الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180664 / تحميل: 6347
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والظاهر أن القضية ذاتها كانت عجيبة عند سليمان ، بحيث تحذّر نملة صويحباتها من النمل تحذرهنّ من تحطيم سليمان وجنوده إياهن وهم لا يشعرون :فضحك من أجلها!

وقال بعضهم : كان ضحك سليمان سرورا منه بأن عرف أن النمل تعترف بتقواه وعدالته وتقوى جنوده وعدالتهم.

وقال بعضهم : كان ضحكه وتبسمه لأنّ الله أعطاه هذه القدرة ، وهي أنّه برغم جلجلة جيشه ولجبه فإنّه التفت إلى صوت النملة مخاطبة بقية النمل فلم يغفل عنها.

وعلى كل حال ، فإن سليمان توجه نحو الله داعيا وشاكرا مستزيدا فضله( وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ ) (١) .

أي ، لتكون لي القدرة أن استعمل هذه النعم جميعها في ما أمرتني به وما يرضيك ، ولا أنحرف عن طريق الحقّ فإن أداء شكر هذه النعم لا يكون إلّا بتوفيقك وإعانتك.( وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) وهو يشير إلى أن بقاء هذا الجيش وحكومته وتشكيلاتها الواسعة غير مهم بالنسبة إليه ، بل المهم أن يؤدي عملا صالحا يرضي به ربّه ، وحيث أن «أعمل» فعل مضارع فهو دليل على طلب استمرار التوفيق من قبل الله له.

والطلب الثّالث الذي طلبه سليمان من ربّه ، كما حكته الآية ، هو أن يجعله في زمرة الصالحين ، إذ قال :( وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ )

* * *

__________________

(١) «أوزعنى» من مادة (إيزاع) ومعناه «الإلهام» ، أو المنع عن الانحراف ، أو إيجاد العشق والتعلق ، إلّا أن أغلب المفسّرين اختاروا المعنى الأوّل.

٤١

بحوث

١ ـ معرفة سليمان بلغة الحيوانات ومنطقها

ليس لنا كثير معرفة بعالم الحيوانات وما يزال الغموض أو الإبهام يكتنف هذا العالم ويلقي عليه ظلاله ، بالرغم من التقدم العلمي في هذا المجال.

إنّنا نرى آثار ذكاء الحيوانات ومهارتها في كثير من أعمالها فبناء خلايا النحل بشكلها المنظّم الدقيق ، ودقة النمل في جميع ما يحتاج للشتاء ، وكيفية ذخيرته ومذخره! ودفاع الحيوانات عن نفسها عند مواجهتها العدوّ ، وحتى معرفتها بكثير من الأمراض ، والعثور على بيوتها وأوكارها من الأماكن البعيدة ، وقطع المسافات الطويلة للوصول إلى هدفها وتوقّعها عن حوادث المستقبل وأمثالها.

كل هذه الأمور تدل على أن في دنيا الحيوانات المجهولة كثيرا من الوسائل الغامضة التي لا نعرف حلّها!.

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ كثيرا من الحيوانات تقوم بأعمال مذهلة نتيجة للتعلم والتربية يعجز عنها حتى الإنسان.

إلّا أنّه ليس من الواضح أنّ هذه الحيوانات إلى أية درجة هي خبيرة بدنيا الناس! ترى هل تعلم الحيوانات واقعا : من نحن؟! وما نعمل؟ وقد لا نعهد في هذه الحيوانات ذكاء بهذا المستوى ، إلّا أن هذا لا يعني نفيه وسلبه عنها.

فعلى هذا الحساب إذا كنّا قرأنا في القصّة السابقة أن النمل علم بمجيء سليمان وجنوده ، وحذر من البقاء ، وأنّه يجب التوجه نحو مساكنه لئلا يحطمه سليمان وجنوده وسليمان عرف هذا الموضوع تماما فلا مجال للعجب.

ثمّ بعد هذا فإن حكومة سليمان ـ كما قلنا آنفا ـ كانت خارقة للعادات مقرونة بالمعاجز ، فعلى هذا الأساس أبدى بعض المفسّرين اعتقادهم بأن هذا

٤٢

المستوى من الاطلاع والمعرفة ـ من قبل فئة من الحيوانات في عصر سليمان ، هو بنفسه إعجاز خارق للعادة ، ولا يمنع أن لا نرى ذلك عينه في سائر العصور والقرون.

والغرض أنّه لا دليل عندنا على حمل قصّة سليمان والنمل ، أو سليمان والهدهد ، على الكناية أو لسان الحال ، مع إمكان حفظ الظاهر وحمله على المعنى الحقيقي(١) !

٢ ـ سليمان وإلهامه الشكر لله

إن واحدة من أفضل العلامات لمعرفة الحكام الإلهيين وتمييزهم عن الحكام الجبابرة ، هي أن الجبابرة حين يصلون إلى القدرة يغرقون في الغرور والغفلة ، وينسون القيم الإنسانية كلّها ويندكّون بشدّة في أنانيتهم!

إلّا أن الحكام الإلهيين حين ينالون القدرة يحسّون بأعباء المسؤولية فيتوجهون نحو الله أكثر من أي وقت مضى ، ويسألونه العون والقدرة على أداء رسالتهم كما أن «سليمان» بعد أن وصل إلى تلك القدرة. كان أهم شيء عنده أن يسأل الله الشكر على نعمه ، والإفادة من هذه المواهب في مسير رضاه وسعادة عباده!.

وممّا يلفت النظر أن يبدأ طلبه بعبارة( أَوْزِعْنِي ) ومفهومه الإلهام الوجداني وإعداد القوى الباطنية كلها لأداء هذا الهدف الكبير. ومعناها : اللهم تفضل علي بقدرة وطاقة تجعلني أعبئ كل قواي الداخلية لأداء شكرك ، وأداء ما عليّ من مسئولية ودلّني على السبيل إليك ، لأنّ الطريق طويل صعب محفوف

__________________

(١) تحدثنا في تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام عن هذا الشأن أيضا

٤٣

بالمخاوف والمخاطر طريق أداء حقوق جميع الناس في مثل هذه الحكومة الواسعة.

إنّه لا يطلب الإيزاع على شكر نعم الله عليه فحسب ، بل يطلب في الوقت ذاته أن يؤدي الشكر على المواهب والنعم التي أنعمها الله على والديه لأنّ كثيرا من مواهب وجود الإنسان يرثها عن والديه وممّا لا شك فيه أن الإمكانات التي يمنحها الله للوالدين تعين الأبناء كثيرا في سبيل الوصول لأهدافهم.

٣ ـ سليمان والعمل الصالح

ممّا يلفت النظر أن سليمان رغم حكومته وسلطنته التي لا نظير لها ، وتلك القدرة الواسعة ، إلّا أنّه يطلب من الله يوفقه للعمل الصالح باستمرار ، وأهم من ذلك وأسمى أن يكون في زمرة عباده الصالحين.

ويستفاد من هذا التعبير :

أوّلا : أنّ الهدف النهائي من نيل القدرة هو أداء العمل الصالح ، العمل الجدير القيّم وكل ما سواه يعدّ مقدمة له!.

والعمل الصالح مقدمة ـ أيضا ـ لنيل رضا الله ـ الذي هو الهدف النهائي وغاية الغايات.

ثانيا : أنّ الدخول في زمرة «الصالحين» مرحلة أسمى من مرحلة أداء العمل الصالح ، لأنّ الأوّل يعني صلاح الذات ، والثّاني صلاح العمل «لا حضوا بدقّة».

وبتعبير آخر : قد يقوم الإنسان بعمل صالح ، إلّا أن هذا المعنى لا يعدّ جزءا من ذاته وروحه ونسيج وجوده ، فسليمانعليه‌السلام يطلب من الله أن يشمله بعنايته إلى درجة يتجاوز بها مرحلة كونه يعمل صالحا ، لينفد الصلاح إلى أعماق وجوده وروحه ، ولا يمكن تحقق هذا إلّا برحمة الله.

٤٤

فكم هو عزيز وغال أن يكون الإنسان عبدا صالحا لله ، بحيث يطلب سليمان من ربّه أن يدخله في عباده الصالحين ، على الرغم من جاهه وحشمته وجلاله الذي لا يشك فيها أحد ، وأن يحفظه الله من العثرات والزلات في كل آن ، وخاصّة ما قد يصدر من الإنسان وهو على رأس هيئة عظيمة وتشكيلات واسعة!

* * *

٤٥

الآيات

( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) )

التّفسير

قصّة الهدهد وملكة سبأ :

يشير القرآن في هذا القسم من الآيات إلى جانب آخر من حياة سليمانعليه‌السلام المدهشة ، وما جرى له مع الهدهد وملكة سبأ.

٤٦

فيقول أوّلا :( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ) .

وهذا التعبير يكشف هذه الحقيقة ، وهي أنّه كان يراقب وضع البلاد بدقّة ، وكان يتحرى أوضاع حكومته لئلا يخفى عليه غياب شيء ، حتى لو كان طائرا واحدا.

وما لا شك فيه أنّ المراد من الطير هنا هو الهدهد ، لأنّ القرآن يضيف استمرارا للكلام( فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ) .

وهناك كلام بين المفسّرين في كيفية التفات سليمان إلى عدم حضور الهدهد.

فقال بعضهم : كان سليمانعليه‌السلام عند ما يتحرك تظلل الطير بأنواعها فوق رأسه فتكون مثل الخيمة ، وقد عرف غياب الهدهد من وجود ثغرة في هذا الظل!.

وقال بعضهم : كان الهدهد مأمورا من قبل سليمان بالتقصّي عن الماء كلما دعت الحاجة إليه وعند ما دعت الحاجة إلى الماء في هذه المرّة لم يجد الهدهد فعرف غيابه.

وعلى كل حال ، فهذا التعبير( ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ) ثمّ قوله :( أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ) لعله إشارة إلى أن غياب الهدهد هل كان لعذر مقبول أو لغير عذر؟

وعلى أيّة حال ، فان حكومة منظمة ومقتدرة يجب أن تجعل كل شيء يجري داخل اطار الدولة تحت نظرها ونفوذها حتى وجود طائر واحد وغيابه ، لا بدّ أن لا يخفى عن علمها ونظرها وهذا درس كبير لمن أراد التدبير.

ومن أجل أن لا يكون حكم سليمان غيابيا ، وأن لا يؤثر غياب الهدهد على بقية الطيور ، فضلا عن الأشخاص الذين يحملون بعض المسؤوليات ، أضاف «سليمان» قائلا:( لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

والمراد من «السلطان» هنا هو الدليل الذي يتسلط به الإنسان من أجل إثبات قصده ، وتأكيد هذا اللفظ بـ «مبين» هو أنّه لا بد لهذا الفرد المتخلف من

٤٧

إقامة دليل واضح وعذر مقبول لتخلفه!

وفي الحقيقة فإنّ سليمان قبل أن يقضي غيابيا ذكر تهديده اللازم في صورة ثبوت التخلّف وحتى هذا التهديد جعله في مرحلتين تناسبان الذنب مرحلة العقاب بما دون الاعدام ، ومرحلة العقاب بالإعدام.

وقد برهن «سليمان» ضمنا أنّه ـ حتى بالنسبة للطائر الضعيف ـ يستند في حكمه إلى المنطق والدليل ، ولا يعوّل على القوّة والقدرة أبدا.

ولكن غيبة الهدهد لم تطل( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ) عاد الهدهد وتوجه نحو سليمان :( فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) .

وكأن الهدهد قد رأى آثار الغضب في وجه سليمان ، ومن أجل أن يزيل ذلك التهجم ، أخبره أوّلا بخبر مقتضب مهم الى درجة أن سليمان نفسه كان غير مطّلع عليه ، برغم ما عنده من علم ، ولما سكن الغضب عن وجه سليمان ، فصّل الهدهد له الخبر ، وسيأتي بيانه في الآيات المقبلة.

وممّا ينبغي الالتفات إليه أنّ جنود سليمان ـ حتى الطيور الممتثلة لأوامره ـ كانت عدالة سليمان قد أعطتهم الحرية والأمن والدعة بحيث يكلمه الهدهد دون خوف وبصراحة لا ستار عليها فيقول :( أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ) .

فتعامل الهدهد «وعلاقته» مع سليمان لم يكن كتعامل الملأ المتملقين للجبابرة الطغاة إذ يتملقون في البدء مدة طويلة ، ثمّ يتضرعون ويعدون أنفسهم كالذرّة أمام الطود ، ثمّ يهوون على أقدام الجبابرة ويبدون حاجتهم في حالة من التضرع والتملق ، ولا يستطيعون أن يصرّحوا في كلامهم أبدا ، بل يكنّون كناية أرق من الورد لئلا يخدش قلب السلطان غبار كلامهم!!.

أجل ، إنّ الهدهد قال بصراحة : غيابي لم يكن اعتباطا وعبثا بل جئتك بخبر يقين «مهم» لم تحط به! وهذا التعبير درس كبير للجميع ، إذ يمكن أن يكون موجود صغير كالهدهد

٤٨

يعرف موضوعا لا يعرفه أعلم من في عصره ، لئلا يكون الإنسان مغرورا بعلمه حتى لو كان ذلك سليمان مع ما عنده من علم النبوّة الواسع.

وعلى كل حال ، فإنّ الهدهد أخذ يفصّل لسليمان ما حدث فقال :( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ) .

لقد بيّن الهدهد لسليمان بهذه الجمل الثلاث جميع مواصفات هذا البلد تقريبا ، وأسلوب حكومته!

فقال أوّلا : إنّه بلد عامر فيه جميع المواهب والإمكانات ، والآخر إنّني وجدت امرأة في قصر مجلل تملكهم ، والثّالث : لها عرش عظيم ـ ولعله أعظم من عرش سليمان ـ لأنّ الهدهد كان رأى عرش سليمان حتما ، ومع ذلك يصف عرش هذه الملكة بأنّه عظيم.

وقد أفهم الهدهد بكلامه هذا سليمان أنّه لا ينبغي أن تتصور أن جميع العالم تحت «نفوذ أمرك وحكومتك»! وأن عرشك هو وحده العرش العظيم

ولما سمع سليمانعليه‌السلام كلام الهدهد غرق في تفكيره ، إلّا أن الهدهد لم يمهله طويلا فأخبره بخبر جديد خبر عجيب ، مزعج مريب ، إذ قال :( وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) فكانوا يفخرون بعبادتهم للشمس وبذلك صدّهم الشيطان عن طريق الحق( فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) .

وقد غرقوا في عبادة الأصنام حتى أنّي لا أتصور أنّهم يثوبون إلى رشدهم( فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) .

وهكذا فقد بين الهدهد ما هم عليه من حالة دينية ومعنوية أيضا ، إذ هم غارقون في الشرك والوثنية والحكومة تروّج عبادة الشمس والناس على دين ملوكهم.

معابدهم وأوضاعهم الأخرى تدل على أنّهم سادرون في التيه ، ويتباهون

٤٩

بهذا الضلال والانحراف ، وفي مثل هذه الظروف التي يرى فيها الناس والحكومة على خط واحد ، فمن البعيد إمكان هدايتهم.

ثمّ أضاف الهدهد قائلا :( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ ) (١) .

وكلمة «خبء» على وزن (صبر) معناها كل شيء خفي مستور ، وهي هنا إشارة إلى إحاطة علم الله بغيب السماوات والأرض ، أي : لم لا يسجدون لله الذي يعلم غيب السماوات والأرض وما فيهما من أسرار؟!

وما فسّره بعضهم بأن الخبء في السماوات هو الغيث ، والخبء في الأرض هو النبات ، فهو ـ في الحقيقة ـ من قبيل المصداق البارز.

والطريف في الآية أنّها تتكلم أوّلا عما خفي في السماوات والأرض ، ثمّ تتكلم عن أسرار القلوب!.

إلّا أنّه لم استند الهدهد من بين جميع صفات الله إلى علمه بغيب العالم وشهوده كبيره وصغيره؟!

لعل ذلك لمناسبة أن سليمان ـ بالرغم من جميع قدرته ـ كان يجهل خصائص بلد سبأ ، فالهدهد يقول : ينبغي الاعتماد على الله الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض.

أو لمناسبة أنّه ـ طبقا لما هو معروف ـ للهدهد حس خاص يدرك به وجود الماء في داخل الأرض لذلك يتكلم عن علم الله الذي يعلم بكل خافية في عالم الوجود.

وأخيرا يختتم الهدهد كلامه هكذا( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) .

__________________

(١) كلمة «ألّا» مركبة من (أن ولا) كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسّرين ، وهي متعلقة بجملة (فصدهم) أو «زين لهم الشيطان» وقدروا لها اللام فتكون الجملة هذا النحو من التقدير «صدّهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله» إلّا أن الظاهر أن (ألّا) حرف تحضيض ومعناه (هلّا) وكما قلنا في المتن فإنّ هذه الجملة من كلام الهدهد تعقيبا على ما سبق ، وإن كان هناك من يقول بأنها استئنافية وإنها من كلام الله.

٥٠

وهكذا يختتم الهدهد كلامه مستندا إلى «توحيد العبادة» و «توحيد الرّبوبية» لله تعالى. مؤكدا نفي كل أنواع الشرك عنه سبحانه.

* * *

ملاحظتان

أـ الدروس التعليميّة

ما قرأناه في هذا القسم من الآيات ، فيه لطائف كثيرة ومسائل دقيقة ، يمكن أن يكون لها كبير الأثر في حياة الناس وسياسة الحكومات جميعا.

١ ـ فرئيس الحكومة أو المدير العام ، ينبغي عليه أن يكون دقيقا في دائرته أو تشكيلاته التنظيمية ، بحيث يتابع حتى غياب الفرد الواحد ويتفقده!

٢ ـ أن يراقب تخلف الفرد ، وأن يتخذ الحكم الصارم ، لكيلا يؤثر غيابه على

الآخرين.

٣ ـ لا ينبغي أن يصدر حكما غيابيا أبدا دون أن يمنح المتخلف الفرصة للدفاع عن نفسه ، مع الإمكان.

٤ ـ ينبغي أن يجعل لكل جريمة عقابا مناسبا وأن يكون العقاب بمقدار الذنب ، وأن يراعي سلسلة مراتبه.

٥ ـ أن على أي شخص ـ حتى لو كان أكبر الناس ، أو بيده أعظم المسؤوليات والقدرة الاجتماعية ـ أن يذعن للمنطق والدليل حتى ولو صدر من فم أضعف الخلق!.

٦ ـ ينبغي أن تحكم الصراحة في محيط المجتمع ، وأن يتمتع أفراده بالحرية بحيث يستطيع الواحد منهم عند اللزوم أن يقول لرئيس الحكومة :( أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ) !

٧ ـ من الممكن أن يكون أقل الأفراد على اطلاع ومعرفة ، في حين أنّ أكبر

٥١

العلماء وأصحاب النفوذ غير مطلعين ، لكيلا يغتر أيّ إنسان بعلمه!

٨ ـ في المجتمع البشري حاجات وضرورات متبادلة ، بحيث قد يحتاج أكبر شخص فيه ـ كسليمان مثلا ـ إلى مساعدة أدنى شخص حتى ولو كان مثل الهدهد!

٩ ـ بالرغم من أن في النساء قابليات كثيرة! وقصّة سليمان نفسها حاكية عن أن ملكة سبأ كانت تتمتع بدراية كبيرة وفهم عال ، إلّا أنّ قيادة الحكومة لا تتلاءم مع حالة المرأة وروحها وجسمها ، بحيث يتعجب الهدهد من هذه المسألة ويقول :( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ ) !

١٠ ـ أغلب الناس على دين ملوكهم لذلك نقرأ في هذه القصّة أن الهدهد يقول في شأن الملكة وقومها :( وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

يتحدث الهدهد أولا عن سجودها ثمّ عن سجود قومها.

ب ـ الجواب على بعض الأسئلة

للمفسرين هنا بعض الأسئلة ، ومنها : كيف لم يحط سليمانعليه‌السلام بمثل هذه البلدة مع ما لديه من علم وإمكانات وفيرة في حكومته؟.

ثمّ كيف طوى الهدهد هذه المسافة بين اليمن ومركز حكومة سليمان الّذى كان في الشام «على ما يظهر»؟

وهل كان الهدهد قد ضل الطريق ثمّ اهتدى إلى ذلك المكان ، أو كان له غرض آخر؟!

أمّا في ما يخص السؤال الأوّل فيمكن أن يجاب عنه بأن سليمانعليه‌السلام كان ذا علم بوجود هذه البلدة ، إلّا أنّه لم يعرف خصائصها ، ثمّ إن صحراء الحجاز كانت تفصل بين اليمن والشام ، ولم تكن وسائل المواصلات بين البلدان يومئذ كما هي

٥٢

عليه في يومنا هذا «وبالطبع فإنّ علمه عن طريق الغيب والإلهام الإلهي موضوع آخر».

وأمّا قطع المسافة من قبل الهدهد ، فإنّها لم يكن عسيرة عليه لأنّنا نعرف بعض الطيور التي تقطع المسافة بين القطبين والفاصلة بين الشام واليمن إزاء تلك المسافة لا تعدّ شيئا.

وأمّا مجيء الهدهد إلى سبأ فكان ـ كما تقول بعض التواريخ ـ أنّ سليمان عزم على زيارة بيت الله الحرام ، فتوجه من الشام ليؤدي مناسك إبراهيمعليه‌السلام «أى الحج» ، وفي مسيره رغب في السير نحو الجنوب ، فواصل منطقة لا تبعد عن اليمن كثيرا فاغتنم الهدهد الفرصة عند ما استراح سليمان في تلك المنطقة وجاء إلى قصر ملكة سبأ فرأى ما رأى من المشهد المثير العجيب(١) .

* * *

__________________

(١) لا بأس بمراجعة دائرة المعارف لمحمّد فريد وجدي ، ج ١٠ ، ص ٤٧٠ مادة «الهدهد» بالرغم من أن الرّواية المذكورة هناك لم تخل من المبالغات!

٥٣

الآيات

( قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) )

التّفسير

الملوك مفسدون مخرّبون :

لقد أصغى سليمانعليه‌السلام إلى كلام الهدهد بكل اهتمام وفكّر مليّا ، ولعل سليمان كان يظنّ أن كلام الهدهد صحيح ، ولا دليل على كذب بهذا الحجم لكن

٥٤

حيث أن هذه المسألة لم تكن مسألة «ساذجة» بسيطة ، ولها أثر كبير في مصير بلد كامل وأمّة كبيرة! فينبغي أن لا يكتفي بمخبر واحد ، بل ينبغي التحقيق أكثر في هذا المجال :( قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) .

وهذا الكلام يثبت بصورة جيدة أنّه يجب الاهتمام في المسائل المصيرية المهمّة ، حتى لو أخبر بها «فردّ» صغير ، وأن يعجّل في التحقيقات اللازمة «كما تقتضيه السين» في جملة «سننظر»!.

سليمانعليه‌السلام لم يتهم الهدهد فيحكم عليه بالكذب ولم يصدّق كلامه دون أيّ دليل بل جعله أساسا للتحقيق!

وعلى كل حال ، فقد كتب كتابا وجيزا ذا مغزى عميق ، وسلّمه إلى الهدهد وقال له :( اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ ) (١) .

يستفاد من التعبير( فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ) أن يلقي الكتاب عند ما تكون ملكة سبأ حاضرة بين قومها ، لئلا تعبث به يد النسيان أو الكتمان. ، ومن هنا يتّضح أن ما ذهب إليه بعض المفسّرين بأن الهدهد ذهب إلى قصر ملكة سبأ ودخل مخدعها وألقى الكتاب على صدرها أو حنجرتها ـ لا يقوم عليه دليل ـ وإن كان متناسبا مع الجملة التي وردت في الآية التالية( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) .

ففتحت ملكة سبأ كتاب سليمان ، واطّلعت على مضمونه ، وحيث أنّها كانت من قبل قد سمعت بأخبار سليمان واسمه ، ومحتوى الكتاب يدلّ على إقدامه وعزمه الشديد في شأن بلدة «سبأ» ، لذلك فكّرت مليّا ، ولما كانت في مثل هذه المسائل المهمّة تستشير من حولها ، لذلك فقد دعتهم وتوجهت إليهم و( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) .

__________________

(١) قال بعض المفسّرين : إن جملة «ثمّ تول عنهم» مؤخرة معنى ، وإن تقدمت في العبارة ، وأصلها هكذا : فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم وإنّما قدروا ذلك لأنّ تولّ عنهم معناه العودة والرجوع ، مع أن ظاهر الآية أنّه ألق الكتاب واعرض عنهم وانظر في مكان مشرف لترى رد فعلهم!

٥٥

ترى ، حقّا أن ملكة سبأ لم تكن رأت «حامل الكتاب» ، إلّا أنّها أحست بأصالة الكتاب من القرائن الموجودة فيه؟ ولم تحتمل أن يكون الكتاب مفتعلا ومفترى أبدا ...؟!

أم أنّها رأت الرّسول بأم عينيها ، ورأت كيفية وصول الكتاب الدهشة التي هي بنفسها دليل على أن المسألة واقعية ومهمّة ، ومهما كان الأمر فإنّها عوّلت على الكتاب بكل اطمئنان؟.

وقول الملكة :( إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ) «أي قيم» لعله لمحتواه العميق ، أو لأنّه بدئ باسم الله أو لأنّه ختم بإمضاء صحيح(١) . أو لأنّ مرسله رجل عظيم ، وقد احتمل كل مفسّر وجها منها ـ أو جميعها ـ لأنّه لا منافاة بينها جميعا. وقد تجتمع جميعها في هذا المفهوم الجامع!.

صحيح أنّهم (قوم سبأ) كانوا يعبدون الشمس ، إلّا أننا نعرف أن كثيرا من عبدة الأصنام كانوا يعتقدون بالله ـ أيضا ـ ويسمونه رب الأرباب ويعظمونه ويحترمونه.

ثمّ إن «ملكة سبأ» تحدثت عن مضمون الكتاب فقالت :( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) (٢) .

ومن البعيد ـ كما يبد وـ أن يكون سليمان كتب كتابه إلى ملكة سبأ بهذه العبارات «وهذه الألفاظ العربيّة». إذا فالجمل الأنفة يمكن أن تكون منقولة بالمعنى ، أو أنّها خلاصة ما كان كتبه سليمان ، وقد أدّتها ملكة سبأ بهذه الوجازة والاقتضاب إلى قومها.

__________________

(١) ورد في الحديث أن كون الكتاب كريما هو بخاتمه «تفسير مجمع البيان والميزان والقرطبي». وجاء في حديث آخر أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يكتب رسالة للعجم ، فقيل له : إنّهم لا يقبلونها إلّا بالخاتم ، فأمر النّبي أن يصنع له خاتم ونقشه «لا اله إلّا الله محمّد رسول الله» وختم الرسالة أو الكتاب بذلك الخاتم «القرطبي ذيل الآيات محل البحث».

(٢) جملة «ألّا تعلوا علي» يمكن أن تكون بمجموعها بدلا من (كتاب) وبيان لمحتواه. كما يمكن أن تكون (أن) تفسيرية فهي هنا بمعنى (أي) ـ كما يحتمل أن (أن) تكون متعلقة بمحذوف وتقديره : أوصيكم ألا تعلوا إلخ.

٥٦

الطريف أن مضمون هذا الكتاب لم يتجاوز في الواقع ثلاث جمل :

الأولى : ذكر «اسم الله» وبيان رحمانيّته ورحمته.

الثّانية : الأمر بترك الاستعلاء والغرور لأنّ الاستعلاء مصدر المفاسد الفرديّة والاجتماعيّة.

والثّالثة : التسليم والإذعان للحق.

وإذا أمعنا النظر لم نجد شيئا آخر لا بدّ من ذكره.

وبعد أن ذكرت ملكة سبأ محتوى كتاب سليمان لقومها التفتت إليهم و( قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ) .

لقد أرادت الملكة بهذه الاستشارة تقوية مركزها في قومها ، وأن تلفت أنظارهم إليها ، كما أرادت ضمنا أن تعرف مدى انسجامهم وميزان استجابتهم لما تقدم عليه من تصميم.

كلمة «أفتوني» مشتقّة من (الفتوى) معناها في الأصل الحكم الدقيق والصحيح في المسائل الغامضة والصعبة فملكة سبأ أرادت بهذا التعبير أن تشعرهم بصعوبة المسألة أوّلا ، وأن يدققوا النظر ويجمعوا الرأي فيها ليتجنبوا الخطأ ثانيا.

«تشهدون» مأخوذ من مادة «الشهود» ، ومعناه الحضور الحضور المقرون بالتعاون والمشورة!.

فالتفت إليها أشراف قومها وأجابوها على استشارتها فـ( قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ ) .

وهكذا فقد أظهروا لها تسليمهم وإذعانهم لأوامرها كما أبدوا رغبتهم في الاعتماد على القوّة والحضور في ميدان الحرب.

ولمّا رأت الملكة رغبتهم في الحرب خلافا لميلها الباطني ، ومن أجل إطفاء هذا الظمأ وأن تكون هذه القضية مدروسة ، لذلك( قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا

٥٧

قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً ) .

فيقتلون جماعة منهم ويأسرون آخرين ويطردون طائفة ثالثة ويخرجونهم من ديارهم ويخربون حيّهم وينهبون ثرواتهم وأموالهم.

ولمزيد التأكيد أردفت قائلة :( وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) .

وفي الحقيقة إن ملكة سبأ التي كانت بنفسها ملكة ، كانت تعرف نفسية الملوك بصورة جيدة ، وأن سيرتهم تتلخص في شيئين :

١ ـ الإفساد والتخريب.

٢ ـ وإذلال الأعزة

لأنّهم يفكرون في مصالحهم الشخصية ، ولا يكترثون بمصالح الأمّة وعزتها وهما على طرفي نقيض دائما.

ثمّ أضافت الملكة قائلة : علينا أن نختبر سليمان وأصحابه ، لنعرف منهم وما يريدون؟ وهل سليمان نبيّ حقا أو ملك؟ وهل هو مصلح أو مفسد؟ وهل يذلّ الناس أم يحترمهم ويعزّهم؟

فينبغي أن نرسل شيئا إليه( وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) .

فالملوك لهم علاقة شديدة بالهدايا ، ونقطة الضعف كامنة في هذا الأمر ، فيمكن أن يذعنوا للهدايا الغالية فإذا أذعن سليمان بهذه الهدية فهو ملك ، وينبغي أن نواجهه بالقوّة فنحن أقوياء وإذا ألح على كلامه ولم يكترث بنا فهو نبيّ ، وفي هذه الصورة ينبغي التعامل معه بالحكمة والتعقل!

ولم يذكر القرآن أية هدية أرسلتها الملكة إلى سليمان ، لكنّه بتنكيرها بيّن عظمتها ، إلّا أن المفسّرين ذكروا مسائل كثيرة لا يخلو بعضها من الإغراق :

قال بعضهم : أرسلت إليه خمسمائة غلام وخمسمائة جارية ممتازة ، وقد ألبست الرجال ثياب النساء والنساء ثياب الرجال ، وجعلت الأقراط في آذان

٥٨

الرجال والا سورة في أيديهم ، وألبست الجواري تيجانا وكتبت في رسالتها إلى سليمان : لو كنت نبيّا فميّز الرجال من النساء!.

وبعثت أولئك على مراكب ثمينة ، ومعهم جواهر وأحجار كريمة ، وأوصت رسولها ـ في الضمن ـ أن أنظر كيف يواجهك سليمان عند وردك عليه ، فإن واجهك بالغضب فاعلم بأنه سيرة الملوك ، وإن واجهك بالمحبة واللطف فاعلم أنّه نبيّ.

* * *

بحوث

١ ـ آداب كتابة الرسائل

ما ورد في الآيات آنفة الذكر في شأن كتاب «سليمان» إلى أهل سبأ ، هو قدوة لكتابة الرسائل و «الكتب» وقد تكون من المسائل المهمّة والمصيرية إذ تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم وتبيّن روح الكلام في جملتين مدروستين.

ويظهر من التاريخ الإسلامي والرّوايات ـ بشكل واضح ـ أن أئمتنا الكرام عليهم الصلاة والسّلام ، كانوا يعنون بالاختصار والاقتضاب في إرسال الكتاب خاليا من الحشو والزوائد ، وهو مدروس أيضا.

فأمير المؤمنينعليه‌السلام يكتب إلى عماله وممثليه في بعض كتبه : «أدقوا أقلامكم ، وقاربوا بين سطوركم ، واحذفوا عنّي فضولكم ، واقصدوا قصد المعاني ، وإيّاكم والإكثار ، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار»(١) .

إن بري لسان القلم يجعل الكلمات أصغر ، وتقارب السطور وحذف الفضول ، لا يؤدي إلى الاقتصاد في الأموال العامة أو الشخصية فحسب ـ بل يقتصد في وقت الكاتب والقارئ أيضا وقد يضيع الفضول والتشريفات

__________________

(١) الخصال ـ للصدوق ، طبقا لما جاء في البحار ، ج ٧٦ ، ص ٤٩.

٥٩

الواردة في أثناء جمل الكتاب الهدف من كتابته ، فلا يصل الكاتب والقارئ إلى الهدف المنشود!

وفي هذه الأيّام أصبح من المألوف الإكثار في كتابة العناوين البراقة والألقاب الفخمة وزيادة المقدمات والحواشي والإضافات على خلاف ما كان في صدر الإسلام ممّا يهدر الكثير من الطاقات والأوقات والثروات.

وخاصة ينبغي الالتفات إلى أن الكتاب «الرسالة» في ذلك العصر كان يتطلب زمانا طويلا لإيصاله وبذل المال لحامل الكتاب ، ومع ذلك كانت الكتب موجزة مقتضبة ، ويمكن ملاحظة أمثلة منها في كتب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خسرو پرويز وقيصر الروم وأمثالهما.

وأساسا فإنّ رسالة الإنسان وكتابه دليل على شخصيته ، كما أن حامل الكتاب والرّسول دليل على شخصية المرسل أيضا.

يقول الإمام علىعليه‌السلام في نهج البلاغة : «رسولك ترجمان عقله ، وكتابك أبلغ من ينطق عنك»(١) .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام «يستدل بكتاب الرجل على عقله وموضع بصيرته ، وبرسوله على فهمه وفطنته»(٢) .

والجدير بالذكر أنّه يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ ردّ الكتاب واجب كردّ السلام ، إذ نقرأ عن الإمام الصادق أنّه قال : «ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السلام»(٣) .

وحيث أن كل رسالة أو كتاب مشفوع عادة بالتحية ، فلا يبعد أن يكون مشمولا بالآية الكريمة( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ـ الجملة ٣٠١.

(٢) البحار ، ج ٧٦ ، ص ٥٠.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٢٧ «كتاب الحج أبواب العشرة باب ٣٢».

(٤) النساء ، الآية ٨٦.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وببنتِ المصطفى مَن

أشبهت فضلا أباها

وبحب الحسن البا

لغِ في العليا مداها

والحسين المرتضى يو

م المساعي إذ حواها

ليس فيهم غير نجمٍ

قد تعالى وتناهى

عترة أصبحت الدّنـ

ـيا جميعا في ذراها

لا تُغرّوا حين صارت

باغتصاب لعداها

أيها الحاسد تعسا

لك إذ رمت قلاها

هل سناً مثل سناها

هل عُلا مثل علاها

أو ليست صفوة اللّـ

ـه على الخلق اصطفاها

وبراها إذ براها

وعلى النجم ثراها

شجرات العلم طوبى

للذي نال جناها

أيها الناصب سمعا

أخذ القوس فتاها

استمع غرّ معال

في قريضي مجتلاها

مَن كمولاي عليٍ

في الوغى يحمي لظاها

وخُصى الأبطال قد لا

صقن للخوف كلاها

مَن يصيد الصيد فيها

بالظبي حين انتضاها

انتضاها ثم أمضا

ها عليهم فارتضاها

من له في كل يوم

وقفات لا تضاهى

كم وكم حرب عقام

قد بالصمصام فاها

يا عذوليّ عليه

رمتما مني سفاها

اذكرا أفعال بدر

لست أبغي ما سواها

اذكرا غزوة أحد

انه شمس ضحاها

[ اذكرا حرب حنينٍ

انه بدر دجاها ]

اذكرا الأحزاب تعلم

انه ليث شراها

اذكرا مهجة عمرو

كيف أفناها تجاها

١٤١

اذكرا أمر براة (1)

واصدقاني من تلاها

اذكرا من زوج الزهـ

ـراء كيما يتباهى

اذكرا لي بكرة الطيـ

ـر فقد طار سناها

اذكرا لي قلل العلـ

ـم ومن حل ذراها

كم امور ذكراها

وأمور نسياها

حاله حالة هارو

ن لموسى فافهماها

ذكره في كتب اللـ

ـه دراها من دراها

أمّتا موسى وعيسى

قد بلته فاسألاها

أعلى حب علي

لامني القوم سفاها

لم يلج اذ انهم شعـ

ـريَ لا صمّ صداها (2)

أهملوا قرباه جهلا

وتخطوا مقتضاها

نكثوه بعد أيما

نٍ أغاروا من قواها

لعنوه لعنات

لزمتهم بعراها

ومشوا في يوم خمٍ

لا جلا الله عشاها

طلبوا الدنيا وقد أعـ

ـرضَ عنها وجفاها

وهو لولا الدين لم يأ

سف على مَن قد نفاها

واحتمى عنها ولو قد

قام كلبُ فأدعاها

يا قسيم النار والجنـ

ـة لا تخشى اشتباها

ردّت الشمس عليه

بعد ما فات سناها

وله كأس رسول الـ

ـله من شاء سقاها

أول الناس صلاة

جعل التقوى حلاها

عرفَ التأويل لمّا

أن جهلتم ما « طحاها »

__________________

1 - براة: اي براءة. ويعني بها سورة براءة، ولعل الأصوب ( براء ).

2 - لعل المقصود: يا صم صداها.

١٤٢

ليس يحصى مأثرات

قد حماها واعتماها

غير مَن [ قد ] وطأ الأر

ض و [ من ] أحصى حصاها

ناجزته عصب البغـ

ـي بأنواع بلاها

قتلته ثم لم تقـ

ـنع بما كان شقاها

فتصدّت لبنيه

بظباها ومداها

أردت الأكبَرَ بالسم

وما كان كفاها

وانبرت تبغي حسينا

وغزته وغزاها

وهي دنياً ليس تصفو

لابن دينٍ مَشرعاها

ناوشته عطّشته

جرأةً في ملتقاها

منعته شربةً والطـ

ـير قد أروت صداها

وأفاتت نفسه يا

ليت روحي قد فداها

بنته تدعو أباها

أخته تبكي أخاها

لو رأى أحمد ما كا

ن دهاه ودهاها

ورأى زينب ولهى

ورأى شمرا سباها

لشكا الحال الى اللـ

ـه وقد كان شكاها

والى الله سيأتي

وهو أولى من جزاها

لعن الله ابن حربٍ

لعنةً تكوي الجباها

أيها الشيعة لا أعـ

ـني بقولي مَن عداها

كنت في حالِ شكاةٍ

أزعجتني بأذاها

كأس حمّاها سقتني

عن حميّاها حماها

فتشفّيت بهذا الـ

ـمدحِ في الوقت ابتداها

فوحق الله انّ الله

لم يثبت أذاها

وكفى نتفسي - لمّا

تمّ شعري - ما عراها

أحمد الله كثيرا

عزّ ذو العرش آلها

ثم ساداتي فإن الـ

ـقول يُلقى في ذراها

١٤٣

أيها الكوفيّ أنشد‌‏

هذه واحلل حُباها

وابن عبّاد أبوها

وإليه منتماها

طلب الجنة فيها

لم يرد مالاً وجاها (1)

  الصاحب بن عباد:

ما لعلي أشباه

لا والذي لا اله الا هو

مبناه مبنى النبي تعرفه

وأبناه عند التفاخر ابناه

لو طلب النجم ذات أخمصه

علاه والفرقدان نعلاه

أما عرفتم سموّ منزله

أما عرفتم عُلوّ مثواه

أما رأيتم محمدا حدبا

عليه قد حاطه وربّاه

واختصه يافعا وآثره

وأعتامه مخلصا وآخاه

زوّجه بضعة النبوة إذ

رآه خير امرئ والقاه

يا بأبي السيد الحسين وقد

جاهد في الدين يوم بلواه

يا بأبي أهله وقد قتلوا

من حوله والعيون ترعاه

يا قبّح الله أمة خذلت

سيّدها لا تريد مرضاه

يا لعن الله جيفة نجساً

يقرع من بغضه ثناياه (2)

  وقال الصاحب - كما في المناقب:

برئت من الارجاس رهط أمية

لما صح عندي من قبيح غذائهم

ولعنتهم خير الوصيين جهرة

لكفرهم المعدود في شر دائهم

وقتلهم السادات من آل هاشم

وسبيهم عن جرأة لنسائهم

وذبحهم خير الرجال أرومة

حسين العلى بالكرب في كربلائهم

__________________

1 - عن الديوان.

2 - عن اعيان الشيعة.

١٤٤

وتشتيتهم شمل النبي محمد

لما ورثوا من بغضهم في فنائهم

وما غضبت إلا لأصنامها التي

أديلت وهم أنصارها لشقائهم

أيا رب جنبني المكاره وأعف عن

ذنوبي لما أخلصته من ولائهم

أيا رب أعدائي كثير فردّهم

بغيظهم لا يظفروا بابتغائهم

أيا رب مَن كان النبي وآله

وسائله لم يخش من غلوائهم

حسين توسل لي إلى الله إنني

بليت بهم فادفع عظيم بلائهم

فكم قد دعوني رافضيا لحبكم

فلم يثنني عنكم طويل عوائهم (1)

  الصاحب بن عباد:

أبو القاسم كافي الكفاة اسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن حمد بن ادريس الديلمي الاصفهاني القزويني الطالقاني وزير مؤيد الدولة ثم فخر الدولة وأحد كتاب الدنيا الأربعة وقيل فيه والقائل أبو سعيد الرستمي.

ورث الوزارة كابراً عن كابر‌‏

موصولة الأسناد بالاسناد

يروي عن العباس عبّاد وزا

رته وإسماعيل عن عباد

  ولد لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة 326 باصطخر فارس وتوفي ليلة الجمعة 24 من صفر سنة 385 بالري هكذا أرخ مولده ابن خلكان وياقوت في معجم الأدباء وشيّع في موكب مهيب مشى فيه فخر الدولة والقواد وحمل الى اصبهان ودفن هناك.

ولي الوزارة ثماني عشرة سنة وشهرا. عده ابن شهر اشوب في شعراء أهل البيت المجاهرين وله عشرة آلاف بيت في مدح آل رسول الله وقد نقش على خاتمه.

__________________

1 - عن أعيان الشيعة ج 11 ص 465.

١٤٥

شفيع اسماعيل في الآخرة‏

محمد والعترة الطاهرة

وقال: انا وجميع مَن فوق التراب

فداء تراب نعل أبي تراب

  وجاء في روضات الجنات أن أمويا وفد على الصاحب ورفع اليه رقعة فيها:

أيا صاحب الدنيا ويا ملك الارض‌

أتاك كريم الناس في الطول والعرض

له نسب من آل حرب مؤثل

مرائره لا تستميل الى النقض

فزوّده بالجدوى ودثّره بالعطا

لتقضي حق الدين والشرف المحض

  فلما تأملها الصاحب كتب في جوابها:

أنا رجل يرمونني الناس بالرفض‌‏

فلا عاش حر بيّ يدب على الأرض

ذروني وآل المصطفى خيره الورى

فإنّ لهم حبي كما لكم بغضي

ولو أن عضوي مال عن آل أحمد

لشاهدت بعضي قد تبرأ من بعضي

  ومن شعره في الأمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أبا حسن لوكان حُبّك مدخلي‌‏

جهنم كان الفوز عندي جحيمها

وكيف يخاف النار مَن هو موقن

بأنك مولاه وأنت قسيمها

  ومن شعره:

مواهب الله عندي جاوزت أملي‌‏

وليس يبلغها قولي ولا عملي

لكنّ أشرفها عندي وأفضلها

ولايتي لأمير المؤمنين علي

  وألف الثعالبي ( يتيمة الدهر ) بأسمه لذاك تجد جل ما فيها مدحا له. كانت داره لا تخلو في كل ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس تتناول طعام الافطار على مائدته.

١٤٦

ورثاه السيد الرضي بقصيدة لم يسمع اذن الزمان بمثلها وأولها:

أكذا المنون يقطر الابطالا

أكذا الزمان يضعضع الاجبالا

  قال ياقوت الحموي: مدح الصاحب خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين. وقال ابن خلكان:

كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائلة ومكارمه وكرمه وكتب عنه الكتاب وألفوا فيه واخيرا كتب العلامة البحاثة الشيخ محمد حسن ياسين عنه ثم جمع ديوانه ونشر بعض رسائله فأفاد وأجاد. ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الادب من ذكر أحوال الصاحب بن عباد. ورثاه ابو سعيد الرستمى بقوله:

أبعدا بن عباد يهشّ الى السرى‌‏

أخو أمل أو يسمّاح جواد

أبى الله إلا أن يموتا بموته

فما لهما حتى المعاد معاد

  ومن شعر الصاحب في ذلك قوله:

وكم شامت بي بعد موتي جاهلا‌

يظل يسل السيف بعد وفاتي

ولو علم المسكين ماذا يناله

من الظلم بعدي مات قبل مماتي

  لم يكن للصاحب من الأولاد غير بنت، زوّجها من الشريف ابي الحسين علي بن الحسين الحسني، قال الداودي صاحب ( العمدة ): صاهر الصاحب كافي الكفاة، ابا الحسن علي بن الحسين الاطرش الرئيس بهمدان - من أهل العلم والفضل والأدب - على ابنته، ينتهي نسبه الى الحسن السبط عليه‌السلام ، وكان الصاحب يفتخر بهذه الوصلة ويباهي بها، ولما ولدت ابنة الصاحب من ابي الحسين ابنه عبادا ووصلت البشارة الى الصاحب قال:

أحمد الله لبشر‌‏

جاءنا عند العشيّ

إذ حباني الله سبطا

هو سبط للنبيّ

مرحباً ثَمت أهلا

بغلام هاشميّ

١٤٧

وقال في ذلك قصيدة أولها:

الحمد لله حمدا دائما أبدا

قد صار سبط رسول الله لي ولدا

  وكان الصاحب على تعاظمه وعلوّ مكانه سهل الجانب لأخوانه، فانه كان يقول لجلسائه: نحن بالنهار سلطان وبالليل اخوان.

وقال ابو منصور البيع: دخلت يوما على الصاحب فطاولته الحديث فلما ادرت القيام قلت: لعلي طوّلت. فقال: لا بل تطوّلت.

وقال العتبي: كتب بعض اصحاب الصاحب رقعة اليه في حاجة، فوّقع فيها ولما ردت اليهم لم يجد وافيها توقيعا. وقد تواترت الاخبار بوقوع التوقيع فيها، فعرضوها على ابي العباس الضبي فما زال يتصفحها حتى عثر بالتوقيق، وهو ألف واحدة. وكان في الرقعة: فان رأى مولانا أن ينعم بكذا. فعل. فأثبت الصاحب أمام كلمة: فعل ( الفاً ) يعني: أفعل.

وفي كتاب خاص الخاص للثعالبي تحت عنوان: فيما يقارب الاعجاز من إيجاز البلغاء، قول الصاحب بن عباد في وصف الحر: وجدتُ حراً يشبه قلب الصب ويذيب دماغ الضب وجاء في يتيمة الدهر ان الضرابين رفعوا الى الصاحب قصة في ظلامة وقد كتبوا تحتها: الضرابون. فوّقع تحتها: في حديد بارد. ودخل عليه رجل لا يعرفه، فقال له الصاحب: أبو مَن: فأنشد الرجل:

وتتفق الاسماء في اللفظ والكنى

كثيراً ولكن لا تلاقي الخلائق

  فقال له: اجلس أبا القاسم.

قال جرجي زيدان في تاريخ اداب اللغة العربية:

هو ابو القاسم اسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني كان اديبا منشئاً وعالما في اللغة وغيرها وهو اول من لقب بالصاحب من الوزراء لانه كان

١٤٨

يصحب ابن العميد فقيل له صاحب ابن العميد، ثم اطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علما عليه. وقد وزّر اولاً لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بعد ابن العميد. فلما توفي مؤيد الدولة تولى مكانه اخوه فخر الدولة فاقرّ الصاحب على وزارته وكان مبجلا عنده نافذ الأمر وكان مجلسه محط الشعراء والأدباء يمدحونه أو يتنافسون أو يتقاضون بين يديه.

وذاعت شهرته في ذلك العصر حتى اصبح موضوع إعجاب القوم يتسابقون الى اطرائه ونظمت القصائد في مدحه:

وله من التصانيف: المحيط باللغة سبع مجلدات رتبه على حروف المعجم والكافي بالرسائل وجمهرة الجمرة وكتاب الاعياد، وكتاب الامامة، وكتاب الوزراء وكتاب الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، وكتاب الأسماء الحسنى وكان ذا مكتبة لا نظير لها.

وقال ابن خلكان:

ابو القاسم اسماعيل بن ابي الحسن عباد، بن العباس، بن عباد بن أحمد ابن ادريس الطالقاني:

كان نادرة الدهر واعجوبة العصر في فضائله، ومكارمه وكرمه، اخذ الأدب عن ابي الحسين، احمد بن فارس اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة، واخذ عن ابي الفضل بن العميد وغيرهما، وقال ابو منصور الثعالبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست تحضرني عباة ارضاها للافصاح عن علوّ محله في العلم والأدب، وجلالة شأنه في الجود والكرم وتفرّده بالغايات في المحاسن وجمعه اشتات المفاخر لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه، ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من احواله:

وقال ابو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها.

١٤٩

ودبّ ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درّها وورثها عن آبائه وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء لأنه كان يصحب أبا الفضل ابن العميد، فقيل له: صاحب ابن العميد، ثم اطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة، وبقي علماً عليه.

ومن شعره في رقة الخمر:

رقّ الزجاج وراقت الخمر‌‏

فتشابها وتشاكل الأمر

فكأنما خمرٌ ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر

  وله يرثي كثير بن أحمد الوزير، وكنيته ابو علي:

يقولون لي أودى كثير بن أحمد‌‏

وذلك رزء في الأنام جليل

فقلت دعوني والعُلا نبكه معاً

فمثل كثير في الرجال قليل

  وقوله:

وقائلة لِم عرتك الهموم‌‏

وأمرك ممتثل في الأمم

فقلت دعيني على حيرتي

فإن الهموم بقدر الهمم

  والصاحب مجيد في شعره كما هو بارع في نثره، وقلّما يكون الكاتب جيد الشعر ولكن الصاحب جمع بينهما. ومن قوله في منجم

خوّفني منجم أخو خبل‌

تراجع المريخ في برج الحمل

فقلت دعني من أباطيل الحيل

فالمشتري عندي سواء وزحل

ودفع عني كل آفات الدول

بخالقي ورازقي عز وجل

  وذكر صاحب البغية أنه كان في الصغر إذا أراد المضي الى المسجد ليقرأ تعطيه والدته دينارا في كل يوم ودرهما وتقول له: تصدّق بهذا على أول فقير تلقاه، فكان هذا دأبه في شبابه الى أن كبر وصار يقول للفرّاش كل ليلة:

١٥٠

اطرح تحت المطرح ديناراً ودرهماً، لئلا ينساه، فبقي على هذا مدة. ثم أن الفرّاش نسي ليلة من الليالي ان يطرح له الدرهم والدينار. فانتبه وصلى وقلب المطرح ليأخذ الدرهم والدينار ففقدهما فتطيّر من ذلك، فقال للفراشين: خذوا كل ما هنا من الفراش وأعطوه لأول فقير تلقونه، فخرجوا وإذا بهاشمي أعمى تقوده زوجته، فقالوا هلمّ لتأخذ مطرح ديباج ومخاد ديباج، فأغمي عليه. فأعلموا الصاحب بأمره، فأحضره ورشّ عليه الماء، فلما أفاق سأله عن أمره، فقال: سلوا هذه المرأة إن لم تصدقوني، فقالوا له: اشرح فقال: انا رجل شريف لي ابنة من هذه المرأة خطبها رجل فزوجناه، ولي سنتين آخذ ما يفضل عن قوتنا واشتري جهازا لها فقالت أمها: اشتهيت لها مطرح ديباج، فقلت لها: من أين لي ذلك. وجرى بيني وبينها نزاع حتى خرجت على وجهي. فلما قال لي هؤلاء هذا الكلام حقّ لي أن يغمى عليّ. فقال الصاحب لا يكون الديباج إلا مع ما يليق به، ثم اشترى له جهازا ثمينا واحضر الزوج ودفع له بضاعة سنية ليعمل ويربح.

١٥١

محمد بن هاشم الخالدي

أظلم في كربلاء يومهم

ثم تجلى وهم ذبائحه

لا برح الغيث كل شارقة

تخمي غواديه أو روائحه

على ثرى حلّه غريب رسول

الله مجروحة جوارحه

ذلّ حماه وقلّ ناصره

ونال أقصى مناه كاشحه

يا شيع الغي والضلال ومَن

كلّهم جمة فضائحه

عفرتم بالثرى جبين فتى

جبريل بعد الرسول ماسحه

يُطّل ما بينكم دم ابن رسول

الله وابن السفاح سافحه

سيان عند الإله كلّكم

خاذله منكم وذابحه (1)

__________________

1 - رواها السيد الامين في الاعيان عن يتيمة الدهر للثعالبي ص 170 أقول وقد تقدمت هذه الأبيات في ترجمة كشاجم من جملة قصيدة، والشاعران في عصر واحد. وربما نظم أحدهما قطعة وجاراه الآخر فنظم على القافية فكانتا قصيدة واحدة.

١٥٢

أبو بكر محمد بن هاشم بن وعلة الخالدي الكبير أحد الخالديين والآخر اخوه ابو عثمان سعيد.

توفي حدود 386 في حلب.

والخالدي نسبة الى الخالدية من قرى الموصل، له ديوان المراثي وشارك أخاه الخالدي الصغير أبا عثمان سعيد في ديوانه وقيل انه شاركه في كتاب الحماسة.

ومدح الخالديان الشريف أبا الحسن محمد بن عمر العلوي الزبيدي فابطأت عنهما جائزته فأرسلا اليه قصيدة - وكان قد أراد السفر:

قل للشريف المستجار به

اذا عدم المطر

وابن الأئمة من قريش

والميامين الغرر

أقسمت بالرحمن و

النعم المضاعف والوتر

لئن الشريف مضى ولم

ينعم لعبديه النظر

لنشاركن بني أمية

في الضلال المشتهر

ونقول لم يغصب أبو

بكر ولم يظلم عمر

ونرى معاوية إماما

مَن يخالفه كفر

ونقول إن يزيد ما

قتل الحسين ولا أمر

ونعد طلحة والزبير

من الميامين الغرر

ويكون في عنق الشريف

دخول عبديه سقر

١٥٣

فضحك الشريف لهما وأنجز جائزتهما.

ومن شعره ما رواه النويري في نهاية الأرب:

ان خانك الدهر فكن عائذاً‌‏

بالبيد والظلماء والعيس

ولا تكن عبد المنى فالمُنى

رؤوس أموال المفاليس

  وقال أيضا:

وأخٍ رخصتُ عليه حتى ملّني

والشيء مملول اذا ما يرخصُ

ما في زمانك ما يعزّ وجوده

إن رمته إلا صديق مخلص

١٥٤

الحسين بن الحجّاج

أبا حوا دم المقتول بالطف بعدما

سقوه كؤوس الموت بالبيض والاسل

وتالله ما أنساه بالطف صائلا

كما الليث في سرب النعاج اذا حمل

يُنهنه عنه القوم يُمناً ويسرة

ويصبر للحرب الشنيع اذا اشتعل

فلهفي لمن كان النبي قلوصه

فيا خير محمول ويا خير مَن حمل

يقبّل فاه مرةً بعد مرّة

وينكته أهل البدائع والزلل

  والقصيدة تربو على الستين بيتا. جاء في أولها:

دع المرهفات البيض والطعن بالاسل

وسل عن دمي في مذهب الحب لِم يحِل

فما للصفاح المشرفيات والقنا

فعال كفعل الاعين النجل والمقل

فما البيض إلا البيض يلمعن كالدُما

ويشرقن كالاقمار في حلل الحلل

فخلّ حديث الطعن والضرب في الوغا

فما لك فيها ناقة لا ولا جمل (1)

__________________

1 - عن المجموع الرائق المخطوط للسيد احمد العطار ص 207.

١٥٥

الحسين بن الحجاج المتوفي سنة 391:

ابو عبد الله الحسين بن احمد بن الحجاج النيلي البغدادي الامامي الكاتب الفاضل من شعراء أهل البيت، كان فرد زمانه في وقته. يقال انه في الشعر في درجة امرئ القيس وانه لم يكن بينهما مثلهما. كان معاصرا للسيدين وله ديوان شعر كبير عدة مجلدات، وجمع الشريف الرضي رحمه‌الله المختار من شعره سماه ( الحسن من شعر الحسين ) وكان ذلك في حياة ابن الحجاج، وفي أمل الأمل للحر العاملي قال: كان إمامي المذهب ويظهر من شعره أنه من اولاد الحجاج بن يوسف الثقفي وعدّه ابن خلكان وابو الفداء من كبّار الشيعة، والحموي في معجم الأدباء يقول: من كبار شعراء الشيعة، وآخر من فحول الكتّاب، فالشعر كان أحد فنونه كما أن الكتابة إحدى محاسنه الجمّة وعدّه صاحب رياض العلماء من كبراء العلماء وكان ذا منصب خطير وهو توليه الحسبة ببغداد - والحسبة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس كافّة ولا تكون إلا لوجيه البلد ولا يكون غير الحر العدل والمعروف بالرأي والصراحة الخشونة بذات الله ومعروفا بالديانة موصوفا بالصيانة بعيدا عن التهم، وشاعرنا ابن الحجاج قد تولاها مرة بعد أخرى، قالوا إنه تولى الحسبة مرتين ببغداد، مرة على عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله، واخرى أقامه عليها عز الدولة في وزارة ابن بقيّة الذي استوزره عز الدولة سنة 362 وتوفي سنة 367 والغالب على شعره الهزل والمجون، وكان ذا استرسل فيهما فلا يجعجع به حضور ملك أو هيبة أمير، كما أن جلّ شعره يعرب عن ولائه الخالص لأهل البيت والوقيعة في مناوئيهم.

ومن شعره قصيدته الغراء التي أنشدها في حرم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه‌السلام وأولها:

يا صاحب القبّة البيضا على النجف‌

مَن زار قبرك واستشفي لديك شُفي

زوروا أبا الحسن الهادي لعلكم

تحظون بالأجر والأقبال والزلف

١٥٦

زوروا لمن تسمع النجوى لديه فمن

يزره بالقبر ملهوفا لديه كُفي

إذا وصلت فأحرم قبل تدخله

ملبيا واسع سعيا حوله وطُف

حتى إذا طفت سبعا حول قبته

تأمّل الباب تِلقا وجهه فقف

وقل: سلام من الله السلام على

أهل السلام وأهل العلم والشرف

إني أتيتك يا مولاي من بلدي

مستمسكا من حبال الحق بالطرف

راج بأنك يا مولاي تشفع لي

وتسقني من رحيق شافي اللهف

لأنك العروة الوثقى فمن علقت

بها يداه فلن يشقى ولم يخَف

وإن أسماءك الحسنى إذا تليت

على مريض شفي من سقمه الدنف

لأن شأنك شأن غير منتقص

وإن نورك نور غير منكسف

وإنك الآية الكبرى التي ظهرت

للعارفين بأنواع من الطرف

هذي ملائكة الرحمن دائمة

يهبطن نحوك بالألطاف والتحف

كالسطل والجام والمنديل جاء به

جبريل لا أحد فيه بمختلف

كان النبي إذا استكفاك معضلة

من الامور وقد أعيت لديه كُفي

وقصّة الطائر المشويّ عن أنسٍ

تخبر بما نصّه المختار من شرف

والحب والقضب والزيتون حين أتوا

تكرّماً من إله العرش ذي اللطف

والخيل راكعة في النقع ساجدة

والمشرفيات قد ضجّت على الحجف

بعثت أغصان بانٍ في جموعهم

فأصبحوا كرمادٍ غير منتسف

لو شئت مسخهم في دورهم مسخوا

أو شئت قلت لهم: يا أرض انخسفي

والموت طوعك والأرواح تملكها

وقد حكمت فلم تظلم ولم تجف

لا قدّس الله قوما قال قائلهم:

بخ بخ لك من فضل ومن شرف

وبايعوك « بخمٍّ » ثم أكّدها

« محمد » بمقال منه غير خفي

عاقوك واطرّحوا قول النبي ولم

يمنعهم قوله: هذا أخي خلَفي

هذا وليكم بعدي فمن علقت

به يداه فلن يخشى ولم يخف

  قال الشيخ الأميني سلمه الله ان السلطان عضد الدولة بن بويه لما بنى سور المشهد الشريف ودخل الحضرة الشريفة وقبّل اعتابها واحسن الأدب فوقف

١٥٧

ابو عبد الله الحسين بن الحجاج بين يديه وأنشد هذه القصيدة فلما وصل منها الى الهجاء أغلظ له الشريف سيدنا المرتضى ونهاه أن ينشد ذلك في باب حضرة الإمام عليه‌السلام فقطع عليه فانقطع فلمّا جنّ عليه الليل رأى إبن الحجّاج الإمام عليّا عليه‌السلام في المنام وهو يقول: لا ينكسر خاطرك فقد بعثتا المرتضى علم الهدى يعتذر إليك فلا تخرج إليه حتى يأتيك، ثم رأى الشريف المرتضى في تلك الليلة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة صلوات الله عليهم حوله جلوس فوقف بين أيديهم وسلم عليهم فحس منهم عدم إقبالهم عليه فعظم ذلك عنده وكبر لديه فقال: يا مواليّ أنا عبدكم وولدكم ومواليكم فبمَ استحققت هذا منكم؟ فقالوا: بما كسرت خاطر شاعرنا أبي عبد الله إبن الحجاج فعليك أن تمضي إليه وتدخل عليه وتعتذر إليه وتأخذه وتمضي به إلى مسعود بن بابويه وتعرّفه عنايتنا فيه وشفقتنا عليه، فقام السيد من ساعته ومضى إلى أبي عبد الله فقرع عليه الباب فقال إبن الحجاج: سيدي الذي بعثك إليّ أمرني أن لا أخرج إليك؛ وقال: إنه سيأتيك، فقال: نعم سمعاً وطاعة لهم. ودخل عليه واعتذر إليه ومضى به الى السلطا وقصا القصّة عليه كما رأياه فأكرمه وأنعم عليه وخصّه بالرتب الجليلة وأمر بأنشاد قصيدته.

وله من قصيدة ردّ بها على قصيدة ابن سكرة محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي البغدادي من ولد علي بن المهدي العباسي وقد تحامل بها على آل رسول الله (ص) فقال ابن الحجاج في الرد عليه.

لا أكذب الله إن الصدق ينجيني

يد الامير بحمد الله تحييني

  الى ان قال:

فما وجدت شفاءً تستفيد به‌‏

إلا ابتغاءك تهجو آل ياسين

كافاك ربك إذ أجرتك قدرته

بسبّ أهل العلا الغر الميامين

فقر وكفر هميع أنت بينهما

حتى الممات بلا دنيا ولا دين

١٥٨

فكان قولك في الزهراء فاطمه

قول امرئ لهج بالنصب مفتون

عيّرتها بالرحا والزاد تطحنه

لا زال زادك حبّاً غير مطحون

وقلت: إن رسول الله زوّجها

مسكينة بنت مسكين لمسكين

كذبت يابن التي باب إستها سلس الأ

غلاق بالليل مفكوك الزرافين

ستّ النساء غداً في الحشر يخدمها

أهل الجنان بحور الخرّد العين

فقلت: إن أمير المؤمنين بغى

على معاوية في يوم صفين

وإن قتل الحسين السبط قام به

في الله عزمٌ إمام غير موهون

فلا ابن مرجانة فيه بمحتقب

إثمَ المسيء ولا شمرٌ بملعون

وإن أجر ابن سعدٍ فيه استباحته

آل النبوة أجر غير ممنون

هذا وعدت الى عثمان تندبه

بكل شعر ضعيف اللفظ ملحون

فصرت بالطعن من هذا الطريق الى

ما ليس يخفى على البُله لمجانين

وقلت: أفضل من يوم « الغدير » إذا

صحّت روايته يوم الشعانين

ويوم عيدك عاشورا تعدّ له

ما يستعد النصارى للقرابين

تأتي بيوتكم فيه العجوز وهل

ذكر العجوزو سوى وحي الشياطين

عاندت ربك مغتراً بنقمته

وبأس ربك بأسٌ غير مأمون

فقال: كن أنت قرداً في استه ذنب

وأمر ربك بين الكاف والنون

وقال: كن لي فتى تعلو مراتبه

عند الملوك وفي دور السلاطين

والله قد مسخ الأدوار قبلك في

زمان موسى وفي أيام هارون

بدون ذنبك فالحق عندهم بهم

ودع لحاقك بي إن كنت تنويني

  قلنا سابقا ان السيد الشريف الرضي قد جمع شعر ابن الحجاج ورتبه على الحروف فقال ابن الحجاج يشكر السيد - كما في الجزء الاخير من ديوانه - قوله:

أتعرف شعري الى مَن ضوي‏

فأضحى على ملكه يحتوي

إلي البدر حسناً إلى سيدي

الشريف أبي الحسن الموسوي

١٥٩

الى من أعوذّه كلّما

تلقيته بالعزيز القوي

فتىً كنتُ مسخاً بشعري السخيف

وقد ردّني فيه خلقاً سوي

تأملته وهو طوراً يصحّ

وطوراً بصحّته يلتوي

فميّز معوجه والردي

فيه من الجيّد المستوي

وصحّح أوزانه بالعروض

وقرّر فيه حروف الروي

وأرشده لطريق السداد

فأصلح شيطان شعري الغوي

وبيّن موقع كفّ الصناع

في نسج ديباجه الخسروي

فأقسم بالله والشيخ في

اليمين على الحنث لا ينطوي

لو أن زرادشت أصغى له

لأزرى على المنطق الفهلوي

وصادف زرع كلامي البليغ

فيه شديد الظما قد ذوي

فما زال يسقيه ماء الطرا

وماء البشاشة حتى روي

فلا زال يحيى وقلب الحسود

بالغيظ من سيدي مكتوي

له كبدٌ فوق جمر الغضا

على النار مطروحه تشتوي

  لم يختلف اثنان في تاريخ وفاته وانها في جمادي الآخرة سنة 391 بالنيل وهي بلدة على الفرات بين بغداد والكوفة وحمل الى مشهد الامام موسى الكاظم عليه‌السلام ودفن فيه، وكان أوصى أن يدفن هناك بحذاء رجلي الامام (ع) ويُكتب على قبره ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) ورثاه الشريف الرضي بقصيدة توجد في ديوانه ومنها:

نعَوه على حُسن ظني به

فلله ماذا نعى الناعيان

رضيع ولاءٍ له شعبة

من القلب مثل رضيع اللبان

وما كنتُ احسب أن الزمان

يفلّ بضارب ذاك اللسان

ليبكِ الزمان طويلا عليك

فقد كنتَ خفَة روح الزمان

  وبرهن الشيخ الاميني أن الرجل عمّر عمراً طويلا تجاوز المائة سنة رحمه الله وأجزل ثوابه.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592