الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180589 / تحميل: 6344
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

رابعاً : المهديعليه‌السلام من ولد فاطمةعليها‌السلام .

خامساً : المهديعليه‌السلام من ولد الحسينعليه‌السلام .

ولكلّ واحد من هذه النقاط : كونه من هذه الاُمّة ، كونه من بني هاشم ، كونه من عترة النبي ، كونه من ولد فاطمة ، كونه من ولد الحسين ، لكلّ بند من هذه البنود ، روايات خاصة ، ولم نتعرض لها لغرض الإختصار.

فانتهينا إذن من الفصل الأول.

٢١

٢٢

الفصل الثاني

هناك بحوث تدور حول روايات في كتب السنّة تخالف هذا الذي انتهينا إليه ، ولربّما اتّخذ بعض العلماء من أهل السنّة ما دلَّت عليه تلك الروايات عقيدةً لهم ، ودافعوا عن تلك العقيدة ، إلاّ أنّنا في بحوثنا حقّقنا أنّ تلك الروايات المخالفة لهذا العقيدة ، إمّا ضعيفة سنداً ، وإمّا فيها تحريف ، والتحريف تارةً يكون عمداً ، وتارة يكون سهواً ، وتلك البحوث هي :

أوّلاً : الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم في أنّ « المهدي هو عيسى ابن مريم »(١) ، فليس من هذه الاُمّة ، وإنّما المهدي هو عيسى بن مريم ، فالمهدي الذي أخبر به رسول الله في تلك الروايات الكثيرة المتواترة التي دوّنها العلماء في كتبهم ، وأصبحت روايات موضع وفاق بين المسلمين ، وأصبحت من ضمن عقائد المسلمين ، المراد من المهدي في جميع تلك الروايات هو عيسى بن مريم.

وهذه رواية واحدة فقط موجودة في بعض كتب أهل السنّة.

وثانياً : الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم من أنّ « المهدي من ولد

__________________

(١) المنار المنيف لابن قيم الجوزية : ١٤٨ ، كنز العمال ١٤ / ٢٦٣ ح ٣٨٦٥٦.

٢٣

العباس »(١) ، فليس من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذا أيضاً خبر واحد ، وكأنّه وضع في زمن بني العباس لصالح حكّام بني العباس.

وثالثاً : الخبر الواحد الذي في كتبهم من أنّه « من ولد الحسن »(٢) ، لا من ولد الحسين.

و هذا ايضا خبر واحد.

ورابعاً : الخبر الواحد الذي في بعض كتبهم من أنّ « اسم أبي المهدي اسم أبي النبي »(٣) ، وأبو النبي اسمه عبدالله ، فلا ينطبق على المهدي ابن الحسن العسكري سلام الله عليهم ، فتكون رواية مخالفة لما ذكرناه واستنتجناه من الأدلة.

وخامساً : ما عزاه ابن تيميّة إلى الطبري وابن قانع من « أنّ الحسن العسكري قد مات بلا عقب » وإذا كان الحسن العسكري قد مات بلا عقب ، فليس المهدي ابن الحسن العسكري.

فهذه بحوثٌ لابدّ من التعرّض لها وإثبات ضعف هذه الأحاديث المخالفة ، أو إثبات أنّها روايات محرّفة.

أمّا ما نسبه ابن تيميّة إلى الطبري صاحب التاريخ ، وإلى ابن قانع ، فهو كذب ، وقد حققته بالتفصيل في بعض مؤلفاتي.

وأمّا بالنسبة إلى البحوث الاُخرى ، فلو أردنا الدخول في تحقيقها

__________________

(١) المصدر نفسه : ١٤٩ ، كنز العمال : ١٤ / ٢٦٤ ح ٣٨٦٦٣.

(٢) المنار المنيف لابن قيّم الجوزية : ١٥١.

(٣) كنز العمال ١٤ / ٢٦٨ ح ٣٨٦٧٨.

٢٤

لاحتجنا إلى وقت إضافي ، فإن شاء الله تعالى بعد أن أُكمل البحث في هذه الليلة في الفصل الثالث ، إن بقي من الوقت شيء ، ندخل في هذه البحوث ، وحينئذ نصل إلى الفصل الثالث.

٢٥

٢٦

الفصل الثالث

عنوانه سؤالات ؟

السؤال الأول : مسألة طول العمر ؟

السؤال الثاني : لماذا هذه الغيبة ؟

السؤال الثالث : ما الفائدة من إمام غائب ؟

السؤال الرابع : أين يعيش المهدي ؟

السؤال الخامس : متى يظهر ؟

السؤال السادس : ما هو تكليف المؤمنين تجاهه وتجاه الأحكام الشرعية في زمن الغيبة ؟

السؤال السابع : ما هي الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره ؟

السؤال الثامن : مسألة الرجعة ؟

وقد تكون هناك أسئلة أُخرى.

ولابدّ من الاجابة على هذه الأسئلة ولو بنحو الإجمال ، لئلاّ يبقى البحث ناقصاً.

أقرأ لكم عبارة السعد التفتازاني أوّلاً ، وندخل في البحث ونشرع في الجواب عن هذه الأسئلة ولو بنحو الإجمال كما ذكرت.

٢٧

يقول السعد التفتازاني(١) : زعمت الامامية من الشيعة أنّ محمّد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفاً من الأعداء ، ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضرعليه‌السلام ـ هذا رأي الشيعة ـ وأنكر ذلك سائر الفرق ، لأنّه ادّعاء أمر مستبعد جدّاً ، ولأنّ اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلاّ الإسم بعيد جدّاً ، ولأنّ بعثه مع هذا الاختفاء عبث ، ولو سلّم فكان ينبغي أنْ يكون ظاهراً ، فما قيل أو فما يقال : إنّ عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له ، فلا ينبغي أنْ يعوّل عليه.

هذا غاية ما توصّل إليه متكلّمهم سعد الدين التفتازاني.

أقول : إن تطرح هذه الأسئلة كبحوث علمية ومناقشات ، فلا مانع ، ويا حبّذا لو تطرح كذلك ويلتزم فيها بالآداب والاخلاق والمتانة ، ولا يكون هناك شتم وسبّ وتهجّم وتهريج واستهزاء ، وهكذا فعل بعض العلماء وبعض الكتّاب المعاصرين.

إلاّ أنّنا إذا راجعنا ( منهاج السنّة ) وجدناه في فصل البحث عن المهدي قد ملأ كتابه حقداً وبغضاً وعناداً وسبّاً وشتماً وتهريجاً وتكذيباً للحقائق !!! بحيث لو أنّكم أخرجتم من كتاب منهاج السنّة ما يتعلّق بالمهدي وما اشتمل عليه من السب والشتم لجاء كتاباً مستقلاً.

وقد تبعه أولياؤه في هذا المنهج من كتّاب زماننا وفي خصوص المهدي سلام الله عليه واعتقاد الشيعة في المهدي ، تراهم يتهجّمون ويسبّون وينسبون إلينا الأكاذيب ، ويخرجون عن حدود الآداب ، ومع الأسف يكون لكتبهم قرّاء ومن يروّج لها في بعض الأوساط.

__________________

(١) شرح المقاصد ٥ / ٣١٣.

٢٨

والحقيقة ، إنّه تارةً يشك الباحث في أحاديث المهدي ، أو يُناقش في أحاديث « الأئمّة الإثنا عشر » ، أو لا يرتضي حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه » ، فهذا له وجه ، بمعنى أنّه يقول : بأنّي لا أُوافق على صحّة هذه الأحاديث ، فيبقى على رأيه ، ولا يتكلّم معه إن لم يقتنع بما في الكتب ، لاسيّما بروايات أبناء مذهبه.

وأمّا بناء على أنّ هذه الأحاديث مخرّجة في الصحاح ، وفي السنن ، والمسانيد ، والكتب المعتبرة ، وأنّها أحاديث متّفق عليها بين المسلمين ، وأنّ الإعتقاد بالمهديعليه‌السلام أو الإعتقاد بالإمام في كلّ زمان واجب ، وأنّ المهدي هو الثاني عشر في الحديث المعروف المتفق عليه ، فيكون البحث بنحو آخر ، لأنّه إنْ كان الباحث موافقاً على هذه الأحاديث ، وعلى ما ورد من أنّ المهدي ابن الحسن العسكري ، فلا محالة يكون معتقداً بولادة المهديعليه‌السلام ، كما اعتقدوا ، وذكرنا أسماء كثيرين منهم.

نعم منهم من يستبعد طول العمر ، بأنْ يبقى الإنسان هذه المدة في هذا العالم ، وهذا مستبعد كما عبّر السعد التفتازاني ، فإن التفتازاني لم يكذّب ولادة المهدي من الحسن العسكري سلام الله عليه ، وإنّما استبعد أن يكون الإمام باقياً هذه المدة من الزمان ، ولذا نرى بعضهم يعترف بولادة الإمامعليه‌السلام ثمّ يقول : « مات » ، يعترف بولادته بمقتضى الأدلة الموجودة ، لكنّه يقول بموته ، لعدم تعقّله بقاء الإنسان في هذا العالم هذا المقدار من العمر ، لكن هذا يتنافى مع « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » حيث قرّرنا أنّ هذا الحديث يدلّ على وجود إمام في كلّ زمان.

ولذا نرى البعض الاخر منهم يلتفت إلى هذه النواحي ، فلا يقول مات ،

٢٩

بل يقول : « لا ندري ما صار » ، ولد ، إلاّ أنّه لا ندري ما صار ، ما وقع عليه ، لا يعترف ببقائه ، لأنّه يستبعد البقاء هذه المدة ، ولا ينفي البقاء لأنّه يتنافى مع الأحاديث ، يعترف بالولادة فيقول : لا ندري ما صار ، وأين صار ، وما وقع عليه ، ممّا يظهر أنّهم ملتزمون بهذه الأحاديث ، ومن التزم بهذه الأحاديث لابدّ وأن يلتزم بولادة المهديعليه‌السلام ووجوده.

ثمّ الإستبعاد دائماً وفي كلّ شيء ، وفي كلّ أمر من الاُمور ، الإستبعاد يزول إنْ حدث له نظير ، لو أنّك تيقّنت عدم شيء أو عدم إمكان شيء ، فوقع فرد واحد ومصداق واحد لذلك الشيء ، ذلك الإعتقاد بالعدم الذي كنت تجزم به مائة بالمائة سيكون تسعين بالمائة ، لوقوع فرد واحد ، فإذا وقع فرد آخر ، وإذا وقع فرد ثالث ، ومصداق رابع ، هذا الإعتقاد الذي كان مائة بالمائة ثمّ أصبح تسعين بالمائة ، ينزل على ثمانين ، وسبعين ، و ، و ، إلى خمسين وتحت الخمسين ، فحينئذ ، نقول للسعد التفتازاني :

إنّ الله سبحانه وتعالى أمكنه أنْ يعمّر نوحاً هذا العمر ، أمكنه أن يبقي خضراً في هذا العالم هذه المدة ، أمكنه سبحانه وتعالى أنْ يبقي عيسى في العالم الاخر هذه المدّة ، الذي هو من ضروريات عقائد المسلمين ، ومن يمكنه أنْ ينكر وجود عيسى ؟! وأيضاً : في رواياتهم هم يثبتون وجود الدجال الآن ، يقولون بوجوده منذ ذلك الزمان ، فإذا تعدّدت الأفراد ، وتعدّدت المصاديق ، وتعدّدت الشواهد ، يقلّ الإستبعاد يوماً فيوماً ، وهذه الإكتشافات والإختراعات التي ترونها يوماً فيوماً تبدل المستحيلات إلى ممكنات ، فحينئذ ليس لسعد التفتازاني وغيره إلاّ الإستبعاد ، وقد ذكرنا أنّ الإستبعاد يزول شيئاً فشيئاً.

٣٠

يمثّل بعض علمائنا ويقول : لو أنّ أحداً ادّعى تمكّنه من المشي على الماء ، يكذّبه الحاضرون ، وكلّ من يسمع هذه الدعوى يقول : هذا غير ممكن ، فإذا مشى على الماء وعبر النهر مرّةً يزول الاستغراب أو الإستبعاد من السامعين بمقدار هذه المرّة ، فإذا كرّر هذا الفعل وكرّره وكرّره أصبح هذا الفعل أمراً طبيعياً وسهل القبول للجميع ، حينئذ هذا الإستبعاد يزول بوجود نظائر ذلك.

إلاّ أنّ ابن تيميّة ملتفت إلى هذه الناحية ، فيكذّب أصل حياة الخضر ويقول : بأنّ أكثر العلماء يقولون بأنّ الخضر قد مات ، فيضطرّ إلى هذه الدعوى ، لأن هذه النظائر إذا ارتفعت رجع الإستبعاد مرة أُخرى.

لكنّك إذا رجعت مثلاً إلى الإصابة لابن حجر العسقلاني(١) لرأيته يذكر الخضر من جملة الصحابة ، ولو رجعت إلى كتاب تهذيب الأسماء واللغات للحافظ النووي(٢) الذي هو من علماء القرن السادس أو السابع يصرّح بأنّ جمهور العلماء على أنّ الخضر حي ، فكان الخضر حيّاً إلى زمن النووي ، وإذا نزلت شيئاً فشيئاً تصل إلى مثل القاري في المرقاة(٣) وتصل إلى مثل شارح المواهب اللدنيّة ، هناك يصرّحون كلّهم ببقاء الخضر إلى زمانهم ، وحتّى أنّهم ينقلون قصصاً وحكايات ممن التقى بالخضر وسمع منه الأخبار والروايات ، فحينئذ تكذيب وجود الخضر من قبل ابن تيميّة إنّما

__________________

(١) الإصابة ٢ / ١١٤ ـ ١١٥ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(٢) تهذيب الإسماء واللغات ١ / ١٧٦ رقم ١٤٧ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(٣) مرقاة المفاتيح للقاري ٩ / ٦٩٢ كتاب الفتن.

٣١

هو لعلةٍ ولحساب ، وهو يعلم بأنّ وجود الخضر خير دليل على أنّ هذا الإستبعاد ليس في محلّه.

على أنّ الله سبحانه وتعالى إذا اقتضت الحكمة أنْ يبقي أحداً في هذا العالم آلاف السنين ، إذا اقتضت الحكمة ، فقدرته سبحانه وتعالى تطبّق تلك الإرادة ، ومشيّته تطبَّق ، وهو قادر على كلّ شيء.

فمسألة طول العمر أصبحت الآن مسألة بسيطة الحل ، وصار الجواب عن هذا السؤال سهلاً جداً في مثل زماننا.

وأمّا أنّ الإمامعليه‌السلام متى يظهر ، وأنّه سلام الله عليه كيف يستفاد منه في زمن الغيبة ؟

يقول ابن تيميّة وأيضاً يقول السعد التفتازاني : بأنّ المهدي لم يبق منه إلاّ الإسم ، ولم ينتفع منه أحد حتّى القائلون بوجوده.

وهؤلاء لا يعلمون ، لأن هذه الاُمور لا يتوصّلون إليها ولا يمكنهم الإطّلاع عليها ، إنّ الثقات من أبناء هذه الطائفة من علماء وغير علماء ، لهم قضايا وحوادث وقصص وحكايات ، تلك القضايا الثابتة المروية عن طرق الثقات مدوّنة في الكتب المعنيّة ، وكم من قضية رجع الشيعة ، عموم الشيعة ، أو في قضايا شخصية ، رجعوا إلى الإمامعليه‌السلام وأخذوا منه حلّ تلك القضية ورفع تلك المشكلة ، إلاّ أنّ أعداء الأئمّة سلام الله عليهم والمنافقين لا يوافقون على مثل هذه الأخبار ، وطبيعي أن لا يوافقوا ، ومن حقّهم أن لا يعتقدوا.

مضافاً ، إلى أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما ينصب الإمام في كلّ أُمة ، ويرسل الرسول إلى كلّ أُمّة ، ليتمّ به الحجة ، وكم من نبي قتلوه في أوّل يوم

٣٢

من نبوّته ودعوته ، وكم من رسول صلبوه في اليوم الأول من رسالته ، وكم من الأنبياء حاربوهم وشرّدوهم وطردوهم ، أيمكن أن يقال لله سبحانه وتعالى : بأنّ إرسالك هؤلاء الرسل والأنبياء كان عبثاً !!

وأمّا أين يعيش ؟

فأين يعيش الخضر ؟ نحن نسأل القائلين ببقاء الخضر وغير الخضر ممّن يعتقدون بحسب رواياتهم بقاءهم ، هؤلاء أين يعيشون ؟ وهذه ليست مسألة ، إنّ الإمام أين يعيش !

وأمّا الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره.

فتلك حوادث وقضايا مستقبلية وردت بها أخبار ، وتلك الأخبار مدوّنة في الكتب المعنية.

والشيء الذي أراه مهمّاً من الناحية الإعتقادية والعملية ، وأرجو أنْ تلتفتوا إليه ، فلربّما لا تجدونه مكتوباً ولا تسمعونه كما أقوله لكم :

لاحظوا إذا كانت غيبة الإمامعليه‌السلام لمصلحة أو لسبب ، ذلك السبب إمّا وجود المانع وإمّا عدم المقتضي ، غيبة الإمامعليه‌السلام إمّا هي لعدم المقتضي لظهوره أي لعدم وجود الارضية المناسبة لظهوره ، أو لوجود الموانع عن ظهوره.

وجود الموانع وعدم المقتضي كان السبب في غيبة الإمامعليه‌السلام ، هذا واضح.

إنّا لا نعلم أنّ المانع متى يرتفع ، ولا نعلم أنّ المقتضي متى يتحقق ويحصل ، ولذا ورد في الروايات : « إنّما أمرنا بغتة ».

فظهور الإمامعليه‌السلام متى يكون ؟

٣٣

حيث لا يكون مانع وتتمّ المقدمات والأرضية المناسبة لظهوره.

وهذا متى يكون ؟

العلم عند الله سبحانه وتعالى ، فيمكن أن يكون غداً ، ويمكن أن يكون بعد غد ، وهكذا ، فهذه نقطة.

والنقطة الثانية : إنّ في رواياتنا أنّ حكومة المهدي ستكون حكومة داودعليه‌السلام ، إنّه يحكم بحكم داودعليه‌السلام ، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والإيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض ، وأيّما رجل قطعت له قطعة فإنّما أقطع له قطعة من نار »(١) .

أوضّح لكم هذه الرواية : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا تخاصم إليه رجلان على كتاب مثلاً ، على دار ، أو على أيّ شيء آخر ، يطلب من المدعي البيّنة ، وحينئذ إنْ أقام البيّنة أخذ الكتاب من المدعى عليه وسلّمه إلى المدعي ، وهذا الحكم يكون على أساس البيّنة ، يقول رسول الله إنّما أقضي عليكم إنّما أقضي بينكم بالبيّنة ، أمّا إذا كانت البيّنة كاذبة والمدعي أقامها وعن هذا الطريق تملّك الكتاب ، فليعلم بأنّ الكتاب هذا قطعة من النار ، أنا وظيفتي أنْ أحكم بينكم بحسب البيّنة ، وأنت أيّها المدعي إنْ كنت تعلم بينك وبين ربّك أنّ الكتاب ليس لك ، فلا يجوز لك أخذ هذا الكتاب.

إذن ، يكون حكم رسول الله والحكم الإسلامي على أساس القواعد المقرّرة ، وهذه هي الأدلة الظاهرية المعمول بها.

فإذا جاء المهدي سلام الله عليه ، لا يأخذ بهذه القواعد والأحكام
الظاهرية ، وإنّما يحكم طبق الواقع ، فإذا جاء ورأى أنّ الكتاب الذي بيدي

__________________

(١) الكافي ٧ / ٤١٤ رقم ١ ، باختلاف بالألفاظ.

٣٤

هذا الكتاب الذي بحوزتي هو لزيد ، أخذه منّي وأرجعه إلى زيد ، وإذا علم أنّ هذه الدار التي أسكنها ملك لعمرو أخذها منّي وأرجعها إلى عمرو ، فكلّ حقّ يرجع إلى صاحبه بحسب الواقع.

وعلى هذا ، إذا كان الإمامعليه‌السلام ظهوره بغتة ، وكان حكمه بحسب الواقع ، فنحن ماذا يكون تكليفنا فيما يتعلّق بنا في شؤوننا الداخلية والشخصية ؟ في أُمورنا الاجتماعية ؟ في حقوق الله سبحانه وتعالى علينا ؟ وفي حقوق الآخرين علينا ؟ ماذا يكون تكليفنا وفي كلّ لحظة نحتمل ظهور الإمامعليه‌السلام ، وفي تلك اللحظة نعتقد بأنّ حكومته ستكون طبق الواقع لا على أساس القواعد الظاهرية ؟ حينئذ ماذا يكون تكليف كلّ فرد منّا ؟

وهذا معنى « أفضل الأعمال انتظار الفرج ».

وهذا معنى ما ورد في الروايات من أنّ الأئمّة ( سلام الله عليهم ) كانوا ينهون الأصحاب عن الإستعجال بظهور الإمامعليه‌السلام ، إنّما كانوا يأمرون ويؤكّدون على إطاعة الإنسان لربّه وأن يكون مستعدّاً لظهور الإمامعليه‌السلام .

وبعبارة أُخرى : مسألة الإنتظار ، ومسألة ترقب الحكومة الحقة ، هذه المسألة خير وسيلة لاصلاح الفرد والمجتمع ، وإذا صَلُحنا فقد مهّدنا الطريق لظهور الإمامعليه‌السلام ، ولأن نكون من أعوانه وأنصاره.

ولذا أمرونا بكثرة الدعاء لفرجهم ، ولذا أمرونا بالإنتظار لظهورهم ، هذا الإنتظار معناه أن يعكس الإنسان في نفسه ويطبّق على نفسه ما يقتضيه الواقع ، قبل أن يأتي الإمامعليه‌السلام ويكون هو المطبِّق ، ولربّما يكون هناك شخص يواجه الإمامعليه‌السلام ويأخذ الإمام منه كلّ شيء ، لأن كلّ الاشياء التي بحوزته ليست له ، وهذا ممكن.

٣٥

فإذا راقبنا أنفسنا وطبّقنا عقائدنا ومعتقداتنا في سلوكنا الشخصي والإجتماعي ، نكون ممهّدين ومساعدين ومعاونين على تحقّق الأرضية المناسبة لظهور الإمامعليه‌السلام .

وتبقى كلمة سجّلتها عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بهذه المناسبة ، يقول الإمامعليه‌السلام ـ كما في نهج البلاغة ـ : « ولا تستعجلوا بما لم يعجّله الله لكم ، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته ، مات شهيداً »(١) .

وعندنا في الروايات : أنّ من كان كذا ومات قبل مجيء الإمامعليه‌السلام مات وله أجر من كان في خدمته وضرب بالسيف تحت رايته.

يقول الإمامعليه‌السلام : « فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيداً ، ووقع أجره على الله ، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله ، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيفه ، فإنّ لكلّ شيء مدّة وأجلاً »(٢) .

ففي نفس الوقت الذي نحن مأمورون بالدعاء بتعجيل الفرج ، فنحن مأمورون أيضاً لتهيئة أنفسنا ، وللاستعداد الكامل لأن نكون بخدمته ، وإذا عمل كلّ فرد منّا بوظائفه ، وعرف حقّ ربّه عزوجل وحقّ رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحقّ أهل بيتهعليهم‌السلام ، فقد تمّت الأرضية المناسبة لظهورهعليه‌السلام ، ولا أقل من أنّا أدّينا تكاليفنا ووظائفنا تجاه الإمامعليه‌السلام .

وكنت أقصد أن أُلخّص البحث في بعض الجهات الاُخرى حتّى أُوفّر

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ١٥٦ خطبة ١٨٥.

(٢) تأويل الآيات : ٦٤٢ ، البحار ٥٢ / ١٤٤ ح ٦٣.

٣٦

وقتاً لهذه النقطة الأخيرة التي بيّنتها لكم ، وذكرت لكم الدليل البرهاني العقلي والروائي على وجوب الإلتزام العملي على كلّ واحد منّا بوظائفه تجاه ربّه وتجاه رسوله وتجاه أهل بيت الرسولعليهم‌السلام .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعرّفنا حقّه ، أن يعرّفنا حقّ رسوله ، أن يعرّفنا حقّ الأئمّة الأطهار ، أن يعرّفنا حقّ إمامنا ، وأنْ يوفّقنا لأداء الوظائف والتكاليف الملقاة على عواتقنا.

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

٣٧

الفهرس

مقدّمة المركز : ٥

تمهيد : ٧

الفصل الأول. ٩

الفصل الثاني. ٢٣

الفصل الثالث.. ٢٧

٣٨

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

وعند منتصف النهار وبينما هو غارق في حياته المادية يفاجأ بصوت تكبير المؤذن ، فيقطع عمله ويسرع إلى حضرته ، بل في آخر النهار بداية الليل أيضا وقبل أن يدلف إلى فراش الدعة والراحة ، يدعوه ويطلب منه حاجته ، ويجعل قلبه مركز أنواره.

وبغض النظر عن كل ما تقدم فإنّ الإنسان حين يتهيأ لمقدمات الصلاة ، يطهّر بدنه ويبعد عنه مسائل الحرام والغصب ، ويتجه إلى الحبيب ، فكلّ هذه الأمور لها تأثير رادع لنوازع الفحشاء والمنكر.

غاية ما في الأمر أنّ كل صلاة ـ بحسب شروط الكمال وروح العبادة لها ـ أثر رادع ناه عن الفحشاء والمنكر ، فتارة تنهى نهيا كليّا وأخرى جزئيا ومحدودا.

ولا يمكن لأحد أن يصلي ولا تدع الصلاة فيه أثرا حتى لو كانت الصلاة صورية ، وحتى لو كان ملوّثا بالذنب! وبالطبع فإنّ مثل هذه الصلاة قليلة الفائدة ومثل هؤلاء الأفراد لو لم يصلّوا صلاة كهذه لكانوا أسوأ ممّا هم عليه.

ولنوضّح أكثر فنقول : النهي عن الفحشاء والمنكر له سلسلة درجات ومراتب كثيرة ، وكل صلاة مع رعاية الشروط لها نسبة من هذه الدرجات.

وممّا بيّناه آنفا يتّضح أن تخبط بعض المفسّرين في تفسير هذه الآية ، وانتخاب تفسيرات غير مناسبة لا وجه له! وربّما فسّروها بتفسير غير مناسب ، لأنّهم رأوا بعض الناس يصلون ويرتكبون الذنوب ، ففسّروا الآية في معناها المطلق دون سلسلة المراتب ، وأخذوا يشكّون ويترددون ، فاختاروا طرقا أخرى في تفسير الآية.

فمنها ما قاله بعضهم : من أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ما دام الإنسان مشغولا بها. وهذا كلام عجيب ، إذ لا تتميز الصلاة بهذا وحدها ، فكثير من الأعمال على هذه الشاكلة.

٤٠١

وقال بعضهم : إنّ أعمال الصلاة وأذكارها بمثابة عبارات وجمل ، كل جملة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر ، فمثلا كل من التكبير والتهليل والتسبيح كلّ منها يقول للإنسان : لا تذنب ولكن هل أنّ هذا الإنسان يصغي لهذا النهي أم لا فهذا أمر آخر.

ولكن من ذهب الى هذا التّفسير ، غفل عن هذه الحقيقة ، وهي أن النهي هنا ليس نهيا تشريعيا فحسب ، بل هو نهي تكويني ، فظاهر الآية أنّ الصلاة لها أثر ناه ، والتّفسير الأصيل هو ما قدمناه ذكره وبيانه آنفا.

وبالطبع فلا مانع من القول أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر نهيا تكوينيا ونهيا تشريعيا أيضا.

«أحاديث» ينبغي الالتفات إليها

١ ـ في حديث عن النّبي الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورد أنّه قال : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بعدا».(١)

٢ – وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا : «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر»(٢) .

٣ ـ كما نقرأ في حديث ثالث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ شابا من الأنصار أدّى الصلاة معه ، ولكنّه كان ملوثا بالذنوب القبيحة ، فأخبروا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «إن صلاته تنهاه يوما»(٣) .

٤ ـ هذا الأثر للصلاة له أهمية قصوى إلى درجة أنّنا نجده في الرّوايات الإسلامية معيارا لقبول الصلاة وعدمها ، إذ ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآية مح البحث «والحديث الثّاني يشعر بالنهي التشريعي».

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٤٠٢

«من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل ، فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر؟! فبقدر ما منعته قبلت منه!»(١) .

ويقول القرآن تعقيبا على ما ذكره ومن شأن الصلاة( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) .

وظاهر الجملة هو بيان غاية وحكمة أخرى في الصلاة ، أي أن أثرا آخر من آثار الصلاة وبركاتها أهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر هو تذكير الإنسان بربّه ، هذا الذكر هو أساس السعادة والخير ، بل العامل الأصلي للنهي عن الفحشاء والمنكر أيضا هو ذكر الله ، وكونه أكبر لأنّه العلّة والأساس للصلاة!.

وأساسا فإنّ ذكر الله فيه حياة القلوب ودعتها ، ولا شيء يبلغ مبلغه( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٢) .

ولا ريب أنّ روح العبادة بجميع أقسامها ـ صلاة كانت أم غيرها ـ هو ذكر الله ، فأذكار الصلاة ، وأفعالها ومقدماتها ، جميعها في الواقع تحيي ذكر الله في قلب الإنسان.!

وممّا يلفت النظر أن في الآية (١٤) من سورة طه إشارة إلى هذه الحكمة الأساسية من الصلاة ، إذ نلاحظ فيها الخطاب لموسى قائلا :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) .

إلّا أنّ المفسّرين الكبار ذكروا للجملة المتقدمة تفسيرات أخرى ، وقد ورد في الرّوايات الإسلامية إشارة إليها أيضا من ضمنها : إنّ المراد من الجملة المتقدمة ، أن ذكر الله لكم برحمته أكبر من ذكركم لله بطاعته(٣) .

ومنها : إنّ ذكر الله أكبر من الصلاة وأعلى ، لأنّ روح كل عبادة «ذكر الله».

وهذا التّفاسير التي ورد بعضها في الرّوايات الإسلامية ، ربّما كانت إشارة إلى

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) الرعد ، الآية ٢٨.

(٣) على ضوء هذا التّفسير يكون لفظ الجلالة «الله» فاعلا في المعنى ، وعلى التّفسير السابق يكون مفعولا.

٤٠٣

بطون الآية ، وإلّا فإنّ ظاهرها منسجم مع المعنى الأوّل ، لأنّه في أغلب الموارد التي يرد التعبير فيها بـ «ذكر الله» أو «ذكروا الله» أو «اذكروا الله» إلخ ، يقصد بها ذكر الناس لله!

والآية المذكورة آنفا ، يتداعى لها هذا المعنى ، إلّا أنّ ذكر الله لعباده يمكن أن يكون نتيجة مباشرة لذكر العباد لله ، وبهذا يرتفع التضاد بين المعنيين.

في حديث عن معاذ بن جبل أنّه قال : لا شيء من أعمال ابن آدم لنجاته من عذاب الله أكبر من ذكر الله ، فسألوه : حتى الجهاد في سبيل الله؟! فقال : أجل ، فالله يقول :( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) .

والظاهر أنّ «معاذ بن جبل» سمع هذا الكلام من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لأنّه نفسه ينقل إنّه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ الأعمال أفضل؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله».

وحيث أنّ نيّات الناس ، وميزان حضور القلب منهم في الصلاة وسائر العبادات ، كل ذلك متفاوت جدّا ، فإنّ الآية تختتم بالقول :( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) .

أي يعلم ما تصنعون من أعمال في الخفاء أو العلن ، والنيّات التي في قلوبكم أو الكلمات التي تجري على ألسنتكم!.

* * *

بحث

تأثير الصلاة في تربية الفرد والمجتمع :

بالرغم من أن فائدة الصلاة لا تخفى على أحد ، لكن التدقيق في متون الروايات الإسلامية يدلنا على لطائف ودقائق أكثر في هذا المجال!.

١ ـ إنّ روح الصلاة وأساسها وهدفها ومقدمتها ونتيجتها وأخيرا حكمتها

٤٠٤

وفلسفتها(١) ، هي ذكر الله ، كما بيّنت في الآية على أنّها أكبر النتائج.

وبالطبع فإنّ الذكر المراد هنا ، هو الذكر الذي يكون مقدمة للفكر ، والفكر الذي يكون باعثا على العمل ، كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير جملة( وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) قال : «ذكر الله عند ما أحلّ وحرّم» أي على أن يتذكر الله فيتبع الحلال ويغضي أجفانه عن الحرام «بحار الأنوار ، ج ٨٢ ، ص ٢٠٠».

٢ ـ إنّ الصلاة وسيلة لغسل الذنوب والتطهر منها ، وذريعة إلى مغفرة الله ، لأنّ الصلاة ـ كيف ما كانت ـ تدعوا الإنسان إلى التوبة وإصلاح الماضي ، ولذلك فإننا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ سأل بعض أصحابه : «لو كان على باب دار أحدكم نهر واغتسل في كل يوم منه خمس مرات أكان يبقي في جسده من الدرن شيء؟! قلت لا ، قال : فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلما صلّى كفرت ما بينهما من الذنوب»(٢) .

وعلى هذا فإنّ الجراح التي تخلفها الذنوب في روح الإنسان ، وتكون غشاوة على قلبه ، تلتئم بضماد الصلاة وينجلي بها صدأ القلوب!

٣ ـ إنّ الصلوات سدّ أمام الذنوب المقبلة ، لأنّ الصلاة تقوي روح الإيمان في الإنسان ، وتربّي شجيرة التقوى في قلب الإنسان ، ونحن نعرف أن الإيمان والتقوى هما أقوى سدّ أمام الذنوب ، وهذا هو ما بيّنته الآية المتقدمة عنوان «النهي عن الفحشاء والمنكر» ، وما نقرؤه في أحاديث متعددة من أن أفرادا كانوا مذنبين ، فذكر حالهم لأئمّة الإسلام فقالوا : لا تكترثوا فإنّ الصلاة تصلح شأنهم وقد أصلحتهم.

٤ ـ إن الصلاة توقظ الإنسان من الغفلة ، وأعظم مصيبة على السائرين في طريق الحقّ أن ينسوا الهدف من إيجادهم وخلقهم ، ويغرقوا في الحياة المادية

__________________

(١) «الفلسفة» كلمة يونانية معناها «الحكمة» فهي ليست عربية لكنّها شاعت في العربية أيضا.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٧ (الباب الثّاني من أبواب أعداد الفرائض الحديث ٣).

٤٠٥

ولذائذها العابرة!

إلّا أنّ الصلاة بما أنّها تؤدى في أوقات مختلفة ، وفي كل يوم وليلة خمس مرات ، فإنّها تخطر الإنسان وتنذره ، وتبيّن له الهدف من خلقه ، وتنبهه إلى مكانته وموقعه في العالم بشكل رتيب ، وهذه نعمة كبرى للإنسان بحيث أنّها في كل يوم وليلة تحثه وتقول له : كن يقظا.

٥ ـ إنّ الصلاة تحطّم الأنانية والكبر ، لأنّ الإنسان في كلّ يوم وليلة يصلي سبع عشرة ركعة ، وفي كل ركعة يضع جبهته على التراب تواضعا لله ، ويرى نفسه ذرة صغيرة أمام عظمة الخالق ، بل يرى نفسه صفرا بالنسبة إلى ما لا نهاية له!.

ولأمير المؤمنين عليعليه‌السلام كلام معروف تتجسد فيه ، فلسفة العبادات الإسلامية بعد الإيمان بالله ، فبيّن أوّل العبادات وهي الصلاة مقرونة بهذا الهدف إذ قال : «فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر»(١) .

٦ ـ الصلاة وسيلة لتربية الفضائل الخلقية والتكامل المعنوي للإنسان ، لأنّها تخرج الإنسان عن العالم المحدود وتدعوه إلى ملكوت السماوات ، وتجعله مشاركا للملائكة بصوته ودعائه وابتهاله ، فيرى نفسه غير محتاج إلى واسطة إلى الله أو أن هناك «حاجبا» يمنعه فيتحدث مع ربّه ويناجيه!.

إن تكرار هذا العمل في اليوم والليلة ـ وبالاعتماد على صفات الله الرحمن الرحيم العظيم ، خاصة بالاستعانة بسور القرآن المختلفة بعد سورة الحمد التي هي خير محفّز للصالحات ، والطهارة ـ له الأثر في تربية الفضائل الخلقية في وجود الإنسان!

لذلك نقرأ في تعبير الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام عن حكمتها قوله : «الصلاة قربان كل تقيّ!»(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ٢٥٢.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الجملة ١٣٦.

٤٠٦

٧ ـ إن الصلاة تعطي القيمة والروح لسائر أعمال الإنسان ؛ لأنّ الصلاة توقظ في الإنسان روح الإخلاص فهي مجموعة من النية الخالصة والكلام الطاهر «الطيب» والأعمال الخالصة وتكرار هذه المجموعة في اليوم والليلة ينثر في روح الإنسان بذور سائر الأعمال الصالحة ويقوّي فيه روح الإخلاص.

لذلك فإنّنا نقرأ في بعض ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام في ضمن وصاياه المعروفة بعد أن ضربه ابن ملجم بالسيف ففلق هامته ، أنّه قال : «الله الله في صلاتكم فإنها عمود دينكم»(١) .

ونعرف أنّ عمود الخيمة إذا انكسر أو هوى ، فلا أثر للأوتاد والطنب مهما كانت محكمة فكذلك ارتباط عباد الله به عن طريق الصلاة ، فلو ذهبت لم يبق لأي عمل آخر أثر.

ونقرأ عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة ، فإن قبلت قبل سائر عمله ، وإن ردّت ردّ سائر عمله!».

ولعل الدليل على هذا الحديث هو أن الصلاة رمز للعلاقة والارتباط بين الخالق والمخلوق! فإذا ما أدّيت بشكل صحيح ، وكان فيها قصد القربة والإخلاص «حيّا» كان وسيلة القبول لسائر الأعمال ، وإلّا فإنّ بقية أعماله تكون مشوبة وملوّثة وساقطة من درجة الاعتبار.

٨ ـ إنّ الصلاة ـ بقطع النظر ـ عن محتواها ، ومع الالتفات إلى شرائط صحتها ، فإنّها تدعوا إلى تطهير الحياة! لأنّنا نعلم أن مكان المصلي ، ولباس المصلي ، وبساطه الذي يصلي عليه ، والماء الذي يتوضأ به أو يغتسل منه ، والمكان الذي يتطهر فيه «وضوء أو غسلا» ينبغي أن يكون طاهرا من كل أنواع الغصب والتجاوز على حقوق الآخرين. فإنّ من كان ملوّثا بالظلم والغصب والبخس في الميزان والبيع وآكلا للرشوة ويكتسب أمواله من الحرام كيف يمكن له أن يهيء

__________________

(١) نهج البلاغة ، ومن كتاب له «وصية له» ٤٧.

٤٠٧

مقدمات الصلاة!؟ فعلى هذا فإنّ تكرار الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ـ هو نفسه ـ دعوة إلى رعاية حقوق الآخرين!

٩ ـ إنّ للصلاة ـ بالإضافة إلى شرائط صحتها ـ شرائط لقبولها ، أو بتعبير آخر :

شرائط لكمالها ، ورعايتها ـ أيضا ـ عامل مؤثر ومهم لترك كثير من الذنوب!.

وقد ورد في كتب الفقه ومصادر الحديث روايات كثيرة تحت عنوان موانع قبول الصلاة ، ومنها «شرب الخمر» إذ جاء في بعض الرّوايات : لا تقبل صلاة شارب الخمر أربعين يوما إلّا أن يتوب(١) .

كما نقرأ في روايات متعددة أنّ من جملة «من لا تقبل صلاته «الإمام الظالم»(٢) .

كما صرّح في بعض الرّوايات بأنّ الصلاة لا تقبل من «مانع الزكاة».

كما أنّ هناك بعض الرّوايات تقول : «إنّ الصلاة لا تقبل ممن يأكل السحت والحرام ، ولا ممن يأخذه العجب والغرور» وهكذا تتّضح الحكمة والفائدة الكبيرة من وجود هذه الشروط.

١٠ ـ إنّ الصلاة تقوي في الإنسان روح الانضباط والالتزام ، لأنّها ينبغي أن تؤدى في أوقات معينة ، لأنّ تأخيرها عن وقتها أو تقديمها عليه موجب لبطلانها.

وكذلك الآداب والأحكام الأخرى في موارد النية والقيام والركوع والسجود وما شابهها ، إذ أن رعايتها تجعل الاستجابة للالتزام في مناهج الحياة ممكنا وسهلا.

كل هذه من فوائد الصلاة ـ بغض النظر عن صلاة الجماعة ـ وإذا أضفنا إليها خصوصية الجماعة ، حيث أنّ روح الصلاة هي الجماعة ، ففيها بركات لا تحصى ولا تعدّ ، ولا مجال هنا لشرحها وبيانها ، مضافا الى أن الجميع يدرك خيراتها وفوائدها على الإجمال.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨٤ ، ص ٣١٧ و ٣٢٠.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٨٤ ص ٣١٨.

٤٠٨

ونختم كلامنا في مجال حكمة الصلاة وفلسفتها وأسرارها بحديث جامع منقول عن الإمام الرضاعليه‌السلام إذ سئل عنها فأجاب بما يلي : «إن علة الصلاة أنّها إقرار بالربوبية للهعزوجل ، وخلع الأنداد ، وقيام بين يدي الجبار جل جلاله بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف ، والطلب للإقالة من سالف الذنوب ، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاما للهعزوجل وأن يكون ذاكرا غير ناس ولا بطر ، ويكون خاشعا متذللا ، راغبا طالبا للزيادة في الدين والدنيا مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر اللهعزوجل بالليل والنهار ، لئلا ينسى العبد سيده ومديره وخالقه فيبطر ويطغى ، ويكون في ذكره لربّه وقيامه بين يديه زاجرا له عن المعاصي ومانعا له عن أنواع الفساد».(١)

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤.

٤٠٩
٤١٠

بداية الجزء الحادي والعشرون

من

القرآن الكريم

ويبدأ من بداية الآية ست وأربعون

سورة العنكبوت

٤١١
٤١٢

الآيات

( وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) )

التّفسير

اتّبعوا أحسن الأساليب في البحث والجدال :

كان أكثر الكلام في الآيات المتقدمة في كيفية التعامل مع المشركين المعاندين وكان مقتضى الحال أن يكون الكلام شديد اللهجة حادّا ، وأن يعدّ ما يعبدون من دون الله أوهى من بيت العنكبوت ، أمّا في هذه الآيات ـ محل البحث ـ فيقع الكلام في شأن مجادلة أهل الكتاب الذين ينبغي أن يكون الكلام معهم لطيفا ، إذ أنّهم ـ على الأقل ـ قد سمعوا قسما ممّا جاء به الأنبياء والكتب

٤١٣

السماوية ، ولديهم استعداد أكثر للتعامل المنطقي ، إذ ينبغي أن يكلم كل شخص بمقدار علمه وعقله وأخلاقه.

فيقول القرآن في هذا الصدد :( لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .

«تجادلوا» مشتق من «جدال» ومعناه في الأصل فتل الحبل وإحكامه ، كما تستعمل هذه المفردة في البناء المحكم وما أشبهه ، وحين يتناقش اثنان في بحث معين فكل واحد منهما ـ في الحقيقة ـ يريد أن يلوي صاحبه عن عقيدته وفكرته لذا فقد سمّي هذا النقاش جدالا. كما يرد هذا التعبير في النزاع أيضا ، وعلى كل حال فإنّه المراد من قوله( وَلا تُجادِلُوا ) المناقشات المنطقية.

والتعبير بـ( بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) تعبير جامع يشمل الأساليب والطرق الصحيحة والمناسبة للتباحث أجمع ، سواء كان ذلك في الألفاظ أو المحتوى ، وسواء كان في طريقة الكلام ، أو الحركات والإشارات المصاحبة له.

فعلى هذا يكون مفهوم الجملة المتقدمة : إنّ ألفاظكم ينبغي أن تكون بطريقة مؤدبة ، والكلام ذا مودّة ، والمحتوى مستدلا ، وصوتكم هادئا غير خشن ، ولا متجاوزا لحدود الأخلاق أو لهتك الحرمة ، وكذلك بالنسبة لحركات الأيدي والعيون والحواجب التي تكمل البيان ، ينبغي أن تكون هذه الحركات ضمن هذه الطريقة المؤدبة وكم هو جميل هذا التعبير القرآني ، إذ أوجز عالما من المعاني الدقيقة في جملة قصيرة.

كل هذه الأمور لأجل أن الهدف من وراء النقاش والبحث ليس هو طلب التفوق ودحر الطرف الآخر ، بل الهدف أن يكون الكلام حتى ينفذ في القلب وفي أعماق الطرف الآخر وخير السبل للوصول إلى هذا الهدف هو هذا الأسلوب القرآني.

__________________

(١) «التي» هنا صفة لموصوف محذوف تقديره الطريقة أو ما شاكلها

٤١٤

وكثيرا ما يتفق أنّه لو استطاع الإنسان أن يبيّن قول الحق بصورة يراه الطرف الآخر متطابقا لفكره ورأيه ، فسرعان ما ينعطف إليه وينسجم معه ، لأنّ الإنسان ذو علاقة بفكره كعلاقته بأبنائه.

وهكذا فإنّ القرآن الكريم يثير الكثير من المسائل على صورة «السؤال والاستفهام» لينتزع جوابه من داخل فكر المخاطب فيراه منه!

وبالطبع فإنّ لكل قانون استثناء ، ومنها هذا القانون أو الأصل الكلي في البحث والمجادلة الإسلامية ، فقد يعدّ في بعض الموارد ضعفا ، أو يكون الطرف الآخر مغرورا الى درجة أن هذا التعامل الإنساني يزيده جرأة وعدوانا وتكبرا ، لذلك فإنّ القرآن يضيف مستثنيا :( إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) .

وهم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الآخرين ، وكتموا كثيرا من الآيات ، لئلا يطلع الناس على أوصاف النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الظالمون الذين جعلوا أوامر الله التي لا تنسجم مع منافعهم الشخصية تحت أقدامهم.

الظالمون الذين آمنوا بالخرافات فكانوا كالمشركين في عقيدتهم إذ قالوا : إن المسيح ابن الله ، أو العزير ابن الله.

وأخيرا فهم أولئك الذين ظلموا وتذرعوا بالسيف والقوّة بدلا من البحث المنطقي ، وتوسّلوا بالشيطنة والتآمر على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الإسلام.

ويختتم الآية بمصداق بارز من «المجادلة بالتي هي أحسن» ويمكنه أن يكون قدوة لأي بحث ؛ فيقول القرآن الكريم :( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) .

كم هو جميل هذا التعبير! وكم هو رائع هذا النغم واللهجة! لهجة الوحدة والإيمان بكل ما أنزل الله الواحد ، وحذف جميع العصبيّات ، ونحن وأنتم جميعا موحدون لله مسلمون له.

٤١٥

وهذا مثل واحد من المجادلة بالتي هي أحسن التي ينجذب إليها كل من يسمعها ، ويدلّ على أن الإنسان يجب أن يكون بعيدا عن التحزب أو طلب التفرقة ، فنداء الإسلام هو نداء الوحدة والتسليم لكل كلام حق.

وأمثلة هذا البحث كثيرة في القرآن ، ومن ضمنها ما أشار إليه الإمام الصادقعليه‌السلام إذ قال : «أمّا الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى نبيّه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له ، فقال الله حاكيا عنه : قل (يا محمّد)»( يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ) (١) .

والآية الأخرى تؤكّد على الأصول الأربعة التي سبق ذكرها في الآية المتقدمة ، فتقول :( وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) أي القرآن.

أجل نزل هذا القرآن على أساس توحيد المعبود ، وتوحيد دعوة جميع الأنبياء إلى الحق ، والتسليم دون قيد أو شرط لأمر الله ؛ والمجادلة بالتي هي أحسن!.

قال بعض المفسّرين : إنّ المراد من جملة( وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) هو تشبيه نزول القرآن على النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله أي كما أنزلنا كتبا من السماء على الأنبياء الماضين ، فكذلك أنزلنا إليك الكتاب!.

إلّا أنّ التّفسير السابق يبدو أكثر دقّة ، وإن كان الجمع بين التّفسيرين ممكنا أيضا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم :( فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ) ويعتقدون بصدقه إذ أنّهم وجدوا علائمه في كتبهم ، كما أن محتواه من حيث الأصول العامّة والكلية منسجم مع كتبهم!.

ومن المعلوم أن جميع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لم يؤمنوا بنبوّة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٦٣.

٤١٦

محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله «نبي الإسلام» فتكون هذه الجملة في خصوص تلك الجماعة المؤمنة منهم ، والتي تبتغي الحق دون تعصب ، فتكون جديرة أن يطلق عليها «أهل الكتاب».

ويضيف القرآن بعدئذ :( وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) (١) أي أهل مكّة والمشركون العرب.

ثمّ يقول القرآن في كفر الطائفتين من اليهود والنصارى( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ) .

ومع الالتفات إلى أنّ مفهوم الجحود ، هو أن يعتقد الإنسان بشيء بقلبه وينكره بلسانه ، فإنّ مفهوم الجملة المتقدمة أن الكفار يعترفون في قلوبهم بعظمة هذه الآيات ، ويرون علامات الصدق عليها ، ومنهج النّبي وطريقته وحياته النقية ، وأن أتباعه هم المخلصون ، ويعدّون كل ذلك دليلا على أصالته ، إلّا أنّهم ينكرون ذلك عنادا وتعصبا ، وتقليدا أعمى لأسلافهم ولآبائهم ، ولحفظ منافعهم الشخصية.

وعلى هذا فإنّ القرآن يحدد مواقف الأمم المختلفة إزاء هذا الكتاب ويصنفهم إلى قسمين :

فقسم هم أهل الإيمان ، سواء من علماء اليهود والنصارى ، أو المؤمنين بصدق ، أو المشركين العطاشى إلى الحقّ الذين عرفوا الحق فتعلقت قلوبهم به.

وقسم آخر هم المنكرون المعاندون ، الذين رأوا الحق إلّا أنّهم أنكروه وأخفوا أنفسهم عنه كالخفاش ، لأنّ ظلمة الكفر كانت جزءا من نسيج وجودهم ، فهم يستوحشون من نور الإيمان.

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إنّ جملة «الذين آتيناهم الكتاب» إشارة إلى المسلمين ، وجملة «مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ » إشارة إلى أهل الكتاب ، إلّا أنّ هذا التّفسر بعيد ـ كما يبدو ـ جدّا لأنّ التعبير بـ( فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) وما شابهه لم يأت في القرآن ـ بحسب الظاهر ـ إلّا في خصوص اليهود والنصارى.

٤١٧

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ هذا القسم ـ أو هذا الطائفة ـ كانوا كفرة من قبل ، ولكن التأكيد على كفرهم ممكن أيضا ، وذلك لأنّهم لم تتمّ الحجّة عليهم من قبل ، ولكنّهم بعد أن تمّت عليهم الحجّة ، فقد أصبحوا كافرين كفرا حقيقتا ، وحادوا بعلمهم واطلاعهم عن الصراط المستقيم ، وخطوا في دروب الضلال!.

ثمّ يضيف القرآن مشيرا إلى علامة أخرى من علائم حقانية دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الجلية والواضحة ، وهي تأكيد على محتوى الآية السابقة ، فيقول :( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) وقالوا إنّ ما جاءنا به هذا النّبي هو حصيلة مطالعاته لكتب الماضين.

ومعنى هذه الآية أنّك لم تذهب إلى مدرسة قط ، ولم تكتب من قبل كتابا قط ، لكنّك باشارة من وحي السماء أصبحت تعرف المسائل أفضل من مائة مدرس!.

كيف يمكن أن يصدق أن شخصا لم يقرأ كتابا ولم ير أستاذا ولا مدرسة ، أن يأتي بكتاب يتحدى به جميع البشر أن يأتوا بمثله ، فيعجز جميعهم عن الإتيان بما طلب.

أليس هذا دليلا على أن قوّتك تستمدّ من قوة الخالق غير المحدودة ، وأن كتابك وحي السماء ألقاه الله إليك؟!

وينبغي الإشارة إلى أنّه لو سأل سائل : من أين نعرف أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يذهب إلى مدرسة قط؟!.

فنجيب أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عاش في بيئة المثقفون والمتعلمون فيها معدودون ومحدودون حتى قيل أن ليس في مكّة أكثر من سبعة عشر رجلا يجيدون القراءة والكتابة ، ففي مثل هذا المحيط وهذه البيئة ، لو قدّر لأحد أن يمضي إلى المدرسة فيتعلم القراءة والكتابة ، فمن المستحيل أن يكون مجهولا ، بل يكون معروفا في كل مكان. كما يعرف الناس أستاذه ودرسه أيضا.

فكيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يدعي أنّه نبيّ صادق ومع ذلك يكذب

٤١٨

هذه الكذبة المفضوحة والمكشوفة؟ خاصة أن هذه الآيات نزلت في مكّة ، مهد نشأة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك في قبال الأعداء الألدّاء الذين لا تخفى عليهم أقل نقطة ضعف!!.

وفي الآية التالية علامة أخرى أيضا على حقانية القرآن ، إذ تقول :( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) .

والتعبير بـ «الآيات البينات» كاشف عن هذه الحقيقة وهي أن دلائل حقانية القرآن تتجلى بنفسها عيانا ، وتشرق في أرجائه ، فدليلها معها.

وفي الحقيقة ، إنّها مثل الآيات التكوينية التي تجعل الإنسان يذعن بحقيقتها عند مطالعتها دون حاجة إلى شيء آخر ، هذه الآيات التشريعية ـ أيضا ـ من حيث ظاهرها ومحتواها كذلك ، إذ هي دليل على صدقها.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ أتباع هذه الآيات وطلابها المشدودة قلوبهم إليها هم أولوا العلم والاطلاع ، بالرغم من أن أيديهم خالية وأرجلهم حافية!.

وبتعبير أوضح : إنّ واحدا من طرق معرفة أصالة مذهب ما دراسة حال المؤمنين به ، فإذا كان الجهال المحتالون قد التفوا حول الشخص ، فهو أيضا من نسيجهم ، ولكن إذا كان من التفّ حول الشخص هم الذين امتلأت صدورهم بأسرار العلوم وهم أوفياء له ، فيكون هذا الأمر دليلا على حقانية ذلك الشخص ، ونحن نرى أن جماعة من علماء أهل الكتاب ، ورجالا متقين أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر ، وشخصية كبيرة كعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ، هم حماة هذا المبدأ.

وفي روايات كثيرة منقولة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، إنّ المراد بالذين أوتوا العلم هم الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام وطبعا فليس هذا المعنى منحصرا فيهم ، بل هم المصداق الجلي لهذه الآية(١) .

__________________

(١) هذه الرّوايات وردت في تفسير البرهان الجزء الثالث ، ص ٢٥٤ فما بعد بشكل مفصل.

٤١٩

وإذا ما لاحظنا أن بعض الرّوايات تصرّح أنّ المراد من هذه العبارة المتقدمة هم الأئمّةعليهم‌السلام ، فإنّ ذلك في الحقيقة إشارة إلى المرحلة الكاملة لعلم القرآن الذي عندهم ، ولا يمنع أن يكون للعلماء بل لعامّة الناس الذين لهم نصيب من الفهم ، أن يحظوا بقسط من علوم القرآن أيضا.

كما أنّ هذه الآية تدلّ ضمنا على أن العلم ليس منحصرا بالكتاب ، أو بما يلقيه الأستاذ على تلاميذه لأنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ طبقا لصريح الآيات المتقدمة ـ لم يدرس في مدرسة ولم يكتب من قبل كتابا إلّا أنّه كان خير مصداق للذين «أوتوا العلم».

فإذا فما وراء العلم «الرسمي» الذي نعهده ، علم أوسع وأعظم ، وهو علم يأتي من قبل الله تعالى على شكل نور يقذف في قلب الإنسان ، كما ورد في الحديث «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء». وهذا هو جوهر العلم ، أمّا ما سواه فهو الصدف والقشر!

وتختتم الآية بقوله تعالى :( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) لأنّ دليلها واضح ، فالنّبي الأمّيّ الذي لم يقرأ ولم يكتب ، هو الذي جاء بها والعلماء المطلعون هم المؤمنون بها.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فإنّ الآيات نفسها مجموعة من الآيات البينات «كلمات ذوات محتوى جلي مشرق».

وقد وردت علائمها في الكتب المتقدمة.

ومع كل هذا ترى هل ينكر هذه الآيات إلّا الذين ظلموا أنفسهم وظلموا مجتمعهم «ونكرر أن التعبير بـ «بالجحد» يكون في مورد ما لو أن الإنسان يعتقد بالشيء وينكره على خلاف ما يعلمه»!.

* * *

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592