الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180781 / تحميل: 6356
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

* المرأة كاملة لا نقص فيها:

3 - ما يَظهر من بعض الفوارق الجزئيّة بين الرجل والمرأة في الخِلْقَة والإحساسات لا يكون نقصاً في أحدهما، بل إنّ مَثَل المرأة والرجل مثل السيّارة الصغيرة المُعَدَّة لحمل المسافرين، والسيّارة الكبيرة المُعَدّة لحمل الحديد والأحجار - إنْ صحّ التعبير - فقد جُعِلَتْ كلّ واحدة منهما لشأن، فلا نقص في أحدهما، وإنّما اختلافهما هو لمصلحة.

فإنّ المرأة خُلِقَتْ عاطفيّة أكثر من الرجل؛ لدورها في تربية الأطفال، والرجل خُلق عقلانيّاً أكثر؛ وذلك لاحتياج المجتمع إلى كلا الأمرين، فَجَعْل التساوي المطلق بينهما خلاف تركيب خلقهما.

فلو أُلقي عمل الرجل على المرأة أو عمل المرأة على الرجل كان ذلك كما إذا حملتْ السيّارةُ الصغيرة الحديدَ والحجارة، أو حملتْ السيارةُ الكبيرة الركابَ، ففي الأوّل عطب السيّارة، وفي الثاني عطب المسافرين.

٢١

* مشروع الزواج:

4 - ينبغي أنْ يكون في كلّ بلد (صندوق الزواج) ليُعين على تزويج العزّاب والعازبات، ومساعدتهم في تكوين عشّ الزوجيّة، قال تعالى: ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) (1) .

ونرى أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يهتمّ لتزويج مَن لم يكن متزوّجاً.. وكذلك الإمام أمير المؤمنين، وسائر الأئمّة الطاهرين (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

فقد روي عن الصادق (عليه السلام): (أنّ رسول الله زوّج المقداد بن الأسود ضِبَاعة ابنة الزبير بن عبد المطّلب، وإنّما زوّجه لتتّضع المناكح، وليتأسّوا برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليعلموا أنّ أكرمهم عند الله أتقاهم) (2) .

كما أمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بتزويج جويبر في قصّة مفصّلة (3) .

____________________

1 - سورة المائدة: آية: 2.

2 - بحار الأنوار: ج22، ص437، ب13، ح2.

3 - راجع بحار الأنوار: ج22، ص117، ب37، ح89، وفيه: عن محمّد بن يحيى، عن ابن عيسى، عن ابن محبوب، عن مالك بن عطيّة، عن أبي حمزة الثمالي قال:

كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل فأَذِنَ له، فدخل عليه فسلّم، فرحّب به أبو جعفر (ع) وأدناه وساءله، فقال الرجل:

جُعِلتُ فداك إنّي خطبتُ إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة فردني ورغب عنّي وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلك غضاضة، هجمة عض لها قلبي تمنّيت عندها الموت.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): (اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): زوّج منحج ابن رياح مولاي ابنتك فلانة ولا تردّه).

قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر (عليه السلام)، فلمّا أنْ توارى الرجل قال أبو جعفر: ( ‎ إنّ رجلاً كان من أهل اليمامة يُقال له: جويبر أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلاً قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قِبَاح السودان، فضمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأوّل، وكساه شملتين، وأمره أنْ يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء الله حتّى كثر الغرباء ممّن يدخل في الإسلام من أهل =

٢٢

____________________

= الحاجة بالمدينة وضاق بهم المسجد، فأوحى الله عزّ وجل إلى نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنْ طهّر مسجدك، وأخرج من المسجد مَن يرقد فيه بالليل، ومُرْ بسدّ أبواب كلّ مَن كان له في مسجدك باب إلاّ باب علي ومسكن فاطمة (عليها السلام)، ولا يمرّنَّ فيه جُنُب، ولا يرقد فيه غريب).

قال: فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسدّ أبوابهم إلاّ باب علي (عليه السلام)، وأقرّ مسكن فاطمة (صلّى الله عليها) على حاله.

قال: ثمّ إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر أنْ يتّخذ للمسلمين سقيفة، فعُمِلَتْ لهم وهي الصفة، ثمّ أمر الغرباء والمساكين أنْ يظلّوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا فيها، فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتعاهدهم بالبُرّ والتمر والشعير والزبيب، إذا كان عنده، وكان المسلمون يتعاهدونهم ويرقونهم لرقّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويصرفون صدقاتهم إليهم.

فإنّ رسول الله نظر إلى جويبر ذات يوم برحمةٍ منه له ورقّة عليه، فقال: (يا جويبر، لو تزوّجتَ امرأة فعفّفتَ بها فرجَك وأعانتك على دنياك وآخرتك.

فقال له جويبر: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي، مَن يرغب فيّ؟ فو الله ما مِن حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ؟

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا جويبر، إنّ الله قد وضع بالإسلام مَن كان في الجاهليّة شريفاً، وشرف بالإسلام مَن كان في الجاهليّة وضيعاً، وأعزّ بالإسلام مَن كان في الجاهليّة ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان مِن نخوة الجاهليّة وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلّهم: أبيضهم وأسودهم، وقُرَشِيِّهم وعربيّهم وعجميّهم من آدم، وإنّ آدم خلقه الله من طين، وإنّ أحبّ الناس إلى الله عزّ وجل يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلاّ لِمَنْ كان أتقى لله منك وأطوع.

ثمّ قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد، فإنّه مِن أشرف بني بياضة حَسَبَاً فيهم، فقل له: إنّي رسول رسول الله إليك وهو يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء.

قال: فانطلق جويبر برسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن، فأُعلم، فأُذن له وسلّم عليه، ثمّ قال: يا زياد بن لبيد: إنّي رسول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليك، في حاجة فأبوح بها، أمْ أسرّها إليك؟ =

٢٣

____________________

=

فقال له زياد: بل بح بها فإنّ ذلك شرف لي وفخر.

فقال له جويبر: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء.

فقال له زياد: أَ رسول الله أرسلك إليّ بهذا يا جويبر؟

فقال له: نعم، ما كنتُ لأكذب على رسول الله (ص)؟

فقال له زياد: إنا لا نزوّج فَتَيَاتِنَا إلاّ أكفّاءنا مِن الأنصار، فانصرف يا جويبر حتّى ألقى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأُخبره بعذري.

فانصرف جويبر وهو يقول: والله ما بهذا أُنزل القرآن، ولا بهذا ظهرتْ نبوّة محمّد ‎ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فسمعت مقالته الدلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلتْ إلى أبيها: ادخل إليّ، فدخل إليها، فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعتُه منك تحاور به جويبراً؟

فقال لها: ذكر لي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسله، وقال: يقول لك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): زوّج جويبراً ابنتك الدلفاء.

فقالت له: والله ما كان جويبر ليكذب على رسول الله (ص) بحضرته، فابعث الآن رسولاً يردّ عليك جويبراً.

فبعث زياد رسولاً فلحق جويبراً، فقال له زياد: يا جويبر، مرحباً بك، اطمئن حتّى أعود إليك، ثمّ انطلق زياد إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له بأبي أنت وأمّي إنّ جويبراً أتاني برسالتك، وقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: زوّج جويبراً ابنتك

الدلفاء، فلم أَلِنْ له في القول، ورأيتُ لقاءك، ونحن لا نزوّج إلاّ أكفّاءنا من الأنصار.

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا زياد، جويبر مؤمن، والمؤمن كفؤ للمؤمنة، والمسلم كفؤ للمسلمة، فزوّجه يا زياد ولا ترغب عنه.

قال: فرجع زياد إلى منزله ودخل على ابنته، فقال لها ما سمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

فقالتْ له: إنّك إنْ عصيتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كفرتَ، فزوّج جويبراً.

فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثمّ أخرجه إلى قومه، فزوّجه على سُنّة الله وسُنَّة رسوله، وضمن صداقها.

قال: فجهَّزها زياد وهيّأها ثمّ أرسلوا إلى جويبر فقالوا له: ألك منزل فنسوقها إليك؟

فقال: والله مالي من منزل.

قال: فهيَّئوها وهيّئوا لها منزلاً وهيّئوا فيه فراشاً ومتاعاً وكسوا جويبراً ثوبّين، وأُدْخِلَتْ الدلفاء في بيتها وأُدخل جويبر عليها معتماً، فلمّا رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيّبة، قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى طلع الفجر، فلمّا سمع النداء خرج وخرجتْ زوجته إلى الصلاة فتوضّأت وصلّتْ الصبح، فسُئلت: هل مَسَّكِ؟ =

٢٤

____________________

=

فقالت: مازال تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتّى سمع النداء فخرج.

فلمّا كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأَخْفَوا ذلك من زياد، فلمّا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأُخْبِرَ بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال له: بابي أنت وأمّي يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَمَرْتَنِي بتزويج جويبر، ولا والله ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبتْ عليّ تزويجه.

فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فما الذي أنكرتم منه؟

قال: إنّا هيّأنا له بيتاً ومتاعاً، وأُدْخِلَتْ ابنتي البيت وأُدخل معها معتماً، فما كلّمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى سمع النداء فخرج، ثمّ فعل مثل ذلك في الليلة الثانية، ومثل ذلك في الليلة الثالثة، ولم يَدْنُ منها ولم يكلّمها إلى أنْ جِئْتُكَ، وما نراه يريد النساء، فانْظُر في أمرنا؟

فانصرف زياد، وبعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى جويبر، فقال له: أَمَا تقرب النساء؟

فقال له جويبر: أو ما أنا بفحل؟! بلى يا رسول الله إنّي لَشَبِق نَهِم إلى النساء.

فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

قد خبّرت بخلاف ما وصفتَ به نفسك، قد ذكروا لي أنّهم هيّؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأُدخلتْ عليك فتاة حسناء عطرة، وأتيت معتماً فلم تنظر إليها ولم تكلّمها ولم تَدْنُ منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر: يا رسول الله دخلتُ بيتاً واسعاً، ورأيتُ فراشاً ومتاعاً وفتاةً حسناء عطرة، وذكرتُ حالي التي كنتُ عليها، وغربتي وحاجتي وضيعتي وكينونتي مع الغرباء والمساكين، فأحببتُ إذْ أَوْلاَنِي الله ذلك أنْ أشكره على ما أعطاني، وأتقرّب إليه بحقيقة الشكر، فنهضتُ إلى جانب البيت، فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر الله حتّى سمعتُ النداء فخرجتُ، فلمّا أصبحتُ رأيتُ أنْ أصوم ذلك اليوم ففعلتُ ذلك ثلاثة أيّام وليالها، ورأيتُ ذلك في جنب ما أعطاني الله يسيراً ولكنّي سأرضيها وأرضيهم الليلة إنْ شاء الله.

فأرسل رسول الله (ص) إلى زياد، فأتاه وأعلمه ما قال جويبر، فطابتْ أنفسهم.

قال: وَفَى لهم جويبر بما قال، ثمّ إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خرج في غزوة له ومعه جويبر فاستشهد رحمه الله، فما كان في الأنصار أَيِّم أنفق منها بعد جويبر.

٢٥

وقد زوّج أمير المؤمنين (عليه السلام) من بيت المال الشابّ الأعزب الذي استمنى (1) .

و في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (جاء رجل إلى أبي، فقال له: هل لك من زوجة؟

قال: لا.

فقال أبي: ما أُحب أنّ لي الدنيا وما فيها، وإنِّي بتّ ليلة وليستْ لي زوجة.

ثمّ قال: الركعتان يصلّيهما متزوّج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثمّ أعطاه أبي سبعة دنانير، ثمّ قال: تزوّج بهذه.

ثمّ قال أبي: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اتّخذوا الأهل فإنّه أَرْزَقُ لكم) (2) .

____________________

1 - فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

(إنّ أمير المؤمنين أُتي برجل عبث بذكره حتّى أنزل، فضرب يدَه حتّى احمرّتْ، ثمّ زوّجه من بيت المال)، راجع: غوالي اللئالي: ج2، ص356 و 357، ح35 و 36، باب الحدود.

2 - وسائل الشيعة: ج14، ص7، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح5.

٢٦

* الزواج ومواصلة الدراسة:

5 - يلزم إلغاء العادة الغربيّة القاضية بعدم زواج الطلاّب والطالبات إلى حين التخرّج، وكذلك القاضية بعدم زواج الجندي إلى حين إتمامه دورة التدرب.. فإنّ معنى ذلك فتح دور الدعارة وفساد الشباب والفتيات، وتعميم العادة السرِّيَّة الضارّة بالصحّة، وإعطاء الفرصة للبغاء والانحراف الجنسي..

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا جاءكم مَن ترضون خُلُقَه ودِيْنَه فزوِّجوه، وأنْ لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (1) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إذا أتاكم مَن ترضَون دينه وأمانته فزوّجوه، فإنْ لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (2) .

ثمّ إنّ المتزوّج أقدر على الدراسة والخدمة من الأعزب، إذ اشتغال الفكر بقضايا الجنس يمنع الإنسان عن التركيز في الدراسة أو الخدمة..

____________________

1 - غوالي اللئالي: ج3، ص340، باب النكاح، ح252. بحار الأنوار: ج100، ص373، ب21، ح9.

2 - نوادر الراوندي: ص12. وبحار الأنوار: ج100، ص374، ب21، ح15.

٢٧

قال تعالى: ( وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (النكاح سنّتي، فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي) (2) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : (ركعتان يُصلّيهما متزوّج أفضل من سبعين ركعة يُصلّيهما غير متزوّج) (3) .

وعن الصادق (عليه السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (تزوّجوا، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: مَن أحبّ أنْ يتّبع سُنَّتي فإنّ سُنَّتي التزويج) (4) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما بُنِيَ بناء أحبّ إلى الله عزّ وجل من التزويج) (5) .

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن تزوّج أحرز نصف دينه، فليتَّق الله في النصف الآخر) (6) .

____________________

1 - سورة النور: آية: 32.

2 - جامع الأخبار: ص101، الفصل52. وبحار الأنوار: ج100، ص220، ب1، ح23.

3 - ثواب الأعمال: ص40، ثواب صلاة المتزوّج. و بحار الأنوار: ج100، ص219، ب1، ح15.

4 - وسائل الشيعة: ج14، ص6، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح14.

5 - وسائل الشيعة: ج14، ص3، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح4.

6 - وسائل الشيعة: ج14، ص5، ب1 من أبواب مقدّمات النكاح، ح11.

٢٨

وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (المتزوّج النائم أفضل عند الله من الصائم القائم العزب) (1) .

وفي قبال ذلك قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ‎ (رُذَّال موتاكم العزّاب) (2) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أكثر أهل النار العزّاب) (3) .

____________________

1 - مستدرك الوسائل: ج4، ص155، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح3.

2 - وسائل الشيعة: ج14، ص7، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح3.

3 - وسائل الشيعة: ج14، ص8، ب2 من أبواب مقدّمات النكاح، ح7.

٢٩

* المرأة في المجتمع الغربي (1) :

المرأة موضوع كَثُر الكلام حوله، وغالب الكتّاب الإسلاميِّين - الداعين إلى الفضيلة والعفاف - يقارنون بين حال المرأة قبل الإسلام وحال المرأة في ظلّ الإسلام، وهي مقارنة صحيحة.. لكنّ الكلام لا ينتهي عند هذا الحدّ، وإنّنا بحاجة إلى الفرق بين المرأة في المجتمع الإسلامي وبين المرأة في المجتمع الغربي.

ولا نريد الإسهاب في هذا الموضوع، وإنّما نريد عَرْض طرف من أحوال المرأة في المجتمَعَين، لنرى هل تتوفّر راحة المرأة جسديّاً وفكريّاً، وصحّتها وثقافتها، ونظافة سمعتها، وإشباع غرائزها، وطهارة المجتمع الذي تعيش فيه.. في ظلّ الإسلام أمْ في ظلّ الكفر؟

تعيش المرأة في ظلّ الإسلام ولها من الحقوق والواجبات مثل ما للرجل من الحقوق والواجبات.. فهي شق له في كلّ شيء.. إلاّ بعض الأمور التي استُثنيتْ من جهة عدم المقتضي أو وجود المانع.

____________________

1 - نقلنا هذا المبحث عن كتاب (في ظلّ الإسلام) للإمام الشيرازي.

٣٠

* فهي تشارك الرجل في:

الصلاة، والصيام، والخُمس، والزكاة، والحج..

ولكن، حيث إنّ لها وظائف بيتيّة، بالإضافة إلى خشونة الجهاد التي لا يناسب ضعفها ودقّة جهازها ووفرة مشاعرها الرقيقة، لا يحمّلها الإسلام الجهاد على الإطلاق، بل في ضرورة الضرورة فقط، كما هو مشروح في كتب الفقه (1) . كما تشاركه في:

الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وولاية الصالحين، والبراءة من المجرمين..

هذا بالنسبة إلى العبادة..

____________________

1 - راجع: موسوعة الفقه: ج47 - ج48 كتاب الجهاد للإمام المؤلّف.

٣١

* أمّا المعاملة بمعناها الوسيع، فلها:

التجارة، والرهن، والضمان، والوديعة، والمزارعة

والمساقاة، والمضاربة، والشركة، والصلح، والعارية، والإجارة

والوكالة، والوقف، والهِبَة، والوصيّة، كما يجري عليها الحَجْر والفلس

* ولها:

النكاح والطلاق - إذا اشترطت - والنذر، والحلف، والعهد

والعتق، والتدبير، والمكاتبة، والإقرار، والجُعَالة، والصيد، والذباحة

والشُفْعَة، وإحياء الموات، واللقطة، والشهادة، والديات، والقصاص، والإرث..

٣٢

كما أنّ الطعام والشراب بالنسبة إليها، كسائر الرجال، وغير ذلك.

نعم لها بعض الأحكام الخاصّة في بعض هذه الأبواب لأمور خارجة، مثلاً:

في الإرث لها أقل من حقّ الرجل؛ لأنّ الرجل هو القائم بالنفقة، وعليه تَبِعَة المسكن والمَلْبَس، وليس الطلاق بيدها، لأنّ حقّ القيّمومة للرجل، وذلك لأنّ إدارة البيت لا بدّ وأنْ توكل إلى واحد، وحَزْم الرجل أكثر من المرأة؛ ولذا جُعِلَتْ إليه، وفي قبال هذا الواجب جُعِلَ حقّ الطلاق؛ لتكافئ الحقوق والواجبات. وهكذا.. وهكذا..

قد كانت المرأة في ظلّ الإسلام تعيش آمنة سعيدة مرفّهة، لها حقوقها، وعليها واجباتها.. حتّى جاء الغرب فرآها محرومة من حقوقها!! فدافع بكلّ ما أوتي من حول وطول لإرجاع الحقوق إليها!! وجنّد لذلك كلّ عميل وذَنَب بإمكانيّاته المنتفخة.. فشوّقها للذهاب والإيّاب إلى المراقص والملاهي ودور السينما والمسابح والمدارس المختلطة، كما جعل من حقّها التبرّج والسفور واتّخاذ الأخدان والحضور في الحفلات الساهرة

٣٣

وتعاطي اللذّة البريئة: النظر، والكلام المتكسّر، والملامسة، والأمر الأخير!! واعتبر كلّ دعوة إلى الحشمة والوقار، والحياء والعفاف والفضيلة والأخلاق.. دعوة رجعيّة تنافي الحرِّيَّة!

فالمرأة إلى أين وصلتْ حالتُها في ظلّ النُظُم الغربيّة، بعدما كان لها كلّ تجلّة واحترام في ظلّ النُظُم الإسلاميّة، لنرى كيف انهارت المرأة وانهارت معها الحياة العائليّة، مِن جرّاء الدساتير الكافرة التي لا تدين بالله واليوم الآخر.

وبعد هذا نسأل حماة الغرب: هل المرأة في ظلّ أنظمتكم أرفه حالاً و أهنأ عيشاً وأكثر سعادة، أمْ في ظلّ الإسلام؟

ولقد شهد المنصفون من الأجانب بما للإسلام من فضل على المرأة (1) :

* يقول (سيديو):

والقرآن - وهو دستور المسلمين - رفع شأن المرأة بدلاً من خفضها، فقد جعل محمّد حصّة البنت في الميراث تعدل نصف حصّة أخيها،

____________________

1 - انظر: الإسلام بين الإنصاف والجحود.

٣٤

مع أنّ البنات كنّ لا يَرِثْنَ في زمن الجاهليّة، ومحمّد - وان جعل الرجال قوّامين على النساء - بيد أنّ للمرأة حقّ الرعاية والحماية على زوجها.

* ويقول (غوستاف لوبون):

والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعاً عظيماً، بدلاً من خفضها، خلافاً للمزاعم المُكَرَّرة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقاً إرثيّة أحسن ممّا في أكثر قوانيننا الأوروبِّيّة.

ويقول: هنا نستطيع أنْ نكرّر إذن قولنا: إنّ الإسلام الذي رفع المرأة كثيراً، بعيد من خفضها، ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف إلى هذا: أنّه أوّل دين فعل مثل ذلك، ويسهل إثبات هذا ببياننا: إنّ جميع أديان الأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة.

٣٥

وهنا مقتطفات من كتاب (الحجاب) للمودودي، للبرهنة على مدى انحطاط المرأة في ظلّ الكفر وما يسمّى بالديمقراطيّة، ونكتفي هنا بالنقل من دون ذكر المصادر التي نقلها الكتاب عنها.. واليك النصوص:

- (وجاء قوم، فمهّدوا الأسباب لإكراه النساء، وتقدّموا بِحِرْفَة البغاء، إلى أنْ أصبحت تجارة دوليّة منظّمة).

- (أمر الإجهاض.. ليس هناك قطر من الأقطار إلاّ وتقترف فيه هذه الشنيعة علناً وعلى نطاق واسع، فهذه إنكلترا يسقط فيها تسعون ألف حمل في كلّ سنة على أقل تقدير، وتكون في كلّ مئة من المتزوّجات فيها خمس وعشرون - على الأقل - إمّا يُبَاشرْنَ الإسقاط بأيديهنّ، أو يَسْتَعِنّ عليه بالمتخصِّصين، وترتفع هذه النسبة فوق هذا في غير المتزوّجات، فقد أُنشئتْ في بعض المدن هناك نوادٍ منظّمة للإسقاط.. ويكثر في لندن عدد دور التمريض التي تكون معظم المريضات فيها من المسقطات).

٣٦

- (وفي فرنسا: نشر قائد لبعض الفِرَق العسكريّة إعلاناً للجنود التابعة له، جاء فيه: قد بلغنا أنّ عامّة الرجّالة والخيّالة يشتكون من تزاحم رجال البنادق على دور بغاء الجنديّة.. وأنّ مكتب القيادة لا يزال يسعى لزيادة عدد النساء؛ حتّى يكفينَ لجميع الجنود، ولكن قبل أنْ يتمّ ذلك نوصي رجال البنادق أنْ لا يطيلوا مكثهم داخل تلك الدور ويتعجّلوا بقضاء شهواتهم ما استطاعوا).

- (وفي فرنسا: ليس على مَن كان يريد الاتصال بآنسة من الآنسات إلاّ أنْ يُعْلِم الوكالة - الوكالة البغائيّة - بعنوان تلك الآنسة، وعلى الوكالة بعد ذلك أنْ تراود الآنسة على الأمر، ودلّتْ سجلاّت هذه الوكالة على أنّه لم تكن طبقة من طبقات المجتمع الفرنسي إلاّ وعامل كثير من أناسها هذه الوكالة وتمتّعوا بخدماتها).

- (لم يعد الآن من الغريب الشاذ وجود العلاقات الجنسيّة بين الأقارب في النسب: كالأب والبنت، والأخ والأخت، في بعض الأقاليم الفرنسيّة).

٣٧

- (ولقد كان عدد النساء اللواتي كنّ يحترفن البغاء قبل الحرب العالميّة الأولى: نصف مليون).

* وصرّح (مسيو فردينان دريفوس) أحد أعضاء المجلس الفرنسي منذ بضع سنوات:

إنّ حرفة البغاء لم تُعَدُّ الآن عملاً شخصيّاً بل قد أصبحت تجارة رئيسيّة، وحرفة منظّمة، بفضل ما تجلب وكالاتها من الأرباح الغزيرة، فلها في هذه الأيّام وكلاء يهيّئون (المواد الخام) وآخرون يتجوّلون في البلاد، ولها الآن أسواق منظّمة تستورد فيها وتصدّر منها الفتيات والصبايا كالأموال التجاريّة، وأكثر ما يُطلب في هذه الأسواق من الأموال هو بنات دون العاشرة.

وربّما تبلغ البهيميّة في القائمين بها أقصى حدود الظلم والقساوة، فيقال: إنّ محافظ بلديّة في شرقي فرنسا اضطرّ إلى التدخّل في هذا الأمر؛ لنجدة فتاة كانت قد فرغت في يومها من سبعة وأربعين وارداً، وكان عدد منهم بَعْدُ بالباب يترقّبون!

٣٨

وجاءت الحرب العالميّة الأولى، فابتدعتْ بدعة (البغاء المتطوّع) علاوة على (البغاء التجاري) .. فجعلت هؤلاء النساء يتعاطين بصورة منظّمة، وأصبح تشجيعهنّ وإعانتهنّ فضيلة خُلُقِيَّة، عند أولي الدعارة والفجور، وعنيتْ الجرائد اليوميّة الكبرى عناية بالغة باستمالة رجال العمل إليهنّ.. وقد نشرت جريدة واحدة في عدد واحد (199 إعلاناً) عن أمرهنّ.

يقول (بول بيورو): إنّ جميع الأزواج المتزوّجون في مجتمعاتنا قوم خونة متجرّدون من الوفاء اللازم للعِشْرَة الزوجيّة.

وقد نجم عن هذه الموبقات الأمراض السرِّيَّة الفتَّاكة، فقد أعفتْ الحكومة الفرنسيّة في السنتَين الأوّلين من سِنِيّ الحرب العالميّة الأُولى خمسة وسبعين ألفاً؛ لكونهم مصابين بمرض الزهري، وابتلي بهذا المرض وحده (242 جنديّاً) في آن واحد في ثكنة متوسّطة.

* ويقول الدكتور الفرنسي (ليريد):

إنّه يموت في فرنسا (ثلاثون ألف نسمة بالزهري) وما يتبعها من الأمراض الكثيرة في كلّ سنة (1) .

____________________

1 - الإسلام بين الإنصاف والجحود.

٣٩

ولهذه الأمور رغبت الرجال عن النكاح، فبقيت النساء والرجال - على حدّ سواء - يتعاطون البغاء، وفسد النظام العائلي.

فسبعة أو ثمانية في الألف هو معدّل الرجال والنساء الذين يتزوّجون في فرنسا اليوم.

وكثر الطلاق كثرة مدهشة، حتّى إنّ محكمة الحقوق بمدينة (سين) فسختْ (294 نكاحاً) في يوم واحد.

إلى كثير.. وكثير.. من أمثال هذه المآسي التي حلّت على البشريّة من جرّاء إعطاء المرأة هذه الحرِّيَّة!!

فهل في ذلك خدمة للمرأة؟

أو للرجل؟

أو للمجتمع؟

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الالتفات إلى أنّ «الربا» معناه في الأصل «الزيادة».

فالتّفسير الأوّل ، وهو أوضح من جميع التفاسير ، ومنسجم مع مفهوم الآية أكثر ، ومتناسق مع الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، أن المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض الأفراد للآخرين ، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال ، كي ينالوا منهم أجرا أحسن وأكثر!

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لا يؤخذ بنظر الاعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية ، بل كل ما يهدف اليه أن تصل الهدية إلى مكان ، تعود على مهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أن مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص ، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية ، والمعنوية!.

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذه الآية هو «الهدية والعطية» والمراد من جملة( لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ) هو أخذ الأجر الوافر من الناس!

ولا شك أن أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراما ، إذ ليس فيه شرط أو قرار ، إلّا أنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية ولذلك فقد ورد التعبير عن هذا الربا ـ في روايات متعددة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في مصادر معروفة ، بـ «الربا الحلال» في قبال «الربا الحرام» الذي يستلزم الشرط والعقد أو الاتفاق.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب تهذيب الأحكام ، في تفسير الآية هو قولهعليه‌السلام : «هو هديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منهما ، فذلك ربا يؤكل»!

كما نقرأ حديثا آخر عنهعليه‌السلام «الربا رباءان ، أحدهما حلال والآخر حرام ، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا يريد أن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا يأخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله :( فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ) وأمّا الحرام فالرجل

٥٤١

يقرض قرضا ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام».(١)

وهناك تفسير آخر لهذه الآية ، وهو أن المراد من الربا في هذه الآية هو الربا الحرام ، وطبقا لهذا التّفسير فإن القرآن يريد أن يقيس الربا بالإنفاق الخالص لوجه الله ، ويبين أن الربا وإن كان ظاهره زيادة المال ، إلّا أنّه ليس زيادة عند الله ، فالزيادة الحقيقية والواقعية هي الإنفاق في سبيل الله.

وعلى هذا الأساس فقد عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإرشاد الأخلاقي والنصح ، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية «وكانت لنا إشارة أيضا في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل على هذا الأساس».

وبالطبع ليس بين المعنيين أيّ تضاد ، ويمكن أن تؤخذ الآية بمعناها الواسع الذي يجمع «الربا الحلال» و «الربا الحرام» ويقاس كلاهما بالإنفاق في سبيل الله ، إلّا أن تعبيرات الآية أكثر انسجاما مع التّفسير الأول ، لأنّ الظاهر من الآية هنا أن عملا قد صدر ليس فيه ثواب ، وهو مباح ، لأنّ الآية تقول : إن هذا العمل لا يربو عند الله ، وهذا يتناسب مع الربا الحلال الذي ليس فيه وزر ولا ثواب ، وليس شيئا يستوجب مقت الله وغضبه وقد قلنا : إن الروايات الإسلامية ناظرة إلى هذا المعنى.

وينبغي الإشارة إلى هذه اللطيفة اللغوية ، وهي أنّ كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل ، لا تعني أنّهم يزيدون ويضعفون بأنفسهم للمال ، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف ، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول ، مثل «الموسر» أي : صاحب المال الكثير.

وينبغي أيضا أن يعرف بالنظرة البعيدة أن المراد من الضعف والمضاعف

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩١.

٥٤٢

ليس معناه «مثل الشيء مرّتين» بل يشمل المثل مرتين ويشمل أمثال الشيء ، والحدّ الأقل في الآية هنا عشرة أمثال ، لأنّ القرآن يقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .(١)

وتبلغ الزيادة أحيانا كما في القرض إلى ثمانية عشر كما نقرأ في هذا حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «على باب الجنّة مكتوب : القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر».(٢)

وقد تبلغ الزيادة إلى سبعمائة «ضعف» كما هو في شأن الإنفاق في سبيل الله ، إذ تقول الآية :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) (٣)

وفي الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ عودة أخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة وتصف الآية «الله» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك ، ودليلا على المعاد أيضا فتقول :( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ومن المسلّم به أن المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأن الخلق كان من قبل الأوثان ، أو أن أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام ، أو أن نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك!! بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسعة وشفعاء بينهم وبين الله ، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي ، والاستفهام هنا استفهام إنكاري!.

الموضوع الآخر الذي يثير السؤال هنا هو أن أولئك المشركين لم يكونوا

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٦٠.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩٠.

(٣) البقرة ، الآية ٢٦١.

٥٤٣

يعتقدون بالحياة بعد الموت ، فكيف يستند القرآن في آخر وصف لله تعالى إلى ذلك؟!

لعل هذا التعبير هو لأنّ مسألة المعاد والحياة بعد الموت ـ كما ذكرناها في بحوثنا المتقدمة ـ لها «جنبة» فطريّة ، والقرآن هنا لا يستند إلى معتقداتهم ، بل إلى فطرتهم.

إضافة إلى ذلك فقد يتفق أن متكلما ذلقا حين يواجه شخصا آخر ينكر موضوعا ما ، فيستدرجه بما لديه من حقائق يتقبلها ذلك الآخر ويستند إليها بشكل قطعي ليظهر أثرها ، وينزل صاحبه من مركب الإنكار.

ثمّ بعد هذا كله فإن بين الحياة الأولى من قبل الله وقدرته على ذلك ، والحياة بعد الموت رابطة لا تقبل الانفصام ، ومع ملاحظة هذه الرابطة المنطقية فإن «كلا الأمرين» جاءا في عبارة واحدة.

وعلى كل حال فإن القرآن يقول : عند ما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد الله ، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط ، ويكشف هذه الحقيقة بقوله :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وهي أنّ المشركين أهانوا كثيرا مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.

* * *

٥٤٤

الآيات

( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) )

التّفسير

أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم :

كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك ، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك ، لذلك فإنّ القرآن ـ في هذه الآيات محل البحث ـ يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم ، فيقول :( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) .

والله يريد أن يريهم ما قدموه و( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ

٥٤٥

يَرْجِعُونَ ) .

والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول ارتباط الفساد بالذنب ، الذي لا يختصّ بأرض «مكّة» والحجاز ، ولا بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو من قبيل القضية الحقيقية التي تبيّن العلاقة بين الموضوع والمحمول!

وبعبارة أخرى : حيثما ظهر الفساد فهو انعكاس لأعمال الناس وفيه ـ ضمنا ـ هدف تربوي ، ليذوق الناس «طعم العلقم» نتيجة أعمالهم ، لعلهم ينتهون ويثوبون إلى رشدهم!

ويقول بعضهم : إنّ هذه الآية ناظرة إلى القحط و «الجدب» الذي أصاب المشركين بسبب دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على مشركي مكّة! فانقطعت المزن ويبست الصحاري ، وصار من الصعب عليهم الصيد من البحر الأحمر أيضا.

وعلى فرض أن يكون هذا الكلام صحيحا تاريخيا ، إلّا أنّه بيان لأحد المصاديق ولا يحدد معنى الآية في مسألة ارتباط الفساد بالذنب ، فهي ليست محدّدة بذلك الزمان والمكان ، ولا بالجدب وانقطاع «الغيث».

وممّا ذكرناه آنفا يتّضح جيدا أنّ كثيرا من التّفاسير المحدودة والضيقة التي نقلها بعض المفسّرين في ذيل الآية غير مقبولة بأي وجه.

كما فسّروا الفساد في الأرض بأنّه قتل «هابيل» على يد «قابيل» ، أو أن المراد بالفساد في البحر هو غصب السفن في عصر موسى ، والخضرعليهم‌السلام .

أو أنّ المراد من الفساد في البر والبحر هو ظهور الحكّام المتسلطين الفاسدين الذين يشيعون الفساد في جميع هذه المناطق!.

وبالطبع فإنّ الممكن أن تكون مصاديق الآية مثل هؤلاء الأفراد الذين يتسلطون على الناس نتيجة الدنيا والمجاملة وجرّ الناس للذل ، ولكن من المسلّم به أن هذا المصداق لا يعني تخصيص مفهوم الآية!.

كما أنّ جماعة من المفسّرين بحثوا في معنى الفساد في البحر أيضا ، فقال

٥٤٦

بعضهم : المراد بالبحر هو المدن التي إلى جانب البحر ، وقال بعضهم : إنّ المراد بالبحر هو «المناطق المخصبة ذات البساتين والأثمار».

ولا نجد دليلا على هذه التمحّلات ، لأنّ البحر معناه معروف ، والفساد فيه لعله قلّة المواهب البحرية ، أو عدم الأمن فيه ، أو الحروب البحرية.

ونقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد «حياة دواب البحر بالمطر ، فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البحر والبرّ ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي»(١) .

وبالطبع فإنّ ما ورد في هذه الرواية هو مصداق واضح للفساد وما ورد في شأن نزول المطر «وحياة دواب البحر به» فهو موضوع دقيق ، تؤكّد عليه التجربة ، فكلما قلّ ماء السماء «المطر» قل السمك في البحر ، حتى أنّنا سمعنا ممن يقطنون ساحل البحر يقولون: إن فائدة الغيث للبحر أكثر من فائدته للصحراء!.

وفي الآية التالية يأمر الله الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة «حيّة» من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس. ويوصي نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمرهم بذلك ، فيقول :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) .

انظروا قصور «الظالمين» المتهدمة ، وأبراجها المتداعية والخزائن المطموسة ، وجماعاتهم المتفرقة ، ثمّ انظروا إلى قبورهم المدروسة وعظامهم النخرة!

وانظروا عاقبة أمر الظلم والشرك وما آلى إليه.

أجل( كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) .

والشرك أساس الفساد والانحراف والضلال!

ممّا يستلفت الانتباه ، أنّه حين كان الكلام في الآيات السابقة عن نعم الله ،

__________________

(١) تفسير القمي : طبقا لنقل تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢١٠.

٥٤٧

كانت بدايته حول خلق الإنسان ثمّ رزقه من قبل الله( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ) إلّا أن الكلام في الآيات محل البحث التي تتحدث عن العقاب يبدأ الكلام فيها أوّلا بالإشارة إلى زوال النعم على أثر المعاصي والذنوب ، ثمّ الهلاك على أثر الشرك ، لأنّه عند الهبة والعطاء «أوّل الأمر يذكر الخلق ثمّ الرزق» وعند الاسترجاع ، «فأوّل الأمر زوال النعمة ثمّ الهلاك».

والتعبير بـ( كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) مع الالتفات إلى أنّ هذه السورة مكّية وكان المسلمون في ذلك الوقت قلّة ، فلعل ذلك إشارة إلى أن لا تخافوا من كثرة المشركين ، لأنّ الله أهلك من قبلهم من هو أشدّ منهم ، واكثر جمعا ، وهو في الوقت ذاته إنذار للطغاة ليسيروا في الأرض فينظروا بأم أعينهم عاقبة الظالمين من قبلهم!.

وحيث أن التصور والوعي والانتباه ، ثمّ العودة والإنابة إلى الله ، كل ذلك لا يكون ـ دائما ـ مفيدا ومؤثرا ، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) (١) أي يتفرقون «فريق في الجنّة وفريق في السعير».

ووصف الدين بأنه «قيّم» مع ملاحظة أن «القيّم معناه الثابت والقائم» هو إشارة إلى أن هذا التوجه المستمر «أو الإقامة» هي للدين أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس ، فلا تمل عنه أبدا ، بل أقم وجهك للدين القيم!

وإنّما وجه الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضا.

__________________

(١) كلمة «مردّ» في جملة «لا مرد له من الله» مصدر ميمي وهو هنا بمعنى اسم الفاعل فيكون معنى الجملة : لا رادّ له من الله. والضمير في «له» يعود إلى «يوم» ويكون المفهوم العام للجملة. لا يستطيع أي كان أن يعيد ذلك اليوم من الله ، أي يقف بوجه القضاء والمحاكمة بتأخير ذلك اليوم و «تعطيله». والخلاصة : إنّه لا يخلف الله وعده ليعيد ذلك اليوم ، وليس لأحد سواه القدرة على ذلك ؛ فوقوع ذلك اليوم لا بدّ منه وهو يوم محتوم» (فلاحظوا بدقة).

٥٤٨

والتعبير بـ «يصدعون» من مادة «صدع» معناه في الأصل : كسر الإناء ، ثمّ انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت. وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران ، وكل من هذه الصفوف يتفرق إلى عدة صفوف ، وذلك لسلسلة المراتب في الجنان ، ودركات النيران «والعياذ بالله».

والآية التالية ـ بيان لهذا الانفصال في يوم القيامة ، إذ تقول :( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) .

كلمة «يمهدون» مشتقّة من «المهد» على زنة «عهد» وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ للطفل ، ثمّ توسعوا في المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيأ ومعد «وفيه منتهى الدعة والراحة» وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة والمؤمنين الصالحين ، من هذه الجهة.

والخلاصة : لا تحسبوا أن إيمانكم وكفركم وأعمالكم الصالحة والطالحة لها أثر على الله ، بل أنتم الذين تفرحون بها أو تساءون( يَوْمَ تَرَوْنَها ) .

ومن الطريف أنّ القرآن اكتفى في شأن الكفار بالتعبير بـ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) ولكن بالنسبة للمؤمنين تضيف الآية التالية : أن المؤمنين لا يرون أعمالهم فحسب ، بل يوليهم الله من مواهبه وفضله فيقول :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) .

ومن المسلّم به أن هذا الفضل لا يشمل الكفار إذ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) ولا شكّ أنّ الله يعاملهم وفق عدالته ، ويجزيهم ما يستحقون ، لا أكثر ، لكن لا ينالهم منه فضل وموهبة أيضا.

* * *

٥٤٩

بحوث

١ ـ العلاقة بين الذنب والفساد

ممّا لا شك فيه أن كل ذنب يترك أثره في المجتمع ، كما يترك أثره في الأفراد عن طريق المجتمع أيضا ويسبب نوعا من الفساد في التنظيم الاجتماعي ، فالذنب والعمل القبيح ، وتجاوز القانون ، مثلها كمثل الغذاء السيء والمسموم ، إذ يترك أثره غير المطلوب والسيء في البدن شئنا أم أبينا ، ويقع الإنسان فريسة للآثار الوضعية لذلك الغذاء المسموم.

«الكذب» يسلب الاعتماد.

و «خيانة الأمانة» تحطّم الروابط الاجتماعية.

و «الظلم» يسبب إيذاء الآخرين وظلمهم.

والإفراط في الحرية يجرّ إلى الديكتاتورية ، والديكتاتورية تجر إلى الإنفجار.

و «ترك حقوق المحرومين» يورث العداوة والحقد والبغضاء ، و «تراكم الأحقاد والعداوات» يزلزل أساس المجتمع!.

والخلاصة ، أن كلّ عمل غير صحيح له أثره السيّء سواء كان ذلك في دائرة محدودة أم واسعة ، وأحد تفاسير الآية( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) هو هذا (وهذا يبيّن العلاقة الطبيعية بين الذنب والفساد ـ «هنا»).

إلّا أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ كثيرا من الذنوب ـ إضافة لما ذكرنا ـ تجلب معها سلسلة من الآثار السيئة ، وعلاقتها وارتباطها مع تلك الآثار ـ من الناحية الطبيعية على الأقل ـ غير معروفة.

فمثلا ورد في الرّوايات الإسلامية أن قطع الرحم يقصر العمر ، وأن أكل المال الحرام يورث ظلمة القلب ، وأن كثرة الزنا يورث فناء الناس ويقلل الرزق(١) .

__________________

(١) في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «للزنا عقوبات ثلاث منها في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأمّا العقوبات فى

٥٥٠

حتى أنّنا لنقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال»(١)

وقد ورد في القرآن نظير هذا المعنى في تعبير آخر ، حيث يقول القرآن :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

إذن فالفساد ـ في الآية محل البحث ـ هو الفساد الأعمّ «الذي يشمل المفاسد الاجتماعية ، والبلايا ، وسلب النعم والبركات».

وممّا يستلفت الانتباه أن الآية المتقدمة يستفاد منها ضمنا أن واحدا من حكم الآفات والبلايا تأثيرها التربوي على الناس ، إذ عليهم أن يروا رد الفعل الناتج من أعمالهم ليفيقوا من نومهم وغفلتهم ، ويعودوا إلى الطهارة والتقوى!

ولا نقول : إنّ جميع الشرور والآفات هي من هذا القبيل ، ولكننا نقول : إن قسما منها ـ على الأقل ـ فيه هذه الحكمة والغاية وبالطبع فإنّ له حكمة أخرى بحثناها في محلها.

٢ ـ فلسفة السير في الأرض

لقد وردت مسألة «السير في الأرض» ست مرات في القرآن المجيد ، (في سورة آل عمران والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والروم) حيث وردت مرّة بقصد التفكر في أسرار الخلق (سورة العنكبوت الآية ٢٠) وخمس مرات بقصد العبرة من العواقب الوخيمة التي نالها الظالمون والجبابرة والطغاة الآثمون!

__________________

الدنيا فإنه يسلب النور من الإنسان ، ويبتله بموت الفجأة ، ويقطع الرزق. وأمّا التي في الآخرة فهو على سوء الحساب وغضب الله والخلود في نار جهنم» (سفينة البحار ـ مادة زنى).

(١) سفينة البحار (مادة ذنب).

(٢) الأعراف ، الآية ٩٦.

٥٥١

والقرآن يهتمّ بالمسائل العينية والحسية ـ التي يمكن لمس آثارها في الأمور التربوية ـ اهتماما خاصا ، ولا سيما أنّه يأمر المسلمين أن ينطلقوا من محيطهم المحدود إلى المدى الأرحب ، ويسيروا ويسيحوا في هذا العالم ، وليفكروا في أعمال الآخرين وسجاياهم وعواقب أمورهم ، وأن يستوحوا من هذه «الحياة» العابرة «ويدخروا ذخيرة قيمة» من العبرة والاطلاع!

إنّ القوى الشيطانية في العصر الحاضر ـ من أجل سعة استثمارها في العالم كافة ـ مشطت وفحصت جميع الدول والبلدان والأمم وطريقة حياتهم وثقافتهم ونقاط القوّة والضعف فيهم بصورة جيدة.

إنّ القرآن يقول : بدلا من هؤلاء المستكبرين سيروا أنتم في أرجاء الأرض وبدلا من خططهم ومؤامراتهم الشيطانية تعلموا دروسا رحمانية.

العبرة والإعتبار من حياة الآخرين أهم من التجارب الشخصية وأكثر قيمة ، لأنّ الإنسان ينبغي أن يتحمل خلال تجاربه أضرارا ليتعلم مسائل جديدة إلّا أن الإنسان عند استلهام العبرة من الآخرين يربح معارف جمة وثمينة دون أن يتحمل ضررا.

وأمر القرآن بالسير في الأرض ينطبق على أكمل الأساليب والطرق التي حصل عليها البشر في العصر الحاضر ، وذلك بأن يأخذوا بأيدي التلاميذ ـ بعد استيعاب المسائل في الكتب ـ ويسيروا في الأرض ، ويطالعوا الشواهد العينية التي قرءوها في الكتب!

وبالطبع فهناك اليوم نوع آخر من السير في الأرض بعنوان «السياحة» في العالم ، وذلك من قبل «الحضارة الشيطانية» لجلب الأموال والثروة «الحرام» التي راجت سوقها ، وغالبا ما تكون فيها أهداف منحرفة وتضليلية ، كنقل الثقافة السقيمة وإشاعة الهوى والسفاهة والحماقة واللهو هذه هي «السياحة المخربة»!

٥٥٢

ولكن الإسلام يؤيد السياحة التي تكون وسيلة لنقل الثقافات الصحيحة والتجارب المتراكمة ، واستكناه أسرار الخلق في عالم البشر وعالم الطبيعة ، واستلهام دروس العبرة من عواقب المفسدين والظالمين الوخيمة.

ولا بأس بالإشارة إلى أنّ هناك سياحة منعها الإسلام ونقرأ حديثا يقول : «لا سياحة في الإسلام»(١) .

والمراد من هذا الحديث هو في جميع سنوات حياتهم ـ أو بعضها ـ منفصلين عن الحياة الاجتماعية تماما ، ودون أن يكون لهم نشاط ملحوظ ، فهم يسيحون في الأرض ويعيشون كالرهبان! فيكونون عالة على الآخرين.

وبتعبير آخر : إنّ عمل هؤلاء بمثابة «الرهبانية السيارة» مقابل الرهبان الثابتين المنزوين في الدير والمنعزلين عن المجتمع ، وحيث أن الإسلام يخالف هذا الاتجاه والانزواء الاجتماعي ، فهو يعد هذه «السياحة» غير مشروعة أيضا.

٣ ـ الدين القيّم

كان الخطاب في الآيات المتقدمة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل تمام توجهه نحو الدين المستقيم والثابت ، الذي ليس فيه اعوجاج ولا انحراف ولا تزلزل في قواعده أبدا.

ومن الطريف أن تعبيرات أخرى في آيات القرآن المتعددة جاءت بصدد هذا الدين ، ففي الآية (١٠٥) من سورة يونس جاء التعبير عنه بالحنيف( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) .

وفي الآية (٣) من سورة الزمر وصف بالخالص( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) .

__________________

(١) مجمع البحرين مادة «سيح» ، وفي حديث آخر عن النّبي العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الكتاب نفسه نقرأ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سياحة أمتي الغزو والجهاد».

٥٥٣

وفي الآية (٥٢) من سورة النحل ، وصف بأنّه واصب ، أي لا يتغير( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

وفي الآية (٧٨) من سورة الحج وصف بأنه خال من الحرج والشدة( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) !

ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن!

وكل واحد من هذه الأمور يمثل بعدا من أبعاد الدين الإسلامي ، وهو في الوقت ذاته من باب اللازم والملزوم.

أجل ينبغي أن ينتخب مثل هذا الدين ، وأن يسعى في معرفته ، وأن يحفظ حتى آخر رمق!

٤ ـ لا عودة في يوم القيامة!

قرأنا في الآيات المتقدمة عن يوم القيامة قوله تعالى :( يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) ولا طريق للعودة إلى الدنيا!

ويلاحظ في آيات القرآن الأخر ما يشبه هذا التعبير ، ومن ذلك الآية (٤٤) من سورة الشورى ـ حين يرى الظالمون العذاب يقولون :( هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) .

كما وصف يوم القيامة في الآية (٤٧) من سورة الشورى ـ أيضا ـ بقوله تعالى :( يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) .

والحقيقة أن عالم الوجود له مراحل لا عودة فيها إلى مرحلة سابقة ، وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول!

ترى ، هل يرجع الطفل ـ سواء ولد كاملا أو ناقصا ـ جنينا مرّة أخرى إلى رحم أمه؟!

٥٥٤

وهل ترجع الثمرة المقطوفة من الشجرة ـ ناضجة كانت أم لا ـ إلى أغصانها؟!

فانتقال الإنسان من هذا العالم إلى العالم الآخر على هذه الشاكلة ، أي لا طريق للعودة أبدا وهذه حقيقة تخيف الإنسان وتهزّه وتنذره ليكون يقظا!.

* * *

٥٥٥

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) )

التّفسير

انظر إلى آثار رحمة الله :

قلنا : إن في هذه السورة قسما مهمّا «يستلفت النظر» من دلائل التوحيد

٥٥٦

وآيات الله ، مبينا في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله :( وَمِنْ آياتِهِ ) قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة ، والآية الأولى من الآيات أعلاه هي سابع الآيات التي مرت. وآخرها.

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح ، فبيان دلائل التوحيد ـ أيضا ـ تأكيدا على ذلك!

تقول هذه الآية :( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ) فهي تمضي سابقة للغيث في حركتها ، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى ، وتغطي صفحة السماء ، ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم.

ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشرات ـ لأهل المدن المتنعمة ـ ليست جليّة واضحة إلّا أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر ، ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أخرى ـ والنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها ، حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم.

وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها ، إلّا أنّه لا يمكن تحديد كلمة «مبشرات» في هذا المضمون فحسب ، لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضا.

فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى «الاعتدال».

والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء.

والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات ، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس.

كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر ـ إلى الإنسان ، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضا.

٥٥٧

وهي كذلك تؤدي وظيفة أخرى ، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للإناث.

والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر.

والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء ، كأنّها فلاح مشفق ، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يبابا.

والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة.

وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة «الماكنات» مكان الرياح ، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها سرعة وبطأ!

أجل ، أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى.

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى :( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

أجل ، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين ، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضا ، وأخيرا فهي سبب للازدهار التجاري.

وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) وإلى الثّاني بجملة( وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) وللثالث بجملة( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) !

والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة ، الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي لكن لا يعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان! فيعرفها حينذاك. فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم ، فلا يعرف الإنسان ما ذا يحلّ به من بلاء؟!

فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمة! وعلى العكس فلو أن نسيما عليلا هب في خلايا السجون

٥٥٨

الانفرادية لجعلها كالفضاء الرحب «المفتوح» ، وعادة فإنّ واحدا من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء!.

حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج ، لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين ، ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش!

يقول «الفخر الرازي» إن جملة( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل ، فهي إشارة أن جميع الدنيا ونعمها لا تتجاور الرحمة القليلة ، أمّا الرحمة الواسعة (من قبل الله) فهي خاصة بالحياة الأخرى!.

وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم ، في حين أن الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة أخرى ، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي ، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين.

ولعل ذكر النبوّة إلى جانب هذه المسائل ، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد ، إذ ورد البحث عنهما مرارا في هذه السورة كما قاله بعض المفسّرين.

ويمكن أن يكون وجود هذه الآية إنذارا لأولئك الذين يتمتعون بجميع هذه النعم الكثيرة ويكفرون بها.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية تقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية ، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل ، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح( فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) ونصرنا المؤمنين( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والتعبير بـ «كان» التي تدل على أن هذه السنة لها جدر عميق ، والتعبير بـ «حقّا» وبعده التعبير بـ «علينا» هو بنفسه مبين للحق ومشعر به ، جميع هذه

٥٥٩

الألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم «حقا علينا» على «نصر المؤمنين» الذي يدل على الحصر ، هو تأكيد آخر. وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى «إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عمليا دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».

وهذه الجملة ـ ضمنا ـ فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين ، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عددا وعددا.

وأساسا فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب ، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين ، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم بأيديهم ، ويرسل عليهم نقمة الله.

أمّا الآية الأخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول :( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ) (١) أي القطع الصغيرة المتراكمة ثمّ تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة( فَتَرَى الْوَدْقَ (٢) يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) .

أجل ، إن واحدا من الآثار المهمة عند نزول الغيث ، يقع على عاتق الرياح ، إذ تحمل قطعات السحاب من البحر إلى الأرض العطشى واليابسة ، والرياح هي المأمورة ببسط السحاب والغيوم في السماء جعلها متراكمة بعضها فوق بعض ، وبعد أن تلطف الجو وتصيره رطبا تهيء الغيث للنزول.

إن مثل الرياح كمثل راعي الغنم المحنّك ، الذي يجمع قطيع الغنم عند الاقتضاء من أطراف الصحراء ، ويسير بها في مسير معيّن ليقوم بالتالي على حلب

__________________

(١) «الكسف» جمع «كسفة» على وزن «حجلة» ومعناها القطعة ، وهي هنا ـ كما يبدو ـ إشارة إلى القطعات من الغيوم المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة ، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.

(٢) «الودق» على وزن (الحلق) وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحيانا ، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء ، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحيانا

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592