الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181526 / تحميل: 6384
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

سورة إبراهيم

٢٢

التمثيل الثاني والعشرون

( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَيءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد ) .(١)

تفسير الآية

« العصف » : شدة الريح ، يوم عاصف أي شديد الريح ، وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لأجل المبالغة ، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً ، كما يقال : ليل غائم ويوم ماطر.

انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف ، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق ، فكذلك هؤلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شيء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.

وقال سبحانه في آية أخرى :( وَقَدِمْنَا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ) .(٢)

والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الأرحام وعتق الرقاب

__________________

١ ـ إبراهيم : ١٨.

٢ ـ الفرقان : ٢٣.

١٦١

وفداء الأسارى وإغاثة الملهوفين ، لأنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة الله والإيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه.

وأمّا الأعمال التي تعد من المعاصي الموبقة ، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها.والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه الله.

نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.

١٦٢

سورة إبراهيم

٢٣

التمثيل الثالث والعشرون

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُوَْتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإذْنِ رِبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ) .(١)

تفسير الآيات

انّه سبحانه تبارك وتعالى مثل للحق والباطل ، أو الكفر والإيمان بتمثيلات مختلفة ، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الإيمان كشجرة لها الصفات التالية :

أ : انّها طيبة : أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة ، فانّ الشجر على قسمين : منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها ، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.

ب : أصلها ثابت ، أي لها جذور راسخة في أعماق الأرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الأمواج العاتية.

ج : فرعها في السماء ، أي لها أغصان مرتفعة ، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء وتنتفع من نور الشمس والهواء والماء.

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٤ ـ ٢٥.

١٦٣

وهذه الفروع والأغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر ، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الأرض.

د :( تعطى أكلها كل حين ) أي في كلّ فصل وزمان ، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهرحتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.

وبعبارة أخرى : انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها ، بل هي دائمة الأثمار في كل وقت وقّته الله لاثمارها.

هذا حال المشبه به ، وأمّا حال المشبه ، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل ، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت ، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.

فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.

والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية ، قوله :( يُثَبّتُ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ ) (١) ، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما ، قال السيد الطباطبائي :

القول بالوحدانية والاستقامة عليه ، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان ، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق ، وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإنساني حق

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٧.

١٦٤

عمارته ، وهي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح.(١)

ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله :( وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثال للنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ) ، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.

وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا ، لأنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه :( إِنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوفٌ عََلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ) (٢) يراد منه التحقّق بقوله( ربّنا الله ) لا التلفظ بها ، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة ، بقوله :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣) .

فالكلم الطيّب هو العقيدة ، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.

وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحةلها جذور في القلوب ، ولها فروع وأغصان في حياة الإنسان ولهذه الفروع ثمار ، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للإنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.

إلى هنا تمّ المثل الأوّل للمؤمن والكافر أو للإيمان والكفر.

____________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٥٢.

٢ ـ الأحقاف : ١٣.

٣ ـ فاطر : ١٠.

١٦٥

وربما يقال : الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيبة ، وحياتهم أصل البركة ، ودعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.

ولكن سياق الآيات لا يؤيده ، لأنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت ، أعني قوله :( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .

والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة ، وقلب المؤمن هو الأرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.

١٦٦

سورة إبراهيم

٢٤

التمثيل الرابع و العشرون

( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ منْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار ) .(١)

تفسير الآية

مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق ، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة ، وإليك البيان :

فالكفر كشجرة لها هذه الأوصاف :

أ : انّها خبيثة مقابلة الطيبة ، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.

ب :( اجتثت من فوق الأرض ) في مقابل قوله( أصلها ثابت ) وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشيء من أصله ، أي اقتطعت واستؤصلت واقتلعت جذورها من الأرض.

ج :( ما لها من قرار ) أي ليس لتلك الشجرة من ثبات ، فالريح تنسفها وتذهب بها ، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.

__________________

١ ـ إبراهيم : ٢٦.

١٦٧

هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل ، يزعزعها أدنى شبهة وشك.

فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الأوّل ، وذيله على التمثيل التالي ، أعني : قوله :( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) هذا هو المنطبق على التمثيل الأوّل

وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله :( وَيُضِلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية ، وذلك لأجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان ، أعني : الفطرة ودعوة الأنبياء

وقوله :( يفعل الله ما يشاء ) بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت المؤمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم ، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.

١٦٨

سورة إبراهيم

٢٥

التمثيل الخامس والعشرون

( وَأَنذِرِ النّاسَ يَوم يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الّذينَ ظَلَمُوا رَبّنَا أَخّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ مِنْهُ الجِبال ) .(١)

تفسير الآيات

إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيضة ويطلبون الإمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الإيمان والعمل الصالح ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول :( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم ، كما في قوله تعالى :( فَيَقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ) .

فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاً وإنّما ألجأهم إليه رؤية

__________________

١ ـ إبراهيم : ٤٤ ـ ٤٦.

١٦٩

العذاب.

فيخاطبهم سبحانه بقوله :( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) .

وعلى ما ذكرنا يكون مفاد الآية : حلفتم قبل نزول العذاب بأنّه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب ، وظننتم انّكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أمّة خالدة مالكة لزمام الأمور ، فلماذا تستمهلون ؟ ثمّ يخاطبهم بجواب آخر وهو قوله :( وَسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال ) أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم الله وعرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود ، وضربنا لكم الأمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.

وعلى ذلك فالمشبه به هو حال الأمم الهالكة بأفعالهم الظالمة.

والمشبه هو الأمم اللاحقة لهم الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الأجل وندموا ولات حين مناص.

١٧٠

النحل

٢٦

التمثيل السادس والعشرون

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمٍ تَاللهِ لَتُسئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَه وَلَهُمْ ما يَشْتَهون * وإِذا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاَُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم * يَتوارَى مِنَ القَومِ مِنْ سُوءِ ما بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُون * لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مثلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الأعلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) .(١)

تفسير الآيات

إنّ الله سبحانه هو الواجب الغني عن كل من سواه ، قال سبحانه :( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد ) (٢) فلا يصحّ وصفه بما يستشمُّ منه الفقر والحاجة ، لكن المشركين غير العارفين بالله كانوا يصفونه بصفات فيها وصمة الفقر والحاجة ، وقد حكاها سبحانه في غير واحد من الآيات ، فقال :( وَجَعَلُوا للهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَمَا كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللهِ وَمَا كانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ سَاءَ ما يَحْكُمُون ) .(٣)

__________________

١ ـ النحل : ٥٦ ـ ٦٠.

٢ ـ فاطر : ١٥.

٣ ـ الأنعام : ١٣٦.

١٧١

فقد أخطأوا في أمرين :

أ : فرز نصيب لله من الحرث والأنعام ، وكأنّه سبحانه فقير يجعلون له نصيباً ممّا يحرثون ويربّون من أنعامهم.

ب : الجور في التقسيم والقضاء ، فيعطون ما لله إلى الشركاء دون العكس ، وما هذا إلاّ لجهلهم بمنزلته سبحانه وأسمائه وصفاته.

وقد أشار إلى ما جاء تفصيله في سورة الأنعام على وجه موجز في المقام ، وقال :( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفتَرُون ) .

ونظير ما سبق انّهم كانوا يبغضون البنات ويجعلونها لله ، ويحبون البنين ويجعلونهم لأنفسهم ، وإليه يشير سبحانه بقوله :( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانهُ وَلَهُم ما يَشتَهُون ) والمراد من الموصول في( ما يشتهون ) هو البنون ، وبذلك تبيّن معنى قوله سبحانه :( لِلّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوء ) أي انّ المشركين المنكرين للآخرة يصفونه سبحانه بصفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمّها ، وقد عرفت كيفية وصفهم له فوصفوه عند التحليل بالفقر والحاجة والنقص والاِمكان ، والله سبحانه هو الغني المطلق ، فهو أعلى من أن يوصف بأمثال السوء ، ولكن الموحّد يصفه بالكمال كالحياة والعلم والقدرة والعزّة والعظمة والكبرياء ، والله سبحانه عند المؤمنين( هُوَ الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبّارُ الْمتَكَبّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبَارِئ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى ) (١) ويقول سبحانه :( وَلَهُ المَثَلُ الأعلى فِي

__________________

١ ـ الحشر : ٢٣ ـ ٢٤.

١٧٢

السَّموات وَالأرض ) (١) وقال :( لَهُ الاََسماءُ الحُسْنى ) .(٢)

ومنه يظهر جواب سؤال طرحه الطبرسي في « مجمع البيان » ، وقال : كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه( وَلله المثل الأعلى ) وقوله :( فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) .(٣)

والجواب انّ المراد من ضرب الأمثال هو وصفه بما يدل على فقره وحاجته أو تشبيهه بأُمور مادية ، وقد تقدم انّ المشركين جعلوا له نصيباً من الحرث والأنعام ، كما جعلوا الملائكة بناتاً له ، يقول سبحانه :( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الّذينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمن اناثاً ) ،(٤) ويقول سبحانه :( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنّة نَسباً ) .(٥) إلى غير ذلك من الصفات التي يتنزه عنها سبحانه ، فهذا النوع من التمثيل أمر محظور ، وهو المراد من قوله( فَلا تَضْرِبُوا لله الأمْثال ) .

وأمّا التمثيل لله سبحانه بما يناسبه كالعزّة والكبرياء والعلم والقدرة إلى غير ذلك ، فقد أجاب عليه القرآن ولم ير فيه منعاً وحظراً ، بشهادة انّه سبحانه بعد هذا الحظر أتى بتمثيلين لنفسه ، كما سيتضح في التمثيل الآتي.

وربما يذكر في الجواب بأنّ الأمثال في الآية جمع « المِثْل » بمعنى « الند » ، فوزان قوله( لا تضربوا لله الأمثال ) كوزان قوله :( فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً ) (٦) ، ولكنّه معنى بعيد ، فانّ المثل بفتح العين يستعمل مع الضرب ، دون المثل بسكون

____________

١ ـ الروم : ٢٧.

٢ ـ طه : ٨.

٣ ـ النحل : ٧٤.

٤ ـ الزخرف : ١٩.

٥ ـ الصافات : ١٥٨.

٦ ـ البقرة : ٢٢.

١٧٣

العين بمعنى الند فلم يشاهد اقترانه بكلمة الضرب.

ويقرب ممّا ذكرنا كلام الشيخ الطبرسي حيث يقول :

إنّ المراد بالأمثال الاَشباه ، أي لا تشبّهوا الله بشيء ، والمراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي هو كونه قديماً قادراً عالماً حياً ليس كمثله شيء.

وقيل إنّ المراد بقوله :( المثل الأعلى ) : المثل المضروب بالحق ، وبقوله :( فلا تضربوا لله الأمثال ) : الأمثال المضروبة بالباطل.(١)

وفي الختام نودُّ أن نشير إلى نكتة ، وهي انّ عدّ قوله سبحانه( للّذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ) من قبيل الأمثال القرآنية لا يخلو من غموض ، لأنّ الآية بصدد بيان نفي وصفه بصفات قبيحة سيئة دون وصفه بصفات عليا فأين التمثيل ؟

إلاّ أن يقال : إنّ التشبيه ينتزع من مجموع ما وصف به المشركون ، حيث شبّهوه بإنسان له حاجة ماسّة إلى الزرع والأنعام وله بنات ونسبة مع الجن إلى غير ذلك من أمثال السوء ، فالآية بصدد ردّ هذا النوع من التمثيل ، وفي الحقيقة سلب التمثيل ، أو سوق المؤمن إلى وصفه سبحانه بالأسماء الحسنى والصفات العليا.

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٣ / ٣٦٧.

١٧٤

النحل

٢٧

التمثيل السابع والعشرون

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالأرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَستَوون الحمدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ) .(١)

تفسير الآيات

ندّد سبحانه بعمل المشركين الذين يعبدون غير الله سبحانه ، بأنّ معبوداتهم لا تملك لهم رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً ، فكيف يعبدونها مع أنّها أشبه بجماد لا يرجى منها الخير والشر ، وإنّما العبادة للإله الرازق المعطى المجيب للدعوة ؟

هذا هو المفهوم من الآية الأولى.

ثمّ إنّه سبحانه يمثّل لمعبود المشركين والمعبود الحق بالتمثيل التالي :

افرض مملوكاً لا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً حتى نفسه ، فهو بتمام معنى الكلمة مظهر الفقر والحاجة ، ومالكاً يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه ، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء. فهل هذان متساويان ؟ كلاّ.

____________

١ ـ النحل : ٧٣ ـ ٧٥.

١٧٥

وعلى ضوء ذلك تمثّل معبوداتهم الكاذبة مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشيء ، ومثله سبحانه كمثل المالك للنعمة الباذل لها المتصرف فيها كيف شاء.

وذلك لأنّ صفة الوجود الإمكاني ـ أي ما سوى الله ـ نفس الفقر والحاجة لا يملك شيئاً ولا يستطيع على شيء.

وأمّا الله سبحانه فهو المحمود بكلّ حمد والمنعم لكلّ شيء ، فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والإحسان والإنعام ، فله كلّ ثناء جميل ، فهو الربّ ودونه هو المربوب ، فأيّهما يصلح للخضوع والعبادة ؟

ويدل على ما ذكرنا انّه سبحانه حصر الحمد لنفسه ، وقال : الحمد لله أي لا لغيره ، فالحمد والثناء ليس إلاّ لله سبحانه ، ومع ذلك نرى صحة حمد الآخرين بأفعالهم المحمودة الاختيارية ، فنحمد المعطي بعطائه والمعلم لتعليمه والوالد لما يقوم به في تربية أولاده.

وكيفية الجمع انّ حمد هؤلاء تحميد مجازى ، لأنّ ما بذله المنعم أو المعلم أو الوالد لم يكن مالكاً له ، وإنّما يملكه سبحانه فهو أقدرهم على هذه الأعمال ، فحمد هؤلاء يرجع إلى حمده وثنائه سبحانه ، ولذلك صح أن نقول : إنّ الحمد منحصر بالله لا بغيره. ولذلك يقول سبحانه في تلك الآية :( وَالحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ) أي الشكر لله على نعمه ، يقول الطبرسي : وفيه إشارة إلى أنّ النعم كلّها منه.(١)

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٣ / ٣٧٥.

١٧٦

النحل

٢٨

التمثيل الثامن والعشرون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَينَمَا يُوَجّههُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم ) .(١)

تفسير الآية

كان التمثيل السابق يبيّن موقف الآلهة الكاذبة بالنسبة إلى العبادة والخضوع وموقفه تبارك وتعالى حيالها ، ولكن هذا التمثيل جاء لبيان موقف عبدة الأصنام والمشركين وموقف المؤمنين والصادقين ، فيشبّه الأوّل بالعبد الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، ويشبّه الآخر بإنسان حرّ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.

نفترض عبداً رِقاً له هذه الصفات :

أ : أبكم لا ينطق وبالطبع لا يسمع لما في الملازمة بين البكم وعدم السماع ، بل الأوّل نتيجة الثاني ، فإذا عطل جهاز السمع يسري العطل إلى اللسان أيضاً ، لأنّه إذا فقد السمع فليس بمقدوره أن يتعلم اللغة.

ب : عاجز لا يقدر على شيء ، ولو قلنا بإطلاق هذا القيد فهو أيضاً لا

____________

١ ـ النحل : ٧٦.

١٧٧

يبصر ، إذ لو أبصر لا يصح في حقّه انّه لا يقدر على شيء.

ج :( كَلّ على مولاه ) : أي ثقل ووبال على وليّه الذي يتولّى أمره.

د :( أَينما يُوجّهه لا يَأْتِ بِخَير ) لعدم استطاعته أن يجلب الخير ، فلا ينفع مولاه ، فلو أرسل إلى أمر لا يرجع بخير.

فهذا الرق الفاقد لكلّ كمال لا يرجى نفعه ولا يرجع بخير.

وهناك إنسان حرٌّ له الوصفان التاليان :

أ : يأمر بالعدل.

ب : وهو على صراط مستقيم.

أمّا الأوّل ، فهو حاك عن كونه ذا لسان ناطق ، وإرادة قوية ، وشهامة عالية يريد إصلاح المجتمع ، فمثل هذا يكون مجمعاً لصفات عليا ، فليس هو أبكمَ ولا جباناً ولا ضعيفاً ولا غير مدرك لما يصلح الأمة والمجتمع. فلو كان يأمر بالعدل فهو لعلمه به فيكون معتدلاً في حياته وعبادته ومعاشرته التي هي رمز الحياة.

وأمّا الثاني : أي كونه على صراط مستقيم ، أي يتمتع بسيرة صالحة ودين قويم.

فهذا المثل يبيّن موقف المؤمن والكافر من الهداية الإلهية ، وقد أشار سبحانه إلى مغزى هذا التمثيل في آية أخرى ، وقال :( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلى الحَقِّ أحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إلاّ أن يُهَدى فَما لكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون ) .(١)

هذا التفسير مبني على أنّ التمثيل بصدد بيان موقف الكافر والمؤمن غير انّ هناك احتمالاً آخر ، وهو انّ التمثيل تأكيد للتمثيل السابق وهو تبيين موقف الآلهة الكاذبة والإله الحق.

__________________

١ ـ يونس : ٣٥.

١٧٨

النحل

٢٩

التمثيل التاسع والعشرون

( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون * وَلا تَكُونُوا كالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِي أَرْبى مِنْ أُمّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون ) .(١)

تفسير الآيات

التوكيد : التشديد ، يقال أوكدها عقدك ، أي شدّك ، وهي لغة أهل الحجاز و « الأنكاث » : الأنقاض ، وكلّ شيء نقض بعد الفتح ، فقد انكاث حبلاً كان أو غزلاً.

و « الدخل » ما أُدخل في الشيء على فساد ، وربما يطلق على الخديعة ، وإنّما استعمل لفظ الدخل في نقض العهد ، لأنّه داخل القلب على ترك البقاء ، وقد نقل عن أبي عبيدة ، انّه قال : كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل ، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول.

هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.

____________

١ ـ النحل : ٩١ ـ ٩٢.

١٧٩

وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها ، واسمها « ريطة » بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ، وكانت تسمّى فرقاء مكة.(١)

إنّ لزوم العمل بالميثاق من الأمور الفطرية التي جُبل عليها الإنسان ، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً ، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد ، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الإنسان.

ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الاَخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء.

وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد لله ، قال سبحانه :( وَأوفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كانَ مَسْؤولاً ) (٢)

وقال تعالى :( وَالّذِينَ هُمْ لأماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُون ) .(٣)

وفي آية ثالثة :( وَأوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) .(٤)

وفيما نحن فيه يأمر بشيء وينهى عن آخر.

أ : فيقول( أَوفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عاهَدْتُمْ ) فيأمر بالوفاء بعهد الله ، أي العهود التي يقطعها الناس مع الله تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة المسلمين ، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة الله سبحانه.

____________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٥.

٢ ـ الإسراء : ٣٤.

٣ ـ المؤمنون : ٨.

٤ ـ البقرة : ٤٠.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

( خالِدِينَ فِيها ) .

ويضيف القرآن معقبا في ختام الآية( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وبموازنة بسيطة بين ما ذكر آنفا في شأن الكفّار والمذنبين في الآيات السابقة ، وما ورد في هذه الآية ، تتّضح عظمة ثواب المؤمنين.

فالكفّار غارقون في نار جهنّم من قرنهم إلى قدمهم ، ويقال لهم على سبيل التوبيخ( ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أمّا المؤمنون فهم مقيمون في نعيم الجنّة وتحيط بهم رحمة الله من كلّ جانب ، وبدلا من كلمات التوبيخ يكلمون بكلام طيب ملؤه المحبّة واللطف الإلهي الكريم ، أجل يقال لهم :( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وبديهي أنّ المراد بالعاملين هنا مع قرائن الجمل السابقة ، هم الذين يعملون الصالحات المقرونة بإيمانهم ، وإن كانت كلمة العاملين مطلقة.

وفي حديث عن نبيّ الإسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله يصف الجنّة فيقول : «إنّ في الجنّة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها» فنهض بعض أصحابه فقال :

يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمن هذه الغرف؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «هي لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى لله بالليل والناس نيام»(١) .

والآية التالية تصف أهمّ ما يتحلّى به المؤمنون العاملون فتقول :( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

إذ يبتعدون عن الزوجة والأولاد والأهل والبيت والأحباب والأصدقاء وكل شيء عزيز عليهم ، لكنّهم يصبرون برغم الفراق يذوقون مرارة الغربة والتهجير عن أوطانهم ويصبرون ، وتتلقى أنفسهم العذاب والأذى من أعدائهم من أجل حفظ إيمانهم ، ويواجهون الصعاب في جهادهم الأكبر «جهادهم مع النفس» وجهادهم أعداءهم بشدّة ، ويتحملون أنواع المشاكل فيصبرون!

__________________

(١) تفسير القرطبي ذيل الآيات محل البحث ، ج ٧ ، ص ٥٠٧٥.

٤٤١

أجل ، هذا الصبر وهذه الاستقامة هما رمز انتصارهم وعامل فخرهم الكبير ، وبدونه لا يتحقق عمل إيجابي في الحياة.

ثمّ بعد هذا كلّه ، فهم لا يعتمدون على أموالهم ولا على أصدقائهم ، بل يعتمدون على الله ويتوكلون على ذاته المقدسة ، وإذ ابتغى ألف عدو هلاكهم تمثلوا قائلين : «امتحانك رحمة فلا أكترث بالأعداء».

وإذ أمعنا النظر وفكّرنا جيدا رأينا أن الصبر والتوكل هما أساس جميع الفضائل الإنسانية ، فالصبر هو عامل الاستقامة أمام العوائق والمشاكل ، والتوكل هو الهدف والباعث على الحركة في هذا الطريق المديد الملتوي.

وفي الحقيقة ينبغي الاستمداد من هاتين الفضيلتين (الصبر والتوكل) للأعمال الصالحة ، إذ بدونهما لا يمكن أن تؤدى الأعمال الصالحة بالمقياس الواسع(١) .

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ جواب لأولئك الذين كان لسان حالهم أو لسان مقالهم يقول إذا خرجنا عن ديارنا وأهلينا ، فمن سيطعمنا ويرزقنا؟ يخاطبهم القرآن أن لا تحزنوا على الرزق ولا تحملوا ثقل الذلة والأسر ، فالرازق هو الله ، لا لكم فحسب بل( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ) .

قليل من الدواب والحيوانات والحشرات ـ وكذلك الإنسان ـ يأتي برزقه من الصحراء والشجر إلى وكره ومسكنه كالنحل ـ التي تنتج العسل ـ والنمل ، وغالبا ما تكون الحيوانات بمثابة «طائر اليوم» أي كل يوم عليها أن تمضي لرزقها وتبحث عنه من جديد. وهكذا فإنّ ملايين الملايين من الحيوانات التي من حولنا ، في النقاط القريبة والبعيدة ، وفي الصحاري وأعماق البحار وأعالي

__________________

(١) تحدثنا عن حقيقة التوكل وحكمته وفلسفته بإسهاب في ذيل الآية (١٢) سورة إبراهيم ، وعن حقيقة الصبر لدى تفسير الآية (١٢) من سورة إبراهيم والآية (٢٤) من سورة الرعد والآية (٢٦) من سورة الأعراف.

٤٤٢

الجبال والأماكن الأخرى ، فإنّها كلّها تقتات من مائدة الله السرمدية.

وأنت أيّها الإنسان أقوى من تلك الحيوانات وأذكى في جلب الرزق ، فلم كلّ هذا الخوف من انقطاع الرزق؟!

ولم الركون إلى حياة الذل والاستكانة والفجور؟!

ولم تظل سادرا تحت وطأة الظلم والقهر والهوان والذل؟! اخرج أنت أيضا من داخل هذه الدائرة المظلمة ، واجلس على مائدة خالقك الواسعة ولا تفكر بالرزق!.

فأنت يوم كنت جنينا محبوسا في بطن أمّك ، ولا تصل إليك أية يد حتى من أبيك وأمك الرؤوم ، لم ينسك الله الذي خلقك ، وهيأ ما كنت تحتاج إليه لك بكل دقّة ، فكيف وأنت اليوم كائن قوي ورشيد؟!

وحيث أن إيصال الرزق للمحتاجين هو فرع علمه تعالى بحاجاتهم ، فالقرآن يؤكّد في نهاية الآية قائلا :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

يسمع كلامكم كلّه ، ويعرف لسان حالكم ، ولسان حال جميع الدواب ، وهو خبير بحاجات الجميع ، ولا يخفى على علمه الذي لا حد له شيء أبدا.

* * *

٤٤٣

الآيات

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) )

التّفسير

الإقرار بالتوحيد في الباطن والشرك في الظاهر :

كان الحديث في الآيات السابقة موجّها إلى المشركين الذين أدركوا حقانية الإسلام ، إلّا أنّهم لم يكونوا مستعدين للإيمان والهجرة ، خوفا من انقطاع الرزق عليهم.

٤٤٤

أمّا في هذه الآيات ، فالحديث موجه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي الواقع لجميع المؤمنين ، وهو يبيّن دلائل التوحيد عن طرق «الخلقة» ، و «الربوبيّة» ، و «الفطرة» ، أي عن ثلاث طرائق متفاوتة ، ويريهم أن مصيرهم وعاقبة أمرهم بيد الله الذي يجدون آثاره في الآفاق وفي أنفسهم ، لا بأيدي الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.

فتبدأ الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث ـ مشيرة إلى خلق السماوات والأرض وتستعين باعتقاداتهم الباطنية فتقول :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) !

لأنّ من المسلم به أنّه لا عبدة الأصنام ولا غيرهم ولا أي أحد آخر يقول : إنّ خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر حفنة من الأحجار والخشب المصنوعة بيد الإنسان.

وبتعبير آخر : لا يشك في «توحيد الخالق» حتى عبدة الأصنام حيث كانوا مشركين في عبادة الخالق ، وكانوا يقولون : إنّما نعبد أوثانا ليقربونا إلى الله زلفى ، فهم الوسطاء بيننا وبين الله ، كما نقرأ في الآية (١٨) من سورة يونس( وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) فنحن غير جديرين أن نرتبط بالله مباشرة ، بل ينبغي أن نرتبط به عن طريق الأصنام( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى ) .(١)

وهم غافلون عن أنّه لا تفصل بين الخالق والمخلوق أية فاصلة ، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد ، زد على ذلك : إذا كان الإنسان ـ الذي هو بمثابة الدرّة اليتيمة في تاج الموجودات ـ لا يستطيع أن يرتبط بالله مباشرة ، فأي شيء يكون واسطة الإنسان إلى الله؟!

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية بعد ذكر هذا الدليل الواضح تتساءل :( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي مع هذا المال كيف يعرضون عن عبادة خالقهم ويستبدلونها بعبادة مجموعة من الأحجار والأخشاب؟!

__________________

(١) الزمر ، الآية ٣.

٤٤٥

كلمة «يؤفكون» مشتقّة من «إفك» على زنة «فكر» ومعناها إعادة الشيء من صورته الواقعية والحقيقية ، وبهذه المناسبة تطلق الكلمة على الكذب وعلى الرياح المخالفة «للاتجاه» أيضا.

والتعبير بـ «يؤفكون» بصيغة المجهول إشارة إلى أنّهم لا قدرة لهم على التصميم ، فكأنّهم منجذبون إلى عبادة الأوثان دون إرادة.

والمراد من تسخير الشمس والقمر النظم التي أقرها الله تعالى ، وجعل الشمس والقمر في دائرة هذه النظم في خدمة الإنسان ، ومنافعه.

ثمّ يضيف القرآن تأكيدا لهذا المعنى ، وهو أن الله خالق الخلق ورازقهم ، فيقول :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ) فمفتاح الرزق بيده لا بيد الناس ولا بيد الأصنام.

وما ورد بيانه في الآيات السابقة من أنّ المؤمنين حقّا هم وحدهم يتوكلون عليه ، فلأجل هذا المعنى ، وهو أن شيء بيده وبأمره ، فعلام يخشون من إظهار الإيمان ، ويرون حياتهم في خطر من جهة الأعداء.

وإذا كانوا يتصورون أنّ الله قادر ، إلّا أنّه غير مطّلع على حالهم ، فهذا خطأ كبير لـ( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

ترى هل يمكن لخالق مدبر يصل فيضه لحظة بعد أخرى لموجوداته ، وفي الوقت ذاته يكون جاهلا بحالها؟.

وفي المرحلة الثّانية يقع الكلام عن «التوحيد الربوبي» ونزول مصدر الأرزاق من قبله عليهم ، فيقول :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .

فهذا هو ما يعتقده عبدة الأصنام في الباطن ، ولا يتأبون من الاعتراف على ألسنتهم! فهم يعرفون أن الخالق هو الله ، وأنّه ربّ العالم ومدبره.

ثمّ يضيف القرآن مخاطبا نبيّه( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) . فالحمد والثناء لمن أنعم

٤٤٦

جميع النعم ، إذ لمّا كان الماء الذي هو مصدر الحياة لجميع الحيوانات من رزق الله فيكون واضحا أن الأرزاق جميعها صادرة من قبله أيضا.

قل الحمد لله «واشكره» ، لأنّهم يعترفون بهذه الحقائق.

وقل الحمد لله ، فمنطقنا قوي متين حيّ إلى درجة لا يستطيع أي أحد إبطاله أو تفنيده. وحيث أنّ أقوال المشركين من جهة ، وأعمالهم وأفعالهم وكلماتهم من جهة أخرى ، يناقض بعضها بعضا ، فإنّ الآية تختتم بإضافة الجملة التالية( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .

وإلّا فكيف يمكن للإنسان العاقل أن يتناقض في كلماته ، فتارة يرى أن الخالق والرازق والمدبّر للعالم هو الله ، وتارة يسجد للأوثان التي لا تأثير لها بالنسبة لعواقب الناس!. فمن جهة يعتقدون بتوحيد الخالق والرب ، ومن جهة أخرى يظهرون الشرك في العبادة.

ومن الطريف أنّ الآية لا تقول : «أكثرهم لا عقل لهم» بل تقول :( لا يَعْقِلُونَ ) ومعناها أنّهم لديهم العقول ، إلّا أنّهم لا يستوعبون ولا يتعقلون!

ومن أجل أن يحوّل القرآن أفكارهم من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع من خلال منظار العقل ، فإنّه يبيّن في الآية التالية كيفية الحياة الدنيا قياسا إلى الحياة الأخرى الخالدة ، في عبارة موجزة ومليئة بالمعاني ، فيقول :( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

كم هو تعبير بليغ وبديع! لأنّ «اللهو» معناه الانشغال أو كل عمل يصرف الإنسان إليه ويشغله عن مسائل الحياة الأساسية.

أمّا «اللعب» فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخيالي ، والهدف الخيالي أيضا ، ففي اللعب يكون أحد اللاعبين ملكا ، والآخر وزيرا ، والثّالث قائدا للجيش ، والرابع ـ السارق أو «الحرامي» ، والخامس يمثل القافلة وهكذا ، وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كل شيء إلى مكانته ، وكأن المسألة لا تعدوا

٤٤٧

طيفا أو خيالا فلا أثر ولا خبر.

فالقرآن في هذا الصدد يشرح حال الدنيا وحال الآخرة ، مبينا أن الحياة الدنيا هي نوع من الانشغال واللعب يجتمع الناس فيها وينشدّون إلى تصورات قلوبهم وأنفسهم ، وبعد أيّام يتفرقون ويختفون تحت التراب ، ثمّ يطوى كل شيء ويغدو في سلة النسيان.

أمّا الحياة الحقيقية التي لا فناء بعدها ، ولا ألم فيها ، ولا قلق ولا خوف ولا تضاد ولا تزاحم ، فهي الحياة الآخرة فحسب لو كان الإنسان يعرف ذلك ، وكان أهلا للتدقيق والتحقيق!

أمّا الذين تعلقت قلوبهم بهذه الحياة ، وفتنوا برزقها وزخرفها وزبرجها ، ويأنسون بها ، فهم أطفال لا غير وإن امتدت أعمارهم سنين طويلة.

وينبغي الالتفات إلى أنّ المراد من «الحيوان» على زنة «خفقان» هو الحياة ، فهذه الكلمة تحمل معنى مصدريا(١)

وهذا التعبير( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) إشارة إلى أن الحياة الحقيقية هي في الأخرى ، لا في هذه الدار الدنيا ـ فكأنّ الحياة في الأخرى تفور من جميع أبعادها ، ولا شيء هناك إلّا الحياة.

وبديهي أن القرآن لا يريد أن ينسى وينفي مواهب الله في هذه الدار الدنيا ، بل يريد أن يجسد قيمة هذه الدنيا بالقياس إلى الأخرى قياسا صريحا وواضحا وإضافة إلى كل ذلك فإنّه ينذر الإنسان لئلا يكون أسيرا لهذه المواهب ، بل ينبغي أن يكون أميرا عليها ، ولا يؤثرها على القيم الأصيلة أبدا.

وفي المرحلة الثّالثة يتجه القرآن نحو الفطرة والجبلّة الإنسانية ، ونحو تجلّي نور التوحيد في أشدّ الأزمات في أعماق روح الإنسان ، وضمن مثال بديع جدّا وبليغ فيقول :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ

__________________

(١) أصل الكلمة مشتق من «حيي» ومصدرها «حييان» ثم أبدلت الياء الثانية واوا فصارت حيوان.

٤٤٨

إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) .

أجل ، إنّ الشدائد والأزمات هي التي تهيء الارضية لتفتح الاجتماعية «الفطرة» الإنسانية ، لأنّ نور التوحيد مخفي في أرواح الناس جميعا ، إلّا أن الآداب والمسائل الخرافية والتربية الخاطئة والتلقينات السيئة تلقي عليه ظلالا وأستارا ، ولكن حين تحدق بالإنسان الشدائد وتحيط به دوّامات المشاكل ، ويرى يده قاصرة عن الأسباب الظاهرية ، يتجه بدون اختياره إلى عالم ما وراء الطبيعة ، ويخلص قلبه من كل نوع من أنواع الشرك والكفر ، وينصهر في تنور الحوادث ، ويكون مصداقا لقوله تعالى :( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .

وملخص الكلام : إنّه توجد في داخل قلب الإنسان دائما نقطة نورانية ، وهي خطّ ارتباطه بما وراء عالم الطبيعة ، وأقرب طريق إلى الله.

إلّا أنّ التعليمات الخاطئة والغفلة والغرور ـ وخاصة عند السلامة ووفور النعمة ـ تلقي عليها أستارا ، غير أن طوفان الحوادث يزيل هذه الأستار ، وتتجلى نقطة النور آنذاك.

وعلى هذا ، فإنّ أئمّة المسلمين العظام كانوا يرشدون المترددين في مسألة «معرفة الله» ويغرقون في الشك والحيرة بهذا الأمر.

وقصّة الرجل المتحيّر المبتلى بالشك في معرفة الله ، والذي أرشده الإمام الصادقعليه‌السلام عن طريق الفطرة والوجدان ، سمعناها جميعا إذ قال : يا ابن رسول الله ، دلّني على الله ما هو؟! فقد أكثر علي المجادلون وحيّروني!

فقال له الإمامعليه‌السلام : «يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ؟

قال : نعم.

قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟!

قال : نعم! قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من

٤٤٩

ورطتك؟!

قال : نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث».(١)

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وبعد ذكر جميع هذه الدلائل على التوحيد وعبادة الله ، يواجه القرآن المشركين والكفار بتهديد شديد فيقول : إن هؤلاء أنكروا آياتنا وكفروا بما رزقناهم من النعم فليتمتعوا بها أيّاما قلائل :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) عاقبة كفرهم وشركهم إلى أين ستبلغ بهم؟

وأي ابتلاء ومصير مشؤوم سيقعون فيه؟! وبالرغم من أنّ ظاهر الآية هنا هو الأمر بالكفر وإنكار آيات الله إلّا أن من البديهي أنّ المراد منه التهديد وهذا تماما ينطبق مثلا على ما لو قلنا لمذنب جان : افعل ما بدا لك من إجرام ، إلّا أنّك سرعان ما تذوق مرارة عملك؟

ففي مثل هذه العبارات ، وإن استعملت صيغة الأمر فيها ، إلّا أنّ الهدف من ورائها هو التهديد وليس الطلب.

والطريف أن جملة( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) جاءت بصورة مطلقة ، فهي لا تقول : أي شيء يعلمون بل تقول : سيعلمون عاجلا ، هذا هو معنى( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

إطلاق الكلام هذا ليكون مفهومه واسعا ولا يتحدد ذهن السامع بأي شيء فنتيجة الأعمال السيئة هي عذاب الله ، الافتضاح في الدارين ، وكل أنواع الشقاء وسوء العاقبة!.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٤١» الطبعة الجديدة.

٤٥٠

ملاحظة

الشدائد واشراق القطرة :

سنتحدث بإذن الله في ذيل الآية الثلاثين من سورة الروم حول «فطريّة» أصل التوحيد ومعرفة الله بشكل مفصّل ، وما يلزم ذكره هنا هو أنّ القرآن المجيد يتحدث في آيات كثيرة عن المشاكل والصعاب على أنّها باعثة على ظهور الفطرة الإنسانية وبروزها «فالمشاكل والصعاب وسيلة لاشراق الفطرة».

يقول القرآن في بعض آياته :( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) .(١)

ويأتي هذا المعنى في سورة يونس ، ولكن بأسلوب آخر ، إذ يقول القرآن( إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ) (٢) كما ورد هذا المعنى في سورة الروم الآية (٣٢) وسورة الزمر الآية (٤٩) وسورة الإسراء الآيات (٦٧) ـ (٦٩) بعبارات أخرى وإشارات مليئة بالمعاني.

وفي الآيات ـ محل البحث ـ قرأنا أيضا أن المشركين في الحالات العادية يتجهون إلى الأصنام ، ولكن إذا سافروا في البحر وأحاطت بهم الأمواج والطوفان ، وأضحت سفينتهم كالقشة في وسط الأمواج المتلاطمة تتقاذفها هنا وهنا ، وانقطعت بهم السبل تتنور قلوبهم بنور التوحيد ويلقون جانبا جميع المعبودات المصنوعة ، ويخلصون قلوبهم كاملا ـ لكن خلوصا إجباريا لا قيمة له ـ فما أن يهدأ الطوفان وتتلاشى الأمواج وتعود الحالة الاعتيادية ، حتى تنزل الأسدال على الفطرة وتظهر أشواك الشرك والوثنية على هذه «الوردة».

__________________

(١) النحل ، الآيتان ٥٣ ـ ٥٤»

(٢) يونس ، الآية ١٢.

٤٥١

قد يقال : إنّ هذه الحالة من التوجه تحصل على أثر التلقين والرسوبات الفكرية من الثقافة الاجتماعية وأفكار المحيط.

ويمكن قبول مثل هذا الكلام فيما إذا كانت هذه المسألة تحدث خاصّة في موارد المتدينين أو الذين نشؤوا في محيط ديني ، ولكن مع الالتفات إلى أن هذه الحالة تظهر حتى عند أشد المنكرين لله ، وفي المجتمعات غير المذهبية ، فيتّضح حينئذ أن جذرها كامن في الضمير (غير الواعي) للإنسان ، وفي داخل فطرته وجبلّته!.

* * *

٤٥٢

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩) )

سبب النّزول

نقل في تفسير «الدر المنثور» عن ابن عباس ـ ذيل الآية محل البحث ـ أن جماعة من المشركين قالوا : يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلّا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلّتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس ، فانزل الله :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً ) وكانت جوابا لهم.

التّفسير

أشارت الآيات ـ التي سبق ذكرها ـ إلى بعض الحجج الواهية للمشركين ، وهي أنّنا نخاف على حياتنا إذا أظهرنا الإيمان ثمّ هاجرنا معك يا رسول الله ، وقد ردّ عليها القرآن بطرق مختلفة.

٤٥٣

وفي الآيات ـ محل البحث ـ يردّ القرآن عليهم بطريق آخر فيقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ) أي أرض مكّة المكرمة.

في حين أن العرب كانوا يعيشون في حالة غير آمنة خارج مكّة ، وكانت قبائلهم مشغولة بالنهب والسلب والغارات ، إلّا أن هذه الأرض باقية على أمنها( وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) .

فالله المقتدر على أن يجعل في هذا البحر المتلاطم والطوفان المحدق بأرض الحجاز «من الفتن» حرم مكّة كالجزيرة الهادئة الآمنة وسط البحر. كيف لا يمكنه أن يحفظهم من أعدائهم؟! وكيف يخافون الناس الضعاف قبال قدرة الله العظيمة جلّ وعلا؟( أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ) .

وملخص الكلام ، إنّ الله القادر على أن يجعل في أرض مضطربة في وسط جماعة من الناس أنصاف وحشيين منطقة صغيرة آمنة ، فكيف لا يقدر على حفظ جماعة المؤمنين القلائل بين جماعات كثيرة من الكفار.

وبعد ذكر هذا الدليل الواضح ينتهي القرآن الى هذه النتيجة في الآية التالية( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ ) .

لقد قدمنا دلائل واضحة لكم على أنّه لا شيء أحق بالعبادة وأحرى بها من الله ، لكنّكم كذبتم على الله ، وصنعتم له شركاء بأيديكم ، وتدعون أن هذا هو منهج إلهي.

ومن جهة أخرى ، فإنّ القرآن الذي أنزلناه عليكم فيه دلائل الحق لائحة واضحة ، إلّا أنّكم لم تكترثوا به ، وألقيتموه وراءكم ظهريا! فهل يتصور ظلم أشدّ من هذا؟! لقد ظلمتم أنفسكم وظلمتم الناس جميعا ، لأنّ الشرك ظلم عظيم.

وبتعبير آخر : هل الظلم بمعناه الوسيع إلّا الانحراف وإخراج الشيء عن محلّه الجدير به ، وهل يرى أسوأ من أن يعدّ الإنسان حفنة من الأحجار المصنوعة التي لا قيمة لها أو الخشب المصنوع شركاء للخالق سبحانه الذي

٤٥٤

خلق السماوات والأرض.

إضافة إلى ذلك فإنّ الشرك مصدر جميع المفاسد الاجتماعية ، وفي الواقع إن المظالم الأخرى تسترفد منه ، عبادة الهوى ، عبادة المقام ، عبادة الدنيا ، كل منها نوع من الشرك.

ولكن اعلموا أنّ عاقبة الشؤم والخزي للمشركين( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) .

من الجدير ذكره أنّ في القرآن الكريم ١٥ موردا عبّر فيها القرآن عن بعض الأفراد بأنّهم الأظلم ، وجميع هذه الموارد بدأت بجملة استفهامية( وَمَنْ أَظْلَمُ ) طبعا الاستفهام هنا استنكاري.

والتدقيق في هذه الآيات يدل على أنّ الآيات المذكورة وإن عالجت مسائل متنوعة ، إلّا أنّها جميعا تعود إلى الشرك ، فعلى هذا لا تضاد بينها أبدا. «لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآية (٢١) من سورة الأنعام».

وآخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ وهي في الوقت ذاته آخر آية سورة العنكبوت ، تبيّن واقعا مهما ، وهي عصارة جميع هذه السورة ، وتنسجم مع بدايتها. ،

تقول الآية بالرغم من أن المشاكل المتعددة تحيط بطريق المسير إلى الله ، من قبيل مشكلة معرفة الحق ، ومشكلة وساوس الشياطين من الإنس والجن ، ومشكلة عناد الأعداء الألداء الظالمين الذين لا يرحمون ، ومشكلة الانحرافات الاحتمالية ، لكن هنا حقيقة ثابتة ، وهي أن الله يمنحكم القوّة والاطمئنان قبال المشاكل ويدافع عنكم ، تقول الآية :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وفي معنى «الجهاد» هنا والمراد منه احتمالات متعددة. أهو جهاد الأعداء؟ أم جهاد النفس؟ أم الجهاد في سبيل معرفة الله عن الطرق العلمية؟

٤٥٥

للمفسّرين آراء في هذا المجال.

وكذلك في معنى «فينا» الذي ورد تعبيره في الآية ، هل المراد منه في سبيل الله؟! أم في سبيل الجهاد للنفس ، أم في سبيل العبادة ، أم مواجهة الأعداء؟

ولكن من الواضح أنّ التعبير بالجهاد له معنى واسع مطلق ، ومثله التعبير بكلمة «فينا» فالتعبير يشمل كل سعي وجهاد في سبيل الله ومن أجله ، وللوصول إلى الأهداف الإلهية ، كل ذلك يصدق عليه( جاهَدُوا فِينا ) سواء كان في سبيل كسب المعرفة! أو جهاد النفس ، أو مواجهة الأعداء ، أو الصبر على الطاعة ، أو الصبر على المعصية ، أو في إعانة الضعفاء ، أو في الإقدام على أي عمل حسن وصالح!

ويتّضح ممّا قلناه ضمنا أنّ المراد بـ «السبل» الطرق المتعددة التي تنتهي إلى الله ، سبيل جهاد النفس ، سبيل جهاد الأعداء ، سبيل العلم والثقافة. والخلاصة ، فإن الجهاد في كل طريق من هذه الطرق والسبل سبب لهداية المسير المنتهي إلى الله.

وهذا وعد وعده الله لجميع المجاهدين في سبيله ، وأكده بأنواع التأكيدات كـ «لام التأكيد والنون الثقيلة» وجعل التوفيق والإنتصار والرقي في محور شيئين هما «الجهاد» و «خلوص النية».

ويعتقد جماعة من الفلاسفة أنّ التفكر والمطالعة لا يوجدان العلم ، بل يهيئان روح الإنسان لقبول صور المعقولات ، وحين تتهيأ الروح الإنسانية للقبول يتنزّل «الفيض» من قبل الخالق المتعال وواهب الصور بالعلم و «الحكمة».

فعلى هذا ينبغي على الإنسان أن يجاهد في هذا الطريق ، إلّا أن الهداية بيد الله تعالى.

وما ورد في الحديث أنّه «ليس العلم بكثرة التعلم والتعليم ، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء» ، فلعله إشارة إلى هذا المعنى أيضا.

* * *

٤٥٦

ملاحظتان

١ ـ الجهاد والإخلاص

يستفاد من الآية المتقدمة بصورة جيدة أنّنا إذا أصبنا بأي نوع من الهزيمة عدم الموفقية ، فسبب ذلك وعلته أحد أمرين : إمّا أنا قصّرنا في جهادنا ، أو لم يكن لدينا إخلاص في العمل ، وإذا اجتمع الجهاد والإخلاص ـ فبناء على وعد الله ـ فإن النصر والهداية حتميّان.

ولو فكّرنا جيدا لاستطعنا أن نعزو جميع المشاكل والمصائب في المجتمع الإسلامي الى التقاعد عن الجهاد وعدم الإخلاص ، فهما مصدرها.

فلم تأخر المسلمون ، الذين كانوا متقدمين بالأمس!؟

ولم يمدون يد الحاجة إلى الأجانب في كل شيء ، حتى في الثقافة والقوانين ، وحتى نظمهم الخاصة.

ولم يعتمدون على غيرهم من أجل حفظ أنفسهم من التيارات السياسية والهجومات العسكرية.

لم كان الآخرون جالسين يوما على مائدة المسلمين التي كان خوانها مبسوطا بالعلم والثقافة والمعرفة ، واليوم أصبح المسلمون جالسين على مائدة الآخرين؟!!

وأخيرا ، لم نرى المسلمين أسرى في قبضة الآخرين ، وأراضيهم مغصوبة من قبل الظالمين؟

الإجابة على جميع هذه الأسئلة منحصرة في سبب واحد ، هو «نسيانهم الجهاد» أو «عدم الخلوص في النية».

أجل ، لقد أهملوا الجهاد في الميادين العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ، وتغلّب عليهم حب النفس وعشق الدنيا او طلب الراحة والنظرة الضيقة والأغراض الشخصيّة ، حتى أصبح قتلاهم على أيديهم

٤٥٧

أكثر من قتلاهم على أيدي أعدائهم!.

إنّ استغراب بعض المسلمين الذي انبهروا بحضارة الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي ، وعمالة بعض الرؤساء والزعماء ، ويأس وانزواء العلماء والمفكرين كل ذلك سلبهم التوفيق الى الجهاد ، وكذلك حرمهم من الإخلاص.

ومتى ما ظهر قليل من الإخلاص بين صفوفنا ، وتحرك مجاهدونا حركة ذاتية ، فإن النصر يكون حليفنا واحدا بعد الآخر وتتقطع غلال الأسر ويتبدل اليأس إلى أمل مشرق ، وسوء الحظ الى حسن الحظ ، والذلة إلى العزة ورفعة الرأس ، كما تتبدل الفرقة والشتات إلى الوحدة والانسجام.

وما أعظم ما قاله القرآن! وما أبلغ إلهامه! إذ جمع في جملة واحدة الداء والدواء معا.

أجل إن الذين يجاهدون في سبيل الله تشملهم هدايته ، ومن البديهي أنّه مع هداية الله ، فلا ضلال ولا خسران ، ولا انهزام.

وإذا لاحظنا أن الآية مفسرة في بعض روايات أهل البيتعليهم‌السلام بآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأتباعهم ، فهي مصداق كامل لذلك «التّفسير» لأنّهم كانوا السابقين والمتقدمين في طريق الجهاد ، وليس في الآية دليل على تحديد مفهومها أبدا.

وعلى كل حال ، فإنّ كل إنسان يلمس هذه الحقيقة القرآنية في سعيه واجتهاده ، حيث يجد الأبواب مفتوحة عند ما يعمل لله وفي سبيل الله ، وتنتهي مشاكله السهلة والصعبة وتضحى بسيطة متحملة.

٢ ـ الناس ثلاثة أصناف :

فصنف لجوج معاند لا تنفعه أية هداية.

وصنف مجد دؤوب مخلص ، وهذا الصنف يصل إلى الحق.

وصنف ثالث أعلى من الصنف الثاني ، فهذا الصنف ليس بعيدا حتى يقترب

٤٥٨

من الحق ، ولا منفصلا عنه حتى يتصل به ، لأنّه معه أبدا.

فالآية المتقدمة( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى ) إشارة إلى الصنف الأوّل.

وجملة( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ) إشارة إلى الصنف الثّاني.

وجملة( إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) إشارة إلى الصنف الثّالث.

ويستفاد ـ ضمنا ـ من هذا التعبير أن مقام «المحسنين» أسمى من مقام «المجاهدين» ، لأنّ المحسنين إضافة إلى جهادهم في سبيل الله لنجاة أنفسهم ، فهم مؤثرون غيرهم على أنفسهم ، ويحسنون إلى الآخرين ، ويسعون لإعانتهم.

ربّنا وفقنا توفيقا ترحمنا به ، فلا نكفّ أيدينا عن الجد والاجتهاد.

إلهنا ارزقنا الإخلاص حتى لا نفكر في سواك ، ولا نخطوا لغيرك.

إلهنا ارفع درجاتنا حتى نعلو على مقام المجاهدين وننال درجة المحسنين ، وارزقنا هدايتك في جميع أعمارنا.

آمين يا ربّ العالمين

انتهاء بسورة العنكبوت

* * *

٤٥٩
٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592