الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166514 / تحميل: 5278
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ )

فلم يخلصه أصدقاؤه ، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله ، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون : واها له ، فإنّ الرزق بيد الله( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ) .

لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله ، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد ، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.

فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفرادا وأقواما ، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.

ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه ، وأعطاهم الله هذا المال ، ثمّ هووا كما هوى قارون ، فما ذا يكون قد نفعهم المال؟

لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا :( لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة ، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمنا ـ أنّ قارون المغرور مات كافرا غير مؤمن ، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفا بالتوراة قارئا لها ، وعالما من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

* * *

٣٠١

بحوث

١ ـ نماذج قارونية بالأمس واليوم!

قصّة قارون ـ هذا الثري المغرور ـ التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات ـ بأسلوب جذّاب ـ تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!

هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة ، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان ـ أحيانا ـ إلى أنواع الجنون جنون إظهار الثروة وعرضها ولفت أنظار الآخرين إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب ، قد تكون سببا لأنّ يجرأ الإنسان أحيانا إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها ، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة واتهام أطهر الأفراد ، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة ، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين ، ويستجيب لمن يريد له الخير!.

وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعا ، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم ، وربّما تقع عن طريق الغصب أحيانا ، هي دليل على عقلهم وذكائهم وأن جميع الناس جهلة كما يظنون ، وأنّهم ـ وحدهم ـ العلماء فحسب!.

ويبلغ بهم الأمر حدّا أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق ، وكأنّهم مستقلّون ، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم ، واستعدادهم وخلّاقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!

ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين ، وكيف ينتهون ، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعا قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها ، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة وأحيانا تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل

٣٠٢

آخر أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبدا وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة ، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض! وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقا لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القيم الخيالية وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية ، والطوابع ، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة ، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف ، وهي لا تستحق أن توضع إلّا في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!

أولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم ـ وأحيانا في جيرانهم ـ من لا عهد له بالشبع ، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين ، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم ، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.

كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه ، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناسا محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم ، وربّما يرقدون في المستشفى ، ويئنّون ولا من مصرخ لهم ، ولا من علاج لمرضهم!.

جميع هذه البحوث تنطبق أحيانا على بعض الأفراد في مجتمع ما ، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها ، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة ، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الاستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.

لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه ـ في أرقى صورها ـ باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل ،

٣٠٣

ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة ، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة ، بل هي دول منيت بسرقة خيراتها وأغير عليها وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض ، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.

فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة وإذا لم يتّحد المستضعفون يدا بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون ، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

فأولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين ، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.

٢ ـ من أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟

الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (٢٣) و (٢٤) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسىعليه‌السلام كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! «فرعون» ، ووزيره «هامان» ، و «قارون» الثري المغرور.( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون ، وكان على خطه ؛ كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(١) ، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون ، والمسؤول على خزائنه من جهة أخرى(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ، وتفسر مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ـ ذيل الآية محل البحث

(٢) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٥٢٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة المؤمن.

٣٠٤

ومن هنا تتّضح هويّة قارون فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقا منهم ، وأودعه أزمّة أمورهم ، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار ، وليجعلهم حفاة عراة ، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.

والقرائن تشير إلى أنّ مقدارا من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون ، ولم يطلع موسىعليه‌السلام ـ إلى تلك الفترة ـ على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.

وعلى كل حال ، فسواء كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون ، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه ، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.

مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون ، وبدّل وجهه بسرعة ، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.

وأخيرا فحين أراد موسىعليه‌السلام أن يأخذ من قارون زكاة المال ، خدع به الناس ، وعرفنا كيف كانت عاقبته.

٣ ـ موقف الإسلام من الثّروة!

لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفا أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفا سلبيا ، وأنّه يخالف خط الثراء ، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء ، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.

بل على العكس من ذلك ، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّا نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (١٨٠) من سورة البقرة( إِنْ تَرَكَ

٣٠٥

خَيْراً ) أي مالا.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الصدد «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة»(١) .

بل حتى الآيات ـ محل البحث ـ التي تذم قارون أشدّ الذم ، لأنّه اغتر بالمال ، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة ، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) .

والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها «أحسن كما أحسن الله إليك» ولكن للجميع!.

والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول «لا تنس نصيبك من الدنيا» ويمدحها.

وأخيرا فإنّ الإسلام لا يطلب ثروة ينبغي بها الفساد في الأرض وتنسى بها القيم الإنسانية وتكون نتيجتها الابتلاء بمسابقة جنون التكاثر ، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين ، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسىعليه‌السلام !.

يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الاقتصادي ، وأن يستفيد منها الجميع ، ولتكون ضمادا لجراح المحرومين ، وللوصول بها إلى إشباع الحاجات الاجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين

فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية ، أو ارتباطا بالدنيا ، بل هي علاقة أخروية.

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن أحد أصحابه جاءه شاكيا أمره ، وقال : والله إنّا لنطلي الدنيا ونحبّ أن نؤتاها. فقالعليه‌السلام : «تحبّ أن تصنع بها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث ٥ من الباب ١٦ من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٦

ما ذا؟»

قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادقعليه‌السلام : «ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة»(١) .

ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال :

طائفة من المسلمين ، أو بتعبير أدق : ممن يتظاهرون بالإسلام ، وبعيدون عن تعاليمه ، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.

وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل ، ويجعلوه معاديا للثروة ، وأنّه يقف الى جانب الفقراء فحسب.

وأساسا فإنّ أمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.

فالفقر وسيلة للارتباط بالاجنبي والتبعية

والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!

والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.

كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد «غنى يحجزك عن الظلم ، خير من فقر يحملك على الإثم»(٢) .

إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى ـ مهما استطاعت ـ نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة ، ولتبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي ، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.

* * *

__________________

(١) «وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٧

الآيتان

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) )

التّفسير

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض :

بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط ، وهو قارون ، تبدأ الآية الأولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث ، إذ تقول الآية( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .

أجل ، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب ، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل ، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.

وفي الحقيقة إنّ ما يكون سببا لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة ، هو هذان الأمران : «الرغبة في العلو» أيّ الاستكبار و «الفساد في الأرض» وهما

٣٠٨

الذنوب لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتما ، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان ، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الاستعلاء ـ بنفسها ـ هي أيضا واحدة من مصاديق الفساد في الأرض ، إلّا أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.

وقد رأينا في قصّة «قارون» وشرح حاله أنّ السبب الأساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و «الاستكبار».

ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماما بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام يقول : «إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها»(١) .

(وهذا أيضا فرع صغير من الاستعلاء).

ومن الطريف أنّ صاحب «تفسير الكشاف» يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول : بعض الطامعين ينسبون «العلوّ» في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) ،(٢) والفساد لقارون بمقتضى قوله :( تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة ، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب ، ويرون الباقين من أهل الجنّة ، إلّا أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) بدقة ـ كما لاحظها الإمام عليعليه‌السلام (٤) .

وما ينبغي إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة أخطئوا حتى في معرفة قارون وفرعون لأنّ فرعون كان عاليا في الأرض وكان من المفسدين

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) سورة القصص ، الآية ٤.

(٣) سورة القصص ، الآية ٧٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية محل البحث.

٣٠٩

( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ،(١) وقارون أيضا كان مفسدا وكان عاليا بمقتضى قوله :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) .(٢)

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية ، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء ، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) . ثمّ يضيف سلام الله عليه : «نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس»(٣) .

ومعنى هذا الكلام ، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء ، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين ، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وكما يقول القرآن في نهاية الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة ، وهي الانتصار في هذه الدنيا ، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.

ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادقعليه‌السلام وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال : «ذهبت والله الأماني عند هذه الآية»(٤) .

وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية ، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٤.

(٢) سورة القصص ، الآية ٧٩.

(٣) نقل هذه الرواية زاذان عن أمير المؤمنين «مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)».

(٤) تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.

٣١٠

السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانونا كليا وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) .

وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّا أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّا أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلّا الله ، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه ـ وهو الإنفاق في سبيل الله ـ في الآية ٢٦١ من سورة البقرة إذ يقول سبحانه في هذا الصدد( ... مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمرا اعتباطيا ، بل له ارتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب ، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.

ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّا بقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.

الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه( إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن أعمالهم التي هي طبقا لقانون بقاء الموجودات في

٣١١

عالم الوجود ، تبقى ولا تتغير ، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء ، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل ، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.

* * *

ملاحظات

١ ـ لم تكرر ذكر «السيئة» في هذه الآية مرتين؟

من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية ، لأن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة ، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلّا نفسها.

٢ ـ هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) ؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!

وفي الإجابة على هذا السؤال نقول ـ بدون شك وترددّ ـ إن للحسنة معنى واسعا فهي تشمل المناهج الاعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية ، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثوابا للمحسنين ، فنحن نقرأ في الآية (٧٢) من سورة التوبة قوله تعالى :( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) !

٣ ـ لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد ، وعن السيئات بصيغة الجمع؟! يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(١) .

كما ويحتمل أيضا أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد ، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى «جذر» واحد وهو توحيد الله ، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، الآلوسي ذيل الآية.

٣١٢

الآيات

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جماعة من المفسّرين ـ سببا لنزول الآية الأولى من الآيات أعلاه عن ابن عباس مضمونه ما يلي :

حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متوجها من مكّة إلى المدينة في سفر الهجرة وبلغ «الجحفة» وهي لا تبعد عن مكّة كثيرا تذكر وطنه «مكّة» هذه البقعة التي هي حرم الله وأمنه وفيها البيت العتيق «الكعبة» التي تعلق بها قلب النّبي وروحه تعلقا لا يقبل الانفكاك ظهرت آثار الشوق على وجه النّبي الكريم مزيجة بالحزن

٣١٣

والتأثر ، فنزل أمين الوحي جبريل على رسول الله وقال : أتشتاق الى بلدك وهو مولدك؟! فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم فقال جبرئيلعليه‌السلام : فإن الله يقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) (١) يعني مكّة

ونعلم أنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيرا ، ودخل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجيشه القوي وقدرته وعظمته الكبيرة مكّة ظافرا ، واستسلمت مكّة والحرم الآمن دون حرب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه ، إذ أخبر القرآن عن رجوع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة بصورة قطعيّة ودون أي قيد وشرط ، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير!.

التّفسير

الوعد بعودة النّبي إلى حرم الله الآمن :

هذه الآيات التي هي آخر الآيات في سورة القصص تخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبشره بالنصر ، بعد أن جاءت الآيات الأولى لتبيّن قصّة موسى وفرعون وما جرى له مع قومه ، كما أنّ هذه الآيات فيها ارشادات وتعليمات مؤكّدة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا : إنّ الآية الأولى من هذه الآيات طبقا لما هو مشهور بين المفسّرين نزلت في «الجحفة» في مسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى المدينة إذ كان متوجها إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرّسول» وأن يبذر النّواة الأصيلة «لحكومة إسلامية» فيها ويجعلها مقرّا لحكومة إلهية واسعة ، ويحقق فيها أهدافها.

لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكّة يؤلمه كثيرا ، وليس من اليسير عليه الابتعاد عن حرم الله الآمن.

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.

٣١٤

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي ، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) .

فلا تكترث ولا تذهب نفسك حسرات ، فالله الذي أعاد موسى إلى أمّه هو الذي أرجعه أيضا إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين ، ليشعل مصباح التوحيد ويقيم حكومة المستضعفين ويقضي على الفراعنة ودولتهم وقوّتهم.

هو الله سبحانه الذي يردك إلى مكّة بكلّ قوّة وقدرة ، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقا في هذه الأرض المباركة.

وهو الله الذي أنزل عليك القرآن ، وفرض عليك إبلاغه ، وأوجب عليك أحكامه.

أجل ، إنّ ربّ القرآن وربّ السماء والأرض العظيم ، يسير عليه أن يردّك إلى معادك ووطنك «مكّة».

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ طريق الهداية واضح ، وضلالهم بيّن ، وهم يتعبون أنفسهم عبثا ، فالله يعرف ذلك جيدا ، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضا.

وبالطبع فإنّ التّفسير الواضح للآية كما بيّناه آنفا ، إلّا أن جمعا من المفسّرين لديهم احتمالات أخرى في كلمة «معاد» من قبيل «العودة للحياة بعد الموت» «المحشر» او «الموت». كما فسّروه «بالجنّة» أو مقام «الشفاعة الكبرى» أو «بيت المقدس» الذي عرج النّبي منه أوّل مرة ، وغير هذه المعاني.

إلّا أنّه مع الالتفات إلى محتوى مجموع هذه السورة ـ القصص ـ وما جاء في قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل ، وما سقناه من شأن نزول الآية ، فيبعد تفسير المعاد بغير العودة إلى مكّة كما يبدو!.

أضف إلى ذلك أن المعاد في يوم القيامة لا يختصّ بالنّبي وحده ، والحال أن

٣١٥

الآية تتحدث عن النّبي ـ هنا ـ وتخاطبه وحده. ووجود هذه الآية بعد الآية التي تتحدث عن الثواب والجزاء في يوم القيامة ، لا دلالة فيها على هذا المعنى ، بل على العكس من ذلك ، لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الانتصار في الدار الآخرة ، ومن المناسب أن يكون الحديث في هذه الآية عن الانتصار في هذه الدنيا.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة أخرى من نعم الله العظيمة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول :( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (١) .

كان كثير من الناس قد سمعوا بالبشارة بظهور الدين الجديد ، ولعل طائفة من أهل الكتاب وغيرهم كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي ويحمّلهم الله هذه المسؤولية ، ولكنّك ـ أيّها النّبي ـ لم تكن تظن أنّه سينزل عليك الوحي( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ ) إلّا أن الله رآك أجدر بالأمر ، وأن هذا الدين الجديد ينبغي أن ينتشر ويتسع على يدك في هذا العالم الكبير!.

وبعض المفسّرين يرون هذه الآية منسجمة مع آيات سابقة كانت تتحدث عن موسىعليه‌السلام ، وتخاطب النّبي ـ أيضا ـ كقوله تعالى :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

فعلى هذا يكون المقصود بالكتاب هنا هو قصص الأنبياء السابقين إلّا أن هذا التفسير لا منافاة فيه مع التفسير المتقدم! بل يعدّ قسما منه في الواقع!.

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن طالما كنت في هذه النعمة( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) .

ومن المسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ظهيرا للكافرين أبدا ، إلّا أن الآية جاءت في مقام التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان المسؤولية للآخرين ، وأن

__________________

(١) قال بعضهم : إن «إلّا» هنا تفيد الاستثناء ، فاضطروا إلى أن يقولوا بحذف كلمة والتقدير لها من عندهم وهو تحكّم إلّا أن البعض الآخر فسّر «إلّا» بمعنى «لكن» وأنّها تفيد الإستدراك ، وهذا الوجه أقرب للنظر!

٣١٦

وظيفتهم أن يتأسوا بالنّبي ولا يكون أيّ منهم ظهيرا للكافرين.

وهذا الموضوع ينسجم تماما مع الموضوع الذي قرأناه في شأن موسىعليه‌السلام ، إذ قال :( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) وبيّنا معناه في شأن إعانة الظالمين في الآية (١٧) من سورة القصص ، أمّا الآيتان اللتان تختتم بهما سورة القصص ، فهما تأكيد على مسألة التوحيد بتعابير واستدلالات متعددة ـ ومختلفة.

التوحيد الذي هو أساس جميع المسائل الدينية التوحيد الذي هو الأصل وهو الفرع وهو الكلّ وهو الجزء!.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأربعة صفات لله تعالى ، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلا :( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ) وبالرغم من أن النهي موجه إلى الكفار ، إلّا أن مفهوم الآية عدم تسليم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام صدّ الكافرين ، وإحباطهم ومؤامراتهم ، وهذا تماما يشبه ما لو قلنا مثلا : لا ينبغي أن يوسوس لك فلان ، فمعناه : لا تستسلم لوسوسته!.

وبهذا الأسلوب يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر ، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت ، وليسر نحو هدفه مطمئنا ، فإنّ الله حاميه ومعه أبدا.

ويقول ابن عباس : وإن كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ المراد عموم الناس ، وهو من قبيل المثل العربي المعروف «إيّاك أعني واسمعي يا جارة!».

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي ، يأتي الخطاب الثّاني وفيه سمة إثبات فيقول :( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ) فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك

والأمر الثالث ، بعد الأمر بتوحيد الله ، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فإن طريق التوحيد واضحة بينة ، ومن

٣١٧

ساروا عليها فهم على صراط مستقيم!.

والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ، إذ يقول تعالى :( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ، إذ بدونه يكون كل عمل زيفا ووهما.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ، وهي جميعا تأكيد على التوحيد أيضا.

فالأوّل قوله :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

والثّاني قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) .

والوصف الثالث :( لَهُ الْحُكْمُ ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع : أن معادنا إليه( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ، الذي أشير إليه في الوصف الأول!

لأنّه طالما كنّا هالكين جميعا وهو الباقي.

وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له!

وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع! فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره ، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟

والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) تدور حول محور كلمتي «وجه» و «هالك».

لأنّ الوجه يطلق ـ من حيث اللغة ـ على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل ، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!.

وكلمة «هالك» مشتقّة من مادة «هلك» ومعناه الموت والعدم ، فعلى هذا

٣١٨

يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه ، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة ، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة ، وليس لديها في ذاتها أي شيء ، وكلّ ما لديها فمن الله!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل ، وحتى طبقا لفلسفة «الحركة الجوهرية» فذاتها هي التغيير بعينه ، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية ، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!.

فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن ـ أيضا ـ غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك ، هي الذات المقدسة!

كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم ، وكما يقول القرآن :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .(١)

ولا يخصّ الفناء ما على الأرض ، بل يشمل حتى أهل السماء( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .(٢) فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأخرى في القرآن ، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أخرى غير ما تقدم بيانه ، ومنها :

١ ـ أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح ، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصا لله.

وقال بعضهم : إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله ، فيكون مفهوم الآية أنّ كل شيء معدوم ذاتا إلّا من ناحية انتمائه إلى الله!

وقال بعضهم : المراد بالوجه هو الدين ، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٦٨.

٣١٩

باطلة سوى دين الله.

وجملة( لَهُ الْحُكْمُ ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!.

كما أن جملة( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(١) .

وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفا لا نجد بينها منافاة في الحقيقة! لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية.

فدين الله الصادر منه أبديّ ، والعمل الصالح الذي له أبديّ والقادة الإلهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود.

والخلاصة ، كل ما هو مرتبط بالله ـ ولو بنحو من الأنحاء ـ فهو غير فان «فلاحظوا بدقّة».

* * *

مسألتان

١ ـ كيف تفنى جميع الأشياء؟!

من جملة الأسئلة التي أثيرت في ذيل الآية ، هو أنّه إذا كان لا بدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم ، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس ، في حين أن القرآن يصرّح مرارا بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها ، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!.

وطبقا لظاهر الآيات ـ أيضا ـ فإن الجنّة معدّة ، والنّار معدّة ومهيأة من قبل ،

__________________

(١) وردت روايات متعددة في تفسير «نور الثّقلين» في ذيل الآيات فسّرت بعضها الوجه بدين الله ، وبعضها برسل الله وما هو منسوب لله.

٣٢٠

كما جاء التعبير عن الجنّة( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) أو ما شابه ذلك ، وهي إشارة لخلق الجنّة وأنّها مهيأة للمتقين وقد ورد هذا التعبير في موضعين من آيات القرآن «الآية ١٢٣ من سورة آل عمران والآية ٢١ من سورة الحديد».

كما ورد التعبير عن النّار بـ( أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) في موضعين من القرآن أيضا «البقرة الآية ٢٤ وآل عمران الآية ١٣١».

فهل ستفنى الجنّة والنار في انتهاء العالم؟!

ثمّ بعد هذا كلّه فنحن نعتقد بالحياة البرزخية للإنسان ، ونستفيد ذلك من آيات القرآن في شأن الأرواح ، فهل ستفنى تلك أيضا؟!

والجواب على جميع الأسئلة يتّضح بما يلي :

إنّ كثيرا ما يتفق أن يكون المراد من الهلاك والعدم هو تخلخل النظام ودماره ، لا تلاشيه وفنائه فلو أن عمارة مثلا تهدمت بسبب الزلزلة فهنا يصدق عليها الفناء والهلاك ، في حين أنّ مواد العمارة لا تزال موجودة ، غير أن نظامها قد أختل وانعدم فحسب!.

ونعرف أن في نهاية هذا العالم ستنطفئ الشمس ، ويظلم القمر ، وتندك الجبال ، وتموت الموجودات الحيّة ، فهذا معنى هلاكها! هذا من جهة!.

ومن جهة أخرى فإنّ الفناء متعلق بهذه الدنيا ، وما في هذه الدنيا أمّا الجنّة والنّار فسواء كانتا داخل هذا العالم أو خارجه ، فليستا جزءا من هذه الدنيا ليشملهما حكم الفناء والعدم لنظامهما ، فهما متعلقتان بالآخرة لا بالدنيا!

ومن جهة ثالثة ، فإنّا ذكرنا آنفا أنّ الهلاك ـ أو الفناء ـ بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بانتهاء هذا العالم فهي هالكة وفانية الآن أيضا ، لأنّها لا تملك شيئا في داخل ذاتها ، وكل ما عندها فمن غيرها ، فهي متغيرة ودائمة الحركة ، ومعنى ذلك الفناء التدريجي والمركب من الوجود والعدم!

ومع بيان ما تقدم يتّضح الجواب على الأسئلة السابقة تماما!

٣٢١

٢ ـ التّفسير المنحرف لجملة( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ! )

يستدل جماعة من الوهّابيين أحيانا على أن مسألة «التوسل والشفاعة» لا تنسجم مع حقيقة التوحيد ، بالآية الآنفة وآيات أخرى مشابهة لها.

إذ يقول أولئك : إنّ القرآن نهى عن عبادة غير الله بصريح العبارة ، كما نهى أن ندعو أسماء سوى الله ، إذ قال :( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) .(١)

والحال أنّ المقصود من هذه الآيات ليس هو أن لا ندعو أشخاصا آخرين ، بل المقصود كما هو مستفاد من الآية( مَعَ اللهِ ) أي أن من يعتقد أن ما كان لله يمكن طلبه من غير الله ويراه مستقلا في إنجازه ، فإنه مشرك.

ولكننا إذا اعتقدنا بأن جميع القدرات هي خاصة بالله ، ولا نعتقد بأن أحدا معه يكون مبدأ الأثر ونعتقد بأن لله أولياء يشفعون بإذنه وأمره ، فنتوسل بهم إلى الله ليشفعوا لنا عند الله ، فهذا هو التوحيد بعينه ، وهذا هو ما أشارت إليه آيات القرآن مرارا.

ترى هل كان قول إخوة يوسف لأبيهم :( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ) شركا؟! (سورة يوسف الآية ٩٧).

وهل ـ حين يقول القرآن :( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ،(٢) يكون قول القرآن هذا دعوة نحو الشرك؟!!

إنّ حقيقة الشفاعة والتوسل ـ أيضا ـ ليس شيئا سوى ما أشرنا إليه آنفا(٣) ! ربّنا ألهم قلوبنا نور التوحيد والمعرفة ، لئلا نرى سواك ، ولا نطلب سواك ، ولا نرجو سواك!

__________________

(١) سورة الجن ، الآية ١٨.

(٢) سورة النساء ، الآية ٦٤.

(٣) لمزيد التوضيح يراجع تفسير الآية ٣٥ المائدة ، وتفسير ذيل الآية (٤٨) من سورة البقرة!

٣٢٢

اللهم وثّق ارتباطنا بذاتك المقدسة يوما بعد يوم أرواحنا تحظى بقبس من بقاء وخلود ذاتك الخالدة!

اللهم أبعد حبّ الدنيا والاستعلاء والفساد في الأرض عن أرواحنا ، واجعلنا في صفوف المتقين ،( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

آمين ربّ العالمين

انتهاء سورة القصص

* * *

٣٢٣
٣٢٤

سورة

العنكبوت

مكيّة

وعدد آياتها تسع وستون آية

٣٢٥
٣٢٦

«سورة العنكبوت»

محتوى سورة العنكبوت!

المشهور بين جمع من المحققين أنّ جميع آيات هذه السورة نازلة بمكّة ، فيكون محتواها منسجما مع محتوى السور المكية.

إذ ورد فيها الكلام على المبدأ والمعاد ، وقيام الأنبياء السابقين العظام ، ووقوفهم بوجه المشركين وعبدة الأصنام والجبابرة والظالمين ، وانتصارهم وانهزام هذه الجماعة الظالمة! وكذلك تتحدث هذه السورة عن الدعوة الى الحق والامتحان الالهي للبشر ، وذرائع الكفار في مجالات مختلفة.

غير أنّ جماعة من المفسّرين يرون بأن إحدى عشرة آية منها نازلة بالمدينة ، وهي الآيات الأولى من السورة ، ولعلّ ذلك ـ كما سنرى ـ ناتج عن سبب نزول بعض الآيات التي تتحدث عن الجهاد ، والإشارة إلى موضوع المنافقين ، وهذا ما يناسب السور المدنية!.

ولكن سنرى بعدئذ أنّ هذه الأمور لا تنافي كون السورة مكيّة.

وعلى كل حال ، فتسمية السورة هذه بـ «العنكبوت» مأخوذة من الآية (٤١) من هذه السورة ، التي تشبّه عبدة الأوثان من دون الله بالعنكبوت ، التي تبني بيتها من نسيجها ، وهو أوهن البيوت!!.

وبصورة إجمالية ، يمكن أن يقال : إن أبحاث هذه السورة تتلخص في أربعة أقسام :

١ ـ فالقسم الأوّل من السورة يتحدث عن مسألة «الامتحان» ، وموضوع

٣٢٧

«المنافقين» ، وهذان الأمران متلازمان لا يقبلان الانفكاك!! لأنّ معرفة المنافقين غير ممكنة إلّا في طوفان الامتحانات.

٢ ـ والقسم الثّاني من هذه السورة ـ في الحقيقة ـ هو لتسلية قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين القلّة الأوائل ، عن طريق بيان جوانب من حياة الأنبياء العظام السابقين ، أمثال نوح وإبراهيم ولوط وشعيبعليهم‌السلام وعواقبهم!. إذ واجهوا أعداء ألدّاء أمثال نمرود وطواغيت المال البخلاء.

وقد بيّن هذا القسم من السورة كيفية المواجهة ، وعدّتها ، وعاقبتها للمؤمنين لتطمئن قلوبهم ، ولتكون هذه الآيات إنذارا للمشركين وعبدة الأوثان ، الذين لهم قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة ، والظالمين الذين عاصروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣ ـ والقسم الثّالث من هذه السورة ، وهو ما ورد في نهاية السورة بوجه خاص ، يتحدث عن التوحيد ودلائل الله في عالم خلقه ، والمواجهة مع المشركين ، ويدعوا الفطرة والوجدان إلى الاحتكام والقضاء الحق!.

٤ ـ أمّا القسم الرّابع من هذه السورة ، ففيه مباحث متنوعة عن عجز الأصنام المصنوعة التي تعبد من دون الله ، وعبادها الذين مثلهم كمثل العنكبوت ، وبيان عظمة القرآن ، ودلائل حقانية نبيّ الإسلام ، ولجاجة المخالفين ، كما تتعرض لسلسلة من المسائل التربوية أمثال : الصلاة ، والعمل الصالح ، والإحسان إلى الوالدين ، وأسلوب مناقشة المخالفين ، وما إلى ذلك.

فضيلة هذه السورة!

ورد في تفسير مجمع البيان عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضيلة هذه السورة ما يلي : «من قرأ سورة العنكبوت كان له عشر حسنات بعدد كل المؤمنين والمنافقين».

ولتلاوة سورتي العنكبوت والروم في شهر رمضان في الليلة الثّالثة

٣٢٨

والعشرين منه فضيلة قصوى ، حتى أنّنا نقرأ في هذا الصدد حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله من أهل الجنّة ، لا استثنى فيه أبدا ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثما ، وإن لهاتين السورتين من الله مكانا».(١)

ولا شك أن محتوى هاتين السورتين الغزير ، والدروس العملية المهمّة منها في التوحيد ، وما إلى ذلك ، كلّه كاف لأن يسوق أيّ إنسان ذي لب وفكر وعمل إلى الجنّة والخلود فيها.

بل لو استلهمنا من بداية سورة العنكبوت وآياتها الأولى العظة فلعلنا نكون مشمولين في قسم الإمام الصادقعليه‌السلام تلك الآية التي تعرض الامتحان لعامّة الناس دون استثناء ليفتضح المبطلون والكاذبون فكيف يمكن أن يصدّق الإنسان بهذا الامتحان العظيم وهو لم يهيء نفسه له!؟. ولم يكن من أهل التقوى والورع!

* * *

__________________

(١) «ثواب الأعمال» «طبقا لتفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٤٧» من الجدير بالذكر أنّنا نكتب هذا القسم من هذا التّفسير في بداية ليلة ٢٣ من شهر رمضان لسنة ١٤٠٣ هجرية

٣٢٩

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) )

سبب النّزول

طبقا لما نقل بعض المفسّرين ، أنّ الآيات الإحدى عشرة الأولى من بداية سورة العنكبوت نزلت في المدينة في شأن المسلمين الذين كانوا في مكّة وغير راغبين بالهجرة إلى المدينة وكانوا قد تلقوا رسائل من إخوة لهم في المدينة جاء فيها : «إن الله لا يقبل إقراركم بالإيمان حتى تهاجروا إلى المدينة» فصمموا على الهجرة وخرجوا من مكّة ، فتبعهم جماعة من المشركين والتحموا بالقتال فقتل منهم جماعة وجرح آخرون «وربّما سلّم بعضهم نفسه ورجعوا إلى مكّة».

وقال بعض : إنّ الآية الثّانية من هذه السورة في شأن «عمار بن ياسر» وجماعة من المسلمين الأوائل ، الذين آمنوا برسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولاقوا صنوف التعذيب من الأعداء.

كما قال بعضهم : إنّ الآية الثامنة نزلت في إسلام «سعد بن أبي وقاص»!

غير أنّ التدقيق في الآيات يكشف عن أنّه لا دليل على ارتباط الآيات مع

٣٣٠

هجرة أولئك ، سوى أنّ الآيات تبيّن الضغوط على المؤمنين في ذلك الوقت من قبل أعدائهم وأحيانا من الآباء المشركين والأمهات المشركات ضدّ أبنائهم المؤمنين.

فهذه الآيات تشجّع المسلمين على الثبات والرجولة والاستقامة أمام أمواج الضغوط من قبل الأعداء وإذا ورد الحديث فيها على الجهاد فالمراد منه ـ أيضا ـ الجهاد في هذا المجال ، لا الجهاد المسلّح الذي تقوم به الجماعة ، فذلك شرّع في المدينة.

وإذا ورد الحديث عن المنافقين في هذه الآيات ، فلعلّه إشارة إلى المسلمين الضعاف في إيمانهم ، الذي كان يتفق وجودهم بين المسلمين في مكّة أحيانا فتارة هم مع المسلمين وتارة مع المشركين ، وكانوا يميلون مع الكفة الراجحة منهما.

وعلى كل حال ، فارتباط الآيات بعضها ببعض وانسجامها توجب أن تكون هذه السورة «جميعها» مكية ، وما ذكرناه من الرّوايات المتقدمة المتناقضة في ما بينها ، لا يمكن أن تقطع هذا الارتباط!

* * *

التّفسير

الامتحان الإلهي سنة خالدة :

نواجه في بداية هذه السورة الحروف المقطعة [ألف ـ لام ـ ميم] أيضا وقد بيّنا تفسيرها عدة مرات من وجوه مختلفة(١) .

وبعد هذه الحروف المقطعة يشير القرآن إلى واحدة من أهم مسائل الحياة البشرية ، وهي مسألة الشدائد والضغوط والامتحان الإلهي.

__________________

(١) يراجع بداية تفسير سورة البقرة وبداية سورة آل عمران وبداية تفسير سورة الأعراف من التّفسير الأمثل.

٣٣١

فيقول أوّلا :( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) .(١) ثمّ يذكر القرآن هذه الحقيقة ـ بعد الآية المتقدمة مباشرة ، وهي أن الامتحان سنة الهية دائمية ، فالامتحان لا يختص بكم ـ أيّها المسلمين ـ بل هو سنة جارية في جميع الأمم المتقدمة ، إذ يقول :( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

وهكذا ألقينا بهم أيضا في أفران الامتحانية الشديدة الصعبة ووقعوا أيضا ـ تحت تأثير ضغوط الأعداء القساة والجهلة المعاندين فساحة الامتحان كانت مفتوحة دائما ، واشترك فيها جماعة كثيرون.

وينبغي أن يكون الأمر كذلك ، لأنّه في مقام الادعاء يمكن لكل أحد أن يذكر عن نفسه أنّه أشرف مجاهد وأفضل مؤمن وأكثر الناس تضحية فلا بدّ من معرفة قيمة هذه الادعاءات بالامتحان ، وينبغي أن تعرف النيات والسرائر إلى أي مدى تنسجم مع هذه الادعاءات.؟!

أجل( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) .

من البديهي أنّ الله يعرف جميع هذه الأمور جيدا ـ قبل أن يخلق الإنسان ـ إلّا أنّ المراد من العلم هنا هو التحقق العيني للمسائل ووجودها الخارجي ، وبتعبير آخر : ظهور الآثار والشواهد العملية ومعناه أنّه ينبغي أن يرى علم الله في هذه المجموعة عمليا في الخارج ، وأن يكون لها تحقق عيني ، وأن يكشف كلّ عمّا في نفسه وداخله هذا هو العلم حين يطلق على مثل هذه المسائل وينسب إلى الله!.

والدليل على هذه المسألة واضح ـ أيضا ـ لإنّ النيّات والصفات الباطنية إذا لم تحقق في عمل الإنسان وتكون عينيّة ، فلا مفهوم للثواب والجزاء والعقاب!.

وبعبارة أخرى : فإنّ هذا العالم مثله كمثل «المدرسة» أو «المزرعة»

__________________

(١) «يفتنون» مشتق من «الفتنة» وهي في الأصل وضع الذهب في النّار لمعرفة مقدار خلوصه ، ثمّ أطلق هذا التعبير على كل امتحان ظاهري ومعنوي «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (١٩٣) من سورة البقرة».

٣٣٢

(والتشبيهات هذه واردة في متون الأحاديث الإسلامية) والمنهج هو أن تتفتح الاستعدادات وتربّى القابليات وتكون فعلية بعد ما كانت بالقوّة.

وينبغي أن تنمو البذور في هذه المدرسة وأن تطلع البراعم من تحت الأرض فتحاط بالرعاية والعناية لتكون شجيرات صغيرة ، ثمّ تكون أشجارا ذوات أصول قوية وأغصان ومثمرّة على تعاقب الزمن وهذه الأمور لا تكون إلّا بالامتحان والاختبار.

ومن هنا نعرف أن الامتحانات الإلهية ليست لمعرفة الأفراد ، بل هي من أجل تربية الاستعدادات ورعايتها ، لتتفتح وتكون بصورة أحسن.

فعلى هذا لو أردنا نحن أن نمتحن شيئا ، فهو لأجل كشف المجهول ، لكنّ امتحان الله ليس لكشف المجهول ، لأنّه أحاط بكل شيء علما بل هو لتربية الاستعدادات وإيصال مرتبة «القوة» إلى «الفعل»(١) .

* * *

بحث

الامتحانات في وجوه مختلفة :

وبالرّغم من أن بيان عمومية الامتحان لجميع الأمم والأقوام كان له أثر كبير فعّال بالنسبة لمؤمني مكّة ، الذين كانوا يمثلون الأقلية في ذلك العصر ، وكان التفاتهم إلى هذه الحقيقة سببا في وقوفهم بوجه الأعداء بصبر واستقامة إلّا أن ذلك لم يكن منحصرا في مؤمني مكّة ، بل إن كل جماعة وطائفة لها نصيب من هذه السنة الإلهية فهم شركاء فيها ، إلّا أن الامتحانات الإلهية لهم تأتي بصور مختلفة.

__________________

(١) لمزيد الإيضاح في مسألة الامتحان الإلهي وجوانبها المختلفة ، يراجع التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٥٧) من سورة البقرة حيث بيّناه بتفصيل!

٣٣٣

فالجماعة الذين يعيشون في محيط ملوث بالمفاسد والوساوس تحيط بهم من كل جانب ، فإن امتحانهم الكبير في مثل هذا الجو والظروف ، هو أن لا يتأثروا بلون المحيط وأن يحفظوا أصالتهم ونقاءهم.

والجماعة الذين يعيشون تحت ضغط الحرمان والفقر ، يرون بأنّهم لو صمموا على ترك رأس مالهم الأصيل «الإيمان» فإنّهم سرعان ما يتخلصوا من الفقر والحرمان لكن ثمن ذلك هو فقدانهم للإيمان والتقوى والكرامة والحرية والشرف ، فهنا يكمن امتحانهم

وجماعة آخرون على عكس أولئك غرقى في اللذائذ والنعم ، والإمكانات المادية متوفرة لديهم من جميع الوجوه ترى هل يؤدون في مثل هذه الظروف الشكر على النعم أم سيبقون غرقى في اللذائذ والغفلة وحب الذات والأنانية غرقى الشهوات والاغتراب عن المجتمع وعن أنفسهم!

وجماعة منهم كالمتغربين في عصرنا ، يرون بعض الدول بعيدة عن الله والفضيلة والأخلاق حقّا ، ولكنّها تتمتع بالتمدن المادي المذهل والرفاه الاجتماعي. هنا تجذب هؤلاء المتغرّبين قوّة خفية إلى سلوك هذا النوع من الحياة أو سحق جميع القيم والأصول والأعراف التي يعتقدون بها ، ويبيعون أنفسهم أذلاء عملاء لتلك الدول ، ليوفروا لهم ولمجتمعهم مثل هذه الحياة وهذا نوع آخر من الامتحان.

المصائب ، والآلام والهموم ، والحروب والنزاعات ، والقحط والغلاء ، وما تثيره الحكومات الأنانية لتجذبهم إليها وتستعبدهم به وأخيرا الأمواج النفسية القوية والشهوات ، كلّ منها وسيلة للامتحان في طريق عباد الله ، والسائرين في الميادين التي تتميز فيها شخصية الأفراد وتقواهم وإيمانهم وطهارتهم وأمانتهم وحريتهم إلخ.

ولكن لا طريق للانتصار في هذه الامتحانات الصعبة لاجتيازها إلّا الجدّ

٣٣٤

السعي المستمر ، والاعتماد على لطف الله سبحانه.

ومن الطريف أنّنا نقرأ حديثا عن أحد المعصومين في أصول الكافي في تفسير الآية( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) يقول فيه : «يفتنون كما يفتن الذهب ، ثمّ قال يخلصون كما يخلص الذهب»(١) .

وعلى كل حال ، فإن طالبي العافية الذين يظنون أنّ إظهار الإيمان كاف بهذا المقدار ليكونوا في صفوف المؤمنين وفي أعلى عليين في الجنّة مع النّبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، فهم في خطأ كبير.

وعلى حدّ تعبير أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة : «والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ، ولتساطن سوط القدر حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم»(٢) .

قالعليه‌السلام : هذا الكلام والناس جديد وعهد ببيعته ، وينتظرون ما سيفعل ببيت المال ، أيقسمه حسب الجاه والمقامات بحسب المعايير السابقة ، فيبعّض في المال ، فيعطى الكثير لبعضهم بحسب المقام ، والقليل للبعض الآخر! أم سيسير معهم بالعدل المحمّدي؟

* * *

__________________

(١) أصول الكافي ، طبقا لما نقل في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٤٨.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٦.

٣٣٥

الآيات

( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) )

التّفسير

لا مهرب من سلطان الله :

كان الكلام في الآيات السابقة عن امتحان المؤمنين الشامل ، والآية الأولى من الآيات أعلاه تهديد شديد للكفار والمذنبين ، لئلا يتصوروا أنّهم حين يضيّقون على المؤمنين ويضغطون عليهم ولا يعاقبهم الله فورا ، فإنّ الله غافل عنهم أو عاجز عن عذابهم ، تقول الآية هذه :( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

فلا ينبغي أن يغرّهم إمهال الله إيّاهم فهو امتحان لهم ، كما أنّه فرصة للتوبة

٣٣٦

والعودة إلى ساحة الله تعالى.

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ هذه الآية هي إشارة إلى المؤمنين المذنبين ، فلا يناسب هذا التّفسير سياق الآيات بأي وجه ، بل جميع القرائن تدل على أنّ المقصود بالآية هم المشركون والكفار.

ثمّ يتحدث القرآن مرّة أخرى عن سير المؤمنين ومناهجهم ، ويقدم النصح لهم ، فيقول:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) فعليه أن يعمل ما في وسعه على امتثال الأوامر الإلهية والأحكام الشرعية ، لأنّ الوقت المعيّن سيأتي حتما( فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) (١) .

أجل ، إنّ وعد الله هذا لا يقبل التخلّف ، هو طريق لا بدّ من اجتيازه ، ثمّ إنّ الله سبحانه يسمع أحاديثكم ، وهو مطلع على أعمالكم ونيّاتكم لأنّه( هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

وفي معنى قوله تعالى :( لِقاءَ اللهِ ) وما المقصود منه؟ فسّره بعض المفسّرين بملاقاة الملائكة ، كما فسّره البعض بملاقاة الحساب والجزاء وبعض بملاقاة الحكم وأمر الحق وآخرون بأنّه كناية عن يوم القيامة في حين أنّه لا دليل على أن تفسّر هذه الآية بهذه المعاني المجازية.

وينبغي القول أن «لقاء الله» في يوم القيامة ليس لقاء حسيّا بل نوعا من الشهود الباطني ، لأنّ الستائر الضخمة لعالم المادة تنكشف عن عين روح الإنسان ، وتبدو في حالة الشهود للإنسان!

وكما يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان : إنّ المقصود من لقاء الله ، هو أنّ العباد يكونون في موقف لا يكون بينهم وبين الله حجاب ، لأنّ طبيعة يوم القيامة هي ظهور الحقائق كما يقول القرآن :( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ )

__________________

(١) هذه الجملة ـ في الحقيقة ـ فيها حذف ، والتقدير «من كان يرجو لقاء الله فيبادر بالطاعة قبل أن يلحقه الأجل» أو «من كان يرجو لقاء الله ويقول آمنت بالله فليقله مستقيما صابرا عليه فإنّ أجل الله لآت».

٣٣٧

سورة النور الآية ٢٥(١) .

أمّا الآية التي تليها ، فهي ـ في الحقيقة ـ تعليل لما سبق بيانه في الآية الآنفة ، إذ تقول : إن على المؤمنين الذين يرغبون في لقاء الله السعي بما أوتوا من قدرة وقابلية من أجل ذلك فإن نتيجة كل ذلك السعي والجهاد وتحمل الشدائد ترجع ثمارها للعامل نفسه :( وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) .

إن خطة الامتحان الالهي هي الجهاد ، جهاد النفس وهواها ، وجهاد الأعداء الألداء ، لحفظ الإيمان والتقوى والطهارة ، ونفع ذلك يعود للإنسان وإلّا فإنّ الله وجود غير متناه من جميع الوجوه ، وغير مفتقر لأي شيء حتى يتم بواسطة طاعة الناس أو عبادتهم جبرانه ، ولا ينقصه شيء حتى يكمله الآخرون ، فكل ما عندهم فمنه ، وليس لهم شيء من أنفسهم!.

ويتّضح هنا من هذا البيان أن الجهاد لا يعني بالضرورة جهاد العدوّ المسلّح ، بل يحمل معناه اللغوي الذي يشمل كل أنواع السعي والجد لحفظ الإيمان والتقوى ، وتحمل أنواع الشدائد ، والمواجهات «الموضعية» للأعداء الألدّاء والحاقدين.

والخلاصة أنّ جميع منافع هذا الجهاد ترجع للشخص المجاهد نفسه ، وهو الذي يفوز بخير الدنيا والآخرة في جهاده ، وحتى إذا كان المجتمع يستفيد من بركات هذا الجهاد ، فهو في مرحلة أخرى بعده.

فعلى هذا ، متى ما وفّق أي إنسان إلى الجهاد فنال نصيب منه ، فعليه أن يشكر الله على هذه النعمة!.

وآخر آية ـ محل البحث ـ توضيح لما تقدم ذكره في الآية السابقة بشكل مبهم تحت عنوان الجهاد ، فهنا يكشف القرآن حقيقة الجهاد فيقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

__________________

(١) بحثنا المراد من لقاء الله في الجزء الأوّل ذيل الآية (٤٦) من سورة البقرة فليراجع هناك أيضا.

٣٣٨

إذن أوّل فائدة كبيرة لهذا الجهاد الكبير وهو الإيمان والعمل الصالح هي تكفير الذنوب وسترها على الإنسان ، كما أن الثواب سيكون من نصيبهم ، كما يقول القرآن في نهاية هذه الآية أيضا :( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

كلمة «نكفّر» مشتقة من مادة «تكفير» ومعناها في الأصل التغطية والستر ، والمقصود بتغطية الذنوب هنا عفو الله وصفحه!

والتعبير بـ( أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) مع أن الله يجزي على الأعمال الصالحة ـ حسنة كانت أم أحسن لعله إشارة إلى أنّنا نجازي جميع أعمالهم الصالحة والحسنة بأحسن الجزاء ، أي إذا كانت بعض أعمالهم أحسن وبعضها حسنا ، فنحاسب الجميع بالأحسن ، وهذا هو معنى تفضل الله سبحانه.

وفي آيات أخرى من القرآن ، كالآية (٣٨) من سورة النور وردت الإشارة إلى ذلك أيضا( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .

* * *

٣٣٩

الآيتان

( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) )

سبب النّزول

وردت روايات مختلفة في شأن نزول الآية الآنفة الذكر ، ومضمون الجميع واحد وهي أنّ بعض الرجال الذين كانوا في مكّة وأسلموا(١) ، حين سمعت أمهاتهم بذلك صممن على أن لا يتناولن طعاما ولا يشربن ماء حتى يرجع أبناؤهن عن الإسلام ، وبالرغم من أن أية واحدة من هؤلاء الأمهات لم تف بقولها ، ورجعت عن إضرابها عن الطعام ، إلّا أنّ الآية المتقدمة نزلت لتوضح للجميع أسلوب المعاملة بين الأبناء والآباء والأمهات ، في مجال الكفر والإيمان.

__________________

(١) ورد في بعض الروايات اسم (سعد بن أبي وقاص) وفي بعضها اسم (عياش بن أبي ربيعة المخزومي).

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592