الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181127 / تحميل: 6370
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

التّفسير

أفضل الوصايا بالنسبة للوالدين :

إنّ واحدا من أهم الامتحانات الإلهية ، هي مسألة «التضاد» بين خط الإيمان والتقوى وبين علاقة العاطفية والقرابة والقرآن في هذا المجال ـ يوضح وظيفة المسلمين بجلاء!

في البداية يتحدث عن قانون كلّي يستمد من جذور العواطف الإنسانية وردّ الجميل فيقول :( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ) .

وبالرغم من أنّ هذا حكم تشريعي ، ولكن هذه المسألة قبل أن تكون «لازما» تشريعيا ، لها وجود في فطرة الإنسان بشكل قانون تكويني. وخاصّة أن التعبير بـ «الإنسان» هنا يلفت النظر فهذا القانون لا يختصّ بالمؤمنين ، بل كلّ من كان جديرا بأن يحمل اسم الإنسان ينبغي أن يكون عارفا بحق الأبوين وأن لا ينسى تكريمهما واحترامهما والإحسان إليهما طيلة عمره وإن كان كل ذلك لا يفي بحقوقهما!.

بعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتبادر إلى الذهن أنّ العلاقة العاطفية بالوالدين يمكن أن تكون حاكمة على العلاقة بين الإنسان وربّه وإيمانه ، يأتي استثناء صريح ـ ليوضّح هذا الموضوع في الآية ، فيقول تعالى :( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) .

والتعبير بـ( جاهَداكَ ) مفهومه بذل قصارى جهدهما وإصرارهما ومنتهى سعيهما للحيلولة بين الولد وبين الإيمان بالله.

والتعبير بـ( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إشارة إلى عدم منطقية الشرك ، لأنّ الشرك لو كان صحيحا واقعا لكان عليه دليل بيّن.

وبتعبير آخر : متى ما لم يعلم الإنسان بشيء فلا ينبغي أن يتبعه فكيف إذا كان يعلم ببطلانه؟

٣٤١

فهذا الاتباع هو اتّباع للجهل ، فلو أن الوالدين أمراك باتباع الجهل فلا تطعهما.

وأساسا فإنّ التقليد الأعمى خطأ حتى ولو كان في مورد الإيمان ، فكيف إذا كان هذا التقليد للكفر والشرك!.

وهذه الوصية وردت ـ أيضا ـ في سورة لقمان مع اضافة( وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) فمع عدم قبول دعوتهما للشرك ، ينبغي عليك احترامهما والإحسان إليهما والارفاق بهما.

ولا ينبغي أن يتصور أحد أن وجوب مخالفة الأبوين فيما لو دعوا ولديهما الى الشرك دليل على جواز الاساءة لهما ، فهذا يؤكّد منتهى تأكيد الإسلام على احترام الأبوين.

وبهذا ـ يستفاد من هذا المنطلق أصل كلي : أي إن شيئا لا يمكن أن يكون حاكما على علاقة الإنسان بالله ، لأنّها مقدمة على كل شيء ، حتى على علاقته بأبويه التي هي أقرب العلائق إليه.

والحديث المعروف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(١) الذي نقل عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام يعطينا معيارا واضحا لهذه المسائل!.

ثمّ يضيف تعالى في نهاية الآية( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وأجازيكم دون غمط ونقص في الثواب أو العقاب.

وهذه الجملة ـ في الحقيقة تهديد لأولئك الذين يسيرون في طريق الشرك ، والذين يدعون الآخرين إلى هذا الطريق لأنّها تقول بصراحة : إنّ الله يرى أعمالكم ويحفظهما ثمّ يعيدها إليكم «في معادكم».

والآية التي بعدها تؤكّد الحقيقة في أولئك المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وتكرر هذا المضمون أيضا( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ـ الجملة ١٦٥.

٣٤٢

لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) .

وأساسا فإنّ عمل الإنسان يترك في الإنسان أثره فالعمل الصالح يصبغ الإنسان بلونه ويدخله في زمرة «الصالحين».

كما أنّ العمل السيء يدخله في زمرة «الخاطئين والمسيئين».

ولكن ما الغاية من هذا التكرار؟!

قال بعضهم : في الآيات السابقة إشارة إلى أولئك الذين يسلكون طريق الحق ، أمّا هذه الآية فهي إشارة إلى أولئك الذين هم الأدلاء والهداة الى طريق التوحيد ، لأنّ التعبير بـ «الصالحين» ورد في كثير من الأنبياء ، إذ كانوا يطلبون من الله أن يدخلهم في الصالحين.

كما يحتمل أيضا ، أنّ الكلام في الآيات المتقدمة كان عن غفران الذنوب وتكفير السيئات وما يستحقه المؤمنون من الجزاء ، إلّا أنّه هنا إشارة عن مقامهم الرفيع الذي هو في نفسه ثواب آخر! فهم في صف الصالحين ، صف الأنبياء والصديقين والشهداء ، وهم جلساؤهم ورفقاؤهم في الجنان.

* * *

ملاحظة

الإحسان إلى الوالدين :

ليست هذه هي المرّة الأولى التي يشير فيها القرآن إلى هذه المسألة الإنسانية المهمّة ، فقد أشار إليها في سورة الإسراء الآية (٢٣) من قبل ، وسترد الإشارة إليها بعد في سورة لقمان الآيتين (١٤) و (١٥) وسورة الأحقاف الآية (١٥) أيضا.

وفي الحقيقة إنّ الإسلام يدعو إلى احترام الوالدين في أسمى مراتبه ، حتى مع كونهما مشركين ، أو عند دعوتهما إلى الشرك الذي هو أبغض الأشياء في نظر

٣٤٣

الإسلام ، فإنّ الإسلام يوجب احترامهما في الوقت الذي يمنع من إطاعتهما في قبول الشرك والاستجابة إلى ذلك!.

وهذا في الواقع واحد من الامتحانات الإلهية العظيمة التي أشير إليها في بداية هذه السورة ، لأنّهما قد يبلغان من العمر أحيانا يصعب معه تحمّلهما فهنا ينبغي على الأبناء أن يؤدوا امتحانهم في مجال ردّ الإحسان وإطاعة أمر الله وأن يحافظوا على والديهما بأحسن وجه!.

نقرأ في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ رجلا جاء إليه فقال : «يا رسول الله ، من أبرّ؟

قال : أمّك : قلت : ثمّ من؟ قال : أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أمّك. قلت : ثمّ من؟ قال : ثمّ أباك ثمّ الأقرب فالأقرب»(١) .

وفي حديث آخر ـ وهو وارد في كثير من الكتب ـ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الجنّة تحت أقدام الأمّهات»(٢) . فلا بدّ للوصول إلى الجنّة من الخضوع والتذلل في مقابلها كتراب الأقدام.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث

(٢) المصدر السابق.

٣٤٤

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) )

التّفسير

شركاء في الانتصار أمّا في الشدّة فلا!

حيث أنّ الآيات المتقدمة تحدثت عن المؤمنين الصالحين والمشركين بشكل صريح ، ففي الآيات الأولى من هذا المقطع يقع الكلام على الفريق الثّالث ـ أي المنافقين ـ فيقول القرآن فيهم :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) فلا يصبرون على الأذى والشدائد ،

٣٤٥

ويحسبون تعذيب المشركين لهم وأذى الناس أنّه عذاب من الله( وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) فنحن معكم في هذا الافتخار والفتح.

ترى هل يظنون أن الله خفيّ عليه ما في أعماق قلوبهم فلا يعرف نياتهم( أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ) .

ولعل التعبير بـ «آمنا» بصيغة الجمع ، مع أنّ الجملة التي تليه جاءت بصيغة المفرد ، هو من جهة أنّ هؤلاء المنافقين يريدون أن يقحموا أنفسهم في صف المؤمنين ، فلذلك يقولون «آمنا» أي آمنا كسائر الناس الذين آمنوا.

والتعبير بـ( أُوذِيَ فِي اللهِ ) معناه أوذي في سبيل الله ، أي إنّهم قد يتعرض لهم العدوّ ـ أحيانا ـ وهم في سبيل الله والإيمان فيؤذيهم.

الطريف هنا أنّ القرآن يعبر عن مجازاة الله بـ «العذاب» وعن إيذاء الناس بـ «الفتنة» وهذا التعبير إشارة إلى أنّ إيذاء الناس ليس عذابا ـ في حقيقة الأمر ـ بل هو امتحان وطريق إلى التكامل.

وبهذا فإنّ القرآن يعلمهم أن لا يقايسوا بين هذين النوعين «العذاب» و «الإيذاء» ولا ينبغي أن يتنصّلوا من «الإيمان» بحجّة أن المشركين والمخالفين يؤذيهم فإن هذا الإيذاء جزء من منهج الامتحان الكلي في هذه الدنيا.

وهنا ينقدح سؤال وهو : أي نصر جعله الله حليف المسلمين ونصيبهم ، ليدعي المنافقون أنّهم شركاء في هذا النصر مع المسلمين؟!

ونقول في الجواب : إنّ الجملة الآنفة الذكر جاءت بصيغة «الشرط» ونعلم أنّ الجملة الشرطية لا دليل فيها على وجود الشرط ، بل مفهومها هو أنّه لو اتفق أن كان النصر حليفكم في المستقبل ، فإنّ هؤلاء المنافقين ـ ضعاف الإيمان ـ يرون أنفسهم شركاء في هذا النصر!

إضافة إلى كل ذلك فإنّ المسلمين في مكّة كانت لهم انتصارات على المشركين غير عسكرية بل انتصارات في التبليغ و «الإعلام» ونفوذ في الأفكار

٣٤٦

العامة وتوغّل الإسلام في طبقات المجتمع

ثمّ بعد هذا كله فإنّ التعبير بالإيذاء مناسب لمحيط مكّة وإلّا فقلّ أن اتفق مثل هذا الإيذاء في محيط المدينة.

وقد تنوّر واتضح ـ ضمنا ـ هذا الموضوع الدقيق ، وهو أن التعبير بالمنافق لا يختص بمن ليس في قلبه ايمان إطلاقا ويدعي الإيمان ، بل حتى الافراد من ضعاف الإيمان الذين يتراجعون عن عقيداتهم نتيجة الضغوط والتأثير بفلان وفلان فهؤلاء أيضا يعدون من المنافقين والآية محل البحث ـ كما يظهر ـ تتحدث عن هذا النوع من المنافقين ، وتصرح بأنّ الله مطلع على نيّاتهم وعليم بسرائرهم.

وفي الآية التالية ـ لمزيد التأكيد ـ يضيف القرآن قائلا :( وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) .

فلو تصوروا أنّهم إذا أخفوا الحقائق فإنّهم سيكونون في منأى عن علم الله فهم في خطأ كبير جدّا.

ونكرر هنا ـ مرّة اخرى أنّ التعبير بالمنافقين ليس دليلا على أنّ هذه الآيات نزلت في المدينة ، صحيح أنّ مسألة النفاق تقع عادة بعد انتصار جماعة والاستيلاء على الحكومة حيث يغير المخالفون أقنعتهم ويعملون في الخفاء حينئذ ، إلّا أن للنفاق ـ كما قلنا ـ معنى واسع ، ويشمل حتى الأفراد ضعاف الإيمان الذين يبدّلون عقيدتهم لأدنى مكروه يصيبهم.

والآية الأخرى بعدها تشير إلى منطق المشركين الخاوي والملتوي ، الذي لا يزال موجودا في طبقات المجتمع الواسعة فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) (١) .

__________________

(١) جملة «ولنحمل» فعل دالّ على الأمر ، وقد ولّد هذا التعبير إشكالا عند بعض المفسّرين ، وهو : هل يمكن أن

٣٤٧

واليوم نرى كثيرا من الخبثاء يقولون للآخرين عند دعوتهم إلى أمر : إن كان فيه ذنب فعلى رقابنا!.

في حين أنّنا نعلم أنّه لا يمكن لأحد أن يتحمل وزر أحد ، وأساسا فإنّ هذا العمل ليس معقولا وليس منطقيا فالله عادل سبحانه ولا يؤاخذ أحدا بجرم الآخر.

ثمّ بعد كل ذلك فإنّ الإنسان لا تسقط عنه المسؤولية في العمل بمثل هذه الكلمات ، ولا يمكن له التنصّل منها وخلافا لما يتوهمه بعض الحمقى فإنّ مثل هذه التعبيرات لا تنقص من عقابهم حتى بمقدار رأس الإبرة.

ولذلك فلا يعتدّ بمثل هذا الكلام في أية محكمة كانت ولا يقبل من المذنب أن يقول: إن فلانا تحمّل عنّي الوزر وجعله في رقبته!.

صحيح أن ذلك الإنسان حثه على الإجرام ودفعه إلى اقترافه ، فهو شريكه ، إلّا أن هذا الاشتراك في الجريمة لا يخفّف عنه المسؤولية!

لذلك فإنّ القرآن يقول بصراحة في الجملة التالية( وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

هنا ينقدح السؤال التالي «إنّ الصدق والكذب هما في موارد الجمل الخبرية ، في حين أن هذه الجملة إنشائية «ولنحمل خطاياكم» وليس في الجملة الإنشائية صدق أو كذب ، فلم عبّر القرآن عنهم بأنّهم «كاذبون»؟!

والجواب على هذا السؤال يتّضح من البيان الذي ذكرناه سابقا ، وهو أن الجملة الأمرية هنا تتحول إلى جملة شرطية ، ومفهومها أنّه إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم وآثامكم ، ومثل هذه الجملة تقبل الصدق والكذب(١) .

__________________

ـ يأمر الإنسان نفسه؟! ثمّ قالوا في رد هذا الإشكال. إنّ هذا الأمر في حكم القضية الشرطية أي «إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم» ـ كما في تفسير الرّازي ـ إلّا أنّه في اعتقادنا لا يمنع أن يأمر الإنسان نفسه ، والآمر والمأمور شخص واحد ، إلّا أنّه ذو اعتبارين «فتأمل بدقّة».

(١) لدينا طريق آخر على الجواب على هذا السؤال ، لأنّنا نعتقد وجود الصدق والكذب في الجملة الإنشائية أيضا ،

٣٤٨

وبعد ذلك ، ومن أجل أن لا يتصور أن هؤلاء الدعاة للكفر والشرك وعبادة الأصنام والظلم ، لا شيء عليهم من العقاب لهذا العمل ، فإنّ القرآن يضيف في الآية التالية قائلا :( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ) .

وثقل الذنب هذا هو ثقل ذنب الإغراء والإغواء وحث الآخرين على الذنب ، وهو ثقل السنّة التي عبّر عنها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء!»(١) .

المهم أنّهم شركاء في آثام الآخرين ، وإن لم ينقص من وزر الآخرين وإثمهم مقدار من رأس الإبرة.

وتختتم الآية بالقول :( وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وينقدح هنا سؤال آخر وهو : ما المراد من هذا الافتراء الذي يسألون عنه؟! ولعل ذلك إشارة إلى الافتراءات التي نسبوها إلى الله ، وكانوا يقولون : «إن الله أمرنا أن نعبد الأصنام!».

أو أنّه إشارة إلى كلامهم الذي كانوا يقولون : «ولنحمل خطاياكم».

لأنّهم كانوا يدّعون أن مثل تلك الأعمال لا يترتب عليها إثم وإن هذا الكلام كان افتراء ، وينبغي أن يجيبوا على ما يسألون بصدده!

أو أنّه يقال لهم على نحو الحقيقة والواقع يوم القيامة : هلموا لتحملوا أثقال الآخرين ، فيمتنعون من ذلك ويظهر كذبهم وافتراءهم أو أنّ ظاهر كلامهم كان يعني أن كلّ إنسان يمكن أن يتحمل وزر الأخر ويكون مسئولا عنه ، في حين أن هذا الكلام كذب وافتراء محض أيضا ، وكل إنسان مسئول عن عمله!.

* * *

__________________

ـ ويلاحظ هذا في التعبيرات العرفية أيضا لأنّ الشخص ـ مثلا ـ إذا أمر بشيء ما فهو دليل على تعلقه به ، وحين نقول : إنّه يكذب ، فمعناه أنّه لم يطلبه «فلاحظوا بدقّة».

(١) التّفسير الكبير للرازي ، ج ٢٥ ، ص ٤٠.

٣٤٩

مسألتان

١ ـ السنن الحسنة والسنن السيئة :

التخطيط لعمل ما ـ أو لمنهج ما ـ في المنطق الإسلامي له أثره ويحمل صاحبه المسؤولية عنه ـ شاء أم أبى ـ ويكون مشاركا للآخرين الذين يعملون بما خططه وسنّه ، لأنّ أسباب العمل هي من مقدمات العمل ، ونعرف أن كل شخص يكون دخيلا في مقدمة عمل إنسان آخر فهو شريكه أيضا ، فحتى لو كانت المقدمة بسيطة ، إلّا أن ذلك الشخص شريك مع ذي المقدمة.

والشاهد على هذا الكلام حديث منقول عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أن سائلا جاء والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في طائفة من صحابته فطلب العون فلم يجبه أحد ، ثمّ قام اليه رجل وناوله شيئا فقام : الآخرون ورغّبوا في إعانته فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ خيرا فاستن به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن سنّ شرّا فاستن به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا»(١) .

وقد ورد نظير هذا الحديث بعبارات مختلفة في مصادر الحديث عند الشيعة والسنة وهو حديث مشهور.

٢ ـ جواب على سؤال :

أثار بعضهم هنا هذا السؤال ، وهو أنّنا نلاحظ أحيانا في القوانين الإسلامية أن الدية تقع على شخص آخر فمثلا في حالة قتل «الخطأ المحض» تقع الدية على العاقلة «والمراد بالعاقلة أقارب الرجل الذكور من طرف الأب الذين تتوزع فيما بينهم دية قتل الخطأ المحض ، ويدفع كلّ منهم قسما حتى تتمّ الدية!».

أو ليست هنا منافاة بين هذه المسألة وبين الآيات المتقدمة؟

__________________

(١) تفسير الدر المنثور

٣٥٠

وفي الجواب على هذا السؤال نقول : إنّ «ضمان العاقلة» في الحقيقة نوع من التأمين الإلزامي المتقابل بين أعضاء العشيرة الواحدة.

فالإسلام ـ من أجل أن لا يتحمل الفرد الواحد العبء الثقيل للدية ـ ألزم أفراد العشيرة بأن يضمن بعضهم بعضا في ديّة قتل الخطأ ، وأن يقسموا المبلغ فيما بينهم فيدفع كل فرد منهم حصّة.

فقد يخطئ اليوم أحدهم ، وغدا قد يرتكب هذا الخطأ شخص آخر من العشيرة «لمزيد الإيضاح نوكل المراجعة إلى الكتب الفقهية ، بحث الديات».

وعلى كل حال ، فإنّ هذا المنهج نوع من التعاون في سبيل حفظ المنافع المتقابلة ، ولا يعني بأي وجه تحمل وزر الآخرين ، خاصة وأنّ دية قتل الخطأ ليست أصلا جريمة ذنب ، بل هي تعويض عن الخسارة! «فتأمل بدقّة».

* * *

٣٥١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) )

التّفسير

إشارة لقصتي نوح وإبراهيم :

لما كان الكلام في البحوث السابقة عن الامتحانات العامّة في الناس ، فإنّ

٣٥٢

الكلام هنا ـ وفي ما بعد ـ يقع على الامتحانات الشديدة للأنبياء ، وكيف أنّهم كانوا تحت ضغط الأعداء وإيذائهم ، وكيف صبروا وكانت عاقبة صبرهم النصر! ليكون هذا الكلام تسلية لقلوب أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين كانوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الأعداء ـ من جانب ـ وتهديدا للأعداء لينتظروا عاقبتهم الوخيمة من جانب آخر.

تبدأ الآيات أوّلا بالكلام على أوّل نبي من أولي العزم وهو «نوح»عليه‌السلام ، وتتحدث عنه بعبارات موجزة ، لتجمل قسما من حياته التي تناسب ـ كثيرا ـ الواقع الراهن للمسلمين ـ آنئذ ـ فتقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) .

كان نوح مشغولا ليل نهار بالتبليغ ودعوة قومه إلى توحيد الله ـ فرادى ومجتمعين ، مستفيدا من جميع الفرص في هذه المدة الطويلة (أي تسعمائة وخمسين عاما) يدعوهم إلى الله ولم يشعر بالتعب والنصب من هذا السعي المتتابع ولم يظهر عليه الضعف والفتور.

ومع كل هذا الجهد الجهيد لم يؤمن به إلّا جماعة قليلة في حدود الثمانين شخصا كما تنقل التواريخ (أي بمعدّل نفر واحد لكل اثنتي عشرة سنة!).

فعلى هذا لا تظهروا الضعف والتعب في سبيل الدعوة إلى الحق ومواجهة الانحرافات ، لأنّ منهجكم أمام منهج «نوح» سهل للغاية.

لكن لاحظوا كيف كانت عاقبة قوم نوح الظالمين الألدّاء :( فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ ) .

وهكذا انطوى «طومار» حياتهم الذليلة ، وغرقت قصورهم وأجسادهم وآثارهم في الطوفان وأمواجه.

والتعبير بـ( أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ) مع إمكان القول «تسعمائة وخمسين سنة» من البداية ، هو إشارة إلى عظمة المدة وطول الزمان ، لأنّ عدد

٣٥٣

«الألف» وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ مهما وعددا كبيرا بالنسبة لمدّة التبليغ.

وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوحعليه‌السلام بتمامه (وإن ذكر ذلك في التوراة الحديثة ، في سفر التكوين الفصل التاسع) بل عاش بعد الطوفان فترة أخرى ، وطبقا لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة!

طبعا هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جدا ولا يعدّ طبيعيّا أبدا ، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتا مع عصرنا هذا وبناء على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمرين ، وعمر نوح بينهم أيضا كان أكثر من المعتاد ، ويشير هذا الأمر ضمنا إلى هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمّروا طويلا.

إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت ، وما يقوله بعضهم بأنّه محدود بمائة وعشرين سنة ، وأكثر أو أقل ، فلا أساس له بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف.

واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة ، إلى اثني عشر ضعفا على العمر الطبيعي ، وحتى في بعض الموارد ـ ولا تتعجبوا ـ أو صلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان ، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين.(١)

وينبغي الالتفات ضمنا إلى أن كلمة «الطوفان» في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان ، وهي مشتقّة من مادة «الطواف» ، ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها ، كما يطلق على كل شيء كثير وشديد وفيه حالة الاستيعاب ، سواء كان ريحا أو نارا

__________________

(١) لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر ، بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهديعليه‌السلام ، يراجع كتاب «المهدي تحول كبير».

٣٥٤

أو ماء ، فيسمى كلّ منها طوفانا كما قد يرد بمعنى ظلمة الليل الشديدة أيضا.(١) الطريف أنّ القرآن يقول :( وَهُمْ ظالِمُونَ ) أي إنّهم حين وقوع العذاب «الطوفان» كانوا لا يزالون في ظلمهم أيضا.

وهذا إشارة إلى أنّهم لو تركوا تلك الأعمال ، وندموا على ما فعلوا ، وتوجّهوا إلى الله ، لما ابتلوا بمثل هذه العاقبة أبدا.

ويضيف القرآن الكريم في الآية الأخرى( فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) (٢) .

ثمّ يعقّب على قصّة نوح وقومه التي وردت بشكل مضغوط ، ويأتي بقصّة إبراهيمعليه‌السلام ، ثاني الأنبياء الكبار من أولي العزم فيقول :( وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (٣) .

هنا بيّن القرآن منهجين مهمّين من مناهج الأنبياء العملية والاعتقادية ، وهما الدعوة إلى توحيد الله والتقوى ـ في مكان واحد ـ ثمّ يختتم القول : أن لو فكرتم جيدا لكان ذلك خيرا لكم عند اتباعكم لمذهب التوحيد والتقوى ، إذ ينجيكم من دنياكم الملوّثة بالذنوب والشقاء ، وتكون آخرتكم هي السعادة الأبديّة.

ثمّ يذكر إبراهيمعليه‌السلام أدلة بطلان عبادة الأصنام والأوثان ، ويبيّن في تعابير مختلفة يتضمّن كل منها دليلا على فساد مذهبهم وبطلانه فيقول أوّلا :( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) .

هذه الأوثان هي الأصنام الخالية من الروح الأصنام التي ليس لها إرادة ،

__________________

(١) المفردات للراغب.

(٢) القول في ما هو مرجع الضمير في «جعلناها» للمفسّرين احتمالات كثيرة ، فبعضهم قال : هو إشارة إلى مجموع هذه الواقعة والحادثة ، وقال بعضهم : هي نجاة نوحعليه‌السلام فحسب ـ مع أصحابه ـ وأشار بعضهم إلى أن المراد من «جعلناها» هي السفينة ، وظاهر العبارة المتقدمة ـ أيضا ـ تؤيد هذا الاحتمال الأخير ، وحقا كانت هذه السفينة آية من آيات الله في ذلك العصر ، وفي تلك الحادثة العظيمة.

(٣) الظّاهر أنّ «إبراهيم» معطوف على كلمة «نوح» وفعله «أرسلنا» ، وبعضهم عطفه على مفعول (أنجيناه) وبعضهم جعله مفعولا لفعل محذوف تقديره «اذكر».

٣٥٥

ولا عقل ، وهي فاقدة لكل شيء ، بحيث أن شكلها بنفسه هو دليل على بطلان عقيدة «عبادة الأوثان»

(لاحظوا أن «الأوثان» هي جمع لكلمة «وثن» على زنة «صنم» ومعناها «الحجارة المنحوتة» الموضوعة للعبادة!).

ثمّ يتوسع في حديثه ويمضي إلى مدى أبعد فيقول : ليست هذه الأوثان بهيئتها تدل على أنّها لا تستحق العبادة فحسب ، بل أنتم تعلمون بأنّكم تكذبون وتضعون اسم الآلهة على هذه الأوثان :( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) .

فأي دليل لديكم على هذا الكذب سوى حفنة من الأوهام والخرافات الباطلة.

وحيث أن كلمة «تخلقون» مشتقّة من الخلق ، وتعني أحيانا الصنع والإبداع ، وأحيانا تأتي بمعنى الكذب ، فإنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لهذه الجملة غير ما بيّناه آنفا وقالوا إنّ المقصود من هذا التعبير هو أنّكم تنحتون هذه الأوثان المعبودات الباطلة المزوّرة بأيديكم ، وتصنعونها (فيكون المراد من الإفك هنا هو المعبودات المزورّة) والخلق هو النحت هنا(١) .

ثمّ يبيّن الدليل الثّالث وهو أن عبادتكم لهذه الأوثان إمّا لأجل المنافع المادية ، أو لعاقبتكم في «الأخرى» وكلا الهدفين باطل وذلك :( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) .

وأنتم تعتقدون بأنّ هذه الأصنام لم تكن خلقتكم ، بل الخالق هو الله ، فالذي يتكفل بالرزق هو الله( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ) .

ولأنّه هو الذي يرزقكم فتوجهوا إليه( وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ) .

وبتعبير آخر ، فإن واحدا من أسباب العبادة وبواعثها هو الإحساس بالشكر

__________________

(١) «الإفك» يطلق في الأصل على كل شيء مختلف عن حقيقته ، ولذلك يطلق على الكذب ـ خاصة الكذب الكبير ـ أنّه إفك ، كما تطلق هذه الكلمة على الرياح المخالفة لاتجاهها ومسيرها فيقال «رياح مؤتفكة».

٣٥٦

للمنعم الحقيقي ، وتعرفون أن المنعم الحقيقي هو الله ، فالشكر والعبادة يختصان ـ أيضا ـ بذاته المقدسة.

وإذ كنتم تبتغون الدار الأخرى فإنّه( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

فالأصنام لا تصنع شيئا هنا ولا هناك!.

وبهذا الأدلّة الموجزة والواضحة ألجم منطقهم الواهي وأفحمهم.

ثمّ يلتفت إبراهيمعليه‌السلام مهدّدا لهم ومبديا عدم اكتراثه بهم قائلا :( وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) كذبوا أنبياءهم فنالوا الخزي بتكذيبهم والعاقبة الوخيمة( وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) سواء استجاب له قومه ، أم لم يستجيبوا له دعوته وبلاغه!

والمقصود بالأمم قبل أمة إبراهيمعليه‌السلام ، أمة نوحعليه‌السلام وما بعده من الأمم وبالطبع فإنّ ارتباط هذه الآيات يوجب أن تكون هذه الجملة من كلمات إبراهيمعليه‌السلام ، وهذا ما يذهب إليه كثير من المفسّرين عند تفسيرهم للنص ، أو يحتملون ذلك!.

والاحتمال الآخر : إنّ الخطاب في هذه الآية للمشركين من أهل مكّة المعاصرين للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجملة( كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فيها تتناسب أكثر مع هذا الاحتمال.

أضف إلى ذلك ، فإنّ نظير هذا التعبير الذي ورد في الآية ٢٥ من سورة الزمر ، والآية (٢٥) من سورة فاطر ، هو أيضا في شأن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والمشركين العرب في مكّة. ولكن ـ وعلى أي حال ـ أيّا من التّفسيرين كان ذلك ، فليس هناك تفاوت في النتيجة!.

والقرآن يترك قصّة إبراهيم هنا مؤقتا ، ويكمل البحث الذي كان لدى إبراهيم في صدد التوحيد وبيان رسالته بدليل المعاد ، فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) .

٣٥٧

والمراد بالرؤية هنا هي الرؤية «القلبية» والعلم ، أي كيف لا يعرف هؤلاء خلق الله؟ فالذي له القدرة على الإيجاد أولا قادر على إعادته أيضا ، فالقدرة على شيء ما هي قدرة على أمثاله وأشباهه أيضا.

كما يأتي هذا الاحتمال ، وهو أنّ الرؤية هنا هي الرؤية «البصيريّة» والمشاهدة بالعين لأنّ الإنسان يرى بعينيه كيف تحيا الأرض وتنمو النباتات ، وتتولد الدجاجة من البيض ، والأطفال من النطف فمن له القدرة على هذا الأمر قادر على أن يحيي الموتى من بعد أيضا.

ويضيف في آخر الآية على سبيل التأكيد( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) . لأنّ تجديد الحياة قبال الإيجاد الأوّل يعدّ أمرا بسيطا.

وطبيعي أنّ هذا التعبير يناسب منطق الناس وفهمهم ، وإلّا فإن اليسير والعسير لا مفهوم لهما عند من قدرته غير محدودة والمطلقة فهذه قدراتنا التي أوجدت مثل هذا «المفهوم» ، ومع الالتفات إلى إنجازها ظهرت لدينا أمور يسيرة وأخرى عسيرة.

* * *

٣٥٨

الآيات

( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) )

التّفسير

الآيسون من رحمة الله :

هذه الآيات تواصل البحث في المعاد أيضا ، على صورة جمل معترضة في قصّة إبراهيمعليه‌السلام .

وليست هذه أوّل مرّة نواجه فيها مثل هذا الأسلوب فهذه هي طريقة القرآن دائما ، فعند ما يبلغ مرحلة حساسة من ذكر قصّة ما ، يترك بقيّة القصّة مؤقتا للاستنتاج أكثر ، ثمّ يعطي النتائج اللازمة.

وعلى كل حال ، فإنّ القرآن يدعو في الآية الأولى من هذا المقطع الناس إلى

٣٥٩

«السير في الآفاق» في مسألة المعاد في حين أن الآية السابقة كانت السمة فيها «السير في الأنفس» أكثر! يقول القرآن :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ) انظروا الى أنواع الموجودات الحية ، والأقوام والأمم المتنوعة والمختلفة ، وكيف أنّ الله تعالى خلقها أولا ، ثمّ أن الله نفسه الذي أوجدها في البداية من العدم قادر ايضا على إيجادها في الآخرة( ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) .

ولأنّه أثبت قدرته على كل شيء حين خلق الخلق أولا ، إذن فـ( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فهذه الآية والآية التي قبلها ـ أيضا ـ أثبتتا بواسطة قدرته الواسعة إمكان المعاد مع فرق أن الآية الأولى تتحدث عن الإنسان نفسه وخلقه وما حوله!

والآية الثّانية تأمر بمطالعة حالات الأمم والموجودات الأخرى ، ليروا الحياة الأولى في صور مختلفة وظروف متفاوتة تماما ، وليطّلعوا على عموميّة قدرة الله ، وليستيقنوا قدرته على إعادة هذه الحياة!.

كما أن إثبات التوحيد يتمّ ـ أحيانا ـ عن طريق مشاهدة «الآيات في الأنفس» وأحيانا عن طريق «الآيات في الآفاق» فكذلك يتمّ إثبات المعاد عن هذين الطريقين أيضا.

وفي عصرنا هذا يمكن أن تبيّن هذه الآيات للعلماء معنى أعمق وأدق ، وهو أن يمضوا ويلاحظوا الموجودات الحيّة الأولى التي هي في أعماق البحار على شكل فسائل ونباتات وغيرها ، وفي قلب الجبال ، وبين طبقات الأرض ، ويطلعوا على جانب من أسرار بداية الحياة على وجه الأرض ، ويدركوا عظمة الله وقدرته ، وليعلموا أنّه قادر على إعادة الحياة أيضا(١) .

__________________

(١) سبق أن تعرضنا إلى بحث حول «السير في الأرض» وآثاره ، غير أنّ البحث الفائت كانت فيه جوانب من دروس العبرة في مجال قصص الأمم الماضية وطغاتها. التّفسير الأمثل ذيل الآية (١٣٧) سورة آل عمران ، فلا بأس بمراجعتها.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

ووفق ما ورد في الرّوايات ، فقد صعد يونسعليه‌السلام إلى السفينة ، ثمّ إنّ حوتا ضخما وقف أمام السفينة ، فاتحا فمه وكأنّه يطلب الطعام ، فقال ركاب السفينة أنّ هناك شخصا مذنبا معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت ، ولم يجدوا سبيلا سوى الاقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت ، وعند ما اقترعوا خرج اسم يونس ، وطبقا للرواية فإنّهم اقترعوا ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة كان يخرج اسم يونسعليه‌السلام ، فأمسكوا بيونس وقذفوه في فم الحوت العظيم ، وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة ، قال تعالى :( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) .

«ساهم» في مادّة (سهم) وتعني اشتراكه في الاقتراع ، فالاقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي ، كتبوا اسم كلّ راكب على (سهم) ثمّ خلطوا الأسهم وسحبوا سهما واحدا ، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونسعليه‌السلام .

(مدحض) مشتقّة من (دحض) وتعني إبطال مفعول الشيء أو إزالته أو التغلّب عليه ، والمراد هنا أنّ اسمه ظهر في عملية الاقتراع من بين بقيّة الأسماء.

وورد بهذا الشأن تفسير آخر يقول : إنّ إعصارا هبّ في البحر عرض السفينة ومن فيها من الرّكاب للخطر بسبب ثقل حمولتها ، ولم يكن لهم سبيل للنجاة سوى تخفيف وزن السفينة من خلال إلقاء بعض ركّابها في وسط البحر ، وعند ما اقترعوا على من يرمونه في الماء خرج اسم يونس ، وبعد رميه في البحر ابتلعه حوت عظيم.

وقال القرآن الكريم :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) أي إنّ حوتا عظيما التقمه وهو مستحقّ للملامة.

«التقم» مشتقّة من (الالتقام) وتعني (البلع).

(مليم) من مادّة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعند ما تأتي بصفة الفعل فإنّها تعطي معنى استحقاق الملامة).

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب ارتكابه ذنبا كبيرا أو صغيرا وإنّما

٤٠١

بسبب تركه العمل بالأولى ، واستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

وبعد بلعه من قبل الحوت أعطى الله سبحانه وتعالى أمرا تكوينيا إلى الحوت أن لا تلحق الأذى بيونس ، إذ أنّ عليه أن يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له مثيل ، كي يدرك تركه العمل بالأولى ، ويسعى لإصلاحه.

وورد في إحدى الرّوايات أنّ «أوحى الله إلى الحوت : لا تكسر منه عظما ولا تقطع له وصلا»(١) .

يونسعليه‌السلام انتبه بسرعة للحادث ، وتوجّه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفرا الله على تركه العمل بالأولى ، وطالبا العفو منه.

ونقلت الآية (٨٧) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونسعليه‌السلام بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية ، قال تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

أي إنّه نادى من بطن الحوت بأن لا معبود سواك ، وأنّني كنت من الظالمين ، إذ ظلمت نفسي وابتعدت عن باب رحمتك.

اعتراف يونس الخالص بالظلم ، وتسبيحه الله المرافق للندم أدّى مفعوله ، إذ استجاب الله له وأنقذه من الغمّ ، كما جاء في الآية (٨٨) من سورة الأنبياء ،( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونسعليه‌السلام ، قال تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتّى يوم القيامة ، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم ، ومن ثمّ تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

وبخصوص بقاء يونس في بطن الحوت حتّى يوم القيامة (على فرض أنّه ترك

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ١٦٥ ، كما ورد نفس المعنى مع اختلاف بسيط في تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٧.

٤٠٢

تسبيح الله والتوبة إليه) فهل أنّه يعني بقاءه حيّا أم ميّتا ، المفسّرون ذكروا بهذا الشأن احتمالات متعدّدة منها :

أوّلا : بقاء الإثنين ـ أي يونس والحوت ـ أحياء ، ويونس يبقى إلى يوم القيامة مسجونا في بطن الحوت.

ثانيا : وفاة يونس ، وبقاء الحوت حيّا باعتباره قبرا متحركا لجثّة يونس.

ثالثا : وفاة الإثنين ، وهنا يكون بطن الحوت قبرا ليونس ، والأرض قبرا للحوت ، حيث يدفن في قلب الحوت ، والحوت يدفن في باطن الأرض إلى يوم القيامة.

الآية مورد البحث لا تدلّ على أي من الاحتمالات التي ذكرناها ، فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم تؤكّد موت الجميع في آخر الزمان ، لذا فإنّ بقاء يونس أو الحوت أحياء حتّى يوم القيامة غير ممكن ، وبهذا يعدّ الاحتمال الثالث أقرب الاحتمالات إلى الواقع(١) .

وهناك احتمال آخر يقول : إنّ هذه العبارة هي كناية عن طول المدّة ، وتعني أنّه سيبقى لمدّة طويلة في هذا السجن.

ولا ننسى أنّ هذه الأمور كان يمكن أن تتحقّق لو أنّه كان قد ترك تسبيح الله والتوبة إليه ، ولكن الذي حدث أنّ تسبيحه وتوبته جعلاه مشمولا بالعفو الإلهي.

ويضيف القرآن ، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا ، وهو مريض( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ) .

فالحوت الضخم لفظ يونس ـ الذي لم يكن غذاء صالحا لذلك الحوت ـ على ساحل خال من الزرع والنبات ، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثر على سلامة وصحّة جسم يونس ، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

__________________

(١) الملفت للنظر أنّ المفسّر الكبير العلّامة (الطبرسي) الذي غالبا ما يجمع الآراء المختلفة في ذيل الآيات ، اقتنع هنا بإيراد احتمال واحد فقط ، والذي يقول (لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة).

٤٠٣

إنّنا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت ، فمن المسلّم به أنّه لا يمكن تجنّب المؤثّرات هناك مهما كانت الفترة الزمينة التي قضاها في بطن الحوت ، صحيح أنّ الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن الحوت ، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثّر بعض الشيء بمؤثّرات ذلك السجن ، لذا فقد كتب بعض المفسّرون أنّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة ضعيف وهزيل جدّا لا يمتلك القدرة على الحركة.

مرّة اخرى شمله اللطف الإلهي ، لأنّ جسمه كان مريضا ومتعبا ، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقا وعاجزا ، وكانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول ، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة( وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) .

(اليقطين) تعني ـ كما قال أصحاب اللغة والتّفسير ـ كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة ، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو (القرع) ، والذي يجب الالتفات إليه أنّ كلمة «الشجرة» في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان ، وبعبارة اخرى : تشمل كلّ الأشجار والنباتات ، ونقلوا حديثا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قالوا فيه : إنّ شخصا سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجل هي شجرة أخي يونس»(١) .

وقيل : إنّ أوراق شجرة القرع ، إضافة إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّا ويمكن الاستفادة منها كظلّ جيّد ، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق ، ولهذا فإنّ يونسعليه‌السلام التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في

__________________

(١) روح المعاني ، المجلّد ٧ ، الصفحة ٤٨٩.

٤٠٤

نفس الوقت ، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقا جدّا وحسّاسا ، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة.

ويحتمل أنّ الباريعزوجل يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت ، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق ، كي يبذل جهدا وسعيا أكثر ـ عند ما يتسلّم القيادة في المستقبل ـ لإنقاذ امّته من نار جهنّم ، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة(١) .

نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه ، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي ، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم ، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجودا في المدينة ، واتّخاذه قائدا لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وورد في روايات اخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء ، وفرّقوا بين المرأة وطفلها ، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها ، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم ، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.

وهنا أزاح الله عنهم سحب العذاب وأنزلها على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله(٢) .

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجئ بأمر أثار عنده الدهشة والعجب ، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام ، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.

القرآن يقول هنا :( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) كانوا قد آمنوا بالله ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٣٦ ، الحديث ١١٦.

(٢) نقل صاحب تفسير البرهان ، وفي المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٥ هذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

٤٠٥

واغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة ،( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط ، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم ، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس ، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونسعليه‌السلام بعث من جديد إلى قومه السابقين ، أمّا الذين قالوا : إنّه بعث إلى قوم آخرين ، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات.

لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى :( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوما مؤمنين ، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة.

ومن جهة اخرى ، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين ، وذلك في الآية (٩٨)( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من( إِلى حِينٍ ) هو لفترة معيّنة ، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي.

سؤال يطرح نفسه : لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه :( مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) ؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المائة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها ، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما ، وإعطائه هالة من العظمة ، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ(١) .

* * *

__________________

(١) لهذا فإنّ (أو) هنا تأتي بمعنى ، (بل).

٤٠٦

بحوث

١ ـ عرض موجز لحياة يونسعليه‌السلام

(يونس) بن (متى) ويلقّب بـ (ذي النون) أي صاحب الحوت ، وقد اعطي هذا اللقب لأنّ قصّته ارتبطت بالحوت ، وهو من المعروفين ، وعلى الظاهر أنّه ولد بعد موسى وهارون.

وقال البعض : إنّه من أولاد (هود) وقد كلّف من قبل الباريعزوجل بهداية من تبقّى من قوم ثمود.

والمنطقة التي بعث إليها كانت إحدى مناطق العراق وتسمّى (نينوى)(١) .

وقال البعض : إنّ بعثته كانت قبل ولادة المسيحعليه‌السلام بحوالي (٨٢٥) عاما ، وحاليا هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضعاف النهر يعرف بقبر (يونس).

وجاء في بعض الكتب أنّ يونس كان من أبناء بني إسرائيل وبعث إلى أهل نينوى بعد سليمان. وقد شرح كتاب (يوناه) أحد كتب التوراة العهد القديم في بحوث مفصّلة حياة النّبي يونس وتحت عنوان (يوناه بن متى). وطبقا لما جاء في هذا الكتاب ، فإنّ يونس كان مكلّفا بالذهاب إلى مدينة (نينوى) الكبيرة ، ومجابهة شرور الطغاة هناك.

ثمّ تذكّر التوراة حوادث اخرى ، تشبه كثيرا ما جاء في القرآن ، مع وجود اختلاف ، وهو أنّ الروايات الإسلامية تقول : إنّ يونس دعا قومه إلى التوحيد ونفّذ ما أوكل إليه في هذا المجال ، وبعد أن رفض قومه دعوته دعا عليهم وتركهم وحصل له ما حصل في حادثة السفينة والحوت ، ولكن التوراة ذكرت عبارة غير مقبولة ، إذ قالت : إنّ يونس طلب قبل بعثه إلى قومه أن يعفى من هذه المهمّة ، ولهذا

__________________

(١) نينوى ، اسم عدّة مناطق ، الاولى : مدينة قرب الموصل ، والاخرى في ضواحي الكوفة في جهة كربلاء ، ومدينة في آسيا الصغرى ، عاصمة مملكة آشور وتقع عاى ضفاف نهر دجلة (دائرة المعارف ده خدا) والبعض الآخر قال : إنّ نينوى هي أكبر مدن مملكة آشور الواقعة في الضفّة الشرقية لنهر دجلة وقد بنيت مقابل الموصل (معجم قصص القرآن).

٤٠٧

توقّف عن الدعوة وانهزم وحصلت له حادثة السفينة والحوت.

والذي يثير العجب أكثر أنّ التوراة تقول : إنّ يونس تألّم وغضب كثيرا عند ما أزال الله سبحانه وتعالى العذاب عن قومه بعد ما أعلنوا توبتهم(١) .

وجاء في أحد فصول التوراة ـ أيضا ـ أنّ يونس بعث مرّتين ، امتنع في الاولى وابتلي بذلك المصير المؤلم ، وفي المرّة الثانية بعث أيضا إلى المدينة (نينوى) نفسها ، وكان أهلها قد تيقّظوا من غفلتهم وآمنوا بالله ، وتابوا إليه وشملهم العفو الإلهي ، ذلك العفو الذي لم يفرح قلب يونس.

وبمقارنة ما جاء في القرآن المجيد والروايات الإسلامية مع ما جاء في كتاب التوراة الحالي يتّضح إلى أي درجة تحطّ (التوراة المحرّفة) من شأن نبي الله يونس ، فأحيانا ينسب إليه عدم قبوله حمل الرسالة التي كلّف بها ، وأحيانا غضبه وسخطه على قرار الله سبحانه وتعالى بشمول قومه التائبين بالعفو والرحمة. وهذا يدلّ على أنّ التوراة الحالية كتاب لا يمكن الاعتماد عليه بأي شكل من الأشكال.

على أيّة حال ، فإنّ يونس من الأنبياء الكبار الذين ذكرهم القرآن بأحسن وأفضل الذكر.

٢ ـ كيف بقي يونس حيّا في بطن الحوت؟

قلنا : إنّه ليس هناك دليل واضح يبيّن كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت؟ هل أنّها كانت عدّة ساعات أم عدّة أيّام أم عدّة أسابيع؟

فقد ورد في بعض الروايات أنّه أمضى (٩) ساعات في بطن الحوت ، فيما قالت روايات اخرى : إنّه أمضى ثلاثة أيّام ، وأكّدت اخرى أنّه أمضى أكثر ، حتّى أنّ البعض قال : إنّه أمضى (٤٠) يوما في بطن الحوت.

__________________

(١) (التوراة) كتاب (النّبي يوناه) الفصل الأوّل والثاني والثالث والرابع.

٤٠٨

ولكن لا يوجد لدينا دليل ثابت على أي من هذه الأقوال.

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن حديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أنّ يونس أمضى (٩) ساعات في بطن الحوت(١) .

وقال بعض المفسّرين من أهل السنّة : إنّ المدّة التي أمضاها يونس في بطن الحوت كانت ساعة واحدة فقط(٢) .

وكم كانت المدّة؟ فإنّ مثل هذا الأمر ـ من دون أي شكّ ـ يعدّ أمرا غير عادي ، حيث إنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى حيّا لعدّة دقائق في محيط فارغ من الهواء ، وإذا رأينا أنّ الجنين يعيش عدّة أشهر في بطن أمّه حيّا ، فإنّما ذلك بسبب عدم عمل أجهزته التنفسيّة وحصوله على الأوكسيجين اللازم عن طريق دم والدته.

ووفقا لهذا فإنّ ما جرى ليونس إنّما هو معجزة من دون أي شكّ ، وهذه ليست المعجزة الأولى التي نصادفها في القرآن المجيد ، فالباريعزوجل ـ الذي حفظ إبراهيمعليه‌السلام في وسط النار ، وأنقذ موسى وبني إسرائيل من الغرق بعد أن أوجد لهم طريقا يابسا وسط البحر ، وخلّص نوحا من الطوفان العظيم بواسطة سفينة بسيطة ليهبط من بعد على الأرض اليابسة بسلام ـ قادر على حفظ عبد من عباده المخلصين مدّة من الزمن في بطن الحوت.

وبالطبع فإنّ وجود مثل تلك الحيتان الكبيرة في الماضي والحاضر لا يعدّ أمرا عجيبا ، إذ يوجد حاليا نوع من أنواع الحيتان يطلق عليه اسم (بالن) طوله أكثر من (٣٠) مترا ويعدّ أكبر حيوان على وجه الأرض ، وقلبه يزن طنّا واحدا.

في هذه السورة طالعنا قصص الأنبياء السابقين الذين نجوا بإعجاز من قبضة البلاء ، ويونس كان آخرهم في هذه السلسلة.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، وفقا لما ورد في نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٣٦.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٥٦٧.

٤٠٩

٣ ـ دروس وعبر كبيرة في قصص صغيرة :

وكما نعرف ، فإنّ استعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان ، لأنّ القرآن ليس كتاب قصص وإنّما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته.

من هذه القصّة العجيبة يمكن استخلاص الكثير من المواعظ والعبر :

أ ـ ترك النّبي للعمل بالأولى يعدّ أمرا مهمّا عند الله ، ويؤدّي إلى مجازاة ذلك النبي ، لأنّ مرتبة الأنبياء عالية جدّا ، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنبا كبيرا يرتكبه عوام الناس ، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده يونس في هذه الآية ، والتي تعني العبد الهارب.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ ركّاب السفينة كانوا يقولون : هناك شخص عاص بيننا!

وعاقبة الأمر أنّ الباريعزوجل ابتلاه بسجن رهيب ، ثمّ أنقذه منه بعد أن تاب وعاد إلى الله ، وكان منهار القوى مريضا.

ذلك ليعرف الجميع أنّ التواني غير مقبول من أي أحد ، فعظمة مرتبة أنبياء وأولياء الله إنّما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى ، وإلّا فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد ، وإنّ الموقف الحازم الذي اتّخذه الله تجاه عبده يونس يوضّح عظمة مرتبة هذا النّبي الكبير.

ب ـ أحداث هذه القصّة (وخاصّة ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء) كشفت عن سبيل نجاة المؤمنين من الغمّ والحزن والابتلاءات والمشاكل ، وهو نفس السبيل الذي انتهجه يونس ، وهو اعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله وتنزيهه والعودة إليه.

ج ـ هذه القصّة توضّح كيف أنّ قوما مذنبين مستحقّين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية ، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهيّة ، وإنقاذ أنفسهم من العذاب ، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان ،

٤١٠

وانتخاب شخص «عالم» قائدا لهم.

د ـ هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية ، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في إختيار الإنسان ، وتوجد حالة من العمران والبناء ، وتطيل الأعمار ، ونظير هذا المعنى ورد أيضا في قصّة نوحعليه‌السلام والذي سنقرأ شرحه بعون الله في تفسير سورة نوح.

ه ـ أخيرا فإنّ مجريات هذه القصّة تستعرض قدرة الباريعزوجل العظيمة التي لا يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء ، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي ، وإخراجه سالما من هناك ، هذا الأمر يبيّن أنّ كلّ ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخّر لأوامره.

٤ ـ الجواب على سؤال :

هنا يطرح هذا السؤال : عند بيان قصص الأقوام الاخرى في القرآن المجيد ، نلاحظ أنّه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الاستئصال الذي كان ينال كلّ الأقوام الطاغية والمتجبّرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثّرة ، فكيف استثني قوم يونس من هذا الأمر؟

هناك إجابتان على هذا السؤال :

الأولى : هي أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم ، لأنّهم بمجرّد أن شاهدوا دلائل بسيطة تنذر بالعذاب ، استغلّوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء.

الثانية : أنّ عذابهم لم يكن لإهلاكهم ، وإنّما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل نزول العذاب المهلك ، وهو الأسلوب الذي كان يتّبع مع الأقوام السابقة ، أي تظهر لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم ، فإن آمنوا كفّ الله عنهم العذاب ، وإن بقوا على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم ، كما عذّب قوم فرعون بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر.

٤١١

٥ ـ القرعة ومشروعيتها في الإسلام :

وردت أحاديث متعدّدة بشأن القرعة ومشروعيتها في الإسلام ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام «أي قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله ، أليس اللهعزوجل يقول :( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (١) .

وهذا إشارة إلى أنّ القرعة هي طريق الحلّ الصحيح في حالة استعصاء أمر ما وعدم وجود طريق آخر لحلّه ، وتفويض الأمر لله كما جاء في قصّة يونس حيث انطبقت تماما مع الواقع.

وهذا المعنى ورد بصراحة في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فيه : «ليس من قوم تنازعوا (تقارعوا) ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج لهم المحقّ»(٢) .

ومن يريد الاطلاع أكثر على هذه المسألة فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة (للمؤلّف).

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٧ الحديث ٦.

(٢) (الوسائل) كتاب القضاء ، المجلّد ١٨ ، باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة في أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى (الباب ١٣) الحديث (٥).

٤١٢

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) )

التّفسير

التهم القبيحة :

بعد استعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين ، واستخلاص الدروس التربوية منها ، يغيّر القرآن موضوع الحديث ، ويتناول موضوعا آخر يرتبط بمشركي مكّة آنذاك ، ويستعرض لنا أنماطا مختلفة من شركهم ويحاكمهم بشدّة ، ثمّ يدحض بالأدلّة القاطعة أفكارهم الخرافية.

٤١٣

والقضيّة هي أنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحيّة تفكيرهم كانوا يقيسون اللهعزوجل بأنفسهم ، ويقولون : إنّ للهعزوجل أولادا ، وأحيانا يقولون : إنّ له زوجة.

قبائل (جهينة) و (سليم) و (خزاعة) و (بني مليح) كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هي بنات اللهعزوجل ، ومجموعة اخرى من المشركين كانت تعتقد أنّ (الجنّ) هم أولاد اللهعزوجل ، فيما قال البعض الآخر : إنّ (الجنّ) هم زوجات اللهعزوجل .

الأوهام الخرافية هذه ، كانت السبب الرئيسي لانحرافهم عن طريق الحقّ بصورة زالت معها كلّ آثار التوحيد والإعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى من قلوبهم.

وقد ورد في أحد الأحاديث أنّ النمل يتصوّر أنّ لخالقه قرنين إثنين مثلما هي تمتلك.

نعم ، العقل الناقص للإنسان يدفعه إلى المقارنة ، المقارنة بين الخالق والمخلوق ، وهذه المقارنة من أسوأ الأسباب التي تؤدّي بالإنسان إلى الضلال عن معرفة الله.

على أيّة حال ، فالقرآن الكريم يردّ على الذين يتصوّرون أنّ الملائكة هي بنات الله بثلاث طرق ، أحدها تجريبي ، والآخر عقلي ، والثالث نقلي ، وفي البداية يقول ، اسألهم هل أنّ الله تعالى خصّ نفسه بالبنات ، وخصّهم بالبنين ،( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) .

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى الله ، حيث أنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدّة ويحبّون الأولاد كثيرا ، فالأولاد كان لهم دورا مؤثّرا خلال الحرب والإغارة على بقيّة القبائل ، في حين أنّ البنات عاجزات عن تقديم مثل هذه المساعدة.

ومن دون أي شكّ فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية ، ومن حيث التقييم عند الله سبحانه وتعالى متساوون ، وميزان شخصيتهم هو التقوى

٤١٤

والطهارة ، واستدلال القرآن هنا إنّما يأتي من باب (ذكر مسلّمات الخصم) ومن ثمّ ردّها عليه. وشبيه هذا المعنى ورد في سور اخرى من سور القرآن ، ومنها ما جاء في الآية (٢١ و ٢٢) من سورة النجم( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) !.

ثمّ ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسّي على المسألة هذه ، وبشكل استفهام استنكاري ، قال تعالى :( أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ) .

ومن دون أي شكّ فإنّ جوابهم في هذا المجال سلبي ، إذ لم يستطع أحدا منهم الادّعاء بأنّه كان موجودا أثناء خلق الملائكة.

مرّة اخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول :( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ) .

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون :( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ؟

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟

( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ؟

إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية ، ويتفكّر في الأمر جيّدا ، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان ادّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي ، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي ، حيث يقول القرآن الكريم مخاطبا إيّاهم : لو كان ما تزعمونه صحيحا لذكرته الكتب السابقة ، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه ،( أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ) .

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب( فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

هذا الادّعاء في أي كتاب موجود؟ وفي أي وحي مذكور؟ وعلى أي رسول نزل؟

٤١٥

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) .

كلّا ، إنّها لم ترد في الكتب السماوية ، بل انّها خرافات انتقلت من جيل إلى جيل ومن جهلة إلى آخرين ، وإنّها دعاوي مرفوضة ولا أساس لها ، كما أشير إليها في نهاية الآيات المذكورة أعلاه( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) .

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اخرى من خرافات مشركي العرب ، والّتي تزعم بوجود نسبة بين اللهعزوجل والجنّ ، فالآية هنا لا تخاطبهم بصورة مباشرة وإنّما تخاطبهم بضمير الغائب ، لأنّهم أناس تافهون ، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ) .

فما هي النسبة الموجودة بين الله والجنّ؟

وردت عدّة تفاسير مختلفة لهذا السؤال ، منها :

قال البعض : إنّهم كانوا ثنويين ، ويعتقدون (نعوذ بالله) أنّ الله والشيطان إخوة ، الله خالق المحبّة ، والشيطان خالق الشرور.

وهذا التّفسير مستبعد ، لأنّ المذهب الثنوي لم يكن معروفا عند العرب ، بل كان منتشرا في إيران خلال عهد الساسانيين.

واعتبر البعض الآخر الجنّ هم نفس الملائكة ، لأنّ الجنّ موجودات لا تدركها الأبصار ، والملائكة كذلك ، ولذلك أطلقوا كلمة «الجنّ» عليها. إذا ، فالمراد من النسبة هي النسبة التي كان يدّعيها عرب الجاهلية من أنّ الملائكة بنات الله.

ويرد على هذا التّفسير أنّ ظاهر آيات بحثنا انّها تبحث في موضوعين ، إضافة إلى أنّ إطلاق كلمة (الجنّ) على الملائكة غير وارد وخاصّة في القرآن الكريم.

وهناك تفسير ثالث يقول : إنّهم كانوا يعتبرون (الجنّ) زوجات الله ، فيما

٤١٦

يعتبرون الملائكة بناته.

وهذا التّفسير مستبعد أيضا ، لأنّ إطلاق كلمة «نسب» على الزوجة غير وارد.

والتّفسير الذي يعدّ أنسب من الجميع ، هو أنّ المراد من كلمة (نسب) كلّ أشكال الرابطة والعلاقة ، حتّى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها ، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجنّ ويزعمون أنّها شركاء لله ، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله.

على أيّة حال ، فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدّة ، ويقول : إنّ الجنّ الذين كان المشركون يعبدونها ويقولون بوجود نسبة بينها وبين الله ، يعلمون جيّدا أنّ المشركين سيحضرون في محكمة العدل الإلهي وسيحاسبون ويجزون( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) .

والبعض الآخر احتمل أن يكون تفسير الآية بالشكل التالي : إنّ الجنّ الذين يغوون الناس يعلمون أنّهم يوم القيامة سيحضرون في محكمة العدل الإلهي ليحاسبوا وينالوا جزاءهم.

ولكن التّفسير الأوّل يعدّ أنسب(١) .

ونزّه الله تعالى نفسه عمّا قاله أولئك الضالّون في صفاته تعالى ، قائلا :( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) . واستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة ، قال تعالى :( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) .

وبهذا الشكل فإنّ من النادر أن نسمع أناسا عاديين يصفون الله سبحانه وتعالى وصفا لائقا ، كما يصفه عباده المخلصون ، العباد الخالصون من كلّ أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال ، والذين لا يصفون الباريعزوجل إلّا بما سمح

__________________

(١) الضمير (هم) يعود في الحالة الاولى على المشركين ، وفي الحالة الثانية على (الجنّ).

٤١٧

لهم به(١) .

وحول عبارة( عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) فقد كان لنا بحث في نهاية الآية (١٢٨) من هذه السورة.

نعم ، فلمعرفة الله لا ينبغي اتّباع الخرافات الواردة عن أقوام الجاهلية التي يخجل الإنسان من ذكرها ، بل يجب اتّباع العباد المخلصين الذين يتحدّثون بأحاديث تجعل روح الإنسان محلّقة في عنان السماء ، وتذيبها في أنوار الوحدانية ، وتطهّر القلب من كلّ شائبة شرك ، وتمحو كلّ تجسيم وتشبيه لله من ذهن الإنسان.

ينبغي لنا مراجعة كلمات الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأدعية الإمام زين العابدينعليه‌السلام في صحيفته ، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنينعليه‌السلام ، يقول في إحدى كلماته : «لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقوله المشبهون والجاحدون له علوّا كبيرا»(٢) .

وفي مكان آخر يصف اللهعزوجل بالقول : «لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواس فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه ، ولا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل في الأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيّام ، ولا يغيّره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والأبعاض ، ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع

__________________

(١) وفقا لهذا التّفسير ، فإنّ عبارة (إلّا عباد الله) استثناء منقطع من ضمير (يصفون) ، والبعض قال : إنّه استثناء منقطع من ضمير (محضرون) كما ذكروا آراء مختلفة اخرى ، ولكن الرأي الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فهو استثناء منقطع.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٩.

٤١٨

ولا غاية»(١) .

وفي مكان ثالث يقول : «ومن قال فيم؟ فقد ضمنه ، ومن قال علام؟ فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة»(٢) .

أمّا الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، فقد قال في صحيفته السجّادية : «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين»(٣) .

نعم ، فلمعرفة الله جيّدا علينا مراجعة نهج هؤلاء (عباد الله المخلصين) ودراسة علوم معرفة الله في مدارسهم.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

(٣) الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية.

٤١٩

الآيات

( فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) )

التّفسير

الادّعاءات الكاذبة :

الآيات السابقة تحدّثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها ، أمّا الآيات ـ التي هي مورد بحثنا الآن ـ فتتابع ذلك الموضوع ، حيث توضّح في كلّ بضع آيات موضوعا يتعلّق بهذا الأمر.

بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر على الطاهرين والمحسنين ، وإنّما ـ قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس ، قال تعالى :( فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ) .

نعم ، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592