الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181489 / تحميل: 6380
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فقال حسان: بم؟ قال بقوله دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطّاعم الكاسي. فقال حسان: ما هجاه يا أمير المؤمنين. قال: فماذا صنع به؟ قال: سلح عليه! فقال عمر: علي بجرول فلما جيء به قال له يا عدوّ نفسه تهجو المسلمين فأمر به فسجن(1) .

وقد كان حذيفة راوي هذا الحديث مرجعا للصّحابة في معرفة أحوال الفتن ومعرفة أهل النّفاق وتمييز أهل الحقّ من أهل الباطل لما حفظ في هذا المقام الذي قامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ومن ذلك سؤال عمر بن الخطّاب له عن الفتن فقال إنّ بينك وبينها بابا. فقال: هل يفتح أو يكسر؟ فقال: بل يكسر. فعرف عمر أنّه الباب، وأنّه يقتل كما أخبر حذيفة من سأله عن ذلك هل علم عمر ذلك فقال نعم، كما يعلم أنّ دون غد اللّيلة، فإنّي حدّثته بحديث ليس بالأغاليط، وهذا ثابت في الصحيح.

هذا عمر يسأل حذيفة عن الفتن، وما أكثر سؤالات عمر لمن يفترض أنّه أعلم منهم!.

قال الشنقيطي: (فأبو بكر لم يكن عالما بقضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميراث الجدّة حتّى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة، وعمر لم يكن عنده علم بقضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دية الجنين حتّى أخبره المذكوران قبل، ولم يكن عنده علم من أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجزية من مجوس هجر حتّى أخبره عبد الرّحمان بن عوف، ولا من الاستئذان ثلاثا حتّى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري)(2) .

تلك أمور غابت عن عمر، ومع ذلك يقولون إنّه كان من القضاة.

قال الألباني: وأخرج أبو يعلى والحسن بن سفيان بإسناد حسن عن المغيرة بن شعبة أنّ زرارة بن جري قال لعمر بن الخطّاب: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب إلى الضحّاك بن سفيان أن يورّث امرأة اشيم الضّبابي من دية زوجها، فقضى بذلك عمر بن الخطّاب بعد رواية الضحّاك وزرارة والمغيرة ذلك له عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما علم، لا لأنّه لا يقبل خبر الواحد

____________________

(1) كنز العمال، المتقي الهندي، ج 3 ص 339 رقم 8919.

(2) أضواء البيان، ج 1 ص 125.

٢٦١

بل لإشاعة الخبر وإشهاره بالموسم، وردّ ما كان رآه أنّ الدّية إنّما هي للعصبة لأنّهم يعقلون عنه، لأنّه لا قياس مع النّص(1) .

روى الشّعبي أنّ كعب بن سور كان جالسا عند عمر بن الخطّاب فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قطّ أفضل من زوجي، والله إنّه ليبيت ليله قائما ويظلّ نهاره صائما، فاستغفر لها وأثنى عليها، واستحيت المرأة وقامت راجعة. فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلاّ أعديت المرأة على زوجها؟ فلقد أبلغت إليك في الشّكوى! فقال لكعب: اقض بينهما فإنّك فهمت من أمرها ما لم أفهم. قال: فإنّي أرى كأنّها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهنّ، فأقضي بثلاثة أيّام ولياليهنّ يتعبّد فيهنّ ولها يوم وليلة. فقال عمر: والله ما رأيك الأوّل بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة، نعم القاضي أنت. رواه سعيد. صحيح. أورده الحافظ في (الإصابة) في ترجمة كعب هذا وذكر عن ابن عبد البرّ أنّه خبر عجيب مشهور، وأنّه قال: رواه أبو بكر بن أبي شيبة في (مصنّفه) من طريق محمد بن سيرين، ورواه الشعبي أيضا. قال الحافظ: وأورده ابن دريد في (الأخبار المنثورة عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة وله طرق)(2) .

قال ابن عبد البرّ وأخبار الآحاد عند العلماء من علم الخاصّة لا ينكر على أحد جهل بعضها ن والإحاطة بها ممتنعة، وما أعلم أحدا من أئمّة الأمصار مع بحثهم وجمعهم إلاّ وقد فاته شيء من السّنن المرويّة من طريق الآحاد؛ وحسبك بعمر بن الخطّاب فقد فاته من هذا الضّرب أحاديث فيها سنن ذوات عدد من رواية مالك في الموطّإ ومن رواية غيره أيضا، وليس ذلك بضارّ له ولا ناقص من منزلته(3) .

____________________

(1) إرواء الغليل، ج 7 ص 80. تحت رقم 2016.

(2) المبدع ج 7 ص 196 والمغني ج 7 ص 230 والمغني ج 10 ص 100 وشرح منتهى الإرادات ج 3 ص 45 وشرح منتهى الإرادات ج 3 ص 45 وكشاف القناع ج 5 ص 191 ومطالب أولي النهى ج 5 ص 265 ومنار السبيل ج 2 ص 198 وأخبار القضاة ج 1 ص 276.

(3) التمهيد، ابن عبد البر، ج 8 ص 68.

٢٦٢

أقول:

فكيف يدّعون إذا أنّه أعلم الأمّة بعد رسول الله وأبي بكر؟.

قال ابن حزم: وهذا عمر يقول في حديث الاستئذان أخفي علي هذا من أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ألهاني الصّفق في الأسواق. وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحرّ بن قيس بن حصن بقوله تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) وخفي عليه أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإجلاء اليهود والنّصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر قبله أيضا طول مدّة خلافته، فلمّا بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا. وخفي على عمر أيضا أمره عليه السلام بترك الإقدام على الوباء وعرف عبد الرحمن بن عوف، وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاتي الفطر والأضحى، هذا وقد صلاّهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعواما كثيرة، ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتّى ذكّره عبد الرّحمن بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم، ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور ولعلّهرضي‌الله‌عنه قد أخذ من ذلك المال حظّا، كما أخذ غيره منه. ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمّم الجنب فقال: لا يتيمّم أبدا ولا يصلّي ما لم يجد الماء. وذكّره بذلك عمّار، وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتجّ عليه أبي بن كعب بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعل ذلك فأمسك. وكان يردّ النّساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودّعن البيت حتّى أخبر بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن في ذلك فأمسك عن ردّهن. وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتّى بلغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بالمساواة بينها فترك قوله وأخذ بالمساواة؛ وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحّاك بن سفيان بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورّث المرأة من الدّية، فانصرف عمر إلى ذلك. ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ذكّرته امرأة فرجع عن نهيه. وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ذكّرته امرأة فرجع عن نهيه. وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع القلم عن ثلاثة فأمر ألا ترجم وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها وأنكر على

٢٦٣

حسان الإنشاد في المسجد فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسكت عمر(1) .

قال ابن القيم: (وخفي على عمر تيمم جنب فقال لو بقي شهرا لم يصل حتى يغتسل وخفي عليه دية الأصابع فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن كتاب آل عمرو بن حزم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قضى فيها بعشر عشر فترك قوله ورجع غليه وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وخفي عليه حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها من مجوس هجر وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ذلك فرجع عن قوله وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة في التسوية فرجع إليها وخفي عليه شأن متعة الحج وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بها فترك قوله وأمر بها وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره به طلحة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة ولكن لم يمر بباله (أمر هو بين يديه حتى نهى عنه وكما خفي عليه قوله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون وقوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم حتى قال والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهر أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فقال كل أحد أفقه من عمر حتى النساء وكما خفي عليه أمر الجد

____________________

(1) الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الأندلسي، ج 2 ص 151 و 152.

٢٦٤

والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عهد إليهم فيها عهدا وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذاك العام حتى بينه له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة بذلك وكما خفي عليه أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه حتى أخبر بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها فإن وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق وهو كما قال ابن مسعود لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر قال الأعمش فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم(1) .

عن ذر عن ابن عبد الرحمان بن أبزى عن أبيه أن رجلا سأل عمر بن الخطّاب عن التيمم فلم يدر ما يقول فقال عمار أتذكر حيث كنا في سرية فأجنبت فتمعكت في التراب فأتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال إنما يكفيك هكذا وضرب شعبة بيديه على ركبتيه ونفخ في يديه ومسح بهما وجهه وكفيه.

أقول:

انظر إلى قوله لم يدر ما يقول. ولماذا يسأل الناس عمر؟ لأنه مرتكز في أذهانهم أن الذي يخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما يخلفه ليبين للنّاس معالم دينهم.

عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله قال: خرج عمر يوم عيد فسأل أبا واقد الليثي بأي شيء كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في هذا اليوم فقال بقاف واقتربت(2) .

قال مالك رحمه الله تعالى تشهد عمر بن الخطاب الموقوف عليه أفضل لأنه علمه الناس على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله وهو التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله سلام عليك أيها النبي إلى آخره(3) .

____________________

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، ج 2 ص 270. ادار الجيل - بيروت، 1973 تحقيق: طه عبد الرءوف سعد.

(2) سنن النسائي، ج 3 ص 183 - 184.

(3) شرح مسلم، النووي، ج 4 ص 116.

٢٦٥

أقول: كيف يتعلم الناس شيئا مارسوه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوميا طيلة عشر سنين؟! وأين الفرق بين تعليمهم التّشهّد وتعليمهم الفاتحة؟!

وعن ابن إدريس عن جعفر عن أبيه أن عمر بن الخطّاب سأل عن جزية المجوس فقال عبدالرحمن بن عوف سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول سنوابهم سنة أهل الكتاب. حدثنا وكيع قال ثنا سفيان ومالك بن أنس عن جعفر عن أبيه أن عمر بن الخطّاب استشار الناس في المجوس في الجزية فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول سنّوا بهم سنة أهل الكتاب(1) .

قال الشنقيطي: ومنه قول الحطيئة أو النجاشي قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح وقال ليت آل الخطاب كانوا كذلك ولمّا قال الشاعر بعد ذلك فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح وقال ليت آل الخطاب كانوا كذلك ولمّا قال الشاعر بعد ذلك ولا يردون الماء إلا عشيّة وإذا صدر الوارد عن كل منهل، قال عمر أيضا ليت آل الخطاب كانوا كذلك، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح ولذا ذكروا أن عمر تمنّى ما فيه من الهجاء لأهل بيته لأنّه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا نزاع.

أقول: لا شكّ أنّ الشاعر يقصد الذّمّ، والشاعر هو الحطيئة أهجى أهل زمانه، وقد شكّوا حين موته إن كان مات على الإسلام. وإنّما فهم عمر من كلامه المدح لقلّة علمه بالشّعر، ويدلّ على ذلك ما قاله حسان بن ثابت لعمر في قصّة الحطيئة والزبرقان بن بدر.

وفي التسهيل: (وقد كان عمر بن الخطّاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية حتى قال له رجل من هذيل التخوف التنقّص في لغتنا)(2) .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن سيرين قال كان عمر بن الخطّاب إذا قرأ يبين الله لكم أن تضلوا قال اللهم من بينت له الكلالة فلم تتبين لي(3) .

____________________

(1) مصنف ابن أبي شيبة، ج 6 ص 304، الحديث رقم 32650 والحديث رقم 32651.

(2) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 2 ص 154.

(3) الدر المنثور، السيوطي، ج 2 ص 759.

٢٦٦

قال السرخس: وقد كان عمر يقول لا ميراث للزوج والزوجة من الدية ثم رجع إلى هذا الحديث(1) .

وقال عبد بن حميد حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال كنا عند عمر بن الخطّاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ وفاكهة وأبا فقال ما الأب ثم قال إن هذا لهو التكلف فما عليك أن لا تدريه.

وقال ابن تيمية: وكذلك لم يأمر عمر بن الخطّاب أن يقضي ما تركه من الصلاة لأجل الجنابة لأنّه لم يكن يعرف أنّه يجوز الصّلاة بالتيمم.

أقول: أعلم الأمة بعد رسول الله وأبي بكر في سلم ترتيب ثقافة السقيفة لا يعرف أنه يجوز الصلاة بالتيمم.

روى عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه قال أتيت عمر بن الخطاب فسألته عن تمام العمرة فقال ائت عليا فسله فعدت فسألته فقال ائت عليا عليه السلام فسله فأتيت عليا فقلت إني قد ركبت الخيل والإبل والسفن فأخبرني عن تمام العمرة فقال تمامها أن تنشئها من بلادك فعدت إلى عمر فسألته فقال ألم أقل لك ائت عليا فسله فقلت قد سألته فقال تمامها أن تنشئها من بلادك قال هو كما قال(2) .

وقال هشيم أنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي قال كان أبوبكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان على يقول الشعر وكان على اشعر الثلاثة(3) .

الموافقات

قالوا عن عمر بن الخطّاب إنه محدث، ورووا في ذلك أحاديث منها ما ذكره الرازي في التفسير الكبير قال:

وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطّاب

____________________

(1) المبسوط للسرخسي، ج 26 ص 157.

(2) شرح العمدة، ج 2 ص 370.

(3) البداية والنهاية، ج 8 ص 8.

٢٦٧

فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا نزلت يا عمر وكان عمر يقول وافقني ربي في أربع في الصلاة خلف المقام وفي ضرب الحجاب على النسوة وقولي لهن لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله خيرا منكنّ، فنزل قوله تعالى( عَسَى‏ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنّ ) . والرابع قلت فتبارك الله أحسن الخالقين فقال هكذا نزلت قال العارفون هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر وسبب الشقاوة لعبد الله كما قال تعالى يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلاّ الفاسقين [البقرة: 26](1) .

عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال كان عمر إذا رأى الرأي نزل به القرآن(2) .

وقال الآلوسيّ: قال عبد الوهاب الشعراني:... واعلم أنّ حديث الحقّ سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أنّ من الناس من يفهم أنّه حديث كعمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول: ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أنّ ذلك من حديث الحقّ سبحانه معه وكان شيخنا يقول: كان عمر من أهل سماع المطلق الذين يحدثهم الله تعالى في كل شيء(3) .

هذا ما يقوله الشعراني! عمر يحدثه الله تعالى في كل شيء؛ لكنّه لم يحدّثه في الكلالة حتى مات وهو يجهلها؛ ولم يحدّثه في كثير من القضايا التي خالف فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا في باقي القضايا التي أخطأ فيها باجتهاده! بل إنّهم ذكروا أيضا أنّ عمر بن الخطّاب كان يخطئ في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ابن تيمية: فان سيد المحدثين والمخاطبين الملهمين من هذه الأمّة هو عمر بن الخطّاب، وقد كانت تقع له وقائع فيردها عليه رسول الله أو صديقه التّابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المحدّث الذي يحدّثه قلبه عن ربّه(4) .

وقال أيضا: وقد ثبت في الصّحيح تعيين عمر بأنّه محدّث في هذه الأمّة فأي محدّث

____________________

(1) التفسير الكبير، ج 23 ص 76.

(2) مصنف ابن أبي شيبة، ج 6 ص 354 تحت رقم 31980.

(3) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 25 ص 62.

(4) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 11، ص 65.

٢٦٨

ومخاطب فرض في أمّة محمد فعمر أفضل منه! ومع هذا فكان عمررضي‌الله‌عنه يفعل ما هو الواجب عليه فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غير مرة وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين والحديث معروف في البخاريّ وغيره(1) .

أقول: هل يعني ابن تيمية بقوله (فأي محدّث ومخاطب فرض في أمّة محمد فعمر أفضل منه) أنّ عمر بن الخطّاب أفضل من عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. لو كان الأمر كذلك لخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم المباهلة يباهل بعمر بن الخطّاب؛ وما أكثر ما أعرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عمر.

وقال [ابن تيمية] أيضا: والمحدّث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي ولهذا كان عمررضي‌الله‌عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ويقرّرهم على منازعته، ولا يقول لهم أنا محدّث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا منى ولا تعارضوني(2) .

نعم، لم يكن يقول لهم ذلك لأنّ حديث المحدّث لم يكن قد وضعه الوضاعون بعد! لكنه قال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) وهذه أشدّ من تلك بكثير.

وقال في مجموع الفتاوى: حتى أن المحدث منهم كعمر بن الخطّاب إنما يؤخذ منه ما وافق الكتاب والسنّة، وإذا حدّث شيئاً في قلبه لم يكن له أن يقبله حتى يعرضه على الكتاب والسنّة، وكذلك لا يقبله إلاّ أن وافق الكتاب والسنّة، وهذا باب واسع في فضائل القرآن على ما سواه(3) .

____________________

(1) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 11 ص 205.

(2) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، ج 11 ص 207.

(3) مجموع الفتاوى، ج 17 ص 46..

٢٦٩

وقال: وكذلك عمر بن الخطّاب كان يقرّ على نفسه في مواضع بمثل هذه فيرجع عن أقوال كثيرة إذا تبين له الحق في خلاف ما قال، ويسأل الصحابة عن بعض السنة حتى يستفيدها منهم، ويقول في مواضع والله ما يدرى عمر أصاب الحق أو أخطأه، ويقول أمرأة أصابت ورجل اخطأ(1) .

اقتراحات عمر على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يقول الله تعالى في سورة الحجرات ( لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ )...

عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قال حدثني أبي قال كنّا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزاة فأصاب النّاس مخمصة فاستأذن الناس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نحر بعض ظهورهم وقالوا أيبلغنا هذه فلما رأى عمر بن الخطّاب أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن يأذن لهم في نحر بعض ظهورهم قال: يا رسول الله وكيف بنا إذا نحن لقينا القوم غدا جياعا أرجالا، إن رأيت يا رسول الله أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فتجمعها ثمّ تدعو الله بالبركة فيها، فإنّ الله سيبلغنا بدعوتك أو قال سيبارك لنا في دعوتك. فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببقايا أزوادهم فجعل النّاس يجيئون بالحثية من الطّعام وفوق ذلك، فكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر فجمعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قام فدعا بما شاء الله أن يدعو، ثمّ دعا الجيش بأوعيته وأمرهم أن يحتثوا، فما بقي في الجيش وعاء إلاّ ملأه وبقي مثله فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بدت نواجذه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد إنّي رسول الله، لا يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجبت عنه النّار يوم القيامة(2) .

قال السيوطي: وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال مشى عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وقرظة بن عبد عمر وبن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن

____________________

(1) مجموع الفتاوى ج 35 ص 123.

(2) سنن النسائي الكبرى ج 5 ص 244 وسنن النسائي الكبرى ج 6 ص 279 والآحاد والمثاني ج 4 ص 59 والمعجم الأوسط ج 1 ص 26 والمعجم الكبير ج 1 ص 211 ومسند ابن المبارك ج 1 ص 24 ومسند الشاميين ج 1 ص 439 وكنز العمال ج 12 ص 191 وتهذيب الكمال ج 34 ص 138 الطبقات الكبرى ج 1 ص 180 ومعجم الصحابة ج 1 ص 123 والخصائص الكبرى ج 1 ص 407.

٢٧٠

عدي بن الخيار بن نوفل في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتّباعنا إيّاه وتصديقه فذكر ذلك أبوطالب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر بن الخطّاب لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين قالوا وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبحا مولى أسيد ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمر وذوالشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطّاب فاعتذر من مقالته فأنزل الله وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا الآية(1) .

أقول:

هذه المرة خالف عمر ربّه في أمر خطير وهو طرد المؤمنين من حول رسول الله! وإذا كان رضاه حكما وغضبه عزّا كما جاء في معجم الطبراني(2) ، فإن القضيّة تصبح عويصة!

وقال الغرناطي في التّسهيل: في الصحيح إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إنّ رحمتي سبقت غضبي أنه من عمل منكم سوءا الآية وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح وهو خطاب للقوم المذكورين قبل وحكمها عام فيهم وفي غيرهم والجهالة قد ذكرت في النساء وقيل نزلت بسبب أن عمر بن الخطّاب أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطرد الضعفاء عسى أن يسلم الكفار فلما نزلت لا تطرد ندم عمر على قوله وتاب منه فنزلت الآية(3) .

____________________

(1) الدر المنثور، ج 3 ص 272.

(2) الحديث في المعجم الكبير للطبراني [ج 21 ص 48].

(3) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 2 ص 10.

٢٧١

وعن عبيد بن حنين أنه سمع ابن عبّاس يقول: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن المتظاهرتين فما أجد له موضعا أسأله فيه حتى خرج حاجا وصحبته حتى إذا كان بمر الظهران ذهب لحاجته وقال: أدركني بإداوة من ماء فلما قضى حاجته ورجع أتيته بالإداوة أصبها عليه فرأيت موضعا فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان المتظاهرتين على رسول الله؟ فما قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة.

وعن عبد الله بن عبّاس قال: حدثني عمر بن الخطّاب قال: لما اعتزل نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت: يا رسول الله ما شقّ عليك من شأن النساء فلئن كنت طلقتهن فإن الله وملائكته وجبرائيل وميكائيل وأنا وأبوبكر معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله مصدق قولي فنزلت هذه الآية آية التخيير( عَسَى‏ رَبّهُ إِن طَلّقَكُنّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنكُنّ ) ( وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية وكانت عائشة ابنة أبي بكر وحفصة تتظاهران على سائر نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1) .

قال الشوكاني: وأخرج ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ وعن عمر بن الخطّاب أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال عمر: ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة(2) ؟

أقول:

علما أنّ ذا القرنين لم يكن من الملائكة! وعمر بن الخطاب يقول عنه (فما بالكم وأسماء الملائكة)؟

وعن ابن عبّاس قال: قال عمر بن الخطّاب فهوي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قال أبوبكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبوبكر قاعدين (يبكيان) قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء

____________________

(1) تفسير الطبري، ج 12 ص 152.

(2) فتح القدير، ج 3 ص 442 وأيضا في فتح الباري ج 6 ص 383 ومعاني القرآن ج 4 ص 285 وفتح القدير ج 3 ص 310.

٢٧٢

بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنزل الله تعالى:( مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى‏ حَتّى‏ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) إلى قوله:( فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيّباً ) (1) .

قال ابن إسحاق: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطّاب فإنه أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطّاب وسعد بن معاذ(2) .

لكنهم رووا أيضا عن ابن إسحاق ما يلي: (وسعد بن معاذ واقف عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجال من الأنصار في العريش - رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجه سعد الكراهية فقال كأنك تكره ما يصنع الناس قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله في المشركين وكان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال..(3) . ورووا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله يا نبي الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال)(4) .

وبما أن الجمع متعذر لحصر النّجاة في رجل واحد كما هو واضح في الروايات السابقة، فقد تصدى من تصدى وتبرّع بالنجاة للرجلين جميعا بضم أحدهما إلى الآخر، وهكذا وجدت أحاديث تقول (ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ)(5) . ولكن كفة عمر بن الخطاب تبقى دائما أرجح فإنّه قرشي ولي الخلافة،

____________________

(1) تفسير البغوي، ج 1 ص 375.

(2) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج 2 ص 552 وتفسير الطبري ج 10 ص 48 وأحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 436 وتفسير الثعلبي ج 4 ص 373 وتخريج الأحاديث والآثار ج 2 ص 39 وزاد المعاد ج 3 ص 185. تأويل مختلف الحديث ج 1 ص 158 وأصول البزدوي ج 1 ص 280 والتوضيح في حل عوامض التنقيح ج 2 ص 35 وتيسير التحرير ج 4 ص 186 وكشف الأسرار ج 3 ص 311 وكشف الأسرار ج 4 ص 40.

(3) مختصر السيرة، ابن كثير، ج 1 ص 155 والبداية والنهاية ج 3 ص 284 وتاريخ الطبري ج 2 ص 47.

(4) تفسير الطبري ج 10 ص 48 وأحكام القرآن لابن العربي ج 2 ص 436.

(5) التفسير الكبير ج 15 ص 158 والكشاف ج 2 ص 225 وتفسير أبي السعود ج 4 ص 36 وتفسير البيضاوي

٢٧٣

وتملّق السّلطان في تاريخ العرب أمر معلوم فيما سبق من الأزمان، مشهود في أيّامنا بالوجدان.

ولذلك فإنّ سعد بن معاذ رغم استشهاده في أيّام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحضور جموع كثيرة من الملائكة في جنازته، وكونه صاحب مناديل في الجنّة، فإنّه لن يكون من بين العشرة المبشّرين بالجنّة، لأنّه ليس قرشيا، هذا مع أنّه لم يثبت له فرار من الزّحف، بخلاف الخلفاء الثّلاثة القرشيّين، فإنّ لهم في الفرار بصمات لا تمحى. والفرار من الزحف من الكبائر! وعليه يكون القرشيّ محظيّا عند الله تعالى حتّى لو كان غارقا في الذّنوب إلى ذقنه.

قالوا: وهذه الآية نزلت في احتجاب أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسببها ما رواه أنس من قعود القوم يوم الوليمة في بيت زينب وقيل سببها أن عمر بن الخطّاب أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يحجب نساءه فنزلت الآية موافقة لقول عمر(1) .

أقول:

أي أنّه لو لم يشر عمر بن الخطّاب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نزل قرآن بخصوص الحجاب!

وروى سعيد بن جبير قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين فقال له: رسول الله يصلّي وأنت جالس لا تصلّي؟ فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل! فقال: ما أظنّ إلاّ سيمرّ بك من ينكر عليك؛ فمرّ عليه عمر بن الخطّاب قال: يا فلان، إنّ رسول الله يصلّي وأنت جالس؟ فقال له مثلها، فوثب عليه فضربه وقال: هذا من عملي. ثمّ دخل المسجد وصلّى مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا فرغ رسول الله من صلاته قام إليه عمر فقال: يا نبي الله مررت آنفا على فلان وأنت تصلّي وهو جالس فقلت له: نبيّ الله يصلّي وأنت جالس؟ فقال لي: مرّ إلى عملك فقال عليه

____________________

ج 3 ص 122 وتفسير النسفي ج 2 ص 74 ومرقاة المفاتيح ج 7 ص 481 والفتح السماوي ج 2 ص 660 وشرح فتح القدير ج 5 ص 475.

(1) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 3 ص 143.

٢٧٤

الصلاة والسلام: هلاّ ضربت عنقه؟ فقام عمر مسرعا ليلحقه فيقتله فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا عمر، ارجع فإنّ غضبك عزّ ورضاك حكم. إن لله في السموات ملائكة له غنى بصلاتهم عن صلاة فلان. فقال عمر: يا رسول الله وما صلاتهم فلم يردّ عليه شيئا فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله سألك عمر عن صلاة أهل السّماء؟ قال: نعم. قال: أقرئه منّي السّلام وأخبره بأن أهل سماء الدّنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي الملك والملكوت وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة يقولون سبحان ذي العزّة والجبروت وأهل السّماء الثالثة ركوع إلى يوم القيامة يقولون سبحان الحيّ الذي لا يموت فهذا هو تسبيح الملائكة(1) .

أقول:

هناك منافقون قاموا بأعمال لا يمكن أن يقرن بها عمل هذا الرجل ومع ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يسمع النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه، فكيف يخالف فجأة ويأمر بضرب عنق متخلف عن صلاة الجماعة؟ ولم يقل أحد من الفقهاء بضرب عنق من تخلّف عن صلاة الجماعة. ولا يخفى ههنا تقريرهم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصحّح فعل عمر ويؤيّده.

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر فقال (إنّ جبريل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا) فقال عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) قال: فنزلت على لسان عمر! وقد نقل ابن جرير الإجماع على أن سبب نزول الآية ذلك(2) .

وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والعدني والدارمي والبخاريّ والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي داود في المصاحف وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والطحاويّ وابن حبان والدار قطني في الأفراد البيهقي في سننه عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطّاب وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله

____________________

(1) التفسير الكبير، الرازي، ج 2 ص 159.

(2) الدر المنثور، السيوطي، ج 1 ص 224 عن ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٧٥

لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى؛ وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهم البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب؛ واجتمع على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن التحريم الآية فنزلت كذلك(1) .

قال السيوطي: وأخرج مسلم وابن أبي داود وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن جابر أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال لما وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم قال له عمر يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى قال نعم. وأخرج الطبراني والخطيب في تاريخه عن ابن عمر أن عمر قال يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن أنس أن عمر قال يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وأخرج ابن أبي داود عن مجاهد قال كان المقام إلى لزق البيت فقال عمر بن الخطّاب يا رسول الله لو نحيته إلى البيت ليصلي إليه الناس ففعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وأخرج ابن أبي داود وابن مردويه عن مجاهد قال: قال عمر (يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام فأنزل الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى فكان المقام عند البيت فحوله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى موضعه هذا قال مجاهد وقد كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن

____________________

(1) صحيح البخاري ج 1 ص 157 وصحيح مسلم ج 4 ص 1865 وصحيح ابن حبان ج 15 ص 319 والجمع بين الصحيحين ج 1 ص 112 وسنن الدارمي ج 2 ص 67 وسنن سعيد بن منصور ج 2 ص 607 والمعجم الأوسط ج 6 ص 92 والمعجم الأوسط ج 6 ص 207 والمعجم الصغير الروض الداني) ج 2 ص 110 ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 339 وكنز العمال ج 12 ص 248 ومشكاة المصابيح ج 3 ص 1706 وأخبار المدينة ج 2 ص 45 وأخبار مكة للفاكهي ج 1 ص 441 والموافقات ج 2 ص 251 وشرح مذاهب أهل السنة ج 1 ص 148 ومنهاج السنة النبوية ج 6 ص 22 وتاريخ الإسلام ج 3 ص 261 وتاريخ الخلفاء ج 1 ص 122.

٢٧٦

وأخرج ابن مردويه من طريق عمر بن ميمون عن عمر أنه مرّ بمقام إبراهيم فقال يا رسول الله أليس نقوم مقام إبراهيم خليل ربّنا؟ قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلّى؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والدار قطني في الأفراد عن أبي ميسرة قال قال عمر يا رسول الله هذا مقام خليل ربنا أفلا نتخذه مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى(1) .

أقول:

لا شغل للسماء إلا موافقة عمر!

قال السيوطي: وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند حسن عن كعب بن مالك قال كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطّاب من عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت إني قد نمت فقال ما نمت ثم وقع بها وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطّاب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فأنزل الله( عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (2) .

قال الآلوسي: أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن يخرجن باللّيل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه عنه يقول للنبي: أحجب نساءك فلم يكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعةرضي‌الله‌عنه ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر رضي الله تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمررضي‌الله‌عنه وهي مشهودة(3) .

فعمر بن الخطاب إذا أحرص من الله تعالى ورسوله على الأحكام التي فيها مصالح المسلمين!! وقوله حرصا يعني قطعا أنّ هذا الحرص لم يكن عند الله والرّسول، لأنّه إن

____________________

(1) الدر المنثور، ج 1 ص 289 - 290.

(2) الدر المنثور، ج 1 ص 475.

(3) روح المعاني، ج 22 ص 72.

٢٧٧

كان فلماذا يتأخّر أثره حتى يضجر عمر ويضيق ذرعا بالواقع؟!.

قال الآلوسي: أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه قال خرجت أتعرض لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقّة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر فقال (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) قلت كاهن فقال لا (ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل..) إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع(1) .

أقول: وربّما لو قال عمر: (هذا فيلسوف) لنزل ولا بقول فيلسوف..! فوا عجبا لأمّة هذا مبلغ علمها وهذه حرمة كتاب ربّها عندها، أن جعلت الآي الحكيم تابعا في نزوله لهوى رجل وهو على حال الشّرك، ويشهد على نفسه أنّه كان أضلّ من بعير أهله!!

قال ابن الجوزي: قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر في سبب نزولها قولان أحدهما أن عمر بن الخطّاب قال اللهمّ بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية والثاني أن جماعة من الأنصار جاؤوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيهم عمر ومعاذ فقالوا: أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية(2) .

قال: والرابع أن عمر بن الخطّاب كان أشار على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأخير الفقراء استمالة للرؤساء إلى الإسلام فلما نزلت ولا تطرد الذين يدعون ربهم جاء عمر يعتذر من مقالته ويستغفر منها فنزلت فيه هذه الآية قاله ابن السائب(3) .

وروي عن ابن عمر قال: لما أشار عمر بقتلهم وفاداهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنزل الله تعالى ما كان لنبي إلى قوله حلالا طيبا فلقي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمر فقال كاد يصيبنا في خلافك بلاء(4) .

____________________

(1) روح المعاني، ج 29 ص 39.

(2) زاد المسير، ابن الجوزي، ج 1 ص 239.

(3) زاد المسير، ابن الجوزي، ج 3 ص 48.

(4) زاد المسير، ج 3 ص 380.

٢٧٨

أقول: لا يدري ما هو الواجب طاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم طاعة عمر؟! وكيف يصحّ هذا بعد قوله تعالى( فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (1) . كان الأولى أن ينزل فليحذر الذين يخالفون عن أمر عمر أن تصيبهم فتنة...

قال ابن الجوزي: قوله تعالى ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم في سبب نزولها قولان أحدهما أن رسول الله ص وجه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطّاب وقت الظهيرة ليدعوه فدخل فرأى عمر على حالة كره عمر رؤيته عليها فقال يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان فنزلت هذه الآية قاله ابن عبّاس(2) .

الاستئذان سلوك حضاري يدرك بالوجدان. لكن لابدّ أن يكون عمر بن الخطّاب وراء كل تشريع!.

قال: والثالث أنّ عمر بن الخطّاب قال: قلت (يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب). أخرجه البخاريّ من حديث أنس وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر، كلاهما عن عمر(3) .

قال: أحدها أنّ عمر بن الخطّاب رأى جارية متبرّجة فضربها وكفّ ما رأى من زينتها فذهبت إلى أهلها تشكو، فخرجوا إليه فآذوه فنزلت هذه الآية رواه عطاء عن ابن عبّاس(4) .

قال ابن الجوزي في زاد المسير: وعن أنس عن عمر بن الخطّاب قال: (بلغني بعض ما آذى به رسول الله نساؤه فدخلت عليهنّ فجعلت أستقرئهنّ واحدة واحدة! فقلت والله لتنتهنّ أو ليبدلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ. فنزلت هذه الآية والمعنى واجب من الله إن

____________________

(1) النور: 63.

(2) زاد المسير، ج 6 ص 60.

(3) زاد المسير، ج 6 ص 413.

(4) وقال: زاد المسير، ج 6 ص 421.

٢٧٩

طلقكنّ رسوله أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ مسلمات أي خاضعات لله)(1) .

لكن هذه القصّة تقابلها قصّة أخرى في صحيح البخاريّ تشبهها إلى حدّ بعيد. ففي البخاريّ: قال عمر: ثمّ خرجت حتّى دخلت على أمّ سلمة لقرابتي منها فكلّمتها فقالت أمّ سلمة: عجبا لك يا ابن الخطّاب دخلت في كلّ شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه فأخذتني والله أخذا كسرتني عن بعض ما كنت أجد(2) .

قال ابن عاشور: وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضا أن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه قال له: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب(3) .

وفيه اعتراف أنّ عمر لا يعتقد بعدالة جميع الصحابة، وظاهر ما ذكروه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعلّق على كلام عمر، ومثل هذا السّكوت يعدّ تقريرا لقول عمر.

أقول: هل كان نزل قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) حتى يقول عمر فلو أمرت أمّهات المؤمنين(4) !

قال السيوطي: وأخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطّاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال يا رسول الله أليس نقوم مقام خليل ربنا قال بلى قال أفلا نتخذه مصلى فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت(5) .

وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطّاب فقال إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا فقال عمر: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) قال فنزلت على لسان عمر.

يقولون: (على لسان عمر)، وفيه إشكال كبير على الذين يقولون إنّ القرآن ليس بمخلوق.

____________________

(1) زاد المسير، ج 8 ص 311.

(2) صحيح البخاريّ ج 3 ص 206 بحاشية السندي.

(3) التحرير والتنوير، ج 1 ص 384.

(4) (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) الآية 6 من سورة الأحزاب.

(5) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 1 ص 59.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحيانا عن الدنيا بالنشأة الأولى ، كما يعبر عن الأخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة ، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

ولعل منشأ التفاوت والاختلاف هو أن الآية الأولى تعالج مطالعة محدودة ، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّا.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول :( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) .

ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّا أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي :

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة ، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) ؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك ، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته ، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جوابا على مثل هذا السؤال : إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها ، وجملة( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) إشارة إلى الدليل على ذلك : أي : بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه ، فالعذاب والرحمة ـ أيضا ـ بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع ، بحيث

٣٦١

يشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول :( مَنْ يَشاءُ ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته ، أي كل من كان جديرا ومستحقا لذلك فإن مشيئة الله ليست عبثا ، بل منسجمة مع الاستحقاق والجدارة!.

وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل : تغيير الشيء من صورة إلى صورة أخرى ، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان ترابا لا روح فيه ، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانية أيضا.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضا ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأخرى ويتغيّر تغيرا ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية ، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (٩) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير فليس الأمر كذلك!( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) (١) .

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محض أيضا( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وفي الحقيقة ، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه ، إمّا بأن تخرجوا من حكومته ، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم ، فلا الخروج ممكن ، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع ،

__________________

(١) كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزا ، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضا

٣٦٢

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

يبقى هنا سؤالان : ـ

أوّلا : مع الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين ، وهم سكنة الأرض ، فما معنى قوله تعالى :( وَلا فِي السَّماءِ ) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب ، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة ، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض ، ولا في السماوات ، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء ، فما زلتم تحت قدرته وسلطانه.

أو إنّه : لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض ، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات ، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعا ـ)

ثانيا : ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل : إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه بأن يأمره غيره به»(١) .

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين ، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب (من عليه الولاية) ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي )

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ، ص ٣٥٢.

٣٦٣

ثمّ يضيف مؤكدا :( وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده ، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد ، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد ، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه ، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد ، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضا ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادة إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي ، للدلالة على تحققه قطعا وحتما.

* * *

٣٦٤

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) )

التّفسير

أسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم :

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيمعليه‌السلام ردّا على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعا ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمرا بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ! ) .

٣٦٥

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار ، في حين كانت جماعة أخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيرا رجح الرأى الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضا أنّهم جميعا كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية ، غير أنّهم اتفقوا أخيرا على إحراقه بالنّار ، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيمعليه‌السلام بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) .

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات ٦٨ ـ ٧٠) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة ، بل علائم وآيات فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة ، وتبدل النّار إلى روضة و «سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أخرى ، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضا.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أولئك المظلمة قلوبهم ، آية من آيات الله ، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء ، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما القي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار ، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدودا وموثقا به(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

٣٦٦

أجل ، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الأسر ، فتحرر إبراهيمعليه‌السلام منها وهذه بنفسها تعدّ آية أخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله :( جَعَلْناها آيَةً ) بصيغة الإفراد ، ولكنّه عبّر هنا بقوله :( لَآياتٍ ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيمعليه‌السلام نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين( وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

كيف تكون الأوثان أساسا للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق :

الأوّل : أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزا للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثنا ، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية ، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية ، فصنم «العزّى» كان لقريش ، و «اللّات» كان خاصا بثقيف ، أمّا «منات» فكان خاصا بالأوس والخزرج!.

الثّاني : أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين أسلافهم وغالبا ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون : إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(١) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

__________________

(١) «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

٣٦٧

ولكن هذه العلائق والوشائج والارتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة ، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر ، ويلعنه ويتبرأ منه ومن عمله ، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله ، وكانوا يقولون في شأنها( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) ،(١) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية ٨٢ يقول :( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

فعلى هذا ، يكون المراد من قوله تعالى :( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم ، وما كان أساسا لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (٦٧) من سورة الزخرف فيقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان ، بل هو لجميع أولئك الذين اختاروا «إماما باطلا» لأنفسهم ، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة ، ففي يوم القيامة يكونون أعداء فيما بينهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا.(٢) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة الله وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام ، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكا حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا(٣) .

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٣.

(٢) أصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

(٣) كتاب الصدوق ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

٣٦٨

( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) .

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيمعليه‌السلام » وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد امّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصة ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيمعليه‌السلام ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهمّا.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما ، ويكون هذا المحيط ملوّثا وتحت تأثير الجبابرة ، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر ، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أخرى لتتسع دعوة الله في الأرض!.

فلذلك تحرك ابراهيمعليه‌السلام وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيمعليه‌السلام يقول في هذا الصدد :( إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ) لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله ، طريق رضاه ، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ ) عائد على لوطعليه‌السلام ، أي إنّ لوطا قال : إنّي مهاجر إلى ربّي ، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضا ، إلّا أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيمعليه‌السلام ، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

٣٦٩

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيمعليه‌السلام في الآية (٩٩) من سورة الصافات( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .(١) وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيمعليه‌السلام بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الأولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيمعليه‌السلام محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية :( وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب ، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيمعليه‌السلام وأسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعاقبون من ذرية إبراهيم ، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة :( وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أمور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأمم ، لأنّ الأمم كلها تحترم ابراهيمعليه‌السلام على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه ، وجذب قلوب الناس جميعا نحوه ، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج ، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة : هي( إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) وهكذا تشكّل هذه

__________________

(١) هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل إلى الشام في ذيل الآية (٧١) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل ، فلا بأس بمراجعته.

٣٧٠

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أكبر الفخر!

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر ، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيرا من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسفعليه‌السلام بعد وصوله إلى أبرز الانتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

وكذلك نبيّ الله سليمانعليه‌السلام مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة ، يطلب من الله( أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) (٢)

وشعيبعليه‌السلام ، ذلك النّبي العظيم ، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له :

( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٣)

وإبراهيمعليه‌السلام أيضا يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(٤) كما يطلب من الله أن يرزقه أبناء صالحين فيقول :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠١.

(٢) سورة النمل ، الآية ١٩.

(٣) سورة القصص ، الآية ٣٧.

(٤) سورة الشعراء ، الآية ٨٣.

(٥) سورة الصافات ، الآية ١٠٠.

٣٧١

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه ، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبدا صالحا.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى : ما معنى أن يكون الإنسان صالحا؟!

معناه : أن يكون جديرا بالاعتقاد والإيمان ، جديرا بالعمل ، جديرا بالقول ، جديرا بالأخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد ، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحيانا ـ في مقابل الفساد ، ويستعمل ـ أحيانا ـ في مقابل السيئة ، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

٢ ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين : إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة هي أنّ الله بدل جميع الأمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الاستياء ، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار ، فتبدلت روضة وسلاما.

وأرادوه أن يبقى منفردا معزولا عن الناس ، فوهب الله له أمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابدا للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناء مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيمعليه‌السلام في بداية حياته مال ولا جاه ، فوهب له الله مالا وجاها عظيما.

٣٧٢

وكان إبراهيمعليه‌السلام في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) .

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته ، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الرازي ، بشيء من التصرف.

٣٧٣

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) )

التّفسير

المنحرفون جنسيا :

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيمعليه‌السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»عليه‌السلام فيقول :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) .(١)

«الفاحشة» كما بيناها من قبل ، مشتقّة من مادة «فحش» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية ، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) بصورة جليّة أن

__________________

(١) يمكن أن تكون كلمة «لوطا» عطفا على كلمة (نوحا) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطا».

٣٧٤

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحدا من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوما بخلاء جدا ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الانحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم ، إلّا أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح ، وقويت فيهم رغبة اللواط ، فسقطوا في الوحل المخزي شيئا فشيئا.

على كل حال ، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم ، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبدا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم!.

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة ، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضا.

لوطعليه‌السلام هذا النّبي العظيم ، كشف أخيرا ما في نفسه وقال لقومه( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ) أفتريدون أن تقطعوا النسل( وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) (١) .

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) .

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام ، كما يأتي أحيانا بمعنى مكان التنزّه ، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضا وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم لكنّها قطعا كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي وكما ورد في

__________________

(١) يرى جماعة من المفسّرين وجوها واحتمالات أخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الالتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف ، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقا غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم ، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر ، لأنّ واحدا من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

٣٧٥

بعض التواريخ ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والابتذال ، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار ، وأو يعبثون كالأطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين ، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية ، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة إلخ(١) .

في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسرا لمعنى :( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه»(٢) أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ما ذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين ، على كلمات النّبي لوطعليه‌السلام المنطقية.

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

أجل هكذا ، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والاستهزاء إزاء دعوة لوطعليه‌السلام المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيدا من هذا الجواب أنّ لوطاعليه‌السلام كان قد هدّدهم بعذاب الله ، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح ، إلّا أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب ، فقالوا :( ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ) على سبيل الاستهزاء والسخرية!! كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (٣٦) بقوله تعالى :( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) .

ويستشف ـ ضمنا ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوطعليه‌السلام ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥١٧.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

٣٧٦

وهنا لم يكن للوطعليه‌السلام بدّ إلّا أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم و( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) .

القوم المنحرفين ، المتمادين في الأرض فسادا ، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم ، وسحقوا العدل الاجتماعي تحت أقدامهم ، ومزجوا عبادة الأوثان بفساد الأخلاق والظلم ، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال ، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

ملاحظة

بلاء الانحراف الجنسي :

الانحراف الجنسي ـ سواء كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الانحرافات الأخلاقية ، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساسا فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح ، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوما بعد يوم ، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة ، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو «السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن ، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

٣٧٧

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسيا يبتلون بضعف جنسي شديد ، ولا يستطيعون أن يكونوا آباء وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل ، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الانحراف».

إن المنحرفين جنسيا يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع ، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضا ، كما يبتلون بنفصام الشخصية ، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أخرى ـ حرّم الإسلام الانحراف الجنسي تحريما شديدا بأي شكل كان وفي أية صورة ، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقابا صارما يبلغ أحيانا إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيرا من الفتيان والفتيات إلى الانحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص ، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال ، وتبدأ من هنا قضية الانحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال ، وتأخذ شكلا قانونيا بحيث يعدون هذا الأمر عاديا لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة ، ولا يسع القلم إلّا أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في صدد الانحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (٨١) سورة هود

٣٧٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة المنحرفين :

لقد أستجيب دعاء لوط أخيرا ، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين ، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيمعليه‌السلام لأداء رسالة أخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط ، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب ، هي بشارتهم لإبراهيمعليه‌السلام بالولد : «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

٣٧٩

والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) .

والتعبير بـ «هذه القرية» يدل على أن مدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيمعليه‌السلام

والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة ، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ) .

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلّا أنّهم أجابوه على الفور ،( قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ) فلا تحزن عليه ، لأننا لا نحرق «الأخضر واليابس» معا ، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماما ثمّ أضافوا( لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد من هذه الآية جيدا أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة ، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضا كما نقرأ مثل ذلك في الآية (٣٦) من سورة الذاريات :( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين ، فشملها العذاب.

والتعبير بـ «الغابرين» جمع «غابر» ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق ، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الانفصال!.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592