الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180686 / تحميل: 6351
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) )

التّفسير

الأخبار الغيبيّة هي من عند الله وحده

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصّة موسى وما تحمله من معان كبيرة!.

وهي تتحدث عن نزول الأحكام ، والتوراة ، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء!.

٢٤١

يبدأ هذا المقطع بالآية التالية( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

والكلام في أنّ المقصود من «القرون الأولى» أي الأقوام السابقين من هم؟!

قال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى الكفّار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحى اثار الأنبياء السابقين ، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماويّ جديد في أيدي البشر!.

وقال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين ، لأنّ الله سبحانه آتى موسى كتاب «التّوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الأولى في الآية شاملا لجميع الأقوام.

و «البصائر» جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية ، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين و «الهدى» و «الرحمة» أيضا من لوازم البصيرة وعلى أثرها تتيقظ القلوب(١) .

ثمّ يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما ذكرناه لك «يا رسول الله ، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه ، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن ، لأنّك لم تكن «حاضرا» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك بل هو من الطاف الله عليك ، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس يقول القرآن :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ) أي الأمر بالنبوّة( وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسىعليه‌السلام حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء ، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب.

__________________

(١) «البصائر» جمع «بصيرة» وأمّا «البصر» فجمعه «أبصار».

٢٤٢

وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء ، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية(٦٠) ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل ، هو إشارة إلى هذا المعنى!

ثمّ يضيف القرآن( وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس ، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نورا وهدى للناس.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ) [أي على أهل مكة]( آياتِنا ) (١) ( وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) وأوحينا إليك هذه الأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين(٢) .

وتأكيدا على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ ) (٣) ( إِذْ نادَيْنا ) اي نادينا موسى بأمر النبوّة ، ولكننا أنزلنا إليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك( وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وخلاصة الكلام : أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين ، ولم تكن فيهم من الشاهدين ، لتتلو كل ذلك على

__________________

(١) «ثاوي» مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالاستقرار ، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى.

(٢) كان بين ظهور موسىعليه‌السلام وظهور النّبي (محمّد)صلى‌الله‌عليه‌وآله حدود ألفي عام.

(٣) قال بعض المفسّرين : يحتمل أن يكون المراد من «نادينا» هنا هو النداء الثّاني عند ما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور ، فجاءه النداء من الله ، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا ؛ لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضرا هناك ولم يكن من الشاهدين ، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر ، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور «فلاحظوا بدقة».

٢٤٣

قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون.

هنا ينقدح هذا السؤال : كيف يقول القرآن :( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) [أي العرب المعاصرين للنبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ] في حين أنّنا نعرف أن الأرض لا تخلو من حجّة لله ، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسىعليه‌السلام ).

وفي الجواب على ذلك نقول : المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتابا سماويّا بيّنا لأنّ بين عصر عيسىعليه‌السلام وظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله قرونا مديدة ، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ من أولي العزم ، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في هذا الصدد «إن الله بعث محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة ، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣٣.

٢٤٤

الآيات

( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) )

التّفسير

ذريعة للفرار من الحق :

حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لينذر قومه ، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في

٢٤٥

قومه فيقول : إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا إذا أردنا إنزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا : لما ذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا أحكامك لنؤمن به( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق ، وهو أن طريق الحقّ واضح وبيّن وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل ، وحتى مع عدم إرسال الرسل ، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأمور ممكنة.

ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة ، إتماما للحجّة ونفيا للعذر ، لئلا يقول أحد : إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل ، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.

وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها ، ونقرأ في سورة النساء الآية (٦٥) أيضا( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك ، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية ، واستمروا على طريق الانحراف ، فتقول الآية :( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى ) .

__________________

(١) يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب «لولا» الأولى محذوف وتقديره «لما أرسلنا رسولا» أو «لما وجب إرسال الرسل» وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحا وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا وإلّا فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أخرى ، على أنّ واحدا من فوائد إرسال الرسل ـ أيضا ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد «فلاحظوا بدقّة».

٢٤٦

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولم لم إلخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج ، ويقول :( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا ) أي موسى وهارون ، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق( وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

والتعبير بـ «سحران» بدلا عن «ساحران» هو لشدة التأكيد ، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول : هو العدل بعينه ، أو بعينه ، أو السحر وهكذا.

كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضا ـ وهو : إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسىعليه‌السلام وهما عصاه ويده البيضاء!

وإذا قيل : ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة ، فهذه الأمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمرا جديدا فجميعهم من نسيج واحد ، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماما ، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفا ، إلّا أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيرا آخر وقالوا : إنّ المقصود بقوله تعالى :( سِحْرانِ تَظاهَرا ) هو «النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله » لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون : إن كليهما ساحران وإنّا بكلّ كافرون.

وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية ، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم ، وسألوهم عن نبي الإسلام «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله أهو نبيّ حقّا؟! فأجابوا : إنّهم وجدوا مكتوبا عندهم في التوراة «بأوصافه»!. فرجع

٢٤٧

المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود ، فقالوا :( سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيدا جدّا :

الأولى : أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحرا.

الثّانية : كيف يمكن لأحد أن يدعي أن موسى ومحمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.

ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!

وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لم لم يأت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعاجز كمعاجز موسى ، ومن جهة أخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!!( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

وبتعبير آخر : إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!

فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!

ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافيا في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونوا طلّاب حق ، بل أصحاب حجج واهية فحسب!

ثمّ يضيف القرآن( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) لأنّ أي إنسان إذا لم يتبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح ، لكن أولئك لم يكونوا على صراط مستقيم ، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.

٢٤٨

ولكن من أضيع منهم( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

ولو كانوا طلّاب حقّ وقد أضلوا سبيلهم ، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه ، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!

* * *

ملاحظة

اتباع الهوى مدعاة للظلال :

في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة ، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس ، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.

هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.

هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقا به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات ، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم ، شرط لدرك الحقائق التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي ، مرا كان أم عذبا ، موافقا لرغبات النفس أم مخالفا ، منسجما مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.

وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (٤٣) من سورة الفرقان.

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدة تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه

٢٤٩

وقائده الإلهي واتبع هواه(١) .

وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقرعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام وبعض الائمّة الطاهرينعليهم‌السلام هي من قبيل المصداق البارز وبتعبير آخر : إنّ الإنسان محتاج لهداية الله هذه الهداية تارة تنعكس في كتاب الله ، واخرى في وجود النّبي وسنته ، وأخرى في وأوصيائه المعصومين ، وأخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإلهية غير متبع لهواه ، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.

* * *

__________________

(١) هذه الرّوايات في أصول الكافي وبصائر الدرجات طبقا لما في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٣٢.

٢٥٠

الآيات

( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) )

سبب النّزول

نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيره ومختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة ، والجامع المشترك فيها واحد ، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة ـ بالقرآن ونبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعن «سعيد بن جبير» أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّا مسيحيا بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والاطلاع على دين النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا

٢٥١

قرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة «يس» دمعت عيونهم شوقا وأسلموا(١) .

وقال بعضهم : هذه الآيات نزلت في نصارى نجران «مدينة في شمال اليمن» جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(٢) .

وقال آخرون : بل نزلت في النجاشي وقومه.(٣)

كما يرى بعضهم أنّها نازلة في «سلمان الفارسي» وجماعة من علماء اليهود ، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(٤) .

وأخيرا فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالما مسيحيا من ذوي الضمائر حيّة والنيرة ، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، وثمانية آخرون من الشام ، من بينهم «بحيرا» الراهب الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا.(٥)

وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة ، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية. ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلّان على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناء ، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.

وعلى كل حال فإن هذه الآيات «شواهد بليغة» تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن لأنّه لا يمكن لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول مثل هذا. ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فورا ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٣٥٧ ، و ٣٥٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٥) المصدر السابق.

٢٥٢

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم ، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها. ، يقول القرآن في هذا الصدد : لقد أنزلنا لهم آيات القرآن تباعا( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (١) .

هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة ، وكيفيات متفاوتة ، فتارة تحمل الوعد بالثواب ، وتارة الوعيد بالنّار ، وأخرى الموعظة والنصيحة ، وأخرى تنذر وتهدد. وأحيانا تحمل استدلالات عقلية ، وأحيانا تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر ، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان ، حيث أنّها تجذب القلوب إليها إلّا أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.

إلّا أنّ (اليهود والنصارى)( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) . لأنّهم يرونه منسجما مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.

ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من «أهل الكتاب» ، إلّا أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم «أهل الكتاب» دون قيد أو تبعيض أو أي شيء آخر ، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّا ، أمّا سواهم فلا.

__________________

(١) «وصّلنا» مأخوذ من مادة «وصل» أي ربط ، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل ، فهي تدل على الكثرة ، ويستفاد منها التأكيد أيضا

٢٥٣

ثمّ يضيف القرآن في وصفهم قائلا :( وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ) .

أجل : كانت تلاوة الآيات عليهم كافية لأن يقولوا «آمنا» ثمّ يضيف القرآن متحدثا عنهم : إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب ، بل( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) إنّنا وجدنا علائم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبنا السماوية وتعلقت قلوبنا به ، وانتظرناه بفارغ الصبر ـ وفي أوّل فرصة وجدنا بها ضالتنا أمسكنا بها ـ وقبلناه «بقلوبنا وأرواحنا».

ثمّ يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنّبي من غير تقليد أعمى ، وإنّما طلبا للحق ، فيقول :( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) .

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماويّ الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه ومرّة أخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله النّبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ويحتمل ـ أيضا ـ كما هو مستفاد من الآيات المتقدمة ، إنّما يؤتون أجرهم مرتين ؛ لأنّهم آمنوا بنبي الإسلام قبل ظهوره ، وحين ظهر لم يكفروا به بل آمنوا به كذلك.

وهؤلاء بذلوا جهدا وصبروا زمانا طويلا ليؤدوا ما عليهم من وظيفة ومسئولية ولم يرض بأعمالهم المنحرفون من اليهود ولا النصارى ، ولم يسمح لهم تقليد السابقين والجوّ الاجتماعي أن يتركوا دينهم ويسلموا ، إلّا أنّهم وقفوا وصبروا وتجاوزوا هوى النفس والمنافع الذاتية ، فنالوا ثواب الله وأجره مرّتين.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق ممّا رزقهم الله» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والاستقامة ، وهي خصال أربع ممتازة.

٢٥٤

حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم :( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) .

يدرءون بالكلام الطيب الكلام الخبيث ، وبالمعروف المنكر ، وبالحلم الجهل والجاهلين ، وبالمحبّة العداوة والبغضاء ، وبصلة الرحم من يقطعها ، والخلاصة أنّهم بدلا من أن يدفعوا السيئة بالسيئة فإنّهم( يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ! ) .

وهذا أسلوب مؤثر جدّا في مواجهة المفاسد ومبارزتها ، ولا سيما في مواجهة اللجوجين والمعاندين.

وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الأسلوب مرارا وكرارا ، وقد سبق أن بحثنا في هذا المجال بشرح مبسّط في ذيل الآية (٢٢) من سورة الرعد وذيل الآية (٦٩) من «سورة المؤمنون».

والخصلة الأخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

وليس الإنفاق من الأموال فحسب ، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الاجتماعية ، وجميع هذه الأمور من مواهب الله ورزقه ـ فهم ينفقون منها في سبيل الله!.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله :( وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) .

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو ، بل( قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) .

فلا تحاسبون بجريرة أعمالنا ، ولا نحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم ، ولكن ما أسرع ما سيجد كل منّا نتيجة عمله.

ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله ، حيث يقولون :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ) .

فلسنا أهلا للكلام البذيء ، ولا أهلا للجهل والفساد ، ولا نبتغي ذلك ، إنّما

٢٥٥

نبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.

وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عمي القلوب وأهل الكلام البذي ، يمرون عليهم كراما ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.

الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين ، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال ، بل سلام وداع.

* * *

ملاحظة!

القلوب المهيّأة للإيمان :

رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسما جميلا وبليغا.

فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل ، والكلام البذيء السيء الفارغ ، والبخل والحقد ، وما إلى ذلك!!.

إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى ، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد ، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.

ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمنا غاليا ، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله ، وتحرروا عن محيطهم المنحرف ، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب

فهؤلاء ليسوا حاقدين ، ولا يردون السوء بالسوء ، ولا هم بخلاء ولا خسيسون ، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.

إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والانشغال غير الصحيح ، والكلام

٢٥٦

الفارغ الركيك ، والمزاح وغيره.

لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب ، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.

ويفكرون في أعمالهم ومسئولياتهم ، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع. الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.

أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم ، ليؤتوا أجرهم لا مرّة واحدة ، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.

هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة ، والذين بذلوا جهدا وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد يقول : «نحن صبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون»

تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد ، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر ، والآخر لا يعلم ، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.

أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة ، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية ، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار أمّا الثّاني فلا يعرف شيئا عن ذلك ، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.

وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال : «اللغو» الكذب ، «اللهو» الغناء ، والمعرضون عن اللغو و «المتقون» هم الأئمّةعليهم‌السلام يعرضون عن

٢٥٧

ذلك كلّه(١) .

وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز ، وإلّا فإنّ مفهوم «اللغو» أوسع ويشمل غير ما ذكرنا ، و «المعرضون عن اللغو» أيضا هم جميع المؤمنين الصادقين ، وإن كان الأئمّةعليهم‌السلام في طليعتهم!

* * *

__________________

(١) تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ١٤٢.

٢٥٨

الآيتان

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) )

التّفسير

الهداية بيد الله وحده!

بالرغم من أن بحوثا كثيرة وروايات وردت في الآية الأولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها ، إلّا أنّها ـ كما سنرى ـ روايات غير معتبرة ولا قيمة لها ، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة ، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.

ومع الالتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين : طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين ، كان رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شديد الإصرار على هدايتهم ، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان. وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة ، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام ، وآثروا

٢٥٩

على أنفسهم مصلحة الإسلام ، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين ، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.

فمع الالتفات إلى كل هذه الأمور ، نلاحظ أن الآية الأولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول :( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.

أجل ، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.

أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ما عندهم من قوة بوجه رسل الله ، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبدا.

إذن ، وبناء على ما تقدم ، ليس المقصود من الهداية «إراءة الطريق» ، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتشمل جميع الناس دون استثناء ، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف» ، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده ، الذي يغرس الإيمان في القلوب ، وليس هذا العمل اعتباطا ودون حساب ، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعدة ليهبها نور السماء!

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة ، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة ، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى ، فإن الله يقذف نوره في

٢٦٠

بقاء وحياة الأمّة الإسلامية ، وإن تركه وحيدا لا يعرض حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخطر فحسب ، بل يعرّض دين الله ، وكذلك وجود وحياة المؤمنين أيضا أمام الخطر الجدي.

إنّ القرآن ـ في الواقع ـ يرغّب كل المؤمنين بملازمة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمايته والدفاع عنه في مقابل كل الأخطار والعقبات باستعمال نوع من البيان والتعبير العاطفي ، فهو يقول : إنّ أرواحكم ليست بأعزّ من روح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحياتكم ليست بأفضل من حياته ، فهل يسمح لكم إيمانكم أن تدعو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواجه الخطر وهو أفضل وأعز موجود إنساني ، وقد بعث لنجاتكم وقيادتكم نحو الهدى وتستثقلون التضحية في سبيله حفاظا على أرواحكم وسلامتكم؟!

من البديهي أنّ التأكيد على أهل المدينة وأطرافها إنّما هو لأنّ المدينة كانت مقرّ الإسلام يومئذ ومركزه المشع ، وإلّا فإنّ هذا الحكم غير مختص بالمدينة وأطرافها ، وغير مختص بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ واجب كل المسلمين ، وفي جميع العصور أن يحترموا ويكرموا قادتهم كأنفسهم ، بل أكثر ، ويبذلون قصارى جهدهم في سبيل الحفاظ عليهم ، ولا يتركوهم يواجهون الصعاب والأخطار وحدهم ، لأنّ الخطر الذي يحدق بهؤلاء يحدق بالأمّة جميعا.

ثمّ تشير الآية إلى مكافآت المجاهدين المعدة مقابل كل صعوبة يلاقونها في طريق الجهاد، وتذكر سبعة أقسام من هذه المشاكل والصعاب وثوابها ، فتقول :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ) ، ومن المحتم أنّهم سيقبضون جوائزهم من الله

٢٦١

سبحانه ، واحدة بواحدة ، ف( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) . وكذلك فإنّهم لا يبذلون شيئا في امر الجهاد :

( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) ولا يقطعون أرضا في ذهابهم للوصول إلى ميدان القتال ، أو عند رجوعهم منه إلّا ثبت كل ذلك في كتبهم :

( وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ) وإنّما يثبت ذلك( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهنا يجب الانتباه لمسائل :

1 ـ إنّ جملة( لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ) قد فسّرها أغلب المفسّرين كما ذكر أعلاه، وقالوا : إنّ المقصود هو أن المجاهدين في سبيل الله لا يتلقون ضربة من قبل العدو ، سواء جرحوا بها أو قتلوا أو أسروا وأمثال ذلك ، إلّا وتسجّل في صحائف أعمالهم ليجزوا عليها ، ومقابل كل تعب وصعوبة ما يناسبها من الأجر ، ومن الطبيعي أننا إذا لا حظنا أنّ الآية في مقام ذكر المصاعب وحسابها ، فإن ذلك ممّا يناسب هذا المعنى.

إلّا أنّنا إذا أردنا أن نفسر هذه العبارة بملاحظة ترتيب الفقرات وموقع هذه الجملة منها ، وما يناسبها لغويا ، فإنّ معنى الجملة يكون : إنّهم لا ينزلون بالعدو ضربة إلّا كتبت لهم ، لأنّ معنى نال من عدوه في اللغة : ضربه ، إلّا أن النظر إلى مجموع الآية يرجح التّفسير الأوّل.

2 ـ ذكر المفسّرون تفسيرين لجملة :( أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) : أحدهما على أساس أن كلمة (أحسن) وصف لأفعالهم ، والآخر على أنّها وصف لجزائهم.

فعلى التّفسير الأوّل وهو ما اخترناه ، وهو الأوفق لظاهر الآية ـ فأنّ أعمال المجاهدين هذه قد اعتبرت وعرّفت بأنّها أحسن أعمالهم في حياتهم ، وأنّ الله سبحانه سيعطيهم من الجزاء ما يناسب أعمالهم.

وعلى التّفسير الثّاني الذي يحتاج إلى تقدير كلمة (من) بعد كلمة (أحسن) فإنّها

٢٦٢

تعني إن جزاء الله أفضل وأثمن من أعمالهم ، وتقدير الجملة : ليجزيهم الله أحسن ممّا كانوا يعملون ، أي سيعطيهم الله أفضل ممّا أعطوا.

3 ـ إنّ الآيات المذكورة لا تختص بمسلمي الأمس ، بل هي للأمس واليوم ولكل القرون والأزمنة.

ولا شك أنّ الاشتراك في أي نوع من الجهاد ، صغيرا كان أم كبيرا ، يستبطن مواجهة المصاعب والمشاكل المختلفة ، الجسمية منها والروحية والمالية وأمثالها ، إلّا أن المجاهدين أناروا قلوبهم وأرواحهم بالإيمان بالله ووعوده الكبيرة. وعلموا أن كل نفس وكلمة وخطوة يخطونها في هذا السبيل لا تذهب سدى ، بل إنّها محفوظة بكل دقة دون زيادة أو نقصان ، وإنّ الله سبحانه سيعطيهم في مقابل هذه الأعمال ـ باعتبارها أفضل الأعمال ـ من بحر لطفه اللامتناهي أنسب المكافئات وأليقها ...إنّهم إذا عاشوا هذا الإحساس فسوف لا يمتنعون مطلقا من تحمل هذه المصاعب مهما عظمت وثقلت ، وسوف لا يدعون للضعف طريقا إلى أنفسهم مهما كان الجهاد مريرا ومليئا بالحوادث والعقبات.

* * *

٢٦٣

الآية

( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) )

سبب النّزول

روي الطبرسيرحمه‌الله في مجمع البيان عن ابن عباس ، أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سار إلى ميدان القتال ، كان جميع المسلمين يسيرون بين يديه باستثناء المنافقين والمعذورين ، إلّا أنّه بعد نزول الآيات التي ذمت المنافقين ، وخاصّة المتخلفين عن غزوة تبوك ، فإنّ المؤمنين صمموا أكثر من قبل على المسارعة إلى ميادين الحرب ، بل وحتى في الحروب التي لم يشارك فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فإنّ جميع السرايا كانت تتوجه الى الجهاد ، ويدعون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، فنزلت الآية وأعلنت أنّه لا ينبغي في غير الضرورة أن يذهب جميع المسلمين إلى الجهاد ، بل يجب أن يبقى جماعة منهم ليتعلموا العلوم الإسلامية وأحكام الدين من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعلموا أصحابهم المجاهدين عند رجوعهم من القتال.

وقد نقل هذا المفسّر الكبير سببا آخر للنّزول بهذا المضمون أيضا ، وهو أنّ

٢٦٤

جماعة من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتشروا بين القبائل يدعونهم إلى الإسلام ، فرحبّوا بهم وأحسنوا إليهم ، إلّا أنّ بعضهم قد لا مهم على تركهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتوجه إليهم ، وقد تأثر هؤلاء لذلك ورجعوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية تؤيد عمل هؤلاء في الدعوة إلى الإسلام، وأزالت قلقهم.

وروي سبب ثالث للنزول في تفسير «التبيان» ، وهو أنّ الأعراب لما أسلموا توجّهوا جميعا نحو المدينة لتعلم الأحكام الإسلامية ، فسبّب ذلك ارتفاع قيمة البضائع والمواد الغذائية، وإيجاد مشاكل ومشاغل أخرى لمسلمي المدينة ، فنزلت الآية وعرّفتهم بأنّه لا يجب توجههم جميعا إلى المدينة وترك ديارهم وأخلاؤها ، بل يكفي أن يقوم بهذا العمل طائفة منهم.

التّفسير

محاربة الجهل وجهاد العدو :

إنّ لهذه الآية ارتباطا بالآيات السابقة حول موضوع الجهاد ، وتشير إلى حقيقة حياتية بالنسبة للمسلمين ، وهي : أنّ الجهاد وإن كان عظيم الأهمية ، والتخلف عنه ذنب وعار ، إلّا أنّه في غير الحالات الضرورية لا لزوم لتوجه المؤمنون كافة إلى ساحات الجهاد ، خاصّة في الموارد التي يبقى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، بل يبقى منهم جماعة لتعلم أحكام الدين ويتوجه الباقون إلى الجهاد :( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) .

فإذا رجع أصحابهم من الجهاد يقومون بتعليمهم هذه الأحكام والمعارف الإسلامية ، ويحذرونهم من مخالفتها :( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) والهدف من ذلك أن يحذر هؤلاء عن مخالفة أوامر الله سبحانه بإنذارهم( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .

* * *

٢٦٥

ملاحظات

وهنا ملاحظات ينبغي التوقف عندها :

1 ـ إنّ ما قيل في تفسير هذه الآية إضافة إلى أنّه يناسب سبب نزولها المعروف ، فإنّه الأوفق مع ظاهر جمل الآية من أي تفسير آخر ، إلّا أنّ الشيء الوحيد هنا هو أنّنا يجب أن نقدر جملة «لتبقى طائفة» بعد «من كل طائفة» أي : لتذهب طائفة من كل فرقة ، وتبقى طائفة أخرى ، وهذا الموضوع بالطبع مع ملاحظة القرائن الموجودة في الآية لا يستوجب إشكالا. (فتأمل بدقة).

إلّا أنّ بعض المفسّرين احتمل عدم وجود أيّ تقدير في الآية ، والمقصود أن جماعة من المسلمين يذهبون إلى الجهاد تحت عنوان الواجب الكفائي ، ويعرفون في ساحات الجهاد أحكام الإسلام وتعاليمه ، ويرون بأنفسهم انتصار المسلمين على الأعداء ، الذي هو بذاته نموذج من آثار عظمة وأحقية هذا الدين ، وإذا ما رجعوا يكونون أوّل من يشرح لإخوانهم ما جرى(1) .

والاحتمال الثّالث الذي احتمله بعض المفسّرين. وهو أنّ الآية تبيّن حكما مستقلا عن مباحث الجهاد ، وهو أنّه يجب على المسلمين واجبا كفائيا أن ينهض من كل قوم عدّة أفراد بمسؤولية تعلم الأحكام والعلوم الإسلامية ، ويذهبوا إلى معاهد العلم الإسلامية الكبيرة ، وبعد تعلمهم العلوم يرجعون إلى أوطانهم ويبدؤون بتعليم الآخرين(2) .

ولكن التّفسير الأوّل كما تقدم ـ أقرب إلى مفهوم الآية ، وإن كانت إرادة كل هذه المعاني ليس ببعيد(3) .

2 ـ لقد تصور البعض وجود نوع من المنافاة بين هذه الآية والآيات السابقة ، إذ

__________________

(1) اختار الطبري هذا الرأي ، نقل ذلك القرطبي في تفسيره ، وذكره جماعة من المفسّرين في ذيل الآية كاحتمال.

(2) هذا التّفسير يناسب سبب النزول الذي أورده المرحوم الشيخ الطوسي في التبيان.

(3) نلفت انتباهكم إلى أنّنا نعتبر استعمال كلمة واحدة في عدّة معان أمرا جائزا.

٢٦٦

الآيات السابقة أمرت الجميع بالتوجه إلى ساحات الجهاد ، ووبخت المتخلفين بشدة ، أمّا هذه الآية فتقول. أنّه لا ينبغي للجميع ان يتوجهوا إلى ميدان الحرب.

ولكن من الواضح أنّ هذين الأمرين قد صدرا في ظروف مختلفة ، فمثلا في غزوة تبوك لم يكن هناك بد من توجه كل المسلمين إلى الجهاد لمواجهة الجيش القوي الذي أعدته إمبراطورية الروم لمحاربة الإسلام والقضاء عليه. أمّا في حالة مقابلة جيوش ومجاميع أصغر وأقل فليست هناك ضرورة لتوجه الجميع إلى الحرب ، خاصّة في الحالات التي يبقى فيها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، فإنّه يجب عليهم أن لا يخلوا المدينة مع احتمالات الخطر المتوقعة ، وأن لا يغفلوا عن التفرغ لتعلم المعارف والأحكام الإسلامية.

وعلى هذا فلا يوجد أي نوع من التنافي بين هذه الآيات ، وما تصوره البعض من التنافي هو اشتباه محض.

3 ـ لا شك أنّ المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف والأحكام الإسلامية ، وهي أعم من الأصول والفروع ، لأنّ كل هذه الأمور قد جمعت في مفهوم التفقه ، وعلى هذا ، فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوبا كفائيا على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإسلامية ، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إلى مختلف البلدان ، وخصوصا بلدانهم وأقوامهم ، ويعلمونهم مختلف المسائل الإسلامية.

وبناء على ذلك ، فإنّ الآية دليل واضح على وجوب تعلم وتعليم المسائل الإسلامية ، وبتعبير آخر فإنّها أوجبت التعلم والتعليم معا ، وإذا كانت الدنيا في يومنا الحاضر تفتخر بسنّها التعليم الإجباري ، فإنّ القرآن قد فرض قبل أربعة عشر قرنا هذا الواجب على المعلمين علاوة على المتعلمين.

4 ـ استدل جماعة من علماء الإسلام بهذه الآية على مسألة جواز التقليد ، لأنّ التقليد إنّما هو تعلم العلوم الإسلامية وإيصالها للآخرين في مسائل فروع الدين ،

٢٦٧

ووجوب اتباع المتعلمين لمعلمين.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ البحث في هذه الآية لا ينحصر في فروع الدين ، بل تشمل حتى المسائل الأصولية ، وتتضمن الفروع أيضا على كل حال.

الإشكال الوحيد الذي يثار هنا ، هو أنّ الاجتهاد والتقليد لم يكن موجودا في ذلك اليوم ، والأشخاص الذين كانوا يتعلّمون المسائل ويوصلونها للآخرين حكمهم كحكم البريد والإرسال في يومنا هذا ، لا حكم المجتهدين ، أي إنهم كانوا يأخذون المسألة من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبلغونها للآخرين كما هي من دون إبداء أي رأي أو وجهة نظر.

ولكن مع الأخذ بنظر الاعتبار المفهوم الواسع للاجتهاد والتقليد يتّضح الجواب عن هذا الإشكال.

وتوضيح ذلك : إن ممّا لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم يكن له وجود ذلك اليوم ، وكان من السهل على المسلمين أن يتعلّموا المسائل من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن هذا لا يعني أنّ علماء الإسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط ، لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء ، ومن البديهي أن يواجهوا من المسائل ما لم يسمعوا حكمها بالذات من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّها كانت موجودة في عمومات وإطلاقات آيات القرآن المجيد. فكان هؤلاء قطعا يقومون بتطبيق الكليات على الجزئيات ـ وفي الاصطلاح العلمي : رد الفروع إلى الأصول ورد الأصول على الفروع ـ لمعرفة حكم هذه المسائل ، وكان هذا بحد ذاته نوعا من الاجتهاد البسيط.

إنّ هذا العمل وأمثاله كان موجودا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما ، فعلى هذا فإنّ الجذور الأصلية للاجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو أنّ الصحابة لم يكونوا جميعا بهذه الدرجة.

ولما كان لهذه الآية مفهوما عاما ، فإنّها تشمل قبول أقوال موضحي وناقلي

٢٦٨

الأحكام ، كما تشمل قبول قول المجتهدين ، وعلى هذا ، فيمكن الاستدلال بعموم الآية على جواز التقليد.

5 ـ المسألة المهمّة الأخرى التي يمكن استخلاصها من الآية ، هي الأهمية الخاصّة التي أولاها الإسلام لمسألة التعليم والتعلم ، إلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعا إلى ميدان الحرب ، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإسلامية.

إنّ هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء ، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر. بل إن المسلمين ما لم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع ، فإنّهم سوف لا ينتصرون على الأعداء ، (لأنّ الأمّة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائما).

أحد المفسّرين المعاصرين ذكر في ذيل هذه الآية بحثا جميلا ، وقال : كنت أطلب العلم في طرابلس وكان حاكمها الإداري من أهل العلم والفقه في مذهب الشافعية ـ فقال لي مرّة : لماذا تستثنى الدولة العلماء وطلاب العلوم الدينية من الخدمة العسكرية وهي واجبة شرعا وهم أولى الناس بالقيام بهذا الواجب؟ يعرّض بي ـ أليس هذا خطأ لا أصل له في الشرع؟ فقلت له على البداهة : بل لهذا أصل في نص القرآن الكريم ، وتلوت عليه الآية فاستكثر الجواب على مبتدئ مثلي لم يقرأ التّفسير وأثنى ورعا(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير المنار ، ج 11 ، ص 78.

٢٦٩

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) )

التّفسير

قتال الأقرب فالأقرب :

أشارت الآية في سياق احكام الجهاد التي ذكرت لحد الآن في هذه السورة ـ إلى أمرين آخرين في هذا الموضوع الإسلامي المهم ، فوجهت الخطاب أوّلا إلى المؤمنين وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ) .

صحيح أنّه تجب محاربة الكفار جميعا ، ولا فرق بينهم في ذلك ، إلّا أنّه من الوجهة التكتيكية وطريقة القتال يجب البدء بالعدو الأقرب ، لأنّ خطر العدوّ القريب أكبر ، كما أنّ الدعوة للإسلام وهداية الناس إلى دين الحق يجب أن تبدأ من الأقرب ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بدأ بأمر الله سبحانه بدعوة أقاربه وعشيرته ، ثمّ دعا أهل مكّة. ثمّ جزيرة العرب وقام بإرسال الرسل إليها ، وبعدها كتب الرسائل إلى ملوك العالم ، ولا شك أن هذا الأسلوب هو الأقرب للنجاح والوصول إلى الهدف.

ومن الطبيعي أن لكل قانون استثناء ، فقد يكون العدو الأبعد ـ في بعض الأحيان ـ أشد خطرا من العدو القريب ، وعندها تجب المبادرة إلى دفعه أوّلا ، لكن ، كما قلنا ، فإن هذا استثناء لا قانون ثابت ودائم.

٢٧٠

وأمّا ما قلناه من أنّ المبادرة إلى مجابهة العدو الأقرب هي الأهم والأوجب.

فإنّ أسبابه واضحة ، وذلك :

أوّلا : إنّ خطر العدو القريب أكبر وأشد من العدو البعيد.

ثانيا : إنّ اطلاعنا وعلمنا بالعدو القريب أكثر ، وهذا من العوامل المساعدة والمقربة للنصر.

ثالثا : إنّ التوجه لمحاربة العدو البعيد لا يخلو من خطورة اضافية ، فالعدو القريب قد يستغل الفرصة ويحمل على الجيش من الخلف ، أو يستغل خلو المقر الأصلي للإسلام فيهجم عليه.

رابعا : إنّ الوسائل اللازمة ونفقات محاربة العدوّ القريب أقل وأبسط ، والتسلط على ساحة الحرب في ظل ذلك أسهل.

لهذه الأسباب وأسباب أخرى ، فإنّ دفع العدو الأقرب هو الأوجب والأهم. والجدير بالذكر أنّ هذه الآية لما نزلت كان الإسلام قد استولى على كل جزيرة العرب تقريبا ، وعلى هذا فإن أقرب عدو في ذلك اليوم ربّما كان أمبراطورية الروم الشرقية التي توجه المسلمون إلى تبوك لمحاربتها.

وكذلك يجب أن لا ننسى أنّ هذه الآية بالرغم من أنّها تتحدث عن العمل المسلح والبعد المكاني ، إلّا أنّه ليس من المستبعد أن روح الآية حاكمة في الأعمال المنطقية والفواصل المعنوية ، أي إنّ المسلمين عند ما يعزمون على المجابهة المنطقية والإعلامية والتبليغية يجب أن يبدؤوا بمن يكون أقرب إلى المجتمع الإسلامي وأشدّ خطرا عليه ، فمثلا في عصرنا الحاضر نرى أن خطر الإلحاد والمادية يهدد كل المجتمعات ، فيجب تقديم التصدّي لها على مواجهة المذاهب الباطلة الأخرى ، وهذا لا يعني نسيان هؤلاء ، بل يجب إعطاء الأهمية القصوى للهجوم نحو الفئة الأخطر ، وهكذا في مواجهة الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي التي تحوز الدرجة الأولى من الأهمية.

٢٧١

والأمر الثّاني فيما يتعلق بالجهاد في الآية ، هو أسلوب الحزم والشدّة ، فهي تقول : إن العدو يجب أن يلمس في المسلمين نوعا من الخشونة والشدّة :( وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) وهي تشير إلى أنّ الشجاعة والشهامة الداخلية والاستعداد النفسي لمقابلة العدو ومحاربته ليست كافية بمفردها ، بل يجب اظهار هذا الحزم والصلابة للعدو ليعلم أنّكم على درجة عالية من المعنويات ، وهذا بنفسه سيؤدي إلى هزيمتهم وانهيار معنوياتهم.

وبعبارة أخرى فإنّ امتلاك القدرة ليس كافيا ، بل يجب استعراض هذه القوّة أمام العدو. ولهذا نقرأ في تأريخ الإسلام أنّ المسلمين عند ما أتوا إلى مكّة لزيارة بيت الله ، أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسرعوا في طوافهم ، بل أن يعدوا ويركضوا ليرى العدو ـ الذي كان يراقبهم عن كتب ـ قوتهم وسرعتهم ولياقتهم البدنية.

وكذلك نقرأ في قصّة فتح مكّة أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر المسلمين في الليل أن يشعلوا نيرانا في الصحراء ليعرف أهل مكّة عظمة جيش الإسلام ، وقد أثر هذا العمل في معنوياتهم. وكذلك أمر أن يجعل أبو سفيان كبير مكّة في زاوية ويستعرض جيش الإسلام العظيم قواته أمامه.

وفي النهاية تبشر الآية المسلمين بالنصر من خلال هذه العبارة :( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ويمكن أن يشير هذا التعبير ـ إضافة لما قيل ـ إلى أن استعمال الشدّة والخشونة يجب أن يقترن بالتقوى ، ولا يتعدى الحدود الإنسانية في أي حال.

* * *

٢٧٢

الآيتان

( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) )

التّفسير

تأثير آيات القرآن المتباين على القلوب :

تشير هاتان الآيتان إلى واحدة من علامات المؤمنين والمنافقين البارزة ، تكملة لما مرّ من البحوث حولهما.

فتقول أوّلا :( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ) (1) وهم يريدون بكلامهم هذا أن يبينوا عدم تأثير سور القرآن فيهم ، وعدم اعتنائهم بها ، ويقولون : إنّ هذه الآيات لا تحتوي على الشيء المهم والمحتوى الغني ، بل هي كلمات عادية ومعروفة.

__________________

(1) إنّ (ما) في جملة( إِذا ما أُنْزِلَتْ ) زائدة في الحقيقة ، وهي للتأكيد. وقال البعض أنّها صلة وهي تسلط أداة الشرط ـ إي (إذا) على جزائها ، وتؤكّد الجملة.

٢٧٣

ولكن القرآن يجيبهم بلهجة قاطعة ، ويقول ضمن تقسيم الناس الى طائفتين :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) .

وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) .

وفي النهاية ، فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر :( وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ ) .

* * *

ملاحظات

وهنا ملاحظات ينبغي التنبه لها :

1 ـ إنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة ، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة ، بل يجب أن يؤخذ بنظر الإعتبار وجود الأرضية المهيئة والاستعداد للتلقي كشرط أساسي.

إنّ آيات القرآن كقطرات المطر تصيب الحديقة الغناء والأرض السبخة ، فالذين ينظرون إلى الحقائق بروح التسليم والإيمان والعشق ، يتعلمون من كل سورة ـ بل من كل آية ـ درسا يزيد في إيمانهم ، ويفعّل سمات الإنسانية لديهم.

أمّا الذين ينظرون إلى هذه الآيات من خلف حجب العناد والكبر والنفاق ، فإنّهم لا يستفيدون منها ، بل وتزيد في كفرهم ورجسهم. وبتعبير أخر فإنّهم يعصون كل أمر فيها ليرتكبوا بذلك معصية جديدة تضاف إلى معاصيهم ، ويواجهون كل قانون بالتمرد عليه ، ويصرون على رفض كل حقيقة ، وهذا هو سبب تراكم المعاصي والآثام في وجودهم ، وبالتالي تتجذّر هذه الصفات الرذيلة في كيانهم ، وفي النهاية إغلاق كل طرق الرجوع بوجوههم وموتهم على الكفر.

٢٧٤

وبتعبير آخر فإنّ (فاعلية الفاعل) في كل برنامج تربوي لا تكفي لوحدها ، بل إنّ روح التقبل و (قابلية القابل) شرط اساسي أيضا.

2 ـ «الرجس» في اللغة بمعنى الخبيث النجس السيء ، وعلى قول الراغب في كتاب المفردات ، فإنّ هذا الخبث والتلوث أربعة أنواع : فتارة ينظر إليه من جهة الغريزة والطبع ، وأخرى من جهة الفكر والعقل ، وثالثة من جهة الشرع ، ورابعة من كل الجهات.

ولا شك أنّ السوء والخبث الناشئ من النفاق واللجاجة والتعنت أمام الحق سيولد نوعا من الشر والخبث الباطني والمعنوي بحيث يبدو أثره بوضوح في النهاية على الإنسان وكلامه وسلوكه.

3 ـ إنّ جملة( وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) مع ملاحظة أنّ أصل كلمة (بشارة) تعني السرور والفرح الذي تظهر آثاره على وجه الإنسان ، تبيّن مدى تأثير الآيات القرآنية التربوي في المؤمنين ، ووضوح هذا التأثير بحيث تبدو علاماته فورا على وجوههم.

4 ـ لقد اعتبرت هذه الآيات «المرض القلبي» نتيجة حتمية وملازمة للنفاق والصفات القبيحة. وكما قلنا سابقا فإنّ القلب في مثل هذه الموارد يعني الروح والعقل ، ومرض القلب في هذه المواضع بمعنى الرذائل الأخلاقية والانحرافات النفسية ، وهذا التعبير يوضح أنّ الإنسان إذا كان يتمتع بروح سالمة وطاهرة فلا أثر في وجوده لهذه الصفات الذميمة ، ومثل هذه الأخلاق السيئة كالمرض الجسمي خلاف طبيعة الإنسان ، وعلى هذا فإنّ التلوّث بهذه الصفات دليل على الانحراف عن المسير الأصلي والطبيعي ، ودليل على المرض الروحي والنفسي(1) .

5 ـ إنّ هذه الآيات تعطي درسا كبيرا لكل المسلمين ، لأنّها تبيّن هذه الحقيقة ، وهي أنّ المسلمين الأوائل كانوا يشعرون بروح جديدة مع نزول كل سورة من

__________________

(1) كان لنا بحث آخر عن مرض القلب ومفهومه في القرآن راجع الآية (16) من سورة البقرة.

٢٧٥

القرآن ، ويتربون تربية جديدة تصل إلى درجة بحيث تبدو آثارها بسرعة على محياهم ، بينما نرى اليوم أشخاصا ، ظاهرهم أنّهم مسلمون ، لا تؤثر فيهم السورة إذا قرءوها ، بل إن ختم القرآن كله لا يترك أدنى أثر عليهم!

هل أنّ سور القرآن فقدت تأثيرها؟ أم أن تسمم الأفكار ، ومرض القلوب ، ووجود الحجب المتراكمة من أعمالنا السيئة هي التي أدت إلى خلق حالة عدم الاهتمام ، وجعلت على القلوب أكنة لا يمكن اختراقها؟

يجب علينا أن نلتجئ إلى الله من حالنا هذا ، ونسأله أن يمن علينا بقلوب كقلوب المسلمين الأوائل.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) )

التّفسير

يستمر الكلام في هذه الآيات حول المنافقين ، وهي توبّخهم وتذمهم فتقول :( أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ) والعجيب أنّهم رغم هذه الامتحانات المتلاحقة لا يعتبرون( ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه ما هو المراد من هذا الاختبار السنوي الذي يجري مرّة أو مرّتين؟

فالبعض يقول : إنّه الأمراض ، والبعض الآخر يقول : إنّه الجوع والشدائد الأخرى ، وثالث يقول : إنّه مشاهدة آثار عظمة الإسلام وأحقية النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ساحات الجهاد التي كان يحضرها هؤلاء المنافقون بحكم الضغط الاجتماعي وظروف البيئة التي يعيشونها ، ورابع يعتقد أنّه رفع الستار عن أسرارهم ،

٢٧٧

وفضيحتهم.

غير أنا إذا قرأنا آخر الآية حيث تذكر أنّ هؤلاء لم يتذكروا رغم كل ذلك ، سيتّضح أنّ هذا الاختبار من الاختبارات التي ينبغي أن تكون سببا في توعية هذه المجموعة.

ويظهر أيضا من تعبير الآية أنّ هذا الاختبار يختلف عن الاختبار العام الذي يواجهه كل الناس في حياتهم. وإذا أخذنا هذا الموضوع بنظر الإعتبار فسيظهر أن التّفسير الرّابع ـ أي إزاحة الستار عن أعمال هؤلاء السيئة وظهور باطنهم وحقيقتهم ـ أقرب إلى مفهوم الآية.

ويحتمل أيضا أن يكون للامتحان والابتلاء في هذه الآية مفهوم جامع بحيث يشمل كل هذه المواضيع.

ثمّ تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية ، فتقول :( وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ) .

إنّ خوف هؤلاء وقلقهم ناشي ، من أنّ تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم ، أو لأنّهم لا يفهمون منها شيئا لعمى قلوبهم ، والإنسان عدو ما يجهل.

وعلى كل حال ، فإنّهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام الإلهية، إلّا أنّهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم ، ولذلك كان أحدهم يهمس في أذن صاحبه ويسأله :( هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ) ؟ وإذا ما اطمأنوا إلى أن الناس منشغلون بسماع كلام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ملتفتين إليهم خرجوا :( ثُمَّ انْصَرَفُوا ) .

إنّ جملة( هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ) ، كانوا يقولونها إمّا بألسنتهم ، أو بإشارة العيون ، في حين أن الجملة الثّانية( نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ) تبيّن أمرا واحدا هو نفس ما عينته الجملة الأولى ، وفي الحقيقة فإنّ هل يراكم أحد تفسير لنظر بعضهم إلى البعض الآخر.

٢٧٨

وتطرقت الآية في الختام إلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت : إنّ هؤلاء إنّما لا يريدون سماع كلمات الله سبحانه ولا يرتاحون لذلك لأنّ قلوبهم قد حاقت بها الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها الله سبحانه عن الحق ، وأصبحوا أعداء للحق لأنّهم أناس جاهلون لا فكر لهم :( صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) .

وقد ذكر المفسّرون لقوله تعالى :( صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) احتمالين :

الأوّل : إنّها جملة خبرية. كما فسرناها قبل قليل.

الثّاني : إنّها جملة إنشائية ، ويكون معناها اللعنة ، أي إنّ الله سبحانه يصرف قلوب هؤلاء عن الحق. إلّا أن الاحتمال الأوّل هو الأقرب كما يبدو.

* * *

٢٧٩

الآيتان

( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) )

التّفسير

آخر آيات القرآن المجيد :

إنّ هذه الآيات برأي بعض المفسّرين ، هي آخر الآيات التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبها تنتهي سورة براءة ، فهي في الواقع إشارة إلى كل المسائل التي مرّت في هذه السورة ، لأنّها تبيّن من جهة لجميع الناس ، سواء المؤمنون منهم أم الكافرون والمنافقون ، أنّ جميع الضغوط والتكاليف التي فرضها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن الكريم ، والتي ذكرت نماذج منها في هذه السورة ، كانت كلها بسبب عشق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية الناس وتربيتهم وتكاملهم.

ومن جهة أخرى فإنّها تخبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يقلق ولا يتحرق لعصيان وتمرد الناس ، والذي ذكرت منه ـ أيضا ـ نماذج كثيرة في هذه السورة ، وليعلم أنّ الله سبحانه حافظه ومعينه على كل حال.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592