الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180408 / تحميل: 6330
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أحد من المسلمين ما له من المقام الأرفع في التقوى والزهد والورع. اذن فكيف يتصور في حقه انه يعلم بأن رسول الله أخبر بأن أمواله لا تكون ارثا بل تكون للمسلمين وهو يريد ان يستلبها منهم غصبا بدعوى الإرث ومخالفة لحكم الله وبيان الرسول ويستمر مع ذلك على المطالبة سنين عديدة. ولو تنزلنا عن هذا لقلنا لا يخفى ان عليا والعباس لهما شرف ومروءة وسداد في الرأي والقول فكيف يطالبان بالإرث من رسول الله مدة سنين ويعتر فان مع ذلك بالعلم بقول الرسول لا نورث ما تركناه صدقة. وكيف يسجلان على أنفسهما بهذا الاعتراف انهما يستمران على الدعوى الباطلة ومحاولة غصب المسلمين حقهم وأكل مالهم بالباطل. وأي صاحب شعور حتى من السفلة يقدم على ذلك فيشوه سمعته ويدنس مستقبله وإن لم يكن له رادع من تقوى الله. دع هذا ولكن كيف يجعله عمر مع ذلك من رجال الشورى المرشحين للخلافة والائتمان على امور المسلمين. فما رواية الاعتراف من علي (ع) مع إصراره على المطالبة بالإرث إلّا فلتة ممن لا يعرف كيف يتكلم فيما يرويه «ولا يقال» ان عمر ناشد عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعدا بمثل ما ناشد عليا والعباس فقالوا اللهم نعم «لأنا نقول» ان الراوي لهذه المناشدة وجوابها هو الراوي لمناشدته عليا والعباس وجوابهما وقد عرفت قيمة الرواية. وثانيا ان الرواية تذكر ان عمر سألهم عن علمهم بذلك لا عن سماعهم له من رسول الله فأجابوا بالعلم اعتمادا على رواية أبي بكر وعمله «ولا يقال» ان عائشة قد روت حديث لا نورث لنساء النبي (ص) «لأنا نقول» انها استندت على علمهن من رواية أبيها كما يدل عليه ما تقدم في انفراد أبي بكر في روايتها فلم يسعهن إلّا السكوت في الموقف الحرج «ولا يقال» ان أبا هريرة روى عن رسول الله كما في جوامع مسلم والترمذي وأبي داود لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة. وفي حديث آخر لا نورث ما تركناه صدقة «لأنا نقول» لا يخفى ان الرواية الأولى واردة في النقود وانه (ص) لا يدخر مما يملكه منها ما يبقى بعده بل ينفقها بسماحة النبوة ورأفتها وأبوته للأمة في سبيل الله والمحاويج. ولا يزاحم ذلك إلّا بالواجب الوقتي من نفقة نسائه ومؤنة عامله فهو (ص) على هذا المنوال وقتا بعد وقت فلا يبقى في خزائنه ما يكون معرضا لأن يتركه بعده إلّا ما كان من بيت المال والصدقات ان وسع المال ان يتربص به حاجة المسلمين في المستقبل. فالحديث اجنبي عن مثل الأراضي والعقار. واما الرواية الثانية فتكون بقرينة اتحاد الراوي جارية هذا المجرى ولا دلالة لها على اكثر من ذلك

٤١

- الأمر الثالث - ان رواية عائشة في تفرد أبي بكر بالرواية. وتداول نقلها بين العلماء والمصنفين وذكرها في الكتب كلها تشهد بأن الأصل في الرواية «انا معاشر الأنبياء لا نورث» وعلى ذلك جرى سطرها في الكتب. وعليه قال الرازي في تفسيره مذهب اكثر المجتهدين ان الأنبياء لا يورثون ثم ذكر انهم احتجوا بقول النبي (ص) نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ويشهد لذلك ما في شمائل الترمذي من رواية أبي البختري ان عمر قال لطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد نشدتكم الله أسمعتم رسول الله يقول كل مال نبي صدقة إلّا ما أطعمه اهله إلّا لا نورث ونحوه في كتاب الخراج من سنن أبي داود. وما رواه أحمد في مسند أبي بكر من قوله لفاطمة سمعت رسول الله يقول ان النبي لا يورث. إذن فالرواية مخالفة لكتاب الله في قوله تعالى في سورة النمل ١٦( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) وليس ارث العلم والنبوة لأن القرآن يدل على ان سليمان اوتي العلم والحكمة كداود في زمان داود كما في سورة الأنبياء ٧٧ و ٧٨ وفي قوله تعالى في سورة مريم في قول زكريا ودعائه ٤( إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ ) أي الأقارب الوارثين( مِنْ وَرائِي ) أي بعد موتي أي خاف من أن يكونوا هم الوارثين لماله. ومقتضى مقام النبوة انه خاف ذلك لأمر شرعي( وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً ) لم تلد لي ولدا يكون هو الوارث من بعدي دونهم( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ) من رحمتك وقدرتك ولدا( وَلِيًّا يَرِثُنِي ) ويكون له ما ابقيه من المال الذي خفت ان يرثه الموالي من ورائي. ولا يخفى ان مقام زكريا في النبوة يمنع من ان يقال انه خاف ان يرثه مواليه وأقاربه العلم والنبوة. وذلك لأن النبوة وعلمها أمر بيد الله في مقامها الخاص يجعلها لمن هو أهل لها ويمنعها عمن ليس بأهل ولا يخفى ذلك عمن هو دون زكريا إذن فلا يصح في المعقول ان يقال ان زكريا النبي خاف من ان يجعل الله النبوة وعلمها فيمن ليس بأهل لذلك. ولا انه خاف من ان يجعل الله النبوة وعلمها بحسب حكمته فيمن هو أهل لها. فلا بد من ان يكون الذي خافه هو إرث المال الذي يرثه البر والفاجر بحسب الشريعة. ومثل ذلك قوله تعالى عن زكريا في سورة الأنبياء ٨٨( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً ) بلا ولد وارث كما يدل عليه قوله( وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ٨٩ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ) وان استجابة دعائه بالوارث تبطل ان يكون يحيى قتلوه في حياة أبيه زكريا حتى لو قلنا ان مراد زكريا ارث العلم والنبوة فان معنى ارث يحيى لهما من زكريا لا يستقيم في الكلام إلّا إذا وصلا ليحيى بعد موت زكريا. ودعوى الإجماع على قتل يحيى في حياة

٤٢

أبيه مجازفة تشهد دلالة القرآن ببطلانها - الأمر الرابع - في تدافع الحجّة المروية في أحاديث المسألة فإن الحديث الأول يذكر الاحتجاج أولا برواية انا لا نورث ما تركناه صدقة. وهذا كالصريح في دعوى ان أموال النبي (ص) التي هي ملكه في حياته يتصرف بها كيف يشاء تكون بعد وفاته صدقة مضافا إلى ان الاعتبار لا يساعد على ان يكون النبي محجورا عليه في أمواله وما أفاء الله عليه واضافه إليه وجعله له في نص القرآن فلا يكون كسائر المالكين يهب ويبيع ويعطي من اعيان أمواله على ما تقتضيه الحالة والمصلحة بل تكون صدقة لا يقدر ان يتصرف فيها إلّا على شيء من نمائها لنسائه فلا يساوي في أمواله التي جعلها الله له واحدا من المسلمين - لكن قول الحديث «إنما يأكل آل محمد من هذا المال يتضمن ان رسول الله (ص) كان محجورا عليه في املاكه بالنحو الذي ذكرناه وبمجرد ان يعطيه الله شيئا تكون أعيانه صدقة محجورا عليها. فالعبارتان في الحديث متدافعتان متنافيتان. ودع ما في العبارة الثانية ومؤدى حجرها على الرسول (ص). وعلى ذلك جرى قول الحديث «لا أغير شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها» إذ لو كان المدعى ان رسول الله (ص) جعلها صدقة بجعله لكان أمرا ثالثا تجب اقامة البينة الكافية عليه ولا يكفي في ذلك كون الرسول يتناول من نماء أمواله نفقة نسائه ويصرف الباقي في سبيل الله فإنه رسول الله وابو الأمة والإسلام معدن الرحمة والجود. «لا يقال» ان معنى المروي هو ان رسول الله (ص) جعل هذه الأموال صدقة في حياته وجرى في سيرته - لأنه يقال - لو كانت صدقة بجعل الرسول قبل وفاته بمدة سنين كما يروى من سيرته لكان ذلك من الأمور المشهورة ولما خفي على خواص أصحابه وعلى نسائه واهل بيته. ولما احتاج أبو بكر في رد فاطمة إلى رواية لا نورث ولا احتاجت عائشة في رد نساء النبي (ص) إلى هذه الرواية ولا احتاج لمناشدة عثمان والزبير وطلحة وسعد عن علمهم بها. مع ان الرواية اجنبية عن موضوع النزاع على هذا التقدير بل الذي يلزم هو اقامة الحجّة على وقوع التصدق منذ سنين والاستشهاد عليه. وفي رواية مسلم والبخاري في باب فرض الخمس «واما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال هما صدقتا رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من ولي الأمر» والكلام في هذه الفقرة كالكلام في سابقتها. وان كل مالك تكون أمواله لحقوقه التي تعروه ونوائبه. وتزيد هذه الفقرة بدعوى ان أمر فدك وخيبر إلى من ولي الأمر. فإن المقام مقام مطالبة بالحقوق على الموازين الشرعية والحجج لا مقام استفتاء يكتفي فيه بالفتيا المجردة والدعوى

٤٣

المحضة - ومما ذكرناه - يعرف التدافع في حديث مالك بن أوس في الجمع فيها بين الاحتجاج برواية لا نورث ما تركناه صدقة وبين الاحتجاج بأن رسول الله (ص) كان ينفق من مال بني النظير على اهله نفقة سنتهم ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله كما في روايات البخاري وفي رواية مسلم ثم يجعل ما بقي أسوة المال. ولا يخفى ان للناس في أموالهم شؤونا وهل يجب شرعا أو عقلا أو عادة ان تجرى أموال الشخص بعد موته على ما كانت تجرى عليه في حياته وان رسول الله (ص) في تفانيه في ذات الله والإسلام ورحمته بالمسلمين لو ملك اضعاف ما ملك لاقتصر على واجب النفقة وأنفق الباقي في سبيل الله وأما بعد وفاته فيرجع الأمر إلى شأن وارثه وليس لأحد ان يتحكم بفعل الموروث في النماء ما لم يثبت انه تصدق بالعين في حياته. ومما يزيد في الاضطراب والتدافع في ما يروى من الحجّة ما ذكرناه مما رواه أحمد في مسند أبي بكر عن عمر عن أبي بكر انه سمع رسول الله يقول النبي لا يورث وانّما ميراثه في فقراء المسلمين والمساكين. ويزيد ذلك بما ذكرناه في الحديث الثالث من قول أبي بكر سمعت رسول الله (ص) ان الله إذا اطعم نبيه طعمة فهي للذي يقوم من بعده. ويزيد في الاضطراب ما ذكرناه من شمائل الترمذي - الوجه الثالث - قد سمعت مما تقدم من جامعي البخاري ومسلم وتاريخ الطبري ان فاطمة طالبت أبا بكر بإرثها مما أفاء الله على رسوله بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فردها أبو بكر برواية لا نورث ما تركناه صدقة وفي رواية مالك بن أوس ان عمر قال في فدك وخمس خيبر انهما صدقة رسول الله وأمسكهما. إذن فكيف بلغ الحال إلى ما رواه أبو داود في كتاب الخراج من سننه في فدك انه لما مضى أبو بكر وعمر اقطعها «بالبناء للمجهول» مروان بن الحكم وبقيت في ولده حتى ردها عمر بن عبد العزيز. وقد صرح جماعة كثيرون بما يفهم من الحديث من ان الذي أقطعها مروان هو عثمان في أيامه كما في السيرة الحلبية والمرقاة وغيرها. وما اكثر وجوه الاشكال في هذه المسألة ورواياتها وذلك في ذمة تاريخها - هذا ومن المعلوم عند أهل البيت والإمامية وعليه حديثهم ان فدكا كانت نحلة من رسول الله لفاطمة وكانت تحت يدها وعمل عاملها في حياة رسول الله (ص) ولما طرد عاملها ادعت النحلة وقدمت لأبي بكر شهودها فلم ينفعها ذلك أصلا. ونقل ابن أبي الحديد في شرح النهج عن قاضي القضاة قوله انا لسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدكا وأما انها كانت في يدها فغير مسلم ونقل أيضا عن كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري أحاديث جمة في ادعائها

٤٤

(ع) نحلة فدك وذكر في المواقف وشرحها في المقصد الرابع من مقاصد الإمامة انها ادعت النحلة وشهد لها علي والحسنان وأضاف في المواقف ام كلثوم وقال في شرحها الصحيح انها ام ايمن : وقال ابن حجر في الشبهة السابعة من الباب الخامس من الفصل الأول في صواعقه ودعواها ان رسول الله (ص) نحلها فدكا لم تأت عليها بشاهد إلّا بعلي وام أيمن ونحوه في معجم البلدان وفتوح البلدان للبلاذري. وقال الشهرستاني في الملل والنحل الخلاف السادس في أمر فدك والتوارث عن النبي (ص) ودعوى فاطمة تملكا تارة ووراثة اخرى حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبي (ص) نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. وفي كتاب امير المؤمنين علي إلى عامله عثمان بن حنيف «بلى كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم وسخت بها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله» وفي الدّر المنثور في تفسير قوله تعالى( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) من سورة بني إسرائيل أخرج البزاز وابو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال لما نزلت هذه الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) دعا رسول الله فاطمة فأعطاها فدكا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال لما نزلت( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) اقطع رسول الله فاطمة فدكا. ونقل السيوطي أيضا هذين الحديثين في لباب النقول وذكر ان الطبراني أخرج الحديث الأول عن أبي سعيد وفي كنز العمال ومختصره في صلة الرحم من كتاب الأخلاق عن تاريخ الحاكم عن أبي سعيد قال لما نزلت( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) قال النبي (ص) يا فاطمة لك فدك - هذا ولكن لما وردت دعوى الزهراء في نحلة فدك ولم تنفعها فيها شهادة علي والحسنين وأم أيمن ويا للعجب عدلت إلى المطالبة بها بوجه الإرث اقلا كسائر المتروكات هذا وان صاحب المنار ذكر عن الالوسي في تفسيره روح المعاني احتجاجه على الشيعة في ان الأنبياء لا يورثون بأمرين - أحدهما - ما

رواه في اصول الكافي بسنده عن أبي البختري وهب عن الصادق (ع) قوله : ان العلماء ورثة الأنبياء وذلك ان الأنبياء لا يورثوا دينارا ولا درهما وانّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم. الحديث. فاحتج بان «إنّما» تفيد الحصر «ويدفعه» أنَّ الحصر لم يكن إضافيا بالنسبة إلى الدينار والدرهم فهو حصر بالنسبة لحملة الحديث من سائر الناس وعامتهم لا وارث المال من الأقرباء ومن المعلوم أنَّ سائر الناس لا يرثون من الأنبياء إلّا الحديث في العلم ولا إرث للعلماء من الأنبياء إلّا ذلك - وثانيهما - بأن تركة النبي (ص) وقعت في أيدي جماعة من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل

٤٥

السنّة كعلي والحسنين وعلي بن الحسين فلم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا أزواج النبي (ص) ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم قطعا «ويدفعه» أنَّ ما يشير إليه من نحو العمامة المقدّسة والسّلاح والرواية قد كان رسول الله (ص) أعطاه في مرضه لعليٍّ على أنّها من مختصات الإمامة ولذا صارت تنتقل من إمام إلى إمام وعلى ذلك يجري ما رواه أحمد في مسند أبي بكر عن ابن عباس بسند لو لم يكن صحيحا عندهم لكان حسنا مقبولا قال: لما قبض رسول الله (ص) واستخلف أبو بكر خاصم العباس عليا في أشياء تركها رسول الله (ص) فقال أبو بكر شيء تركه رسول الله فلم يحركه فلا أحركه. فلما استخلف عمر اختصما إليه فقال شيء لم يحركه أبو بكر فلا أحركه. فلما استخلف عثمان اختصما إليه فسكت ونكس رأسه فخشيت ان يأخذه فضربت بين كتفي العباس فقلت: يا أبت أقسمت عليك إلّا سلمته لعلي فسلمه اليه. ورواه في كنز العمال ومنتخبه في أول كتاب الخلافة عن البزاز أيضا. ولو تنزلنا عن ذلك وفرضنا كونها تركة موروثة لقلنا ان عدم اعطائهم للعباس لأنه لا يرث مع فاطمة عند أهل البيت لآيات الأقربين واولي الأرحام كما مر في مسألة التعصيب. وأما أزواج النبي (ص) فيجوز ان يكون قد طبن نفسا بذلك لفاطمة (ع) لسماحتها لهن ببقائهن في بيوتهن وتصرفهن بما فيها من ادارة البيت احتراما لمقامهن من رسول الله أو لغير ذلك من الوجوه. ويجوز أيضا أنْ تكون تلك الأشياء تستخلص في سائر الطبقات من بقية الوراث بطيب النفس أو بالمعاوضة فلا تشبث بذلك للالوسي وصاحب المنار.

- الأمر الثامن في العول: ومحل النزاع فيه بين النافين له والمثبتين هو ان يجتمع من الفرائض المذكورة في القرآن الكريم بحسب صورة إطلاقها ما يتزاحم ولا يمكن اجتماعه مع الإطلاق وبقائه على معناه. فالقائل بالعول يخرج اسماء الفرائض في مسائل عوله عن معانيها الحقيقية لكي يقسم المال على نسبة تلك المعاني بعضها من بعض. والنافون للعول يستدلون على تقييد بعض المطلقات في تلك المسائل فيرتفع التزاحم. وتحرير الكلام هو أنَّ الصور التي يفرض تزاحم الفرائض فيها في الظاهر هي على ما يخطر في ذهني في الحال اثنتان وعشرون صورة ثلاثة عشر منها متفق على إمكان تصويرها ووقوعها بين المسلمين وتسعة منها يختص تصويرها بأهل السنة لأنهم يورثون الاخوة والأخوات مع الأمّ فلنذكر هذه الصور وما تصير إليه فرائضها على تقدير العول ليتضح وجه الحجّة والكلام في المسألة ان شاء الله وان استلزم التطويل -

٤٦

فالصور المتفّق عليها الأولى منها - زوج وبنت وأم وأب. يصير فيها على العول ربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر ونصف البنت ستة من ثلاثة عشر وكل من سدسي الأب والأم اثنين من ثلاثة عشر - الثانية - زوج وبنتان فما فوق وأم وأب. يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من خمسة عشر وهو الخمس وثلثا البنات ثمانية من خمسة عشر وكل من سدسي الأب والأم اثنين من خمسة عشر - الثالثة - زوج وبنتان فما فوق وواحد من الأبوين. يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر. وثلثا البنات ثمانية من ثلاثة عشر. وسدس أحد الأبوين اثنين من ثلاثة عشر - الرابعة - زوج وأخت من الأبوين أو الأب واثنان من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من ثمانية وكذا نصف الأخت. وكل واحد من سدسي الكلالة واحد من ثمانية وهو الثمن - الخامسة - الصورة السابقة مع كون الكلالة من الأم فيها اكثر من اثنين يصير النصفان فيها كما في التي قبلها وثلث الكلالة ربعا - السادسة - الصورة السابقة وكلالة الأم واحد. يصير فيها كل من النصفين ثلاثة من سبعة وسدس الكلالة واحد من سبعة - السابعة - زوج واختان فما فوق من الأب أو الأبوين. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من سبعة وثلثا الأخوات اربعة من سبعة - الثامنة - الصورة السابقة وواحد من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من ثمانية وثلثا الأخوات أربعة من ثمانية وهو النصف وسدس الكلالة ثمنا - التاسعة - الصورة السابقة وكلالة الأم فيها اثنان. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من تسعة وهو الثلث وثلثا الأخوات اربعة من تسعة وكل من سدسي الكلالة واحدا من تسعة - العاشرة - الصورة السابقة وكلالة الأم أكثر من اثنين وقسمتها كسابقتها ويكون ثلث الكلالة اثنين من تسعة - الحادية عشر - زوجة وبنتان فما فوق وأم وأب. يصير فيها ثلثا البنات ستة عشر من سبعة وعشرين(١) وثمن الزوجة ثلاثة من سبعة وعشرين وهي التسع - الثانية عشر - زوجة واختان فما فوق من الأب أو الأبوين مع اثنين من كلالة الأم. تصير فيها القسمة كسابقها - الثالثة عشر - هذه الصورة وكلالة الأم فيها اكثر من إثنين وتصير كسابقتها وثلث الكلالة ثمانية من سبعة وعشرين «وأما المختصّة» بمواريث أهل السنة فهي - الرابعة عشر - زوج وام وأخت من الأب والأبوين يصير فيها كل من نصفي الزوج والأخت ثلاثة من ثمانية وثلث الأم اثنين من ثمانية وهو الربع - الخامسة عشر - زوج وأم واختان فما فوق من الأب أو الأبوين يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من تسعة وهو الثلث وثلثا الأخوات

٤٧

أربعة من تسعة وثلث الأم اثنين من تسعة - السادسة عشر - الصورة السابقة مع واحد من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من عشرة وثلث الأمّ اثنين من عشرة وهو الخمس وثلثا الأخوات اربعة من عشرة وسدس الكلالة واحد من عشرة - السابعة عشر - الصورة السابقة مع ثان من كلالة الأم. يصير فيها نصف الزوج ثلاثة من أحد عشر وثلث الأمّ اثنين من أحد عشر وثلثا الأختين اربعة من أحد عشر وكل من سدسي الكلالة واحد من أحد عشر - الثامنة عشر - الصورة السابقة ويكون فيها كلالة الأمّ اكثر من اثنين. يصير فيها ثلث الكلالة اثنين من أحد عشر - التاسعة عشر - زوجة وام وأختان فما فوق من الأب أو الأبوين. يصير فيها ربع الزوجة ثلاثة من خمسة عشر وهو الخمس وثلث الأم اربعة من خمسة عشر وثلثا الأخوات ثمانية من خمسة عشر - العشرون - الصورة السابقة مع واحد من كلالة الأمّ. يصير ربع الزوج فيها ثلاثة من سبعة عشر وثلث الأمّ أربعة من سبعة عشر وثلثا الأخوات ثمانية من سبعة عشر وسدس الكلالة اثنين من سبعة عشر - الحادية والعشرون - الصورة السابقة مع ثان من كلالة الأمّ يصير فيها ربع الزوج ثلاثة من تسعة عشر وثلث الأم اربعة من تسعة عشر وثلثا الأخوات ثمانية من تسعة عشر وكل من سدسي الكلالة اثنين من تسعة عشر - الثانية والعشرون - الصورة السابقة ويكون فيها كلالة الأم أكثر من اثنين. يصير ثلثهم فيها أربعة من تسعة عشر.

إذن فعلى القول بالعول وما تقدم من الحساب في الصور المذكورة يصير معنى الثمن المذكور في القرآن للزوجة أو الزوجات واحدا من ثمانية كما في غير مسائل العول وواحدا من تسعة أي تسعا في الصور الحادية عشر والثانية عشر والثالثة عشر : ويكون ربع الزوجة واحدا من أربعة في غير العول وواحد من خمسة كما في الصورة التاسعة عشر وثلاثة من سبعة عشر كما في الصورة العشرين وثلاثة من تسعة عشر كما في الحادية والعشرين والثانية والعشرين. وربع الزوج ثلاثة من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى والثالثة وثلاثة من خمسة عشر كما في الثانية ويكون نصف الزوج واحدا من اثنين في غير العول وثلاثة من سبعة كما في الصورة السادسة والسابعة. وثلاثة من ثمانية كما في الرابعة والخامسة والثامنة والرابعة عشر. وثلاثة من تسعة أي ثلثا كما في التاسعة والعاشرة والخامسة عشر. وثلاثة من عشرة كما في السادسة عشر. وثلاثة من أحد عشر كما في السابعة عشر والثامنة عشر. وتزيد معاني النصف بالنظر إلى نصفي البنت والأخ

٤٨

فيكون أيضا ستة من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى. وثلاثة من ثمانية كما في الرابعة والخامسة والرابعة عشر. وثلاثة من سبعة كما في السادسة فيكون للنصف سبعة معان : ويكون سدس الأب أو الأم أو الواحد من كلالة في غير العول واحدا من ستة. واثنين من ثلاثة عشر كما في الصورة الأولى والثالثة. واثنين من خمسة عشر كما في الثانية. وأربعة من سبعة وعشرين كما في الحادية عشر. وواحدا من سبعة كما في السادسة. وواحدا من ثمانية كما في الرابعة والثامنة. وواحدا من تسعة كما في التاسعة. واربعة من سبعة وعشرين كما في الثانية عشر. وواحدا من عشرة كما في السادسة عشر. وواحدا من أحد عشر كما في السابعة عشر. واثنين من سبعة عشر كما في الصورة العشرين. واثنين من تسعة عشر كما في الحادية والعشرين. فيكون للسدس اثنا عشر معنى : ويكون الثلث لكلالة الأم واحدا من ثلاثة في غير العول. واثنين من ثمانية كما في الخامسة. واثنين من تسعة كما في العاشرة. وثمانية من سبعة وعشرين كما في الثالثة عشر. واثنين من أحد عشر كما في الثامنة عشر. واربعة من تسعة عشر كما في الثانية والعشرين : ويكون الثلث للأم اثنين من ثمانية كما في الرابعة. واثنين من تسعة كما في الخامسة عشر. واثنين من عشرة كما في السادسة عشر. واثنين من أحد عشر كما في السابعة عشر والثامنة عشر. واربعة من خمسة عشر كما في التاسعة عشر. واربعة من سبعة عشر كما في الصورة العشرين : واربعة من تسعة عشر كما في الحادية والعشرين والثانية والعشرين. ويكون أيضا باعتبار ثلثي البنات والأخوات له معان أخر فإن الثلثين يكونان ثمانية من خمسة عشر في الصورة الثانية وثمانية من ثلاثة عشر في الثالثة. واربعة من سبعة في السابعة. واربعة من ثمانية في الثامنة. واربعة من تسعة في التاسعة والعاشرة والخامسة عشر. وستة عشر من سبعة وعشرين في الحادية عشر والثانية عشر والثالثة عشر. واربعة من عشرة في السادسة عشر والثامنة عشر. وثمانية من خمسة عشر في التاسعة عشر. وثمانية من سبعة عشر في الصورة العشرين. وثمانية من تسعة عشر في الحادية والعشرين والثانية والعشرين. فيكون للثلث باعتبار ثلث الأم وثلث كلالتها وثلثي البنات والأخوات أحد وعشرون معنى.

إذا تحرر هذا فنقول ان الله العليم الخبير والذي أحصى كل شيء علما وعددا لا شك في انه يمتنع على جلاله ان يكون قد جعل الفرائض وهو لا يعلم بما يؤدي إليه تزاحمها كما في فروض مسائل العول. إذن فلم يبق في المسألة إلّا وجهان - أحدهما - ان يكون استعمل

٤٩

ألفاظ الفرائض في معانيها الحقيقة في غير مسائل العول وفي المعاني الكثيرة المتنافرة التي يؤول إليها تقسيم العول كما شرحناه - وثانيهما - ان يكون الشارع في الموارد يتراءى فيها تزاحم الفرائض بحسب الظاهر البدوي من إطلاقها قد قيد بعض مطلقاتها وأخرج بعض مصاديقها منها بحيث لا يحصل التزاحم وأوكل أمر هذه المصاديق إلى عمومات الإرث بالقرابة وآيات الأقربين واولي الأرحام - لكن - الوجه الاول باطل ممتنع في اللغة لأنه يستلزم استعمال اللفظ الواحد في الاستعمال الواحد في معناه الحقيقي ومعان أخر متنافية متشتتة لا جامع بينها كما شرحناه وليس فيما بين كل واحد منها وبين المعنى الحقيقي علاقة تصحح التجوز فانها كلها في مقام التقسيم واناطة الحكم بخصوصيات الكسور فتكون بذلك معاندة ومنافرة للمعنى الحقيقي ومتعاندة ومتنافرة فيما بينها. على انه لا يجوز الجمع في الاستعمال بين الحقيقة والمجاز حتى مع وجود العلاقة ووضوحها كما تحرر في الأصول. ومما يشهد لذلك ان الأوائل القائلين بالعول من الصحابة لم يدعوا أن تزاحم الفرائض صار قرينة على ان الله أراد من ألفاظها ما ذكرناه من تلك المعاني الكثيرة بل جعلوا العول من قبيل الصلح القهري عند اشتباه الحكم الشرعي لأنه لم يتضح لهم من قدم الله ومن أخره كما يعرف من رواية عبيد الله عن ابن عباس. كما يشهد لذلك ان ابن عباس اكتفى في ابطال العول بعلم الله وإحصائه لرمل عالج عددا ولم يخطر في خياله ان الله أراد من اسماء الفرائض تلك المعاني الكثيرة وعلى ذلك يجري تصويب الزهري لقوله واحتجاجه وما ذاك إلّا لأن ما ذكرناه من الامتناع خصوصا في هذا المقام مرتكز في الغريزة مستحكم في الفطرة. هذا ولو تنزلنا وجوزنا الجمع بين كل من المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في استعمال واحد لما كان هذا المقام من واديه ولا يدانيه لما ذكرناه من المعاندة في مقام التقسيم - فان قيل - يمكن ان يكون ألفاظ الفرائض مستعملة في الجامع بين تلك المعاني المتشتتة وهو عنوان الجزء المطلق من التركة وما يشبهه - قلنا - إذا كان المسمى والمعنى هو الجزء المطلق وكانت اسماء الفرائض كالمترادفة فما هي الفائدة فيها والمحصل منها. ولماذا يعطى في كل مورد من موارد العول وغيره جزء مخصوص ومقدار معين - فان قيل - انا نعطي تلك المقادير المخصوصة من باب تزاحم الحقوق المجعولة - قلنا - أولا لماذا تعطون في غير العول مقادير مخصوصة على مقتضى المعاني الحقيقية لألفاظ الفرائض كالنصف والثلث مثلا. وثانيا. إذا كانت اسماء الفرائض اسماء للجزء المطلق لم يكن هناك تزاحم حقوق بل يعطون

٥٠

على التساوي. فلا مناص إذن عما ذكرناه قبلا من ثاني الوجهين وهو التقييد لإطلاق بعض الفرائض التي لا تخرج أسماؤها عن معانيها الحقيقية والرجوع في موردها إلى الإرث بالقرابة. فعلينا البحث في تعيين ما هو خارج عن الإطلاق ويرجع أمر مورده إلى آيات الأقربين واولي الأرحام. فإن أصبناه انحل اشكال التزاحم وإلا وجب التوقف والرجوع إلى الصلح ما بين الورثة في هذه الموارد المشكلة بظاهر التزاحم. بل لو تمحلنا وجوزنا استعمال القرآن الكريم لألفاظ الفرائض على الوجه الأول المخالف للمعنى الحقيقي والراجع إلى الألغاز والمعميات بل الطلاسم لكان الحمل على التقييد هنا هو المتعين لأنه لا تجوز فيه وهو شايع جدا في المحاورات والقرآن الكريم. ومعرفة الخارج عن الإطلاق قريبة من التناول ووجه التقييد واضح كما قاله ابن عباس كما ذكره في كنز العمال ومختصره عن أبي الشيخ في فرائضه والبيهقي في سننه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ورواه ابن حزم الاندلسي في كتابه المحلى عن إسماعيل القاضي كما رواه المشايخ في الكافي والفقيه والعلل والتهذيب بأسانيدهم عن الفضل بن شاذان عن محمد بن يحيى جميعا عن علي بن عبد الله المدائني(١) ورواه أيضا في التهذيب سماعا واجازة عن ابن عبدون عن أبي طالب الانباري عن أبي بكر الحافظ أحمد بن هوده عن علي بن محمد الحصيني جميعا عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال خرجت انا وزفر بن أوس إلى ابن عباس فتحدثنا عنده حتى عرض ذكر فرائض المواريث فقال ابن عباس سبحان الله العظيم أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا. النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث. فقال له زفر يا أبا العباس من أول من أعال الفرائض فقال عمر بن الخطاب لما التقت عنده الفرائض ودافع بعضها بعضا قال ما ادري كيف اصنع. ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر وما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص. ثم قال ابن عباس وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة. فقال له زفر وأيهم قدم الله وأيهم أخر. فقال كل فريضة لم يهبطها الله إلّا إلى فريضة فهذا ما قدم وأما ما أخر فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فذلك الذي أخر. فأما التي قدم الله فالزوج له النصف فإذا دخل

__________________

(١) في التقريب ثقة ثبت امام اعلم أهل عصره بالحديث وعلله. إلى غير ذلك من تفخيم ابن عيينة والبخاري والنسائي له

٥١

عليه ما يزيله رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء. والزوجة لها الربع فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء. والأم لها الثلث فإن زالت عنه صارت إلى السدس ولا يزيلها عنه شيء. والذي أخر فريضة الأخوات والبنات النصف والثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلّا ما بقي. فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدء بمن قدم فأعطي حقه كاملا فإن بقي شيء كان لمن أخر. فقال زفر فما منعك يا ابن عباس من ان تشير عليه بهذا الرأي قال ابن عباس هبته. قال ابن شهاب والله لو لا انه تقدمه امام عدل أمره إلى الورع لما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم إنتهى ورواه الحاكم في الصحيح على شرط البخاري ومسلم بسنده عن علي بن عبد الله المدائني إلى آخر السند المتقدم من قول ابن عباس أول من أعال الفرائض عمر إلى قوله فإن بقي شيء كان له. وفي ذلك محل الغرض من احتجاج ابن عباس فيمن قدم الله ومن أخر وبيان الوجه الذي يعرف منه التقييد لبعض المطلقات. فانه لو دخل ولد ذكر مع البنت أو البنات أو أخ مع الأخت أو الأخوات زلن عن فرضهن ولم يكن لهن مع أخيهن إلّا ما بقي. بل لو كان في مقامهن ولد أو أولاد أو أخ أو اخوة لم يكن لهم إلّا ما بقي. فيكشف ذلك عن ان هذا هو الشأن المشروع في مقام هذه الوراثة. وعلى ذلك جرى ما رواه المشايخ الثلاثة في الكافي والفقيه والتهذيب في الصحيح عن الباقر (ع) قال كان علي (ع) يقول ان الذي احصى رمل عالج يعلم ان السهام لا تعول على ستة. لو يبصرون وجهها لم تجز ستة إنتهى يعني (ع) ان كل فريضة تعطى مثل مخرجها وهو ما بنسبتها من الستة فصاحبة الثمن تعطى ثلاثة أرباع الواحد من الستة. وصاحب الربع يعطى واحدا ونصفا من الستة(١) ومراده (ع) من وجهها هو ما ذكرناه من التقييد للإطلاق في فرائض البنت والبنات والاخت والأخوات في صور التزاحم : وروى الشيخ في التهذيب عن ابن عبدون عن أبي طالب الانباري عن الحسن بن محمد بن أيوب عن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى بن أبي بكر عن شعبة عن سماك عن ابى عبيدة السلماني قال كان علي (ع) على المنبر فقام إليه رجل فقال يا امير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبوين وزوجة فقال (ع) صار ثمنها تسعا قال سماك فقلت لعبيدة وكيف ذلك

__________________

(١) لكنا في صور التقسيم السابق حذرا من الكسور جعلنا المخرج لما فيه الثمن اربعة وعشرين ليكون الثمن ثلاثة بلا كسر. ولما فيه الربع اثني عشرة ليكون الربع ثلاثة بلا كسر

٥٢

قال ان عمر بن الخطاب وقعت في إمارته هذه الفريضة فلم يدر ما يصنع فقال له اصحاب محمد (ص) أعط هؤلاء فريضتهم للأبوين السدسان وللزوجة الثمن وللبنتين ما يبقى فقال واين فريضتهما الثلثان فقال علي (ع) لهما ما يبقى فأبي ذلك عليه عمر وابن مسعود قال أبو عبيدة واخبرني جماعة من اصحاب علي (ع) بعد ذلك في مثلها انه اعطى الزوج الربع مع البنتين وللأبوين السدس والباقي رد على البنتين وذلك هو الحق وان أباه قومنا إنتهى ومن الواضح ان قوله (ع) صار ثمنها تسعا خارج مخرج الإنكار والتألم من قسمة العول وهو ان الذي سماه الله ثمنا كيف يكون تسعا وكيف يطلق لفظ الثمن في استعمال واحد على جزء من ثمانية وعلى جزء من تسعة : هذا واما الأحاديث الواردة في بطلان العول ودخول النقص على البنات والأخوات عن الأئمة من أهل البيت علي والباقر والصادق والرضاعليهم‌السلام فهي كثيرة تناهز التواتر أكثرها من الصحيح وعلى مقتضاها اجماع الإمامية ومذهب ابن عباس ومحمد بن الحنفية وحكاه المرتضى في الإنتصار عن عطا بن رياح وداود بن علي الاصفهاني. وفي المحلى لابن حزم قال به أبو سليمان وجميع أصحابه يعني داود إنتهى وذهب إليه الناصر جد المرتضى في الناصريات واختاره ابن حزم في المحلى.

احتجوا للقول بالعول بوجوه - الأول - انه لا بد من النقص عند تزاحم الفرائض. ودخوله على بعض دون بعض ترجيح من دون مرجح ومقتضى العدل هو إدخاله على الجميع - ويدفعه - ان المقام مقام جعل وتشريع واتباع الشرع في القسمة وقد أوضحنا انه يمتنع ان يكون في أدلة التشريع ولفظه ما يراد منه دخول النقص على الجميع. اذن فإدخال النقص على الجميع تحكم باطل على الشرع لأعدل. خصوصا إذا علمنا انه لا بد فيه من التقييد لبعض المطلقات. واما إدخال النقص على البعض فانما هو لترجيح الدليل وتعيينه كما قدمناه عن ابن عباس وما جاء عن أهل البيت (ع) وإجماع الإمامية - الثاني - القياس على الحكم بالتقسيط فيما اوصى الإنسان بوصية نافذة بنصف الألف لزيد ونصفها لعمرو وثلثها لبكر مثلا - ويدفعه - أولا بطلان القياس من أصله. وثانيا. انه قياس مع الفارق فانا إذا لم نجد في هذه الوصية قرينة على العدول أو التقييد كان قرينة ارادة الموصي بلفظي النصف والثلث مجازا بنحو اللغز هو الجزء الناتج من التقسيط على نسبة المعاني الحقيقية. وليس في هذا ما يستلزم الممتنع من الجمع

٥٣

في الاستعمال الواحد بين المعنى الحقيقي والمعاني المتعددة المتنافية المتباينة وهذا إذا جاز من الناس لا نجوز مثله من القرآن الكريم فضلا عن ان محل الكلام في العول يستلزم امرا ممتنعا في اللغة وهو الجمع بين المعنى الحقيقي والمعاني المتباينة المتنافرة كما شرحناه ولو تمحلنا وجوزناه على الناس في هذل الاحاجي والالغاز لما جاز على مجد القرآن الكريم في البيان لتمييز السهام - من وجوه القياس - ان المال إذا قصر عن ديون الغرماء يوزع عليهم على نسبة ديونهم - ويدفعه - مع انه قياس ان الفارق جلي. فإن قصور المال لا ينافي ثبوت الدين في الذمة بمقاديره الحقيقية ولم يكن ثبوته مبتنيا على استعمال ممتنع في اللفظ الواحد. وان توزيع المال على الدين لم يكن في حال يئول إلى العلم الإجمالي فضلا عن التفصيلي بالتقييد وخروج البعض من افراد الدين عن الإطلاق الذي في دليل ثبوته واستحقاقه. فما هذا القياس إلّا من نحو قياس الضد على ضده في جهة المضادة - الثالث - رواية القول بالعول عن علي (ع) في رواية عبيدة السلماني بقوله (ع) صار ثمنها تسعا - ويدفعه - ما ذكرناه من ظهوره في نفسه في خروجه مخرج الإنكار فضلا عما ذكرناه من تتمة الرواية عن عبيدة وفضلا عن المعلوم المنقول عن أئمة أهل البيت وغيرهم من انه (ع) كان ينكر على القول بالعول - الرابع - النقض على الحل لمسئلة التزاحم بتقييد بعض المطلقات وتقديم من قدمه الله وتأخير من اخره وإدخال النقص على البنات أو الأخوات من الأب أو الأبوين وذلك بما إذا كان التزاحم في فرائض من قدمه الله كما إذا كان الوراث زوجا واما واثنين من كلالة الأم أو اكثر فإن المال لا ينقسم على نصف وثلث وسدسين. وكذا إذا كان مع هؤلاء اخت أو اختان من كلالة الأب أو الأبوين فإن المال يضيق وان أخرجنا هذه الكلالة من الميراث بالمرة - ويدفعه - ان هاتين الصورتين ممتنعتين في المواريث بحسب ما تقيمه الشيعة من الأدلة على ان الكلالة بقسميها لا ترث مع الأم كما مر بعضه. فلا نقض بما ذكروه ولا تشبث

(الأمر التاسع) ارث الزوج والزوجة في عقد المتعة فإنه خارج عن اطلاق ارث الزوجين على المشهور عند الإمامية وعليه حديثهم الدال على تقييد الإطلاق

(الأمر العاشر) خروج الرباع مطلقا والشجر والبناء عينا لا قيمة عن ارث الزوجة غير ذات الولد بإجماع الإمامية وحديثهم وفي ذات الولد خلاف

(الأمر الحادي عشر) - الحبوة - وهي لباس الميت وخاتمه ومصحفه وسيفه فان

٥٤

(١٣)تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٤)وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٥)وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ

____________________________________

المشهور عند الامامية انها حبوة يختص بها الأكبر من أولاده الذكور الصلبيين أو المنفرد وعلى ذلك حديثهم. وقيل انها على الاستحباب لتشكيك القائلين به في استفادة الوجوب والاستحقاق من الأحاديث -

هذا وأما الكلام في مواريث الأجداد والجدات وأبناء الاخوان والأخوات. والأعمام والأخوال وأبنائهم من اولي الأرحام والأقربين وكذا ميراث الولاء فهو موكول إلى علم الفقه وكتبه ١٣( تِلْكَ ) أي ما ذكر من احكام المواريث( حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ ) في العمل بهذه الأحكام على حدودها وما جاء في السنة في بيانها تفسيرا أو تخصيصا أو تقييدا( يُدْخِلْهُ ) الله( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) حال كون المطيعين( خالِدِينَ ) وجرى الجمع على معنى «من» الموصولة( فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ١٤وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ) المذكورة( يُدْخِلْهُ ) الله( ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ ) فوق ذلك( عَذابٌ مُهِينٌ ) وجرى افراد الضمائر على لفظ الموصول ١٥( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) أي يفعلنها فجاءت الكناية عن الفعل بالإتيان كما جاءت الكناية عن الفعل بالقرب في قوله تعالى الانعام ١٥١( وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ) وفي سورة الاسراء ٣٢( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) والإتيان والقرب على معانيها الحقيقية والغرض منها الفعل ونحوه بالمعنى الكنائي فهي مثل قوله تعالى في سورتي الأعراف ٧٩ والنمل ٤٥( أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ) وفي سورة العنكبوت ٢٨( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ) ٢٩( وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) وقد التفت الرازي في تفسيره إلى دلالة هذه الكنايات على ان فاعل الفاحشة هو الذي فعلها بإرادته وذهب إليها من عند نفسه وأتاها بقصده. واختارها بمجرد طبعه. أي غير مجبور على ذلك بوجه من الوجوه التي يلتجأ فيها إلى فرض الكسب. ولكنه قال لا يتم ذلك إلّا على قول المعتزلة. ويا ليته أصاب المرمى فقال وهذا مما يدل على قول المعتزلة في عدم الجبر. والفاحشة اسم للفعل القبيح والمراد منه في الآية بحسب المعهود ومناسبة المقام هو الزنا. وحكي

٥٥

مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا

____________________________________

عن أبي مسلم الاصفهاني من الجمهور وحكاه الرازي أيضا عن مجاهد ان الفاحشة هنا هي مساحقة النساء وفي قوله تعالى( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) هو اللواط. وذكر الرازي وجوه رده والدفع عنه بلا تصريح منه بترجيحه ورجحه صاحب المنار وحكى الترجيح عن استاذه بما لا يخرج عما ذكره الرازي وأيده الاردبيلي في زبدة البيان بنحو ذلك. والكل تخرص سقيم لا يجدي. فقد روي من عدا البخاري من اصحاب الجوامع الست وذكر في الدّر المنثور من غيرهم اثنى عشر ممن أخرجه من كبار المحدّثين عن عبادة ابن الصامت في حديث ان رسول الله (ص) اوحي إليه ولما سوى عنه الوحي قال (ص) خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة. واخرج أحمد عن سلمة ابن المحيق عن رسول الله نحو ذلك. وروى في الكافي بسنده عن الباقر (ع) ما ملخصه ان كل سورة النور نزلت بعد سورة النساء قال الله تعالى :( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) إلى قوله تعالى( سَبِيلاً ) فالسبيل الذي قال الله( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) . وفي تفسير البرهان عن العياشي عن جابر عن الباقر جعل السبيل الرجم أو الجلد. ورواه الجزائري في القلائد عن العياشي عن أبي بصير عن الصادق (ع) وفي مجمع البيان ان النسخ أي بآية النور وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله. وفي الوسائل في رسالة المحكم والمتشابه للمرتضى نقلا من تفسير النعماني باسناده عن إسماعيل بن جابر عن الصادق (ع) عن آبائه عن امير المؤمنينعليه‌السلام في حديث ذكر فيه احكام هذه الآية إلى ان قال فلما قوي الإسلام انزل الله( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فنسخت هذه الآية الحبس والأذى الحديث. وأما القول بأن السبيل هو التزويج والاستغناء بالحلال فقد قال في التبيان انه باطل بالإجماع( مِنْ نِسائِكُمْ ) أي من نساء المؤمنين وإن كان الحكم عاما وذلك لأن المؤمنين حينئذ هم الذين يتلقون احكام الشريعة بالإجراء فحسن لذلك خطابهم بالحكم العام. ودعوى ان المراد نساء الأزواج يبطلها ما ذكرنا روايته من الفريقين من حكم غير المحصنة في الجلد( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً ) من الرجال( مِنْكُمْ ) أي من المسلمين وذلك لأجل اجراء الحكم عليهن أي اطلبوا شهادتهم والظاهر انها على نمط الدعاوي في إقامتها عند الحاكم( فَإِنْ شَهِدُوا ) وثبت الأمر

٥٦

فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أو يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٦)وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٧)إنّما التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ

____________________________________

( فَأَمْسِكُوهُنَ ) حبسا( فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَ ) أي يأخذهن ويستوفيهن( الْمَوْتُ ) وقد تكلف في الكشّاف وتبعه الرازي إذ قدرا حتى يميتهن ملائكة الموت. وقد قدمنا الكلام في معنى التوفي في الجزء الأول ص ٣٣ - ٣٧( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ ) ويشرع( لَهُنَّ سَبِيلاً ) من غير شريعة الحبس مما هو مؤدب ومقاوم لمادة فساد الزنا. وقد جرى الأمر في كلتا الشريعتين على حكمة التشريع من حيث المسايرة في أول الأمر مع الناس فيما يألفونه في مقام المحافظة على ناموس العفة وان كان غير واف بالمصلحة المطلوبة في هذا المقام حتى إذا استحكم أمر الدين وساد الخضوع للشريعة شرع الحكم الموافق للمصلحة العامة ونظام الاجتماع كما نطقت به رواية النعماني واشارت إليه الغاية في الآية الكريمة. هذا في مقام صون المرأة عن معاودة الزنا وأما ما يعود إلى مقام الردع والتأديب في أول التشريع فهو ما قاله جل شأنه ١٦( وَالَّذانِ ) أي الزاني والزانية( يَأْتِيانِها ) أي فاحشة الزنا( مِنْكُمْ ) باعتبار تلقي المسلمين لأحكام الشريعة حينئذ وان كان عاما أو لعلم الله بأن هذه الشريعة قبل نسخها لا يتيسر للمسلمين إجراؤها على غيرهم( فَآذُوهُما ) بما يعتاد بينكم نوعا من الإيذاء في مقام الردع عن الزنا من التوبيخ والضرب ونحو ذلك( فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا ) أعمالهما ليكون ذلك إمارة على التوبة الحقيقية( فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) من حيث الإيذاء. ولا يتقيد الاعراض بتوبتهما معا. بل يعرض عن الإيذاء لمن عرفت توبته منهما بإصلاح عمله. كما تقتضيه حكمة التوبة( إِنَّ اللهَ كانَ ) من الأزل وإلى الأبد( تَوَّاباً ) على التائبين( رَحِيماً ) بعباده لا يريد إلّا صلاحهم. ولكن لا يغتر المغترون باسم التوبة الجارية على حكمة الرحمة والإصلاح والاستصلاح بل التوبة حقيقة هي التي تجري عليها رحمة الله وحكمته. فما كل من قال تبت تاب الله عليه كما كتب بلطفه وغناه على نفسه الرحمة بل ١٧( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ ) بمقتضى رحمته ولطفه وحكمته( لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) منهم. وذكرت الجهالة للتوضيح والتوبيخ فان كل عمل للسوء إنّما يكون بجهالة وعمى ولو أبصر الإنسان وجه رشده وعرف ببصيرته ما فيه صلاحه لما عمل السوء ولما استولت عليه النفس الأمارة وغواية

٥٧

ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٨)وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٩)يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً

____________________________________

إبليس بفلتات الشهوة والغضب والتعصيب الذميم وسوء الأخلاق وحب العاجل والتغاضي عن وباله أعاذنا الله من ذلك وأعاننا على أنفسنا بلطفه وتوفيقه( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ ) عهد( قَرِيبٍ ) بالنسبة إلى ما كانوا يرونه بعيدا من حضور آجالهم وانقطاع آمالهم من زهرة الحياة الدنيا وحينما تموت شهواتهم وتسقط دواعي المعصية كما قال بعضهم لما سئل عن الزنا عند ضعفه بالهرم «تركني وما تركته» بل التوبة إنّما هي في الحال التي يراغمون بها نزعات النفس الأمارة وغواية إبليس وينيبون إلى الله إقلاعا عن المعصية وندما على ما فرطوا فيه ورغبة في الأعمال الصالحة في حالهم ومستقبلهم وطلبا لكمالهم واندماجهم في زمرة عباد الله الصالحين بنزوعهم إلى حقيقة التوبة وشوقهم إلى رضاء الله عنهم ، وعفوه عما سلف منهم مما عرفوا قبحه وندموا على ارتكابه. فما كل مظهر للتوبة تائب ولا كل تارك للقبيح نادم. بل كما قيل: -

إذا انبجست دموع من عيون

تبين من بكى ممن تباكى

أو ليس من حقيقة التوبة ان يخرج التائب جهد مقدوره مما لزمه في معاصيه السابقة من حقوق الناس وحقوق الله ويستشعر قلبه التوبة والندم( فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) لأنهم تابوا على حقيقة التوبة( وَكانَ اللهُ ) منذ الأزل ، ولا يزال( عَلِيماً ) بمن تاب حق التوبة ومن تظاهر بصورتها المموّهة( حَكِيماً ) في دعوته إلى التوبة ووعده بأن يتوب على من أناب إليه وهو ارحم الراحمين ١٨( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ ) التي قد أعدتها الحكمة في الإصلاح والرحمة( لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) مصرين عليها بجرأتهم على الله ومتمادين في غيهم( حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) وانقطعت عنه دواعي الهوى والضلال( قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ ) بما عصوا( عَذاباً أَلِيماً ١٩ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالله ورسوله ودانوا باتباع شريعة الله( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ ) وتعدوهن ارثا لكم كما ترثون الأموال وتتسلطون عليهن بدعوى انتقال حق الزوجية إليكم بالوراثة( كَرْهاً ) بفتح الكاف اكراها لهن بدون

٥٨

وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ

____________________________________

تزوج جديد برضاهن. «وكرها» نائب عن المفعول المطلق المستفاد من «ترثوا» بمعنى التسلط عليهم بزعم الإرث كرها. في تفسير القمّي من رواية أبي الجارود عن الباقر (ع) كان في قبائل العرب إذا مات حميم الرجل وله امرأة القى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله وأن الآية نزلت في هذا الشأن. وفي الدّر المنثور مما أخرجه البخاري وغيره من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه وزاد ان شاء بعضهم تزوجها وان شاؤوا زوجوها وان شاؤا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها إنتهى وهذه الزيادة لا تنطبق على الآية فان هذا المعنى لم يكن للزوج ولا يورث منه وان كان ذلك للأهل في بدع الجاهلية ومما أخرجه أبو داود من طريق عكرمة أيضا عن ابن عباس كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو تؤدي إليه صداقها إنتهى وفي اقتصار الرواية على العضل مخالفة لجميع الروايات وخروج مغزى الآية. ومما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس أيضا كان الرجل إذا مات وترك جارية القى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فان كانت جميلة تزوجها وان كانت ذميمة حبسها حتى تموت فيرثها وهي قوله ولا تعضلوهن الآية وقال يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضربها لتفتدي إنتهى وفي هذه الرواية من التدافع ما لا يخفى. فالروايات عن ابن عباس مع كونها متعارضة بعيدة المجرى على سياق الآية الكريمة خصوصا إذا ضممناها إلى سائر ما رواه في الدّر المنثور هنا( وَلا تَعْضُلُوهُنَ ) أي لا تعضلوا نسائكم لا الموروثات كرها وذلك لعدم المناسبة فيما يأتي من احكام الآية للموروثات وكذا قوله تعالى( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) من الصداق فإن وارث النكاح بتشريع الجاهلية لم يؤتها شيئا. والقرآن الكريم في مقام نهيه وكرامة حكمته لا يسمي إيتاء اقربائهم للصداق إيتاء منهم فيثير منهم غبار المغالطات في بدعتهم. ولو تنزلنا فما ذا يقال في قوله تعالى( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) فهل يأمر الله بمعاشرة موروثة النكاح ببدعة الجاهلية. وعضل المرأة هنا حبس الزوج لها على نكاحه ، والتضييق عليها عند كراهته لها لتفتدي منه ببعض ما أتاها من الصداق ، ليطلقها. وقد بقي عند الأوباش بقية من هذه العادة الوخيمة فنهى الله تعالى عن هذا الظلم. نعم إذا كانت الكراهة منها لا من الزوج جاز

٥٩

إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (٢٠)وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً

____________________________________

ان يقبل الزوج منها الفداء من دون عضل كما مر في الخلع في الجزء الاول ص ٢٠٦ ، واما هنا فقد استثنى من حرمة العضل وأخذ شيء منهن بقوله تعالى( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) بكسر الياء المثناة أي موضحة لفحشائها وفي تفسير البرهان عن الشيباني ان الفاحشة هي الزنا وهو المروي عن أبي جعفر (ع) وفي مختصر التبيان والاولى حملها على كل معصية وفي مجمع البيان وهو المروي عن أبي جعفر (ع) أقول ولم اعثر على شيء من الروايتين لكن صدق الفاحشة على الزنا هو المتيقن في المقام ومن المعاصي ما لا يسمى فاحشة والإطلاق إنّما يجري مع صدق اسمها وشمولها لمحض النشوز بعيد أو للمساحقة والتهتك في التبرج وقول الفحش قريب في المقام. والمرجع في موارد الشك هو عموم هذا النهي عن العضل وهذا الأخذ لان الشبهة في الخاص مفهومية( وَعاشِرُوهُنَ ) أي غير من استثني عضلها من الزوجات( بِالْمَعْرُوفِ ) وهو معروف( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ ) لبعض الأمور من خلقتهن وغير ذلك فحاسبوا أنفسكم في هذه الكراهة فربما تزول إذا جوزتم ان يكون في هذه المرأة خير يهون عنده ما كرهتموها لأجله بأن يجعل الله فيها الخير ويبارك في نسلها ويبارك لكم بسببها( فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) يرغب فيه ويرغب في ذلك الشيء لأجل رجائه فيه. فأمسكوا من جماح نفوسكم في الكراهة وروضوها على الأخلاق الفاضلة وحسن المعاشرة مع المؤمنات وتفكروا في عواقب الأمور فكم شوهد من مبغوضات النساء من صار منهن النسل الطيب النافع ومن كانت هي المواسية والنافعة عند الشدائد والمرض والشيخوخة نفعا لا يوازيه شيء من احسان الرجل في الرفاهية وكم وكم ينعكس الأمر في المحبوبات - وهناك أيضا مورد يدعو الإنسان لأن يحمل زوجته بأنواع الوسائل على ان ترد عليه شيئا مما أعطاها من المهر. وذلك إذا أراد ان يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى فقال جل شأنه في الزجر عن ذلك والتوبيخ عليه ٢٠( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) مبالغة في كثرة ما يعطى على خلاف العادة لأجل التأكيد في الزجر لئلا يقال بقي عندها الشيء

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

وواضح أن الأوامر الأربعة الواردة في هذه الآية ، هي تأكيد على مسألة التوحيد وآثاره العملية ، فالمسألة أعمّ من التوبة والعودة إليه تعالى وإلى تقواه وإقامة الصلوة وعدم الشرك به.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يبيّن القرآن واحدا من آثار الشرك وعلائمه في عبارة موجزة ذات معنى كبير ، فيقول : لا تكونوا من المشركين الذين انقسموا في دينهم على فرق واحزاب كثيرة :( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ) .

والعجيب في الأمر أنّهم على تضادّهم واختلافهم فإنّ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) .

أجل ، إن واحدة من علائم الشرك هي التفرقة ، لأنّ المعبودات المختلفة هي منشأ الأساليب المتفاوتة وهي أساس الانفصال والتفرق ، خاصة وأنّ الشرك هو توأم عادة لهوى النفس والتعصّب والكبر والأنانية وعبادة الذات ، أو متولد عنها ، لذلك لا يمكن أن تتحقق الوحدة والاتحاد إلّا في ظل عبادة الله ، والعقل والتواضع والإيثار!.

فعلى هذا ، حيثما وجدنا تفرقة واختلافا فينبغي أن نعرف أن نوعا من الشرك حاكم هناك ، ويمكن أن نستنتج من هذا الموضوع أن نتيجة الشرك هي تفرق الصفوف ، والتضاد ، وهدر القوى ، وأخيرا الضعف وعدم القدرة.

وأمّا مسألة( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) فهي واضحة ودليلها بيّن ، حين يعتقدون أن ما لديهم حق ، لأنّ الهوى يزيّن للنفس عملها في نظر الإنسان وهذا التزيين نتيجته التعلق أكثر فأكثر ، والفرح بالطريق الذي اختارته النفس ، وإن كان هذا الطريق يؤدي إلى الضلال والانحراف.

إنّ عبادة الهوى لا تسمح للإنسان أن يرى وجه الحقيقة كما هو ، ولا يمكنه أن يقضي قضاء صحيحا خاليا من الحبّ والحقد.

٥٢١

يقول القرآن المجيد في الآية (٨) من سورة فاطر :( فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) كالذي يمضي في طريق الحق ، ويرى الحقائق كما هي ، ويعرفها حق المعرفة؟!

* * *

بحثان

١ ـ التوحيد باعث داخلي قوي :

كما أنّ الدلائل العقلية والمنطقية توجّه الإنسان ، فإنّ في داخله دوافع وموانع أيضا بحيث تعين له الجهة «أحيانا» من حيث يدري أو لا يدري!

وفلسفة وجودها في داخل الإنسان ، هي أنّ الإنسان لا يستطيع ـ دائما ـ أن ينتظر إيعاز العقل والمنطق ، لأنّ هذا العمل قد يعطل الأهداف «الحياتية» بعض الأحيان.

فمثلا لو أراد الإنسان أن يستلهم من منطق «لزوم بدل ما يتحلل» ضرورة تناول الطعام أو «لزوم استمرار النسل عن طريق التوالد والتناسل» ضرورة الممارسة الجنسية ، وأن يعمل ويتحرك وفق المنطق في كل ذلك ، لكان ينبغي أن ينقرض الإنسان ـ قبل هذا الزمان بكثير ـ إلّا أن الغريزة الجنسية من جهة وجاذبيتها ، والاشتهاء للطعام من جهة أخرى ، يجرانه نحو هذا الهدف شاء أم أبى.

وكلما كانت الأهداف حياتية أكثر وعمومية ، كانت هذه «الدوافع» أشد وأقوى أيضا.

لكن ينبغي الالتفات إلى أن هذه الدوافع على نحوين :

فبعضها باطنية (غير واعية) لا تحتاج إلى وساطة العقل والشعور ، كما ينجذب الحيوان نحو الطعام والجنس دون الحاجة إلى التفكير.

وقد يكون تأثير الدوافع عن طريق الوعي ، أي إن هذه الدوافع الداخلية

٥٢٢

تترك أثرها في العقل والتفكير وتدفعه إلى انتخاب الطريق!

وعادة يطلق على النوع الأوّل من هذه الدوافع «الغريزة» وعلى النوع الثّاني «الفطرة» (فلاحظوا بدقّة).

عبادة الله والاتجاه نحوه لهما مكانه في نفوس جميع الناس ، وهو ما يصطلح عليه بـ «الفطرة».

ويمكن أن يعدّ بعض الناس هذا الكلام ادعاء محضا ، يدّعيه المؤمنون ، إلّا أن لدينا دلائل وشواهد مختلفة توضح بجلاء كون «الميل إلى الله» فطريا ، بل تؤكّد هذا الميل في جميع اصول الدين وأبعاده :

١ ـ إنّ دوام الإعتقاد الديني والإيمان بالله على امتداد التاريخ البشري بنفسه دليل على الفطرة! لأنّه إذا كان ذلك على سبيل العادة ، لما كانت له جنبة عمومية ولا جنبة دائمية ، فهذا العموم وهذا الدوام دليل على فطرية الحالة.

يقول المؤرخون الكبار : لم ير في المجتمعات الإنسانية في أعماق التاريخ البشري ، وفي عصر ما قبل التاريخ أن أقواما بشرية عاشت بلا دين إلّا بشكل استثنائي.

ويقول «ويل دورانت» المؤرخ المعاصر :

«إذا عرّفنا الدين على أنّه عبادة القوى التي هي أسمى من الطبيعة ، فينبغي أن نأخذ بنظر الإعتبار هذه المسألة الدقيقة ، وهي أن بعض الأمم البدائية لم يكن لها أي دين ظاهرا» ثمّ يضيف بعد ذكر أمثلة لهذا الموضوع : فما ذكر من الأمثلة هو في عداد الحالات النادرة ، والرأي القائل : التدين يشمل عموم أفراد البشر ، يوافق الحقيقة»!

ثمّ يضيف قائلا : «تعدّ هذه القضية في نظر الفيلسوف واحدة من القضايا الأساسية في التاريخ والدراسات النفسيّة ، فهو لا يقنع بهذه المسألة : إنّ جميع الأديان محشوّة بالباطل واللغو والخرافات ، بل هو ملتفت إلى هذه المسألة ، وهي

٥٢٣

أن الدين منذ قديم الأيّام كان مرافقا للتاريخ البشري»(١) .

ويختتم كلامه بهذا الاستفهام الكبير معنى ومغزى «ترى أين هو مصدر التقوى التي لا يخلوا القلب منها بأي وجه»؟!

وهذا المؤرخ نفسه يقول في تحقيقاته حول وجود الدين في فترات ما قبل التاريخ «وإذا لم نتصور للدين جذورا في فترات ما قبل التاريخ ، فلا يمكن أن نعرفها في الفترة التاريخية كما هي عليه»(٢) .

والتنقيبات عن إنسان ما قبل التاريخ التي تمت عن طريق الحفر ، تؤيد هذا الموضوع أيضا ، كما يصرح بذلك العالم الاجتماعي «ساموئيل كنيج» في كتابه «دراسة المجتمع» : إن الأسلاف الماضين للإنسان المعاصر «ممن ينتمون إلى إنسان نئاندرتال» كان لديهم دين حتما ، ويستدلّ بعدئذ لإثبات هذا الموضوع بالآثار التي عثر عليها عن طريق التنقيب والحفر ، ومنها أنّهم كانوا يدفنون موتاهم بكيفية خاصة ، ويدفنون معهم أشياء تدل على اعتقادهم بيوم القيامة».(٣)

وعلى كل حال ، فإنّ فصل الدين عن التاريخ البشري لا يمكن أن يقبله أي محقق وباحث.

٢ ـ إنّ المشاهدات عيانا في العالم المعاصر تكشف أنّه مع جميع ما بذل الطغاة والمستبدون ـ وأنظمتهم الجائرة من جهود وسعي لمحو الدين وآثاره وعن طرق مختلفة ـ لم يستطيعوا أن يستأصلوا الدين وجذوره من أعماق هذه المجتمعات.

ونعرف جيدا أنّ الحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي ، ومنذ أكثر من ستين سنة ، وبوسائل الإعلام و «الدعايات» المختلفة ، حاول أن يغسل

__________________

(١) تاريخ التمدن ، ج ١ ، ص ٨٧ ـ ٨٩.

(٢) تاريخ التمدن ، ج ١ ، ص ١٥٦.

(٣) دراسة المجتمع ، ص ١٩٢ أصله بالفارسية وعنوانه جامعه شناسي.

٥٢٤

الأذهان والعقول والقلوب من الإعتقادات الدينية مستعينا بالخلايا التنظيمية الجماعية ، إلّا أنّ الأخبار التي تسربت وتهربت من ذلك المحيط المغلق ، وما نقرؤه في الصحف والجرائد ، تكشف أنّهم «أي الحزب الحاكم في روسيا» مضافا الى عدم تحقيقهم هدفهم بالرغم من تشددهم في وسائل الإعلام ، فإنّه تبدو هذه الأيّام حالة من التطلع المتزايد الى المسائل الدينية في بعض الدول الاشتراكية وجمهوريات روسيا ممّا أقلق قادة النظام ، وهذا يدل على أنّه لو رفعوا الضغوط ولو يوما واحدا ، لعاد الدين إلى مكانه بسرعة فائقة ، وهذا بنفسه شاهد آخر على فطرية الدافع الديني أيضا.

٣ ـ الكشوفات الأخيرة من قبل النفسانيين وعلماء النفس في مجال أبعاد الروح الإنسانية ، شاهد آخر على هذا المدعى ، إذ أنّهم يقولون : «إنّ التحقيقات في المجالات النفسيّة تشير إلى بعد أصيل هو «البعد الديني» أو بتعبير آخر «بعد قدسي» أو «رباني» وربّما عدّوا هذا البعد أساسا للأبعاد الثلاثة الأخرى وهي «البعد العلمي» ، و «البعد الجمالي» ، و «البعد الخيّر».

إذ يدّعون بأن البواعث الأساسية للروح البشرية هي هذه :

١ ـ دافع البحث عن الحقيقة (الشعور العلمي) وهو مصدر أنواع العلوم ، والأهداف التحقيقية المستمرة ، والمتابعات في معرفة عالم الوجود!

٢ ـ حس «الإحسان والعمل الصالح» الذي يجذب الإنسان نحو المفاهيم الأخلاقية كالتضحية والإيثار والعدل والشهامة وأمثالها. حتى أنّه لو كان الإنسان غير واجد لهذه الصفات ، فإنّه يعشق من تتوفر فيهم هذه الصفات ، وهذا يدل على أن العشق للعمل الصالح والإحسان كامن في جذور النفس.

٣ ـ الحس «الجمالي» : وهو يجذب الإنسان نحو الفن الأصيل والأدب والمسائل الذوقية ، وربّما أصبح مصدر التحول في حياة الفرد أو المجتمع أحيانا.

٤ ـ الحس «الديني» ، أي الإيمان بمبدإ عال وعبادته واتّباعه.

٥٢٥

ونقرأ في مقالة كتبها «كوونتايم» في هذا المجال ما يلي :

«إنّ معرفة النفس بالبحث داخل النفس البشرية غير الواعية ـ التي بوشر بها بواسطة فرويد «في البداية» استمرّت بالاستعانة بـ «آدلر» و «يونك» ـ في أعماق روح الإنسان وصلت إلى عالم جديد من القوى المستورة ، وأنحاء الدرك والمعرفة وراء العقل ، ويمكن أن يكون الحسّ الديني مفتاحا من مفاتيح حل هذه الأحجية.

وبالرغم من أنّنا بعيدون للآن عن اتفاق الآراء ، إلّا أنّه ومع هذه الحال فما يزال «مسير فكري» في ازدياد يوما بعد يوم ، إذ يعتقد كثير من المفكرين بالتعريف الذي نورده ذيلا :

«إنّ الحس الديني واحد من العناصر الأولية الثابتة والطبيعية لروح الإنسان ، وهو أكثرها أصالة وماهويّة ، ولا يمكن مطابقته لأي من الأحاسيس والدوافع الأخرى ، حيث يمدّ جذوره الى أعماق اللاوعي ويعدّ «المفهوم الديني» أو بتعبير أصح «المفهوم المقدس» بالنسبة لمفاهيم الجمال والإحسان والحقيقة ، مقولة رابعة ، ولها أصالة المفاهيم الثلاثة ذاتها واستقلالها أيضا(١) .

كما نقرأ في المقالة المترجمة المقتبسة عن المحقق «تان كي دو ـ كنتن» ما يلي «كما أن من مزايا العصر الحاضر ـ في عالم الطبيعة ـ هو اكتشاف البعد الرابع ، الذي أطلق عليه اسم «بعد» الزمان مضافا الى الأبعاد الثّلاثة للجسم ، وهو في الوقت ذاته جامع لها ، فكذلك اكتشفت في هذا العصر المقولة الرابعة «المقدسة» أو المقولة الإلهية «الربانية» بموازاة المفاهيم الثلاثة «الجمال ، الإحسان ، طلب الحقيقة» وهي البعد الرّابع لروح الإنسان ، ففي هذا المقام أيضا فان هذا البعد الرّابع الروحي منفصل عن الأبعاد الثلاثة الأخرى ، وربّما كان هذا البعد منشأ

__________________

(١) يراجع كتاب الحسّ المذهبي أو البعد الرّابع ترجمه مهندس بياني (للكاتب كوونتايم).

٥٢٦

ولادة الأبعاد الثلاثة الأخرى»(١) .

٤ ـ إن التجاء الإنسان في الشدائد والمحن إلى قوة خفية وراء الطبيعة ، وطلب حل المشاكل والأزمات من قبل هذه القوة ، لهو أيضا شاهد آخر على أصالة هذا الدافع الباطني والإلهام الفطري ، ويمكن ـ بضمها إلى مجموع الشواهد التي ذكرناها آنفا ـ أن توقفنا على مثل هذا الدافع الباطني في داخلنا نحو الله سبحانه.

وبالطبع فمن الممكن أن يعدّ بعضهم هذا التوجه من آثار التلقينات أو الإعلام الديني في المحيط الاجتماعي المتدين!

إلّا أن عمومية هذه الظواهر في جميع الناس ، حتى في أولئك الذين لا علاقة لهم بالمسائل الدينية عادة ، تدلّ على أن لها جذرا أعمق من هذه الفرضية.

٥ ـ وفي حياة الإنسان حوادث وظواهر لا يمكن تفسيرها إلّا عن طريق أصالة الحسّ الديني فكثير من الناس نجدهم قد ضحوا بجميع ما لديهم من الإمكانات المادية ، ولا يزالون يضحون أيضا ، ويصبّون كل ما عندهم مع ما لديهم من سوابق تحت قدم الدين ، وربّما قدّموا أنفسهم في سبيله أيضا.

الشهداء الذين شربوا كأس الشهادة ـ من أجل تقدم الأهداف الإلهية وتحقّقها ـ بشوق وعشق بالغين ، بحيث نرى أمثالهم في تاريخ جهاد الإسلام الطويل ، بل في تأريخ الأمم الأخرى أيضا ، يكشفون عن هذه الحقيقة ، وهي أن الحس الديني له جذر عميق في روح الإنسان.

لكن قد يرد على هذا الكلام إشكال ، وهو أنّ أفرادا ـ كالشيوعيين مثلا ـ لهم موقع إلحاديّ ـ ضد الأيدلوجية والدين ـ ولا يكتمون موقعهم هذا أبدا كما أن لهم مواقف تضحوية في سبيل حفظ فكرتهم واعتقادهم!

إلّا أنّ هذا الإشكال ينحل تماما بملاحظة هذه المسألة ، وهي أنّه حتى

__________________

(١) المصدر نفسه الطبعة الثّانية ، ص ٣٩.

٥٢٧

الشيوعيون الذين ينفون الدين كليّا ـ بحسب الظاهر ـ ويعتقدون أن الدين مرتبط بالتأريخ القديم ، ولا يمكن أن يكون له مكان في المجتمعات الشيوعية أجل ، إن هؤلاء أنفسهم قد قبلوا بالدين بشكل آخر عن طريق العقل الباطني «واللاوعي».

فهم يقدّسون زعماءهم وقادتهم بالنظرة التي ينظرها المصريون القدماء أوثانهم ، وصفوفهم الطويلة عند جسد «لينين» لزيارته هي شاهد آخر على هذا الموضوع أيضا.

وهم عادة يعتبرون الأصول الماركسية كوحي السماء لا تقبل النقد والخدش ، فهي مقدّسة عندهم ، ويتصورون أن ماركس ولينين وانجلس كالمعصومين من الأخطاء والسهو ، ويعدون مراجعة العقل لاتخاذ موقف جديد من هذه الأصول ذنبا لا يغتفر أبدا ويخاطبون مخالفيهم بتعبيرنا الديني على أنّهم «مرتدون» وعلى هذا فهم يعتقدون بكثير من المفاهيم والمسائل الدينية ، غاية ما في الأمر هو أن تفكير هم نوع من الفكر الديني في شكل منحرف!

٢ ـ فطرة التوحيد في الأحاديث الإسلامية

موضوع «معرفة الله الفطرية» لم يختص به القرآن الكريم فحسب ، بل هو وارد في الأحاديث الإسلامية بشكل يسترعي الانتباه ، حيث أن بعضها يؤكّد على التوحيد بالفطرة ، وبعضها يؤكّد على المعرفة ، وقسم يتناول الفطرة «على الإسلام» وأخيرا فإن قسما منها تناول عنوان الولاية أيضا.

ففي حديث معتبر يرويه المحدث الكبير الشيخ الكليني في أصول الكافي ، وهو ما نقله

عن هشام بن سالم ، قال : سألت الإمام الصادقعليه‌السلام : ما المراد من قوله تعالى :( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) فقال «هي التوحيد»(١) .

كما ورد في الكافي نفسه نقلا عن بعض أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٠ ، باب «فطرة الخلق على التوحيد».

٥٢٨

حين سأله عن تفسير الآية المتقدمة فقال الإمامعليه‌السلام «هي الإسلام»(١) .

كما نقرأ حديثا متشابها لما سبق ـ عن الإمام الباقرعليه‌السلام جوابا لزرارة أحد أصحابه العلماء حين سأله عن تفسير الآية فقالعليه‌السلام «فطرهم على المعرفة به»(٢) .

والحديث المنقول عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله «كل مولود يولد على الفطرة حتى ليكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» يؤكّد هذا المضمون أيضا(٣) .

وأخيرا فإننا نقرأ في أصول الكافي حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا في تفسير الآية قال : «هي الولاية»(٤) .

وقد ورد في الخطبة الأولى لنهج البلاغة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام حديث موجز العبارة غزير المعنى ، إذ يقولعليه‌السلام «فبعث فيهم رسوله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول».

وطبقا للرّوايات المتقدمة ، فليست معرفة الله هي الفطرية فحسب ، بل مجموع الإسلام بشكل موجز «مضغوط» كامن في داخل الفطرة الإنسانية بدءا من التوحيد وانتهاء بالقادة الإلهيين وخلفائهم الصادقين ، وكذلك فروع الأحكام أيضا.

فعلى هذا ، وطبقا للتعبير الوارد في نهج البلاغة ، فإن عمل الأنبياء هو رعاية الفطرة حتى تفتح ، وتذكر الناس نعم الله المنسية ، ومن جملة هذه النعم الفطرة على التوحيد ، واستخراج كنوز المعرفة الدفينة في روح الإنسان وأفكاره!

وممّا يسترعي الانتباه أن القرآن الكريم ـ في آيات متعددة ـ يتخذ من الشدائد والمشاكل والحوادث المؤلمة التي يمر بها الإنسان في حياته مناخا

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير «جمع الجوامع» للمرحوم الطبرسي ذيل الآية محل البحث.

(٤) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٨٤.

٥٢٩

ملائما للحس الديني ، إذ يقول في واحدة من هذه الآيات :( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) (١) .

وسنتحدث بإذن الله في هذا المجال ذيل الآيات المقبلة التي تشبه الآيات من سورة العنكبوت أيضا.

* * *

__________________

(١) العنكبوت ، الآية ٦٥.

٥٣٠

الآيات

( وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) )

التّفسير

إنّ الآية الأولى من المقطع الذي بين أيدينا ، هي في الحقيقة استدلال وتأكيد على البحث السابق في مجال كون التوحيد فطريا ، وتفتح هذا النور الإلهي عند الشدائد والصعاب! إذ تقول الآية :( وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ) .

إلّا أنّهم الى درجة من السطحية والغباء التعصب والتقليد الأعمى لأسلافهم المشركين ، بحيث أنّه بمجرّد انتهاء المشكلة وهبوب نسيم الرحمة الالهية( ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) .

والتعبير بـ( مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ ) إشارة إلى اصابتهم بقليل من الضرر كما أنّ التعبير( أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ) إشارة إلى بلوغ شيء من النعمة ، لأنّ التعبير بـ «مسّ»

٥٣١

أو «ذاق» في مثل هذه الموارد يطلق على الأمور القليلة والجزئية ، وخاصّة باستعمال كلمتي «ضر» و «رحمة» نكرتين.

أي إنّ طائفة تبلغ بهم الحال إلى أن يفزعوا إلى الله عند حدوث أقل مشكلة لهم ، وتنكشف الحجب عن فطرتهم التوحيدية ، ولكن إذا رأوا نعمة ولو بأقل ما يتصوّر ، فإنّهم يغفلون عن واقعهم كليّا ، وينسون كل شيء!

وبالطبع ففي الحالة الأولى يبيّن القرآن أنّ الناس يفزعون جميعا إلى الله عند الضر والشدائد ، لأنّ فطرة التوحيد موجودة في الجميع.

ولكن في الحالة الثّانية يتحدث القرآن عن جماعة تسلك طريق الشرك فحسب ، لأنّ طائفة من عباد الله يذكرون الله في الشدائد وفي الرخاء وفي السراء والضراء. فلا تنسيهم المتغيّرات ذكر الله أبدا.

والتعبير بـ( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ) ـ كما رأينا في مفهوم الإنابة سابقا ـ من مادة «النوب» وتعني العودة ثانية إلى الشيء ، هذا التعبير إشارة لطيفة للمعنى التالي ، وهو أنّ الأساس في الفطرة هو توحيد الله وعبادته ، والشرك أمر عارض ، حيث متى ما يئسوا منه فهم يعودون نحو الإيمان والتوحيد ، شاؤوا أم أبوا!.

والطريف هنا أنّ «الرحمة» في الآية مسندة إلى «الله» ، فهو سبحانه مصدر الرحمة للعباد ، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر إلّا أن الضرّ لم يسند إليه سبحانه ، لأنّ كثيرا من الابتلاءات والمشاكل التي تحوطنا هي من نتائج أعمالنا وذنوبنا.

وكلمة «ربّهم» التي تكررت في الآية تكررت في الآية مرّتين ، تؤكّد على أنّ الإنسان يحسّ بالتدبير الإلهي وربوبية الله على وجوده ما لم تؤثر عليه التعليمات الخاطئة فتسوقه نحو الشرك والضلال.

وينبغي ذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ الضمير في كلمة «منه» يعود إلى الله ، وهذا تأكيد على أن جميع النعم من الله سبحانه. وقد اختار كثير من المفسّرين هذا المعنى أمثال «الطباطبائي» في الميزان ، و «الطوسي» في التبيان ، و «أبو

٥٣٢

الفتوح الرازي» في تفسيره وغيرهم ، وإن ذهب غيرهم كالفخر الرازي الى إن الضمير في كلمة «منه» يعود على الضرّ ، وفسّروا الآية هكذا «حين يذيق الله عباده بعد الضرّ رحمة. إذا فريق منهم يشركون بالله». (فيكون معنى «من» هنا البدلية). إلّا أنّه من الواضح أن التّفسير الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية!

أمّا الآية الأخرى فجاءت بعنوان التهديد لأولئك المشركين ، الذين ينسون ربّهم عند نيل النعم ، إذ تقول : اتركهم( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ) وليفعلوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! ثمّ يخاطب المشركين بأن يتمتعوا بهذه النعم والمواهب الدنيوية الفانية. وسوف يرون العاقبة السيئة لذلك :( فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (١)

وبالرغم من أنّ المخاطبين بالآية هم المشركون ، إلّا أنّه لا يبعد أن يكون لها مفهوم واسع بحيث يشمل جميع الذين ينسون الله عند إقبال النعم ، وينشغلون بالتمتع بهذه النعم فحسب ، دون أن يذكروا واهب النعم.

وبديهي أن صيغة الأمر استعملت هنا للتهديد!.

والقرآن في الآية الأخرى يصوغ الكلام في صيغة الاستفهام المقرون بالتوبيخ فيقول :( أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ) .

«أم» هنا للاستفهام ، ويحمل الاستفهام هنا غرضا استنكاريا وتوبيخا أي إن سلوك هذا الطريق والخطة يجب أن يكون إمّا لنداء الفطرة ، أو بحكم العقل ، أو بأمر الله ، لكن حين يصرخ الوجدان والفطرة في الشدائد والملمات بالتوحيد فإن العقل يقول أيضا : ينبغي التوجه نحو واهب النعم.

يبقى أن حكم الله في هذه الآية هو في مورد النفي ، أي : لم يؤمروا من قبل الله بمثل هذا الأمر ، فعلى هذا فإن هؤلاء في اعتقادهم هذا لم يستندوا إلى أي أصل

__________________

(١) إنّ «اللام» في جملة «ليكفروا» هي لام الأمر ، وهذا الأمر للتهديد ، وكذلك جملة «تمتعوا» إذ هي للتهديد أيضا. وإن كانت الأولى جاءت بصيغة «الغائب» والثّانية بصيغة «الخطاب» فكأنّما افترض في الحالة الأولى أنّهم غيّاب ثمّ من أجل التشدّد بالتهديد جعلهم مواجهين للتهديد والخطاب ، إلّا أنّ بعض المفسّرين عدّوا «اللام» للعاقبة ، أي كان عاقبة أمرهم الكفر بنعم الله ، إلّا أن المعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية.

٥٣٣

مقبول!.

و «السلطان» معناه ما يدل على السلطة وينتهي إلى الإنتصار عادة ، ومعناه هنا هو الدليل المحكم المقنع.

والتعبير بـ «يتكلم» هو نوع من التعبير المجازي ، إذ ترانا نعبر عند وضوح الدليل قائلين «كأن هذا الدليل يتكلم مع الإنسان»!

واحتمل بعض المفسّرين أن المراد بالسلطان هنا هو أحد الملائكة المقتدرين ، فيكون استعمال «يتكلم» هنا على نحو الحقيقة ، أي لم نرسل عليهم ملكا يتكلم بالشرك فيتبعوه!.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أوضح كما يبدو!

أمّا آخر آية من الآيات محل البحث ، فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الأغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة ، فتقول :( وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ) .

في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم ، ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة ، إذ هم يشكرون الله على نعمه ، ويرون المصيبة امتحانا واختبارا ، أو يعدونها نتيجة أعمالهم ، فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعالى.

فالمشركون يعيشون دائما بين «الغرور» و «اليأس» ، أمّا المؤمنون فهم بين «الشكر» و «الصبر».

ويستفاد ضمنا من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسما من المصائب والابتلاءات التي تحل بالإنسان هي ـ على الأقل ـ نتيجة أعماله وذنوبه ، فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه.

وينبغي الالتفات الى أنّ جملة( فَرِحُوا بِها ) ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب ، بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة ، وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عند ما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة ، وإلّا فإن

٥٣٤

السرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمرا سيئا ، بل هو مأمور به( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) (١) .

والتعبير( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) الذي ينسب المعاصي إلى الأيدي ، هو لأنّ أكثر الذنوب والأعمال يكون على يد الإنسان ، وإن كانت هناك ذنوب يكتسبها القلب أو البصر أو السمع ، إلّا أن كثرة الأعمال التي تصدر عن اليد استدعى هذا التعبير.

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو : ألا تخالف هذه الآية ، الآية الثّالثة والثلاثين «ما قبل آيتين» لأنّ الكلام في هذه الآية عن يأسهم عند المصائب ، في حين أن الآية السابقة تتحدث عن توجههم إلى الله عند بروز المشاكل والشدائد.

والخلاصة ، إن واحدة من الآيتين تتحدث عن «الرجاء» والأخرى عن «اليأس»؟

لكن مع الالتفات إلى مسألة دقيقة يتّضح جواب هذا السؤال ، وذلك أن الآية المتقدمة كان الكلام فيها عن «الضر» أي الحوادث الضارة كالطوفان والزلزلة والشدائد الأخرى التي تصيب عامة الناس «الموحدين منهم والمشركين».

فيتذكرون الله في هذه الحال ، وهذا واحد من دلائل الفطرة على التوحيد.

أمّا في الآية محل البحث فالكلام على نتائج المعاصي واليأس الناشئ منها ، لأنّ بعض الأفراد إذا عملوا صالحا أصبحوا مغرورين وحسبوا أنفسهم مصونين من عذاب الله ، وحين يعملون السيئات وتحلّ بهم العقوبة فيغم وجودهم اليأس من رحمة الله ، فكلتا الحالين «العجب والغرور» و «اليأس والقنوط من رحمة الله» مذمومتان!

فعلى هذا تكون كلّ آية من الآيتين قد تناولت موضوعا منفصلا عن الآخر.

* * *

__________________

(١) يونس ، الآية ٥٨.

٥٣٥

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) )

التّفسير

الآية الأولى من الآيات محل البحث ـ تتحدث عن التوحيد والربوبيّة أيضا ، وانسجاما مع سياق الآيات السابقة التي كانت تتحدث عن غرور بعض الناس الماديين عند إقبال النعمة عليهم ، ويأسهم وقنوطهم عند مواجهتهم الشدائد والبلاء ، فإنّها تقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) .

فلا ينبغي أن يكون إقبال النعم مدعاة للغرور ونسيان الله والطغيان ، ولا إدبارها سببا لليأس والقنوط ، لأنّ سعة الرزق وضيقه بيد الله ، فتارة يرى المصلحة

٥٣٦

للعبد في الحالة الأولى «سعة الرزق» ، وتارة يراها في الثّانية ، أي «الضيق».

وصحيح أنّ العالم هو عالم الأسباب ، فمن جدّ وجد ، ومن سعى قاوم الصعاب ينل فائدة أكثر ويربح عادة ، وأمّا أولئك الكسالى فلا ينالون إلّا قليلا لكن هذه القاعدة في الوقت ذاته ليست دائمية ولا كلية ، إذ يتفق أن نرى أناسا جديرين وجادّين يركضون من هنا وهناك ، إلّا أنّهم لا يصلون إلى نتيجة يبلغون هدفهم ، وعلى العكس منهم قد نشاهد أناسا لا يسعون ولا يجدّون وتتفتح عليهم أبواب الرزق من كل حدب وصوب.

وهذه الاستثناءات كأنّها لبيان أنّ الله بالرغم من جميع ما جعل للأسباب من تأثير ، لا ينبغي أن ينسى في عالم الأسباب ، ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أن وراء هذا العالم يدا قوية أخرى تديره كيف شاءت!

فأحيانا ـ ووفق مشيئته ـ توصد جميع الأبواب بوجه الإنسان مهما سعى وجدّ في الأمر ، وقد يرحم الإنسان وييسّر له الأمور الى درجة انه ما أن يخطو خطوة وإذا الأبواب متفتحة أمامه!

فما نرى في حياتنا من هذه المفارقات ، بالإضافة إلى أنّه يحدّ من الغرور المتولد من وفور النعمة ، واليأس الناشئ من الفقر ، فهو في الوقت ذاته دليل على أن وراء إرادتنا ومشيئتنا يدا قوية أخرى «تسيّر أعمالنا».

لذلك يقول القرآن في نهاية الآية :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

وينقل بعض المفسّرين كلاما بهذا المضمون وهو : سئل أحد العلماء : ما الدليل على أنّ للعالم صانعا واحدا؟

فقال هناك ثلاثة أدلة : «ذل اللبيب ، وفقر الأديب ، وسقم الطبيب».(١)

أجل إن وجود هذه المستثنيات والمفارقات دليل على أن الأمور بيد قادر آخر ، كما ورد في كلام الإمام عليعليه‌السلام أيضا «عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم ،

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٧ ، ص ٢٩ ، ذيل الآية محل البحث.

٥٣٧

وحلّ العقود ، ونقض الهمم».(١)

وحيث أن كل نعمة وموهبة ينالها الإنسان تحمّله وظائف ومسئوليّات وعليه أداؤها ، فإن القرآن يوجه الخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية التالية قائلا :( فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) .

وينبغي أن لا تتصور عند سعة الرزق أن ما عندك هو لك فقط ، بل إنّ للآخرين في مالك حقّا أيضا ، ومن هؤلاء الأقارب والمساكين الذين باتوا متربين لشدة الفقر ، وكذلك الأعزة الذين ابتعدوا عن الوطن وانقطع بهم الطريق نتيجة حوادث معينة وهم محتاجون!

والتعبير بـ «حقّه» كاشف عن أنّهم شركاء في أموال الإنسان ، وإذا دفع المرء شيئا من ماله إليهم فإنّما يؤدي حقهم ، وليس له منّ عليهم!.

وهناك جماعة من المفسّرين يرون أنّ المخاطب في هذه الآية هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وأن «ذا القربى» أرحامه ، وقد ورد في رواية عن أبي سعيد الخدري وغيره ما يلي : «لما نزلت هذه الآية على النّبي أعطى فاطمة فدكا وسلّمها إليها».(٢)

وبالمضمون نفسه نقل عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام أيضا.(٣)

وقد ورد المعنى نفسه مفصلا في احتجاج فاطمة الزهراءعليها‌السلام على أبي بكر في قضية فدك ، وذلك في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام .(٤)

غير أنّ جماعة من المفسّرين قالوا : إنّ الخطاب في هذه الآية عام ، وهو يشمل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، وطبقا لهذا التّفسير فإنّ جميع الناس عليهم أن لا ينسوا حق ذوي القربى أيضا.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار الجملة ٢٥٠

(٢) مجمع البيان.

(٣) مجمع البيان.

(٤) تفسير على بن إبراهيم ، طبقا لنقل نور الثقلين عنه ، ج ٤ ، ص ١٨٦.

٥٣٨

وبالطبع فإنه لا منافاة في الجمع بين التّفسيرين ، وعلى هذا فإن مفهوم الآية مفهوم واسع ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرباه وخاصة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هم المصداق الأتم لهذه الآية.

ومن هنا يتّضح أن لا منافاة لأي من التفاسير الآنفة مع كون السورة مكّية ، لأنّ مفهوم الآية مفهوم جامع ينبغي العمل به في مكّة وفي المدينة أيضا ، وحتى خبر إعطاء «فدك» لفاطمةعليها‌السلام على أساس هذه الآية مقبول جدّا.

الشيء الوحيد الذي يبقى هنا ، هو جملة «لما نزلت هذه الآية ...» في رواية أبي سعيد الخدري ، إذ أن ظاهرها أن إعطاء فدك كان بعد نزول الآية ، ولكن لو أخذنا كلمة «لما» به معنى العلة ، لا بمعنى الزمان الخاص ، ينحل هذا الإشكال ، ويكون مفهوم الآية أن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمة فدكا لأمر الله إياه ، أضف إلى ذلك فإن بعض آيات القرآن يتكرر نزولها!.

ولكن لم ذكر هؤلاء الثلاثة من بين جميع المحتاجين وأصحاب الحق؟

لعل ذلك لأهميتهم ، لأنّ حق ذى القربى أهم وأعلى من أي حق سواه ، ومن بين المحرومين والمحتاجين فإنّ المساكين وأبناء السبيل أحوج من الجميع!.

أو أن ذلك لما أورده «الفخر الرازي» هنا إذ يقول : «في تخصص الأقسام الثلاثة بالذكر دون غيرهم ، مع أن الله ذكر الأصناف الثمانية في الصدقات ، فنقول : أراد هاهنا بيان من يجب الإحسان إليه على كل من له مال ، سواء كان زكويا أم لم يكن ، وسواء كان بعد الحول أو قبله ، لأنّ المقصود هاهنا الشفقة العامة ، وهؤلاء الثلاثة يجب الإحسان إليهم وإن لم يكن للمحسن مال زائد ، أمّا القريب فتجب نفقته وإن كان لم تجب عليه زكاة كمال القاصرين أو مال لم يحل عليه الحول ، والمسكين كذلك فإنّ من لا شيء له إذا بقي في ورطة الحاجة حتى بلغ الشدة ، يجب على من له مقدرة دفع حاجته وإن لم يكن عليه زكاة ، وكذلك من انقطع في مفازة ومع آخر دابة يمكنه بها إيصاله إلى مأمن ، يلزمه ذلك ، وإن لم تكن عليه

٥٣٩

زكاة ، والفقير داخل في المسكين ، لأنّ من أوصى للمساكين شيئا يصرف إلى الفقراء أيضا «فما ذكرته الآية من ترتيب لهؤلاء إنّما يناسب شأنهم».(١)

وعلى كل حال فإنّ القرآن يبيّن في نهاية الآية ترغيبا للمحسنين ، وشرط القبول ضمنا ، فيقول :( ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

أولئك المفلحون في هذه الدنيا ، لأنّ الإنفاق يجلب معه البركات العجيبة ، وفي الآخرة أيضا ، لأنّ الإنفاق هو أكثر الأعمال ثقلا في ميزان الله يوم القيامة.

ومع الالتفات إلى أن المراد من( وَجْهَ اللهِ ) ليس هو المحيّا الجسماني ، إذ ليس له تعالى وجه جسماني ، بل هو بمعنى ذاته المقدّسة ، فإن هذه الآية تشير إلى أن الإنفاق وإيتاء حق الأقارب وأصحاب الحق الآخرين ليس كافيا ، بل المهم هو الإخلاص والنية الطاهرة والخالية من أي أنواع الرياء والمنة والتحقير وانتظار الأجر والثواب.

وخلافا لما ذهب إليه بعض المفسّرين. من أنّ الإنفاق لغرض الوصول إلى الجنّة ليس مصداقا لوجه الله ، فان جميع الأعمال التي يؤديها الإنسان وفيها نوع من الارتباط بالله ، سواء كانت لمرضاته أو ابتغاء ثوابه أو للنجاة من جزائه ، فكلها مصداق لوجه الله ، وإن كانت المرحلة العليا والكاملة من ذلك أن لا يبتغي الإنسان من وراء عمله إلّا الطاعة والعبودية المحضة!.

وتشير الآية التالية ـ بمناسبة البحث المتقدم عن الإنفاق الخالص ـ إلى نوعين من الإنفاق : أحدهما لله ، والآخر يراد منه الوصول إلى مال الدنيا ، فتقول :( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) .

مفهوم الجملة «الثّانية» وهي إعطاء الزكاة والإنفاق لوجه الله والثواب واضح ، إلّا أن الجملة الأولى( وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً ) مختلف في تفسيرها مع

__________________

(١) ذيل الآيات محل البحث «الفخر الرازي».

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592