الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166380
تحميل: 5277


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166380 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

القديمة التي تبدو حياتها منسجمة تمام الانسجام» فلم تكن هذه المسألة ـ مسألة أداء الدين ـ محل بحث ولا كيف يوفّى المهر.

المهم هنا أن المالك للمهر البنت وحدها لا الأب ، والخدمات التي قدمها موسى كانت في هذا السبيل أيضا.

ه ـ كان مهر بنت شعيب مهرا ثقيلا نسبيا ـ لأنّنا إذا أردنا أن نلاحظ أجرة العامل العادي خلال شهر ثمّ خلال سنة ، وبعدئذ نضاعف ذلك الأجر إلى ثماني مرات فسيكون مبلغا كثيرا جدّا.

الجواب : أولا لم يكن هذا الزواج زواجا بسيطا ، بل كان مقدمة لبقاء موسى عند «شعيب» متبعا شاكلته ومذهبه ، ومقدمة لأن يدرس موسىعليه‌السلام في جامعة علمية كبرى خلال هذه الفترة الطويلة ، والله العالم كم تعلم موسى من «شيخ مدين» في هذه المدّة من امور؟!

ثمّ بعد ذلك كله ، لو قلنا : إنّ هذه المدة الطويلة كان يقضيها موسى في خدمة شعيب ، ففي مقابل ذلك سيؤمن له شعيب مصرفه ونفقات زوجه من هذا الطريق أيضا فإذا جردنا مصرف موسى ونفقاته من أجرة عمله لم يكن المهر غاليا ـ بل سيبقى مبلغ زهيد وخفيف!

٣ ـ يستفاد ضمنا من هذه القصّة أن ما يشيع في عصرنا من أن اقتراح الأب على إختيار البعل لابنته أمر مصيب ، لا مانع منه وليس معيبا ، فإذا وجد الأب شخصا لائقا وجديرا ، فله الحق أن يقترح عليه الزواج من ابنته ، كما فعل شعيبعليه‌السلام مع موسى في شأن ابنتهعليه‌السلام والزواج منها.

٤ ـ اسما ابنتي شعيب : واحدة «صفورة» أو «صفورا» وهي التي تزوجت من موسىعليه‌السلام ، أمّا الثّانية فاسمها «ليا»(١) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٤٩.

٢٢١

الآيات

( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) )

٢٢٢

التّفسير

الشّرارة الأولى للوحي :

نصل الآن ـ إلى المقطع السابع ـ من هذه القصّة

لا يعلم أحد ـ بدقّة ـ ما جرى على موسى في سنواته العشر مع شعيب(١) ، ولا شكّ أن هذه السنوات العشر كانت من أفضل سنوات العمر لموسىعليه‌السلام سنوات عذبة هادئة ، سنوات هيأته للمسؤولية الكبرى.

في الحقيقة كان من الضروري أن يقطع موسىعليه‌السلام مرحلة عشر سنين من عمره في الغربة إلى جانب النّبي العظيم شعيب ، وأن يكون راعيا لغنمه ؛ ليغسل نفسه ممّا تطبّعت عليه من قبل أو ما قد أثرت عليه حياة القصر من خلق وسجية.

كان على موسىعليه‌السلام أن يعيش إلى جوار سكنة الأكواخ فترة ليعرف همومهم وآلامهم ، وأن يتهيأ لمواجهة سكنة القصور.

ومن جهة أخرى كان موسى بحاجة الى زمن طويل ليفكر في أسرار الخلق وعالم الوجود وبناء شخصيته. فأيّ مكان أفضل له من صحراء مدين ، وأفضل من بيت شعيب؟!.

إنّ مسئولية نبي من أولي العزم ، ليست بسيطة حتى يمكن لكل فرد أن يتحملها ، بل يمكن أن يقال : إنّ مسئولية موسىعليه‌السلام ـ بعد مسئولية النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من بين الأنبياء جميعا ، كانت أثقل وأهم ، بالنظر لمواجهته الجبابرة على الأرض ، وتخليص أمّة من أسرهم ، وغسل آثار الأسر الثقافي من أدمغتهم.

نقرأ في «التوراة» وفي بعض الروايات الإسلامية ـ أيضا ـ أنّ شعيبا قرر تكريما لأتعاب موسى وجهوده معه أن يهب له ما تلده الأغنام في علائم خاصة ، فاتفق أن ولدت جميع الأغنام أو أغلبها ـ في السنة الذي ودّع فيها موسى شعيبا ـ

__________________

(١) يظهر من الرّوايات الإسلامية أنّ موسىعليه‌السلام عمل مع شعيب عشر سنوات ، وهذا الموضوع موجود في كتاب وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، الصفحة ٣٤ (كتاب النكاح أبواب المهور. الباب ٢٢ ـ الحديث الرابع).

٢٢٣

أولادها بتلك العلائم التي قررها شعيب(١) ، وقدمها شعيب مع كامل الرغبة إلى موسى.

ومن البديهي أنّ موسىعليه‌السلام لا يقنع في قضاء جميع عمره برعي الغنم ، وإن كان وجود «شعيب» الى جانبه يعدّ غنيمة كبرى.

فعليه أن ينهض إلى نصرة قومه ، وأن يخلصهم من قيود الأسر ، وينقذهم من حالة الجهل وعدم المعرفة.

وعليه أن ينهي وجود الظلمة وحكام الجور في مصر ، وأن يحطّم الأصنام ، وأن يجد المظلومون العزة بالله معه ، هذا الإحساس كان يدفع موسى للسفر إلى قومه.

وأخيرا جمع موسى أثاثه ومتاعه وأغنامه وتهيأ للسفر.

ويستفاد ضمنا من التعبير بـ «الأهل» التي وردت في آيات كثيرة في القرآن أن موسىعليه‌السلام كان عنده هناك غير زوجته ولد أو أولاد ، كما تؤيد الرّوايات الإسلامية هذا المضمون ، وكما صرّح بهذا المعنى في «التوراة» في سفر الخروج ، وإضافة إلى كل ذلك فإنّ زوجته كانت حاملا أيضا.

وعند عودته من مدين إلى وطنه أضاع الطريق ، ولئلا يقع أسيرا بيد الظلمة من أهل الشام اختار طريقا غير مطروق.

وعلى كل حال فإنّ القرآن يقول في أوّل من آية هذا المقطع :( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ) ثمّ التفت إلى أهله و( قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) أي (تتدفؤون).

«آنست» : مشتقّة من مادة «إيناس» ومعناها المشاهدة والرؤية المقترنة بالهدوء والراحة.

__________________

(١) راجع أعلام القرآن ، ص ٤٠٩.

٢٢٤

«جذوة» هي القطعة من النّار ، وقال بعضهم : بل هي القطعة الكبيرة من الحطب.

ويستفاد من قوله( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ ) أنّه كان أضاع الطريق ، كما يستفاد من جملة( لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) أن الوقت كان ليلا باردا.

ولم يرد في الآية كلام عن حالة زوجة موسى ، ولكن المشهور أنّها كانت حاملا ـ كما في كثير من التفاسير والرّوايات ـ وكانت تلك اللحظة قد أحست بالطلق وألم الولادة وكان موسى قلقا لحالها أيضا.

( فَلَمَّا أَتاها ) أي أتى النّار التي آنسها ورآها ، وجدها نارا لا كمثل النيران الأخر فهي غير مقترنة بالحرارة والحريق ، بل هي قطعة من النور والصفاء ، فتعجب موسى من ذلك( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .

«الشاطئ» معناه الساحل.

و «الوادي» معناه الطريق بين الجبلين ، أو ممر السيول.

و «الأيمن» مشتق من «اليمين» خلاف اليسار ، وهو صفة للوادي.

و «البقعة» القطعة من الأرض المعروفة الأطراف.

ولا شك أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الأمواج الصوتية في كل شيء ، فأوجد في الوادي شجرة ليكلّم موسى وموسى بشر له جسم وأذنان ولا بدّ له ليسمع الكلام من أمواج صوتية وطبيعي أن كثيرا من الأنبياء كان الوحي بالنسبة لهم إلهاما داخليا ، وأحيانا يرون ما يوحى إليهم في «النوم» كما كان الوحي يأتيهم. أحيانا ـ عن طريق سماع الأمواج الصوتية.

وعلى كل حال فلا مجال للتوهم بأنّ الله جسم ، تعالى الله عن ذلك.

وفي بعض الرّوايات ورد أن موسىعليه‌السلام حين اقترب من النّار ، دقق النظر فلاحظ أن النّار تخرج من غصن أخضر وتضيء وتزداد لحظة بعد لحظة وتبدو

٢٢٥

أجمل ، فانحنى موسى وفي يده غصن يابس ليوقده من النّار ، فجاءت النّار من ذلك الغصن الأخصر إليه فاستوحش ورجع إلى الوراء ثمّ رجع إليها ليأخذ منها قبسا فأتته ثانية وهكذا مرّة يتجه بنفسه إليها ومرّة تتجه النّار إليه ، وإذا النداء والبشارة بالوحي إليه من قبل الله سبحانه.

ومن هنا ومع ملاحظة قرائن لا تقبل الإنكار اتّضح لموسىعليه‌السلام أنّ هذا النداء هو نداء إلهي لا غير.

ومع الالتفات إلى أنّ موسىعليه‌السلام سيتحمل مسئولية عظيمة وثقيلة فينبغي أن تكون عنده معاجز عظيمة من قبل الله تعالى مناسبة لمقامه النبوي ، وقد أشارت الآيات إلى قسمين مهمين من هذه المعاجز :

الأولى قوله تعالى :( وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ) .

ويوم اختار موسىعليه‌السلام هذه العصا ليتوكأ عليها للاستراحة ، ويهشّ بها على غنمه ، ويرمي لها بهذه العصا أوراق الأشجار ، لم يكن يعتقد أنّ في داخلها هذه القدرة العظيمة المودعة من قبل الله. وأن هذه العصا البسيطة ستهز قصور الظالمين ، وهكذا هي موجودات العالم ، نتصور أنّها لا شيء ، لكن لها استعدادات عظيمة مودعة في داخلها بأمر الله تتجلى لنا متى شاء.

في هذه الحال سمع موسىعليه‌السلام مرّة أخرى النداء من الشجرة( أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ) .

«الجانّ» في الأصل معناه الموجود غير المرئي ، كما يطلق على الحيات الصغار اسم (جان) أيضا ؛ لأنّها تعبر بين الأعشاب والأحجار بصورة غير مرئية كما عبر في بعض الآيات عن العصا بـ( ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) [سورة الأعراف الآية ١٠٧ وسورة الشعراء الآية ٣٢].

وقد قلنا سابقا : إنّ هذا التفاوت في التعابير ربّما لبيان الحالات المختلفة

٢٢٦

لتلك الحية التي كانت في البداية حية صغيرة ، ثمّ ظهرت كأنّها ثعبان مبين.

كما ويحتمل أن موسىعليه‌السلام رآها في الوادي بصورة حية ، ثمّ في المرات الأخرى بدأت تظهر بشكل مهول( ثُعْبانٌ مُبِينٌ )

وعلى كل حال ، كان على موسىعليه‌السلام أن يعرف هذه الحقيقة ، وهي أنّه لا ينبغي له الخوف في الحضرة الإلهية ؛ لأنّ الأمن المطلق حاكم هناك ، فلا مجال للخوف إذا.

كانت المعجزة الأولى آية «من الرعب» ، ثمّ أمر أن يظهر المعجزة الثّانية وهي آية أخرى «من النور والأمل» ومجموعهما سيكون تركيبا من «الإنذار» و «البشارة» إذ جاءه الأمر( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) .

فالبياض الذي يكون على يده للناس لم يكن ناشئا عن مرض ـ كالبرص ونحوه ـ بل كان نورا الهيا جديدا.

لقد هزّت موسىعليه‌السلام مشاهدته لهذه الأمور الخارقة للعادات في الليل المظلم وفي الصحراء الخالية ومن أجل أن يهدأ روع موسى من الرهب ، فقد أمر أن يضع يده على صدره( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ) .

قال بعضهم : هذه العبارة( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ ) كناية عن لزوم القاطعية والعزم الراسخ في أداء المسؤولية بالنسبة لرسالته ، وأن لا يخاف أو يرهب شيئا أو أحدا أو قوّة مهما بلغت.

وقال بعضهم : حين ألقى موسىعليه‌السلام عصاه فرآها كأنّها «جان» أو( ثُعْبانٌ مُبِينٌ ) رهب منها ، فمدّ يده ليدافع عن نفسه ويطردها عنه ، لكن الله أمره أن يضم يده إلى صدره ، إذ لا حاجة للدفاع فهي آية من آياته.

والتعبير بـ «الجناح» [الذي يستعمل للطائر مكان اليد للإنسان] بدلا عن اليد في غاية الجمال والروعة ولعل المراد منه تشبيه هذه الحالة بحالة الطائر حين يدافع عن نفسه وهو أمام عدوّه المهاجم ، ولكنه يعود إلى حالته الأولى ويضم

٢٢٧

جناحه إليه عند ما يزول عنه العدو ولا يجد ما يرهبه!.

وجاء موسى النداء معقّبا :( فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) .

فهم طائفة خرجت عن طاعة الله وبلغ بهم الطغيان مرحلة قصوى فعليك ـ يا موسى ـ أن تؤدي وظيفتك بنصحهم ، وإلّا واجهتهم بما هو أشد.

هنا تذكر موسىعليه‌السلام حادثة مهمة وقعت له في حياته بمصر ، وهي قتل القبطي ، وتعبئه القوى الفرعونية لإلقاء القبض عليه وقتله.

وبالرغم من أنّ موسىعليه‌السلام كان يهدف عندها الى انقاذ المظلوم من الظالم الذي كان في شجار معه ، فكان ما كان إلّا أن ذلك لا معنى له في منطق فرعون وقومه ، فهم مصممون على قتل موسى إن وجدوه لذلك فإنّ موسى :( قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) .

وبعد هذا كلّه فإنّي وحيد ولساني غير فصيح( وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) .

كلمة «أفصح» مشتقّة من «الفصيح» وهو في الأصل كون الشيء خالصا ، كما تطلق على الكلام الخالص من كل حشو وزيادة كلمة «الفصيح» أيضا.

و «الردء» معناه المعين والمساعد.

وعلى كل حال فلأن هذه المسؤولية كانت كبيرة جدّا ، ولئلا يعجز موسى عن أدائها ، سأل ربّه أن يرسل معه أخاه هارون أيضا.

فأجاب الله دعوته ، وطمأنه بإجابة ما طلبه منه و( قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً ) فالسلطة والغلبة لكما في جميع المراحل.

وبشرهما بالنصر والفوز ، وأنّه لن يصل إليهما سوء من أولئك : إذ قال سبحانه :( فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا ) فبهذه الآيات والمعاجز لن يستطيعوا قتلكما أو الإضرار بكما( أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ ) .

٢٢٨

فكان ما أوحى الله إلى موسى أملا كبيرا وبشارة عظمى اطمأن بها قلبه ، وأصبح راسخ العزم والحزم ، وسنجد آثار ذلك في الصفحات المقبلة حين نقرأ الجوانب الأخرى من قصّة موسىعليه‌السلام إن شاء الله(١) .

* * *

__________________

(١) كانت لنا بحوث عديدة في هذا المجال ، فراجعها إن شئت في «تفسير سورة الأعراف» و «تفسير سورة طه» و «تفسير سورة الشعراء». وفي بعض السور الأخرى.

٢٢٩

الآيتان

( فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) )

التّفسير

موسى في مواجهة فرعون :

نواجه المقطع الثامن من هذه القصّة العظيمة لقد تلقى موسىعليه‌السلام من ربّه الأمر بأن يصدع بالنبوّة والرسالة في تلك الليلة المظلمة والأرض المقدسة ، فوصل إلى مصر ، وأخبر أخاه هارون بما حمّل وأبلغه الرسالة الملقاة عليهما فذهبا معا إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله ، وبعد عناء شديد استطاعا أن يصلا إلى فرعون وقد حف به من في القصر من جماعته وخاصته ، فأبلغاه الدعوة إلى الله ووحدانيّته ولكن لنر ما جرى هناك ـ في قصر فرعون ـ مع موسى وأخيه.

يقول القرآن في أوّل آية من هذا المقطع :( فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ) .

٢٣٠

وأنكروا أن يكونوا سمعوا مثل ذلك( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) .

فواجهوا موسى متوسّلين بحربة توسّل بها جميع الجبابرة والضالّون على طول التاريخ ، حين رأوا المعاجز من أنبيائهم وهي حربة «السحر» لأنّ الأنبياء يأتون بأمور خارقة للعادات ، و «السحر» خارق للعادة «لكن اين هذا من هذه»؟

السحرة أناس منحرفون وأهل دنيا وعبيد لها وأساس عملهم قائم على تحريف الحقائق ، ويمكن معرفتهم جيدا بهذه العلامة في حين أنّ دعوة الأنبياء ومحتواها شاهد على صدق معاجزهم

ثمّ إنّ السحرة طالما يعتمدون على القدرة البشرية فإنّ عملهم محدود ، أمّا الأنبياء الذين يعتمدون على قوّة الهية ، فإن معاجزهم عظيمة وغير محدودة!

التعبير بـ «الآيات البيّنات» عن معاجز موسىعليه‌السلام بصيغة الجمع ، ربّما يراد به أن معاجز أخرى غير المعجزتين هاتين ، أو أن كل معجزة من معجزتيه مركبة من عدّة معاجز.

فتبديل العصا إلى ثعبان عظيم معجزة ، وعودة الثعبان إلى عصا معجزة أخرى.

والتعبير بـ «مفترى» مأخوذة من «فرية» بمعنى التهمة والكذب لأنّهم قصدوا أنّ موسى يكذب على الله!.

والتعبير بـ( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) مع أن نداء الأنبياء ودعوتهم من أمثال نوح وإبراهيم ويوسفعليهم‌السلام كانا من قبل موسىعليه‌السلام في هذه الأرض ، فجميعهم دعوا إلى عبادة الله سبحانه. هذا التعبير أساسه طول المدّة وبعد العهد عليهم ، أو أنّهم يريدون أن يقولوا : إنّ آباءنا ـ أيضا ـ لم يذعنوا لدعوة الأنبياء قبلك!.

لكن موسىعليه‌السلام أجابهم بلهجة التهديد والوعيد ، حيث يكشف لنا القرآن هذا الحوار( وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ

٢٣١

الدَّارِ ) .

إشارة إلى أنّ الله يعلم حالي ، وهو مطلع عليّ بالرغم من اتهامكم إيّاي بالكذب فكيف يمكن أن يمكنني الله من الأمور الخارقة للعادات لكي أضل بها عباده؟

فعلمه بحالي ومنحه لي هذه القدرة على الإتيان بالمعجزات دليل على حقانية دعوتي.

ثمّ بعد هذا ، الكاذب قد يقضي فترة بين الناس بالكذب والخديعة ، لكن سرعان ما يفتضح أمره ، فانتظروا لتشهدوا من تكون له العاقبة والإنتصار ولمن يكون الخزي والاندحار!؟

ولو كان كلامي كذبا فأنا ظالم و( إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .

وهذا التعبير يشبه تعبيرا آخر في الآية (٦٩) من سورة «طه» إذ جاء بهذه الصيغة «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى ».

وهذه الجملة لعلها إشارة إلى الفراعنة المعاندين والمستكبرين ضمنا ، وهي أنّكم مقتنعون بمعاجزي ودعوتي الحقّة ، ولكنّكم تخالفونني ظلما فعليكم أن تعرفوا أنّكم لن تنتصروا أبدا ، والعاقبة لي فحسب.

والتعبير بـ( عاقِبَةُ الدَّارِ ) ربّما كان إشارة لعاقبة الدار الدنيا ، أو لعاقبة الدار الآخرة ، أو لعاقبة الدارين جميعا ، وبالطبع فإنّ المعنى الثّالث أجمع وأنسب حسب الظاهر.

بهذا المنطق المؤدب أنذر موسىعليه‌السلام فرعون وقومه بالهزيمة في هذه الدنيا وفي الأخرى!.

* * *

٢٣٢

الآيات

( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) )

التّفسير

كيف كان عاقبة الظالمين؟

نواجه هنا المقطع التاسع من هذا التاريخ المليء بالأحداث والعبر.

هذا المقطع يعالج مسألة صنع فرعون البرج ـ أو بنائه الصرح المعروف ـ للبرهنة على وهمية دعوة موسىعليه‌السلام .

ونعرف أن من سنن الساسة القدماء في أعمالهم أنّه كلما وقعت حادثة مهمّة

٢٣٣

على خلاف رغباتهم وميولهم (ومن أجل التمويه وإيهام الناس) يبادرون إلى خلق جوّ جديد ليلفتوا أنظار الناس إليه ، وليصرفوهم عن تلك الحادثة المطلوبة.

ويبدو أنّ بناء «الصرح العظيم» حدث بعد ما جرى لموسى من مواجهته السحرة ما جرى لأنّه يستفاد من سورة «المؤمن» أن هذا العمل «بناء البرج» تمّ حين كان الفراعنة يخططون لقتل موسىعليه‌السلام ، وكان مؤمن آل فرعون يدافع عنه ونعرف أنّه قبل أن يواجه موسىعليه‌السلام السحرة لم يكن مثل هذا العمل ولا مثل هذا الحديث ، وحيث أن القرآن الكريم تحدّث عن مواجهة موسىعليه‌السلام للسحرة في سورة «طه ، والأعراف ، ويونس ، والشعراء» فإنّه لم يتطرق إليها هنا. وإنّما تحدث هنا وفي سورة المؤمن عن بناء البرج.

وعلى كل حال فقد شاع خبر انتصار موسىعليه‌السلام على السحرة في مصر ، وإيمان السحرة بموسى زاد في الأمر أهمية ، كما أن موقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جديّ شديد.

واحتمال تيقظ الجماهير التي في أسر الذل كان كبيرا جدّا فيجب صرف أفكار الناس بأية قيمة كانت ، واشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية مقرونة ببذل من الجهاز الحكومي ، لإغفال الناس وتحميقهم!

وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس فرعون للتشاور في معالجة الموقف ، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع :( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) .

فأنا إلهكم في الأرض أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده ، ولكنني سأتحقق في الأمر ولا أترك الاحتياط ، فالتفت إلى وزيره هامان وقال :( فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ) ثمّ أصدر الأوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّا لأصعد عليه واستخبر عن إله موسى.

( فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ ) .

٢٣٤

لم لم يذكر فرعون اسم الآجر ، واكتفى بالقول :( فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ) ؟ قال بعضهم : هذا دليل على أن الآجر لم يكن متداولا حتى ذلك الحين ، وإنّما ابتكره الفراعنة من بعد في حين أن بعضهم يرى أن هذا التعبير أو هذا البيان فيه نوع من التكبر وموافق لسنّة الجبابرة.

وقال بعضهم : إنّ كلمة «آجر» ليست فصيحة ، لذلك لم يستعملها القرآن ، وإنّما استعمل هذا التعبير المتقدم على لسان فرعون!.

هنا ناقش جماعة من المفسّرين كالفخر الرازي والآلوسي مسألة «الصرح» ، وهل بنى فرعون «الصرح» حقّا أم لا؟!

ويبدو أن الذي شغل فكر المفسّرين هو أن هذا العمل لم يكن متزّنا بأيّ وجه وأي حساب.

ترى ألم يكن الناس قد صعدوا الجبال من قبل فرأوا منظر السماء كما هو على الأرض؟.

وهل البرج الذي يبنيه البشر أكثر ارتفاعا من الجبل؟.

وأي أحمق يصدق أنّه يمكن الوصول إلى السماء بواسطة مثل هذا البرج؟! ولكن أولئك الذين يفكرون مثل هذا التفكير غفلوا عن هذه المسألة ، وهي أن مصر لم تكن أرضا جبلية ، وبعد هذا كلّه نسوا أنّ الطبقة العامّة لأهل مصر بسطاء ويخدعون بشتى الوسائل.

حتى في عصرنا الذي يسمى عصر العلم وعصر النور ، نجد مسائل تشبه ما وقع في العصور الماضية ينخدع بها الناس.

وعلى كل حال ، فطبقا لما ورد في بعض التواريخ ، فإنّ هامان أمر بأرض واسعة ليبنى عليها الصرح أو البرج ، وهيّأ خمسين ألف رجل من العمال والمهندسين لهذا العمل المضني ، وآلاف العمال لتهيئة الوسائل اللازمة لهذا البناء ، وفتح أبواب الخزائن وصرف أموالا طائلة في هذا السبيل ، واشغل عمالا كثيرين

٢٣٥

في هذا البناء حتى أنّه ما من مكان إلّا وتسمع فيه أصوات هذا البناء أو أصداؤه!.

وكلما اعتلى البناء أكثر فأكثر كان الناس يأتون للتفرج ، وما عسى أن يفعل فرعون بهذا البناء وهذا البرج.

صعد البناء إلى مرحلة بحيث أصبح مشرفا على جميع الأطراف. وكتب بعضهم : إنّ المعمارين بنوا هذا البرج بناء بحيث جعلوا حوله سلالم حلزونية يمكن لراكب الفرس أن يرتقي الى أعلى البرج.

ولمّا بلغ البناء تمامه ولم يستطع البناؤون أن يعلوه أكثر من ذلك جاء فرعون بنفسه يوما وصعده بتشريفات خاصة فنظر إلى السماء فوجدها صافية كما كان ينظرها من الأرض لم تتغير ولم يطرأ عليها جديد.

المعروف أنّه رمى سهما إلى السماء ، فرجع السهم مخضبا بالدم على أثر إصابته لأحد الطيور أو أنّها كانت خديعة من قبل فرعون من قبل فنزل فرعون من أعلى القصر وقال للناس : اذهبوا واطمأنوا فقد قتلت إله موسى(١) .

ومن المسلم به أن جماعة من البسطاء الذين يتبعون الحكومة اتباعا أعمى وأصم ، صدّقوا ما قاله فرعون ونشروه في كل مكان ، وشغلوا الناس بهذا الخبر لإغفالهم عن الحقائق!.

ونقلوا هذا الخبر أيضا ، وهو أنّ البناء لم يدم طويلا «وطبعا لا يدوم» أجل لقد تهدم البناء وقتل جماعة من الناس ونقلوا في هذا الصدد قصصا أخرى ، وحيث أن لم تتّضح صحتها لنا فقد صرفنا عنها النظر.

والذي يلفت النظر أن فرعون في كلامه هذا( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) كان قد استعمل نهاية الخبث ومنتهى الشيطنة إذ كان يرى من المسلّم به أنّه إله!! وكان مدار بحثه : هل يوجد إله غيره؟!! ثمّ ينفي أن يكون هناك إله سواه إله ؛ لعدم وجود الدليل!!

__________________

(١) مقتبس من تفسير أبي الفتوح الرازي ذيل الآيات محل البحث ، ج ٨٩ ، ص ٣٦٢.

٢٣٦

وفي المرحلة الثّالثة والأخيرة ، ومن أجل أن يقيم الدليل على عدم وجود إله غيره بنى ذلك الصرح!.

كل هذه الأمور تؤكّد جيدا أنّه كان يعرف تلك المسائل ، إلّا أنّه كان يضلل الناس ويصرف أفكارهم عن الحق ، ليحفظ موقعه وحكومته!.

بعد هذا كلّه يتحدث القرآن عن استكبار فرعون ومن معه ، وعدم إذعانهم لمسألتي «المبدأ والمعاد» بحيث كان فرعون يرتكب ما يشاء من إجرام وجنايات بسبب انكار هذين الأصلين فيقول :( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ ) .

هذا الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع أن يبعد عن نفسه بعوضة ، وربّما قتله ميكروب لا يرى بالعين المجرّدة كيف يمكن له أن يدعي العظمة والألوهيّة!؟.

ورد في الحديث القدسي أنّ الله سبحانه يقول : «الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النّار»(١) .

ومن البديهي أنّ الله لا يحتاج إلى أوصاف كهذه ولكن حالة الطغيان والعدوان تستولي الإنسان حينما ينسى نفسه ، وتملأ ريح الكبر والغرور فكره!

لكن لننظر إلى أين وصل هذا الغرور بفرعون وجنوده؟!

يقول القرآن الكريم :( فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ ) .

أجل ، لقد جعلنا سبب موتهم في مصدر معيشتهم ، وجعلنا النيل الذي هو رمز عظمتهم وقوّتهم مقبرة لهم!.

من الطريف أنّ القرآن يعبّر بـ «نبذناهم» من مادة «نبذ» على زنة «نبض» ومعناه رمي الأشياء التي لا قيمة لها وطرحها بعيدا ، ترى ما قيمة هذا الإنسان الأناني المتكبر المتجبّر الجاني المجرم؟!

أجل ، لقد نبذنا هؤلاء الذين لا قيمة لهم من المجتمع البشري ، وطهّرنا

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، التّفسير الكبير ، للفخر الرازي ، تفسير الميزان وتفاسير أخر ذيل الآية محل البحث.

٢٣٧

الأرض من لوث وجودهم.

ثمّ ، يختتم الآية بالتوجه إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) .

هذا النظر ليس بعين «البصر» بل هو بعين «البصيرة» ، وهو لا يخص ظلمة الماضي وفراعنة العهد القديم ، بل إن ظلمة هذا العصر ليس لهم من مصير سوى هذا المصير المشؤوم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا في شأنهم :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ) .

هذا التعبير أوجد إشكالا لدى بعض المفسّرين ، إذ كيف يمكن أن يجعل الله أناسا أئمة للباطل؟!

ولكن هذا الأمر ليس معقدا لأنّه أولا إن هؤلاء هم في مقدمة جماعة من أهل النّار ، وحين تتحرك الجماعات من أهل النّار ، فإنّ هؤلاء يتقدمونهم إلى النّار! فكما أنّهم كانوا في هذه الدنيا أئمّة الضلال ، فهم في الآخرة ـ أيضا ـ أئمّة النّار ، لأنّ ذلك العالم تجسم كبير لهذا العالم!.

ثانيا كونهم أئمّة الضلال ـ في الحقيقة ـ نتيجة أعمالهم أنفسهم ، ونعرف أن تأثير كل سبب هو بأمر الله ، فهم اتخذوا طريقا يؤدي بهم إلى الضلال وينتهي بهم إلى أن يكونوا أئمّة الضالين ، فهذه حالهم في يوم القيامة!.

ولمزيد التأكيد يصور القرآن صورتهم وماهيتهم في الدنيا والآخرة!( وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ! ) (١) لعنة الله معناها طردهم من رحمته ، ولعنة الملائكة والمؤمنين هي الدعاء عليهم صباحا ومساء وفي كل وقت. وأحيانا تشملهم اللعنة العامة. وأحيانا يأتي اللعن خاصّة

__________________

(١) «المقبوح» مشتق من «القبح» ومعناه السوء. ما فسّره بعضهم بأنّ المقبوح معناه المطرود أو المفضوح أو المغضوب عليه وما شاكلها ، فهو من التّفسير بلازم المعنى ، وإلّا فالمقبوح معناه واضح.

٢٣٨

لبعضهم. حيث أنّ كل من يتصفح تأريخهم يلعنهم ، ويتنفّر من أعمالهم.

وعلى كل حال فإنّ سوء أعمالهم في هذه الدنيا ، هو الذي قبّح وجوههم في الدار الآخرة «يوم القيامة» ، لأنّه يوم البروز ويوم هتك الحجب.

* * *

ملاحظة!

أئمّة «النّور» وأئمّة «النّار»

هناك طائفتان من الأئمة في منطق القرآن الكريم ، فأئمة للمتقين يهدونهم إلى الخيرات ، كما ورد في شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ ) (١) .

فهؤلاء أئمّة أصحاب مناهج واضحة ، لأنّ التوحيد الخالص والدعوة إلى الخير والعمل الصالح والحق والعدالة ، تشكّل متن مناهجهم فهم أئمّة النور ، وخطهم متصل بسلسلة الأنبياء والأوصياء الى خاتم النّبيين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائهعليهم‌السلام .

وهناك أئمّة للضلال وقد عبّرت عنهم الآيات محل البحث بأنّهم :( أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) !.

ومن خصائص هاتين الطائفتين من الأئمّة ، كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يلي : «إنّ الأئمّة في كتاب الله إمامان ، قال الله تبارك وتعالى :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم ، وحكم الله قبل حكمهم ، قال :( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) يقدمون أمرهم قبل أمر الله ، وحكمهم قبل

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية ٧٣.

٢٣٩

حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف كتاب الله»(١) .

وبهذا المعيار يتّضح معرفة هاتين الطائفتين من الأئمة ففي يوم القيامة الذي تتمايز فيه الصفوف ، كل جماعة تمضي خلف إمامها ، فأهل النار إلى النّار ، وأهل الجنّة إلى الجنّة كما يقول القرآن الكريم :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) (٢) .

وقلنا مرارا : إنّ يوم القيامة تجسم عظيم عن هذا العالم «الصغير» وأولئك الذين ارتبطوا بإمام معين واقتفوا أثره ، فهم سائرون خلفه هناك أيضا.

ينقل «بشر بن غالب» عن الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام أنّه سأله عن تفسير الآية( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) فقالعليه‌السلام : «إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه ، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها ، هؤلاء في الجنّة ، وهؤلاء في النّار وهو قولهعزوجل ( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (٣) .

من الطريف أن فرعون الذي تقدّم قومه في هذه الدنيا وأغرقهم بمعيّته في أمواج النيل ، يقدم قومه يوم القيامة ـ أيضا ـ يخزيهم بمعيته في نار جهنم ، إذ يقول القرآن في شأنه:( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) .(٤)

ونختم هذا البحث بحديث الإمام عليعليه‌السلام في شأن المنافقين حيث يقولعليه‌السلام : «ثمّ بقوا بعده فتقربوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النّار بالزور والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس»(٥) .

* * *

__________________

(١) تفسير الصافي ذيل الآيات مورد البحث.

(٢) الإسراء ، ٧١.

(٣) أمالي الصدوق لما ورد في نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٩٢.

(٤) سورة هود ، ٩٨.

(٥) راجع نهج البلاغة ، الخطبة ٢١٠.

٢٤٠