الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166378
تحميل: 5277


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166378 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) )

التّفسير

الأخبار الغيبيّة هي من عند الله وحده

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصّة موسى وما تحمله من معان كبيرة!.

وهي تتحدث عن نزول الأحكام ، والتوراة ، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء!.

٢٤١

يبدأ هذا المقطع بالآية التالية( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

والكلام في أنّ المقصود من «القرون الأولى» أي الأقوام السابقين من هم؟!

قال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى الكفّار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحى اثار الأنبياء السابقين ، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماويّ جديد في أيدي البشر!.

وقال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين ، لأنّ الله سبحانه آتى موسى كتاب «التّوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الأولى في الآية شاملا لجميع الأقوام.

و «البصائر» جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية ، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين و «الهدى» و «الرحمة» أيضا من لوازم البصيرة وعلى أثرها تتيقظ القلوب(١) .

ثمّ يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما ذكرناه لك «يا رسول الله ، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه ، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن ، لأنّك لم تكن «حاضرا» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك بل هو من الطاف الله عليك ، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس يقول القرآن :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ) أي الأمر بالنبوّة( وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسىعليه‌السلام حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء ، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب.

__________________

(١) «البصائر» جمع «بصيرة» وأمّا «البصر» فجمعه «أبصار».

٢٤٢

وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء ، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية(٦٠) ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل ، هو إشارة إلى هذا المعنى!

ثمّ يضيف القرآن( وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس ، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نورا وهدى للناس.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ) [أي على أهل مكة]( آياتِنا ) (١) ( وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) وأوحينا إليك هذه الأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين(٢) .

وتأكيدا على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ ) (٣) ( إِذْ نادَيْنا ) اي نادينا موسى بأمر النبوّة ، ولكننا أنزلنا إليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك( وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وخلاصة الكلام : أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين ، ولم تكن فيهم من الشاهدين ، لتتلو كل ذلك على

__________________

(١) «ثاوي» مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالاستقرار ، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى.

(٢) كان بين ظهور موسىعليه‌السلام وظهور النّبي (محمّد)صلى‌الله‌عليه‌وآله حدود ألفي عام.

(٣) قال بعض المفسّرين : يحتمل أن يكون المراد من «نادينا» هنا هو النداء الثّاني عند ما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور ، فجاءه النداء من الله ، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا ؛ لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضرا هناك ولم يكن من الشاهدين ، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر ، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور «فلاحظوا بدقة».

٢٤٣

قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون.

هنا ينقدح هذا السؤال : كيف يقول القرآن :( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) [أي العرب المعاصرين للنبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ] في حين أنّنا نعرف أن الأرض لا تخلو من حجّة لله ، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسىعليه‌السلام ).

وفي الجواب على ذلك نقول : المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتابا سماويّا بيّنا لأنّ بين عصر عيسىعليه‌السلام وظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله قرونا مديدة ، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ من أولي العزم ، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في هذا الصدد «إن الله بعث محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة ، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣٣.

٢٤٤

الآيات

( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) )

التّفسير

ذريعة للفرار من الحق :

حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لينذر قومه ، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في

٢٤٥

قومه فيقول : إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا إذا أردنا إنزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا : لما ذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا أحكامك لنؤمن به( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق ، وهو أن طريق الحقّ واضح وبيّن وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل ، وحتى مع عدم إرسال الرسل ، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأمور ممكنة.

ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة ، إتماما للحجّة ونفيا للعذر ، لئلا يقول أحد : إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل ، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.

وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها ، ونقرأ في سورة النساء الآية (٦٥) أيضا( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك ، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية ، واستمروا على طريق الانحراف ، فتقول الآية :( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى ) .

__________________

(١) يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب «لولا» الأولى محذوف وتقديره «لما أرسلنا رسولا» أو «لما وجب إرسال الرسل» وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحا وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا وإلّا فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أخرى ، على أنّ واحدا من فوائد إرسال الرسل ـ أيضا ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد «فلاحظوا بدقّة».

٢٤٦

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولم لم إلخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج ، ويقول :( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا ) أي موسى وهارون ، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق( وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

والتعبير بـ «سحران» بدلا عن «ساحران» هو لشدة التأكيد ، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول : هو العدل بعينه ، أو بعينه ، أو السحر وهكذا.

كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضا ـ وهو : إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسىعليه‌السلام وهما عصاه ويده البيضاء!

وإذا قيل : ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة ، فهذه الأمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمرا جديدا فجميعهم من نسيج واحد ، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماما ، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفا ، إلّا أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيرا آخر وقالوا : إنّ المقصود بقوله تعالى :( سِحْرانِ تَظاهَرا ) هو «النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله » لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون : إن كليهما ساحران وإنّا بكلّ كافرون.

وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية ، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم ، وسألوهم عن نبي الإسلام «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله أهو نبيّ حقّا؟! فأجابوا : إنّهم وجدوا مكتوبا عندهم في التوراة «بأوصافه»!. فرجع

٢٤٧

المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود ، فقالوا :( سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيدا جدّا :

الأولى : أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحرا.

الثّانية : كيف يمكن لأحد أن يدعي أن موسى ومحمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.

ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!

وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لم لم يأت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعاجز كمعاجز موسى ، ومن جهة أخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!!( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

وبتعبير آخر : إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!

فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!

ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافيا في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونوا طلّاب حق ، بل أصحاب حجج واهية فحسب!

ثمّ يضيف القرآن( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) لأنّ أي إنسان إذا لم يتبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح ، لكن أولئك لم يكونوا على صراط مستقيم ، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.

٢٤٨

ولكن من أضيع منهم( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

ولو كانوا طلّاب حقّ وقد أضلوا سبيلهم ، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه ، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!

* * *

ملاحظة

اتباع الهوى مدعاة للظلال :

في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة ، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس ، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.

هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.

هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقا به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات ، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم ، شرط لدرك الحقائق التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي ، مرا كان أم عذبا ، موافقا لرغبات النفس أم مخالفا ، منسجما مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.

وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (٤٣) من سورة الفرقان.

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدة تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه

٢٤٩

وقائده الإلهي واتبع هواه(١) .

وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقرعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام وبعض الائمّة الطاهرينعليهم‌السلام هي من قبيل المصداق البارز وبتعبير آخر : إنّ الإنسان محتاج لهداية الله هذه الهداية تارة تنعكس في كتاب الله ، واخرى في وجود النّبي وسنته ، وأخرى في وأوصيائه المعصومين ، وأخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإلهية غير متبع لهواه ، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.

* * *

__________________

(١) هذه الرّوايات في أصول الكافي وبصائر الدرجات طبقا لما في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٣٢.

٢٥٠

الآيات

( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) )

سبب النّزول

نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيره ومختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة ، والجامع المشترك فيها واحد ، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة ـ بالقرآن ونبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعن «سعيد بن جبير» أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّا مسيحيا بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والاطلاع على دين النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا

٢٥١

قرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة «يس» دمعت عيونهم شوقا وأسلموا(١) .

وقال بعضهم : هذه الآيات نزلت في نصارى نجران «مدينة في شمال اليمن» جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(٢) .

وقال آخرون : بل نزلت في النجاشي وقومه.(٣)

كما يرى بعضهم أنّها نازلة في «سلمان الفارسي» وجماعة من علماء اليهود ، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(٤) .

وأخيرا فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالما مسيحيا من ذوي الضمائر حيّة والنيرة ، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، وثمانية آخرون من الشام ، من بينهم «بحيرا» الراهب الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا.(٥)

وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة ، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية. ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلّان على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناء ، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.

وعلى كل حال فإن هذه الآيات «شواهد بليغة» تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن لأنّه لا يمكن لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول مثل هذا. ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فورا ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٣٥٧ ، و ٣٥٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٥) المصدر السابق.

٢٥٢

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم ، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها. ، يقول القرآن في هذا الصدد : لقد أنزلنا لهم آيات القرآن تباعا( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (١) .

هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة ، وكيفيات متفاوتة ، فتارة تحمل الوعد بالثواب ، وتارة الوعيد بالنّار ، وأخرى الموعظة والنصيحة ، وأخرى تنذر وتهدد. وأحيانا تحمل استدلالات عقلية ، وأحيانا تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر ، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان ، حيث أنّها تجذب القلوب إليها إلّا أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.

إلّا أنّ (اليهود والنصارى)( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) . لأنّهم يرونه منسجما مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.

ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من «أهل الكتاب» ، إلّا أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم «أهل الكتاب» دون قيد أو تبعيض أو أي شيء آخر ، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّا ، أمّا سواهم فلا.

__________________

(١) «وصّلنا» مأخوذ من مادة «وصل» أي ربط ، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل ، فهي تدل على الكثرة ، ويستفاد منها التأكيد أيضا

٢٥٣

ثمّ يضيف القرآن في وصفهم قائلا :( وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ) .

أجل : كانت تلاوة الآيات عليهم كافية لأن يقولوا «آمنا» ثمّ يضيف القرآن متحدثا عنهم : إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب ، بل( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) إنّنا وجدنا علائم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبنا السماوية وتعلقت قلوبنا به ، وانتظرناه بفارغ الصبر ـ وفي أوّل فرصة وجدنا بها ضالتنا أمسكنا بها ـ وقبلناه «بقلوبنا وأرواحنا».

ثمّ يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنّبي من غير تقليد أعمى ، وإنّما طلبا للحق ، فيقول :( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) .

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماويّ الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه ومرّة أخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله النّبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ويحتمل ـ أيضا ـ كما هو مستفاد من الآيات المتقدمة ، إنّما يؤتون أجرهم مرتين ؛ لأنّهم آمنوا بنبي الإسلام قبل ظهوره ، وحين ظهر لم يكفروا به بل آمنوا به كذلك.

وهؤلاء بذلوا جهدا وصبروا زمانا طويلا ليؤدوا ما عليهم من وظيفة ومسئولية ولم يرض بأعمالهم المنحرفون من اليهود ولا النصارى ، ولم يسمح لهم تقليد السابقين والجوّ الاجتماعي أن يتركوا دينهم ويسلموا ، إلّا أنّهم وقفوا وصبروا وتجاوزوا هوى النفس والمنافع الذاتية ، فنالوا ثواب الله وأجره مرّتين.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق ممّا رزقهم الله» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والاستقامة ، وهي خصال أربع ممتازة.

٢٥٤

حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم :( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) .

يدرءون بالكلام الطيب الكلام الخبيث ، وبالمعروف المنكر ، وبالحلم الجهل والجاهلين ، وبالمحبّة العداوة والبغضاء ، وبصلة الرحم من يقطعها ، والخلاصة أنّهم بدلا من أن يدفعوا السيئة بالسيئة فإنّهم( يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ! ) .

وهذا أسلوب مؤثر جدّا في مواجهة المفاسد ومبارزتها ، ولا سيما في مواجهة اللجوجين والمعاندين.

وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الأسلوب مرارا وكرارا ، وقد سبق أن بحثنا في هذا المجال بشرح مبسّط في ذيل الآية (٢٢) من سورة الرعد وذيل الآية (٦٩) من «سورة المؤمنون».

والخصلة الأخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

وليس الإنفاق من الأموال فحسب ، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الاجتماعية ، وجميع هذه الأمور من مواهب الله ورزقه ـ فهم ينفقون منها في سبيل الله!.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله :( وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) .

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو ، بل( قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) .

فلا تحاسبون بجريرة أعمالنا ، ولا نحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم ، ولكن ما أسرع ما سيجد كل منّا نتيجة عمله.

ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله ، حيث يقولون :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ) .

فلسنا أهلا للكلام البذيء ، ولا أهلا للجهل والفساد ، ولا نبتغي ذلك ، إنّما

٢٥٥

نبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.

وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عمي القلوب وأهل الكلام البذي ، يمرون عليهم كراما ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.

الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين ، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال ، بل سلام وداع.

* * *

ملاحظة!

القلوب المهيّأة للإيمان :

رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسما جميلا وبليغا.

فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل ، والكلام البذيء السيء الفارغ ، والبخل والحقد ، وما إلى ذلك!!.

إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى ، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد ، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.

ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمنا غاليا ، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله ، وتحرروا عن محيطهم المنحرف ، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب

فهؤلاء ليسوا حاقدين ، ولا يردون السوء بالسوء ، ولا هم بخلاء ولا خسيسون ، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.

إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والانشغال غير الصحيح ، والكلام

٢٥٦

الفارغ الركيك ، والمزاح وغيره.

لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب ، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.

ويفكرون في أعمالهم ومسئولياتهم ، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع. الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.

أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم ، ليؤتوا أجرهم لا مرّة واحدة ، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.

هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة ، والذين بذلوا جهدا وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد يقول : «نحن صبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون»

تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد ، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر ، والآخر لا يعلم ، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.

أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة ، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية ، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار أمّا الثّاني فلا يعرف شيئا عن ذلك ، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.

وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال : «اللغو» الكذب ، «اللهو» الغناء ، والمعرضون عن اللغو و «المتقون» هم الأئمّةعليهم‌السلام يعرضون عن

٢٥٧

ذلك كلّه(١) .

وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز ، وإلّا فإنّ مفهوم «اللغو» أوسع ويشمل غير ما ذكرنا ، و «المعرضون عن اللغو» أيضا هم جميع المؤمنين الصادقين ، وإن كان الأئمّةعليهم‌السلام في طليعتهم!

* * *

__________________

(١) تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ١٤٢.

٢٥٨

الآيتان

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) )

التّفسير

الهداية بيد الله وحده!

بالرغم من أن بحوثا كثيرة وروايات وردت في الآية الأولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها ، إلّا أنّها ـ كما سنرى ـ روايات غير معتبرة ولا قيمة لها ، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة ، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.

ومع الالتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين : طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين ، كان رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شديد الإصرار على هدايتهم ، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان. وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة ، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام ، وآثروا

٢٥٩

على أنفسهم مصلحة الإسلام ، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين ، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.

فمع الالتفات إلى كل هذه الأمور ، نلاحظ أن الآية الأولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول :( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.

أجل ، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.

أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ما عندهم من قوة بوجه رسل الله ، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبدا.

إذن ، وبناء على ما تقدم ، ليس المقصود من الهداية «إراءة الطريق» ، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتشمل جميع الناس دون استثناء ، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف» ، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده ، الذي يغرس الإيمان في القلوب ، وليس هذا العمل اعتباطا ودون حساب ، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعدة ليهبها نور السماء!

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة ، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة ، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى ، فإن الله يقذف نوره في

٢٦٠