الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180791 / تحميل: 6357
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

هذه تسير بسرعة ألف ميل في الساعة.

فلو تناقص ذلك أي بلغ مقدار سرعتها مائة ميل في الساعة مثلاً، لتضاعف طول الليالي والأيام إلى عشرة أضعاف ما هي عليه الآن، ولأحرقت شمس الصيف بحرارتها الملتهبة كل النباتات في الأيام الطويلة، ولجمدت برودة الليالي الطويلة من جانب آخر كل البراعم والنبتات الصغيرة، وتلفت.

ولو أنّ شعاع الشمس الواصل إلى الأرض تناقص إلى درجة النصف مما هو عليه الآن لهلكت جميع أحياء الأرض من فرط البرد.

ولو تضاعف هذا المقدار لمات كل نبت بل لماتت نطفة الحياة وهي في بطن الأرض.

ولو نقصت المسافة بين الأرض والقمر إلى خمسين ألف ميل بدلاً من المسافة الشاسعة الحاضرة(١) لبلغ المد والجزر من القوة بحيث إنّ جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها، وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب.

وإذا فرضنا أنّ القارات قد اكتسحها الماء فإنّ معدل عمق الماء فوق الكرة الأرضية كلها يكون نحو ميل ونصف ميل، وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلّا في أعماق المحيط السحيقة بصورة حيوانات تتغذى على نفسها وتفنى بالتدريج ويؤول نسلها إلى الانقراض.

٥. انّ الهواء المحيط بالأرض سميك بالقدر اللازم لمرور الأشعة الكونية

__________________

(١) المسافة الفعلية بين القمر والأرض هي ٠٠٠/٢٤٠ ميل.

١٨١

ذات التأثير الكيمياوي التي يحتاج إليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات دون أن تضر بالإنسان، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور ومعظمها سام، فإنّ الهواء باق دون تلوث في الواقع ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان.

إنّ الهواء الذي نستنشقه مكون من غازات مختلفة، فنسبة النتروجين الموجود فيه هي ٧٨% في حين تكون نسبة الاوكسجين فيه ٢١% تقريباً ويتألف ١% من بقية الغازات الأُخرى.

فلو كان الأُوكسجين بنسبة ٥٠% مثلاً، لأصبحت جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم عرضة للاشتعال لدرجة أنّ أوّل شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة.

فهل يمكن لعاقل منصف وهو يرى ويواجه مثل هذه المحاسبات الدقيقة والتي لم نشر إلّا إلى جزء يسير جداً منها، أن يقول بأنّها وليدة المصادفة العمياء، وانّ انفجار المادة الأُولى، والذي كان يمكن أن ينتهي إلى آلاف الصور غير الصورة الفعلية، انتهى إلى الصورة الفعلية بمحض المصادفة ؟!!

كيف يمكن القول بأنّ هذه العوامل والعلل وغيرها من الظروف التي تؤلّف قوام الحياة وأركانها قد ظهرت فجأة ومصادفة على وجه هذه الأرض في زمان واحد دون مداخلة عقل قادر وإرادة حكيمة، بل كانت العوامل ـ هي بنفسها من حيث الكمية والكيفية ـ بحيث أوجد اجتماعها هذه الحياة المعقدة ؟!!

يقول البروفيسور ايدوين كوبكلين :

« إنّ القول بأنّ الحياة وجدت نتيجة « حادث اتفاقي تصادفي » شبيه في مغزاه

١٨٢

بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار تصادفي يقع في مطبعة »(١) .

برهان رياضي لإبطال المصادفة

إنّ العلماء لم يهملوا حساب احتمال وجود الشيء عن طريق المصادفة، فها هو العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون يضرب لنا مثلاً لهذا في كتابه الذي أشرنا إليه فيقول :

« لو تناولت عشر قطع، وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطاً جيداً ثم حاولت أن تخرج منها الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرة أُخرى.

فإمكان أن تتناول القطعة رقم (١) في المحاولة الأُولى هو واحد على عشرة، وإمكان أن تتناول القطعة رقم (١) و (٢) متتابعين هو بنسبة واحد على مائة، وفرصة سحب القطع التي عليها أرقام (١ و ٢ و ٣) متتالية هي بنسبة واحد على ألف، وفرصة سحب (١ و ٢ و ٣ و ٤) متوالية هي بنسبة واحد على عشرة آلاف، وهكذا حتى تصبح فرصة سحب القطع بترتيبها الأوّل من ١ إلى ١٠ هي بنسبة واحد من عشرة بلايين محاولة(٢) .

مثال آخر

لنفترض أنّ معك كيساً يحوي مائة قطعة رخام تسع وتسعون منها سوداء وواحدة بيضاء والآن هز الكيس وخذ منه واحدة، انّ فرصة سحب القطعة

__________________

(١) راجع « الله يتجلّى في عصر العلم »: ٧٢.

(٢) العلم يدعو للإيمان: ٥١.

١٨٣

البيضاء هي بنسبة واحدة إلى مائة، والآن أعد الرخام إلى الكيس، وابدأ من جديد، انّ فرصة سحب القطعة البيضاء لا تزال بنسبة واحدة إلى مائة، غير أنّ فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف ( المائة مضاعفة مرة ).

والآن جرب مرة ثالثة انّ فرصة سحب تلك القطعة البيضاء ثلاث مرات متوالية هي بنسبة مائة مرة عشرة آلاف أي بنسبة واحد من المليون، وهكذا.

ولنعد الآن إلى أصل البحث فنقول :

لابد لتحقق « ظاهرة الحياة » من توفر عوامل لا تحصى حيث لو فقد أحدها لامتنعت الحياة ولصارت مستحيلة وغير ممكنة، والآن لنحاسب :

أليس القول بأنّ انفجار المادة الأُولى وبصورة منتظمة تحتوي على كل الشروط والعوامل اللازمة للحياة، إلّا أنّه انتخاب احتمال واحد من ملياردات من الاحتمالات، لأنّه كان من الممكن للمادة الأُولى ـ أثر الانفجار المذكور ـ أن تنتهي إلى واحدة من ملياردات الصور الأُخرى من جهة الكم والكيف، وتبقى من بين تلك الصور الكثيرة صورة واحدة تضمن ظهور الحياة وبقاءها، وهو الاحتمال المطلوب الذي توفرت فيه الشروط المساعدة للحياة والنظم والترتيب اللازمان، وأمّا بقية الصورة فلا تصلح لظهور الحياة وبقائها.

إنّ احتمال أن يتحقق خصوص هذا الفرض وهذه الصورة ـ عقيب الانفجار التصادفي ـ من بين تلك المحتملات التي لا تعد ولا تحصى لهو ترجيح احتمال في مقابل احتمالات كثيرة، لا يمكن أن يقع موضع القبول لدى عاقل.

إنّ الآية التي ذكرناها في مطلع هذا الفصل يمكن أن تكون ناظرة إلى مثل

١٨٤

هذا الاستدلال، أعني: عدم إمكان توفر كل الشروط والعوامل اللازمة للحياة من باب المصادفة.

فإنّ قوله تعالى :

( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمٰوَاتِ والأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالفُلْكِ الَّتِي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ *وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ *وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) .

إنّ قول الله هذا ـ مضافاً إلى كونه مشيراً إلى « برهان النظم » يمكن أن يكون تلويحاً إلى عوامل استقرار الحياة على الأرض، ومذكراً للعقول بأنّه لا يمكن أن تجتمع كل هذه العوامل ـ مع ما فيها من المحاسبات العلميّة الدقيقة ـ عن طريق المصادفة ومن باب « المصادفة العمياء » دون أن يتدخل في ذلك تدبير « مدبّر عاقل حكيم » ودون أن يكون قد جمعها ـ على هذا النسق المطلوب المناسب لظاهرة الحياة ـ « إله خالق » عارف بالأُمور، محيط بالمحاسبات والسنن.

كما يمكن أن تكون بعض الآيات الأُخر مشيرة إلى هذا البرهان مثل قوله تعالى :

( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَهَا ثُمَّ اسْتَوى عَلَىٰ العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأجَل مُسَمّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (٢) .

__________________

(١) البقرة: ١٦٤.

(٢) الرعد: ٢.

١٨٥

وقوله تعالى :

( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغشِي الَّليلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (١) .

فإنّ كثيراً من العلل والعوامل اللازمة لنشوء ظاهرة الحياة قد ذكرت في هذه الآيات، فهل يمكن أو هل من المعقول والمقبول أنّ كل هذه الشرائط والعوامل اجتمعت دفعة واحدة ودون مخطط سابق، بل مصادفة، وأوجدت ظاهرة الحياة على وجه الأرض بنحو اتفاقي تصادفي ؟!!

__________________

(١) الرعد: ٣.

١٨٦

التوحيد الاستدلالي: البرهان العاشر

الآيات الآفاقية والأنفسية

دلائل وجود الله في الآفاق والأنفس

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ *سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ ) (١) .

لقد جرت العادة ـ في الكتب الفلسفية(٢) والكلامية ـ أن يستدل بالآية الثانية على المسائل التوحيدية ( أعم من إثبات وجود الله، أو توحيد ذاته، وصفاته )، وجرت عادة الخطباء كذلك على الاستشهاد بها عند تعرضهم لمباحث التوحيد ومسائله.

لأجل هذا يلزم أن نعرف هنا هدف هذه الآية.

فإن كانت الآية الثانية مرتبطة في مفادها بالآية الأُولى، واعتبرنا السياق، فإنّ الآية تكون حينئذ في مقام بيان مطلب آخر ليس له كثير ارتباط بالتوحيد، إلّا من بعيد.

__________________

(١) فصلت: ٥٣ ـ ٥٤.

(٢) الإشارات: ٣ / ٦٦، الأسفار: ٦ / ٢٦.

١٨٧

توضيح ذلك أنّ محور الحديث في الآية الأُولى هو: القرآن، وضمير « كان » عائد إلى القرآن إذ يقول تعالى :

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ ( القرآن )مِنْ عِنْدِ اللهِ ) .

وبناء على هذا يجب أن يكون الضمير في الآية الثانية في قوله:( أَنَّهُ الحَقُّ ) عائداً إلى القرآن، هذا لو اعتبرنا الآيتين مرتبطتين مفاداً ومتحدتين سياقاً فيكون ملخص الآية الثانية هو: أنّ الآيات الآفاقية والأنفسية التي سيريها الله للبشر خير دليل على صدق جميع ما يحتويه القرآن، لا خصوص « وجود الله » أو خصوص « توحيده الذاتي ».

ومعنى ذلك أنّ الآية تعني: أنّ الله سيثبت صدق ما جاء به القرآن بنحو كلي من خلال ما سوف يريه الباري سبحانه من الآيات الآفاقية والأنفسية المرتبطة ببيئة المشركين، والآيات الموجودة في أنفسهم.

إنّ توسّع الإسلام التدريجي في شبه الجزيرة العربية، وتهافت قلعة الشرك والوثنية على أيدي المؤمنين الموحدين، وقيام دولة التوحيد في تلكم الربوع، لهي بجملتها سلسلة من الآيات الآفاقية التي أخبرها بها القرآن، والتي تثبت مصادفة.

أفليست الآيات القرآنية حملت سلسلة من البشائر والوعود والتنبّؤات التي صرح فيها بوقوع تلك الوعود في المستقبل القريب، ومنها إخبار القرآن باستقرار حكم الله على الأرض بأيدي الموحدين المسلمين والذين آمنوا، إذ يقول :

( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرضِ ) (١) .

__________________

(١) النور: ٥٥.

١٨٨

إذن يجب علينا أن ننظر كيف عمل الله بوعده في استخلاف المؤمنين.

إنّ انتشار الإسلام وتوسعه في عهد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده لهو أحد تلك الوعود، والبشائر التي تحقّّقت، وهو بالتالي إحدى الآيات الآفاقية الدالة على صدق أخبار القرآن الغيبية المستقبلية.

كما أنّ هلاك صناديد قريش وأقطابها وزعمائها في بدر وأحد والأحزاب واندحار النظام الكسروي والقيصري هي الأُخرى من الآيات الأنفسية الشاهدة على صدق أخبار القرآن ومغيّباته.

وبعد تحقّق هذين النوعين من الآيات والعلامات يجب أن لا يشك أحد في صحة القرآن الكريم وصدقه، لصدق تنبّؤاته، وصحة دعاويه.

لقد ذكر الله تعالى في ذيل الآية الثانية بواحد من أهم أُسس الدعوة القرآنية، ألا وهو حضور الله في كل مكان وشهادته على كل شيء دون استثناء أو أنّ جميع الأشياء تراه وتشهده، إذ قال :

( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) .

وعندئذ ـ أي وفق النظرية التي ذكرناها ـ لا تكون الآية الثانية ناظرة إلى الاستدلال على وجود الله سبحانه عن طريق الآيات الآفاقية والأنفسية، بل تكون ناظرة إلى صحة دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لتحقّق أخباره.

وهذا التفسير ـ كما قلنا ـ إنّما يكون وجيهاً ومقبولاً إذا ربطنا بين الآيتين وحافظنا على وحدة السياق بينهما.

وأمّا إذا درسنا الآية الثانية بقطع النظر عن الآية المتقدمة عليها، أو احتملنا نزول الآية الثانية مرتين: مرة مع الآية الأُولى وبصحبتها، وأُخرى منفردة وبصورة

١٨٩

مستقلة.

ففي هذه الحالة ( أي في حالة نزولها منفردة مستقلة ) يمكن أن تكون ناظرة إلى دلائل وجود الله في الآفاق والأنفس ويكون ذيلها إشارة إلى برهان ثالث.

وحينئذ يكون مرجع الضمير في قوله( أَنَّهُ الحَقُّ ) هو: الله تعالى، نفسه.

على أنّ ذيل الآية، أعني قوله تعالى:( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ، أنسب مع هذا التفسير.

توضيح الاستدلال

إنّ جميع الأنظمة البديعة الحاكمة على عالم الكون، والسنن السائدة على النجوم، ثابتتها وسيارتها، والأنواع المختلفة من الموجودات التي تعيش على الأرض.

كل ذلك من الدلائل والآيات الآفاقية على وجود الله تعالى.

كما أنّ الأنظمة العجيبة المعقدة الحاكمة في وجود البشر وتكوينه وخلقته منذ نشوئه في رحم الأُم حتى موته أدلة وآيات أنفسية على وجود الله سبحانه.

والنظر إلى هذه الدلائل والآيات في الآفاق والأنفس يقود كل عاقل منصف إلى الإذعان بوجود الله، والاعتراف به.

وهذا هو ما تقصده الآية المطروحة هنا.

إلى هنا تم الاستدلال بصدر الآية على وجوده سبحانه عن طريق آياته الآفاقية، الأنفسية، وبقي الكلام في ذيل الآية، أعني قوله:( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ) ، فيمكن أن يكون إشارة إلى برهان آخر تسمّيه الفلاسفة ببرهان « الصديقين » وننقل كلاماً لابن سينا في المقام.

١٩٠

كلام ابن سينا

لقد قسّم ابن سينا في كتابه « الإشارات » وهو آخر مؤلفاته الفلسفية مضمون هذه الآية الثانية إلى قسمين :

القسم الأوّل قوله:( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفُسِهِمْ ) فيقول فيه ما حاصله: أنّها تعني انّنا سنهتدي من وجود آيات الله في الكون والأنفس إلى وجود الله، فهو ينطوي على البرهان « الإنّي » وهو الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلة كما نستدل بنزول المطر وصوت الرعد والبرق على وجود السحب الداكنة(١) .

القسم الثاني من الآية وهو قوله:( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيء شَهِيدٌ ) ، ففي هذا القسم نكون قد توصلنا عن طريق شهود الله إلى معرفة صفاته، ومن معرفة صفاته إلى أنّ له خلقاً ومخلوقات بهذه الصفة أو تلك(٢) .

__________________

(١) ومما يجب التنبيه عليه هو أنّ الشيخ الرئيس قال في كتاب البرهان في منطق الشفاء: إنّ البرهان الإنّي مما لا يفيد اليقين، وهو ما كان السلوك فيه من المعلول إلى العلّة لتوقف العلم بوجود المعلول على العلم بوجود العلة فلو عكس لدار.

وأمّا الاستدلال من الآيات الآفاقية والأنفسية على وجوده سبحانه وصفاته فعلى وجه آخر لا يسع المقام لبيانه.

(٢) والاستدلال فيه ليس لمّياً وهو الذي يسلك فيه من العلة إلى المعلول، إذ ليس الواجب عز شأنه معلولاً ولا إنّياً، وهو ما يسلك فيه من المعلول إلى العلة أو يتناسب مع السلوك من الآيات الآفاقية والأنفسية إلى خالقها، بل هو نوع آخر شبيه بالاستدلال من بعض اللوازم على بعضها، وهذا واضح خصوصاً إذا قررنا البرهان على الطريقة الصدرائية، إذ فيها يسلك من كون الوجود حقيقة ثابتة بذاتها، على كونه واجباً لذاته.

وإن شئت فسمّه برهاناً انياً تحفظاً على حصر البرهان في اللم والإن كما عليه سيدنا الأُستاذ العلاّمة الطباطبائي ـ دام ظله ـ في تعليقاته على الأسفار: ٦ / ٢٩.

١٩١

وهذا النوع من الاستدلال هو استدلال الصدّيقين، الذي يبدأ بحثه ودراسته في الوجود، فمنه إليه سبحانه وإلى صفاته وأفعاله، ثم يختمه في الكائنات، وسوف نشير في الفصل التالي إلى « برهان الصدِّيقين » على الطريقة السينائية(١) .

واكتفاؤنا ببيان هذا البرهان على الطريقة السينائية فحسب، لأنّ بيانها حسب الطريقة الصدرائية يحتاج إلى ذكر مقدمات خارجة عن هدف هذا الكتاب.

ثم إنّ الحكيم الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي ـ دام ظله ـ قد قرر هذا البرهان بوجه رائع، ربما يكون أفضل مما قرره « صدر المتألّهين »، فمن أراد أن يقف على تقريره، فليراجع تعاليقه على « الأسفار »(٢) ، وكتابه القيم: « أُصول الفلسفة »(٣) .

__________________

(١) ومن أراد أن يقف على تقرير صدر المتألهين فليراجع الأسفار: ٦ / ١٤ ـ ١٨، والمظاهر الإلهية: ١٠، والمشاعر: ٦٨.

(٢) الأسفار: ٦ / ١٤ ـ ١٥.

(٣) أُصول الفلسفة: ٥ / ٢٧٧.

١٩٢

التوحيد الاستدلالي: البرهان الحادي عشر

برهان الصدّيقين

معرفة الله عن طريق معرفة الوجود

يعتقد الفلاسفة المسلمون أنّ بعض الآيات القرآنية ناظرة إلى برهان خاص هو ما اصطلحوا عليه ببرهان الصدّيقين.

وقد تصدّى لتقرير هذا البرهان قطبان من أقطاب العلوم العقلية هما :

١. الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا في كتاب « الإشارات »(١) حيث ذكر هذا البرهان مع مقدماته في ذلك الكتاب في عدة فصول.

وقد أورد المحقّق نصير الدين الطوسي في كتابه الكلامي الشهير المسمّى ب‍ « تجريد الاعتقاد » هذا البرهان باختصار، وقد تصدى العلاّمة الحلي شارح الكتاب المذكور، لشرحه وبيانه.

وإليك نص البرهان كما جاء في تجريد الاعتقاد حيث قال المحقّق الطوسي: « الوجود، إن كان واجباً فهو المطلوب، وإلاّ استلزمه لاستحالة الدور والتسلسل »(٢) .

__________________

(١) ٢ / ١٨ ـ ٢٨ الطبعة الجديدة.

(٢) تجريد الاعتقاد: ١٧٢، طبعة صيدا.

١٩٣

٢. صدر المتألّهين مؤلف الأسفار الأربعة، فقد بيّن هذا البرهان بنحو آخر لا يحتاج إلى أية مقدمات كإبطال « الدور والتسلسل » ثم عد هذا البرهان أفضل البراهين لمعرفة المبدأ تعالى شأنه.

وبهذا الطريق حدثت نقطة عطف في مسألة معرفة الله والطريق إلى ذلك.

وسنكتفي هنا بعرض ذلك البرهان وبيانه وتوضيحه على الطريقة السينائية فحسب للسبب الذي ذكرناه في خاتمة الفصل السابق، موكلين بيان هذا البرهان حسب الطريقة الصدرائية إلى موضع ووقت آخرين.

لقد جاء في كلا التقريرين ( السينائي والصدرائي ) أنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية ناظرة إلى هذا البرهان، وإليك الآيات المذكورة :

( اللهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ واللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ) (١) .

( أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (٢) .

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إلّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) (٣) .

هذا ويمكن أن تكون هناك آيات أُخرى على هذا الصعيد، وها نحن نذكر

__________________

(١) النور: ٣٥.

(٢) فصلت: ٥٣.

(٣) آل عمران: ١٨.

١٩٤

البرهان على الطريقة السينائية :

حاصل البرهان ـ على ما لخصه صدر المتألّهين ـ: انّ الموجود ينقسم بحسب المفهوم إلى واجب وممكن، والممكن لذاته لا يترجّح وجوده على عدمه، فلابد له من مرجّح من خارج، وإلاّ ترجحه بذاته، فكان ترجحّه واجباً بذاته، فكان واجب الوجود بذاته وقد فرض ممكناً، وكذا في جانب العدم فكان ممتنعاً وقد فرض ممكناً وهذا خلف، فواجب الوجود لابد من وجوده.

وبما انّ الموجودات حاصلة فإن كان شيء منها واجباً فقد وقع الاعتراف بالواجب، وإلاّ وقع الانتهاء إليه لبطلان ذهاب السلسلة إلى غير نهاية، وبطلان عودها إلى بدئها لكونه مستلزماً للدور وهو باطل لاستلزامه تقدم الشيء على نفسهوذلك ضروري البطلان فلم يبق إلّا الانتهاء إلى الواجب لذاته وهو المطلوب، وهذا المسلك أقرب المسالك إلى منهج الصدِّيقين، وليس بذلك كما زعم(١) .

وأمّا تفصيل البرهان :

١. لا ريب انّ وراء ذهننا، وتصوّراتنا وجوداً خارجياً، وواقعاً غير قابل للإنكار وإنّ ما يتصوّره الإنسان من الصور الذهنية لها مصاديق خارجية ووجوداً عينياً على صعيد الخارج، وهذا على خلاف ما يتصوره السوفسطائيون من قصر الوجود والواقعية على مجرد (الصور الذهنية)، وانّه ليس وراء ذهننا أي شيء، وأية واقعية، بل هو خيال في خيال.

وهذا الذي قلناه نحن أمر لا ينكره من لديه أقل حظ من الفكر السليم.

__________________

(١) الأسفار: ٦ / ٢٦.

١٩٥

٢. الوجود في أي مرتبة من المراتب لا يخلو إمّا أن يكون واجباً أو يكون ممكناً.

وبتعبير آخر: إمّا أن يكون له ضرورة الوجود ويكون وجوده نابعاً من ذاته ونفسه، أو لا يكون كذلك بل يكون وجوده من غيره، ولا شق ثالث لهما.

٣. كل شيء ليس وجوده من ذاته ومن نفسه، فإنّه محتاج في تحقّقه ووجوده إلى « علة » تمنحه الوجود.

وهذا الأمر، أعني: احتياج الممكن إلى العلة من الأُمور البديهية التي لا يشك فيها من له أدنى حظ من العقل.

٤. الممكنات لا يمكن أن توجد من سلسلة لا تنتهي من العلل والمعلولات، لأنّ ذلك يستلزم « التسلسل ».

كما أنّه لا يمكن أن يؤثر كل من الممكنين في الآخر دون واسطة، أو مع الواسطة فيؤثر كل في الآخر، ويعطي كل واحد منها الوجود للآخر، لأنّ نتيجة ذلك هو الدور، والدور والتسلسل من المحالات العقلية.

هذه هي الأُسس والقواعد التي يقيم عليها ابن سينا برهانه المذكور: « برهان الصدِّيقين ».

وإليك صورة البرهان

لو أمكن أن يشك أحد منّا في شيء، فإنّه لا يمكنه أن يشك أبداً في أنّ هناك ـ خارج أذهاننا ـ واقعاً موجوداً وعالماً كائناً قائماً.

ثم إنّه لا ريب أنّ هذه الموجودات من سماء وأرض وإنسان أو أي شيء

١٩٦

آخر موجود، أمّا أن يكون وجودها من لدن نفسها(١) بحيث لا تحتاج في تحققها على صعيد الوجود الخارجي إلى غيرها، بمعنى أنّه لا تكون معلولة لشيء، بل يكون وجودها نابعاً من ذاتها، أو تكون على خلاف هذا الفرض.

أمّا في الصورة الأُولى فنكون قد اعترفنا بوجود « موجود واجب » يكون وجوده نابعاً من ذاته غير آت من غيره ...، موجود يكون علة دون أن يكون معلولاً لشيء، وغنياً غير فقير، لا يكون وجوده مكتسباً من شيء أو أحد سواه.

وأمّا في الصورة الثانية التي يكون وجود الأشياء مفاضاً عليها من غيرها فنحن نسأل عن ذلك « الغير » هل وجوده نابع من ذاته ونفسه، أي أنّه واجب الوجود ؟

فإن كان كذلك ففي هذه الحالة نكون قد اعترفنا بوجود موجود واجب يسمّى في منطق الإلهيين ب‍: الله.

وأمّا إذا كان هذا الموجود الثاني على نمط الموجود الأوّل في كون وجوده غير نابع من ذاته، وإنّما هو مكتسب من غيره ففي هذه الصورة ننقل السؤال إلى الموجود الثالث ونطرح عليه ما طرحناه على الثاني، وهكذا.

وهذه السلسلة إمّا أن تتوقف عند نقطة معينة، أي عند موجود يكون علة غير معلول ويكون وجوده نابعاً من ذاته لا من غيره فهو المطلوب.

وإمّا إذا لم تتوقف هذه السلسلة من العلل والمعاليل عند حد معين في نقطة معينة ف‍ :

__________________

(١) أي بحيث لا ينفك عنها الوجود ولا تنفك هي عن الوجود، فعندئذٍ اعترفنا بأنّ في العالم واجب الوجود.

١٩٧

إمّا أن تمضي إلى غير نهاية بحيث يكون كل واحد من هذه الممكنات قد اكتسب الوجود من سابقه فحينئذ يلزم أن يكون العالم سلسلة غير متناهية من العلل والمعاليل، ومجموعة من الممكنات دون أن تنتهي إلى موجود واجب الوجود، وهذا هو « التسلسل » الذي سنثبت بطلانه بالأدلة القاطعة والبراهين المحكمة.

وأمّا أن يعود بأن يكون الواقع في المرتبة المتقدمة متأثراً من الواقع في المرتبة المتأخرة، وذلك هو « الدور » الذي ثبت بطلانه أيضاً.

ونمثل للصورة الأخيرة بما إذا مضت السلسلة إلى عشر حلقات ولكن الحلقة العاشرة تكون قد اكتسبت وجودها من سابقتها، فهذا هو « الدور ».

والحاصل أنا إذا نظرنا إلى العينية الخارجية المتيقنة لكل إنسان، فإمّا أن تكون تلك العينية نابعة من ذاتها غير مفاضة من غيرها، فقد اعترفنا بوجود واجب قائم بنفسه غير متعلق بغيره، وهذا ما نقصده من « واجب الوجود ».

وإمّا أن يكون ما نتيقنه من العينية الخارجية مفاضة من غيرها وقائمة بغيرها، فهذا الوجود الثاني إمّا أن يكون مفاضاً من ثالث، فرابع، فخامس إلى غير نهاية، فهذا هو التسلسل الذي سنبرهن على بطلانه، وإمّا أن يتوقف فعندئذٍ :

إمّا أن يكون وجود المتوقف عليه نابعاً من ذاته، فهذا هو الواجب سبحانه وإمّا أن يكون وجوده معلولاً لسابقه فهذا هو « الدور ».

وبتعبير ثالث نقول :

الحاصل أنّ صور المسألة لا تخرج من أربع :

١. إمّا أن تكون العينية الخارجية هي الوجود الأزلي النابع من ذاته غير القائم بغيره، فقد اعترفنا عندئذ بواجب الوجود.

١٩٨

٢. وإمّا أن يكون مفاضاً من غيره، وقائماً بذلك الغير لكن ذلك الغير قائم بنفسه، فقد اعترفنا بواجب الوجود، ولكن في الرتبة الثانية.

٣. وإمّا أن يكون الثاني قائماً بالثالث فالرابع فالخامس إلى غير نهاية، فهذا هو « التسلسل » الباطل.

٤. وإمّا أن يكون الأوّل قائماً بالثاني والثاني قائماً بالأوّل وهذا هو « الدور » الثابت بطلانه واستحالته.

صفوة القول: إنّ الوجود الخارجي ـ مع حذف الصور المستلزمة للدور والتسلسل ـ إمّا أن يكون « الواجب الوجود » إن كان وجوده لذاته، أو يكون مستلزماً لمثل ذلك « الوجود الواجب » إن كان وجوده مكتسباً من غيره.

هذا هو توضيح البرهان المعروف ببرهان الصدّيقين والذي راح ابن سينا يعتز به ويفتخر بابتكاره، ويعتقد بأنّه أفضل برهان على وجود « واجب الله ».

ففي هذا البرهان ـ كما لاحظنا ـ لم يدرس إلّا الوجود نفسه.

فمطالعة الوجود وحده هي التي تقودنا إلى واجب الوجود.

ويسمى هذا البرهان ببرهان الصديقين للاستدلال فيه بالله على نفسه، لا بالغير عليه تعالى، وهذا هو غاية التصديق.

إذ في هذا البرهان لم يتخذ النظام الكوني أو وجود المصنوعات طريقاً لإثبات الخالق.

ولذلك يقول ابن سينا.

« تأمّل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأوّل ووحدانيَّته وبراءته عن الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً

١٩٩

عليه. لكن هذا أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال « الموجود » فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الواجب.

وإلى مثل هذا أُشير في الكتاب الإلهي في قوله سبحانه:( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ ) .

أقول: إنّ هذا حكم لقوم، ثم يقول:( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) إنّ هذا حكم للصدّيقين الذين يستشهدون به لا عليه(١) .

هذا ولإكمال البحث نذكر نقطتين هما :

١. لقد جرى الحديث في البرهان المذكور عن بطلان « الدور والتسلسل » ولابد أن نورد هنا التوضيحات اللازمة لمن لا يعرف شيئاً عن هذين المصطلحين وعلة بطلانهما :

ألف. الدور هو أن نفترض موجودين باسم (أ) و (ب) ونعتبر كلا منهما علة لوجود الآخر.

فعندما نلاحظ (أ) نجد أنّ وجوده متوقف على (ب) بمعنى أنّ (ب) كان موجوداً قبل ذلك ليمكنه أن يوجد (أ).

ثم إذا لاحظنا (ب) نجد أن وجوده متوقف على (أ) بمعنى أنّ (أ) كان موجوداً قبل ذلك ليمكنه ايجاد (ب).

ومن الطبيعي أنّ هذا الفرض باطل قطعاً، لأنّ معنى هذا الفرض هو أن يكون وجود كل واحد منهما متوقفاً على وجود الآخر ومشروطاً بوجوده بحيث يمتنع وجوده ما لم يتحقق وجود ذلك الآخر، لأنّ التحقّق السابق لكل واحد منهما

__________________

(١) الإشارات: ٣ / ٦٦.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

بحوث

١ ـ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمي

صحيح أن القراءة والكتابة تعدّان ـ لكل إنسان ـ كمالا إلّا أنّه يتفق أحيانا ـ وفي ظروف معينة ـ أن يكون من الكمال في عدم القراءة والكتابة ويصدق هذا الموضوع في شأن الأنبياء ، وخاصة في نبوّة خاتم الأنبياء «محمّد»صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إذ يمكن أن يوجد عالم قدير وفيلسوف مطّلع ، فيدّعي النبوّة ويظهر كتابا عنده على أنّه من السماء ، ففي مثل هذه الظروف قد تثار الشكوك والاحتمالات أو الوساوس في أنّ هذا الكتاب ـ أو هذا الدين ـ هو من عنده لا من السماء!.

إلّا أنّنا إذا رأينا إنسانا ينهض من بين أمّة متخلفة ، ولم يتعلم على يد أي أستاذ ، ولم يقرأ كتابا ولم يكتب ورقة ـ فيأتي بكتاب عظيم عظمة عالم الوجود ، بمحتوى عال جدا فهنا يمكن معرفة أن هذا الكتاب ليس من نسج فكره وعقله ، بل هو وحي السماء وتعليم إلهي ، ويدرك هذا بصورة جيدة!.

كما أنّ هناك تأكيدا على أمية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في آيات القرآن الأخرى ، وكما أشرنا آنفا في الآية (١٥٧) من سورة الأعراف إلى أن هناك ثلاثة تفاسير لمعنى «الأميّ» ، وأوضحها وأحسنها هو أنّه من لا يقرأ ولا يكتب.

ولم يكن في محيط الحجاز وبيئته ـ أساسا ـ درس ليقرأ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا معلم ليحضر عنده ويستفيد منه ، وقلنا : إنّ عدد المثقفين الذين كانوا يقرءون ويكتبون في مكّة لم يتجاوز سبعة عشر نفرا فحسب ، ويقال أن من النساء كانت امرأة واحدة تجيد القراءة والكتابة(١) .

وطبيعي في مثل هذا المحيط الذي تندر فيه أدنى مرحلة للعلم وهي القراءة والكتابة ، لا يوجد شخص يعرف القراءة والكتابة ولا يعرف عنه الناس شيئا وإذا ظهر مدع وقال ـ بضرس قاطع ـ إنّني لم أقرأ ولم أكتب ، لم ينكر عليه أحد

__________________

(١) فتوح البلدان للبلاذري طبع مصر ، ص ٤٥٩.

٤٢١

دعاءه ، فيكون عدم الإنكار دليلا جليّا على صدق مدّعاه ، وعلى كل حال فإنّ هذه الكيفية الخاصة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي نوهت عنها الآيات المتقدمة ، إنّما هي لإكمال إعجاز القرآن ، ولقطع السبيل أمام حجج المتذرعين بالأباطيل الواهية ، وفيها تأثير بالغ ونافع جدّا.

أجل ، إنّه عالم منقطع النظير ، لكنّه لم يدرس في مدرسة ، بل تعلّم من وحي السماء!.

تبقى هناك ذريعة واحدة يحتج بها المتذرعون ، وهي أنّ النّبي سافر إلى الشام مرّة أو مرتين «لفترة وجيزة ولغرض التجارة» قبل نبوته ، فيقولون : ربّما اتصل في بعض هاتين السفرتين بعلماء أهل الكتاب وتعلّم منهم هذه المسائل!.

والدليل على ضعف هذا الادّعاء منطو في نفسه ، فكيف يمكن أن يسمع إنسان جميع هذه الدروس وتواريخ الأنبياء والأحكام والمعارف الجليلة ، وهو لم يمض إلى مدرسة ولم يقرأ شيئا ، فيحفظ كل ذلك بهذه السرعة ، ويودعه في ذهنه ، ثمّ يبيّنه ويفصله خلال مدّة ثلاث وعشرين سنة؟! وأن يبدي موقفا مناسبا للحوادث غير المتوقعة والتي لم يسبق لها مثيل.

وهذا يشبه تماما أن نقول مثلا : إنّ فلانا تعلم قائمة العلوم والفنون الطبية كلّها في عدّة أيّام ، وأنّه كان مشرفا على معالجة المرضى في المستشفى الفلاني ، ومستشارا للأطباء ، هذا كلام أقرب إلى المزاح والهزل منه إلى الجد.

وينبغي الالتفات إلى هذه المسألة ، هي أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن بلغ مرحلة النبوّة ، يحتمل أن يكون قادرا على القراءة والكتابة ، حينئذ وذلك بواسطة التعليم الالهي وإن لم يرد في التواريخ أنّه استفاد من هذه الطريقة! ولم يقرأ شيئا بنفسه أو يكتب شيئا بيده ، ولعل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجنب كل ذلك في طول عمره لئلا يتذرع المتذرعون فيثيروا الشكوك بنبوّته! الشيء الوحيد الذي جاء في كتب التأريخ أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كتبه بنفسه ، هو صلح الحديبية الذي جاء في مسند أحمد أن «النّبي أمسك القلم

٤٢٢

بيده وكتب معاهدة الصلح»(١) .

إلّا أنّ جماعة من علماء الإسلام أنكروا هذا الحديث ، وقالوا : إنّ هذا مخالف لصريح الآيات ، وإن اعتقد البعض بأنّه ليس في الآيات صراحة ، لأنّ الآيات ناظرة لحال النّبي قبل بعثته ، فما يمنع أن يكتب النّبي على وجه الاستثناء بعد أن نال مقام النبوّة في مورد واحد ويكون ذلك بنفسه معجزة أخرى من معاجزه!.

إلّا أن الاعتماد في مثل هذه المسألة على خبر الواحد مجانب للحزم والاحتياط ، ومخالف لما ثبتت في علم الأصول حتى لو قلنا أنّ هذا الخبر لا اشكال فيه.(٢)

٢ ـ طريق النفوذ في الآخرين

لا يكفي الاستدلال القوي المتين للنفوذ إلى قلوب الآخرين واكتسابهم بالكلام الحق ، فانّ أسلوب التعامل مع الطرف الآخر وطريقة البحث والمناظرة تترك أعمق الأثر في هذه المرحلة فكثيرا ما يتفق أن يوجد أناس مطّلعون ولهم يد طولى في البحوث العلمية الدقيقة ، إلّا أنّهم قلّما يوفقون للنفوذ إلى قلوب الآخرين ، بسبب عدم معرفتهم بكيفية المجادلة بالتي هي أحسن ، وعدم معرفتهم بالبحوث البنّاءة!.

وبتعبير آخر فإنّ النفوذ الى مرحلة الوعي ـ في المخاطب ـ غير كاف وحده ، بل ينبغي الدخول إلى مرحلة عدم الوعي الذي يمثل القسم الأكبر لروح الإنسان أيضا.

ويستفاد من مطالعة أحوال الأنبياء ، ولا سيما حال النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة الهدىعليهم‌السلام ـ بصورة جيدة أن هؤلاء العظام سلكوا أحسن سبل الأخلاق

__________________

(١) مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٢٩٨.

(٢) ورد في صدد «النّبي الأمي» شرح مفصل آخر ذيل الآية (١٥٧) من سورة الأعراف.

٤٢٣

الاجتماعية وأسس المعارف النفسية والإنسانية ، لأجل تحقيق أهدافهم التبليغية والتربوية!.

وكانت طريقة تعاملهم مع الناس أن يكتسبوهم إليهم بشكل سريع فينجذبوا إليهم ، وإن كان بعض الناس يميل إلى أن يضفي على مثل هذه الأمور ثوب الإعجاز دائما ، إلّا أنّه ليس كذلك ، فلو اتبعنا سنتهم وطريقتهم لاستطعنا بسرعة أن نترك في الناس عظيم الأثر ، وأن ننفذ إلى أعماق قلوبهم.

والقرآن يخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله بصراحة فيقول :( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) أو كثيرا ما يرى أنّ بعضهم بعد ساعات من الجدال والمناظرة ، لا أنه لا يحصل على تقدم في مناقشاته فحسب ، بل على العكس يجعل الطرف الآخر متعصبا ومتشددا في عقيدته الباطلة بصورة أكثر وذلك دليل على أنّه لم يتبع أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن.

فالخشونة في البحث ، وطلب الاستعلاء ، وتحقير الطرف المقابل ، وإظهار التكبر والغرور ، وعدم احترام أفكار الآخرين ، وعدم الجدية في المناقشات والبحوث ، كلها من الأمور التي تبعث على انهزام الإنسان في بحثه ، وعدم انتصاره على الطرف الآخر. لذلك فإنّنا نرى في مباحث الأخلاق الإسلامية بحثا تحت عنوان «تحريم الجدال والمراء» والمراد منه الأبحاث التي لا يطلب من ورائها الحق ، بل المراد منها الاستعلاء وإبراز العضلات لا غير!.

وتحريم الجدال والمراء ـ بالإضافة إلى الجوانب المعنوية والأخلاقية ـ إنّما هو لأنّه لا يحصل من ورائهما على نتيجة فكرية ملحوظة.

والجدال والمراء في حرمتهما متقاربان ، إلّا أن العلماء من المسلمين جعلوا فرقا بين كلّ منهما «فالمراء» معناه إظهار الفضل والكمال ، «والجدال» يراد منه تحقير الطرف المقابل!.

__________________

(١) آل عمران ـ الآية ١٥٩.

٤٢٤

وقالوا : إنّ الجدال هي المراحل الهجومية الأولى في البحث وأمّا المراء فيراد منه الصدّ الدفاعي في الكلام.

كما أنّ هناك قولا بأن الجدال في المسائل العلمية ، أمّا المراء فهو في الأعم منها «وبالطبع فإنه لا تضادّ بين هذه التفاسير جميعا».

وعلى كل حال ، فإنّ الجدال أو البحث مع الآخرين ، تارة يقع بالتي هي أحسن ، وذلك ما بيّناه بالشرائط المتقدمة آنفا ، وينبغي رعايتها بدقّة. وتارة يكون بغير الأحسن ، وذلك في ما لو أهملت الأمور التي ذكرناها في مستهل كلامنا على الجدال ، وجعلت في طيّ النسيان.

ونختتم هذا الكلام بعدة روايات بليغة ونافعة لنتعلم منها :

ففي حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا»(١) .

ونقرأ في حديث آخر أن سليمان النّبيعليه‌السلام قال لولده «يا بني إيّاك والمراء ، فإنّه ليست فيه منفعة ، وهو يهيج بين الأخوان العداوة»(٢) .

٣ ـ الكافرون والظالمون

نواجه في الآيات المتقدمة آنفا هذا التعبير( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ) ومرّة أخرى نواجه المضمون ذاته مع شيء من التفاوت فبدلا من كلمة «الكافرون» جاءت كلمة «الظالمون»( وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) .

والموازنة بين التعبيرين تدلّ على أن المسألة ليست من قبيل التكرار ، بل هي لبيان موضوعين ، أحدهما يشير إلى جانب عقائدي «الكافرون» والآخر يشير إلى جانب عملي «الظالمون».

__________________

(١) سفينة البحار مادة مرأ.

(٢) إحياء العلوم.

٤٢٥

فالآية الأولى تقول : إنّ الذين اختاروا الشرك والكفر بأحكامهم المسبّقة الباطلة وتقليدهم الأعمى لأسلافهم ، لا يرون آية من آيات الله إلّا أنكروها وإن تقبلتها عقولهم»!

أمّا التعبير الثّاني فيقول : إنّ الذين اختاروا بظلمهم أنفسهم ومجتمعهم طريقا يرون فيه منافعهم الشخصية ، وعزموا على الاستمرار في هذه الطريق ، لا يذعنون لآياتنا. لأنّ آياتنا كما أنّها لا تنسجم مع خطهم الفكري ، فهي لا تنسجم مع خطهم العملي أيضا.

* * *

٤٢٦

الآيات

( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) )

التّفسير

أليس القرآن كافيا في إعجازه؟!

الأشخاص الذين لم يذعنوا ويسلّموا للبيان الاستدلالي والمنطقي الذي جاء به القرآن بسبب عنادهم وإصرارهم على الباطل ، ولم يقبلوا بكتاب كالقرآن

٤٢٧

الذي جاء به إنسان أمي كالنّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله دليلا جليّا على حقانية دعوته تذرعوا بحجّة أخرى على سبيل الاستهزاء والسخرية ، وهي أنّه لم لا تأت ـ يا محمّد ـ بمعجزة من المعاجز التي جاء بها موسى وعيسى( وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ولم لم يكن لديه مثل عصى موسى ويده البيضاء ونفخة المسيح؟!

ولم لا يهلك أعداءه بمعاجزه ، كما فعل موسى وشعيب وهود ونوح بأممهم المعاندين؟!.

أو كما يعبر على لسانهم القرآن في الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) .

ومن دون شك فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت لديه معاجز غير القرآن الكريم ، كما أن التواريخ تصرح بذلك أيضا إلّا أن أولئك لم يكن قصدهم من وراء كلامهم الحصول على معجزة ، بل كان قصدهم ـ من جهة ـ أن لا يعتبروا القرآن شيئا مهما وكتابا إعجازيا ، ومن جهة أخرى كانوا يريدون معجزات مقترحة «والمراد من المعجزات المقترحة هو أن يأتي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طبقا لرغبات هذا وذاك بمعاجز خارقة للعادة يقترحونها عليه ، فمثلا يريد منه بعضهم أن يفجّر له الأرض ينابيع من الماء الزلال ، ويريد الآخر منه أن يقلب له الجبال التي في مكّة ذهبا ، ويتذرع الثّالث بأن هذا لا يكفي أيضا بل ينبغي أن يصعد إلى السماء ، وهكذا يجعلون المعجزة على شكل ألعوبة لا قيمة لها ، وآخر الأمر وبعد رؤية كل هذه الأمور يتهمونه بأنه ساحر».

٤٢٨

لذلك فإن القرآن يقول في الآية (١١١) من سورة الأنعام( وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ) .

وعلى كل حال فإنّ القرآن ، للرد على ذرائع هؤلاء المحتالين ذوي الحجج الواهية ، يدخل من طريقين :

فيقول أوّلا في خطابه لنبيه( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ) أي قل لأولئك المعاندين أن الله يدري أية معجزة تناسب أي زمان وأي قوم ، وهو يعلم أي الأفراد هم أتباع الحق ، وينبغي أن يريهم المعاجز الخارقة للعادة ، وأي الأفراد المتذرعون وأتباع هوى النفس؟!

ثمّ يضيف القرآن معقبا أن قل( وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) فمسؤوليتي الإنذار ـ فحسب ـ والإبلاغ وبيان كلام الله ، أمّا المعاجز والأمور الخارقة للعادة فهي بأمر الله.

والجواب الآخر هو قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ) .

فهم يطلبون معاجز مادية «جسمانية» ، والقرآن بحد ذاته أعظم معجزة معنوية

وهم يريدون معجزة عابرة لا تمكث طويلا ، في حين أن القرآن معجزة خالدة تتلى آياته ليل نهار عليهم وعلى الأجيال من بعدهم.

ترى هل يعقل أن يأتي إنسان أمي وحتى لو كان يقرأ ويكتب فرضا بكتاب بهذا المحتوى العظيم والجاذبية العجيبة ، التي هي فوق قدرة الإنسان والبشر ، ثمّ يدعوا أهل العلم متحديا لهم للإتيان بمثله فيعجزون عن الإتيان بمثله؟!

فلو كانوا حقا طلاب معجزة ، فقد آتيناهم بنزول القرآن أكثر ممّا طلبوه إلّا أنّهم لم يكونوا طلاب معجزة ، بل هم متذرعون بالأباطيل!.

وينبغي الالتفات إلى أن التعبير( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ) إنّما يستعمل ـ غالبا ـ في

٤٢٩

موارد يكون الإنسان قد أدّى عملا فوق ما ينتظره الطرف الآخر ، وهو غافل عنه أو يتغافل عنه ، كأن يقول مثلا : لم أحصل على الخدمة الفلانيّة ، في حين أن الخدمة التي قدمت إليه ـ كما في هذه الحال ـ أكبر خدمة ، إلّا أنّه لا يعتبرها شيئا ، ونقول له : أو لم يكفك ما قدمناه؟!

ثمّ بعد هذا كله ينبغي أن تكون المعجزة منسجمة مع ظروف «الزمان والمكان وكيفية دعوة النّبي» فالنّبي الذي يدعوا إلى مبدأ خالد ، ينبغي أن تكون معجزته خالدة أيضا.

والنّبي الذي تستوعب دعوته العالم وتستوعب القرون والأعصار المقبلة ، لا بدّ له من أن يأتي بمعجزة نيّرة «روحية وعقلانية» ليجلب إليه أفكار جميع العلماء والمفكرين ، ومن المسلّم به أن مثل هذا الهدف يتناسب مع القرآن ، لا عصى موسى ولا يده البيضاء.

وفي نهاية الآية يضيف القرآن للتأكيد والتوضيح بصورة أجلى ، فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

«ذلك» هنا إشارة إلى الكتاب المنزل من السماء ، وهو القرآن.

أجل ، إن القرآن رحمة «وسيلة» للذكرى والتذكر أيضا ، فهو للمؤمنين الذين فتحوا قلوبهم بوجه الحقيقة ، والذين يبتغون النور والطريق السويّ هو لهم رحمة إلهية يحسونها بكل وجودهم ، ويشعرون بالاطمئنان والدعة عنده وكلّما قرءوا آياته تذكروا ، فهي لهم ذكرى وأية ذكرى؟!

ولعل الفرق بين «الرحمة» و «الذكرى» أنّ القرآن ليس معجزة وذكرى فحسب ، بل هو إضافة إلى كل ذلك يحتوي على القوانين التي تمنح الرحمة والمناهج التربوية والإنسانية.

فمثلا كانت عصى موسى معجزة فحسب ، إلّا أنّها لم يكن لها أثر في حياة الناس اليومية ، غير أن القرآن معجزة ، هو في الوقت ذاته منهج كامل الحياة ورحمة أيضا.

٤٣٠

أيضا.

ولمّا كان كل مدع بحاجة إلى الشاهد ، فالقرآن يبيّن في الآية الأخرى أن خير شاهد هو الله( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) .

وبديهي أنّه كلّما كان اطلاع الشاهد وشهادته أكثر ، فإنّ قيمة الشهادة تكون أهم ، لذلك يضيف القرآن بعدئذ قائلا :( يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

والآن لنعرف كيف شهد الله على حقانية نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

يحتمل أن تكون هذه الشهادة شهادة عملية ، لأنّه حين يؤتي الله نبيّه معجزة كبرى كالقرآن ، فقد وقع على سند حقانيته وأمضاه.

ترى هل يمكن أن يأتي الله الحكيم العادل بمعجزة على يد كذّاب ، والعياذ بالله! فعلى هذا كانت طريقة إعطاء المعجزة لشخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بنفسها ـ أعظم شهادة على نبوته من قبل الله.

وإضافة للشهادة العملية المتقدمة ، نقرأ في آيات كثيرة من القرآن شهادة قولية في نبوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في الآية (٤٠) من سورة الأحزاب( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، وفي الآية (٢٩) من سورة الفتح أيضا( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ )

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية كانت جوابا على ما قاله بعض رؤوساء اليهود من أهل المدينة ، أمثال «كعب بن الأشرف» وأتباعه ، إذ قالوا : يا محمّد ، من يشهد على أنّك مرسل من قبل الله ، فنزلت هذه الآية( قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ) !

كما يمكن أن تفسّر الآية المتقدمة بتفسير آخر وبيان ثان ، وذلك أنّ المراد من شهادة الله في الآية هي ما سبق من الوعد والذكر في كتب الله السابقة «كالتّوراة والإنجيل» ويعلم بذلك علماء أهل الكتاب بصورة جيدة!.

وفي الوقت ذاته لا منافاة بين التّفسيرات الثلاثة الآنفة الذكر ، ومن الممكن

٤٣١

أن تجتمع هذه التفاسير في معنى الآية أيضا.

وتختتم الآية بنحو من الوعيد والتهديد لأولئك الكفار بالله ، فيقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) .

وأي خسران أعظم من أن يعطي الإنسان جميع وجوده في سبيل لا شيء؟! كما فعله المشركون ، فقد أعطوا قلوبهم وأرواحهم للأوثان والأصنام ووظّفوا جميع قواهم الجسمانية والإمكانات الاجتماعية والفردية في سبيل الإعلام والتبليغ لمذهبهم الوثني وأهملوا ذكر الله ، فلم يعد عليهم هذا إلّا بالضرر والخسران!.

وغالبا ما يشير القرآن إلى هذا الخسران في آياته ، وفي بعض الآيات يرد التعبير بكلمة «أخسر» وهي إشارة إلى أنّه ليس فوق هذا الخسران من خسارة ولا أعظم منه! (راجع آيات السور «هود ٢٢ والنمل ٥ والكهف ١٠٣»).

والمثل الأهمّ هو أنّه قد يتفق للإنسان أحيانا أن يتضرر في معاملته ويخسر رأس ماله ويغلب على أمره ، وقد تتسع هذه الدائرة أحيانا فيقل كاهله بالديون ، وهذه الحالة أسوأ الحالات والمشركون هم في مثل هذه الحالة ، بل قد يكونون سببا لضلال الآخرين وخسرانهم ، وكما يصطلح عليه : «الفشل سلسلة متصلة»(١) .

في الآيات المتقدمة عرض قسمان من ذرائع الكفار قبال دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أجيب عنهما :

الأوّل : كان قولهم : لم لا يأتي بمعجزة؟!

فأجاب القرآن : إن هذا الكتاب المنزل من السماء هو أعظم معجزة.

والثّاني : سؤالهم : من الشاهد على صدق دعواك وحقانية النبوة عندك؟

فأجاب القرآن : كفى بالله شهيدا بيني وبينكم يعلم ما في السماوات

__________________

(١) لنا في هذا الصدد بحث مفصل بيناه في ذيل الآية (١٠٣) من سورة الكهف.

٤٣٢

والأرض.

أمّا في الآية التالية فإشارة إلى الذريعة الثّالثة إذ تقول :( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ) إذ يقولون : لو كان عذاب الله حقا على الكافرين فلم لا يأتينا!؟

فيجيب القرآن على هذه الذريعة بثلاثة أجوبة.

الأوّل :( وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ) .

وهذا الزمان المعين «الأجل» إنّما هو لهدف أصلي ، للارعواء عن باطلهم وتيقظهم ، أو إتمام الحجة عليهم ، فالله لا يستعجل أبدا في أمره ، لأنّ العجلة خلاف حكمته.

والثّاني : إن أولئك الذين يتذرعون بهذا القول ما يدريهم لعل العذاب يأخذهم على حين غرة من أنفسهم( وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (١) .

وبالرغم من أن موعد العذاب ـ في الواقع ـ معين ومقرّر إلّا أن المصلحة تقتضي ألّا يطّلعوا عليه ، وأن يأتيهم دون مقدمات ، لأنّه لو عرف وقته لكان باعثا على تجرؤ الكفار والمذنبين وجسارتهم وكانوا يواصلون الذنب والكفر إلى آخر لحظة وحين يأزف الوعد بالعذاب فإنهم سيتجهون بالتوبة ـ جميعا ـ الى الله وينيبون إليه.

والحكمة التربوية لمثل هذا العقاب تقتضي أن يكتم موعده ، لتكون كل لحظة ذات أثر بنفسها ، ويكون الخوف والاستيحاش منها عاملا على الردع ، ويتّضح ممّا قلناه ـ ضمنا ـ أنّ المراد من جملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) لا تعني أنّهم لا يدركون أصل وجود العذاب. وإلّا فإنّ فلسفة العذاب والحكمة منه لا يكون لها أثر ، بل المراد أنّهم لا يعرفون اللحظة التي ينزل فيها العذاب ولا مقدماته ، وبتعبير آخر : إنّ العذاب ينزل عليهم كالصاعقة وهم غافلون.

ويظهر من آيات متعددة من القرآن أن التذرع بالحجج الواهية لم يكن

__________________

(١) «البغتة» مشتقة من «البغت» على زنة «وقت» ومعناه التحقق المفاجئ وغير المنتظر لأمر.

٤٣٣

منحصرا بأهل مكّة ، بل كثير من الأمم السابقين يلتجئون إلى مثل هذه الذريعة ، ويصرون على تعجيل العقوبة والعذاب!.

وأخيرا فإنّ الجواب القرآني الثّالث يتبيّن في الآية إذ يقول :( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

فإذا تأخر عنهم عذاب الدنيا ، فإن عذاب الآخرة واقع لا محالة ، ومحيط بهم تماما وسيصيبهم حتما بحيث أنّ القرآن يذكره بصورة أمر فعليّ (وكأن جهنّم الآن محيطة بهم).

ويوجد تفسير آخر أكثر دقّة لهذه الآية ، وهو أنّ جهنم محيطة ، الآن فعلا بالكافرين ، من جهتين ـ بالمعنى الواقعي للكلمة.

الجهة الأولى : إنّها جهنم الدنيا ، إذ هم على أثر شركهم وتلوثهم بالذنب يحترقون بجهنم التي أعدّوها لأنفسهم ، جهنم الحرب وسفك الدماء ، جهنم النزاع والشقاق والاختلافات ، جهنم القلق والفزع ، جهنم الظلم ، وجهنم الهوى والهوس والعناد.

والجهة الثّانية : طبقا لظاهر الآيات في القرآن فإنّ جهنم موجودة فعلا ، وكما تقدم سابقا فإنّ جهنّم موجودة في باطن الدنيا ، وبهذا فهي محيطة بهم على نحو الحقيقة وفي سورة التكاثر إشارة لها أيضا( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) الآيات ٥ ـ ٧ من سورة التكاثر(١) .

ثمّ يضيف القرآن( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

يمكن أن تكون هذه الآية توضيحا لإحاطة عذاب جهنّم في يوم القيامة بالكفار ، ويمكن أن تكون بيانا مستقلا لذلك العذاب الأليم لهم الذي يحيط بهم

__________________

(١) لمزيد الإيضاح يراجع ـ في هذا الصدد تفسير الآية (١٢٣) من سورة آل عمران.

(٢) يرى بعض المفسّرين أن كلمة «يوم» متعلقة بفعل محذوف مقدر ، وقال بعضهم : هو متعلق بـ «محيطة».

٤٣٤

اليوم على أثر أعمالهم ، وفي غد يتجلى هذا العذاب بوضوح ويكون محسوسا ظاهرا.

وعلى كل حال فذكره لإحاطة العذاب( مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) وعدم ذكره لبقية الجهات ـ في الحقيقة ـ هو لوضوح المطلب ، وإضافة إلى ذلك فإن نار العذاب إذا امتدت ألسنتها من تحت الأرجل ونزلت على الرؤوس ، فإنها تحيط بجميع البدن أيضا وتغشى جميع أطرافه وجوانبه.

وأساسا فإنّ هذا التعبير مستعمل في اللغة العربية ، إذ يقال مثلا : إن فلانا غارق من قرنه إلى قدمه في مستنقع الفسق وعدم العفة ، أى إن جميع وجوده غارق في هذا الذنب ، وبهذا يرتفع الإشكال عند المفسّرين في ذكر القرآن للجهة العليا «من فوقهم» والجهة السفلى «من تحتهم» والسكوت عن الجهات الأربع الأخرى ، ويتّضح المراد منه بالتقرير الذي بيّناه!

أمّا جملة( ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التي يظهر أن قائلها هو الله تعالى ، فهي بالإضافة إلى أنّها نوع من العقوبة النفسية لمثل هؤلاء الأشخاص ، فهي كاشفة عن هذه الحقيقة ، وهي أن عذاب الله ليس إلّا انعكاسا للأعمال التي يقوم بها الإنسان نفسه في النشأة الآخرة!.

* * *

ملاحظات

١ ـ دلائل إعجاز القرآن :

لا شك أنّ القرآن أعظم معجزة للإسلام معجزة بليغة ، خالدة وباقية ، مناسبة لكل عصر وزمان ولجميع الطبقات الاجتماعية ، وقد ذكرنا بحثا مفصلا عن إعجاز القرآن في ذيل الآية ٢٣ من سورة البقرة ، ولا حاجة إلى إعادته هنا.

٤٣٥

٢ ـ التشبث بالحيل لإنكار المعجزات :

يصرّ بعض العلماء المتأثرين بالغرب ـ الذين يميلون إلى أن لا يعتدّوا بظواهر الأنبياء الخارقة للعادة ـ أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس له معجزة غير القرآن ، وربّما يرون القرآن ليس معجزا ، في حين أنّ مثل هذا الكلام مخالف لآيات القرآن ، وللرّوايات المتواترة ، وللتأريخ الإسلامي أيضا.

«وقد بيّنا تفصيل هذا الكلام في ذيل الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الإسراء».

٣ ـ المعجزات الاقتراحيّة :

كانت أساليب المخالفين للأنبياء دائما هي اقتراحهم المعجزات التي يرتؤونها ، وكانوا بعملهم هذا يحاولون أن يحطّوا من قيمة المعجزات وعظمتها ويجروها إلى الابتذال من جهة ، وأن تكون في أيديهم ذريعة إلى عدم قبول دعوة الأنبياء من جهة أخرى ، لكن الأنبياء لم يستسلموا لهذه المؤامرات أبدا وكما رأينا في إجابتهم آنفا ، فإن المعجزة ليست باختيارهم لتكون مطابقة «لميلكم وهوسكم» كل يوم وكل ساعة نأتي بمعجزة كما تريدون بل المعاجز هي بأمر الله فحسب ، وهي خارجة عن أمرنا.

«وقد ذكرنا شرحا حول المعجزة الاقتراحية في ذيل الآية ٢٠ من سورة يونس».

* * *

٤٣٦

الآيات

( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) )

سبب النّزول

يعتقد كثير من المفسّرين أنّ الآية ـ من هذا المقطع ـ نزلت في شأن المؤمنين الذين كانوا تحت ضغط الكفار الشديد ، حتى أنّهم لم يستطيعوا أن يؤدوا وظائفهم الإسلامية ، فجاءت هذه الآية لتأمرهم بالهجرة من هذه الأرض.

كما يعتقد بعض المفسّرين أيضا أنّ الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) وهي الآية الأخيرة ـ من المقطع محل البحث نزلت في شأن بعض المؤمنين الذين كانوا يتعرضون لأذى أعدائهم في مكّة! وكانوا يقولون لو هاجرنا إلى المدينة فليست لدينا دار ولا أرض ، من يطعمنا ويسقينا هناك؟ فنزلت الآية( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ).

٤٣٧

التّفسير

لا بدّ من الهجرة :

حيث أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن مواقف المشركين المختلفة من الإسلام والمسلمين ، ففي الآيات محل البحث يقع الكلام عن حال المسلمين ومسئولياتهم قبال المشاكل المختلفة ، أي مشاكل أذى الكفار وضغوطهم وقلّة عدد المسلمين وما إلى ذلك ، فتقول الآية الأولى :( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) .

وبديهي أنّ هذا ليس قانونا خاصا بمؤمني أهل مكّة ، ولا يحدد سبب النّزول مفهوم الآية الواسع المنسجم مع الآيات الأخرى فعلى هذا لو سلب الإنسان حريته في أي عصر أو زمان ومكان بشكل كامل ، فإنّ بقاءه هناك لا يجلب عليه إلّا الذل «والخسران والضرر» والابتعاد عن أداء المناسك الإلهية ، فوظيفة الإنسان المسلم عندئذ الهجرة إلى منطقة «حرّة» يستطيع أن يؤدي فيها وظائفه الإسلامية بحرية تامّة أو حرية نسبية.

وبتعبير آخر : إنّ الهدف من خلق الإنسان أن يكون عبدا لله ، عبودية هي في الواقع سبب للحرية والكرامة والإنتصار في جميع الجهات وجملة( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ) إشارة إلى هذا المعنى ، كما ورد هذا التعبير في الآية (٥٦) من سورة الذاريات( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

فمتى ما أصبح هذا الهدف الأساسي والنهائي مستحيلا ، فلا سبيل عندئذ إلّا الهجرة ، فأرض الله واسعة ، وينبغي أن يهاجر الفرد نحو منطقة أخرى ، ولا يكون أسيرا لمفاهيم «القبلية والقومية والوطنية والبيت والأهل» في مثل هذه الموارد ، ولا يذل الإنسان نفسه من أجلها ، فإنّ احترام هذه الأمور هو فيما لو كان الهدف الأصلي قائما غير مخاطر به ، أمّا إذا أصبح الهدف الأصلي «عبادة الله» مخاطرا به فلا سبيل إلّا الهجرة!

٤٣٨

وفي مثل هذه الموارد يقول الإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «ليس بلد بأحق بك من بلدك ، خير البلاد ما حملك»(١) .

صحيح أنّ حب الوطن والعلاقة بمسقط الرأس جزء من طبيعة كل إنسان ، ولكن قد يتفق أن تحدث في حياة الإنسان مسائل أهم من تلك الأمور ، فتجعلها تحت شعاعها وتكون أولى منها.

وفي مجال موقف الإسلام ونظرته من مسألة الهجرة والرّوايات الواردة في هذا الصدد ، كان لنا بحث مفصل في ذيل الآية (١٠٠) من سورة النساء.

والتعبير بـ( يا عِبادِيَ ) هو أكثر التعابير رأفة وحبّا للناس من قبل خالقهم.

وتاج للفخر أعلى حتى من مقام الرسالة والخلافة ، كما نذكر ذلك في التشهد حيث نقدم العبودية على الرسالة دائما «أشهد أن محمّدا عبده ورسوله».

من الطريف أنّه حين خلق الله آدم لقبه بـ «خليفة الله» ، وهو فخر لآدم ، إلّا أن الشيطان لم ييأس من التسويل والوسوسة له ، فكان ما كان ، ولكن حين بوأه مقام العبودية أذعن الشيطان له ويئس من إغوائه وقال :( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) .(٢)

والله سبحانه ضمن هذا الأمر فقال :( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) .(٣)

ويتّضح ممّا ذكرناه ـ بصورة جيدة ـ أنّ المراد بالعباد ليس جميع الناس ـ في الآية محل البحث ـ بل هم المؤمنون منهم فحسب ، وجملة( الَّذِينَ آمَنُوا ) جاءت للتأكيد والتوضيح(٤) .

وحيث أنّ البعض بقوا في ديار الشرك ، ولم يرغبوا بالهجرة بذريعة أنّهم

__________________

(١) الكلمات القصار ، رقم ٤٤٢.

(٢) سورة ص الآيتان ٨٢ ، ٨٣.

(٣) سورة الحجر ، الآية ٤٢.

(٤) جملة «فإياي فاعبدون» عطف على جزاء جملة الشرط المحذوف والتقدير «إن ضاقت بكم الأرض فهاجروا منها إلى غيرها وإيّاي فاعبدون».

٤٣٩

يخشون الخروج من ديارهم ويخافون أن يحدق بهم الموت بسبب الأعداء أو الجوع أو العوامل الأخرى التي تهددهم إضافة إلى فراق الأحبّة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء ، فإنّ القرآن يردّهم بجواب جامع قائلا :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) .

فهذه الدنيا ليست بدار بقاء لأي أحد ، فبعض يمضي عاجلا ، وبعض يتأخر ، ولا بدّ أن يذهبوا جميعا ، وعلى كل حال ففراق الأحبة والأبناء والأقارب لا بدّ أن يقع ويتحقق ، فعلام يبقى الإنسان في ديار الشرك من أجل المسائل العابرة وأن يحمل عبء الذل والأسر على كاهله ، أكلّ ذلك من أجل أن يبقى بضعة أيّام أو أكثر؟!

ثمّ بعد هذا كلّه ينبغي أن تخافوا أن يدرككم الموت في ديار الكفر والشرك قبل أن تبلغوا دار الإسلام ، فما أشد ألم مثل هذا الموت وما أتعسه!

ثمّ لا تظنوا أن الموت نهاية كل شيء ، فالموت بداية لحياة الإنسان الأصلية ، لأنّكم جميعا( إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) إلى الله العظيم ، وإلى نعمه التي لا حدّ لها ولا انتهاء لأمدها.

والآية التالية تبيّن جانبا من هذه النعم فتقول :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (١) .

فهم في قصور تحيط بها أشجار الجنّة من كلّ جانب ، الأنهار المختلفة التي لكلّ منها طعمه ولونه ، طبقا لآيات القرآن الاخر ، وهي ما بين الأشجار وتحت تلك القصور جارية أبدا (لاحظوا أن «غرف» جمع غرفة ، ومعناها البناء المرتفع المشرف على أطرافه).

والامتياز الآخر لغرف الجنّة أنّها ليست كغرف الدنيا وقصورها ومنازلها التي ما أن يضع الإنسان فيها قدمه حتى يسمع نداء «الرحيل» ، فغرف الجنّة دائمة

__________________

(١) «لنبوئنهم» من مادة «تبوئة» على زنة «تذكرة» معناها إعطاء السكنى للإقامة والبقاء الدائم.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592