبمسمع

____________________

(١) - مع الحسين في نهضته ص٢٨٦.

٢٥١

المجلس الثالث

القصيدة: للسيد مهدي الأعرجي

ما بالُ فِهرٍ أغفلتْ أوتارَها

هلا تُثير وغىً فتُدرُكُ ثارَها

أغفت على الضيم الجفونُ وضيعت

يالَلحميةِ عزَّها وفَخارها

عجبا لها هدأت وتلك أميةٌ

قتلت سراةَ قبيلِها وخَيارها

عجبا لها هدأت وتلك نسائُها

بالطفِّ قد هتك العِدى أستارها

لهفي لها بعد التحجُّبِ أصبحت

حسرى تُقاسي ذُلَّها وصَغارها

تدعوا أميرَ المؤمنينَ بمهجةٍ

فيها المنيةُ أنشبتْ أظفارها

قم وانظرِ ابنَك في العراءِ وجسمُه

جعلتْه خيلُ أميةٍ مِضمارها

ثاوٍ تُغسِّله الدماءُ بفيضِها

عارٍ تُكفّنه الرياحُ غُبارها

وخيولُ حربٍ منه رضت أضلُعاً

فيها النبوةُ أودعت أسرارها

وبيوتُ قدسٍ من جلالةِ قدرِها

كانت ملائكةُ السما زوارها

يقف الأمينُ ببابِها مستأذنا

ومقبِّلا أعتابَها وجدارها

أضحت عليها آلُ حربٍ عنوةً

في يوم عاشوراء تَشُنُ مَغارها

كم طفلةٍ ذُعرتْ وكم محجوبةٍ

برزت وقد سلب العدوُّ إزارها(١)

____________________

(١) - ديوان شعراء الحسينعليه‌السلام ص١٥٩.

٢٥٢

(مجردات)

تعنيت للمعركة ابهمَّه

أدور يعمَّه اعله ابو اليمه

لگيت اعله الجسم للگوم لمـَّه

او جرح البگلبه ايسيل دمه

تدنيت مگصودي ارد اشمه

او جسمه المطشَّر عود المـّه

أثاري الشمر موچب يعمَّه

طردني او لخلاني أصل يمَّه

(مجردات)

يحسين يا شيخ العشيره

يبن حامي ادخيله او مجيره

أنا اموجِّله او گلبي ابحيره

يبن والدي شنهي البصيره

منك صدگ تقبل الغيره

يا غيرة الله امشي يسيره

اطوي الفله ابحر الظهيره

وطبَّن ابكل بلده او ديره

(أبوذية)

الگلب من زود ونّي اعليك ولَّم

او گلبي من گبل طرواك ولم

جسمك ما يفيده الجمع واللم

امطشَّر بالفله بسيوف أميه

(تخميس)

أيا سائلا وشظايا القلبِ في شجنِ

هل جهَّزوا لقتيل مات ممتَحَنِ

أجبتُه بفؤادٍ خافقٍ وَهِنِ

ما غسلوه وما لفَّوه في كفنِ

يومَ الطفوفِ ولا مدُّوا عليه رِدا

السيدة زينبعليها‌السلام تبحث عن

فاطمة الصغرى بنت الإمام الحسينعليه‌السلام

في ليلة الحادي عشر: طلبت زينب خيمة من عمر بن سعد تجمع فيها النساء والأيتام، لأن النار لم تبق لهم خيمة، فلما جاءوا لهم بالخيمة وجمعت

٢٥٣

فيها النساء والأيتام، وإذا بها تفتقد فاطمة الصغرى بنت الإمام الحسينعليه‌السلام فجاءت إلى أختها أم كلثوم سألتها عنها، قالت أطلبيها عند جسد المولى أبي عبد الله لعلها هناك.

قامت الحوراء زينبعليها‌السلام وقصدت جسم الحسين في ذلك الليل الدامس، تتعثر بأشلاء القتلى، وهي تقول: عمه فاطمة أين أنت؟ حتى قربت من الجسد الشريف، وإذا بها تسمع أنينا، وحنينا، وقائلة تقول: أبه يا حسين من الذي حزَّ وريديك؟ أبه من الذي أيتمني على صغر سني؟

(مجردات)

يا والدي والله هضيمه

أنه اصير من صغري يتيمه

والنوح من بعدك لجيمه

أثاري الأبو يا ناس خيمه

يفيي على ابناته وحريمه

قال زينبعليها‌السلام فاطمة هذه؟ قالت بلى يا عمة، قالت بنية ما الذي جاء بك إلى هنا؟ قالت عمة عندما هجم القوم على المخيم ارعبتني الخيل والرجال، فقلت ألوذ بجسد والدي.

(نصاري)

للحومه اعتنت زينب ابهمه

تون واتصيح وين انتي يعمه

لگتهه لايذه الجنب ابو اليمه

تون اعليه او وياه اتكلم

تگلَّه من گطع راسك ابسيفه

او من هشَّم اعظامك وأخذ حيفه

يبويه الجيش سلبنه اعله كيفه

او متني ابسوط عدوانك تورَّم

يبويه امست عليه هالمسيه

او بعيده اخيامنه صارت عليه

٢٥٤

ينور العين گلِّي شلون بيه

بعد ياهو الهلي ابردْتي ايتوزم

صاحت زينب ابعبرات وونين

يبعد اهلي اجيتچ لا تخافين

گامت فاطمه من جسم الحسين

شبگتها ودمعها انحدر واسجم

***

يا أخي فاطمُ الصغيرةُ كلمـ

ـها فقد كاد قلبُها أن يذوبا

ما أذلَّ اليتيمَ حين ينادي

بأبيه ولا يراه مجيبا

٢٥٥

المجلس الرابع

القصيدة: للشيخ عبد الحسين شكر

فما لنزارٍ لا تَسُلُّ حِدادَها

وما لِلُؤيٍّ لا تَهُزُّ كِعابَها

أتُغمضُ طرفا عن أميٍّ وإنها

دماً حلبت من آلِ طه رقابها

أثِرْ نقعَها واستنهضِ الغُلْبَ غالبا

وثِرْ مستفزّاً خيلَها وركابها

فتلك بنو حرب على الرغم تَوّجتْ

برأسِ حسينٍ في الطفوفِ حِرابها

وقوسُ أميِّ قد أصابت سهامُه

ذرى العرشِ أوشَقَّتْ لقوسينِ قابها

وتلك جسومُ الهاشميينَ غُودرتْ

طعام ظبىً كانت دماهمْ شرابها

وتلك سرايا شيبةِ الحمدِ هشَّمت

عوادي الأعادي شيبَها وشبابها

أتسطيعُ صبرا أنْ يُقالَ أميةُ

أجالت على جسم الحسينِ عِرابها

وإنَّ برغمِ الغُلبِ أبناءُ غالبٍ

كريمتُه أضحى الدماءُ خضابها

أتنسى هل يُنسى وقوفُ نسائِكم

لدى ابن زيادٍ إذ أماطَ حجابها

فما زينبٌ ذاتُ الحجالِ ومجلسٌ

به أسمع الطاغي عداه خطابها

أتسطيعُ صبرا أن يقالَ نسائِكم

سبايا قد ابتزَّ العدوُّ نقابها

لها الله من مسلوبةٍ ثوبَ عزِّها

كستها سياطُ المارقينَ ثيابها

وعمَّتُك الحوراءُ أنى توجَّهَتْ

رأت نائباتِ الدهرِ تَقرعُ بابها(١)

____________________

(١) - ديوان الشيخ عبد الحسين شكر ١٦.

٢٥٦

(مجردات)

يا عصمة الدين المنيعه

يمهيوب يا عين الطليعه

غيبتك طالت على الشيعه

تنسى الذي ذبحوا رضيعه

ابحضنه او روُّوه ابنجيعه

تنسى الوگع فوگ الشريعه

مطروح واچفوفه گطيعه

تنسى الجره بالطف جميعه

(أبوذية)

يمهدي المحب سل سيفه ولك ثار

ولك جد انذبح بالطف ولك ثار

الأشد واعظم يبو صالح ولكثر

يوم السبوا لبنات الزچيه

الإمام زين العابدينعليه‌السلام ليلة الحادي عشر

لما وضعت معركة بدر أوزارها أوثقوا أسرى المشركين وكان من بينهم العباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما جن الليل، ونام الناس بقي النبي ساهرا، وما نامت عيناه، وكان يتقلب يمينا وشمالا. فقيل له: يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما الذي نزل بك لا تنام عيناك مع ما لقيت من التعب والمشقة وقد نامت العيون؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أنام وأنا أسمع أنين عمي العباس ونشيجه؟ فقاموا إلى العباس، وحلوا ما عليه من الحبال، فلما سكن أنينه نام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الليلة.

أقول سيدي يا رسول الله، ليتك تسمع أنين ولدك الإمام زين العابدين ليلة الحادي عشر من المحرم، وهو عليل، قد فقد أخوته وأباه وأبناء عمومته، ليتك تسمعه ينادي: وا محمداه، ولا محمد لي اليوم، وا علياه ولا علي لي اليوم.

٢٥٧

أتهجعون وهم أسرى وجدُّهمُ

لعمِّه ليلُ بدرٍ قَطُّ ما هجعا

فليت شعري مَنِ العباسُ أرَّقَه

أنينُه كيف لو أصواتَها سَمِعا

ماكان يفعل مذ شِيلتْ هوادجُها

قسرا على كل صَعْبٍ في السُرى ظلعا

ما بين كلِّ دعيٍّ لم يُراعِ بها

من حرمة لا ولا حقَّ النبيّ رعا

(مجردات)

عگب گومه يويلي امگيدينه

تفت حتى الصخر جرَّت ونينه

او حزنه ايزيد من يسمع اسكينه

تگل زينب ابوي احسين وينه

يعمه لو يجي وتشوف عينه

بعده اشجرى والشمر علينه

زينب تگلها يا حزينه

بطلي النشد لا ترتجينه

أبوچ انكتل وحنه انولينه

هذا والإمام يسمع ويرى ما يجري على أخواته وعماته، فتزداد علته وتعظم عليه مصيبته، وليس بمقدوره أن يصنع لهن شيئا يا لله ما أعظمها من مصيبة؟

(أبوذية)

گلبي انكسر بعد اشلون ينشد

على الجبريل اله باللوح ينشد

ما شفنه عليل ابگيد ينشد

يس شفنه عليل الغاضريه

(أبوذية)

عليل او جسمه من المرض ينحل

او خذوه مكتوف لابن زياد ينحل

٢٥٨

الماله احَّد يحلَّه اشلون ينحل

او كل أهله صفت صرعى او رميه

***

وا لهفتاه على خزانةِ علمِك الـ

ـسجادِ وهو يُقاد في الأصفاد

٢٥٩

المجلس الخامس

القصيدة: للسيد عباس البغدادي

فيا راكبا مهريةً شَأَتِ الصَّبا

كأنَّ لها برقَ الغَمامِ زمامُ

إذا جُزْت في وادي قِبا قُل بعَولةٍ

أهاشمُ قومي فالقعودُ حرام

لقد حلّ فيكم حادثٌ أيُّ حادثٍ

هوت فيه للدينِ الحنيفِ دعام

قضى السبطُ ظمآنَ الفؤادِ وشلوُه

لبين المواضي والرماح طعام

وقد قُطعت أوداجُه بشَبا الظبى

ورُضّت له بالصافنات عظام

وأعظمُ رزءٍ زلزل الكون خلبُه

ودَكَّ الراوسي فهي منه رِمام

هجومُ العِدى بغياً على حُجْبِ أحمدٍ

ولم يُرعَ فيها للنبي ذِمام

فبينا بناتُ الوحي في الخدرِ إذ به

أحاط لسلبِ الطاهراتِ طُغام

ففرَّتْ من الأعداءِ حسرى مروعةً

لها الصونُ سِترٌ والعَفافُ لثام

تجيلُ بطرفٍ لِلحماة فلا ترى

سوى جُثثٍ قد غالهن حِمام

فنادت وقد عضّ المصابُ فؤادَها

وشبّ لها بين الضلوع ضَرامُ

فرقّ لها قلبُ العدو كآبةً

وناهيك رزءٌ رقَّ فيه لِئام(١)

(تجليلة)

الليلة اشلون مسّينه حرم كلنه

او كلها اعله الوطيه امذبحه اخوتنه

____________________

(١) - سفينة النجاة ص٣٦٢ العاملي.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592