الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166425
تحميل: 5277


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166425 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين :

إنّ واحدا من أهم الامتحانات الإلهية ، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة والقرآن في هذا المجال ـ يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!

في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) .

وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي ، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون «لازما» تشريعيا ، لها وجود في فطرة الإنسان بشكل قانون تكويني. وخاصّة أن التعبير بـ «الإنسان» هنا يلفت النظر فهذا القانون لا يختصّ بالمؤمنين ، بل كلّ من كان جديرا بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفا بحق الأبوين وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.

بعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمة على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه ، يأتي استثناء صريح ـ ليوضّح هذا الموضوع في الآية ، فيقول تعالى :( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) .

والتعبير بـ( جاهَداكَ ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.

والتعبير بـ( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك ، لأنّ الشرك لو كان صحيحا واقعا لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر : متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟

٣٤١

فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل ، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

وأساسا فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان ، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.

وهذه الوصية وردت ـ أيضا ـ في سورة لقمان مع اضافة( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك ، ينبغي عليك احترامهما والإحسان إليهما والارفاق بهما.

ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما الى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما ، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.

وبهذا ـ يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي : أي إن شيئا لا يمكن أن يكون حاكما على علاقة الإنسان بالله ، لأنّها مقدمة على كل شيء ، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.

والحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(١) الذي نقل عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام يعطينا معيارا واضحا لهذه المسائل!.

ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.

وهذه الجملة ـ في الحقيقة تهديد لأولئك الذين يسيرون في طريق الشرك ، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق لأنّها تقول بصراحة : إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم «في معادكم».

والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في أولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وتكرر هذا المضمون أيضا( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ـ الجملة ١٦٥.

٣٤٢

لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) .

وأساسا فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

ولكن ما الغاية من هذا التكرار؟!

قال بعضهم : في الآيات السابقة إشارة إلى أولئك الذين يسلكون طريق الحق ، أمّا هذه الآية فهي إشارة إلى أولئك الذين هم الأدلاء والهداة الى طريق التوحيد ، لأنّ التعبير بـ «الصالحين» ورد في كثير من الأنبياء ، إذ كانوا يطلبون من الله أن يدخلهم في الصالحين.

كما يحتمل أيضا ، أنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء ، إلّا أنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر! فهم في صف الصالحين ، صف الأنبياء والصديقين والشهداء ، وهم جلساؤهم ورفقاؤهم في الجنان.

* * *

ملاحظة

الإحسان إلى الوالدين :

ليست هذه هي المرّة الأولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة ، فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية (٢٣) من قبل ، وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين (١٤) و (١٥) وسورة الأحقاف الآية (١٥) أيضا.

وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه ، حتى مع كونهما مشركين ، أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر

٣٤٣

الإسلام ، فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك!.

وهذا في الواقع واحد من الامتحانات الإلهية العظيمة التي أشير إليها في بداية هذه السورة ، لأنّهما قد يبلغان من العمر أحيانا يصعب معه تحمّلهما فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الإحسان وإطاعة أمر الله وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه!.

نقرأ في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ رجلا جاء إليه فقال : «يا رسول الله ، من أبرّ؟

قال : أمّك : قلت : ثمّ من؟ قال : أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب»(١) .

وفي حديث آخر ـ وهو وارد في كثير من الكتب ـ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الجنّة تحت أقدام الأمّهات»(٢) . فلا بدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث

(٢) المصدر السابق.

٣٤٤

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) )

التّفسير

شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا!

حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح ، ففي الآيات الأولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) فلا يصبرون على الأذى والشدائد ،

٣٤٥

ويحسبون تعذيب المشركين لهم وأذى الناس أنّه عذاب من الله( وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم( أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ) .

ولعل التعبير بـ «آمنا» بصيغة الجمع ، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد ، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين ، فلذلك يقولون «آمنا» أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا.

والتعبير بـ( أُوذِيَ فِي اللهِ ) معناه أوذي في سبيل الله ، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ أحيانا ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.

الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مجازاة الله بـ «العذاب» وعن إيذاء الناس بـ «الفتنة» وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذابا ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل.

وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين «العذاب» و «الإيذاء» ولا ينبغي أن يتنصّلوا من «الإيمان» بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذا الإيذاء جزء من منهج الامتحان الكلي في هذه الدنيا.

وهنا ينقدح سؤال وهو : أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم ، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين؟!

ونقول في الجواب : إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة «الشرط» ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط ، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل ، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر!

إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و «الإعلام» ونفوذ في الأفكار

٣٤٦

العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع

ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالإيذاء مناسب لمحيط مكّة وإلّا فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة.

وقد تنوّر واتضح ـ ضمنا ـ هذا الموضوع الدقيق ، وهو أن التعبير بالمنافق لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان إطلاقا ويدعي الإيمان ، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضا يعدون من المنافقين والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين ، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم.

وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا :( وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) .

فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّا.

ونكرر هنا ـ مرّة اخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة ، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والاستيلاء على الحكومة حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ ، إلّا أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع ، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

والآية الأخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي ، الذي لا يزال موجودا في طبقات المجتمع الواسعة فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) (١) .

__________________

(١) جملة «ولنحمل» فعل دالّ على الأمر ، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين ، وهو : هل يمكن أن

٣٤٧

واليوم نرى كثيرا من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر : إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا!.

في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد ، وأساسا فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقيا فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحدا بجرم الآخر.

ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات ، ولا يمكن له التنصّل منها وخلافا لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة.

ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول: إن فلانا تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته!.

صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه ، فهو شريكه ، إلّا أن هذا الاشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية!

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية( وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

هنا ينقدح السؤال التالي «إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية ، في حين أن هذه الجملة إنشائية «ولنحمل خطاياكم» وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب ، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم «كاذبون»؟!

والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقا ، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية ، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم ، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب(١) .

__________________

ـ يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال. إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي «إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم» ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلّا أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه ، والآمر والمأمور شخص واحد ، إلّا أنّه ذو اعتبارين «فتأمل بدقّة».

(١) لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال ، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضا ،

٣٤٨

وبعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم ، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا :( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) .

وثقل الذنب هذا هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب ، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء!»(١) .

المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين ، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة.

وتختتم الآية بالقول :( وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وينقدح هنا سؤال آخر وهو : ما المراد من هذا الافتراء الذي يسألون عنه؟! ولعل ذلك إشارة إلى الافتراءات التي نسبوها إلى الله ، وكانوا يقولون : «إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام!».

أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون : «ولنحمل خطاياكم».

لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم وإن هذا الكلام كان افتراء ، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده!

أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة : هلموا لتحملوا أثقال الآخرين ، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسئولا عنه ، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضا ، وكل إنسان مسئول عن عمله!.

* * *

__________________

ـ ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضا لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به ، وحين نقول : إنّه يكذب ، فمعناه أنّه لم يطلبه «فلاحظوا بدقّة».

(١) التّفسير الكبير للرازي ، ج ٢٥ ، ص ٤٠.

٣٤٩

مسألتان

١ ـ السنن الحسنة والسنن السيئة :

التخطيط لعمل ما ـ أو لمنهج ما ـ في المنطق الإسلامي له أثره ويحمل صاحبه المسؤولية عنه ـ شاء أم أبى ـ ويكون مشاركا للآخرين الذين يعملون بما خططه وسنّه ، لأنّ أسباب العمل هي من مقدمات العمل ، ونعرف أن كل شخص يكون دخيلا في مقدمة عمل إنسان آخر فهو شريكه أيضا ، فحتى لو كانت المقدمة بسيطة ، إلّا أن ذلك الشخص شريك مع ذي المقدمة.

والشاهد على هذا الكلام حديث منقول عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أن سائلا جاء والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد ، ثمّ قام اليه رجل وناوله شيئا فقام : الآخرون ورغّبوا في إعانته فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ خيرا فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ شرّا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا»(١) .

وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.

٢ ـ جواب على سؤال :

أثار بعضهم هنا هذا السؤال ، وهو أنّنا نلاحظ أحيانا في القوانين الإسلامية أن الدية تقع على شخص آخر فمثلا في حالة قتل «الخطأ المحض» تقع الدية على العاقلة «والمراد بالعاقلة أقارب الرجل الذكور من طرف الأب الذين تتوزع فيما بينهم دية قتل الخطأ المحض ، ويدفع كلّ منهم قسما حتى تتمّ الدية!».

أو ليست هنا منافاة بين هذه المسألة وبين الآيات المتقدمة؟

__________________

(١) تفسير الدر المنثور

٣٥٠

وفي الجواب على هذا السؤال نقول : إنّ «ضمان العاقلة» في الحقيقة نوع من التأمين الإلزامي المتقابل بين أعضاء العشيرة الواحدة.

فالإسلام ـ من أجل أن لا يتحمل الفرد الواحد العبء الثقيل للدية ـ ألزم أفراد العشيرة بأن يضمن بعضهم بعضا في ديّة قتل الخطأ ، وأن يقسموا المبلغ فيما بينهم فيدفع كل فرد منهم حصّة.

فقد يخطئ اليوم أحدهم ، وغدا قد يرتكب هذا الخطأ شخص آخر من العشيرة «لمزيد الإيضاح نوكل المراجعة إلى الكتب الفقهية ، بحث الديات».

وعلى كل حال ، فإنّ هذا المنهج نوع من التعاون في سبيل حفظ المنافع المتقابلة ، ولا يعني بأي وجه تحمل وزر الآخرين ، خاصة وأنّ دية قتل الخطأ ليست أصلا جريمة ذنب ، بل هي تعويض عن الخسارة! «فتأمل بدقّة».

* * *

٣٥١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) )

التّفسير

إشارة لقصتي نوح وإبراهيم :

لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الامتحانات العامّة في الناس ، فإنّ

٣٥٢

الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الامتحانات الشديدة للأنبياء ، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم ، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديدا للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.

تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو «نوح»عليه‌السلام ، وتتحدث عنه بعبارات موجزة ، لتجمل قسما من حياته التي تناسب ـ كثيرا ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) .

كان نوح مشغولا ليل نهار بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين ، مستفيدا من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاما) يدعوهم إلى الله ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلّا جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصا كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الانحرافات ، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء :( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ ) .

وهكذا انطوى «طومار» حياتهم الذليلة ، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.

والتعبير بـ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) مع إمكان القول «تسعمائة وخمسين سنة» من البداية ، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان ، لأنّ عدد

٣٥٣

«الألف» وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهما وعددا كبيرا بالنسبة لمدّة التبليغ.

وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوحعليه‌السلام بتمامه (وإن ذكر ذلك في التوراة الحديثة ، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أخرى ، وطبقا لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!

طبعا هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جدا ولا يعدّ طبيعيّا أبدا ، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتا مع عصرنا هذا وبناء على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين ، وعمر نوح بينهم أيضا كان أكثر من المعتاد ، ويشير هذا الأمر ضمنا إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.

إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت ، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة ، وأكثر أو أقل ، فلا أساس له بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.

واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة ، إلى اثني عشر ضعفا على العمر الطبيعي ، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أو صلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان ، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(١)

وينبغي الالتفات ضمنا إلى أن كلمة «الطوفان» في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان ، وهي مشتقّة من مادة «الطواف» ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها ، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب ، سواء كان ريحا أو نارا

__________________

(١) لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر ، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهديعليه‌السلام ، يراجع كتاب «المهدي تحول كبير».

٣٥٤

أو ماء ، فيسمى كلّ منها طوفانا كما قد يرد بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضا.(١) الطريف أنّ القرآن يقول :( وَهُمْ ظالِمُونَ ) أي إنّهم حين وقوع العذاب «الطوفان» كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضا.

وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال ، وندموا على ما فعلوا ، وتوجّهوا إلى الله ، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبدا.

ويضيف القرآن الكريم في الآية الأخرى( فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) (٢) .

ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط ، ويأتي بقصّة إبراهيمعليه‌السلام ، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول :( وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٣) .

هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية ، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى ـ في مكان واحد ـ ثمّ يختتم القول : أن لو فكرتم جيدا لكان ذلك خيرا لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى ، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء ، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.

ثمّ يذكر إبراهيمعليه‌السلام أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان ، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا :( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) .

هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح الأصنام التي ليس لها إرادة ،

__________________

(١) المفردات للراغب.

(٢) القول في ما هو مرجع الضمير في «جعلناها» للمفسّرين احتمالات كثيرة ، فبعضهم قال : هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة ، وقال بعضهم : هي نجاة نوحعليه‌السلام فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من «جعلناها» هي السفينة ، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضا ـ تؤيد هذا الاحتمال الأخير ، وحقا كانت هذه السفينة آية من آيات الله في ذلك العصر ، وفي تلك الحادثة العظيمة.

(٣) الظّاهر أنّ «إبراهيم» معطوف على كلمة «نوح» وفعله «أرسلنا» ، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره «اذكر».

٣٥٥

ولا عقل ، وهي فاقدة لكل شيء ، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان»

(لاحظوا أن «الأوثان» هي جمع لكلمة «وثن» على زنة «صنم» ومعناها «الحجارة المنحوتة» الموضوعة للعبادة!).

ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول : ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب ، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان :( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) .

فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.

وحيث أن كلمة «تخلقون» مشتقّة من الخلق ، وتعني أحيانا الصنع والإبداع ، وأحيانا تأتي بمعنى الكذب ، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفا وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم ، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(١) .

ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية ، أو لعاقبتكم في «الأخرى» وكلا الهدفين باطل وذلك :( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) .

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم ، بل الخالق هو الله ، فالذي يتكفل بالرزق هو الله( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ) .

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه( وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) .

وبتعبير آخر ، فإن واحدا من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر

__________________

(١) «الإفك» يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته ، ولذلك يطلق على الكذب ـ خاصة الكذب الكبير ـ أنّه إفك ، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لاتجاهها ومسيرها فيقال «رياح مؤتفكة».

٣٥٦

للمنعم الحقيقي ، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله ، فالشكر والعبادة يختصان ـ أيضا ـ بذاته المقدسة.

وإذ كنتم تبتغون الدار الأخرى فإنّه( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فالأصنام لا تصنع شيئا هنا ولا هناك!.

وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثمّ يلتفت إبراهيمعليه‌السلام مهدّدا لهم ومبديا عدم اكتراثه بهم قائلا :( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة( وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) سواء استجاب له قومه ، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!

والمقصود بالأمم قبل أمة إبراهيمعليه‌السلام ، أمة نوحعليه‌السلام وما بعده من الأمم وبالطبع فإنّ ارتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيمعليه‌السلام ، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص ، أو يحتملون ذلك!.

والاحتمال الآخر : إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجملة( كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.

أضف إلى ذلك ، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية ٢٥ من سورة الزمر ، والآية (٢٥) من سورة فاطر ، هو أيضا في شأن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركين العرب في مكّة. ولكن ـ وعلى أي حال ـ أيّا من التّفسيرين كان ذلك ، فليس هناك تفاوت في النتيجة!.

والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتا ، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد ، فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) .

٣٥٧

والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية «القلبية» والعلم ، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضا ، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضا.

كما يأتي هذا الاحتمال ، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية «البصيريّة» والمشاهدة بالعين لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات ، وتتولد الدجاجة من البيض ، والأطفال من النطف فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعد أيضا.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) . لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يعدّ أمرا بسيطا.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم ، وإلّا فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا «المفهوم» ، ومع الالتفات إلى إنجازها ظهرت لدينا أمور يسيرة وأخرى عسيرة.

* * *

٣٥٨

الآيات

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) )

التّفسير

الآيسون من رحمة الله :

هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضا ، على صورة جمل معترضة في قصّة إبراهيمعليه‌السلام .

وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب فهذه هي طريقة القرآن دائما ، فعند ما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما ، يترك بقيّة القصّة مؤقتا للاستنتاج أكثر ، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.

وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأولى من هذا المقطع الناس إلى

٣٥٩

«السير في الآفاق» في مسألة المعاد في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر! يقول القرآن :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) انظروا الى أنواع الموجودات الحية ، والأقوام والأمم المتنوعة والمختلفة ، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا ، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضا على إيجادها في الآخرة( ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) .

ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا ، إذن فـ( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضا ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد مع فرق أن الآية الأولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله!

والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأمم والموجودات الأخرى ، ليروا الحياة الأولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماما ، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله ، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.

كما أن إثبات التوحيد يتمّ ـ أحيانا ـ عن طريق مشاهدة «الآيات في الأنفس» وأحيانا عن طريق «الآيات في الآفاق» فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضا.

وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنى أعمق وأدق ، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها ، وفي قلب الجبال ، وبين طبقات الأرض ، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض ، ويدركوا عظمة الله وقدرته ، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضا(١) .

__________________

(١) سبق أن تعرضنا إلى بحث حول «السير في الأرض» وآثاره ، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٣٧) سورة آل عمران ، فلا بأس بمراجعتها.

٣٦٠