الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180882 / تحميل: 6359
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

به القوى الغادرة، فلمّا قرأ الرسالة قالعليه‌السلام : (آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر).

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت نفسه أسىً وحسرات(1) .

موقف والي الكوفة:

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان - كما يتصور - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد ذكر في خطابه:

(أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل)(2) .

____________________

(1) اللهوف: 38، وأعيان الشيعة: 1 / 590، وبحار الأنوار: 44 / 339.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 267.

١٦١

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله(1) .

أنصار الأمويين يتداركون أُمورهم:

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الأمويين والمعارضين لأهل البيتعليهم‌السلام وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنينعليه‌السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيتعليهم‌السلام والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ)(2) .

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي - ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(3) .

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42، وأنساب الأشراف: 77، والفتوح: 5 / 75، والعوالم للبحراني: 13 / 182.

(2) الإرشاد: 2 / 42، وإعلام الورى: 1 / 237.

(3) المصدر السابق.

١٦٢

قلق يزيد واستشارة السيرجون(1) :

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم للإمام الحسينعليه‌السلام فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية فقال له: ما رأيك؟ - إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله ابن زياد(2) ، فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال: بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة،

____________________

(1) السيرجون غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له. واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة والأمة الإسلامية وقادتها الأمناء عليها.

لقد كان لكل من تميم الداري ( الراهب النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر حيث كان يحترمهما ويستشيرهما ويسمح لهما بالتحدث كل اسبوع قبل صلاة الجمعة فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ( راجع كنز العمّال الحديث رقم 4865 وتذكرة الحفاظ بترجمة عمر وتاريخ ابن كثير: 8 / 107 ).

وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر وتعاظم في عهد الأمويين واستمر في عهد العباسيين بالرغم من أن الإمام عليّاًعليه‌السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في الساحة الإسلامية وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب حيث تلاحظ أن كاتبه ومستشاره نصراني، وهو (السيرجون) كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل)، والشام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين 2 / 51 - 53 ).

(2) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد، انظر البداية والنهاية: 8 / 152.

١٦٣

وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه:

(أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ، والسلام)(1) .

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة:

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(2) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسينعليه‌السلام و معظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسينعليه‌السلام .

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد: مرحباً بك ياابن رسول الله قدمت خير مقدم(3) .

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة، فاضطرب النعمان

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42 - 43، وإعلام الورى: 1 / 437، وسير أعلام النبلاء: 3 / 201.

(2) إعلام الورى: 1 / 437.

(3) الإرشاد: 2 / 43، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٤

وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب...(1) .

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر، حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة:

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد، حتى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(2) .

ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال: (... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه، وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت

____________________

(1) الإرشاد: 2/43، وروضة الواعظين: 173، ومقتل الحسين للخوارزمي: 198، وتهذيب التهذيب: 2 / 302.

(2) مقاتل الطالبيّين: 97، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٥

تلك العرافة من العطاء)(1) .

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم، من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانىء بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع(2) .

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد:

لقد كان مسلم بن عقيل - رضوان الله تعالى عليه - يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانىء بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 45، والفصول المهمة: 197، والفتوح لابن أعثم: 5 / 67.

(2) مروج الذهب: 2 / 89، والأخبار الطوال: 213، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٦

فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس.

ولمس مسلم كراهية هانىء أن يقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان: أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)(1) .

الغدر بمسلم بن عقيل:

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسينعليه‌السلام وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه(2) فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسينعليه‌السلام وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدةحوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته

____________________

(1) الأخبار الطوال: 187، ومقاتل الطالبيّين: 98، وإعلام الورى: 1 / 428.

(2) إعلام الورى: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.

١٦٧

وكأنّ الأمر لا يعنيه(1) .

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم(2) .

لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(3) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ القوم

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام الورى: 1 / 441.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الورى: 1 / 441، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والكامل في التأريخ: 3 / 271.

(3) جاء في (الإرشاد) أنّهم كانوا سبعين رجلا.

١٦٨

يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسينعليه‌السلام يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(1) .

____________________

(1) يراجع في تفصيلاته إلى: أعيان الشيعة: 1/592، إعلام الورى: 1 / 442، والكامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل الطالبيّين: 92.

١٦٩

البحث الخامس: حركة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسينعليه‌السلام ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السير مع ركب الحسينعليه‌السلام حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكانعليه‌السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسينعليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه‌السلام مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(1) .

لماذا اختار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

1 - إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 67.

١٧٠

المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم.

2 - إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد.

3 - لم يكن أمام الحسينعليه‌السلام من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

4 - كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام عليعليه‌السلام والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام فأراد الإمام الحسينعليه‌السلام أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد

١٧١

الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام إلى العالم الإسلامي في السنين اللاحقة.

5 - إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمامعليه‌السلام إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختيارهعليه‌السلام بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

6 - لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسينعليه‌السلام وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

١٧٢

تصريحات الإمامعليه‌السلام عند وداعه مكة:

صدرت عن الإمام الحسينعليه‌السلام عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبتهعليه‌السلام على من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

1 - روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قولهعليه‌السلام : (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة)(1) .

2 - كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمامعليه‌السلام على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أرادعليه‌السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم).

فأجابه الإمامعليه‌السلام : (خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت)، فقال محمد: (فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد)، قال الحسينعليه‌السلام : (أنظر فيما قلت).

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى،

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 4 / 39.

١٧٣

وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمامعليه‌السلام : (بلى ولكنّي أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام : (قد شاء الله أن يراهن سبايا)(1) .

ولم يكن اصطحاب الحسينعليه‌السلام لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين لنصرته، فمن تولّى الحسينعليه‌السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسينعليه‌السلام فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة أنّ الخلاف بزعم الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة.

3 - ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللهعليهم‌السلام لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا،

____________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشيعة: 1 / 592، وبحار الأنوار: 44 / 364.

١٧٤

فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى)(1) .

يُبَيِّنُ الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيتعليهم‌السلام .

خلاصة الثورة في رسالة:

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسينعليه‌السلام بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء فيها بعد البسملة:

(من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام)(2) .

ولمّا وردت رسالة الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

____________________

(1) إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 20.

(2) مناقب آل أبي طالب: 4 / 76، وبصائر الدرجات: 481، ودلائل الإمامة: 77.

(3) راجع تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام .

١٧٥

ملاحقة السلطة للإمامعليه‌السلام :

ولم يبعُد الإمامعليه‌السلام كثيراً عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمامعليه‌السلام عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(1) .

في التنعيم:

ومضى ركب الإمام الحسينعليه‌السلام لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(2) صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون(3) .

في الصفاح:

وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح(4) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسيوف مع بني أُمية،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 68.

(2) التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، جاء ذلك في معجم البلدان: 2 / 49.

(3) الإرشاد: 2 / 68.

(4) الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان: 3 / 412.

١٧٦

والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ(1) .

ثمّ واصل الإمامعليه‌السلام مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين.

كتاب الإمامعليه‌السلام لأهل الكوفة:

ولمّا وافى الإمام الحسينعليه‌السلام الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكنعليه‌السلام قد وصله خبر ابن عقيل، هذا نصّه:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية،

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرّم: 203، البداية والنهاية، ابن كثير: 8/180، صفة مخرج الحسينعليه‌السلام إلى العراق.

١٧٧

فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا(1) في أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(2) .

وقد بعثعليه‌السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الأمويين:

سرى نبأ مسير الإمامعليه‌السلام نحو الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسينعليه‌السلام والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمامعليه‌السلام ، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

اعتقال الصيداوي وقتله:

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله

____________________

(1) انكمشوا: بمعنى أسرعوا.

(2) الإرشاد: 2 / 70، والبداية والنهاية: 8 / 181، وبحار الأنوار: 44 / 369.

١٧٨

أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع(1) .

وروي: أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن أريحه.

مع زهير بن القين:

وانتهت قافلة الإمام إلى (زرود) فأقامعليه‌السلام فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمامعليه‌السلام إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه، فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسينعليه‌السلام ثم قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحب أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي سأحدثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 71، ومثير الأحزان: 42، والبداية والنهاية: 8 / 181.

١٧٩

أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم - والله - مازال في القوم مع الحسينعليه‌السلام حتى قتل رحمة الله عليه(1) .

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمامعليه‌السلام :

ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسينعليه‌السلام المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية) بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسينعليه‌السلام السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص.

ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمامعليه‌السلام في موضع يدعى (زبالة) وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 72 - 73، والكامل في التأريخ: 3 / 177، والأخبار الطوال: 246.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

تحتاج إلى الراحة والدعة ، وذلك لتجديد قوتها وتهيئة الاستعداد اللازم لإدامة العمل والفعالية ، الراحة التي لا بدّ منها حتى لأولئك الأفراد الحريصين والجادّين.

فأي شيء يتصور أحسن من النوم للوصول إلى هذا الهدف ، وهو يأتيه بشكل إلزامي ، ويدعوه إلى تعطيل نشاطه الجسماني ، وقسم مهم من نشاطه الفكري والذهني ، بينما تستمر أجهزة خاصة في العمل في جسم الإنسان كالقلب الرئة وبعض النشاط الذهني ، وما إلى ذلك ممّا يستلزمه استمرار الحياة في الإنسان فحسب ، أمّا البقية فتهدأ وتتعطل عن العمل.

هذه الموهبة العظيمة تؤدي الى أن يحصل جسم الإنسان وروحه على الراحة اللازمة ، فيرتفع التعب بطرو النوم الذي بمثابة وقفة لعمل البدن ، ونوع من التعطيل له. ويجد الإنسان على أثرها قوة ونشاطا جديدا في حياته.

ومن المسلّم به أنّه لولا النوم لتصدّعت روح الإنسان وذبل جسمه وانهار بسرعة ، ولعجل عليه العجز والشيخوخة وبهذا فإن النوم المناسب والهادىء مدعاة للسلامة وطول العمر ، ودوام «الشباب» ونشاطه.

وممّا يجدر التنبيه عليه أوّلا : أنّ النوم ورد قبل عبارة( ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) التي تعني السعي وراء الرزق ، وهذا التعبير هو إشارة إلى أن النوم أساس السعي لأنّه ـ من دون النوم الكافي ـ يصعب الابتغاء من فضل الله.

ثانيا : صحيح أنّ النوم يقع في الليل ، والابتغاء من فضل الله في النهار ، إلّا أنّه ليس صعبا على الإنسان أن يغيّر هذا المنهج إذا اقتضت الضرورة. بل الله خلق الإنسان بصورة يستطيع معها تغيير منهجية النوم ، ويجعلها وفقا للضرورات والحاجات ، فكأنّ التعبير( مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ) إشارة إلى هذه «اللطيفة» الدقيقة.

ولا شك أنّ المنهج الأصل للنوم متعلق بالليل ، ولأنّ الليل هادئ بسبب الظلمة ، فله أولوية خاصة في هذا المورد.

٥٠١

ولكن قد يتفق للإنسان ولظروف خاصة يكون مجبرا على السفر ليلا وأن يستريح نهارا فلو كان منهج تنظيم النوم خارجا عن اختيار الإنسان فسيواجه العديد من الصعوبات حتما.

وأهمية هذا الموضوع ، خاصة في عصرنا الذي تضطر فيه بعض المؤسسات الصناعية والطبية والعلاجية أن تعمل ليل نهار ، ولا يمكن لها أن تعطل منهجها بحيث يتناوب عمالها في ثلاث مراحل للعمل فيها ، هذه الأهمية في هذا العصر أجلى منه في أي عصر مضى!

وحاجة جسم الإنسان وروحه إلى النوم كثيرة إلى درجة لا يستطيع الفرد أن يتحمل السهر المتواصل أكثر من يومين أو ثلاثة.

ولذلك فإنّ المنع من النوم يعتبر من أشد أنواع التعذيب الذي يمارسه الطغاة والجبابرة مع سجنائهم.

وكذلك يعدّ النوم واحدا من الطرق العلاجية لكثير من الأمراض ، حيث يوصي الأطباء المريض بأن يغطّ في نوم عميق فتزداد بذلك قوّة المريض ومناعته.

وبالطبع لا يمكن لأحد أن يحدد مقدارا معينا للنوم على أنّه «مقدار النوم اللازم» لعموم الناس لأنّ ذلك يرتبط بسنّ الأشخاص ووضعهم ومزاجهم وكيفية البناء الفيسيولوجي والسيكلوجي «الجسيمي والروحي» ، بل المهم النوم الكافي بمقدار يحسّ الإنسان بعده بأنّه شبع منه كما هي الحال بالنسبة للشبع من الغذاء والماء تماما.

وينبغي الالتفات إلى هذه المسألة ، وهي أنّه بالإضافة إلى «طول» زمان النوم ، فلعمقه خصوصية وأهمية أخرى أيضا فرب ساعة ينام فيها الإنسان نوما عميقا تسد عن عدد من الساعات التي ينامها نوما سطحيا في إعادة بناء روح الإنسان وجسمه.

٥٠٢

وبالطبع ، فحيث لا يمكن النوم العميق ، فالنعاس أيضا من النعم الإلهية ، كما أشارت إليه الآية الحادية عشرة من سورة الأنفال في شأن المجاهدين يوم بدر( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ) لأنّه لا يمكن النوم العميق في ميدان الحرب ، وليس مفيدا ـ أيضا ـ ولا نافعا.

وعلى كل حال فإن نعمة النوم والهدوء والاطمئنان الناشئ منه ، وما يحصل عليه الإنسان من قوة ونشاط بعد النوم ، هي من النعم التي لا يمكن وصفها بأي بيان!.

والآية التي تلتها ، والتي تبيّن خامس آية من آيات عظمة الله ، تتجه أيضا إلى «الآيات في الآفاق» وتتحدث عن البرق والرعد والغيث وحياة الأرض بعد موتها فتقول :( وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) .

«الخوف» ممّا يخطر على البال من احتمال نزول الصاعقة مع البرق فتحرق كل شيء تقع عليه وتحيله رمادا.

«والطمع» من جهة نزول الغيث الذي ينزل بعد البرق والرعد على هيئة قطر أو مزنة.

وعلى هذا فإنّ البرق السماوي مقدمة لنزول الغيث (بالإضافة إلى فوائد البرق المختلفة المهمة والتي كشف العلم عنها أخيرا وقد تحدثنا عنه في بداية سورة الرعد»(١) .

ثمّ يضيف القرآن معقبا( يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) .

الأرض الميتة التي لا يؤمل فيها الحياة والنبات ، تهتز بنزول الغيث الذي يمنحها الحياة ، فتحيا وتظهر آثار الحياة عليها على هيئة الأزهار والنباتات ، بحيث لا تصدق أحيانا أنّها الأرض الميتة سابقا.

__________________

(١) راجع تفسير «سورة الرعد» الآيات الأولى منها.

٥٠٣

ويؤكّد القرآن في نهاية هذه الآية مضيفا :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ويفهمون أن وراء هذه الخطة المدروسة يدا قادرة تقودها وتهديها ، ولا يمكن أن تكون المسألة وليدة الصدفة والضرورة العمياء الصّماء أبدا.

وفي آخر آية من الآيات محل البحث ، يقع الكلام عن آية أخرى من الآيات الآفاقية ، وذلك عن تدبير نظام السماء والأرض وبقائهما ودوامهما ، إذ تقول :( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) .

أي إنّ خلق السماوات ـ المشار إليه في الآيات السابقة ـ ليس آية وحدة فحسب ، بل بقاؤها ودوام نظامها أيضا آية أخرى ، فهذه الأجرام العظيمة في دورانها المنظّم حول نفسها تحتاج إلى أمور كثيرة ، وأهمّها المحاسبة المعقدة للقوّة الجاذبة والدافعة!

إنّ الخالق الكبير جعل هذا التعادل دقيقا ، بحيث لا يعترض الأجرام أدنى انحراف في مسيرها ودورانها حول نفسها إلى ملايين السنين.

وبتعبير آخر : إنّ الآية السابقة كانت إشارة إلى «توحيد الخلق» وأمّا هذه الآية فهي إشارة إلى «توحيد الربوبية والتدبير».

والتعبير بقيام السماء والأرض ، تعبير لطيف مأخوذ من حالات الإنسان ، لأنّ أحسن حالات الإنسان لأجل استدامة نشاطه هي حالة قيامه ، إذ يستطيع فيها أداء جميع حوائجه ، وتكون له السيطرة والتسلط الكامل على أطرافه.

والتعبير بـ «أمره» هنا إشارة إلى منتهى قدرة الله ، إذ يكفي أمر واحد من قبله لاستمرار الحياة ، ونظم هذا العالم الوسيع.

وفي نهاية الآية وبالاستفادة من عامل التوحيد لإثبات المعاد ، ينقل القرآن البحث إلى هذه المسألة فيقول :( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) .

ولقد رأينا ـ مرارا ـ في آيات القرآن أن الله سبحانه يستدل على المعاد

٥٠٤

بآيات قدرته في السماء والأرض ، والآية محل البحث واحدة من تلك الآيات.

والتعبير بـ «دعاكم» اشارة إلى أنّه كما أنّ أمرا واحدا منه كاف للتدبير ولنظم العالم ، فإنّ دعوة واحدة منه كافية لأن تبعثكم من رقدتكم وتنشركم من قبوركم ليوم القيامة ، وخاصة إذا لاحظنا جملة( إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) فإنّ كلمة «إذا» تبين بوضوح مؤدى هذه الجملة ، حيث أنّها «فجائية» كما يصطلح عليها أهل النحو واللغة ، ومعناها : إذا دعاكم الله تخرجون بشكل سريع وفجائي.

والتعبير بـ( دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ ) دليل واضح على المعاد الجسماني ، إذ يثب الإنسان في يوم القيامة من هذه الأرض «فلاحظوا بدقّة».

* * *

بحوث

١ ـ دورة دروس كاملة لمعرفة الله

تناولت الآيات الست المتقدمة بحوثا مختلفة في معرفة الله ، وهي بمجموعها تمثل حلقات متصلة ودورة كاملة طريفة ، بدءا بخلق السماء إلى خلق البشر من التراب ، ومن رباط الحب في الأسرة ، إلى النوم الذي يمنح الدعة والاطمئنان في الليل والنهار ، ومن تدبير النظام والعالم متدرجا ، إلى البرق والغيث واختلاف الألسنة والألوان فهي مجموعة مناسبة من آيات الآفاق وآيات الأنفس!.

الطريف هنا أن كلّ آية من الآيات الست يذكر فيها قسمان من دلائل التوحيد ، ليهيّئ الأوّل الأرضية المناسبة ، والآخر للتحكيم والتأكيد ، وهذا يشبه تماما الإتيان بشاهدين عدلين لإثبات المدّعى ، فيكون المجموع اثني عشر شاهدا صادقا على قدرة الله الحق ، التي لا نهاية ولا أمد لها.

٥٠٥

٢ ـ من هم المستلهمون من هذه الآيات

ورد في أربع آيات من هذه الآيات الست التأكيد على أن في هذه الأمور دلائل واضحة «للعالمين ، المتفكرين ، السميعين ، العاقلين» إلّا أنّ هذا التأكيد لم يرد في الآية الأولى ، ولا الآية الأخيرة.

ويوضح الفخر الرازي في هذا المجال فيقول : لعل عدم ذكر ذلك ، في الآية الأولى لأنّ الآية الأولى والثّانية جاءتا متصلتين في سياق واحد ، وكلتاهما من الآيات التي تتحدث في الأنفس.

وأمّا في الآية الأخيرة فإنّ الأمر واضح إلى درجة لا يحتاج بعدها إلى مزيد إيضاح ، ولا تأكيد على التعقل والتفكر(١) !

الطريف هنا أن الحديث عن التفكر ورد قبل الحديث والكلام عن «العلم» لأنّ التفكر مقدمة وقاعدة للعلم ، ثمّ يأتي الكلام على من يسمع ، لأنّ الإنسان يستعد للاستماع وتقبل الحق ، إذا كان في صدد العلم والاطلاع ، كما يقول القرآن في هذا المجال :( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٢)

وفي آخر مرحلة كان الكلام عن العقل ، لأنّ أولئك كانوا يسمعون ، فلا بدّ أن يبلغوا مرحلة العقل الكامل!

كما ينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة ، هي أنّه وقع الكلام في ذيل الآية الأولى عن خلق الإنسان وانتشار نسله في الأرض( ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) .

ووقع الكلام في آخر آية أيضا عن خروج الناس ونشورهم في يوم القيامة( إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) .

فالآية الأولى لبداية الخلق ، والأخيرة للنهاية.

__________________

(١) التفسير الكبير الفخر الرازي ـ ذيل الآيات محل البحث.

(٢) الزمر ، الآية ١٨.

٥٠٦

٣ ـ عجائب عالم النوم

بالرغم من جميع الأبحاث التي كتبها العلماء حول النوم وخصائصه ، يبدو أن زوايا هذا العالم لم تنكشف جميعها ، ولم يرفع النقاب عن أسراره وحقائقه الغامضة!

فما زال البحث يدور بين العلماء : أي فعل وانفعال يكون في البدن بحيث يتوقف ـ خلال لحظة مفاجئة ـ قسم من نشاطات المخ والبدن ، ويظهر تحول في عامّة الروح والجسد؟!

قال بعضهم : إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل فيزياوي» ويعتقدون أن انتقال الدم من المخ إلى أجزاء البدن الأخرى ، يوجد هذه الظاهرة ، ولأجل إثبات معتقدهم عمدوا إلى صنع سرير للنوم على شكل خاص يدعى «سرير النوم المعياري» يبيّن كيفية انتقال الدم من المخ إلى سائر أعضاء البدن!.

وقال جماعة : إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل كيمياوي» ويعتقدون أن الإنسان في حالة السعي والعمل تزداد فيه السموم بحيث تؤدي الى تعطيل قسم من المخ عن عمله ، فينام الإنسان على أثر ذلك ، وحين تتلاشى السموم وتسيطر عليها كريات الدم يتيقظ الإنسان مرّة أخرى!

وقال جماعة آخرون : إنّ العامل الأصلي للنوم هو «عامل عصبي» ويعتقدون أن للنشاط العصبي خصوصية في المخ لها حكم وقود السيارة ، فعند ما تتعب ينطفئ المخ ويتوقف عن العمل مؤقتا.

ولكن هناك أسئلة ونقاط مبهمة حول جميع هذه النظريات ، لم نحصل إلى الآن على جواب واضح لها ، وما يزال النوم محتفظا بوجهه المليء بالأسرار.

من عجائب عالم النوم ما أماط العلماء النقاب عنه أخيرا ، وهو حين يتعطل قسم كبير من المخ عن العمل تبقى بعض خلاياه التي ينبغي أن تسمى بـ «الخلايا الحارسة» متيقظة ولا تنسى الوصايا التي يوصيها الإنسان قبل النوم عند ساعة

٥٠٧

التيقظ وعند الحاجة توقظ هذه الخلايا جميع المخ ويتحرك نحو العمل مرّة أخرى!

فمثلا : الأم المرضعة المتعبة حين تنام الليل وإلى جنبها رضيعها في المهد ، يوصي عقلها الباطني الخلايا الحارسة التي تربط بين الروح والجسم ، أنّه متى ما سمعت أقل صوت لطفلي فأيقظيني ، ولكن لا يهمني أي صوت آخر ، فقد لا تتيقظ المرأة من صوت الرعد المهول ، ولكنّها تتيقظ لأقل صوت من ولدها الرضيع ، فهذه المهمّة هي وظيفة الخلايا الحارسة.

ونحن أيضا جرّبنا هذا الموضوع كثيرا ، فمتى ما كان لدينا تصميم أن نستيقظ مبكرين أو في منتصف الليل لنسافر أو لأداء مهمّة ، ونحدث أنفسنا بذلك ، فإننا غالبا ما نستيقظ في الوقت المطلوب ، في حين أن من الممكن أن نغرق في النوم لساعات طوال في غير هذه الحالة!

والخلاصة ، حيث أنّ النوم هو من الظواهر الروحية ، وللروح عالم مليء بالأسرار ، فليس عجيبا أن تبقى كثير من زوايا هذه المسألة غامضة ولكن كلما سبرنا غور هذا العالم نتعرف على عظمة خالق هذه الظاهرة.

هذا عن ظاهرة النوم ، وأمّا عن الرؤيا والأحلام ، فقد بحثنا عنه بحوثا كثيرة ، ولا بأس بمراجعة تفسير سورة يوسفعليه‌السلام .

٤ ـ علاقة الحب بين الزوجين

بالرّغم من أنّ العلاقة أو الارتباط بين الإنسان وأبيه وأمه وإخوته هي علاقة نسبية ، تمتد جذورها العميقة بالقرابة. والعلاقة بين الزوجين علاقة قانونية.

و «معاقدة بينهما» لكن كثيرا ما تتغلب هذه العلاقة حتى على علاقة الإنسان بأبيه وأمه ، وفي الحقيقة هذا هو ما أشارت إليه الآيات الآنفة بالتعبير( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) .

٥٠٨

ونقرأ حديثا عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه أخبر ابنة جحش باستشهاد خالها حمزة ، فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون. فأخبرها باستشهاد أخيها فقالت مرّة أخرى : «إنا لله وإنا إليه راجعون» (وطلبت له الأجر والثواب من الله).

ولكن حين أخبرها باستشهاد زوجها ، وضعت يدها على رأسها وصرخت ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما يعدل الزوج عند المرأة شيء»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٧٤.

٥٠٩

الآيات

( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) )

التّفسير

المالكية لله وحده :

كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق ، وتوحيد الرّب ، أمّا الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد ، وهو توحيد الملك فتقول :( وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

ولأنّهم ملك يده فـ( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) وخاضعون.

وواضح أنّ المراد من المالكية وخضوع المخلوقات وقنوتها ، الملك

٥١٠

والقنوت التكوينيان أي إن زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كلّه في يده ، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة الله ، شاؤوا أم أبوا.

حتى العتاة الطغاة الألدّاء والمتمردون على القانون والجبابرة ، هم مضطرون أيضا أن يحنوا رؤوسهم لأمر الله في القوانين التكوينية.

والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية ، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير ، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه!

وبما أنّ جميع موجودات الدنيا سواسية في هذا الأمر ، فمن الواضح أن لا يكون معه أي شريك في الملك حتى الأوثان والمعبودات المصطنعة التي يتصورها المشركون أنّها أربابهم ، هي أيضا مملوكة لمالك «الملك» والملوك ، وهي طوع أمره.

وينبغي الالتفات ـ ضمنا ـ إلى أنّ كلمة «قانت» تعني ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ في الأصل : الطاعة الملازمة للخضوع!

ونقرأ حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال «كل قنوت في القرآن فهو طاعة».

غاية ما في الأمر ، تارة تأتي هذه الطاعة «تكوينية» وأخرى «تشريعية».

وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ كلمة «قانتون» معناها هنا «قائمون بالشهادة على وحدانيته»(١) فهو في الحقيقة بيان لأحد مصاديق الطاعة ، لأنّ الشهادة على وحدانية الله نوع من الطاعات.

وحيث أنّ المسائل المرتبطة بالمبدأ والمعاد هي كالنسيج الواحد في انسجامها في سلسلة الآيات الآنفة ، والتي ستأتي في ما بعد ، ففي الآية التالية يعود القرآن إلى موضوع المعاد ، فيقول :( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ

__________________

(١) نقل «الآلوسي» في تفسيره «روح المعاني» ذيل الآية محل البحث هذا الكلام عن بعض المفسرين المتقدمين.

٥١١

أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (١) .

إنّ القرآن يثبت في هذه الآية ـ بأوجز الاستدلال ـ مسألة إمكان المعاد ، إذ يقول لهم : إنكم تعتقدون أن بداية الخلق من قبل الله ، فعودة الخلق مرّة أخرى أيسر وأهون من بداية الخلق!.

والدليل على أن عودة الخلق أهون من البداية ، هو أنّه في البداية لم يكن شيء ولكن الله هو الذي أبدعه ، وفي الإعادة توجد المواد الأصلية على الأقل ، فبعضها في طيّات التراب ، وبعضها متناثر في الفضاء ، وإنّما تحتاج إلى نظم وإلى إعطائها صورتها الأولى فحسب ، فهي أهون!

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى هذه «اللطيفة» ، وهي أنّ التعبير بالهيّن والصعب ، هو من خلال نافذتنا الفكرية ، وأمّا بالنسبة للقادر المطلق فلا فرق عنده بين «الصعب والسهل».

وأساسا فإنّ «الصعب والسهل» يصدقان مفهوما في مكان يكون الكلام عن قدرة محدودة ، كأن يستطيع أحد أن يؤدي عملا بصورة جيدة ، والآخرة لا يؤديه بصورة جيدة ، بل بمشقّة ، أمّا حين يكون الكلام على قدرة لا حدّ لها ، فلا معنى للصعب والهيّن هناك!

وبتعبير آخر : إنّ حمل «أعظم الجبال» على الأرض بالنسبة إلى الله وحمل أخف الأشياء عليها عنده سواء ، لقدرته التي لا يعظم عليها شيء.

وربّما كان لهذا السبب أن عقّب القرآن في ذيل الآية مباشرة بالقول :( وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

لأننا لو تصورنا أي وصف كمالي لأي موجود في السماء والأرض ، من علم

__________________

(١) ينقل «الفخر الرازي» عن «الزمخشري» في تفسير الكشّاف أن الله قال في شأن ولادة عيسىعليه‌السلام دون أب «هو علي هين» ولأنّ كلمة «عليّ» مقدمة ، فهي دليل على الحصر ، أي إن هذا العمل سهل علي فحسب لا على سواي ، أمّا في هذه الآية محل البحث فقد قال : سبحانه :( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) فلا يستفاد منها الحصر ، وهي إشارة إلى أن كل من يستطيع أن يؤدي عملا في البداية فهو قادر على إعادته أيضا «فلاحظوا بدقة».

٥١٢

وقدرة وملك وعظمة وجود وكرم ، فمصداقه الأتم والأكمل هو عند الله ، لأنّ الجميع لديهم المحدود من الصفات ، إلّا هو وحده فإنّ لديه الأوصاف غير المحدودة ، والجميع لديهم أوصاف عارضة ، أمّا أوصاف الله فذاتية ، وهو مصدر الكمالات وأساسها.

حتى الألفاظ التي تجري على ألسنتنا لبيان مقاصدنا يوميّا لا يمكن أن تكون مبينة لأوصافه كما هو في تعبير «أهون» الذي نجده مثلا عندنا.

والجملة الآنفة هي كالآية (١٨٠) في سورة الأعراف ، إذ ورد فيها( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) والآية (١١) في سورة الشورى إذ يقول :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

وتنتهي الآية ـ بما هو ضرب من التأكيد أو الدليل ، إذ يقول سبحانه :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

هو عزيز لا يقهر ، إلّا أنّه وفي منتهى قدرته غير المحدودة لا يصدر منه فعل غير دقيق ، فكل أفعاله وفق حكمته.

وبعد بيان قسم آخر من دلائل التوحيد والمعاد في الآيات المتقدمة ، يتناول القرآن موضوع «نفي الشرك» في مثال بيّن فيقول :( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) .

هذا المثال هو لو كان لديكم ـ أيّها المشركون ـ عبيد ومماليك فـ( هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) أي أن عبيدكم هؤلاء يشاركونكم في أموالكم وفي ما رزقناكم. بحيث تكونون أنتم وعبيدكم سواء في مالكية هذه الأموال والنعم وتخافون أن يتصرفوا في هذه الأموال بشكل مستقل كما هو الحالة في تصرف شركاءكم الأحرار فيها أو في الميراث مثلا فأنتم غير مستعدين لأن يتصرفوا في أموالكم.

٥١٣

فلو كان لكم عبيد وملك يمين «وهو ملك مجازي» لما رضيتم بمثل هذا الفعل منهم ، فكيف تتصورون المخلوقات التي هي ملك حقيقي لله شركاءه! أو تزعمون أن بعض الأنبياء كالمسيح أو ملائكة الله أو بعض المخلوقات الأخرى كالجن أو الأصنام الحجرية والخشبيّة شركاءه ، ألا ساء ما تحكمون!!

المملوكات المجازية التي يمكن أن تتحرر وتنعتق بسرعة ، وتكون في صفوفكم ومن أمثالكم «كما جرى ذلك في الإسلام» ـ لا تكون حالة كونها مملوكة ـ في صف مالكها ، وليس لها حق التدخل في منطقة نفوذه ، فكيف تجعلون العبيد الحقيقيين أو المملوكات الحقيقية شركاء الله ، في حين أنّهم متعلقون بالله ذاتا ووجودا ، ولا يمكن أن يسلب هذا التعلق بالله والارتباط به منهم ، وكل ما عندكم فمن عنده ، وما أنتم بشيء من دونه!.

قال بعض المفسّرين : إنّ هذه الآية ناظرة لما قاله المشركون من قريش ، عند التلبية في مناسك الحج ، إذ كانوا يقولون عند التلبية «لبيك ، اللهم لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك» هكذا كان محتوى تلبية المشركين(١) .

وبديهي أن شأن نزول هذه الآيات شأن سائر الآيات في نزولها ، إذ لا يحدد معنى الآية ، كما هي في الوقت ذاته جواب لجميع المشركين ، هي مستقاة من حياتهم أنفسهم التي تدور حول الرق والمملوكين ، وتحتج عليهم احتجاجا متينا.

والتعبير بـ( ما رَزَقْناكُمْ ) يشير إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّكم لستم المالكين الحقيقيين لهؤلاء العبيد والمماليك ، ولا المالكين الواقعيين للمال ، لأنّ كل ذلك لله وحده ، ولكنّكم غير مستعدين لأن تخوّلوا مماليككم المجازيين بالتصرف في أموالكم المجازية وتعدّوهم شركاءكم ، في حين أنّه لا يستلزم محالا ولا مشكلة من الناحية التكوينية لأنّ الكلام يدور مدار الاعتباريّات.

غير أن التفاوت بين الله ومخلوقاته تفاوت تكويني ولا يتغيّر ، وجعل هذه

__________________

(١) تفسير الميزان وتفسير مجمع البيان وتفسير نور الثقلين ذيل الآية محل البحث.

٥١٤

المخلوقات شريكة لله من سابع المستحيلات.

ومن جهة أخرى فإنّ عبادة أحد الموجودات ، إمّا لعظمته ، أو لأنّه ينفع ويضر الإنسان ، إلّا أن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر(١) .

ويعقب القرآن في ختام الآية للتأكيد والدقة على مضمون السؤال ، فيقول :( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

أجل ، نذكر لكم الحقائق من الأمثلة الواضحة في حياتكم لتفكروا فيها ، ولكيلا تنسبوا لله ـ على الأقل ـ ما لا ترضون أن تنسبوه لأنفسكم!.

غير أنّ هذه الآيات البينات وهذه الأمثلة الواضحة هي لأولي الألباب ، لا للظالمين عبدة الهوى الجهلة الذين قلوبهم أسدال الجهل ، واستوعبت آفاقهم الخرافات والعصبيات ، لذلك يضيف القرآن في الآية التالية قائلا :( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) .

ولذلك فإنّ الله خلّى بينهم وبين أنفسهم بسبب أعمالهم السيئة ، فتاهوا في وادي الضلالة( فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ ) ؟!

والتعبير بـ «ظلموا» مكان «أشركوا» إشارة إلى أن الشرك بعد أعظم الظلم : فهو ظلم للخالق ، إذ جعله مخلوقه إلى جانبه وأشركه معه (ونعرف أن الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه).

وظلم للخلق ، إذ منعوهم عن طريق الخير والسعادة «طريق التوحيد».

وظلم لأنفسهم ، لأنّهم أطلقوا جميع وجودهم وكيانهم للريح ، وظلوا في مفازة عمياء! وبيداء قفراء.

وهذا التعبير ـ ضمنا ـ مقدمة للجملة التالية ، وهو إنّما أضلهم الله عن طريق

__________________

(١) فسّر بعض المفسّرين جملة «تخافونهم كخيفتكم أنفسكم» بهذه المناسبة تفسيرا آخر ، حاصله أنّ هؤلاء المعبودين ليست لديهم القدرة حتى تخافوهم كما تخافون من بعضكم ، فكيف إذا كان الخوف أكثر! «إلّا أن التّفسير الذي ذكرناه في البداية يبدو أقرب للنظر».

٥١٥

الحق فبظلمهم ، كما جاء مثل هذا التعبير في سورة إبراهيم الآية (٢٧)( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) .

ولا شك أن من يتركهم الله ويخلّي بينهم وبين أنفسهم فـ( ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

وبهذا يوضح القرآن عاقبة هذه الجماعة المشؤومة ، ولم لا تكون كذلك؟! وهم يرتكبون «أعظم الذنوب وأعظم الظلم» ، إذ عطلوا عقولهم وأفكارهم عن العمل ، وتركوا شمس العلم خلف ظهورهم ، وتوجهوا إلى ظلمة الجهل والهوى.

فمن الطبيعي أن يسلب الله منهم التوفيق ، ويتركهم في ظلماتهم ، وما لهم من ناصرين ولا معينين!.

* * *

٥١٦

الآيات

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) )

التّفسير

كان لدينا حتى الآن أبحاث كثيرة حول التوحيد ومعرفة الله ، عن طريق مشاهدة نظام الخلق ، والاستفادة منه لإثبات مبدأ العلم والقدرة في ما وراء عالم الطبيعة ، بالاستفادة من آيات التوحيد في هذه السورة!

وتعقيبا على الآيات الآنفة الذكر ، فإن الآية الأولى من هذه الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد الفطري ، أي الاستدلال على التوحيد عن طريق المشاهدة الباطنية والدرك الضروري والوجداني ، إذ يقول القرآن في هذا الصدد :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) لأنّها( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

«الوجه» معناه معروف ، وهو مقدم الرأس. والمراد به هنا الوجه الباطني ،

٥١٧

ووجه القلب والروح فعلى هذا ليس المراد هنا من الوجه أو المحيّا وحده ، بل التوجه بجميع الوجود ، لأنّ الوجه أهم أعضاء البدن!

وكلمة «أقم» مشتقة من الإقامة ، ومعناه الاستقامة والوقوف بثبات (على قدم راسخة)

وكلمة «حنيف» مشتقة من «حنف» ، ومعناها الميل من الباطل نحو الحق ، ومن الاعوجاج نحو الإستواء والاستقامة ، على العكس من «جنف» على وزن «حنف» أيضا ، ومعناها الميل من الإستواء إلى الضلالة والاعوجاج.

فمعنى الدين الحنيف هو الدين المائل نحو العدل والإستواء عن كل انحراف وباطل وخرافة وضلال.

فيكون معنى هذه الجملة بمجموعها ، أن وجّه نفسك دائما نحو مبدأ ومذهب خال من أي أنواع الاعوجاج والانحراف ، وذلك هو مبدأ الإسلام ودين الله الخالص والطاهر(١) .

إنّ الآية المتقدمة تؤكّد على أن الدين الحنيف الخالص الخالي من كل أنواع الشرك ، هو الدين الذي ألهمه الله سبحانه في كل فطرة ، الفطرة الخالدة التي لا تتغير ، وإن كان كثير من الناس غير ملتفت لهذه الحقيقة.

والآية المتقدمة تبين عدة حقائق :

١ ـ إنّ معرفة الله ـ ليست وحدها ـ بل الدين والإعتقاد بشكل كلي وفي جميع أبعاده هو أمر فطري ، وينبغي أن يكون كذلك ، لأنّ الدراسات التوحيدية تؤكّد أن بين جهاز التكوين والتشريع انسجاما لازما ، فما ورد في الشرع لا بدّ أن يكون له جذر في الفطرة ، وما هو في التكوين وفطرة الإنسان متناغم مع قوانين الشرع!

__________________

(١) الألف واللام في كلمة «الدين» هما للعهد ، وهما هنا إشارة إلى الدين الذي أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبلغه ، أي دين «الإسلام».

٥١٨

وبتعبير آخر : إنّ التكوين والتشريع عضدان قويان يعملان بانسجام في المجالات كافة ، فلا يمكن أن يدعو الشرع إلى شيء ليس له أساس ولا جذر في أعماق فطرة الإنسان ، ولا يمكن أن يكون شيء في أعماق وجود الإنسان مخالف للشرع!

وبدون شك فإنّ الشرع يعين حدودا وقيودا لقيادة الفطرة لئلا تقع في مسار منحرف ، إلّا أنّه لا يعارض أصل مشيئة الفطرة ، بل يهديها من الطريق المشروع ، وإلّا فسيقع التضاد بين التشريع والتكوين ، وهذا لا ينسجم مع أساس التوحيد.

وبعبارة أخرى : إنّ الله لا يفعل أعمالا متناقضة أبدا ، بحيث يقول أمره التكويني : افعل! ويقول أمره التشريعي : لا تفعل.

٢ ـ إنّ الدين له وجود نقي خالص من كل شائبة داخل نفس الإنسان ، أمّا الانحرافات فأمر عارض ، ووظيفة الأنبياء إذن إزالة هذه الأمور العارضة ، وفسح المجال لفطرة الإنسان في الإشراق.

٣ ـ إنّ جملة( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) وبعدها جملة( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) تأكيدان آخران على مسألة كون الدين فطريا ، وعدم إمكان تغيير هذه الفطرة! وإن كان كثير من الناس لا يدركون هذه الحقيقة بسبب عدم رشدهم كما ينبغي!

وينبغي الالتفات إلى هذه اللطيفة ، وهي أن الفطرة في الأصل من مادة «فطر» على زنة «بذر» ومعناها شق الشيء من الطول ، وهنا معناها الخلقة ، فكأن ستار العدم ينشق عند خلق الموجودات ويبرز كل شيء منها.

وعلى كل حال فمنذ أن وضع الإنسان قدمه في عالم الوجود ، كان هذا النور متوقدا في داخله ، من أوّل يوم ومن ذلك الحين!

والرّوايات المتعددة التي وردت في تفسير الآية تؤيد ما ذكرناه آنفا ، وسنتحدث عن ذلك لاحقا إن شاء الله ، بالإضافة إلى الأبحاث الأخرى في مجال كون التوحيد فطريا.

٥١٩

ويضيف القرآن في الآية التالية : ينبغي أن يكون التفاتكم للدين الحنيف والفطري حالة كونكم( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ) فأصلكم وأساسكم على التوحيد ، وينبغي أن تعودوا إليه أيضا.

وكلمة «منيبين» من مادة «إنابة» وهي في الأصل تعني الرجوع المكرر ، وتعني هنا الرجوع نحو الله والعودة نحو الفطرة (التوحيدية) ومعناها متى ما حصل عامل يحرف الإنسان عقيدته وعن أصل التوحيد فينبغي أن يعود إليه ومهما تكرر هذا الأمر فلا مانع من ذلك الى أن تغدو أسس الفطرة متينة وراسخة ، وتغدو الموانع والدوافع خاوية ويقف الإنسان بصورة مستديمة في جبهة التوحيد ، ويكون مصداقا للآية( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) .

وممّا ينبغي الالتفات إليه أن أقم وجهك جاءت بصيغة الإفراد ، وكلمة «منيبين» جاءت بصيغة الجمع ، وهذا يدل على أنّه وإن كان الأمر الأوّل مخاطبا به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أن الخطاب ـ في الحقيقة ـ لعموم المؤمنين وجميع المسلمين.

ويعقب على الأمر بالإنابة والعودة إليه ، بالأمر بالتقوى ، وهي كلمة تجمع معاني أوامر الله ونواهيه ، إذ يقول :( وَاتَّقُوهُ ) أي اتقوا مخالفة أوامره!.

ثمّ يؤكّد القرآن على موضوع الصلاة من بين جميع الأوامر فيقول :( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) .

لأنّ الصلاة في جميع أبعادها ، هي أهم منهج لمواجهة الشرك ، وأشد الوسائل تأثيرا في تقوية أسس التوحيد والإيمان بالله سبحانه.

كما أنّه يؤكّد في نهيه عن «الشرك» من بين جميع النواهي فيقول :( وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .

لأنّ الشرك أعظم الذنوب وأكبر الكبائر ، إذ يمكن أن يغفر الله جميع الذنوب إلّا الشرك بالله ، فإنّه لا يغفره. كما نقرأ في الآية (٤٨) من سورة النساء( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592