الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180919 / تحميل: 6360
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فاعله، بل هو بدعة وضلالة... )(١) .

أبو هريرة عند محمّد بن الحسن

وأبو هريرة مطعون عند محمّد بن الحسن الشيباني أيضاً ، قال ابن حزم في( المحلّى ) في مسألة أحقّيّة البائع بالمتاع إذا أفلس :

( روينا مِن طريق أبي عبيد أنّه ناظر في هذه المسألة محمّد بن الحسن ، فلم يجد عنده أكثر من أنْ قال : هذا من حديث أبي هريرة .

قال أبو علي : نعم ، هو ـ والله ـ من حديث أبي هريرة البرّ الصّادق ، لا من حديث مثل محمّد بن الحسن الذي قيل لعبد الله بن المبارك : من أفقه أبو يوسف أو محمّد بن الحسن ؟ فقال : قل : أيّهما أكذب )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري ٤ : ٢٩٠ كتاب البيوع .

(٢) المحلّى في الفقه ٨ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

١٨١

عبد الله بن عمر

وأمّا عبد الله بن عمر ، فإنّ مَن يقرأ سيرته يشهد بكونه مِن المنحرفين عن أمير المؤمنين وأهل البيت الطّاهرينعليهم‌السلام وله مساوئ غير ذلك .

إباؤه عن البيعة لأمير المؤمنين

فأوّل ما يجده هو امتناعه عن البيعة لأمير المؤمنينعليه‌السلام بعد مقتل عثمان بن عفّان ، وقد بايعه جمهور المسلمين إلاّ من شذّ ، وقد جاء في الأخبار أنّ بعضهم قد ندم بعد ذلك ، ولات حين مندم ! ومِن هؤلاء عبد الله بن عمر... فإنّه روى ابن عبد البر وابن الأثير وغيرهما بترجمته بأسانيدهم ، عن حبيب بن أبي ثابت وعن غيره قال : ( قال ابن عمر حين حضره الموت : ما أجد في نفسي مِن الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية مع عليّ )(١) .

وقد نصّ ابن حجر في( فتح الباري ) على إباء ابن عمر عن البيعة مع الإمامعليه‌السلام ، وستسمع عبارته .

وقال سبط ابن الجوزي في( تذكرة خواصّ الأُمّة ) :

( قال ابن جرير : وممّن امتنع من بيعته : حسّان بن ثابت ، وأبو سعيد الخدري ، والنعمان بن بشير ، ورافع بن خديج ، في آخرين وفي زيد بن ثابت ومحمّد بن مسلمة خلاف ، وقال غير ابن جرير : لم يُبايعه قدامة بن مظعون

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب ٣ : ٩٥٣ .

١٨٢

وعبد الله بن سلام والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن عمر وسعد وصهيب وزيد بن ثابت وأُسامة بن زيد وكعب بن مالك وهرب قوم إلى الشام وهؤلاء يسمّون العثمانيّة )(١) .

بيعته ليزيد بن معاوية

لكن ابن عمر بايع يزيد بن معاوية ، كما في كتابَي ( البخاري ) و( مسلم )(٢) وغيرهما من مصادر الحديث والتاريخ... بل لقد دافع عن ذلك وحمل أهله وولده والناس على البيعة ، وإذا ثبت أنّه قد بايع ليزيد ، فقد ثبت كفره بلا ريب ؛ لأنّ الرضا بإمامٍ باطلٍ كفر ، كما نصّ عليه أئمّة القوم... قال أبو شكور محمّد بن عبد السعيد الكشفي الحنفي في( التمهيد في بيان التوحيد ) :

( ثمّ كلّ سؤال من جهة الخصم يكون مردوداً ؛ لموافقة عليّ لأبي بكر ، لأنّه وإنْ لم يُبايعه فسكت ولم يُخالفه ، وقد بيّنا أنّه بايعه بدليل ما ذكرنا ، ولو لم يصحّ خلافة أبي بكر لا يكون إماماً حقّاً ، لكان لا يجوز السكوت به والإغماض عنه ؛ لأنّ من رضي بإمامٍ باطلٍ فإنّه يكفر ) .

هذا ، وقد دافع بعض علماء الهند عن ابن عمر ، بحمل بيعته ليزيد على التقيّة والاضطرار ، لكنّهم غفلوا عمّا شنّع به أكابر طائفتهم على أهل الحق للقول بالتقيّة والعمل بها... لا سيّما في مقابلة القول بأنّ بيعة أمير المؤمنين وأصحابه مع المشايخ كانت عن تقيّةٍ واضطرار، فكيف يصحّ مع هذا حمل

ـــــــــــــــــــ

(١) تذكرة خواصّ الأُمّة : ٦١ .

(٢) صحيح البخاري ٩ : ٧٢ كتاب الفتن ـ باب إذا قال عند قوم شيئاً ثمّ خرج فقال بخلافه ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٧٨/ ١٨٥١ كتاب الإمارة الباب ١٣ .

١٨٣

بيعة ابن عمر مع يزيد على التقيّة ؟

وممّا يشهد بعدم كون بيعة عبد الله بن عمر هذه عن تقيّة : تعجّب الزهري من ذلك ، فيما رواه عنه سبط ابن الجوزي حيث قال : ( قال الزهري : والعجب أنّ عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقّاص لم يُبايعا عليّاً ، وبايعا يزيد ابن معاوية )(١) .

ومن هنا ، نجد أنّ بعض علماء الهند لمّا رأى ركاكة هذا العذر ، التجأ إلى إنكار البيعة مِن أصلها... لكنّ بيعته له الأُمور الثابتة غير القابلة للنفي والإنكار... كما أنّ موقفه من أهل المدينة وخلعهم يزيد بن معاوية مشهور ثابت .

قال ابن الملقّن في( شرح البخاري ) :

( بابٌ : إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه : الشرح : معنى الترجمة إنّما هو في خلْع أهل المدينة ليزيد بن معاوية ، ورجوعهم عن بيعته وما قالوا له ، وقالوا بغير حضرته خلاف ما قالوا بحضرته ، وذلك أنّ ابن عمر بايعه فقال عنده بالطاعة بخلافته ، ثمّ خشِي على بنيه وحشمه النكث مع أهل المدينة ، حيث نكثوا بيعة يزيد ، فوعظهم وجمعهم وأخبرهم أنّ النكث أعظم الغدر )(٢) .

وقال ابن حجر بشرحه :

( ووقع عند الإسماعيلي من طُرق مؤمّل بن إسماعيل ، عن حمّاد بن زيد ، في أوّله من الزيادة ، عن نافع : أنّ معاوية أراد ابن عمر على أنْ يُبايع

ـــــــــــــــــــ

(١) تذكرة خواص الأُمّة : ٦١ .

(٢) شرح صحيح البخاري ـ كتاب الفتن ، باب : إذا قال عند قوم شيئاً...

١٨٤

ليزيد ، فأبى وقال : لا أُبايع لأميرين ، فأرسل إليه معاوية بمئة ألف درهم فأخذها ، فدّس إليه رجلاً فقال له : ما يمنعك أنْ تُبايع ؟ فقال إنّ ذاك لذاك ، يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة ، إنّ ديني عندي إذاً لرخيص ، فلمّا مات معاوية كتب ابن عمر إلى يزيد ببيعته ، فلمّا خلع أهل المدينة ، فذكره...)(١) .

وقال ابن حجر في ( باب ما كان من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُواسي بعضهم بعضاً في الزراعة والثمرة ) من كتاب المزارعة في شرح حديث نافع : ( إنّ ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، وصدراً من إمارة معاوية ) :

( قوله : وصدراً من إمارة معاوية ، أي خلافته ، وإنّما لم يذكر ابن عمر خلافة عليّ ؛ لأنّه لم يُبايعه ، لوقوع الاختلاف عليه ، كما هو مشهور في صحيح الأخبار ، وكان رأي ابن عمر أنْ لا يُبايع لِمن لم يجتمع عليه الناس ، ولهذا لم يُبايع أيضاً لابن الزبير ولا لعبد الملك ، في حال اختلافهما ، وبايع ليزيد بن معاوية ، ثمّ لعبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير )(٢) .

وقال الشهاب القسطلاني :

( عن نافع مولى ابن عمر أنّه قال : لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية ، وكان ابن عمر لمّا مات معاوية كتب إلى يزيد ببيعته...)(٣) .

ثمّ إنّهم رَوَوا عن ابن عمر أنّه مدح يزيد في جمعٍ مِن خلفائهم وقال :

ـــــــــــــــــــ

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١٣ : ٥٩ .

(٢) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٥ : ١٩ .

(٣) إرشاد الساري في شرح صحيح البخّاري ١٠ : ١٩٩ .

١٨٥

 ( كلّهم صالح لا يوجد مثله )... ومن رواته السيوطي في( تاريخ الخلفاء ) وهذه عبارته :

( أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمر قال : أبو بكر الصدّيق أصبتم اسمه ، عُمر الفاروق قرنٌ من حديد أصبتم اسمه ، ابن عفّان ذو النّورين قُتل مظلوماً يُؤتى كفلين من الرّحمة ، معاوية وابنه مَلِكا الأرض المقدّسة ، والسّفاح وسلام ومنصور وجابر والمهدي والأمين وأمير العصب ، كلّهم من بني كعب ابن لؤي ، كلّهم صالح لا يوجد مثله .

قال الذهبي : له طُرق عن ابن عمر ، ولم يرفعه أحد )(١) .

فمن العجيب جدّاً ، أنْ يمتنع ابن عمر عن البيعة لأمير المؤمنين ، ثمّ يُبايع يزيد ويمدحه بمثل هذا الكلام ؟

بل إنّه كان لا يربّع بالإمامعليه‌السلام ، كما هو ظاهر الحديث المتقدّم وصريح الحديث في( كنز العمّال ) قال :

( عن عبد الله بن عمر قال : يكون على هذه الأُمّة اثنا عشر خليفة : أبو بكر الصدّيق أصبتم اسمه ، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، عثمان بن عفّان ذو النّورين قتل مظلوماً أُوتي كفلين من الرحمة ، ملك الأرض المقدّسة معاوية وابنه ، ثمّ يكون السفّاح والمنصور وجابر والأمين وسلام وأمير العصب ، لا يُرى مثله ولا يدرى مثله ، كلّهم من بني كعب بن لؤي... ) .

هذا، ولا يخفى أنّه في بعض نسخ ( الكتابين المذكورين ) نقل هذا الكلام عن ( عبد الله بن عمرو ) بدلاً عن ( عبد الله بن عمر )(٢) ، وسواء كان قائل

ـــــــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ١٦٧ ـ ١٦٨ .

(٢) كنز العمّال ١١ : ٢٥٢/ ٣١٤٢١ .

١٨٦

هذا الكلام ابن عمر أو ابن عمرو بن العاص أو كلاهما، فإنّه يدلُّ على كفر قائله وضلاله .

ابن عمر في نظر عائشة

وقد أكثرت عائشة من الردّ على عبد الله بن عمر ، وأبطلت قوله في مسائل عديدة ، فقد أخرج مسلم في ( الصحيح ) قال :

( حدّثني هارون بن عبد الله ، أخبرنا محمّد بن بكر البرساني ، أخبرنا ابن جريج قال : سمعت عطاء يخبر قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : كنت أنا وابن عُمر مُستندين إلى حجرة عائشة ، وإنّا لنسمع ضربها بالسواك تستن .

قال : فقلت : يا أبا عبد الرحمان ! اعتمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجب ؟

قال : نعم .

فقلت لعائشة : يا أُمّتاه ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمان ؟

قالت : وما يقول ؟

قلت : يقول : اعتمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجب .

فقالتْ : يغفر الله لأبي عبد الرحمان ، لعمري ما اعتمر في رجب ، وما اعتمر مِن عمرة إلاّ وإنّه لَمَعه .

قال : وابن عمر يسمع ، فما قال لا ولا نعم ، سكت )(١) .

وقال ابن القيّم في( زاد المعاد ) :

( أمّا عذر مَن قال : اعتمر في رجب ، فحديث عبد الله بن عمر : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح مسلم بن الحجاج ٢ : ٩١٦/ ١٢٥٥ كتاب الحج الباب ٣٥ .

١٨٧

 اعتمر في رجب ، متّفقٌ عليه ، وقد غلّطته عائشة وغيرها كما في الصحيحين عن مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة ، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحى ، قال : فسألناه عن صلاتهم ، فقال : بدعة ، قلنا له : كم اعتمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : أربعاً ، إحداهنّ في رجب فكرهنا أنْ نردّ عليه .

قال: وسمعنا استنان عائشة أمّ المؤمنين في الحجرة ، فقال عروة : يا اُمة أو يا أُمّ المؤمنين ! ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمان ؟

قالت : ما يقول ؟

قال : يقول : إنّ رسول الله اعتمر أربع عُمَر ، إحداهنّ في رجب .

قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمان، ما اعتمر [رسول الله] عمرة قط إلاّ وهو شاهد ، وما اعتمر في رجب قط وكذلك قال أنَس وابن عبّاس أنّ عمره كلّها كانت في ذي القعدة ، وهذا هو الصواب )(١) .

وفي( صحيح البخاري ) :

( عن مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة ، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحى .

قال : فسألناه عن صلاتهم ؟ فقال : بدعة ، ثمّ قال له : كم اعتمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : أربع ، إحداهنّ في رجب ، فكرهنا أنْ نردّ عليه .

قال : وسمعنا استنان عائشة أُمّ المؤمنين في الحجرة ، فقال عروة : يا أُمّاه ! يا أُمّ المؤمنين ! ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمان ؟

قالت : ما يقول ؟

ـــــــــــــــــــ

(١) زاد المعاد في هدي خير العباد ١ : ١٨٣ ـ ١٨٤

١٨٨

قال : يقول : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتمر أربع عمرات ، إحداهنّ في رجب .

قالت : يرحم الله أبا عبد الرحمان، ما اعتمر عمرةً إلاّ وهو شاهده ، وما اعتمر في رجب قط )(١) .

وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي مليكة :

( قال : توفّيت ابنة لعثمانرضي‌الله‌عنه بمكّة ، وجئنا لنشهدها ، وحضرها ابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم... فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان : ألا تنهى عن البكاء ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه ) .

فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : قد كان عمر يقول بعض ذلك... فذكرت ذلك لعائشة فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدّث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ الله ليعذّب المؤمن ببكاء أهله عليه ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( إنّ الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ) .

قال : وقالت عائشة : حسبكم القرآن( ... وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى... ) .

قال ابن أبي مليكة : والله ما قال ابن عمر شيئاً )(٢) .

وأخرج الطبراني عن موسى بن طلحة :

( قال : بلغ عائشة أنّ ابن عمر يقول : موت الفجأة سخطة على المؤمنين .

فقالت [عائشة] : يغفر الله لابن عمر ، إنّما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٣ : ٣ أبواب العُمرة ـ باب كم اعتمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٠١ كتاب الجنائز ـ باب قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُعذّب الميّت ببعض بكاء أهله عليه ، صحيح مسلم ٢ : ٦٤١/ ٩٢٨ كتاب الجنائز الباب ٩ .

١٨٩

: موت الفجأة تخفيفٌ على المؤمنين وسخطة على الكافرين )(١) .

وأخرج أحمد ، عن يحيى بن عبد الرحمان، عن ابن عمر ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(الشهر تسع وعشرون ) ، فذكروا ذلك لعائشة ، فقالت : يرحم الله أبا عبد الرحمن ، إنّما قال الشهر لم ترد يكون تسعاً وعشرين )(٢) .

وأخرج البخاري عن ابن عمر :

( إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :إنّ بلالاً يؤذّن بليل ، فكلوا واشربوا حتّى يؤذّن ابن أُمّ مكتوم )(٣) .

والبيهقي ، عن عروة ، عن عائشة :

( قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ابن أُمّ مكتوم رجلٌ أعمى ، فإذا أذّن فكلوا واشربوا حتّى يؤذّن بلال ، وكان بلال يبصر الفجر ، وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر )(٤) .

فقال ابن حجر بشرحه :

( جاء عن عائشة أيضاً أنّها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول : إنّه غلط ، أخرج ذلك البيهقي ، من طريق الدراودي ، عن هشام ، عن أبيه عنها ، فذكر الحديث وزاد : قالت عائشة : وكان بلال يبصر الفجر قال : وكانت عائشة تقول : غلط ابن عمر )(٥) .

ـــــــــــــــــــ

(١) المعجم الأوسط ٣ : ٤٠٢/ ٣١٥٠ .

(٢) مسند أ؛مد بن حنبل ٧ : ٧٧/ ٢٣٧٢٦ .

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٢٢٥ كتاب الشهادات ـ باب شهادة الأعمى .

(٤) سنن البيهقي ١ : ٣٨٢ .

(٥) فتح الباري ٢ : ٨١ .

١٩٠

ابن عمر عند سائر الصّحابة

وهكذا ، فقد ردّ عليه سائر الصحابة أقواله وأبطلوا آرائه ، قال السيوطي في كتاب( الإتقان في علوم القرآن ) :

( وإنْ عبّر واحدٌ بقوله : نزلت في كذا ، وصرّح الآخر بذكر سبب خلافه ، فهو المعتمد وذاك استنباط ، مثاله : ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال : أُنزلت( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ... ) في إتيان النساء في أدبارهنّ ، وتقدّم عن جابر التصريح بذكر سبب خلافه ، فالمعتمد حديث جابر ؛ لأنّه نقل ، وقول ابن عمر استنباط منه ، وقد وهّمه فيه ابن عبّاس ، وذكر مثل حديث جابر ، كما أخرجه أبو داود والحاكم )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ : ١١٧

١٩١

عبد الله بن عمرو بن العاص

وأمّا عبد الله بن عمرو بن العاص ، فتفسيره كان ( ممّا يحمله عن أهل الكتاب ) كما نصَّ عليه السيوطي ، وهذا يكفي للدلالة على عدم الاعتبار بتفسيره .

وتوضيح ذلك : أنّه ذكروا أنّه قد حصل في حرب اليرموك على كتب لأهل الكتاب ، فكان ينقل عنها الأخبار الإسترائيليّات ويحدّث بها ، ولذا قسّموا الصحابي إلى مَن أخذ عن الإسرائيليّات ومَن لم يأخذ ، قال القاري :

( الذي عرف بالنظر في الإسرائيليّات ، أي مِن كتب بني إسرائيل أو مِن أفواههم... كعبد الله بن سلام وكعبد الله بن عمرو بن العاص ، فإنّه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من أهل الكتاب ، وكان يُخبر بما فيها مِن الأُمور المغيَّبة ، حتّى كان بعض أصحاب رسول الله ربّما قال : حدِّثْنا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تحدّثنا من الصحيفة ذكره السخاوي)(١) .

وقال اللقاني في( الوطر مِن نزهة النظر ) :

((مثال الصحابي الذي لم يأخذ ع الإسرائيليّات : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ .

ومثال من أخذ : عبد الله بن سلام ، وقيل : عبد الله بن عمرو بن العاص ، فإنّه لمّا فتح الشام ، أخذ حمل بعير من كتب أهل الكتاب وكان يحدّث منها ، فلذا اتّقاه الناس فقلَّ حديثه ، وإنْ كان أكثر حديثاً مِن أبي هريرة باعترافه ،

ـــــــــــــــــــ

(١) شرح شرح نخبة الفكر : ٥٤٩ .

١٩٢

والمراد بها قصص بني إسرائيل وما جاء في كتبهم ) .

وعلى الجملة ، فالرجل ممّن يُتّقى حديثه... فلا حاجة إلى ذكر سائر مطاعنه... ومع ذلك نذكر شيئاً منها :

خروجه لقتال الإمام في صفّين

ومن أعظم معاصيه ، بل من أكبر الأدلّة على كفره : خروجه لحرب أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفّين ، ثمّ إنشاؤه الأشعار في التبجّح والافتخار بذلك !

فقد أخرج الحاكم في( المستدرك ) قال :

( قال له أبوه يوم صفّين : أخرج فقاتل قال : يا أبتاه ، أتأمرني أنْ أخرج فأُقاتل ، وقد كان من عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قد سمعت ، قال : أُنشدك بالله ، أتعلم أنّ ما كان من عهد رسول الله إليك أنّه أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال : أطع أباك عمرو بن العاص ؟ قال : نعم ، قال : فإنّي آمرك أنْ تقاتل ، قال : فخرج يُقاتل ، فلمّا وضعت الحرب ، قال عبد الله :

لو شهدت جمل مقامي ومشهدي

بصفّين يوم شاب منها الذوائب

عشيّة جاء أهل العراق كأنّهم

سحاب ربيع زعزعته الجنائب

إذا قلت قد ولّوا سراعاً ثبتت لنا

كتائب منم وارجحنّت كتائب

فقالوا لنا إنّا نرى أن تبايعوا

عليّاً فقلنا بل نرى أنْ تضاربوا)

وقال ابن الأثير في( أُسد الغابة ) :

( وكانت معه راية أبيه يوم اليرموك ، وشهد معه أيضاً صفّين ، وكان على

ـــــــــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٥٢٧ كتاب معرفة الصحابة .

١٩٣

الميمنة ، قال له أبوه : يا عبد الله ، اُخرج فقاتل .

فقال : يا أبتاه أتأمرني أنْ أخرج فأُقاتل ، وقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعهد إليِّ ما عهد ؟ قال : إنّي أُنشدك الله يا عبد الله ، ألم يكن آخر ما عهد إليك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنْ أخذَ بيدك ووضعها في يدي وقال :( أطع أباك ) ؟

قال : اللّهمّ بلى .

قال : فإنّي أعزم عليك أنْ تخرج فتقاتل .

فخرج وتقلّد سيفين .

وندم بعد ذلك ، فكان يقول : مالي ولصفّين ، مالي ولقتال المسلمين ، لوددت أنّي متُّ قبله بعشرين سنة )(١) .

قالوا : ولمّا عرض عمرو بن العاص على أبي موسى ابنه عبد الله بن عمرو ، قال أبو موسى : ( قد غمست يده في هذه الفتنة ، ولا يكون ذلك )(٢) .

هذا ، وقد نصّ بعض علماء القوم على أنّ محاربة الإمام أمير المؤمنين من أعظم الكبائر(٣) .

تكذيب معاوية روايته

والعجب أنّه مع ذلك ، يكذّب معاوية في روايةٍ رواها ، ويحذّر الناس من أن يقبلوها، فقد روى البخاري في ( الصحيح ) :

ـــــــــــــــــــ

(١) أُسد الغابة في معرفة الصحابة ٣ : ٢٤٦/ ٣٠٩٠ .

(٢) الفصول المهمّة : ٩٩ ، تذكرة خواصّ الأُمّة في معرفة الأئمّة : ٩٧ .

(٣) التحفة الاثنا عشريّة : ٣٨٨

١٩٤

 ( عن الزهري قال : كان محمّد بن جُبير بن مطعمٍ يحدّث أنّه بلغ معاوية ـ وهو عنده في وفدٍ مِن قريش ـ أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص يحدّث أنّه سيكون ملك من قحطان .

فغضب معاوية ، فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثمّ قال :

أمّا بعد ، فإنّه بلغني أنّ رجالاً منكم يتحدّثون أحاديث ليست في كتاب الله ، لا تؤثر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأولئك جهّالكم ، فإيّاكم والأماني التي تضلّ أهلها ، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( إنّ هذا الأمر في قريش ، لا يعاديهم أحد إلاّ كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين ) )(١) .

أقول :

فهذا مجمل أحوال المفسّرين عند القوم من الصحابة .

وإذا ثبت جرحهم ، فلا حاجة إلى التكلّم في أحوال أئمّة التفسير منهم في سائر الطبقات ، كما هو واضح .

ومع ذلك ننتقل إلى طبقة التابعين...

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٤ : ٢١٧ ـ ٢١٨ كتاب المناقب ـ باب مناقب قريش .

١٩٥

طبقة التابعين

قال السيوطي :

( ومن ذلك طبقة التابعين .

قال ابن تيميّة : أعلم الناس بالتفسير أهل مكة ؛ لأنّهم أصحاب ابن عبّاس ، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عبّاس وسعيد بن جُبير وطاووس وغيرهم وكذلك في الكوفة أصحاب ابن مسعود ، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم ، الذي أخذ عنه ابنه عبد الرحمان ابن زيد ، ومالك بن أنَس .

فمن المبرّزين منهم : مجاهد ، قال الفضل بن ميمون : سمعت مجاهداً يقول : عرضت القرآن على ابن عبّاس ثلاثين مرّة .

وعنه أيضاً قال : عرضت المصحف على ابن عبّاس ثلاث عرضات ، أقف عند كلّ آية منه وأسأله عنها ، فيم نزلت وكيف كانت .

وقال خصيف : كان أعلمهم بالتفسير مجاهد .

وقال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .

وقال ابن تيميّة : ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم .

قلت : وغالب ما أورده الفريابي في تفسيره منه ، وما أورده فيه عن ابن عبّاس أو غيره قليل جدّاً.

ومنهم : سعيد بن جُبير ، قال سفيان الثوري : خذوا التفسير عن أربعة :

عن سعيد بن جُبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك .

وقال قتادة : كان أعلم التابعين أربعة : كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جُبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسيَر ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام .

ومنهم : عكرمة مولى ابن عبّاس ، قال الشعبي : ما بقي أحد أعلم بكتاب الله مِن عكرمة وقال سماك بن حرب : سمعت عكرمة يقول : لقد فسّرت ما بين اللّوحين ، وقال عكرمة : كان ابن عبّاس يجعل في رجلي الكبل ، ويعلّمني القرآن والسنن ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سماك قال : قال عكرمة : كلّ شيء أُحدّثكم في القرآن فهو عن ابن عبّاس .

١٩٦

ومنهم : الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء بن أبي سلمة الخُراساني ، ومحمّد بن كعب القرظي ، وأبو العالية، والضحاك بن مزاحم، وعطيّة العوفي ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، ومرّة الهمداني ، وأبو مالك .

ويليهم : الربيع بن أنَس ، وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم ، في آخرين .

فهؤلاء قدماء المفسّرين ، وغالب أقوالهم تلقّوها عن الصحابة )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٤٠ ـ ٢٤٢ .

١٩٧

مجاهـد

أمّا مجاهد ، الذي عرفته كما نقل السيوطي ، بل نص الذهبي في( ميزان الاعتدال ) على إجماعهم على إمامته وصحّة الاحتجاج به ، وأنّه أحد الأعلام الأثبات ، ونقل الشيخ عبد الحق الدهلوي بترجمته في( رجال المشكاة ) عنه قوله : ( كان ابن عُمَر يأخذ لي في الركاب ويسوّي عليَّ ثيابي )

تفسيره من أهل الكتاب

فقد أورده الذهبي في( ميزان الاعتدال ) ، وذكر أنّ ابن حبّان أدرجه في الضعفاء ، قال : ( قال أبو بكر ابن عيّاش : قلت للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف ، أو شيء نحوه ؟ قال : أخذها من أهل الكتاب )(١)

اشتماله على المنكرات الشديدة

قال الذهبي :

( ومَن أنكر ما جاء عن مجاهد في التفسير ، في قوله :( ...عَسَى أَن يَبْعَثَكَ

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٤٣٩/ ٧٠٧٢ .

١٩٨

رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ) قال : يجلسه معه على العرش )(١) .

فيا سبحان الله !! هذا حال تفسير أعلم التابعين بعلم التفسير ، والتفسير الذي عرض على ابن عبّاس ثلاثين مرّة !! وإذا كان هذا حاله فما ظنّك بسائر تفاسيرهم ؟

نسبته المعصية إلى يوسفعليه‌السلام

وقال الرّازي في ( تفسيره ) في قصّة يوسفعليه‌السلام :

( وأمّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسفعليه‌السلام ، فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أُموراً :

الأوّل : قالوا : إنّ المرأة قامت إلى صنم مكلّل بالدرّ والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال يوسف : لِمَ فعلت ذلك ؟ قالت : أستحيي من آلهي أنْ يراني على معصية ، فقال يوسف : أتستحين مِن صنم لا يعقل ولا يسمع ، ولا أستحيي مِن إلهي القائم على كلّ نفسٍ بما كسبت ، فو الله لا أفعل ذلك أبداً قالوا : فهذا هو البرهان .

الثاني : نقلوا عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه تمثّل له يعقوب ، فرآه عاضّاً على أصابعه ويقول له : أتعمل عمل الفجّار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء ؟ قالوا : فاستحيى منه ، وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جُبير ومقاتل وقتادة والضحّاك وابن سيرين .

قال سعيد بن جُبير : تمثّل له يعقوب ، فضرب في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله... )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال ٣ : ٤٣٩/ ٧٠٧٢ .

(٢) تفسير الرازي ١٨ : ١٢٠ .

١٩٩

وقد نصّ الرازي على أنّ مَن نسب المعصية إلى يوسف فهو شرّ من إبليس ؛ لأنّه ـ بعد أنْ ذكر شهادة الله ، وشهادة من شهد ببراءة يوسف ، وكذا إقرار إبليس بذلك ـ قال :

( وعند هذا نقول : هؤلاء الجهّال الذين نسبوا إلى يوسفعليه‌السلام هذه الفضيحة ، إنْ كانوا مِن أتباع دين الله تعالى ، فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته ، وإنْ كانوا مِن أتباع إبليس وجنوده ، فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ، ولعلّهم يقولون : كنّا في أوّل الأمر تلامذة إبليس ، إلى أنْ تخرّجنا عليه ، فزدنا عليه في السفاهة... )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) تفسير الرازي ١٨ : ١١٧ .

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) )

التّفسير

الأخبار الغيبيّة هي من عند الله وحده

نصل في هذا القسم من الآيات إلى «المقطع العاشر» وهو القسم الأخير من الآيات التي تتعلق بقصّة موسى وما تحمله من معان كبيرة!.

وهي تتحدث عن نزول الأحكام ، والتوراة ، أي إنّها تتحدث عن انتهاء الدور السلبي «الطاغوت» وبداية «الدور الإيجابي» والبناء!.

٢٤١

يبدأ هذا المقطع بالآية التالية( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

والكلام في أنّ المقصود من «القرون الأولى» أي الأقوام السابقين من هم؟!

قال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى الكفّار من قوم نوح وعاد وثمود وأمثالهم لأنّه بتقادم الزمان ومضيّه تمحى اثار الأنبياء السابقين ، ويلزم من ذلك وجود كتاب سماويّ جديد في أيدي البشر!.

وقال بعض المفسّرين : هو إشارة إلى هلاك قوم فرعون الذين كانوا بقايا الأقوام السابقين ، لأنّ الله سبحانه آتى موسى كتاب «التّوراة» بعد هلاكهم.

ولكنّه لا مانع من أن يكون المقصود بالقرون الأولى في الآية شاملا لجميع الأقوام.

و «البصائر» جمع «بصيرة» ومعناها الرؤية ، والمقصود بها هنا الآيات والدلائل التي تستوجب إنارة قلوب المؤمنين و «الهدى» و «الرحمة» أيضا من لوازم البصيرة وعلى أثرها تتيقظ القلوب(١) .

ثمّ يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما ذكرناه لك «يا رسول الله ، في شأن موسى وفرعون وما جرى بينهما بدقائقه ، هو في نفسه دليل على حقانيّة القرآن ، لأنّك لم تكن «حاضرا» في هذه «الميادين» التي كان يواجه موسى فيها فرعون وقومه! ولم تشهدها بعينيك بل هو من الطاف الله عليك ، إذ أنزل عليك هذه الآيات لهداية الناس يقول القرآن :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ) أي الأمر بالنبوّة( وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) .

الذي يجلب الانتباه ويستلفت النظر هنا أنّ موسىعليه‌السلام حين سار من مدين إلى مصر مرّ في طريق سيناء ، وكان بهذا الاتجاه يسير من الشرق نحو الغرب.

__________________

(١) «البصائر» جمع «بصيرة» وأمّا «البصر» فجمعه «أبصار».

٢٤٢

وعلى العكس من ذلك مسير بني إسرائيل حين جاءوا من مصر إلى الشام ومرّوا عن طريق سيناء ، فإنّهم يتجهون بمسيرهم من الغرب نحو الشرق ولذلك يرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الآية(٦٠) ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ ) في سورة الشعراء التي تتحدث عن متابعة فرعون وقومه لبني إسرائيل ، هو إشارة إلى هذا المعنى!

ثمّ يضيف القرآن( وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) وتقادم الزمان حتى اندرست آثار الأنبياء وهدايتهم في قلوب الناس ، لذلك أنزلنا عليك القرآن وبيّنا فيه قصص الماضين ليكون نورا وهدى للناس.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ) [أي على أهل مكة]( آياتِنا ) (١) ( وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) وأوحينا إليك هذه الأخبار الدقيقة التي تتحدث عن آلاف السنين الماضية لتكون عبرة للناس وموعظة للمتقين(٢) .

وتأكيدا على ما سبق بيانه يضيف القرآن الكريم قائلا :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ ) (٣) ( إِذْ نادَيْنا ) اي نادينا موسى بأمر النبوّة ، ولكننا أنزلنا إليك بهذه الاخبار رحمة من الله عليك( وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وخلاصة الكلام : أنّ الله أخبرك يا محمّد بالحوادث التي فيها إيقاظ وإنذار لما جرى في الأقوام السابقين ، ولم تكن فيهم من الشاهدين ، لتتلو كل ذلك على

__________________

(١) «ثاوي» مشتق من (ثوى) ومعناه الإقامة المقرونة بالاستقرار ، ولذا سمّي المستقر والمكان الدائم بالمثوى.

(٢) كان بين ظهور موسىعليه‌السلام وظهور النّبي (محمّد)صلى‌الله‌عليه‌وآله حدود ألفي عام.

(٣) قال بعض المفسّرين : يحتمل أن يكون المراد من «نادينا» هنا هو النداء الثّاني عند ما جاء موسى وسبعون رجلا من قومه إلى الطور ، فجاءه النداء من الله ، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا ؛ لأنّ هذه الآيات تشير إلى المسائل التي أخبر عنها النّبي في الآيات المتقدمة في حين أنّه لم يكن حاضرا هناك ولم يكن من الشاهدين ، ونعرف أن الآيات المتقدمة تتحدث عن حركة موسى من مدين باتجاه مصر ، وسماعه النداء من قبل الله لأول مرّة في وادي الطور «فلاحظوا بدقة».

٢٤٣

قومك الذين هم على ضلال لعلهم يهتدون ولعلهم يتذكرون.

هنا ينقدح هذا السؤال : كيف يقول القرآن :( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) [أي العرب المعاصرين للنبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ] في حين أنّنا نعرف أن الأرض لا تخلو من حجّة لله ، وكان بين العرب أوصياء للأنبياء السابقين (كأوصياء عيسىعليه‌السلام ).

وفي الجواب على ذلك نقول : المقصود من ذلك هو إرسال رسول يحمل إلى قومه كتابا سماويّا بيّنا لأنّ بين عصر عيسىعليه‌السلام وظهور نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله قرونا مديدة ، ولم يأت بين عيسى والنبيّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ من أولي العزم ، ولذلك فقد كان هذا الموضوع ذريعة للملحدين والمفسدين.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في هذا الصدد «إن الله بعث محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة ، فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم»(١) .

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣٣.

٢٤٤

الآيات

( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) )

التّفسير

ذريعة للفرار من الحق :

حيث أن الآيات ـ آنفة الذكر ـ كانت تتحدث عن إرسال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لينذر قومه ، ففي هذه الآيات يبيّن القرآن ما ترتب من لطف الله على وجود النّبي في

٢٤٥

قومه فيقول : إنّنا وقبل أن نرسل إليهم رسولا إذا أردنا إنزال العذاب عليهم بسبب ظلمهم وسيئاتهم قالوا : لما ذا لم ترسل لنا رسول يبيّن لنا أحكامك لنؤمن به( وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

هذه الآية تشير إلى موضوع دقيق ، وهو أن طريق الحقّ واضح وبيّن وكل «عقل» حاكم ببطلان الشرك وعبادة الأصنام وقبح كثير من الأعمال التي تقع نتيجة الشرك وعبادة الأصنام ـ كالمظالم وما شاكلها ـ هي من مستقلات حكم العقل ، وحتى مع عدم إرسال الرسل ، فإنّ العقوبة على مثل هذه الأمور ممكنة.

ولكن الله سبحانه حتى في هذا المجال ومع وضوح حكم العقل فيه أرسل الرسل مع الكتب السماوية والمعاجز الساطعة ، إتماما للحجّة ونفيا للعذر ، لئلا يقول أحد : إنّما كان شقاؤنا بسبب عدم وجود الدليل ، إذ لو كان فينا قائد إلهي لكنّا من أهل الهداية ومن الناجين.

وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أن سنة الله قائمة على عدم تعذيب أية أمة قبل إرسال الرسل إليها ، ونقرأ في سورة النساء الآية (٦٥) أيضا( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

ثمّ تتحدّث الآيات عن معاذير أولئك ، وتشير إلى أنّهم ـ بعد إرسال الرسل ـ لم يكفّوا عن الحيل والذرائع الواهية ، واستمروا على طريق الانحراف ، فتقول الآية :( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى ) .

__________________

(١) يصرّح كثير من المفسّرين أنّ جواب «لولا» الأولى محذوف وتقديره «لما أرسلنا رسولا» أو «لما وجب إرسال الرسل» وبديهيّ أنّ التعبير الثّاني أكثر دقّة ووضوحا وعلى كل حال فهذا الكلام مربوط بأحكام يدركه العقل مستقلا وإلّا فإن إرسال الرسل ضروريّ بدلائل أخرى ، على أنّ واحدا من فوائد إرسال الرسل ـ أيضا ـ هو تأكيد الأحكام العقلية كبطلان الشرك وقبح الظلم والفساد «فلاحظوا بدقّة».

٢٤٦

فلم لم تكن عصا موسى في يده؟ ولم لا تكون يده بيضاء «كيد موسى»؟ ولم لا ينشقّ البحر له كما انشقّ لموسى؟! ولم لم إلخ.

فيجيب القرآن على مثل هذه الحجج ، ويقول :( أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا ) أي موسى وهارون ، تعاونا فيما بينهما ليضلونا عن الطريق( وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

والتعبير بـ «سحران» بدلا عن «ساحران» هو لشدة التأكيد ، لأنّ العرب حين تريد التأكيد على شخص في خصلة ما تقول : هو العدل بعينه ، أو بعينه ، أو السحر وهكذا.

كما يرد هذا الاحتمال ـ أيضا ـ وهو : إنّ مقصودهم المعجزتين العظيمتين لموسىعليه‌السلام وهما عصاه ويده البيضاء!

وإذا قيل : ما علاقة هذا الإنكار بمشركي مكّة ، فهذه الأمور متعلقة بفرعون وقومه السابقين؟

فالجواب على ذلك واضح وهو أن التذرع بالحجج الواهية ليس أمرا جديدا فجميعهم من نسيج واحد ، وكلامهم يشبه كلام السابقين تماما ، وخطهم وطريقتهم ومنهجهم على شاكلة واحدة.

التفسير الواضح للآية ما قلناه آنفا ، إلّا أن بعض المفسّرين فسّروا الآية تفسيرا آخر وقالوا : إنّ المقصود بقوله تعالى :( سِحْرانِ تَظاهَرا ) هو «النّبي موسى ونبي الإسلام العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله » لأنّ مشركي العرب كانوا يقولون : إن كليهما ساحران وإنّا بكلّ كافرون.

وقد نقلوا في هذا الصدد حادثة تاريخية ، وهي أنّ أهل مكّة بعثوا جماعة منهم إلى اليهود في بعض أعيادهم ، وسألوهم عن نبي الإسلام «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله أهو نبيّ حقّا؟! فأجابوا : إنّهم وجدوا مكتوبا عندهم في التوراة «بأوصافه»!. فرجع

٢٤٧

المبعوثون إلى مشركي مكّة ونقلوا لهم ما جرى بينهم وبين اليهود ، فقالوا :( سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

ولكن بملاحظة هاتين النقطتين يبدو هذا التّفسير بعيدا جدّا :

الأولى : أنّه قلّ أن يرى في التاريخ والرّوايات أن مشركي العرب يتهمون موسى بكونه ساحرا.

الثّانية : كيف يمكن لأحد أن يدعي أن موسى ومحمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ساحران يعين أحدهما الآخر مع وجود فاصلة زمنية بينهما تقدّر بالفي عام.

ترى هل يمكن لساحر قبل آلاف السنين أن يعرف من سيأتي في المستقبل؟! وماذا سيقول؟!

وعلى كل حال فإنّ مشركي مكّة المعاندين كانوا يصرّون على أنّه لم لم يأت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمعاجز كمعاجز موسى ، ومن جهة أخرى لم يكونوا يعترفون بما يجدونه في «التوراة» من علائمه وأوصافه ولا يؤمنون بالقرآن المجيد وآياته العظيمة لذا يخاطب القرآن النّبي محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله ليتحداهم بأن يأتوا بكتاب أسمى من القرآن!!( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

وبتعبير آخر : إنّهم كانوا يبحثون عن كتاب هداية وعن معاجز!!

فأي كتاب هداية أعظم من القرآن؟! وأية معجزة أسمى منه؟!

ولو لم يكن عند النّبي شيء آخر سوى القرآن لكان كافيا في إثبات دعوته الحقة! ولكنّهم لم يكونوا طلّاب حق ، بل أصحاب حجج واهية فحسب!

ثمّ يضيف القرآن( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) لأنّ أي إنسان إذا لم يتبع هواه فإنّه سيذعن لهذا الاقتراح ، لكن أولئك لم يكونوا على صراط مستقيم ، ولذلك يرفضون كل مقترح بذريعة جديدة!.

٢٤٨

ولكن من أضيع منهم( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

ولو كانوا طلّاب حقّ وقد أضلوا سبيلهم ، فإنّ لطف الله سيشملهم بمقتضى الآية الكريمة( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) ولكنّهم ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم الذي يعيشون فيه ، فلا هدف لهم سوى اللجاجة والعناد فكيف يهديهم الله ويعينهم؟!

* * *

ملاحظة

اتباع الهوى مدعاة للظلال :

في الآيات المتقدمة بيّنت العلاقة بين الهوى والضلال بصراحة ، وقد عبّر فيها عن المتبعين هواهم بأضلّ النّاس ، وأنّهم لم يحظو بهداية الله.

هوى النفس حجاب كبير أمام نظر العقل.

هوى النفس يشدّ الإنسان بالشيء ويجعل قلبه متعلقا به إلى درجة تفقده القدرة على فهم الحقائق ودركها لأنّ التسليم المطلق إزاء الواقعيات ، وترك التعلق بالشيء والتسرّع بالحكم ، شرط لدرك الحقائق التسليم دون قيد أو شرط إزاء الواقع الخارجي ، مرا كان أم عذبا ، موافقا لرغبات النفس أم مخالفا ، منسجما مع المصالح والمنافع الشخصية أم غير منسجم لكن هوى النفس لا يتفق مع هذه الأصول!.

وفي هذا المجال كان لنا بحث مسهب في ذيل الآية (٤٣) من سورة الفرقان.

ومن الطريف هنا أنّ روايات عديدة تفسّر الآية بأنّ المراد منها من ترك إمامه

٢٤٩

وقائده الإلهي واتبع هواه(١) .

وهذه الرّوايات المنقولة عن الإمام الباقرعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام وبعض الائمّة الطاهرينعليهم‌السلام هي من قبيل المصداق البارز وبتعبير آخر : إنّ الإنسان محتاج لهداية الله هذه الهداية تارة تنعكس في كتاب الله ، واخرى في وجود النّبي وسنته ، وأخرى في وأوصيائه المعصومين ، وأخرى في منطق العقل.

المهم أن يكون الإنسان في خطّ الهداية الإلهية غير متبع لهواه ، ليستطيع أن يستضيء بهذه الأنوار.

* * *

__________________

(١) هذه الرّوايات في أصول الكافي وبصائر الدرجات طبقا لما في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٣٢.

٢٥٠

الآيات

( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) )

سبب النّزول

نقل المفسّرون ورواة الأخبار روايات كثيره ومختلفة في شأن نزول الآيات المتقدمة ، والجامع المشترك فيها واحد ، وهو إيمان طائفة من علماء اليهود والنصارى والأفراد الذين يتمتعون بقلوب طاهرة ـ بالقرآن ونبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعن «سعيد بن جبير» أن هذه الآيات نزلت في سبعين قسّا مسيحيا بعثهم النجاشي من الحبشة إلى مكّة للتحقيق والاطلاع على دين النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا

٢٥١

قرأ عليهم نبيّ الإسلام سورة «يس» دمعت عيونهم شوقا وأسلموا(١) .

وقال بعضهم : هذه الآيات نزلت في نصارى نجران «مدينة في شمال اليمن» جاءوا إلى النّبي فسمعوا آيات القرآن فآمنوا به(٢) .

وقال آخرون : بل نزلت في النجاشي وقومه.(٣)

كما يرى بعضهم أنّها نازلة في «سلمان الفارسي» وجماعة من علماء اليهود ، كعبد الله بن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وأضرابهم(٤) .

وأخيرا فإنّ بعضهم يرى أنّ الآيات تشير إلى أربعين عالما مسيحيا من ذوي الضمائر حيّة والنيرة ، جاء اثنان وثلاثون منهم مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، وثمانية آخرون من الشام ، من بينهم «بحيرا» الراهب الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلموا.(٥)

وبالطبع فإنّ الرّوايات الثلاث تتناسب مع نزول الآيات في مكّة ، كما أنّها تدعم قول من يرى بأن جميع آيات هذه السورة مكية. ولكن الرواية الرابعة والرواية الخامسة تدلّان على أن هذه الآيات الآنفة نزلت بالمدينة استثناء ، كما أنّهما تدعمان قول القائلين على أنّ الآيات المتقدمة مدنية لا مكية.

وعلى كل حال فإن هذه الآيات «شواهد بليغة» تدل على أن جماعة من علماء أهل الكتاب أعلنوا إسلامهم حين سمعوا آيات القرآن لأنّه لا يمكن لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول مثل هذا. ولم يكن أحد من أهل الكتاب قد آمن به بعد لأنّ المشركين كانوا ينهضون فورا ويقومون بالصياح والضجيج لتكذيب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٣٥٧ ، و ٣٥٨.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٥٨.

(٥) المصدر السابق.

٢٥٢

التّفسير

طلاب الحق من أهل الكتاب آمنوا بالقرآن :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن حجج المشركين الواهية أمام الحقائق التي يقدّمها القرآن الكريم ، فإنّ هذه الآيات محل البحث تتحدث عن القلوب المهيّأة لقبول قول الحق والتي سمعت هذه الآيات اهتدت الإسلام وبقي أصحابها متمسكين بالإسلام أوفياء له في حين أنّ قلوب الجاهليين المظلمة لم تتأثر بها. ، يقول القرآن في هذا الصدد : لقد أنزلنا لهم آيات القرآن تباعا( وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (١) .

هذه الآيات نزلت عليهم نزول المطر المتصلة قطراته وجاءت الآيات على أشكال متنوعة ، وكيفيات متفاوتة ، فتارة تحمل الوعد بالثواب ، وتارة الوعيد بالنّار ، وأخرى الموعظة والنصيحة ، وأخرى تنذر وتهدد. وأحيانا تحمل استدلالات عقلية ، وأحيانا تحمل قصص الماضين وتأريخهم المليء بالعبر ، وخلاصة كاملة من الأحداث المتجانسة التي يؤمن بها أي قلب فيه أقل استعداد للإيمان ، حيث أنّها تجذب القلوب إليها إلّا أن عمي القلوب لم يذعنوا لها.

إلّا أنّ (اليهود والنصارى)( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) . لأنّهم يرونه منسجما مع ما ورد في كتبهم السماوية من علامات ودلائل!.

ومن الطريف هنا أنّهم كانوا جماعة من «أهل الكتاب» ، إلّا أن الآيات المتقدمة تحدثت عنهم بأنّهم «أهل الكتاب» دون قيد أو تبعيض أو أي شيء آخر ، ولعلها تشير إلى أنّهم أهل الكتاب حقّا ، أمّا سواهم فلا.

__________________

(١) «وصّلنا» مأخوذ من مادة «وصل» أي ربط ، وحيث أنّها جاءت من باب التفعيل ، فهي تدل على الكثرة ، ويستفاد منها التأكيد أيضا

٢٥٣

ثمّ يضيف القرآن في وصفهم قائلا :( وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ) .

أجل : كانت تلاوة الآيات عليهم كافية لأن يقولوا «آمنا» ثمّ يضيف القرآن متحدثا عنهم : إنّنا مسلمون لا في هذا اليوم فحسب ، بل( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) إنّنا وجدنا علائم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبنا السماوية وتعلقت قلوبنا به ، وانتظرناه بفارغ الصبر ـ وفي أوّل فرصة وجدنا بها ضالتنا أمسكنا بها ـ وقبلناه «بقلوبنا وأرواحنا».

ثمّ يتحدث القرآن الكريم عن هذه الجماعة التي آمنت بالنّبي من غير تقليد أعمى ، وإنّما طلبا للحق ، فيقول :( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ) .

فمرّة لإيمانهم بكتابهم السماويّ الذي كانوا صادقين أوفياء لعهدهم معه ومرّة أخرى لإيمانهم بنبيّ الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله النّبي الموعود المذكور عندهم في كتبهم السماوية.

ويحتمل ـ أيضا ـ كما هو مستفاد من الآيات المتقدمة ، إنّما يؤتون أجرهم مرتين ؛ لأنّهم آمنوا بنبي الإسلام قبل ظهوره ، وحين ظهر لم يكفروا به بل آمنوا به كذلك.

وهؤلاء بذلوا جهدا وصبروا زمانا طويلا ليؤدوا ما عليهم من وظيفة ومسئولية ولم يرض بأعمالهم المنحرفون من اليهود ولا النصارى ، ولم يسمح لهم تقليد السابقين والجوّ الاجتماعي أن يتركوا دينهم ويسلموا ، إلّا أنّهم وقفوا وصبروا وتجاوزوا هوى النفس والمنافع الذاتية ، فنالوا ثواب الله وأجره مرّتين.

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى بعض أعمالهم الصالحة من قبيل «دفع السيئة بالحسنة» و «الإنفاق ممّا رزقهم الله» و «المرور الكريم باللغو والجاهلين» وكذلك الصبر والاستقامة ، وهي خصال أربع ممتازة.

٢٥٤

حيث يقول في شأنهم القرآن الكريم :( وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) .

يدرءون بالكلام الطيب الكلام الخبيث ، وبالمعروف المنكر ، وبالحلم الجهل والجاهلين ، وبالمحبّة العداوة والبغضاء ، وبصلة الرحم من يقطعها ، والخلاصة أنّهم بدلا من أن يدفعوا السيئة بالسيئة فإنّهم( يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ! ) .

وهذا أسلوب مؤثر جدّا في مواجهة المفاسد ومبارزتها ، ولا سيما في مواجهة اللجوجين والمعاندين.

وقد أكّد القرآن الكريم على هذا الأسلوب مرارا وكرارا ، وقد سبق أن بحثنا في هذا المجال بشرح مبسّط في ذيل الآية (٢٢) من سورة الرعد وذيل الآية (٦٩) من «سورة المؤمنون».

والخصلة الأخرى في هؤلاء الممدوحين بالقرآن أنّهم( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

وليس الإنفاق من الأموال فحسب ، بل من كل ما رزقهم الله من العلم والقوى الفكرية والجسميّة والوجاهة الاجتماعية ، وجميع هذه الأمور من مواهب الله ورزقه ـ فهم ينفقون منها في سبيل الله!.

وآخر صفة ممتازة بيّنها القرآن في شأنهم قوله :( وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) .

ولم يردّوا الجهل بالجهل واللغو باللغو ، بل( قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) .

فلا تحاسبون بجريرة أعمالنا ، ولا نحاسب بجرمكم وجريرة أعمالكم ، ولكن ما أسرع ما سيجد كل منّا نتيجة عمله.

ثمّ يضيف القرآن في شأنهم حين يواجهون الجاهلين الذين يتصدون لإثارة المؤمنين باللغو وما شاكله ، حيث يقولون :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ) .

فلسنا أهلا للكلام البذيء ، ولا أهلا للجهل والفساد ، ولا نبتغي ذلك ، إنّما

٢٥٥

نبتغي العلماء وأصحاب الضمائر الحيّة والعاملين المؤمنين الصادقين.

وعلى هذا فبدلا من أن يهدروا قواهم في مواجهة الجاهلين عمي القلوب وأهل الكلام البذي ، يمرون عليهم كراما ليؤدوا أهدافهم ومناهجهم الأساسية.

الجدير بالذكر أنّ هؤلاء حين يواجهون الجاهلين ، لا يسلّمون عليهم سلام تحية واستقبال ، بل سلام وداع.

* * *

ملاحظة!

القلوب المهيّأة للإيمان :

رسمت الآيات المتقدمة للقلوب التي تقبّلت بذور الإيمان رسما جميلا وبليغا.

فهي ليست من نسيج الأشخاص الانتهازيين الذين ملئت قلوبهم من التعصب والجهل ، والكلام البذيء السيء الفارغ ، والبخل والحقد ، وما إلى ذلك!!.

إنّ هؤلاء العظماء من الرجال والنساء حطموا قبل كلّ شيء القيود التي فرضها التقليد الأعمى ، ثمّ أصغوا بكلّ دقّة إلى نداء التوحيد ، وحين وجدوا الدلائل الحقة بقدر كاف استجابوا له!.

ولا شكّ أن على هؤلاء أن يدفعوا ثمنا غاليا ، لأنّهم خرجوا عن طوق التقليد الأعمى وحطموا أغلاله ، وتحرروا عن محيطهم المنحرف ، وعليهم أن يتحملوا الكثير من المشاكل والمتاعب في هذا السبيل ولكنّهم يتمتعون بصبر واستقامة في سبيل هدفهم الكبير ما يعينهم على تحمل تلك الشدائد والمصاعب

فهؤلاء ليسوا حاقدين ، ولا يردون السوء بالسوء ، ولا هم بخلاء ولا خسيسون ، ليجعلوا المواهب الإلهية خاصة بهم!.

إنّهم أناس عظام بعيدون عن الكذب والانشغال غير الصحيح ، والكلام

٢٥٦

الفارغ الركيك ، والمزاح وغيره.

لهم ألسنة طيبة وقلوب أطيب ، ولا يضيعون طاقاتهم في الردّ على الجهلاء بل في كثير من الأحيان يفضلون السكوت على الكلام والردّ على الجهّال!.

ويفكرون في أعمالهم ومسئولياتهم ، ويمضون كأنهم الظماء إلى النبع. الظماء إلى العلم والمتشوّقون لحضور مجالس العلماء والفقهاء.

أجل هؤلاء العظام هم الذين يستطيعون أن يستوعبوا رسالة الإيمان في نفوسهم ، ليؤتوا أجرهم لا مرّة واحدة ، بل يؤتيهم الله أجرهم مرّتين بما صبروا!.

هؤلاء أمثال سلمان الفارسي والنجاشي وبحيرا الراهب الذين هم في خط واحد وفي جبهة واحدة ، والذين بذلوا جهدا وقاوموا أنواع الصعاب ليصلوا إلى معنى «الإيمان».

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد يقول : «نحن صبر وشيعتنا أصبر منّا وذلك أنا صبرنا على ما نعلم وصبروا على ما لا يعلمون»

تأملوا لو أن شخصين من المؤمنين توجها إلى ميدان الجهاد ، أحدهما يعلم بانتهاء الأمر وأن عاقبة جهاده النصر ، والآخر لا يعلم ، ألا يكون صبر الثّاني أكثر من صبر الأول؟!.

أو نقول ـ مثلا ـ أنّ القرائن تدل على أن كلا منهما سيشرب من كأس الشهادة ، لكن أحدهما يعلم ما في شهادته من أسرار خفية وماذا ستحرك من أمواج على مدى الأعصار والقرون المتمادية ، وأنّه سيكون أسوة وقدوة للأحرار أمّا الثّاني فلا يعرف شيئا عن ذلك ، فلا شك أن الثّاني أصبر من الأوّل في هذا الصدد.

وفي حديث آخر ورد في تفسير علي بن ابراهيم قال : «اللغو» الكذب ، «اللهو» الغناء ، والمعرضون عن اللغو و «المتقون» هم الأئمّةعليهم‌السلام يعرضون عن

٢٥٧

ذلك كلّه(١) .

وواضح أنّ الحديثين من قبيل المصداق البارز ، وإلّا فإنّ مفهوم «اللغو» أوسع ويشمل غير ما ذكرنا ، و «المعرضون عن اللغو» أيضا هم جميع المؤمنين الصادقين ، وإن كان الأئمّةعليهم‌السلام في طليعتهم!

* * *

__________________

(١) تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ١٤٢.

٢٥٨

الآيتان

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) )

التّفسير

الهداية بيد الله وحده!

بالرغم من أن بحوثا كثيرة وروايات وردت في الآية الأولى من هاتين الآيتين المتقدمتين وشأن نزولها ، إلّا أنّها ـ كما سنرى ـ روايات غير معتبرة ولا قيمة لها ، حتى كأنّها رويت لأغراض ومقاصد خاصّة ، ولذلك رأينا أن نفسّر الآية من القرآن نفسه ثمّ نعالج الرّوايات المشكوكة أو المجعولة.

ومع الالتفات إلى أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن طائفتين : طائفة من مشركي أهل مكّة المعاندين ، كان رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله شديد الإصرار على هدايتهم ، لكنّهم لم يهتدوا ولم يذعنوا لنور الإيمان. وطائفة من أهل الكتاب والأفراد البعيدين عن مكّة ، تلقوا هداية الله برحابة صدر وبعشق وضحوا في سبيل الإسلام ، وآثروا

٢٥٩

على أنفسهم مصلحة الإسلام ، ولم يكترثوا بعناد قومهم الجاهلين الأنانيين ، ولم يستوحشوا من الضغوط والعزلة وما إلى ذلك!.

فمع الالتفات إلى كل هذه الأمور ، نلاحظ أن الآية الأولى من هاتين الآيتين تكشف الستار عن هذه الحقيقة فتقول :( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

فالله يعلم من هم الجديرون بالإيمان وأيّة قلوب تطلب الحقّ وهو يعرف العاشقين له.

أجل ، هو يعرف هؤلاء ويوفقهم بلطفه ليسيروا نحو الإيمان.

أمّا الذين أظلمت قلوبهم وساءت سيرتهم وعادوا الحق في الخفاء ونهضوا بكل ما عندهم من قوة بوجه رسل الله ، وقد تلوثت قلوبهم في حياتهم إلى درجة لم يكونوا جديرين بنور الإيمان فالله سبحانه لا يضع مصباح التوفيق في طريقهم أبدا.

إذن ، وبناء على ما تقدم ، ليس المقصود من الهداية «إراءة الطريق» ، لأنّ إراءة الطريق هي من وظيفة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتشمل جميع الناس دون استثناء ، بل المقصود من الهداية هنا هو «الإيصال للمطلوب والهدف» ، والإيصال إلى المطلوب وإلى الهدف هو بيد الله وحده ، الذي يغرس الإيمان في القلوب ، وليس هذا العمل اعتباطا ودون حساب ، فهو تعالى ينظر إلى القلوب المهيأة والمستعدة ليهبها نور السماء!

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية بمثابة التسلية والتثبيت لقلب النّبي ليطمئن إلى هذه الحقيقة ، وهي إنّه لا إصرار المشركين وعنادهم وإن كانوا من أهل مكّة ، ولا إيمان أهل الحبشة ونجران وغيرهما أمثال سلمان الفارسي وبحيرا الراهب من دون دليل وسبب.

فعليه أن لا يكترث لعدم إيمان الطائفة الأولى ، فإن الله يقذف نوره في

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592