الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181458 / تحميل: 6378
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الخوف من الله والورع والالتزام ، فهي إذن جامعة لكافة صفات الكمال الإنساني.

إنّ ذكر الجنات والعيون بصيغة الجمع إشارة إلى تنوع رياض الجنّة وكثرة عيونها ، والتي لكل منها لذة مميزة وطعم خاص.

2 و 3 ـ ثمّ تشير الآيات إلى نعمتين معنويتين مهمّتين أخيرتين (السلامة) و (الأمن) السلامة من أيّ أذى وألم ، والأمن من كل خطر ، فتقول ـ على لسان الملائكة مرحبة بهم ـ :( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) .

وفي الآية التّالية بيان لثلاث نعم معنوية أخرى :

4 ـ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) أي : الحسد والحقد والعداوة والخيانة(1) .

5 ـ( إِخْواناً ) تربطهم أقوى صلات المحبة.

6 ـ( عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (2) .

إن جلساتهم الاجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يعاني منها عالمنا الدنيوي ، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجح والكل إخوان ، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوى واحد.

وبطبيعة الحال ، فهذا لا ينافي تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة الإيمان والتقوى في الحياة الدنيا ، ولكنّ ذلك التساوي إنما يرتبط بجلساتهم الاجتماعية.

7 ـ ثمّ تأتي الإشارة إلى النعمة المادية والمعنوية السابعة :( لا يَمَسُّهُمْ فِيها

__________________

(1) الغل : في الأصل بمعنى النفوذ الخفي للشيء ، ولهذا يطلق على الحسد والحقد والعداوة التي تنفذ بخفاء في نفس الإنسان ، فالغل مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الأخلاقية القبيحة.

(2) السرر : جمع سرير ، وهي المقاعد التي يجلسون عليها في جلسات سمرهم. (علما بأن كلا من سرر وسرير من مادة واحدة).

٨١

نَصَبٌ ) إنّه ليس كيوم استراحة بهذه الدنيا يقع بين تعب ونصب قبله وبعده ، ولا يدع الإنسان يجد طعم الراحة والاستقرار.

8 ـ ولا يشغلهم همّ فناء أو انتهاء نعم( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) .

بعد أن عرض القرآن الكريم النعم الجليلة التي ينالها المتقون في الجنّة بذلك الرونق المؤثر الذي يوقع المذنبين والعاصين في بحار لجية من الغم والحسرة ويجعلهم يقولون : يا ليتنا نصيب بعض هذه المواهب ، فهناك ، يفتح الله الرحمن الرحيم أبواب الجنّة لهم ولكن بشرط ، فيقول لهم بلهجة ملؤها المحبّة والعطف والرحمة وعلى لسان نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

إنّ كلمة «عبادي» لها من اللطافة ما يجذب كل إنسان ، وحينما يختم الكلام ب( الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) يصل ذلك الجذب إلى أوج شدته المؤثرة.

وكما هو معهود من الأسلوب القرآني ، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث عن الغضب والعذاب الإلهي لتمنع من سوء الاستفادة من الرحمة الإلهية ، ولتوجد التعادل بين مسألتي الخوف والرجاء ، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول وبدون فاصلة :( وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) .

* * *

بحوث

1 ـ رياض وعيون الجنّة :

إنّ فهم واستيعاب أبعاد النعم الإلهية التي تزخر بها الجنّة ونحن نعيش في هذا العالم الدنيوي المحدود ، يعتبر أمرا صعبا جدا ، بل ومن غير الممكن ، لأنّ نعم هذا العالم بالنسبة لمنعم الآخرة كنسبة الصفر إلى رقم كبير جدّا ومع ذلك فلا يمنع من أن نحس ببعض أشعتها بفكرنا وروحنا.

إنّ القدر المسلم بهذا الخصوص ، هو أنّ النعم الأخروية متنوعة جدّا ، وينطق

٨٢

بهذه الحقيقة التعبير بال «جنات» في الآيات المتقدمة وغيرها من الآيات الأخر ، وكذلك التعبير بال «عيون».

لقد ورد في القرآن الكريم (في سور الإنسان ، الرحمن ، الدخان ، محمد وغيرها) إشارة إلى أنواع مختلفة من هذه العيون ، وأشير الى تنوعها بإشارات صغيرة. ولعل ذلك تصوير لأنواع الأعمال الصالحة في هذا العالم ، وسنشير إلى هذا الأمر إن شاء الله عند تفسيرنا لهذه السور.

2 ـ النّعم المادية وغير المادية :

على خلاف ما يتصور البعض فإنّ القرآن لم يبشر الناس دائما بالنعم المادية للجنّة فقط ، بل تحدث مرارا عن النعم المعنوية أيضا ، والآيات مورد البحث نموذج واضح لذلك حيث نرى أن أول ما يواجه أهل الجنّة هناك هو الترحيب والبشارة من الملائكة لأهل الجنّة عند دخولهم فيها( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) .

ومن النعم الروحية الأخرى التي أشارت إليها هذه الآيات تطهير الصدور من الأحقاد وكل الصفات المذمومة كالحسد والخيانة وما شابهها ، والتي تذهب بروح الأخوة.

وكذلك حذف الاعتبارات والامتيازات الاجتماعية المغلوطة التي تخدش استقرار فكر وروح الإنسان ، وهو ما ذكره في وصف جلساتهم.

ومن نافلة القول أن (السلامة) و (الأمن) المجعولتين على رأس النعم الأخروي ، هما أساس لكل نعمة أخرى ، ولا يمكن الاستفادة الكاملة من أية نعمة بدونهما وهذا ما ينطبق حتى على الحياة الدنيا ، فالأمن والسلام أساس لكل نعيم ورخاء وإلّا فلا.

٨٣

3 ـ الحقد والحسد عدوّا الأخوة :

من لطيف ما يلاحظ في هذه الآيات أنّها بعد أن ذكرت نعمة السلامة والأمن ، وقبل أن تتعرض لبيان حال الأخوّة والألفة التي سيكون عليها أهل الجنّة ، أشارت إلى مسألة نزع الصفات المانعة للأخوّة ، كالحقد والحسد والغرور والخيانة ، جامعة كل ذلك بكلمة الغل» ذات المفهوم الواسع.

وفي الحقيقة ، إنّ قلب الإنسان ما لم يطهر من هذا «الغل» فسوف لا تتحقق نعمة السلامة والأمن ولا الأخوّة والمحبّة ، بل الحروب والمظالم والمجابهات والصراعات على الدوام ، وهو ما يؤدي إلى قلع جذور الأخوّة والسلامة والأمن من الحياة.

4 ـ الجزاء الكامل :

يقول بعض المفسّرين : إنّ الجزاء لا يكتمل إلّا بأربعة أمور : منافع وخيرة ، أن تكون مقرونة بالاحترام ، خالية من أيّ ألم ، دائمة وخالدة.

وقد أشارت الآيات مورد البحث إلى هذه الأمور الأربعة

فعبارة( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) إشارة إلى المنفعة الأولى.

وعبارة( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) دليل على الاحترام والتقدير.

وعبارة( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) إشارة إلى نفي أي نوع من الآلام والمعاناة الروحية (النفسية).

وعبارة( لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ) إشارة إلى نفي الآلام الجسمانية.

أمّا عبارة( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) فهي حاكية عن آخر شرط ، وهو دوام وبقاء النعم.

٨٤

وبهذا يكون هذا الجزاء والثواب كاملا من كل الجهات(1) .

5 ـ تعالوا لنجعل من هذه الدنيا جنّة :

إنّ النعم المادية والروحية الأخروية التي صورتها الآيات السابقة في حقيقتها تشكل أصول النعم لهذا العالم ، ولعل القرآن الكريم يريد أن يفهمنا بأنّنا يمكن أن نوجد جنّة صغيرة في حياتنا تكون شبيهة بتلك الجنّة الكبيرة ، فيما لو استطعنا أن نوفر شرائطها المطلوبة اللازمة.

فلو طهرنا قلوبنا من الحقد والعداوة.

وقوّينا بيننا روابط الأخوّة والمحبّة.

وحذفنا من حياتنا تلك الاعتبارات واشكال الترف الزائدة والمفرقة.

وإذا ما عملنا لتحقيق الأمن والسلام في مجتمعنا.

وإذا أدرك الناس بأنّه لا استعباد ولا استغلال ولا طبقية فيما بينهم فإنّنا ـ والحال هذه ـ سنكون في جنّة الحياة الدنيا!!

* * *

__________________

(1) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج 19 ، ص 193.

٨٥

الآيات

( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) )

التّفسير

الضّيوف الغرباء ..!

تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ حياة الأنبياءعليهم‌السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم ، وتطرح الآيات نماذج حيّة للاعتبار ، لكلا الطرفين (عباد الله المخلصين من طرف وأتباع

٨٦

الشيطان من طرف آخر).

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إبراهيم (وهم الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن ، ومن ثمّ أخبروه عن أمر عذاب قوم لوط).

فقد جاء في الآيتين السابقتين أمر الله إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبيان سعة رحمة الله للناس مع تبيان أليم عذابه ، ويطرح في هذه القصة نموذجين حيين لهاتين الصفتين ، وبذلك تتبيّن صلة الربط بين هذه الآيات.

فتقول أوّلا :( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) .

فكلمة «ضيف» جاءت بصيغة المفرد ، ولا مانع من ذلك حيث ذهب بعض كبار المفسّرين إلى أن «ضيف» تستعمل مفردا وجمعا.

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيمعليه‌السلام بوجوه خالية من الابتسامة ، فابتدءوه بالسلام( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ) .

فقام إبراهيمعليه‌السلام بوظيفته (إكرام الضيف) ، فهيأ لهم طعاما ووضعه أمامهم ، إلّا أنّهم لم يدنوا إليه ،

فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء ، فعبّر عمّا جال في خاطره( قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) (1) .

وكان مصدر خوف إبراهيمعليه‌السلام ممّا كان عليه متعارفا في مسألة رد الطعام أو عدم التقرب منه ، فهو عندهم إشارة إلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.

ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى :( قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) .

من هو المقصود بالغلام العليم؟

يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أنّ المقصود هو (إسحاق) ، حيث نقرأ

__________________

(1) إنّ الآيات مورد البحث لم تذكر هذا التفصيل في تهيئة الطعام وعدم مد أيديهم إليه ، إلّا أنّ ذلك ورد في الآية (69) و (70) من سورة هود فليراجع.

٨٧

في سورة هود ، الآية (71) أن امرأة إبراهيم كانت واقفة بقربه عند ما بشرته الملائكة ، ويظهر كذلك أنّها كانت امرأة عاقرا فبشروها أيضا( وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ) .

وكما هو معروف فإنّ سارة ، هي أم إسحاق ، ولإبراهيمعليه‌السلام ولد آخر أكبر من إسحاق واسمه (إسماعيل) من (هاجر) ـ الأمّة التي تزوجها إبراهيم.

كان إبراهيم يعلم جيدا أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية ، (ومع أن كل شيء مقدورا للهعزوجل ) ، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب :( قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) هل البشارة منكم أم من اللهعزوجل وبأمره ، أجيبوني كي أزداد اطمئنانا؟

إنّ تعبير «مسّني الكبر» إشارة إلى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.

ويمكن لأحد أن يشكل : بأنّ إبراهيمعليه‌السلام قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له إسماعيلعليه‌السلام وهو في الكبر فلم التعجب من تكرار ذلك؟

والجواب : أوّلا : كان بين ولادة إسماعيل وإسحاق (على ما يقول بعض المفسّرين) أكثر من عشر سنوات ، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدّة ضعيف الاحتمال.

وثانيا : إنّ حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب ، وإذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرّة أخرى.

فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع ، وإذا ما وقع فهو غريب وعجيب في كل الأحوال(1) .

وعلى أية حال لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إبراهيم حيث( قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ ) فهي بشارة من الله وبأمره ، فهي حقّ مسلّم به.

__________________

(1) يذكر بعض المفسّرين أن عمر إبراهيمعليه‌السلام عند ولادة ابنه إسماعيل كان (99) عاما ، وعند ولادة إسحاق كان عمره (112) عاما.

٨٨

وتأكيدا للأمر ودفعا لأي احتمال في غلبة اليأس على إبراهيم ، قالت الملائكة:( فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ ) .

لكنّ إبراهيمعليه‌السلام طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة الله إليه ، وإنّما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة ،( قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) .

إنّ الضالين هم الذين لا يعرفون الله وقدرته المطلقة ، الله الذي خلق الإنسان ببنائه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولدا سويا ، الله الذي حوّل نخلة يابسة الى حاملة للثمر بإذنه ، الله الذي جعل النّار بردا وسلاما هل من شك بأنّه سبحانه قادر على كل شيء ، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!؟!

وراود إبراهيمعليه‌السلام ـ بعد سماعه البشارة ـ أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة، وما البشارة إلّا مهمّة عرضية ضمن مهمّتهم الرئيسية ، ولهذا( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) .

ومع علم الملائكة بإحساس إبراهيمعليه‌السلام المرهف وأنّه دقيق في كل شيء ولا يقنع بالعموميات ، فبينوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

إنّ ظاهر تعبير «آل لوط» وما ورد من تأكيد بكلمة «أجمعين» سيشمل امرأة لوط الضالة التي وقفت في صف المشركين ، ولعل إبراهيم كان مطلعا على ذلك ، ولذا أضافوا قائلين :( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) .

و «قدّرنا» إشارة إلى المهمّة التي كلفوا بها من اللهعزوجل .

هذا وقد بحثنا قصة نزول الملائكة على إبراهيمعليه‌السلام وتبشيره بإسحاقعليه‌السلام وحديثهم معه بشأن قوم لوطعليه‌السلام مفصلا في تفسيرنا للآيتين (69 و 70) من سورة هود من هذا التّفسير.

* * *

٨٩

الآيات

( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) )

٩٠

التّفسير

عاقبة مذنبي قوم لوط :

طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إبراهيمعليه‌السلام ، وهذه الآيات تكمل لنا سير أحداث القصّة فتبتدأ من خروجهم من عند إبراهيم حتى لقائهم بلوطعليه‌السلام .

فنقرأ أوّلا( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ) .

فالتفت إليهم لوط( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .

يقول المفسّرون : قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب ، وهو يعلم ما كان متفشيا بين قومه من الانحراف الجنسي فمن جهة ، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولا بد من إكرامهم واحترامهم ، ولكنّ المحيط الذي يعيشه لوطعليه‌السلام مريض وملوث.

ولهذا ورد تعبير «سيء بهم» في الآيات المتعرضة لقصة قوم لوط في سورة هود ، أي إنّ هذا الموضوع كان صعبا على نبيّ الله وقد اغتم لقدومهم لتوقعه يوما عصيبا!

ولكنّ الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلا حتى سارعوا الى القول :( قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ، أي إنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيرا ، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدقوا بما ذكرته لهم.

ثمّ أكّدوا له قائلين :( وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ ) ، أي العذاب الحتمي الجزاء الحاسم لقومك الضالين.

ثمّ أضافوا لزيادة التأكيد :( وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلا للشفاعة والمناقشة ، كي لا يفكر لوط في التشفع لهم وليعلم أنّهم لا يستحقونها أبدا.

ثمّ قال الملائكة للوط : أخرج وأهلك من المدينة ليلا حين ينام القوم أو

٩١

ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم ، لأجل نجاة الثلة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا زوجته).

( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم ولتكون محافظا ورقيبا لهم( وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ ) وعلى أن يكون نظركم إلى الأمام( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) ، أي إلى أرض الشام ، أو أيّ مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.

ثمّ ينتقل مجرى الحديث حيث يقول تعالى :( وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) ، أي سوف لا يبقى منهم أحد عند الصباح.

ومن الملفت للنظر ، أن القرآن قد ترك القصّة عند هذا الحد وعاد إلى بدايتها ليعرض ما ترك القول فيه ـ لسبب سنشير إليه فيما بعد ـ فيقول :( وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ) أي إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط!

إنّ تعبير( أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) ليوحي إلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوطعليه‌السلام كانوا جمعا كبيرا ، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا عليها ، وخصوصا قوله( يَسْتَبْشِرُونَ ) التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك السافل ، مع أنّ مثل هذا الفعل القبيح ربّما لا يشاهد حتى بين الحيوانات ، وإذا ما ابتلى به إنسان (والعياذ بالله) فإنّه سوف يحاول كتمه وإخفاؤه ، حيث أن الإتيان به مدعاة للتحقير والازدراء من قبل الآخرين أمّا قوم لوط ، فكانوا مستبشرين بذلك الصيد الجديد وكل يهنئ الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!

وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتم غمّا شديدا لأجل ضيوفه ، لأنّه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب الى ذلك الوقت ولهذا( قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) .

أي إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تصدقون بالنّبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب ، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل

٩٢

المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة ، أيّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإنسانية، فإن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم! ثمّ أضاف قائلا :( وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ ) (1) أمام ضيفي.

ولكنّهم من الوقاحة والإصرار على الانحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم ، بل راحوا يحاججون لوطا ويحاسبونه ، وكأنّه ارتكب جرما في استضافته لهؤلاء القوم( قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ ) ، باستضافتهم! فلما ذا خالفت أمرنا؟!

وكان قوم لوط من البخل بحيث أنّهم لا يحبون الضيافة ، وكانت مدينتهم على طريق القوافل ، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لا ينزل عندهم أحد من القوافل المارة ، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.

وكما يبدو أنّ لوطا كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفا عليه من عمل قومه الخبيث ، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحدا مستقبلا.

عليه ، فكلمة «العالمين» في الآية أعلاه ـ ما يبدو ـ إشارة إلى عابري السبيل ، ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.

وعند ما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة ، أتاهم من طريق آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم ، فقال لهم : إن كنتم تريدون إشباع غرائزكم فلما ذا تسلكون سبيل الانحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج)( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

__________________

(1) نرى في هذه الآيات أن لوطا يطلب من قومه أن لا يفضحوه تارة وألّا يخزوه تارة أخرى ، الفضيحة لغة بمعنى: انكشاف شيء ، وظهور العيب أيضا (وأراد لوط أنّه يفهمهم بأن عملكم القبيح هذا سيخجلني أمام ضيوفي ويعرفوا مدى خباثة أهل مدينتي).

أمّا الخزي : فهو بمعنى الإبعاد وكذلك بمعنى الخجل (وأراد لوط أن يقول لهم : لا تخجلوني أمام ضيوفي وتباعدوا بيني وبينهم).

٩٣

ممّا لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطا الذي كان يهدف إلى إلقاء الحجّة عليهم أراد أن يقول لهم : انني مستعد الى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف ، وكذلك لأجل إنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الانحراف.

وذهب البعض إلى أنّ المقصود من( هؤُلاءِ بَناتِي ) كل بنات المدينة ، باعتباره أبا روحيا للجميع. (إلّا أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى معنى الآية).

وليس نجاف أنّ لوطا ما كان ليزوج بناته من أولئك المشركين الضالين ، ولكنّه أراد أن يقول لهم : تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.

لكنّ الويل ، كل الويل من سكرات الشهوة ، الانحراف الغرور والعناد التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية ، والتي بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوطعليه‌السلام ، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم ، ولكنّ أنّى لهم ذلك ، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إلى الضيوف.

وهنا يخاطب الله تعالى نبيّه قائلا :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

وقرأنا في سورة هود ـ فيما يتعلق بهذه القصّة ـ أنّ ملائكة العذاب قد كشفوا عن أمرهم وقالوا للوط : لا تخف إنّهم لن يصلوا إليك.

وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة القمر نقرأ( وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ) .

وفي بعض الرّوايات : إنّ أحد هؤلاء الضيوف أخذ قبضة من تراب فرماها في وجوه القوم فأصبحوا لا يبصرون جميعا.

وبعد ذلك يبلغ كلام الله تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبيّن عاقبتهم السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل حدّي مليء بالدروس والعبر بقوله :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) أي صوت شديد عند شروق الشمس.

٩٤

ويمكن حمل «الصيحة» على أنّها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب ، والمهم أنّه كان صوتا مرعبا أسقط الجميع مغميا عليهم أو ميتين.

والمعلوم أنّ الأمواج الصوتية إذا ما تعدت حدّا معينا فستكون مرعبة مخيفة تهز فرائص الإنسان ، وإذا ما ازدادت شدتها فستبهت الإنسان وتشلّه عن الحركة وربّما تودي بحياته ، بل ومن الممكن لها أن تهدم الأبنية ، وهذا ما تفعله المتفجرات.

ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضا( فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ) .

وزيد في التنكيل بهم( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) .

إنّ سقوط الحجارة على رؤوسهم ربّما كان يستهدف من لم يمت من الصيحة المرعبة ولم يصبح تحت الأنقاض ، وربّما لأجل محو أجسادهم ، وجثثهم من على الأرض كي لا يبقى أثر لهؤلاء القوم المجرمين ، حتى أنّ المار على تلك الديار بعد نزول الأحجار لا يصدق بسهولة أنّها كانت مدينة معمورة!

ثمّ إنّ نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبة ، قلب المدينة ، المطر الحجري) ـ رغم أن كل واحدة منهن كانت تكفي لقطع دابر القوم ـ كان لمضاعفة عذابهم لشدّة فسادهم وجسارتهم وإصرارهم على إدامة التلوّث بتلك القبائح الشنيعة ، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.

وهنا يخلص القرآن الكريم إلى النتائج الأخلاقية والتربية فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) (1) العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إشارة حقيقة ومن كل تنبيه درسا.

ولا تتصوروا أن آثارهم ذهبت تماما ، بل هي باقية على طريق القوافل والمارة( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) .

__________________

(1) متوسم : من مادة (وسم) ـ على وزن رسم ـ أى ترك أثرا ، ويقال لمن يخلص من أثر صغير إلى نتائج وحقائق كبيره (متوسم).

٩٥

وإن لم تصدقوا فاذهبوا لرؤية آثار المدن المعذبة الواقعة على طريق المسافرين إلى الشام (من المدينة) فانظروا وفكروا واعتبروا ، وعودوا إلى الله ، واسلكوا طريق التوبة ، وطهّروا نفوسكم من الآثام والذنوب.

ثمّ تدعوا الآية المؤمنين إلى التفكر مليا في هذه القصة واستخلاص العبر منها :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

فكيف يمكن للمؤمن أن لا يعتبر ولا يهتز عند ما يطالع خبر هذه الواقعة؟!

بحثنا بشيء من التفصيل في الآيات المتعلقة بقوم لوط في سورة هود من هذا التفسير ، فبحثنا في معنى «سجيل» ، ولما ذا أمطر على هؤلاء القوم المنحرفين بالحجارة ، ولماذا قلبت مدينتهم ، ولما ذا كان العذاب صباحا ، ولما ذا أمر لوط وأهله أن لا يلتفتوا إلى الوراء ، وكذلك بحثنا مسألة تحريم الشذوذ الجنسي في الأديان السماوية وفلسفة التحريم ، بالإضافة إلى بحث في أخلاق قوم لوط وسنبحث هنا بعض ما تبقى من الإشارات المتعلقة بهذه القصّة.

* * *

بحوث

1 ـ ما المقصود ب( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ؟

«القطع» بمعنى سواد الليل ، يقول المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان) : القطع كأنّه جمع قطعة ، ومعناه : سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل وتبقى قطعة منه.

ولكنّ الراغب الأصفهاني في مفرداته يعتبر كلمة «قطع» بمعنى قطعة على صيغة المفرد ، مع أن كثيرا من المفسّرين فسّروها بأواخر الليل وعند السحر ، ولعل تفسيرهم يعود إلى الآيات الأخرى التي تحدد هذا الوقت في قصّة آل لوط

٩٦

( نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ) (1) .

أي إنّهم خرجوا عند ما كان عبّاد الشهوة غارقين في نوم غفلتهم وقد أفسد وجودهم سكر الشراب والغرور والشهوات ، فكانت المدينة مهيئة لآل لوط في الخروج بسلام.

ثمّ إنّ نزول العقاب كان في الصباح عند شروق الشمس ، ولعل انتخاب هذا الوقت كان لإعطاء المهلة لقوم لوط بعد أن فقدوا أبصارهم ، عسى أن يتفكروا في أمرهم فيعيدوا النظر في شركهم وعصيانهم ، فكانت تلك الليلة آخر فرصة لهم.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعضا منهم عند ما كانوا في طريق عودتهم إلى دورهم أقسموا أن لا يدعوا أحدا من آل لوط حيا عند الصباح ، ولهذا نزل عليهم العذاب الإلهية في ذلك الوقت(2) .

2 ـ تفسير قوله تعالى :( وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) .

ذكرنا أنّ الملائكة أوصت آل لوط بالخروج آخر الليل إلى المكان الذي عين لهم ، إلّا أن الآيات القرآنية لم تدخل في تفاصيل ذلك السفر ولم تعين المنطقة التي سيذهبون إليها ، لذلك عرض المفسّرون جملة آراء بهذا الخصوص.

فمنهم من قال : أمروا بالسير نحو الشام لأنّ محيطها أكثر طهارة.

وقال بعض آخر : إنّ الملائكة عينت لهم قرية وطلبت منهم الذهاب إليها.

واكتفى تفسير الميزان بعبارة : كان لديهم نوع من الهدية الإلهية والدلالة العلمية في سلوك طريقهم.

__________________

(1) سورة القمر ، 34.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 358.

٩٧

3 ـ علاقة الرّبط بين «المتوسم» و «المؤمن».

لاحظنا تعبير( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) و( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) في الآيات الحاكية عن قصّة قوم لوط ، والجمع بين التعبيرين يعطينا : أنّ المؤمن الحقيقي هو المتوسم الذي ذو الفراسة والنباهة.

وفي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير قوله تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال : هم الأمّة ، ثمّ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللهعزوجل »(1) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «هم الأئمّة»(2) .

وروي أن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «كان رسول الله المتوسم ، وأنا من بعده، والأئمّة من ذريتي المتوسمون»(3) .

4 ـ سكر الشّهوة والغرور!

إن سكر الخمر معروف ، وثمة سكر أشد منه آثارا كسكر المنصب وسكر الشهوة ، وقرأنا في الآيات السابقة كيف أن الله يقسم بروح نبيّه( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، ولهذا فإنّهم لا يبصرون أوضح طرق النجاة ، وبلغ بهم الحال أن يردوا ما عرض عليهم نبيّهمعليهم‌السلام أن يشبعوا شهواتهم بالطريق الصحيح المشروع ليتخلصوا من الذنوب والتلوثات وقبائح الأفعال!

والذي نستفيده من موقف لوطعليه‌السلام هو أنّ مكافحة الفساد لا يتم بالنهي عنه فقط، بل لا بدّ من تهيئة وتعبيد الطريق المعبدة البدلية ، لينتقل الضال أو المضلل به من جادة الفساد إلى جادة الصلاح ، فلا بد من تهيئة الأوضاع والأجواء السليمة

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 23.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

٩٨

للناس مع وجود البرامج المؤثرة الهادفة.

ومن غريب ما نطالعه في بعض الرّوايات أنّ لوطا (هذا النّبي الجليل) قد قضى بين قومه ثلاثين عاما وهو يدعوهم إلى الهدى ويحذرهم من مغبة الانغماس في متاهات الضلال ، ومع ذلك لم يؤمن به إلّا أهل بيته (ما عدا زوجته)(1) .

ما أعظم ثباتهعليه‌السلام ! مع منحرفين لدرجة لا يطيق أيّ إنسان العيش معهم حتى ولو لساعة واحدة! بل وما أصعب العيش مع تلك الزوجة!

ونقرأ في الآيتين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة الذاريات :( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ؟

فيتّضح لنا أنّ العقاب الإلهي لا يكون عشوائيا ، بل لا يشمل إلّا المستحقين له ولو كان هناك مؤمن واحد عامل بواجباته لا نقذه الله تعالى من بينهم.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 382.

٩٩

الآيات

( وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) )

التّفسير

خاتمة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر :

يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصّتين من قصص الأمم السالفة ، وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في الآيات السابقة حول قوم لوط.

يقول أوّلا :( وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ ) (1) .

( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم

__________________

(1) إنّ كلمة «إنّ» في هذه الآية ليست شرطية وإنّما هي مخففة ، فيكون تقدير الكلام (إنه كان أصحاب الأيكة لضالمين).

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

هذا وإن كلمة «النشأة» في الأصل ، تعني إيجاد الشيء وتربيته ، وقد يعبر أحيانا عن الدنيا بالنشأة الأولى ، كما يعبر عن الأخرى بالنشأة الآخرة!.

وهذه اللطيفة جديرة بالملاحظة ، وهي أنّ في ذيل الآيات السابقة ورد التعبير «إن ذلك على الله يسير» وورد التعبير هنا( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

ولعل منشأ التفاوت والاختلاف هو أن الآية الأولى تعالج مطالعة محدودة ، أمّا الثّانية فتعالج وتبيّن مطالعة وسيعة جدّا.

ثمّ يتعرض القرآن الكريم إلى إحدى المسائل المتعلقة بالمعاد ، وهي مسألة الرحمة والعذاب ، فيقول :( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) .

ومع أنّ رحمة الله مقدمة على غضبه ، إلّا أن الآية هنا تبدأ أولا بذكر العذاب ثمّ الرحمة ، لأنّها في مقام التهديد ، وما يناسب مقام التهديد هو هذا الأسلوب!.

هنا ينقدح السؤال التالي :

كيف يتحدث القرآن أوّلا عن العذاب والرحمة ، ثمّ يتحدث عن معاد الناس إليه( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) ؟ في حين أن القضية على العكس من ذلك ، ففي البداية يحضر الناس عند ساحته ، ثمّ يشملهم العذاب أو الرحمة وربّما كان هذا هو السبب في أن يعتقد بعضهم أن العذاب والرحمة المذكورين هنا هما في هذه الدنيا.

ونقول جوابا على مثل هذا السؤال : إن العذاب والرحمة ـ بقرينة الآيات السابقة واللاحقة ـ هما عذاب القيامة ورحمتها ، وجملة( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) إشارة إلى الدليل على ذلك : أي : بما أنّ معادكم إليه وكتابكم وحسابكم لديه ، فالعذاب والرحمة ـ أيضا ـ بإرادته وتحت أمره!.

ولا يبعد أن يكون العذاب والرحمة في هذه الآية لهما معنى واسع ، بحيث

٣٦١

يشمل العذاب والرحمة في الدارين.

كما يتّضح أنّ المراد بقول :( مَنْ يَشاءُ ) هو المشيئة الإلهية المقرونة بحكمته ، أي كل من كان جديرا ومستحقا لذلك فإن مشيئة الله ليست عبثا ، بل منسجمة مع الاستحقاق والجدارة!.

وجملة «تنقلبون» من مادة «القلب» ومعناها في الأصل : تغيير الشيء من صورة إلى صورة أخرى ، وحيث أن الإنسان في يوم القيامة يعود إلى هيئة الموجود الحي الكامل بعد أن كان ترابا لا روح فيه ، فقد ورد هذا التعبير في إيجاده ثانية أيضا.

ويمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى هذه اللطيفة الدقيقة ـ أيضا ـ وهي أن الإنسان يتبدل في الدار الأخرى ويتغيّر تغيرا ينكشف باطنه به وتتجلى أسراره الخفية ، وبهذا فهي تنسجم مع الآية (٩) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) .

وإكمالا لهذا البحث الذي يبيّن أن الرحمة والعذاب هما بيد الله والمعاد إليه ، يضيف القرآن : إذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون أن تهربوا من سلطان الله وحكومته ولا يمسّكم عذابه ، فأنتم في خطأ كبير فليس الأمر كذلك!( وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) (١) .

وإذا كنتم تتصورون أنّكم تجدون من يدافع عنكم وينصركم هناك ، فهذا خطأ محض أيضا( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وفي الحقيقة ، فإنّ الفرار من قبضة الله وعذابه ، إمّا بأن تخرجوا من حكومته ، وإمّا بأن تعتمدوا مع بقائكم في حكومته على قدرة الآخرين لتدافعوا عن أنفسكم ، فلا الخروج ممكن ، لأنّ البلاد كلّها له وعالم الوجود كلّه ملكه الواسع ،

__________________

(١) كلمة «معجزين» مشتقّة من مادة «عجز» ، ومعناها في الأصل التخلّف والتأخر عن الشيء ، ولذلك تستعمل هذه الكلمة في الضعف الباعث على التخلف والتأخر ، «المعجزة» معناه الذي يجعل الآخر عاجزا ، وحيث أن الأفراد الذين يفرون من سلطان أحد وقدرته ، يعجزونه عن ملاحقتهم ، لذلك استعملت كلمة «معجز» في هذا الصدد أيضا

٣٦٢

ولا يوجد أحد يستطيع أن يقف أمام قدرته وينهض للدفاع عنكم.

يبقى هنا سؤالان : ـ

أوّلا : مع الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أن مقصود الآية هو في الكفار والمشركين ، وهم سكنة الأرض ، فما معنى قوله تعالى :( وَلا فِي السَّماءِ ) وأي مفهوم له هنا؟!

وينبغي أن يقال في الجواب ، أن هذا التعبير هو نوع من التأكيد والمبالغة ، أي إنكم لا تستطيعون أن تخرجوا من قدرة الله وسلطانه في هذه الأرض ، ولا في السماوات ، إذ حتى لو فرضنا أنّكم تستطيعون أن تصعدوا في السماء ، فما زلتم تحت قدرته وسلطانه.

أو إنّه : لا تستطيعون أن تعجزوا الله في مشيئته بواسطة من في الأرض ، ولا بواسطة من تعبدون في السماوات ، من أمثال الملائكة والجن (والتّفسير الأوّل أكثر مناسبة ـ طبعا ـ)

ثانيا : ما الفرق بين الولي والنصير؟!

يرى العلامة «الطبرسي» في «مجمع البيان» وقيل : إن الولي الذي يتولى المعونة بنفسه والنصير يتولى النصرة تارة بنفسه بأن يأمره غيره به»(١) .

بل يمكن القول مع ملاحظة الكلمتين هاتين ، أن الولي إشارة إلى من يعيّن دون طلب (من عليه الولاية) ، والنصير هو المستصرخ الذي يأتي لإعانة الإنسان بعد استصراخه.

وهكذا يغلق القرآن جميع أبواب الفرار بوجه هؤلاء المجرمين

لذلك يقول في الآية التي بعدها بشكل قاطع :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي )

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ، ص ٣٥٢.

٣٦٣

ثمّ يضيف مؤكدا :( وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

هذا «العذاب الأليم» هو لزم اليأس من رحمة الله.

والمراد بـ «ايات الله» إمّا هي «الآيات التكوينية» أي آثار عظمة الله في نظام خلقه وإيجاده ، وفي هذه الصورة فهي إشارة إلى مسألة التوحيد ، في حين أن كلمة «لقائه» إشارة إلى مسألة المعاد ، أي إنّهم منكرون للمبدأ وللمعاد كليهما.

أو أنّ المراد من آيات الله هي «الآيات التشريعية» أي هي الآيات التي أنزلها الله على أنبيائه ، التي تتحدث عن المبدأ وعن النبوة وعن المعاد ، وفي هذه الحال يكون التعبير بـ «لقائه» من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كما يمكن أن يكون المقصود من آيات الله هي جميع الآيات في عالم الوجود والتشريع.

وينبغي ذكر هذه المسألة ـ أيضا ـ وهي أن «يئسوا» فعل ماض والهدف منه هو الاستقبال ـ أي في يوم القيامة ـ والعرب عادة إذا تحدثوا عن أمر مستقبلي بصورة التأكيد عبروا عنه بصيغة الماضي ، للدلالة على تحققه قطعا وحتما.

* * *

٣٦٤

الآيات

( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) )

التّفسير

أسلوب المستكبرين في جوابهم لإبراهيم :

والآن علينا أن نعرف ماذا قال هؤلاء القوم الضّالون لإبراهيمعليه‌السلام ردّا على أدلته الثّلاثة في مجال التوحيد والنّبوة والمعاد؟!

إنّهم ـ قطعا ـ لم يكن لديهم جواب منطقي وكجميع الأقوياء المستكبرين فقد توسّلوا بقدراتهم الشيطانية وأصدروا أمرا بقتله ، حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم فيقول :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ! ) .

٣٦٥

ويستفاد من هذا التعبير أن جماعة كانوا يميلون إلى حرق إبراهيم بالنّار ، في حين كانت جماعة أخرى تقترح أن يقتل بالسيف أو ما شاكله!

وأخيرا رجح الرأى الأوّل ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ أشدّ حالات الإعدام هو الإحراق بالنّار.

كما ويحتمل أيضا أنّهم جميعا كانوا يفكرون في قتله بالوسائل الطبيعية ، غير أنّهم اتفقوا أخيرا على إحراقه بالنّار ، وأن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا الأمر.

وفي هذه الآية الكريمة لم يرد كلام عن كيفية إحراق إبراهيمعليه‌السلام بالنّار سوى هذا المقدار الذي استكملت به الآية الكريمة ، وهو( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) .

غير أن تفصيل ما جرى عليه من الإحراق ورد في سورة الأنبياء (الآيات ٦٨ ـ ٧٠) وقد بيّنا ذلك هناك ، فلا بأس بمراجعته!

ويضيف القرآن في الختام( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ولم تكن علامة وآية واحدة في هذا الصدد وفي هذه الحادثة ، بل علائم وآيات فمن جانب فإنّ عدم تأثير النّار في جسد إبراهيم بنفسه معجزة واضحة ، وتبدل النّار إلى روضة و «سلام» على إبراهيم كما هو معروف معجزة أخرى ، وعدم استطاعة هذه الجماعة القوية التغلب على شخص واحد ـ وهو أعزل من كل وسيلة بحسب الظاهر ـ كان معجزة ثالثة أيضا.

كما أنّ عدم تأثير هذا الحادث العجيب الخارق للعادة في أولئك المظلمة قلوبهم ، آية من آيات الله ، إذ يسلب التوفيق من أمثال هؤلاء الأفراد المعاندين الألدّاء ، بحيث لا تؤثر فيهم أعظم الآيات!.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّه لما القي بإبراهيم الخليل مكتوف اليدين والرجلين في النّار ، فإن الشيء الوحيد الذي احترق منه هو الحبل الذي كان مشدودا وموثقا به(١) .

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

٣٦٦

أجل ، إنّ نار الجهل وجناية المنحرفين إنّما أحرقت وسائل الأسر ، فتحرر إبراهيمعليه‌السلام منها وهذه بنفسها تعدّ آية أخرى.

وربّما كان ـ لهذه الأسباب ـ أن عبّر القرآن عن قصّة نوح وسفينته بقوله :( جَعَلْناها آيَةً ) بصيغة الإفراد ، ولكنّه عبّر هنا بقوله :( لَآياتٍ ) بصيغة الجمع!.

وعلى كل حال فإنّ ابراهيمعليه‌السلام نجّي من النّار بصورة خارقة للعادة وبلطف الله سبحانه ، غير أنّه لم يترك أهدافه بل نهض بالأمر وازداد همّة وأعطى لأهدافه حرارة أكثر.

ثمّ توجه إبراهيم إلى المشركين( وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) ولكن هذه المودّة والمحبّة تتلاشى في الآخرة( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

كيف تكون الأوثان أساسا للمودّة بين عبدة الأوثان؟!

هذا السؤال يمكن الإجابة عليه من عدّة طرق :

الأوّل : أن عبادة الصنم أو الوثن كانت رمزا للوحدة لكل قوم ولكل قبيلة ، لأنّ كل جماعة اختارت لنفسها وثنا ، كما ذكروا في شأن أصنام الجاهلية ، إذ كان كل صنم يعود لقبيلة من القبائل العربية ، فصنم «العزّى» كان لقريش ، و «اللّات» كان خاصا بثقيف ، أمّا «منات» فكان خاصا بالأوس والخزرج!.

الثّاني : أن عبادة الأوثان تربط بينهم وبين أسلافهم وغالبا ما كانوا يعتذرون بمثل هذا العذر ويقولون : إنّ هذه الأوثان كان عليها السلف ونحن نتبع السلف ونمضي على دين آبائنا.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ سراة(١) الكفار كانوا يدعون أتباعهم إلى عبادة الأوثان ، وكان هذا الأمر بمثابة «حلقة الاتصال» بين السراة والأتباع.

__________________

(١) «السراة» جمع مفردها سريّ ـ كبير القوم. (المصحح)

٣٦٧

ولكن هذه العلائق والوشائج والارتباطات الخاوية تتقطع جميعها يوم القيامة ، وكل فرد يلقي التبعة والذنب على رقبة الآخر ، ويلعنه ويتبرأ منه ومن عمله ، حتى المعبودات التي كانوا يتصورون أنّها الوسيلة إلى الله ، وكانوا يقولون في شأنها( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) ،(١) ـ تتبرأ منهم.

وكما يصوّر القرآن هذه الحالة في سورة مريم الآية ٨٢ يقول :( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

فعلى هذا ، يكون المراد من قوله تعالى :( يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) هو أنّهم يتبرأ بعضهم من بعض في ذلك اليوم ، وما كان أساسا لعلاقة المودة الكاذبة في الدنيا يكون مدعاة للعداوة والبغضاء في الآخرة كما يعبّر القرآن عن ذلك في الآية (٦٧) من سورة الزخرف فيقول :( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) .

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ هذا الحكم غير مختص بعبدة أوثان ، بل هو لجميع أولئك الذين اختاروا «إماما باطلا» لأنفسهم ، فاتبعوه وتعاهدوا معه على المودة ، ففي يوم القيامة يكونون أعداء فيما بينهم ، ويتبرأ بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا.(٢) في حين أنّ علاقة المحبّة بين المؤمنين قائمة على أساس التوحيد وعبادة الله وإطاعة أمر الحق في هذه الدنيا وهذه العلاقة سيكتب لها الدوام ، وفي الآخرة تكون أكثر تماسكا حين إنّه يستفاد من بعض الروايات أنّ المؤمنين يستغفر بعضهم لبعض ويتشفع بعضهم لبعض في يوم القيامة في وقت يتبرأ فيه المشركون بعضهم من بعض ويلعن بعضهم بعضا(٣) .

وفي الآية التي بعد تلك الآية إشارة إلى إيمان لوط وهجرة إبراهيم ، إذ تقول :

__________________

(١) سورة الزمر ، الآية ٣.

(٢) أصول الكافي ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

(٣) كتاب الصدوق ، طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٥٤.

٣٦٨

( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ) .

«لوط» نفسه من الأنبياء العظام ، وكانت له مع إبراهيم علاقة قربى «يقال إنّه كان ابن أخت ابراهيمعليه‌السلام » وحيث أن اتّباع شخص عظيم ـ لإبراهيم ـ بمنزلة أفراد امّة كاملة فقد تحدث سبحانه ـ خاصة ـ عن إيمان «لوط» وشخصيته الكبرى المعاصرة لإبراهيمعليه‌السلام ، ليتّضح أنّه إذ لم يؤمن الآخرون ، فإنّ ذلك ليس مهمّا.

ويبدوا أنّه كانت في أرض بابل قلوب مهيأة لقبول دعوة إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، وقد التفوا حوله بعد مشاهدة تلك المعجزة العظيمة ، غير أنّه من المسلّم به أنّهم كانوا «أقليّة».

ثمّ تضيف الآية عن هجرة إبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

ومن الوضوح بمكان أنّه حين يؤدي القادة الإلهيون رسالتهم في محيط ما ، ويكون هذا المحيط ملوّثا وتحت تأثير الجبابرة ، بحيث لا تتقدّم دعوتهم أكثر ، فينبغي أن يهاجروا إلى منطقة أخرى لتتسع دعوة الله في الأرض!.

فلذلك تحرك ابراهيمعليه‌السلام وزوجه سارة ـ بمعيّة لوط ـ من بابل إلى أرض الشام مهد الأنبياء والتوحيد ، ليستطيع أن يكتسب جماعة هناك ويوسع دعوة التوحيد!.

من الطريف أنّ إبراهيمعليه‌السلام يقول في هذا الصدد :( إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ) لأنّ ذلك الطريق كان طريق الله ، طريق رضاه ، وطريق دينه ومنهاجه.

وبالطبع فإنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون الضمير في قوله تعالى :( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ ) عائد على لوطعليه‌السلام ، أي إنّ لوطا قال : إنّي مهاجر إلى ربّي ، وظاهر الجملة منسجم مع هذا المعنى أيضا ، إلّا أن الشواهد التاريخية تدلّ على أن الضمير يعود على إبراهيمعليه‌السلام ، وكانت هجرة لوط بمعية إبراهيم.

٣٦٩

والشاهد على هذا الكلام قول إبراهيمعليه‌السلام في الآية (٩٩) من سورة الصافات( إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .(١) وفي آخر آية من هذا المقطع يقع الكلام على المواهب الأربع التي منحها الله لإبراهيمعليه‌السلام بعد الهجرة العظيمة :

الموهبة الأولى : الأبناء الصالحون ، من أمثال إسحاق ويعقوب ، ليسرجوا مصباح الإيمان والنّبوة في بيته وأسرته ويحافظوا عليه ، إذ يقول القرآن :( وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ) وهما نبيّان كبيران واصل كلّ منهما السير على منهاج إبراهيمعليه‌السلام محطم الأصنام.

الموهبة الثّانية :( وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ) ولم تكن النّبوة في إسحاق بن إبراهيم ويعقوب حفيده فحسب ، بل استمر خط النّبوة في ذريّة إبراهيمعليه‌السلام وأسرته حتى نبوّة خاتم الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعاقبون من ذرية إبراهيم ، نوّروا العالم بضياء التوحيد.

الموهبة الثّالثة :( وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ) فما هو هذا الأجر الذي لم يوجهه القرآن؟ لعله إشارة إلى أمور مختلفة مثل الاسم الحسن ، ولسان الصدق والثناء بين جميع الأمم ، لأنّ الأمم كلها تحترم ابراهيمعليه‌السلام على أنّه نبي عظيم الشأن ، ويفتخرون بوجوده ويسمونه «شيخ الأنبياء».

عمارة أرض مكّة كانت بدعائه ، وجذب قلوب الناس جميعا نحوه ، لتتذكر ذكريات التجلي والإيمان كل سنة في مناسك الحج ، كل ذلك من هذا الأجر المشار اليه في القرآن.

الموهبة الرّابعة : هي( إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) وهكذا تشكّل هذه

__________________

(١) هناك بحث مفصل في هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل إلى الشام في ذيل الآية (٧١) من سورة الأنبياء من التّفسير الأمثل ، فلا بأس بمراجعته.

٣٧٠

المواهب مجموعة كاملة من المفاخر.

* * *

ملاحظتان

١ ـ أكبر الفخر!

«الدخول في الصالحين» بالشكل الذي يستنتج من كثير من آيات القرآن هو أوج الفخر ، وقد يحظى به انسان معين فيكون من نصيبه. ولذلك فإنّ كثيرا من الأنبياء كانوا يسألون الله أن يدخلهم في زمرة عباده الصالحين.

فيوسفعليه‌السلام بعد وصوله إلى أبرز الانتصارات الظاهرية يسأل الله فيقول :( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

وكذلك نبيّ الله سليمانعليه‌السلام مع ما لديه من جاه وحشمة وجلالة ، يطلب من الله( أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ ) (٢)

وشعيبعليه‌السلام ، ذلك النّبي العظيم ، حين وقع العقد على استئجار موسى قال له :

( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٣)

وإبراهيمعليه‌السلام أيضا يطلب لنفسه من الله أن يكون في زمرة الصالحين( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(٤) كما يطلب من الله أن يرزقه أبناء صالحين فيقول :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة يوسف ، الآية ١٠١.

(٢) سورة النمل ، الآية ١٩.

(٣) سورة القصص ، الآية ٣٧.

(٤) سورة الشعراء ، الآية ٨٣.

(٥) سورة الصافات ، الآية ١٠٠.

٣٧١

كما نلاحظ في كثير من الآيات أن الله سبحانه حين يمدح أنبياءه العظام في كتابه ، يصفهم بأنّهم «من عباده الصالحين».

ويستفاد من مجموع هذه الآيات ـ بصورة جيدة ـ أن أسمى مراحل تكامل الإنسان هو أن يكون عبدا صالحا.

ما معنى الصلاح؟! وبعبارة أجلى : ما معنى أن يكون الإنسان صالحا؟!

معناه : أن يكون جديرا بالاعتقاد والإيمان ، جديرا بالعمل ، جديرا بالقول ، جديرا بالأخلاق!

أمّا ما يقابل الصالح فهو الفاسد ، ونعرف أن «الفساد في الأرض» تعبير يشمل جميع أنواع الظلم والأعمال السيئة.

وفي القرآن الكريم يستعمل الصلاح ـ أحيانا ـ في مقابل الفساد ، ويستعمل ـ أحيانا ـ في مقابل السيئة ، وتعني «الذنب» وما لا يليق.

٢ ـ مواهب إبراهيم العظيمة

قال بعض المفسّرين : إنّ في الآية الآنفة لطيفة دقيقة هي أنّ الله بدل جميع الأمور والأحوال التي تؤدي بإبراهيم إلى الاستياء ، إلى الضدّ.

فعبدة الأوثان في بابل أرادوا إحراقه بالنّار ، فتبدلت روضة وسلاما.

وأرادوه أن يبقى منفردا معزولا عن الناس ، فوهب الله له أمّة عظيمة وجعل النّبوة في ذراريه.

وكان بعض أقاربه ضالا وعابدا للصنم كما هي الحال في «آزر» فأعطاه الله مكانه أبناء مهتدين وهادين للآخرين.

ولم يكن لإبراهيمعليه‌السلام في بداية حياته مال ولا جاه ، فوهب له الله مالا وجاها عظيما.

٣٧٢

وكان إبراهيمعليه‌السلام في بداية أمره مجهولا لا يعرفه الناس حتى أن عبدة الأوثان في بابل حين أرادوا تعريفه( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ) .

لكن الله سبحانه رفع مقامه وأعلى صيته ، حتى أنّه إذا ذكر قيل في حقّه «شيخ الأنبياء» أو «شيخ المرسلين»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الرازي ، بشيء من التصرف.

٣٧٣

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) )

التّفسير

المنحرفون جنسيا :

بعد بيان جانب ممّا جرى لإبراهيمعليه‌السلام يتحدث القرآن عن قسم من قصّة حياة النّبي المعاصر لإبراهيم «لوط»عليه‌السلام فيقول :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) .(١)

«الفاحشة» كما بيناها من قبل ، مشتقّة من مادة «فحش» وهي في الأصل تعني كل فعل أو كلام سيء للغاية ، والمراد بها هنا الانحراف الجنسي. (اللواط).

ويستفاد من جملة( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) بصورة جليّة أن

__________________

(١) يمكن أن تكون كلمة «لوطا» عطفا على كلمة (نوحا) فتكون بمنزلة المفعول «لأرسلنا» ويمكن أن يكون مفعولا لفعل محذوف تقديره «واذكر لوطا».

٣٧٤

هذا العمل السيء والمخزي لم يسبق له ـ على الأقل بشكل عام وجماعي ـ أن يقع في أية أمة أو قوم كما وقع في قوم لوط.

ذكروا في أحوال قوم لوط أن واحدا من عوامل تلوثهم بهذا الذنب هو أنّهم كانوا قوما بخلاء جدا ، ولمّا كانت مدنهم على قارعة الطريق التي تمرّ بها قوافل الشام ، فقد كانوا يظهرون هذا العمل «الانحراف» لبعض ضيوفهم أو العابرين لينفروهم وكي لا يضيفوهم ، إلّا أنّهم تعودوا على هذا العمل القبيح ، وقويت فيهم رغبة اللواط ، فسقطوا في الوحل المخزي شيئا فشيئا.

على كل حال ، سينؤون بحمل ذنوبهم وذنوب من يعمل عملهم ، دون أن ينقص من ذنوب الآخرين شيء أبدا وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم!.

لأنّهم كانوا مؤسسي هذه السنة المشؤومة ، ونحن نعرف أن من سنّ سنة ما فهو شريك في عمل من يعمل بها أيضا.

لوطعليه‌السلام هذا النّبي العظيم ، كشف أخيرا ما في نفسه وقال لقومه( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ ) أفتريدون أن تقطعوا النسل( وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) (١) .

ولا ترعوون عن الأعمال المخزية في مجالسكم العامة( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) .

«النادي» مشتق من «النداء» وهو يعني المجلس العام ، كما يأتي أحيانا بمعنى مكان التنزّه ، لأنّ الأفراد هناك ينادي بعضهم بعضا وترتفع أصواتهم.

والقرآن لم يبيّن هنا بتفصيل أية منكرات كانوا يأتونها في مجالسهم ونواديهم لكنّها قطعا كانت متناسبة مع عملهم السيء المخزي وكما ورد في

__________________

(١) يرى جماعة من المفسّرين وجوها واحتمالات أخرى لجملة «وتقطعون السبيل» منها ما فسّروه بقطع الطريق على الناس في سفرهم مع الالتفات إلى ماضيهم وتأريخهم المعروف ، لأنّ القوافل تضطر أن تأخذ طريقا غير مطروق من أجل أن تسلم من شرّ هؤلاء ولئلا تبتلي بهم ، كما فسّره بعضهم بسرقة أموال المسافرين في القافلة ولكن التّفسير الأوّل المشار إليه في المتن أنسب للآية كما يبدوا للنظر ، لأنّ واحدا من أسرار تحريم اللواط وفلسفته هو خطر قطع النسل كما صرحت به الرّوايات.

٣٧٥

بعض التواريخ ، فإنّهم كانوا يتسابون بكلمات الفحش والابتذال ، أو يضرب أحدهم الأخر على ظهره. أو يلعبون القمار ، وأو يعبثون كالأطفال وخاصة الترامي بالحجارة الصغيرة فيما بينهم أو على العابرين ، ويستعملون أنواع الآلات الموسيقية ، ويكشفون عوراتهم في مجتمعهم ويغدون عراة إلخ(١) .

في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كما تنقله «أم هاني» أنّه قال مفسرا لمعنى :( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) أنّهم «كانوا يخذفون من يمرّ بهم ويسخرون منه»(٢) أي يرمون من يمرّ بهم بالحجارة ويسخرون منه.

والآن فلنلاحظ ما ذا كان جواب هؤلاء القوم الضالين المنحرفين ، على كلمات النّبي لوطعليه‌السلام المنطقية.

يقول القرآن :( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .

أجل هكذا ، كان جواب هؤلاء المفتونين فاقدي العقل والدراية إذ أجابوا به من منطلق السخرية والاستهزاء إزاء دعوة لوطعليه‌السلام المنطقية والمعقولة.

كما يستفاد جيدا من هذا الجواب أنّ لوطاعليه‌السلام كان قد هدّدهم بعذاب الله ، بالإضافة إلى كلامه البيّن ذي الدليل الواضح في ما لو استمروا بهذا العمل القبيح ، إلّا أنّهم تركوا جميع مواعظه وتمسكوا بتهديده بالعذاب ، فقالوا :( ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ) على سبيل الاستهزاء والسخرية!! كما أشير إلى هذا الموضوع في سورة القمر الآية (٣٦) بقوله تعالى :( وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) .

ويستشف ـ ضمنا ـ من تعبير هؤلاء القوم أنّهم كانوا يريدن أن يستنتجوا من عدم نزول العذاب على كذب لوطعليه‌السلام ، في حين أن رحمة الله هي التي تمهلهم وتعطيهم الفرصة لمراجعة أنفسهم وإعادة النظر!

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٥١٧.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث.

٣٧٦

وهنا لم يكن للوطعليه‌السلام بدّ إلّا أن يلتفت إلى الله بقلب حزين مهموم و( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) .

القوم المنحرفين ، المتمادين في الأرض فسادا ، والذين تركوا تقواهم وأخلاقهم الإنسانية وألقوا العفة والطهارة خلف ظهورهم ، وسحقوا العدل الاجتماعي تحت أقدامهم ، ومزجوا عبادة الأوثان بفساد الأخلاق والظلم ، وهددوا نسل الإنسان بالفناء والزوال ، فيا ربّ انصرني على هؤلاء القوم المفسدين.

* * *

ملاحظة

بلاء الانحراف الجنسي :

الانحراف الجنسي ـ سواء كان في أوساط الرجال «اللواط» أم في أوساط النساء «المساحقة» ـ لهو من أسوأ الانحرافات الأخلاقية ، ومصدر المفاسد الكثيرة في المجتمع.

وأساسا فإنّ طبيعة «كلّ من الرجل والمرأة» مخلوقة بشكل يمنح الهدوء والإشباع الصحيح السالم في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة «عن طريق الزواج المشروع» وأي نوع من الميول الجنسية في غير هذه الصورة هو انحراف عن طبع الإنسان الصحيح ، وهو نوع من الأمراض النفسيّة الذي لو قدّر له أن يستمرّ لاشتد خطره يوما بعد يوم ، وتكون نتيجته البرود الجنسي بالنسبة ما بين الرجل والمرأة ، والإشباع غير الصحيح من «الجنس المماثل» أي «اللواط» أو «السحاق».

ولهذا النوع من العلائق غير المشروعة أثر مدمّر في جهاز البدن ، بل حتى في سلسلة الأعصاب والروح. إذ يسقط الرجل من رجولته والمرأة من أنوثتها!

٣٧٧

بحيث أن أمثال هؤلاء الرجال والنساء المنحرفين جنسيا يبتلون بضعف جنسي شديد ، ولا يستطيعون أن يكونوا آباء وأمهات صالحين لأبنائهم في المستقبل ، وربّما كانوا غير قادرين حتى على الإنجاب بصورة كلية «بسبب هذا الانحراف».

إن المنحرفين جنسيا يغدون بالتدريج منزوين منعزلين عن المجتمع ، ويحسون بالغربة في مجتمعهم وفي أنفسهم أيضا ، كما يبتلون بنفصام الشخصية ، وإذا لم يهتموا بإصلاح أنفسهم ، فمن الممكن أن يبتلوا بأمراض جسمية ونفسية مختلفة.

ولهذا السبب ـ ولأسباب أخلاقية واجتماعية أخرى ـ حرّم الإسلام الانحراف الجنسي تحريما شديدا بأي شكل كان وفي أية صورة ، كما قرر للذي يقوم بهذا العمل عقابا صارما يبلغ أحيانا إلى درجة الإعدام والقتل!.

والموضوع المهم هو أن الانفلات الاخلاقي والتميّع الجنسي والابتذال للعالم المتمدن والحضارة المادية قد جرّت كثيرا من الفتيان والفتيات إلى الانحراف الكبير.

في البداية يرغّبون الفتيان في أن يلبسوا ثياب النساء وأن يظهروا بمظهر خاص ، ويدعون النساء أن يلبسن ثياب الرجال ، وتبدأ من هنا قضية الانحراف الجنسي حتى تصل إلى أقبح الأعمال الوقحة في هذا المجال ، وتأخذ شكلا قانونيا بحيث يعدون هذا الأمر عاديا لا يستحق أي نوع من العقاب أو التبعة ، ولا يسع القلم إلّا أن يستحي ويخجل من وصف ذلك(١) .

* * *

__________________

(١) كان لنا في صدد الانحراف الجنسي بحث مفصل في ذيل الآية (٨١) سورة هود

٣٧٨

الآيات

( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة المنحرفين :

لقد أستجيب دعاء لوط أخيرا ، وصدر الأمر من الله تعالى بالعقاب الصارم والشديد لهؤلاء القوم المنحرفين والمفسدين ، فمرّ الملائكة المأمورون بعذاب قوم لوط بالأرض التي فيها إبراهيمعليه‌السلام لأداء رسالة أخرى قبل أن ينزلوا العقاب بقوم لوط ، وهذه الرسالة التي سبقت العذاب ، هي بشارتهم لإبراهيمعليه‌السلام بالولد : «بشروه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب».

٣٧٩

والآيات المتقدمة تذكر أوّلا قصّة مرورهم بإبراهيمعليه‌السلام فتقول :( وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) .

والتعبير بـ «هذه القرية» يدل على أن مدن قوم لوط كانت قريبة من أرض إبراهيمعليه‌السلام

والتعبير بالظالمين هو لأجل كونهم يظلمون أنفسهم باتخاذهم سبيل الشرك والفساد الأخلاقي وعدم العفة ، وظلمهم الآخرين حتى شمل العابرين والقوافل التي كانت تمرّ على طريقهم.

فلمّا سمع «إبراهيم» هذا النبأ حزن على لوط النّبي العظيم و( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ) .

فما عسى أن تكون عاقبته؟!

إلّا أنّهم أجابوه على الفور ،( قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها ) فلا تحزن عليه ، لأننا لا نحرق «الأخضر واليابس» معا ، وخطتنا دقيقة ومحسوبة تماما ثمّ أضافوا( لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد من هذه الآية جيدا أنّ أسرة واحدة فقط في جميع تلك المدن والقرى كانت مؤمنة وغير مدنّسة ، وقد نجاها الله في ذلك الحين أيضا كما نقرأ مثل ذلك في الآية (٣٦) من سورة الذاريات :( فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ومع ذلك فإنّ امرأة لوط كانت خارجة عن جماعة المؤمنين ، فشملها العذاب.

والتعبير بـ «الغابرين» جمع «غابر» ومعناه المتخلف عن جماعته الماضين في الطريق ، فالمرأة التي كانت في عائلة النبوّة لا ينبغي لها أن تنفصل عن المؤمنين والمسلمين غير أنّ الكفر والشرك وعبادة الأوثان ـ كل ذلك ـ دعاها إلى الانفصال!.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592