الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166421
تحميل: 5277


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166421 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

ويتّضح من هنا أن انحرافها كان من جهة العقيدة ، ولا يبعد أن يكون هذا الانحراف متأثرا بسبب محيطها وكانت في بداية الأمر مؤمنة موحدة ، وبهذا فلن يرد أي إشكال على لوطعليه‌السلام في أنّه لم تزوّج بمثل هذه المرأة؟!

وإذا كان جماعة من المؤمنين الآخرين قد آمنوا بلوط ، فمن المؤكّد أنّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنّسة قبل هذا الحادث ، ما عدا لوطا وأهله ، فإنّه كان عليه أن يبقى إلى آخر ساعة هناك ، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.

هنا ينقدح هذا السؤال : ترى هل كان «إبراهيم» يحتمل أن عذاب الله سيشمل لوطا ، فأظهر تأثره أمام الملائكة ، غير أنّهم طمأنوه بنجاة لوط؟!

والجواب الواضح على هذا السؤال ، وهو أن إبراهيم كان يعرف الحقيقة ، وإنّما سأل ليطمئن قلبه ، نظير هذا السؤال ما كان من هذا النّبي العظيم في شأن المعاد وإحياء الموتى ، إذ جسد له الله ذلك في إحياء أربعة من الطير «ليطمئن قلبه».

إلّا أنّ المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي يعتقد أنّ المراد من سؤال إبراهيم هو أن وجود «لوط» بين هؤلاء القوم سيكون دليلا على رفع العذاب عنهم ويستعين بالآيات (٧٤) ـ (٧٦) من سورة هود على هذا المقصد ، لأنّ هذه الآيات تبيّن : أنّهعليه‌السلام كان يريد بقوله :( إِنَّ فِيها لُوطاً ) أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا وإهلاك أهلها يشمله ، فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشملهم العذاب وهم أهله إلّا امرأته.(١)

لكننا نعتقد أنّ هذا الجواب من الملائكة ـ في صدد نجاة لوط وأهله ـ يدلّ بوضوح أن الكلام في هذه الآيات هو على لوط فحسب ، ولكن آيات سورة هود تتحدث عن موضوع منفصل ، وكما قلنا آنفا فإنّ إبراهيم كان ليطمئن قلبه أكثر

__________________

(١) الميزان ، ج ١٦ ، ص ١٢٤.

٣٨١

«فلاحظوا بدقة».

انتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا ، وتوجهوا إلى ديار لوطعليه‌السلام وقومه ، يقول القرآن في هذا الشأن :( وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) .

وكان كلّ استيائه وعدم ارتياحه بسبب أنّه لم يعرفهم فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة ، ومجيء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث ، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال ، وأن يذهب ماء وجهه أمامهم ، لذلك فكر مليّا : ما عسى أن يكون ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين الوقحين الذين لا حياء لهم قبال هؤلاء الضيوف؟!

«سيء» مشتقّة من «ساء» ومعناه سوء الحال ، و «الذرع» معناه «القلب» «الخلق» ، فعلى هذا يكون معنى( ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) أي ضاق قلبه وانزعج.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه الكلمة في الأصل تعني «الفاصلة بين أطراف البعير أثناء السير» وحيث أنّهم إذا وضعوا على البعير حملا ثقيلا قصّر خطاه وضيّق الفاصلة ، عبروا بجملة «ضاق ذرعا» كناية عن الحادثة الثقيلة «الصعبة» التي لا تطاق!

إلّا أنّ الضيوف حين أدركوا عدم ارتياحه كشفوا عن «هويّتهم» وعرفوا أنفسهم ورفعوا عنه الحزن :( وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد بالطبع من الآيات التي في سورة هود أن أولئك القوم الأراذل ، حين عرفوا بوجود الضيوف عند لوطعليه‌السلام أسرعوا إليه ، وكان في نيّتهم أن يعتدوا عليهم ، وحيث أن لوطا كان لا يزال غير عارف بحقيقة الملائكة فقد كان متأثرا جدّا ، وكان تارة ينصحهم واخرى يهدّدهم ومرّة يقول لهم :( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) فيحرك ضمائرهم وتارة يقترح عليهم الزواج من بناته ، وأراد أن يمنعهم

٣٨٢

من الوصول إلى أضيافه ، لكن هؤلاء المنحرفين الذين لا حياء لهم لم يقتنعوا بأي شيء ولم يفكروا إلّا بهدفهم المخزي.

ولكن رسل الله عرفوا أنفسهم للوطعليه‌السلام ، وأعموا أبصار هؤلاء القوم الذين أرادوا الهجوم على الملائكة واثلجوا قلب ذلك النّبي العظيمعليه‌السلام .(١)

وما ينبغي الالتفات إليه أن رسل الله قالوا للوط :( لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ) فما الفرق بين كلمتي «الخوف» و «الحزن»؟

ورد في تفسير الميزان أن الخوف يقع على الحوادث غير المستساغة احتمالا أمّا الحزن فيقع في الموارد القطعية.

وقال بعضهم : الخوف يطلق على الحوادث المستقبلية ، أمّا الحزن فعلى ما مضى! كما يرد هذا الاحتمال وهو أن الخوف في المسائل الخطرة ، أمّا الحزن فهو في المسائل الموجعة ، وإن لم يكن فيها أي خطر!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّه طبقا لآيات سورة هود فإنّ لوط وخوفه لم يكن على نفسه ، بل كان يخشى أن يضايقوا «ضيفه»(٢) غير أن جواب الملائكة يتعلق بنجاة لوط وأهله ، وهذان الأمران غير منسجمين.

والجواب على هذا السؤال يستفاد إجمالا من الآية (٨١) من سورة هود ، لأنّ القوم المنحرفين حين مدّوا أيديهم إلى الضيوف قال الملائكة :( يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) أي مسألتنا سهلة ولن يصل إليك سوء وأذى منهم أيضا ، فعلى هذا كان الملائكة يرون النجاة بالنسبة لهم من المسلّم بها ، وإنّما ركزوا على البشارة للوط وأهله فحسب.

وبعد هذا ، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين

__________________

(١) ذكرنا تفصيل هذا الحادث في ذيل الآيات ٧٧ ـ ٨١ من سورة هود فلا بأس بمراجعتها.

(٢) «الضيف» يطلق على المفرد والجمع ، وجمعه : ضيوف وأضياف. (المصحح).

٣٨٣

أكثر ، أضافوا :( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

والمراد بالقرية هي «سدوم» وما جاورها من القرى والمدن التي كان يسكنها قوم لوط ، وقد أوصل بعضهم عدد هؤلاء إلى سبعمائة ألف نفر(١) .

والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب ، ومعناه الأصلي الاضطراب ، ثمّ عبروا عن كل شيء يوجب الاضطراب بالرجز ، ولذلك استعمل العرب كلمة الرجز في كثير من المعاني كالبلايا الشديدة ، والطاعون أو البرد ، والأصنام ، ووساوس الشيطان ، والعذاب الإلهي إلخ.

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) هي سبب عقابهم الشديد ، لأنّهم لم يطيعوا الله ، والتعبير بالفعل المضارع «يفسقون» دليل على استمرارهم ودوامهم على العمل القبيح!.

وهذا التعبير يبيّن هذه الحقيقة ، وهي لو أن أولئك لم يستمروا على الذنب ، وكانوا يتوبون ويعودون إلى طريق الحق والتقوى ، لم يبتلوا بمثل هذا العذاب وكانت ذنوبهم الماضية مغفورة.

وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم ، سوى أنّه قال :( وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

إلّا أنّ في سورة هود الآية (٨٢) منها ، وكذلك سورة الأعراف الآية ٨٤ منها ، تفصيلا في بيان العذاب ، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها ، ثمّ أمطرت عليها حجارة من السماء بحيث توارت بيوتهم وقراهم وأجسادهم تحتها!.

والتعبير بـ «الآية البينة» أي العلامة الواضحة ، هو إشارة إلى الآثار الباقية من مدينة «سدوم» التي كانت في طريق قوافل أهل الحجاز طبقا «لآيات القرآن»

__________________

(١) روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٦٧.

٣٨٤

وكانت باقية حتى ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . كما نقرأ في الآية (٧٦) من سورة الحجر( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) ، وكما نقرأ في سورة الصافات الآيتين (١٣٧) و (١٣٨) :( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

* * *

٣٨٥

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) )

التّفسير

تنوع العذاب للظالمين :

بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود ، وقارون وفرعون ، وقد أشير في هذه الآيات ـ محل البحث ـ إلى كلّ

٣٨٦

منهم إشارة موجزة «مكثفة» للاستنتاج والعبرة!

في البداية تقول الآية :( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) (١) .

والتعبير بكلمة «أخاهم» كما قلنا مرارا ، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الأنبياء إلى أممهم ، وإلى عدم طلبهم السلطة ، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضا.

و «مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن ، وتدعى اليوم بـ «معان» وهي في شرق خليج العقبة ، وكان شعيبعليه‌السلام وقومه يقطنون فيها(٢) .

وشعيب كسائر أنبياء الله العظام ، بدأ بالدعوة الى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ، وهما أساس كل دين وطريقة( فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ) .

فالإيمان بالمبدأ يكون سببا لإحساس الإنسان بأن الله يراقبه مراقبة دقيقة بشكل دائم ويسجّل أعماله ؛ والإيمان بالمعاد يذكر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شيء وكل عمل مهما كان تافها ومن المسلم أنّ الإعتقاد بهذين الأصلين له أثره البالغ على تربية الإنسان وإصلاحه!.

والمبدأ الثّالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة ، تحمل بين طياتها جميع الخطط الاجتماعية ، إذ قال :( وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف ، وتدمير ، وظلم إلخ ويقابله الصلاح والإصلاح ، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة!.

أمّا كلمة «تعثوا» فهي من مادة «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد ، غاية ما في الأمر أن هذا التعبير كثيرا ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها «مفاسد أخلاقية» ، فعلى هذا يكون ذكر كلمة «مفسدين» بعدها تأكيدا على هذا

__________________

(١) هذه الجملة معطوفة على جملة «ولقد أرسلنا نوحا».

(٢) ورد الكلام على مدين في ذيل الآية (٢٣) من سورة القصص في هذا الجزء بإسهاب.

٣٨٧

المفهوم.

إلّا أنّ تلك الجماعة بدلا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب ، خالفته ولم تصغ إليه «فكذبوه».

وكان هذا التكذيب سببا في أن تصيبهم زلزلة شديدة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

و «الجاثم» مشتق من «جثم» على زنة «سهم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب ، إلّا أنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا(١) .

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن «عاد» و «ثمود» قومي (هود وصالح) ، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما ، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون ، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن ، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان ، فلذلك ، تقول الآية :( وَعاداً وَثَمُودَ ) (٢) .

ثمّ تضيف الآية( وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ) المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

فأنتم في كل سنة تمرون في أسفاركم للتجارة بأرض «الحجر» التي تقع شمال جزيرة العرب ، وبالأحقاف التي تقع قريبا من اليمن وجنوبها ، وترون آثار المساكن المتهدمة وبقاياها من عاد وثمود ، فعلام لا تعتبرون؟!

ثمّ تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم ، إذ تقول :( وَزَيَّنَ

__________________

(١) بيان هذه الحادثة المؤلمة فصلناه في تفسير «سورة هود» ذيل الآيات في شرح قصة «شعيب وقومه».

(٢) «وعادا وثمودا» مفعولان لفعل مقدر وهو «أهلكنا» وهو يستفاد من الآية السابقة. وقال بعضهم : فعلهما المحذوف تقديره «اذكر».

٣٨٨

لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) .

وكانت فطرتهم على فطرة الله وتقواه ، ولم يأل الأنبياء جهدا في هدايتهم ، وبذلوا قدرا كافيا من النصح والإرشاد لهم ، لكنّهم حادوا( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ جملة( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) تعني أنّهم كانوا ذوي أعين بصيرة ، وعقل كاف.

وقال بعضهم : إنها تعني أنّهم كانوا على الفطرة السليمة.

كما قال آخرون : إنّها تعني هداية الأنبياء لهم.

ولا يمنع اجتماع جميع هذه المعاني في الآية الكريمة ، فهي إشارة إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين قاصرين ، بل كانوا يعرفون الحق جيدا من قبل ، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي ، وأتمّ الأنبياء عليهم الحجّة البالغة ، ولكن

مع كل ما تقدم من نداء العقل والضمير ، ودعوة الأنبياء ، فقد انحرفوا عن السبيل ووسوس لهم الشيطان ، ويوما بعد يوم يرون أعمالهم القبيحة حسنة ، وبلغوا مرحلة لا سبيل لهم إلى الرجوع منها ، فأحرق قانون الخلق والإيجاد هذه العيدان اليابسة وهي جديرة بذلك! والآية الأخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزا للقدرة الشيطانية ، فتقول :( وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ ) (١) .

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الاستكبارية المقرونة بالشيطنة.

وأمّا هامان ، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين!.

ثمّ يضيف القرآن( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ) والدلائل( فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ) فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه ، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرة العسكرية ، وعلى قوة إعلامهم وتضليلهم لطبقات

__________________

(١) هذه الكلمات الثلاث مفاعيل للفعل المقدر «أهلكنا» أو كما قال البعض : هي مفاعيل لفعل تقديره «اذكر»!

٣٨٩

الناس المغفّلين الجهلة.

لكن برغم كل ذلك لم يفلحوا( وَما كانُوا سابِقِينَ ) .

فأمر الله الأرض التي هي مهد الاطمئنان والدعة بابتلاع قارون.

وأمر الماء الذي هو مصدر الحياة بابتلاع فرعون وهامان.

وعبأ جنود السماوات والأرض لإهلاكهم جميعا ، بل ما كان مصدر حياتهم أمر الله أن يكون هو نفسه سببا لفنائهم(١) .

كلمة «سابقين» تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين ، فمفهوم قوله تعالى :

( وَما كانُوا سابِقِينَ ) أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان الله برغم ما كان عندهم من إمكانات ، بل أهلكهم الله في اللحظة التي أراد ، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) .

وحيث أنّ القرآن ذكر «الطوائف الأربع» في الآيتين المتقدمتين ، ولم يبيّن عذابهم ، وهم :

١ ـ قوم هود «عاد».

٢ ـ وثمود «قوم صالح».

٣ ـ قارون.

٤ ـ فرعون وهامان.

فإنه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم. فيقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ) .

و «الحاصب» معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه ، و «الحصباء» «الحصى الصغيرة».

__________________

(١) شرح قصّة حياة قارون في الآيات السبع ٧٦ ـ ٨٢ سورة القصص ، وهلاك فرعون وجماعته في تفسير سورة القصص ، كما ورد في سورة الأعراف أيضا.

٣٩٠

والمقصود بـ «منهم» هنا هم «عاد» قوم هود ، وحسب ما جاء في بعض السور كالذاريات والحاقة والقمر ، أصابهم اعصار شديد مهلك خلال ثمانية أيّام وسبع ليال فدمرهم تدميرا.

يقول القرآن :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) «الحاقة».

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) وقلنا : إن الصيحة السماوية التي هي نتيجة الصاعقة التي تقترن مع الزلزلة في زمان الوقوع ، وهذا هو العذاب الذي عذب الله به ثمود «قوم هود» كما عذب آخرين ويقول القرآن في الآية (٦٧) من سورة هود في شأن ثمود( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ) . وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل ، وقد أشير إليه في الآية (٨١) من سورة القصص.

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ) ونعرف أنّ هذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما ، وقد ذكرت هذه القصّة في سور متعددة من القرآن الكريم.

وعلى كل حال ، فمع الالتفات لهذا البيان فإن أنواع العذاب الأربعة ذكرت هنا للطوائف الأربع المذكورين في الآيتين المتقدمتين. حيث اشارتا إلى ضلالهم وانحرافهم وذنوبهم دون أن تذكرا عقابهم.

ولكن من البعيد أن تشمل هذه الأنواع الأربعة من العذاب الواردة في هذه الآية أقواما آخرين ، كما يقول بعض المفسّرين. «كالغرق لقوم نوح ، وإمطار الحجارة والحصباء على قوم لوط» لأنّ عقابهم مذكور هناك وفي موارد ذكرهم ولا حاجة للتكرار هنا ، وأمّا عقاب الفئات الأربع فلم يذكر في هذه السلسلة من الآيات ، ولذا بينه الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم ، وهم زرعوا فحصدوا( وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

٣٩١

يَظْلِمُونَ ) .

أجل ، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم ، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم. فالله أكثر عدلا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم!.

وهذه الآية ـ كسائر كثير من آيات القرآن ـ تثبت أصل الحرية في الإرادة والإختيار عند الإنسان ، وتقرر أن التصميم في كل مكان يصدر من الإنسان نفسه. وقد خلقه الله حرّا ويريده حرّا فعلى هذا يبطل اعتقاد أتباع مذهب «الجبر» الذين لهم وجود بين المسلمين ـ مع الأسف ـ بهذا المنطق القوي للقرآن الكريم.

* * *

٣٩٢

الآيات

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) )

التّفسير

دعامة واهية كبيت العنكبوت :

بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم وبهذه المناسبة ، ففي الآيات التي بين أيدينا ، يبيّن القرآن الكريم مثالا بليغا ومؤثرا يعبدون غير الله ويتخذون من دونه أولياء! وكلما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّا انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة ، يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

كم هو بديع هذا المثال وطريف ، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!.

٣٩٣

تأمّلوا بدقّة إنّ كل حيوان ـ وكل حشرة ـ له بيت أو وكر وما أشبه ذلك ، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت! فكل بيت ـ عادة ـ يحتوي على سقف وباب وجدار ، وهو يحفظ صاحبه من الحوادث ، ويكون مكانا أمينا لإيداع الأطعمة والأشياء الأخرى وحفظها فبعض البيوت لا سقف لها إلّا أنّها على الأقل لها جدار ، كما أنّ هناك بيوتا لا جدار لها إلّا أن لها سقفا.

لكن بيت العنكبوت المنسوج من خيوط دقيقة واهية ، ليس له سقف ولا جدار ولا ساحة ولا باحة ولا باب ، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ مواد بنائه واهية جدّا وسرعان ما تتلاشى إزاء أية حادثة بسيطة ، فهي لا تقدر على المقاومة.

فلو هبّ نسيم عليل لتمزق هذا النسيج.

ولو سقطت عليه قطرات المطر لتلاشى وتلف.

ولو لامسته شعلة خفيفة لاحرقته.

وحتى لو تراكم عليه الغبار لتركه أشلاء ممزقة معلقة.

فآلهة هؤلاء الجماعة ومعبوداتهم «الكاذبة» كمثل هذا البيت لا تنفع ولا تضر ولا تحلّ مشكلة ، ولا تكون ملجأ لأحد في المحنة والشدّة!.

صحيح إن هذا البيت للعنكبوت ـ مع ما لها من أرجل طويلة ـ هو محل استراحتها ، وشرك لاصطياد الحشرات والحصول على الغذاء إلّا أن هذا البيت ـ بالقياس إلى البيوت الأخرى للحيوانات والحشرات ـ في منتهى الوهن والانهيار!.

فمن يعتمد على غير الله ويتخذ من دونه وليا ، فقد اعتمد على بيت العنكبوت!!.

والذين اختاروا سوى الله ، اعتمدوا على بيوت العناكب ، كعرش فرعون وتاجه ، والأموال المتراكمة عند قارون ، وقصور الملوك وخزائنهم ، جميع هذه

٣٩٤

الأمور المذكورة كمثل بيت العنكبوت!.

فهي لا تدوم ، ولا يمكن الاعتماد عليها ، ولا أساس لها حتى تكون راسخة أمام طوفان الحوادث.

والتاريخ يدل على أنّه لا يمكن الاعتماد على أيّ من هذه الأمور حقّا.

أمّا الذين اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه ، فقد اعتمدوا على سدّ حصين منيع.

والجدير بالذكر ، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل ، هو نفسه من عجائب الخلق ، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر. ، فخيوط العنكبوت «مصنوعة» ومنسوجة من مائع لزج ، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت ، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جهد وتصلّب.

والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.

يقال : إن كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّا ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!.

وقال بعضهم : إنّ الوهن في هذه الخيوط منشؤه دقتها القصوى ، ولولا هذه الدقة فإنها أقوى من الفولاذ «لو قدر أن تفتل بحجم الخيط الفولاذي».

العجيب أنّ هذه الخيط تنسج أحيانا من أربع جدائل كل جديلة هي أيضا منسوجة أو مصنوعة من ألف جديلة! وكل جديلة تخرج من ثقب صغير جدّا في بدن العنكبوت ، ففكروا الآن في هذه الخيوط التي تتكون منها هذه الجديلة كم هي ناعمة ودقيقة وظريفة؟!

وإضافة إلى العجائب الكامنة في بناء بيت العنكبوت ونسجه ، فإنّ شكل بنائه وهندسته طريف أيضا ، فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظرا طريفا مثل الشمس وأشعتها مستقرة على قواعد هذا «البناء النسيجي» ، وبالطبع فإن هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف ، ولكنّه في المجموع لا يمكن تصور بيت

٣٩٥

أوهن منه ، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم ، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان!!.

ومع الالتفات إلى أن العناكب ليست نوعا واحدا ، بل ـ كما يدعي بعض العلماء ـ عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع ، وكل نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.

التعبير بـ «الأولياء» جمع ولي مكان التعبير بالأصنام ، ربّما كان إشارة ضمنية إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّه ليس الحكم مختصا بالأصنام والآلهة المزعومة ، بل حتى الأئمة والقادة الارضيين مشمولون بهذا الحكم أيضا.

وجملة( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) تتعلق بالأصنام والمعبودين من دون الله ولا ترتبط بوهن بيت العنكبوت لأنّ وهن بيت العنكبوت معلوم عند الجميع ، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة كالتالي : لو كانوا يعلمون وهن المعبودين من دون الله وما ركنوا إليه من دونه واختاروه ، لعلموا أنّهم في الوهن والضعف كما هي الحال في بيت العنكبوت من الوهن!.

أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة إذ تقول :( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ! ) ولا يخفى على الله شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) على الإطلاق!

وإذا أمهلهم ، فليس بسبب العجز والضعف ، أو عدم العلم ، أو أن قدرته محدودة ، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة لله عليهم ، فيهتدي من هو جدير بالهدى!.

قال بعض المفسّرين : إن هذه الجملة إشارة إلى حجج المشركين وإلى ادّعائهم أنّهم في عبادتهم للأصنام لا يريدون بها الأصنام ذاتها ، بل إنّ الأصنام عندهم مطهر ورمز للنجوم السماوية والأنبياء والملائكة ، فهم ـ كما يزعمون ـ يسجدون لأولئك لا للأصنام وخيرهم وشرهم ونفعهم وضررهم بيدها أيضا.

٣٩٦

فالقرآن يبيّن أن الله يعلم الأشياء التي تدعونها ـ كائنا من كان ، وأي شيء كان ـ فكل أولئك المعبودين إزاء قدرته كمثل بيت العنكبوت ، ولا يملكون لأنفسهم شيئا كي يعطوه لكم. ،

والآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الأمثلة التي ضربها الله ، وكانوا يقولون : الله الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟

فيردّ القرآن بقوله :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .

إنّ أهميّة المثال وظرافته لا تكمن في كبره وصغره ، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود ، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته.

قالوا في ضرب الأمثال : ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت ، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات ، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها ، ولذا قيل : إنّه لا يعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلّا العلماء!.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يضيف القرآن الكريم :( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) . ليس في عمل الله باطل أو عبث فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة. وإذا ما اختار موجودا صغيرا للتمثيل به فهو لبيان الحقّ ، وإلّا فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسيّة وغيرها.

ومن الطريف ـ هنا ـ أن نهاية هذه الآيات تنتهي بالعلم والإيمان ، ففي مكان يقول القرآن :( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) وفي مكان آخر يقول :( وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) وفي الآية التي نحن في صددها يقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

٣٩٧

وهي إشارة إلى أن وجه الحق مشرق جلي دائما ولكنّه يثمر في الموارد المستعدة في قلب مطّلع باحث ، وعقل يقظ مذعن للحق وإذا كان هؤلاء الذين عميت قلوبهم لا يرون جمال الحق ، فليس ذلك لخفائه ، بل لعماهم! وضلالهم!.

* * *

٣٩٨

الآية

( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) )

التّفسير

إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر :

بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الأمم السابقة وأنبيائهم العظام وما عاملهم به قومهم من معاملة سيئة مذمومة ، وبيان نهاية هؤلاء الظالمين الاليمة ، يتوجه الخطاب ـ على سبيل تسلية الخاطر ، وتقوية الروحية ، وإراءة الخط الكلّي أو الخطوط العامة ـ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل.

فيبدأ أوّلا بقوله :( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) أي اقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح ، ومعيار معرفة الحق من الباطل ، وسبل تنوير القلب والروح ، ومسير حركة كل طائفة ، أو مجموعة واتجاهها!.

اقرأ وامض على نهجها في حياتك ، اقرأها واستلهم منها اقرأها ونوّر قلبك بتلاوتها.

وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل ـ في الحقيقة ـ طابعا تعليميا ، يأتي الأمر

٣٩٩

الثّاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ )

ثمّ يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول :( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) .

طبيعة الصلاة ـ حيث أنّها تذكر بأقوى رادع للنفس ، وهو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر ، فالإنسان الذي يقف للصلاة ، ويكبّر ، يرى الله أعلى من كل شيء وأسمى من كل شيء ، ويتذكر نعمه فيحمده ويشكره ، ويثني عليه وينعته بأنّه رحمان رحيم ، ويذكر يوم الجزاء «يوم الدين» ويعترف بالعبودية له ، ويطلب منه العون ، ويستهديه الصراط المستقيم ، ويتعوذ به من طريق المغضوب عليهم ، ويلتجئ إليه (مضمون سورة الحمد).

فلا شك أنّ قلب مثل هذا الإنسان وروحه سوف تدبّ فيها حركة نحو الحقّ ، واندفاع نحو الطهارة ، ونهوض نحو التقوى.

يركع لله ويضع جبهته على الأرض ساجدا لحضرته ، ويغرق في عظمته ، وينسى أنانيته وذاتيّاته جميعا.

ويشهد بوحدانيته وبرسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويصلي ويسلم على نبيّه ، ويرفع يديه متضرعا بالدعاء ليجعله في زمرة عباده الصالحين.

جميع هذه الأمور تمنح وجوده موجا من المعنوية ، وتكون سدا منيعا بوجه الذنوب.

ويتكرر هذا العمل عدة مرّات «ليل نهار» فحين ينهض صباحا يقف بين يدي ربّه وخالقه ليناجيه

__________________

(١) بيّنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (٩٠) من سورة النحل في عبارة موجزة ، وقلنا : إنّه يمكن التفريق بينهما بأن الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية ، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة ، أو أن الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية ، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

٤٠٠