الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180887 / تحميل: 6359
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) )

التّفسير

الأخبار الغيبيّة هي من عند الله وحده

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصّة موسى وما تحمله من معان كبيرة!.

وهي تتحدث عن نزول الأحكام ، والتوراة ، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء!.

٢٤١

يبدأ هذا المقطع بالآية التالية( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

والكلام في أنّ المقصود من «القرون الأولى» أي الأقوام السابقين من هم؟!

قال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى الكفّار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحى اثار الأنبياء السابقين ، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماويّ جديد في أيدي البشر!.

وقال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين ، لأنّ الله سبحانه آتى موسى كتاب «التّوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الأولى في الآية شاملا لجميع الأقوام.

و «البصائر» جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية ، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين و «الهدى» و «الرحمة» أيضا من لوازم البصيرة وعلى أثرها تتيقظ القلوب(١) .

ثمّ يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما ذكرناه لك «يا رسول الله ، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه ، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن ، لأنّك لم تكن «حاضرا» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك بل هو من الطاف الله عليك ، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس يقول القرآن :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ) أي الأمر بالنبوّة( وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسىعليه‌السلام حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء ، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب.

__________________

(١) «البصائر» جمع «بصيرة» وأمّا «البصر» فجمعه «أبصار».

٢٤٢

وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء ، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية(٦٠) ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل ، هو إشارة إلى هذا المعنى!

ثمّ يضيف القرآن( وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس ، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نورا وهدى للناس.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ) [أي على أهل مكة]( آياتِنا ) (١) ( وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) وأوحينا إليك هذه الأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين(٢) .

وتأكيدا على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ ) (٣) ( إِذْ نادَيْنا ) اي نادينا موسى بأمر النبوّة ، ولكننا أنزلنا إليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك( وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وخلاصة الكلام : أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين ، ولم تكن فيهم من الشاهدين ، لتتلو كل ذلك على

__________________

(١) «ثاوي» مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالاستقرار ، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى.

(٢) كان بين ظهور موسىعليه‌السلام وظهور النّبي (محمّد)صلى‌الله‌عليه‌وآله حدود ألفي عام.

(٣) قال بعض المفسّرين : يحتمل أن يكون المراد من «نادينا» هنا هو النداء الثّاني عند ما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور ، فجاءه النداء من الله ، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا ؛ لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضرا هناك ولم يكن من الشاهدين ، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر ، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور «فلاحظوا بدقة».

٢٤٣

قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون.

هنا ينقدح هذا السؤال : كيف يقول القرآن :( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) [أي العرب المعاصرين للنبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ] في حين أنّنا نعرف أن الأرض لا تخلو من حجّة لله ، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسىعليه‌السلام ).

وفي الجواب على ذلك نقول : المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتابا سماويّا بيّنا لأنّ بين عصر عيسىعليه‌السلام وظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله قرونا مديدة ، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ من أولي العزم ، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في هذا الصدد «إن الله بعث محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة ، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣٣.

٢٤٤

الآيات

( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) )

التّفسير

ذريعة للفرار من الحق :

حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لينذر قومه ، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في

٢٤٥

قومه فيقول : إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا إذا أردنا إنزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا : لما ذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا أحكامك لنؤمن به( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق ، وهو أن طريق الحقّ واضح وبيّن وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل ، وحتى مع عدم إرسال الرسل ، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأمور ممكنة.

ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة ، إتماما للحجّة ونفيا للعذر ، لئلا يقول أحد : إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل ، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.

وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها ، ونقرأ في سورة النساء الآية (٦٥) أيضا( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك ، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية ، واستمروا على طريق الانحراف ، فتقول الآية :( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى ) .

__________________

(١) يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب «لولا» الأولى محذوف وتقديره «لما أرسلنا رسولا» أو «لما وجب إرسال الرسل» وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحا وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا وإلّا فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أخرى ، على أنّ واحدا من فوائد إرسال الرسل ـ أيضا ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد «فلاحظوا بدقّة».

٢٤٦

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولم لم إلخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج ، ويقول :( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا ) أي موسى وهارون ، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق( وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

والتعبير بـ «سحران» بدلا عن «ساحران» هو لشدة التأكيد ، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول : هو العدل بعينه ، أو بعينه ، أو السحر وهكذا.

كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضا ـ وهو : إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسىعليه‌السلام وهما عصاه ويده البيضاء!

وإذا قيل : ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة ، فهذه الأمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمرا جديدا فجميعهم من نسيج واحد ، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماما ، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفا ، إلّا أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيرا آخر وقالوا : إنّ المقصود بقوله تعالى :( سِحْرانِ تَظاهَرا ) هو «النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله » لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون : إن كليهما ساحران وإنّا بكلّ كافرون.

وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية ، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم ، وسألوهم عن نبي الإسلام «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله أهو نبيّ حقّا؟! فأجابوا : إنّهم وجدوا مكتوبا عندهم في التوراة «بأوصافه»!. فرجع

٢٤٧

المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود ، فقالوا :( سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيدا جدّا :

الأولى : أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحرا.

الثّانية : كيف يمكن لأحد أن يدعي أن موسى ومحمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.

ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!

وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لم لم يأت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعاجز كمعاجز موسى ، ومن جهة أخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!!( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

وبتعبير آخر : إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!

فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!

ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافيا في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونوا طلّاب حق ، بل أصحاب حجج واهية فحسب!

ثمّ يضيف القرآن( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) لأنّ أي إنسان إذا لم يتبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح ، لكن أولئك لم يكونوا على صراط مستقيم ، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.

٢٤٨

ولكن من أضيع منهم( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

ولو كانوا طلّاب حقّ وقد أضلوا سبيلهم ، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه ، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!

* * *

ملاحظة

اتباع الهوى مدعاة للظلال :

في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة ، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس ، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.

هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.

هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقا به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات ، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم ، شرط لدرك الحقائق التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي ، مرا كان أم عذبا ، موافقا لرغبات النفس أم مخالفا ، منسجما مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.

وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (٤٣) من سورة الفرقان.

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدة تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه

٢٤٩

وقائده الإلهي واتبع هواه(١) .

وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقرعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام وبعض الائمّة الطاهرينعليهم‌السلام هي من قبيل المصداق البارز وبتعبير آخر : إنّ الإنسان محتاج لهداية الله هذه الهداية تارة تنعكس في كتاب الله ، واخرى في وجود النّبي وسنته ، وأخرى في وأوصيائه المعصومين ، وأخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإلهية غير متبع لهواه ، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.

* * *

__________________

(١) هذه الرّوايات في أصول الكافي وبصائر الدرجات طبقا لما في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٣٢.

٢٥٠

الآيات

( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) )

سبب النّزول

نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيره ومختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة ، والجامع المشترك فيها واحد ، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة ـ بالقرآن ونبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعن «سعيد بن جبير» أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّا مسيحيا بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والاطلاع على دين النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا

٢٥١

قرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة «يس» دمعت عيونهم شوقا وأسلموا(١) .

وقال بعضهم : هذه الآيات نزلت في نصارى نجران «مدينة في شمال اليمن» جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(٢) .

وقال آخرون : بل نزلت في النجاشي وقومه.(٣)

كما يرى بعضهم أنّها نازلة في «سلمان الفارسي» وجماعة من علماء اليهود ، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(٤) .

وأخيرا فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالما مسيحيا من ذوي الضمائر حيّة والنيرة ، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، وثمانية آخرون من الشام ، من بينهم «بحيرا» الراهب الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا.(٥)

وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة ، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية. ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلّان على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناء ، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.

وعلى كل حال فإن هذه الآيات «شواهد بليغة» تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن لأنّه لا يمكن لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول مثل هذا. ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فورا ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٣٥٧ ، و ٣٥٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٥) المصدر السابق.

٢٥٢

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم ، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها. ، يقول القرآن في هذا الصدد : لقد أنزلنا لهم آيات القرآن تباعا( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (١) .

هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة ، وكيفيات متفاوتة ، فتارة تحمل الوعد بالثواب ، وتارة الوعيد بالنّار ، وأخرى الموعظة والنصيحة ، وأخرى تنذر وتهدد. وأحيانا تحمل استدلالات عقلية ، وأحيانا تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر ، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان ، حيث أنّها تجذب القلوب إليها إلّا أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.

إلّا أنّ (اليهود والنصارى)( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) . لأنّهم يرونه منسجما مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.

ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من «أهل الكتاب» ، إلّا أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم «أهل الكتاب» دون قيد أو تبعيض أو أي شيء آخر ، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّا ، أمّا سواهم فلا.

__________________

(١) «وصّلنا» مأخوذ من مادة «وصل» أي ربط ، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل ، فهي تدل على الكثرة ، ويستفاد منها التأكيد أيضا

٢٥٣

ثمّ يضيف القرآن في وصفهم قائلا :( وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ) .

أجل : كانت تلاوة الآيات عليهم كافية لأن يقولوا «آمنا» ثمّ يضيف القرآن متحدثا عنهم : إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب ، بل( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) إنّنا وجدنا علائم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبنا السماوية وتعلقت قلوبنا به ، وانتظرناه بفارغ الصبر ـ وفي أوّل فرصة وجدنا بها ضالتنا أمسكنا بها ـ وقبلناه «بقلوبنا وأرواحنا».

ثمّ يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنّبي من غير تقليد أعمى ، وإنّما طلبا للحق ، فيقول :( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) .

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماويّ الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه ومرّة أخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله النّبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ويحتمل ـ أيضا ـ كما هو مستفاد من الآيات المتقدمة ، إنّما يؤتون أجرهم مرتين ؛ لأنّهم آمنوا بنبي الإسلام قبل ظهوره ، وحين ظهر لم يكفروا به بل آمنوا به كذلك.

وهؤلاء بذلوا جهدا وصبروا زمانا طويلا ليؤدوا ما عليهم من وظيفة ومسئولية ولم يرض بأعمالهم المنحرفون من اليهود ولا النصارى ، ولم يسمح لهم تقليد السابقين والجوّ الاجتماعي أن يتركوا دينهم ويسلموا ، إلّا أنّهم وقفوا وصبروا وتجاوزوا هوى النفس والمنافع الذاتية ، فنالوا ثواب الله وأجره مرّتين.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق ممّا رزقهم الله» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والاستقامة ، وهي خصال أربع ممتازة.

٢٥٤

حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم :( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) .

يدرءون بالكلام الطيب الكلام الخبيث ، وبالمعروف المنكر ، وبالحلم الجهل والجاهلين ، وبالمحبّة العداوة والبغضاء ، وبصلة الرحم من يقطعها ، والخلاصة أنّهم بدلا من أن يدفعوا السيئة بالسيئة فإنّهم( يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ! ) .

وهذا أسلوب مؤثر جدّا في مواجهة المفاسد ومبارزتها ، ولا سيما في مواجهة اللجوجين والمعاندين.

وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الأسلوب مرارا وكرارا ، وقد سبق أن بحثنا في هذا المجال بشرح مبسّط في ذيل الآية (٢٢) من سورة الرعد وذيل الآية (٦٩) من «سورة المؤمنون».

والخصلة الأخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

وليس الإنفاق من الأموال فحسب ، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الاجتماعية ، وجميع هذه الأمور من مواهب الله ورزقه ـ فهم ينفقون منها في سبيل الله!.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله :( وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) .

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو ، بل( قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) .

فلا تحاسبون بجريرة أعمالنا ، ولا نحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم ، ولكن ما أسرع ما سيجد كل منّا نتيجة عمله.

ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله ، حيث يقولون :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ) .

فلسنا أهلا للكلام البذيء ، ولا أهلا للجهل والفساد ، ولا نبتغي ذلك ، إنّما

٢٥٥

نبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.

وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عمي القلوب وأهل الكلام البذي ، يمرون عليهم كراما ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.

الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين ، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال ، بل سلام وداع.

* * *

ملاحظة!

القلوب المهيّأة للإيمان :

رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسما جميلا وبليغا.

فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل ، والكلام البذيء السيء الفارغ ، والبخل والحقد ، وما إلى ذلك!!.

إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى ، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد ، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.

ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمنا غاليا ، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله ، وتحرروا عن محيطهم المنحرف ، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب

فهؤلاء ليسوا حاقدين ، ولا يردون السوء بالسوء ، ولا هم بخلاء ولا خسيسون ، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.

إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والانشغال غير الصحيح ، والكلام

٢٥٦

الفارغ الركيك ، والمزاح وغيره.

لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب ، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.

ويفكرون في أعمالهم ومسئولياتهم ، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع. الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.

أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم ، ليؤتوا أجرهم لا مرّة واحدة ، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.

هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة ، والذين بذلوا جهدا وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد يقول : «نحن صبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون»

تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد ، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر ، والآخر لا يعلم ، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.

أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة ، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية ، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار أمّا الثّاني فلا يعرف شيئا عن ذلك ، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.

وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال : «اللغو» الكذب ، «اللهو» الغناء ، والمعرضون عن اللغو و «المتقون» هم الأئمّةعليهم‌السلام يعرضون عن

٢٥٧

ذلك كلّه(١) .

وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز ، وإلّا فإنّ مفهوم «اللغو» أوسع ويشمل غير ما ذكرنا ، و «المعرضون عن اللغو» أيضا هم جميع المؤمنين الصادقين ، وإن كان الأئمّةعليهم‌السلام في طليعتهم!

* * *

__________________

(١) تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ١٤٢.

٢٥٨

الآيتان

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) )

التّفسير

الهداية بيد الله وحده!

بالرغم من أن بحوثا كثيرة وروايات وردت في الآية الأولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها ، إلّا أنّها ـ كما سنرى ـ روايات غير معتبرة ولا قيمة لها ، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة ، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.

ومع الالتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين : طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين ، كان رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شديد الإصرار على هدايتهم ، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان. وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة ، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام ، وآثروا

٢٥٩

على أنفسهم مصلحة الإسلام ، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين ، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.

فمع الالتفات إلى كل هذه الأمور ، نلاحظ أن الآية الأولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول :( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.

أجل ، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.

أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ما عندهم من قوة بوجه رسل الله ، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبدا.

إذن ، وبناء على ما تقدم ، ليس المقصود من الهداية «إراءة الطريق» ، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتشمل جميع الناس دون استثناء ، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف» ، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده ، الذي يغرس الإيمان في القلوب ، وليس هذا العمل اعتباطا ودون حساب ، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعدة ليهبها نور السماء!

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة ، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة ، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى ، فإن الله يقذف نوره في

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

والسحاب الممطر لا يَعدو النوعين، والعرب تُسمّي السحاب الممطر باسم (المُزن)؛ ولذلك فمِن الوجهة العلمية هناك المُزن الرُكامي والمُزن البساطي (الطبقي)، قال تعالى، ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) (1) .

السُحب الرُكامية:

والسُحب الرُكامية هي النوع الأهمّ مِن السحب؛ لأنّها قد تمتدّ عمودياً (رأسياً) عبر (15) أو (20) كيلومتراً، فتصل إلى طبقات مِن الجوّ بارد جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى (60) أو (70) درجة مئوية تحت الصفر.

وبذلك يتكون (البَرَد) في أعالي تلك السحب، والمعروف علمياً أنّ نموّ البَرَد في أعالي السحب الرُكامية يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائية سالبة، وأنّه عندما يتساقط داخل السحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يذوب ذلك البرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائية موجبة، وعندما لا يقوى الهواء على عزل الشحنة السالبة العليا عن الشحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة برق، وينجم عن التسخين الشديد المفاجئ الذي يُحدثه البرق أن يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدِثاً الرعد، وما جلجلة الرعد إلاّ عملية طبيعية بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث مِن قواعد السحب لصوت الرعد الأصلي.

وقد يحدث في بعض العواصف أن يتكرّر حدوث البرق داخل السحابة 40 مرّة في الدقيقة الواحدة، أمّا إذا حدث التفريغ الكهربائي بين السحابة وأيّ جسم مرتفع على سطح الأرض فإنّه يُسمّى (صاعقة).

وتحدث عواصف الرعد في كافّة أرجاء الأرض ما عدا المناطق القطبية،

____________________

(1) الواقعة: 68 - 69.

٥٠١

حيث ضآلة حجم الهواء بالنسبة إلى خطّ الاستواء.

وقد وُجد بالحساب أنّ عدد عواصف الرعد التي تحدث في جوّ الأرض في يوم واحد يبلغ أكثر من 40 ألفاً، أي بمتوسط قدره 1800 عاصفة في الساعة، وتستهلك العاصفة في المتوسط نحو (2/2) مليون كيلو وات ساعة (1) .

* * *

____________________

(1) الله والكون: ص146 - 161.

٥٠٢

التبخّر والإشباع والتكاثف

( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ) (1)

عوامل ثلاث لنزول المطر: لحصول المطر عوامل ثلاث لا غيرها، إذا توفّرت لابدّ من نزول المطر، وإذا نقص عامل منها فلا إمكان لحصوله، وتلك العوامل هي:

1 - التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، ليؤدّي إلى تكوين سحاب.

2 - وصول الهواء المتحمّل للبخار إلى درجة الإشباع المختلف حسب المناخ.

3 - التكاثف ، وضدّ عملية التبخّر، ليتحوّل البخار إلى ذرّات الماء.

وهذا الترتيب على التعاقب ممّا لا محيص عنه لتكوين المطر ونزوله، وهو مِن بديهيّات العلم المقطوع به والمفروغ عنه بلا ريب، وإليك شرح هذه العوامل باختصار.

(أَوّلاً) التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، وانتقاله إلى الهواء،

____________________

(1) النور: 43.

٥٠٣

وذلك بتأثير حرارة الشمس على السطوح المائية المتوسّعة، كالمحيطات والبحار والبحيرات والمستنقعات والأنهار، بل وحتّى السطوح الثلجية والجليدية، بل وحتّى على أوراق الأشجار والنباتات وخاصّة الغابات.

(ثانياً) الإشباع ، وهو استمرار التبخّر حتى يبلغ حدّاً معيّناً، ويُسمّى بدرجة التشبّع، وتختلف حسب اختلاف المناخ، فكلّما اختلفت درجة الحرارة اختلفت درجة التشبّع اللازمة لتكوين الأمطار، فالهواء الحارّ في درجة التشبّع يحوي مقداراً مِن البخار أعظم ممّا يمكن أن يحويه الهواء البارد، فكمّية الرطوبة التي تكفي للتشبّع في درجة 15 م مثلاً لا تكفي للتشبّع في درجة 20 م، وإذا كان الهواء متشبّعا قيل: إنّ نسبة رطوبته 100%.

وبعبارة أوضح: إنّه حيثما وُجد الماء والهواء فإنّه يحدث تبادل بين جزئيات أحدهما مع الآخر، فتمرّ جزئيات الماء عن طريق التبخّر إلى الهواء، كما تمرّ جزيئات الهواء إلى الماء؛ ولذلك يوجد دائماً مقدار مِن بخار الماء في الهواء، كما يوجد مقدار مِن الهواء في الماء.

وإذا كان مقدار البخار الذي في الهواء قليلاً فإنّ الجزئيات البخارية التي تتصاعد من الماء تكون أكثر من جزيئات الهواء التي تمرّ إلى الماء، وعلى ذلك فإنّ عملية التبخّر تستمر ولكن إذا كان مقدار ما في الهواء من البخار كثيراً فإنّ تبادل الجزيئات بين الماء والهواء يكون متساوياً، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء متشبّع بالبخار المائي، أو إنّه في درجة الإشباع، أي لا يستطيع أن يحمل أكثر ممّا هو معلّق به مِن البخار.

فدرجة الإشباع تتوقّف على التساوي والتعادل في تبادل جزئيات الماء والهواء والتآلف بينهما.

ومن ناحية أُخرى - ذات أَهميّة كبرى - أنّ درجة التشبّع تتوقّف على ظاهرتين طبيعيتين أُخريينِ، لابدّ منهما في وصول الهواء إلى حالة الإشباع الكافي:

٥٠٤

الظاهرة الأُولى: هي التساوي في الضغط، فلبخار الماء المتصاعد ضغط كما لبخار الهواء المتشبّع ضغط، فإذا تساوى الضغطان فالتبخّر والتكاثف يتعادلان، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء مشبّع بالبخار الكافي، والمطر نتيجة لازمة لهذا التعادل.

والظاهرة الثانية: هي اتّحاد الكهربائيتين، فإنّ السحب ذوات تكهربٍ، وكل سحاب يحمل نوعاً من نوعي الكهرباء السالبة والموجبة، فإذا ما تقارنت السحب واختلف نوع الكهرباء فيها تجاذبت، وإلاّ تنافرت، شأن الكهرباء عموماً يتجاذب نوعان منه ويتنافران من النوع الواحد.

واجتماع السحب وتأليف بعضها مع بعض إنّما هو بفعل الرياح، تُثير السحب مِن مكان إلى مكان، فإذا جمعت الرياح بين نوعين من الكهربائية ذوات الموجبة وذوات السالبة فعند ذلك تتجاذب بعضها إلى بعض وتتقارب وتتآلف، وبذلك يحصل اللقاح الناتج للإمطار، ( وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) (1) .

يا ترى مَن ذا كان يعرف هذه الظاهرة الطبيعية يومذاك؟! أن تقوم الرياح الباردة فتثير سحاباً، وهي تدفع السحب المُكهرَبة إلى لقاء بعضها مع بعض، وتُلقى بالسحابة السالبة التكهرب بين اذرع سحابة أُخرى موجبة التكهرب، وبذلك يحدث عملية اللقاح، الناتجة للبرق والرعد ونزول المطر الغزير، فيخصب الأرض ويمهّدها للإنبات، وهي عملية أُخرى للّقاح في التربة الصالحة، بين الماء والأرض (2) .

____________________

(1) الحجر: 22.

(2) فيكون تلقيح مِن نوع ثالث هذه المرّة، تلقيح بالمعنى الحرفي للآية الكريمة.

فنحن أمام كلمة صادقة مجازاً كما حمله المفسّرون القدامى، وصادقة حرفياً كما أثبته العلم متأخّراً، وعلى أي صورة قلّبتها فهي تصدق معك، وهي بعدُ كلمة جديدة وغريبة، وصفة مبتكرة حينما تُوصف بها الرياح =

٥٠٥

(ثالثاً) التكاثف ، وهو عكس عملية التبخّر؛ ليتحول بخار الماء مِن الحالة الغازية إلى حالة السيلان، فتنقلب ذرّات البخار إلى قطرات مائية دقيقة... إذا كانت درجة الحرارة فوق الصفر المئوي، أو حالة جليدية برداً أو ثلجاً، إذا كانت درجة الحرارة تحت الصفر، الأمر الذي يعجز الهواء عن حمله، فتتساقط القطرات مطراً.

وهذا التكاثف إنّما يحدث إذا ما تصاعد الهواء المتشبّع ببخار الماء في طبقات جوّية ذات الضغط الأعظم، فبأثر الضغط العالي يتمدّد الهواء ويفقد جزءً كبيراً مِن حرارته، وبذلك يبرد وتنخفض درجة حرارته، درجةً واحدةً مئويةً كلّما ارتفع 170 متراً.

غير أنّ هذه النسبة تَطَّرد حتّى ارتفاع 5 كيلومترات عن سطح البحر، وبعده تتغيّر هذه النسبة فتأخذ بالنقص باعتبار درجة واحدة مئوية لكل 100 متراً ارتفاعاً، وتستمرّ هذه النسبة إلى ارتفاع 12 كيلو متراً حيث توجد طبقة هوائية ثابتة الحرارة، تبلغ درجة حرارتها 55 درجة مئوية تحت الصفر.

والسحب تنعقد على ارتفاعات لا تزيد على 6 أو 7 كيلومترات عن سطح البحر في الأغلب.

وعملية التبريد هذه بالتمدّد هي إحدى العوامل الفعّالة في إحداث التكاثف.

وكذلك يبرد الهواء بشعّ حرارته كلّما لامسَ جسماً بارداً في الجوّ أو على سطح الأرض مثل الثلج والجليد، أو إذا تقابل مع هواء أبرد، والشعّ ذو أثر فعّال في تبريد الهواء وتكاثفه، وخاصّة إذا هبّت الرياح من جهة حارّة إلى جهة باردة.

وفي الحقيقة ليس الهواء هو الذي يبرد بهذه الطريقة، ولكنّه (الهباء) الكثير

____________________

= وهي بعدُ من الناحية الجمالية الإيقاعية ذروة، وفي النطق بها عذبة: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) تنطقها وتلوكها في فمك، فتستوقف السمع وتُطرب الأُذن.

.. وكل هذا العلم التفصيلي في تكهرب السحاب وانتقال حبوب اللقاح لم يكن معلوماً أيام نزول الآية، فتدبّر.

٥٠٦

المنتشر في الهواء، فيتّخذ البخار لنفسه مراكز من هذا الهباء، يلتفّ حولها، ويتكوّن حول كلّ مركز قطرة، فإذا اشتدّت برودة الجوّ الملبّد بالسحب استمرّ التكاثف، فتنضمّ قطرات السحب المائية إلى بعضها، فيعجز الهواء عن حملها، فتتساقط أمطاراً على سطح الأرض بفعل جاذبيّتها.

* * *

فقد تبيّن أنّ المطر لا يحصل إلا إذا توفّرت الشرائط الثلاثة متعاقبة: التبخّر فالتشبّع فالتكاثف.

وهذا هو الذي دلّت عليه الآية الكريمة المنوّه عنها في صدر المقال، فقد جاءت بوصف موجز مدهش، ومحيّر للعقول.

عبّرت أولاً بقوله تعالى: ( يُزْجِي سَحَاباً ) (1) إشارة إلى عملية التبخير وتكوين السحب والإزجاء هو عملية إثارة السحب وانتشالها بصورة أبخرة من البخار.

( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً... ) (2) لأنّ الرياح بهبوبها على سطح البحار هي التي تُسبّب التبخير والتدافع بها لتتصاعد وتتكاثف وتتكوّن سحباً.

* ثمّ عبّرت عن عملية التشبّع بقوله تعالى: ( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ) (3) لانّ درجة الإشباع الكافي إنّما تتوقّف على حصول التعادل وتساوي تبادل الجزئيات بين الماء والهواء.

وما هذا إلاّ التآلف والتعاضد بين تلك الجزئيات.

ومن ناحية أُخرى، لا يحصل التشبّع إلاّ بالتعادل والتآلف بين ضغطي بخار الماء وبخار الهواء، أو الاتّحاد بين نوعي الكهربائية كما سبق بيانه.

وعليه فإنّ أصدق تعبير عن هذه الظاهرة هو وصف التأليف، الذي جاء وصفه في العلم بالتشبّع.

____________________

(1) النور: 43.

(2) الروم: 48.

(3) النور: 43.

٥٠٧

* ثم جاءت بقوله تعالى: ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ) (2) ، وهذا ابلغ تعبير عن عملية التكاثف الذي حقّقه العلم.. إذ لا تفسير للركام سوى التكاثف وتراكم بعض الشيء على البعض مع ضغطٍ يقال: تراكم الشيء أي اجتمع بعضه مع بعض بكثرة وازدحام، والركام: المتراكم بعضه فوق بعض بضغط.

وبعد، فإذا ما تحقّقت الشرائط الثلاثة فعند ذلك: ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) (3) الودق: المطر.

* وقد فَصل تعالى بين العمليّات الثلاث بـ (ثمّ)؛ لأنّ كلّ عملية إنّما تحصل بتعاقبٍ مع فترة، أمّا النتيجة - وهو الإمطار - فجاءت بالفاء: تعاقبٌ بلا تأخير، وهو الفور في حصول نتيجة عملية الإمطار.

فيا له من دقيق تعبير، وسبحانه من عليم خبير.

* * *

٥٠٨

الماء الأُجاج

( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (1)

هل في سنن الكون أن يتحولّ ماء المطر - الذي هو أنقى المياه وأعذبها - إلى ماء أُجاج لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه؟

الآية قبلها تنصّ على أنّ الماء الذي يشربه الناس والدوابّ - وحتّى الذي يُسقى به الزرع والنبات - هو الماء النازل من السماء: ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ (2) أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ) (3) .

* * *

إنّك تعرف أنّ الأرض رُبعها يابس وثلاثة أرباعها ماء، هذا الماء كلّه مالحٌ أُجاج، لكنّ الله تعالى بفضله ورحمته يقطر للإنسان والحيوان النبات من هذا الماء الأُجاج ماءً عذباً فراتاً سائغاً للشاربين، أمّا جهاز التقطير فليس كمثله جهاز، البحار كلّها في ذلك دَست (4) لا يسخن من تحت، كما يفعل الإنسان في تقطيراته

____________________

(1) الواقعة: 70.

(2) المزن: السحاب المشبّع بالماء.

(3) الواقعة: 70.

(4) أي القدر، وهو كلّ ما يغلى فيه الماء.

٥٠٩

التافهة.. ولكن يسخن من فوق بنار تفوق حجم الأرض بآلاف المرّات، فإذا ما تبخّر الماء بحرارة الشمس تكثّف في مكثف ناهيك من مكثف الجوّ المحيط كله والجبال، والرياح مستمرّة دائبة في حمل هذا البخار المتكاثف ونقلها إلى حيث يشاء الله، فإذا أمطرت السماء وسالت الأودية وفاضت الأنهار وحملت الخصب والنماء إلى الأقطار تبخّر بعض الماء وامتصّت الأرض منه بعضاً وصار باقيه إلى البحر الذي كان منه مصعده، لكن ليس شيء من الماء بضائع! فما تمتصّه الأرض تتفجّر به بعدُ عيوناً، ويتبخّر من الماء العذب أو يصير إلى البحر، فهو في حرز حريز من الضياع؛ إذ مآله أن يصير مرّة أُخرى ماء يحيى به الناس والأنعام، وتحيى به الأرض بعد موتها، فالماء بين البحر والجوّ واليابسة في دورة متّصلة، لا انقطاع فيها ولا تنتهي أبداً، إلا أن يشاء الله، هو ربّ كل شيء.

هكذا يتحوّل الماء من أصلٍ مالحٍ أُجاج إلى مقطّرٍ عذبٍ فرات، في جهاز تقطير كهذا الجهاز العظيم في جوّ السماء.

* * *

وبعد، فهل هناك ما يحول دون هذا التحوّل في الماء؟ فينزل من السماء أُجاجاً لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه.

أجاب العلماء: نعم، إنّ في الجو من العوامل ما يمكنها الحؤول دون هذا التحوّل والانقلاب، لولا رحمته تعالى بالعباد، وقد جعل حواجز دون هذا الحؤول.

جاء في كتاب (سنن الله الكونية) للعلاّمة محمّد أحمد الغمراوي (1) .

إنّ عذوبة الماء الذي يسقيهم الله إيّاه من السحاب هي بمحض رحمته تعالى، إنّ الماء طبعاً عذب بطبيعته، وماء المطر معروف أنّه أنقى المياه، لكن طبيعة تكوّنه من السحاب تُعرضه لأن ينقلب أُجاجاً لا ينتفع به الإنسان.

____________________

(1) نقلاً عن كتاب بصائر جغرافية: ص220.

٥١٠

وذلك لأنّ الهواء خليط عن عناصر عدّة تختلف نسبة وجودها مع البعض، وأهمّ تلك العناصر هو النتروجين (الآزوت)، ونسبة وجوده في الهواء تعادل (21/78) بالمئة. ثمّ الأوكسجين، ونسبة وجوده (96/20). والارجون (79%)، وثاني اوكسيد الكاربون (4%).

وعناصر الهواء موجودة فيه بصورة اختلاط ميكانيكي، وليست ممزوجة امتزاجاً كيماوياً، ومعنى ذلك أنّها لا تتفاعل مع بعضها، وأنّ كلاً منها محتفظ بكيانه مستقلاً كأن لا وجود للعناصر الأُخرى.

وفي هذا من الحكمة البالغة والنعمة السابغة مالا يكاد يخفى... إذ لولا ذلك لاكتسب الهواء مميّزات وخواصّاً كيماوية أُخرى تختلف عن مميّزاته الحالية، فلم تكن تصلح للحياة بشكلها المعروف، وتنوّعاتها التي نشاهدها على سطح الكرة.

خذ مثلاً أنّ غاز الآزوت لا يتّحد مع غيره اتّحاداً كيماوياً إلاّ بصعوبة وبشرائط ملائمة خاصّة، فيتّحد في مثل هذه الظروف مع غاز الأوكسجين مكوّناً ما يُسمّونه بحامض الآزوتيك أو النتريك، وهو ما يُعرف عند القدماء بماء الفضّة، وهو أقوى الحوامض وأضرّها على حياة الإنسان بالذات فلو كان الغازان يمتزجان مع بعضهما امتزاجاً كيماوياً بسهولة ويسر وبلا واسطة أعمال كيماوية، لانقلب الجوّ جهنّم سعيراً؛ لأنّه بذلك كان الغازان يستحيلان في الجوّ حامضاً فتّاكاً، ولأمطرت السماء ماء الفضة بدلاً من الماء العذب الفرات، وما هو إلاّ شواظ من نار ولهيب جهنّم لا يُبقي ولا يذر، فسبحانه وتعالى من رءوف رحيم.

( قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) (1) .

* * *

وإذ قد عرفت أنّ أربعة أخماس الهواء هو الآزوت (النتروجين) وهذا الغاز لا

____________________

(1) يونس: 58.

٥١١

يكاد يتّحد في العادة بشيء ولا بالأوكسجين الذي يكاد يتّحد بكلّ شيء لكنّ الكيماويين وجدوا أنّهم يستطيعون بالكهربائية أن يُحوّلوا الآزوت غير الفعّال إلى آزوت فعّال يتّحد بأشياء كثيرة في درجة الحرارة العادية، كما وجدوا أنّهم يستطيعون أن يحملوا الآزوت على الاتّحاد بالأكسجين بإمرار الشرر الكهربائي في مخلوط منهما، ومن هذا الاتّحاد ينشأ بعض أكاسيد للآزوت، قابل للذوبان في الماء، وإذا ذاب فيه اتّحد به وكوّن حمضين آزوتيين، أحدهما: حمض الآزوتيك (أو ماء النار) كما كان يُسمّيه القدماء، وإليه يصير الحمض الثاني، وقليلٌ من حمض الآزوتيك في الماء كافٍ لإفساد طعمه.

وأظنّك الآن بدأت تُدرك الطريق الذي يمكن أن ينقلب به ماء المطر ماءً أُجاجاً من غير خرق لنواميس الطبيعة ولا تبديل لسنّة الله التي جرت في الخلق، فهو نفس الطريق الكهربائي الذي يتكوّن به المطر، وكلّ الذي يلزم أن يتعدّل التفريغ الكهربائي أو يتكرّر في الهواء تكراراً يتكوّن به مقدار كافٍ من الأكاسيد الآزوتية يذوب في ماء السحاب ويُحوّله حمضياً لا يستسيغه الناس.

وهذا هو موضعٌ مَنَّ الله على الناس، إنّه يُكيّف التفريغ بالصورة التي يُنزل بها المطر، ولا يَؤجّ بها الماء.

إنّ شيئاً من ذينك الحمضين لابدّ أن ينزل في ماء العواصف، وهذا ضروريّ لحياة النبات، لكنّ الله برحمته وحكمته قدّر تكوينه بحيث لا يتأذّى به إنسان ولا حيوان، ولو شاء الله لكثّره في ماء المطر فأفسده على الناس.

وسواء شكر الناس هذه النعمة أم كفروها فإنّ قوله تعالى: ( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) إشارة إلى تلك العوامل الكهربائية التي يتكوّن بها المطر، يفهمها مَن يفقه تلك الحقائق السابقة، ومَن يعرف أنّ الطريق الكهربائي هو أحد الطرق العلمية التي يمكن بها تحويل الآزوت الجوّي إلى حمضي، فسبحان الذي أتقن صُنع كلّ شيء وأحكمه إحكاماً.

* * *

٥١٢

( وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ) (1)

( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِم ) (2)

عبّر القرآن الكريم عن الجبال بالأوتاد، وأبان عن وجه الحكمة فيها هي محافظة الأرض دون أن تضطرب بأهلها، فكيف هذا الإيتاد؟ وكيف ذاك الميدان الذي حال دونه وجود الجبال؟

ولفهم هذا الجانب من السؤال لابدّ من النظر في تعابير القرآن أوّلاً، ثمّ ما تعرضه معطيات العلم الحديث.

جاء التعبير بالرواسي عن الجبال في تسع آيات (3) ، وكانت العاشرة قوله تعالى: ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (4) .

والوَتد: المِسمار وكلّ ما رُزّ في الحائط أو الأرض من خشب ونحوه ليُمسك به الشيء كالخباء وشبهه.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأرزّها فيها أوتاداً) (5) أي أثبت الجبال في الأرض

____________________

(1) النبأ: 7.

(2) الأنبياء: 31.

(3) الرعد: 3، والنمل: 61، والحجر: 19، وق: 7، والنحل: 15، ولقمان: 10، والأنبياء: 31، وفصّلت: 10، والمرسلات: 27.

(4) النازعات: 32.

(5) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة رقم 186 ص275.

٥١٣

ثبوت الأوتاد رسوخاً وإحكاماً.

قال (عليه السلام): (ووتّد بالصخور ميدانَ أرضه) (1) أي ثبّتها فيها لتحول دون اضطرابها، والميد والميدان: الحركة والاضطراب ضدّ السكون والهدوء.

وفي خطبة أُخرى أوضح هذا المعنى بتفصيل أكثر، قال:

(وجبلَ جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست قواعدها في الماء، فأنهد جبالَها عن سهولها، وأساخ قواعدَها في متون أقطارها، ومواضعَ أنصابها، فأشهق قِلالَها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان مَن أمسكها بعد موجان...) (2) .

واليك شرح الغريب من ألفاظ الخطبة:

جلاميد: جمع جلمود، وهو الصخر الصلب. وجَبل الشيء بمعنى خَلقه وفطره، ومنه الجِبلّة بمعنى الفطرة وأصل الخِلقة.

وأنهد الشيء: رفع به وعظّمه. ومنه النهد بمعنى الثدي. يقال: نهد الثدي أي كَعب وانتَبَر وأشرف.

والأنصاب: جمع نصب هي مواضع نصب الجبال.

وساخ في الشيء: غاص فيه ورسب. وساخ بالشيء: انخسف به. والموجان: الهياج.

* * *

وأمّا ما يُستفاد من هذا الكلام الذهبي فشيء كثير، نُشير إلى ما يخصّ المقام من دلائل جلائل:

____________________

(1) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطب الأُولى ص39.

(2) المصدر السابق: الخطبة رقم 211 ص328.

٥١٤

قوله (عليه السلام): (ورست قواعدها) أي رسخت أُصول الجبال في أعماق الأرض حيث المياه الجوفية، ولعله إشارة إلى جذور الجبال متّصلةً بعضها ببعض، المُعبّر عنها بسلاسل جبلية محيطة بالأرض.

قوله: (فأنهد جبالَها عن سهولها) كأنّه إشارة إلى مبدأ حدوث الجبال على سطح الأرض، بعد أن كان مستوياً، فتجعّد على أثر برودة القشرة، فكانت نتؤات وانخفاضات؛ وبذلك انقسم وجه الأرض إلى مرتفعات شامخات وهضبات، والى وديان وسهول.

وقوله: (وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها) أصرح في الدلائل على السلاسل الجبلية المكتنفة بالأرض من جميع أقطارها.

قوله: (وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً)؛ لأنّها هي التي حالت دون تفتّتها، ودون اضطراب قشرتها، ودون خروجها عن مداراتها..

تلك ثلاث خِلال، جاءت في وصف الإمام (عليه السلام)، لبيان حكمة نتوء الجبال وتسلسلها الماسكة بأكناف الأرض، وإليك شرح هذا الجانب:

قال (عليه السلام): (فسكنت على حركتها مِن أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها..) تلك ثلاث فوائد وحِكم جاءت في كلامه:

(أَوّلاً) هدأت - رغم حركتها الانتظامية - من الميدان والاضطراب، فهي تتحرك بهدوء واتّزان، لا ترتعش ولا تميد ولا تضطرب.

(ثانياً) هدأت واطمأنت واستحكمت قشترها وصَلُبت، فلا تسيخ ولا تنخسف ولا تتشقق قشرتها، وإلاّ لأصبحت قشرة الأرض كلّها براكين وفوهات ونافورات بالموادّ المنصهرة والجلاميد المذابة.

(ثالثاً) هدأت وانتظمت في حركاتها الوضعية والانتقالية على أنحائها وأنواعها، والتي بها انتهجت الحياة عليها منهجها الرتيب، فلا تميل عن مواضعها في دوائرها الدائرة فيها بانتظام.

٥١٥

هذه ثلاث حِكم بينّها الإمام (عليه السلام) أثراً لوجود سلاسل الجبال في الأرض، الأمر الذي يدعمه العلم باكتشافاته وبحوثه وتجاربه.

وتوضيحاً لهذا الجانب نقول: إنّ الأثر العظيم للجبال - في إمكان الحياة على وجه الأرض - إنّما يُعلّله جانب صخرية السلسلة الجبلية المنبثّة في القشرة الأرضية الصلبة، والمتشابكة بعضها مع بعض كأطواق محيطة بأكناف الأرض.

ومِن ثَمّ فالذي يلفت إليه كلام الإمام (عليه السلام) في أُولى خطب نهج البلاغة هو تبديل التعبير بالجبال إلى التعبير بالصخور، قال: (ووتدّ بالصخور ميدان أرضه)، تفسيراً لقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) (1) وهو جانب ذو أهمّية كبيرة؛ حيث الأمر مرتبط بصخرية السلاسل الجبلية دون سائر جوانبها، الأمر الذي يستلفت الأنظار.

وإليك بعض الكلام عن السلسلة الصخور الجبلية، ودورها في توازن الأرض وانتظام حركتها.

إنّ لسلسلة الصخور الجبلية - رافعة وخافضة - دورها الخطير في توازن الأرض وتماسك أجزائها، وهكذا ثبات قشرتها وصلابتها دون تلوّيها واضطرابها، رغم توهّج باطنها والتهاب لظاها.

ومَن درس علوم الطبيعة يعلم أنّ الأرض مطوّقة بأطواق من السلاسل الجبلية التي جعلت الأرض أشد تماسكاً، وقد يعرف حكمة وجهة امتدادها وكيفية اتّصالها مع بعضها، بحيث تكوّنت منها أطواقٌ جبلية طوّقت الأرض تطويقاً على نظام بديع متقن ممّا يستلفت الأنظار، فإذا نظرنا إلى خارطة عالمية طبيعية فيها التضاريس الأرضية ظاهرة ظهوراً جلياً نرى السلاسل الجبلية تمتدّ في كلّ قارّة على طولها بصورة عمومية لا على عرضها، فتكون بمثابة عمود فقري لكلّ منها،

____________________

(1) الأنبياء: 31.

٥١٦

وحتى إذا لاحظنا أشباه الجزائر في كلّ قارة فلابدّ أن نرى السلاسل ممتدّة على أطول قسم منها، وكذلك الجزائر الجبلية، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، امتّدت فيها السلاسل على طولها أيضاً.

وقد ثبت بصورة قطعية، وذلك عن طريق سبر قاعات البحار والمحيطات، إنّ الغالب من الجزائر ومرتفعاتها ما هي إلاّ امتداداً للسلاسل الجبلية وجزءً منها، حيث انغمر قسمٌ بماء البحر وبقي القسم الآخر كجزائر ظاهرةً على سطح الماء.

فالقارّات كلّها تتّصل بعضها ببعض بسلاسل جبلية عن طريق البر أو البحر.

وممّا يستلفت الأنظار أيضاً وجود طوق من السلاسل تحت البحر قليلاً قرب الساحل الشمالي للقارّات الثلاث الشمالية، يُطوّق المحيط المتجمّد القطبي الشمالي تطويقاً، وقد ظهرت منه كثير من الجزر التي تحفّ بهذا الساحل.

ويقابل ذلك من الجهة من الأرض طوق آخر من السلاسل يُطوّق القارّة القطبية المنجمّدة الجنوبية، وترتبط بالطوقين المذكورين ارتباطاً وثيقاً أطواقٌ أُخر لسلاسل جبلية ممتّدة في القارّات وفي المحيطات من الشمال إلى الجنوب، كأنّها إطارات تشابكت بعضها ببعض، فاستمسكت بعُرى الأرض دون التفتّت والانبثاث وتفرّق ذرّاتها هباءً في الفضاء (1) .

* * *

ومن جانب آخر كانت الأرض ذات لهب في باطنها، إنّها نارٌ موقدة ذات تغيّض وزفير، تكاد تميّز من الغيظ، وتحاول تحطيم القشرة المحيطة بها لولا صلابتها وسمكها الثخين، وما هذه الزلازل ونافورات البراكين إلاّ جانباً ضئيلاً من تلك الثورة والفورة النارية والمتوهّجة في باطن الأرض.

إنّ صلابة القشرة الأرضية العليا - التي بردت منذ أحقاب من الزمان - هي التي كفحت من جِماح باطنها المتوقّد، ولولا صلابتها وضخامة سمكها لتلوّت

____________________

(1) بصائر جغرافية: ص100 - 104.

٥١٧

واضطربت اضطراب الأَرشية، ولكانت الزلازل والهزّات الأرضية مستمرة على أشدّها، ولعمّت وجه الأرض كلّها، هذا إلى جانب أخطار خسف الأرض بأهلها وتشقّق أكنافها، لولا أنّ الله تعالى أمسكها بفضله وأسكنها برحمته، ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (1) .

هكذا قال سيّدنا الأُستاذ الطباطبائي (قدس سرّه) عند قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) -: فيه دلالة على أنّ للجبال ارتباطاً بالزلازل، ولولاها لاضطربت الأرض بقشرتها (2) .

قال سيّد قطب: الآية تُقرّر أنّ هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض، فلا تميد بهم ولا تضطرب وحفظ التوازن يتحقّق في صور شتّى، فقد يكون توازناً بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة، وقد يكون بروز الجبال في موضعٍ معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر... وعلى أيّة حال فهذا النصّ يُثبت للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها، فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتمّ بها هذا التوازن، فذلك مجالها الأصيل (3) .

* * *

وقال الأُستاذ الطنطاوي: مرّت على الأرض أدوار ستة مُقسّمة إلى 26 طبقة، والدور الأَوّل منها كان عبارة عن الزمن الذي كُوّن فيه على الكرة الأرضية النارية قشرةٌ صوانية (4) صُلبة، ومعلوم أنّ الأرض كانت ناراً ملتهبة فبردت قشرتها وصارت صوانية، وهي الغلاف الحقيقي لتلك الكرة النارية، ولا تزال الأرض

____________________

(1) فاطر: 41.

(2) الميزان: ج14 ص305.

(3) في ظِلال القرآن: ج5 ص531.

(4) ضَرب من الحجارة فيه صلابة يتطاير منه الشرر عند قدحه بالزند، استعمله الإنسان في عصر ما قبل التاريخ في صناعة أدواته البسيطة وفي آلات الصيد، وهو حجر صلد من المَرو يوجد في شكل عروق بطبقات الحجر الجيري من الأرض.

٥١٨

تُخرج لنا من أنفاسها المتضايقة ونارها المتّقدة في جوفها كل وقت ناراً بالبراكين.

فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفّس بها الأرض لتَخرج بعض النار من باطنها ثمّ يخرب ذلك البركان وينفتح بركان آخر. وهذه البراكين تُخرج ناراً ومواداً ذائبة تدلّنا على أصل أرضنا، وما كانت عليه قبل الدهر.

فهذه القشرة الصلبة (1) لولاها لتفجّرت ينابيع النار من سائر أطرافها كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثورات والفوران، وهذه القشرة الصوانية البعيدة المغلّفة للكرة النارية هي التي نبتت منها هذه الجبال التي نراها فوق أرضنا، كما يقوله علماء طبقات الأرض.

فمن هنا ظهر أنّ هذه الجبال جُعلت لحفظها من أن تميل؛ لأنّ الطبقة الصوانية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، والكرة الصوانية هذه نبتت لها أسنان طالت وامتدّت حتى ارتفعت فوق الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقى ما تحتها مفتوحاً، وإذ ذاك تثور البراكين آلافاً مؤلّفة وتضطرب الأرض اضطراباً عظيماً وتتزلزل زلزالاً شديداً؛ لأنّ البراكين وثوراتها زلزلة.

ثمّ إنّ هذه الجبال قطعة من القشرة، غاية الأمر أنّها ارتفعت، فما هي إذاً إلاّ حافظة للكرة النارية التي لو تُركت لشأنها لاضطربت في أقرب من لمح البصر، فأهلكت الحرث والنسل.

هذه هي المعجزة الأُخرى للقرآن العظيم؛ لأنّ السابقين كانوا يؤمنون به فقط، فظهور ذلك اليوم من المعجزات القرآنية.

ولقد أجمع العلماء قديماً وحديثاً أنّ الجبال على الأرض لا قيمة لها بالنسبة للكرة الأرضية (2) ، فلو فرضنا أنّ الكرة الأرضية كرة قطرها ذراع لم يكن أرفع

____________________

(1) وقُدّر سمك القشرة الصلبة الأرضية العليا بمئات الأميال (مبادئ العلوم: ص43).

(2) يبلغ أعلا قُلل جبال الأرض هملايا 8700 متراً. بينما قطر الأرض يبلغ 12750 كيلومتراً =

٥١٩

الجبال فوقها إلاّ كنحو نصف سبع شعيرة فوقها (1) ، ولو أنّ الأرض كرة قطرها مترٌ واحدٌ لم تزد الجبال عليها مليمتراً واحداً ونصفه (2) فقط، فما هذا الجزء اليسير بالنسبة لتلك الكرة العظيمة حتّى يمنع ميلها وسقوطها!

نعم، كان الناس يؤمنون بظاهره، وقد ظهرت هذه النبوّة فعلاً في العلم الحديث، ولم تظهر إلاّ على يد مَن كفر بدين الإسلام، والمسلمون لا يعلمون إلاّ من الفرنجة، ونحن نكتب ذلك عنهم، فمنهم وإليهم (3) .

فصدق الله وجاءت المعجزات العلمية في القرآن تترى كلّما تقدم العلم وازدهرت حقائق العلوم وتجلّت أسرار هذا الكون، ولم يُعرف تفسير القرآن على وجه علميّ برهانيّ إلاّ في هذا العصر، وستنكشف حقائق أُخر في مستقبل الأيّام، فلله درّه من معجزة خالدة خلود الزمان.

* * *

وتمخّض البحث بالنتائج الثلاث التالية:

1 - إنّ للجبال (أي الصخور الجبلية المكتنفة بالأرض) أثراً مباشراً في توازن الأرض دون أن تضطرب، فتحيد عن مداراتها المنتظمة المؤثرة في تنظيم الحياة عليها..

وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه الآنف: (أو تزول عن مواضعها).

____________________

= والنسبة بينهما تعادل 1/1450 تقريباً، وهي نسبة ضئيلة جدّاً، (راجع مباني جغرافياى انسانى لجواد صفى نژاد: ص17).

(1) الذي ذكره شارح الجغمينية أنّه نسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع وهو أربعة وعشرون إصبعاً، والإصبع ستة شعيرات قال: ويلزم أن يكون كنسبة الواحد إلى ألف وثمانية (شرح جغميني: ص12 - 13).

(2) ولعلّ هنا سهواً، والصحيح أنّ النسبة مليمتر واحد على كرة قطرها متر ونصف تقريباً.

(3) تفسير الجواهر ج10 ص198 - 199.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592