الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 180935 / تحميل: 6362
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

والقصيدة تزيد على الستين بيتاً. وله قصيدة أيضاً في مجموعة الشيخ لطف الله، وأولها:

إنهض إلى أم القرى ومناتها

وبطيبة طف بي على عرصاتها

وهي أكثر من سبعين بيتاً.

وله أيضاً:

أسير الهوى ما بال ثغرك مفترا

أراك بما أولاك مولاك مغتراً

وتختال في ثوب الشبيبة مائساً

وتطرب في تذكار غادتك الغرا

فدع ذكر من تهوى ولا تطع الهوى

أما سمعت أذناك بالوقعة الكبرى

أيصبح منك السن ياويك باسماً

سروراً وتبكي عين فاطمة الزهراء

ألا اطلق عنان العيس واعنف بسيرها

وإن جئت وادي الطف قف نبك من ذكرى

هناك ترى من نور العرش باسمه

له كبد حرى وفي بردة حمرا

تحتوي على 56 بيتاً نقلنا منها هذا المقطع.

٢١

السيد علي السيد احمد

بكى بقاني دمه والمدمع

صب لذكر دمنة ومريع

لم يبق فيها من يجيب داعياً

ولا يلبي ناشداً ولا يعي

غير اثاف جثم ودونها

نوء وأشلا وتد ومخدع

فما البكا وما العنا وما الشجى

وما الضنا على الذي لم ينفع

هلم هات كلما ادخرته

من مدمع ومن دم وابك معي

على الحسين المستضام والإمام

بن الإمام الألمعي اللوذعي

السيد السميدع ابن السيد

السميدع ابن السيد السميدع

الأروع المبجل المعظم المكرم

الممجد ابن الأروع

واذكر عظيم رزئه فإنه

بمثله كل الورى لم تسمع

قضى ظماً مع صحبه بكربلا

ودون السلسبيل المترع

وفي آخرها:

آل النبي حبكم قد انحنت

عليه - مذ كونت - عوج أضلعي

إذ حبكم وبغضكم بين الورى

علامة للنصب والتشيع

وأنتم يوم الحساب عدتي

لشدتي ومأمني لمفزعي

وهاكم عذراء من نجلكم

بغير وشي الحب لم تلفع

تحجبت من البها ببرقع

وهي لقلب الخصم قلب البرقع

٢٢

ولي وآبائي وللرحم اشفعوا

إذ غيركم يوم القضا لم يشفع

عليكم الرحمن صل ما اكتسى

روض الربيع نسج أيدي الهمع(1)

وفي مجموعة حسينية في مكتبة الامام الصادق العامة في حسينية آل الحيدري بمدينة الكاظمية على مشرفها أفضل التحية، والمجموعة في قسم المخطوطات - رقم 75 تحتوي على جملة قصائد لشعراء قدماء كلهم من القرن الثاني عشر الهجري، أو قبل ذلك. وقد جاء في آخرها:

وقد فرغت من تحرير هذه المجموعة في مراثي سيدنا ومولانا وإمامنا أبي عبدالله الحسينعليه‌السلام . في يوم السابع من شهر جمادي الثانية من شهور سنة 1242. وأنا العبد الجاني محمد شفيع بن محمد بن مير بن عبدالجميل الحسيني غفر الله لهم.

__________________

1 - عن مجموعة المراثي الحسينية بخط محمد شفيع بن محمد بن مير الحسيني سنة 1242 مخطوطة مكتبة الامام الصادق العامة بالكاظمية حسينية آل الحيدري رقم « 7 ».

٢٣

السيد محمد الشاخوري

أهاجك ربع دارس وطلول

ترحل منها للفراق خليل(1)

فبت كئيباً ساهر الطرف باكياً

ودمعك بعد الظاغنين هطول

إذا مر ذكر البان ظلت لبينه

دموعك في صحن الخدود تسيل

وتشتاق آرام النقا ولطالما

عراك لذكراها أسى ونحول

أما قد بدا شيب العذار وإنه

لعمري على قرب الرحيل دليل

أتخدعك الدنيا بريب غرورها

وأنت لثقل الحادثات حمول

وتستعب اللذات فيها وصفوها

قليل وأما خطبها فجليل

فإياك والدنيا الغرور فكم بها

لعمري عزيز صار وهو ذليل

أتاحت لآل المصطفى جمرة الردى

وليس لهم في العالمين مثيل

فهم بين مسجون قضى في حديده

وآخر مسموم وذاك قتيل

وأعظم شيء أورث القلب حسرة

ووجداً مدى الأيام ليس يزول

مصاب بأرض الطف قد جل خطبه

فكم قمر فيه عراه أفول

__________________

1 - عن مجموعة الشيخ لطف الله.

٢٤

غداة قضت من آل احمد عصبة

لدى الطف شبان لهم وكهول

أناخت بأرض الغاضريات بدنهم

لهم في ثراها مضجع ومقيل

قضوا ظمأ ما بردوا غلة الظما

وللوحش من ماء الفرات نهول

ومن بينهم ريحانة الطهر أحمد

عفير على حر التراب جديل

له جسد أودت به شفر الضبا

لقى ودم الأوداج منه يسيل

كست جسمه يوم الطفوف سنابك

بعثيرها في البيد وهي تجول

وحاكت له ريح الصبا بهبوبها

قميص رغام بالدماء غسيل

على لذة الأيام من بعده العفا

فما بعده الصبر الجميل جميل

لحى الله عينا تذخر الدمع بعده

ونفساً إلى قرب السلو تميل

فيا قلب ذب من شدة الوجد والأسى

ويا عين سحي فالمصاب جليل

بنات رسول الله تسبى حواسراً

لهن على فقد الحسين عويل

وتبرز من تلك الخدود لواغبا

وليس لها بعد الحسين كفيل

سوافر لا ستر يغطي رؤوسها

تنوح ودمع المقلتين همول

نوادب من وجد يكاد لنوحها

تذوب الرواسي حرقة وتزول

يسير بها في أعنف السير سائق

ويزجرها حاد هناك عجول

ينادين يا جداه بعدك أظهرت

علينا حقود جمة وذهول

وصالت علينا عصبة أموية

نغول نمتها بالسفاح نغول

أيا جد أضحى السبط ملقى على الثرى

تجر عليه للرياح ذيول

قضى ظمأ والماء جار ودونه

حدود سيوف لمع ونصول

وساقوا إمام العصر يا جد بينهم

أسيراً يقاسي الضر وهو عليل

أضر به السير الشديد وسورة

الحديد وقيد في اليدين ثقيل

أولي الوحي يا من حبهم لوليهم

أمان، وعن حر الجحيم مقيل

فإن لم تقيلوا نجلكم من ذنوبه

فليس اليه في النجاة سبيل

أيشقي ويبقى أحمد في ذنوبه

وأنتم ظلال للأنام ظليل

٢٥

الملا كاظم الأزري

المتوفى 1211

من روائعه في الإمام الحسين (ع):

إن كنت في سنة من غارة الزمن

فانظر لنفسك واستيقظ من الوسن

ليس الزمان بمأمون على أحد

هيهات أن تسكن الدنيا إلى سكن

لا تنفق النفس إلا في بلوغ مني

فبائع النفس فيها غير ذي غبن

ودع مصابحة الدنيا فليس بها

إلا مفارقة السكان للسكن

وكيف يحمد للدنيا صنيع يد

وغاية البشر فيها غاية الحزن

هي الليالي تراها غير خائنة

الا بكل كريم الطبع لم يخن

الا تذكرت اياما بها ظعنت

للفاطميين اظعان عن الوطن

ايام طل من المختار اي دم

وادميت اي عين من أبي حسن

أعزز بناصر دين الله منفردا

في مجمع من بني عبادة الوثن

يوصي الأحبة ان لا تقبضوا أبدا

إلا على الدين في سر وفي علن

وان جرى أحد الأقدار فاصطبروا

فالصبر في القدر الجاري من الفطن

ثم انثنى للأعادي لا يرى حكما

إلا الذي لم يدع رأسا على بدن

سقيا لهمته ما كان أكرمها

في سقي ماضي المواضي من دم هتن

وللظبى نغمات في رؤوسهم

كأنها الطير قد غنت على فنن

٢٦

يا جيرة الغي ان انكرتم شرفي

فإن واعية الهيجاء تعرفني

لا تفخروا بجنود لا عداد لها

ان الفخار بغير السيف لم يكن

ومذرقى نبر الهيجاء اسمعها

مواعظا من فروض الطعن والسنن

لله موعظة الخطي كم وقعت

من آل سفيان في قلب وفي اذن

كأن أسيافه اذ تستهل دماً

صفائح البرق حلت عقدة المزن

لله حملته لو صادفت فلكا

لخر هيكله الأعلى على الذقن

يفري الجيوش بسيف غير ذي ثقة

على النفوس ورمح غير مؤتمن

وعزمة في عرى الأقدار نافذة

لو لاقت الموت قادته بلا رسن

حق إذا لم تصب منه العدى غرضا

رموه بالنبل عن موتورة الضغن

فانقض عن مهره كالشمس عن فلك

فغاب صبح الهدى في الفاحم الدجن

قل للمقادير قد ابدعت حادثة

غريبة الشكل ما كانت ولم تكن

امثل شمر اذل الله جبهته

يلقى حسيناً بذاك الملتقى الخشن

واحسرة الدين والدنيا على قمر

يشكوا الخسوف من العسالة اللدن

يا سيدا كان بدء المكرمات به

والشمس تبدأ بالأعلى من القنن

من يكنز اليوم من علم ومن كرم

كنزا سواك عليه غير مؤتمن

هيهات إن الندى والعلم قد دفنا

ولا مزية بعد الروح للبدن

لقد هوت من نزار كل راسية

كانت لابنية الأمجاد كالركن

لله صخرة وادي الطف ما صدعت

إلا جواهر كانت حلية الزمن

خطب ترى العالم العلوي لان له

ما العذر للعالم السفلي لم يلن

من المعزي حمى الإسلام في ملك

من بعده حرم الإسلام لم يصن

يهينك يا كربلا وشي ظفرت به

من صنعة لامن لايمن صنعة اليمن

لله فخرك ما في جيدة عطل

ولا بمرآته الأدنى من الدرن

كم خر في تربك النوري بدر تقى

لولاه عاطلة الإسلام لم تزن

حي من الشوس معتاد وليدهم

على رضاع دم الأبطال لا اللبن

يجول في مشرق الدنيا ومغربها

نداهم جولان القرط في الأذن

٢٧

من مبلغ سوق ذاك اليوم ان به

جواهر القدس قد بيعت بلا ثمن

قل للمكارم موتي موت ذي ظمأ

فقد تبدل ذاك العذب بالأجن

لقد اطلت على الإسلام نائبة

كقتل هابيل كانت فتنة الفتن

أقول والنفس مرخاة ازمتها

يقودها الوجد من سهل إلى حزن

مهلا فقد قربت أوقاف منتظر

من عهد آدم منصور على الزمن

كشاف مظلمة خواض ملحمة

فياض مكرمة فكاك مرتهن

قرم يقلد حتى الوحش منته

وابن النجابة مطبوع على المنن

صباح مشرقها مصباح مغربها

مزيل محنتها من كل ممتحن

أغر لا يتجلى نور سؤدده

ألا بروض من الدين الحنيف جني

تسعى إلى المرتقى الأعلى به همم

لا تحتذي منه إلا قنة القنن

يسطو بسيفين من بأس ومن كرم

يستأصلان عروق البخل والجبن

يا من نجاة بني الدنيا بحبهم

كأنها البحر لم يركب بلا سفن

طوبى لحظ محبيكم لقد حصلوا

على نصيب بقرن الشمس مقترن

هل تزدري بي آثامي ولي وله

بكم إلى درجات العرش يرفعني

أرجوكم ورجاء الأكرمين عني

حياً وبعد اندراج الجسم في الكفن

يا من بقدرهم الاعلى علت مدحي

والدر يحسن منظوماً على الحسن

فها كم من شجي البال مغرمة

عذراء ترفل في ثوب من الشجن

جاءت تهادى من الأزري حالية

من اجتلى حسنها الفنان يفتتن

ثم الصلاة عليكم ما بدا قمر

فانجاب عنه حجاب الغارب الدجن

٢٨

الملا كاظم الازري

والمشهور بـ ملا كاظم بن محمد بن مهدي الأزري البغدادي يسكن بغداد ومدرسة النجف، صريحاً في الرأي قوي الحجة مهيباً في المطلع، وكان يتمتع بمكانة سامية في كافه الأوساط الأدبية، ولدى جميع الطبقات الشعبية، لم يكن في بغداد أشعر منه منذ نهاية العصر العباسي حتى عهده الذهبي وعاصر من العلماء الأعاظم: السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي، والشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي الكبير، واتصل بالبيوت الشريفة ونادمهم وتروى له نوادر كثيرة منها أن ابن الراوي قال له يوماً في إحدى.

الندوات الأدبية: بلغني عنك انك مجنون، فأجابه الأزري: وبلغني عنك انك مأفون، فان صدق الراوي ففي وفيك، وإن كذب الراوي فلعنة الله على الراوي. ومنها انه قدم النجف الأشرف فاجتمع عليه الأدباء والعلماء ومنهم السيد صادق الفحام واستنشدوه فأنشد من شعره فلم يوفه السيد جعفر حقه بالإستحسان والاجادة، وما زاد على كلمة: موزون - فأنشأ الأزري:

عرضت در نظامي عند من جهلوا

فضيعوا في ضلام الجهل موقعة

فلم أزل لائماً نفسي أعاتبها

من باع دراً على الفحام ضيعه

جاء لقب الأزري من جدهم وهو محمد بن مراد بن المهدي بن إبراهيم بن عبدالصمد بن علي التميمي البغدادي المتوفى في سنة 1162 وهو الذي لقب بالأزري لأنه كان يتعاطى بيع الأزر المنسوجة من القطن والصوف.

٢٩

وقد نبغ من هذه الأسرة في العلم والأدب عدد ليس بالقليل، وأول لامع منهم هو الشيخ كاظم، فالشيخ محمد رضا، فالشيخ يوسف الأول، فالشيخ مسعود، فالشيخ مهدي، فالمترجم له.

قال السيد الأمين في الأعيان ج 43 ص 101: بيت الأزري بيت أدب وعلم وثراء. ويظهر من ورقة الوقف المشهور الآن بوقف بيت الأزري وبعض الحجج الشرعية القديمة أن أسرة هذا البيت كانت تقطن بغداد منذ أكثر من ثلاثة قرون، اما ما قبل ذلك فلا يعلم عنها شيء. وقد اشتهر من بين أفرادها علمان هما الشيخ كاظم والشيخ محمد رضا.

(نشأة المترجم وحياته)

ولد الشيخ كاظم الازري في بغداد سنة 1143 على الأصح ولم تزل داره التي ولد فيها قائمة في محلة ( رأس القرية ) من بغداد وهي من جملة أوقاف والده التي وقفها عليه وعلى إخوته سنة 1159. وبقي في طفولته مقعداً سبع سنوات ثم مشى.

درس العلوم العربية ومقداراً غير قليل من الفقه والأصول على فضلاء عصره ولكنه ولع بالأدب وانقطع عن متابعة الدرس. وأخذ ينظم الشعر ولم يبلغ العشرين عاماً. كان سريع الخاطر حاضر النكتة وقاد الذهن قوي الذاكرة كما كان محترم الجانب لدى العلماء والوجهاء من أبناء عصره حتى ان السيد مهدي بحر العلوم كان يقدمه على كثيرين من العلماء لبراعته في المناظرة ولطول باعه في التفسير والحديث ولاطلاعه الواسع على التاريخ والسير، وكان قصير القامة مع سمنة فيه، لا يفارقه السلاح ليلاً ونهاراً خشية على نفسه من اعدائه. وفي

٣٠

سنة الف وماية ونيف وستين من الهجرة حج بيت الله الحرام. وله في حجه قصيدة مطلعها:

انخ المطي فقد وفدت على الحمى

والثم ثراه محييا ومسلما

ثم عظم بعدئذ اتصاله بالحاج سليمان بك الشاوي الحميري الذي كانت له الرئاسة المطلقة والكلمة النافذة في بغداد.

وكان الحاج سليمان بك يقدر فضله ويأنس بأدبه الجم ولم يزل يحمي جانبه ويدافع عنه إلى أن توفاه الله. وكانت وفاته حسب المشهور في سنة 1212 ودفن في مقبرة أسرته في الكاظمية غير أن الحجر الذي وجد في داخل السرداب يدل على أن تاريخ وفاته سنة 1201 والله أعلم(1) .

(ادبه وشعره)

استقبل الناس شعر الشيخ كاظم الأزري كفصل الربيع من السنة نسيمه المنعش وأزهاره العبقة. جاء بعد شتاء مجهد طويل لأنه جمع بين جزالة اللفظ وجمال الأسلوب ورصانة التركيب وحسن الديباجة. وفيه جاذبية، فالذي يقرأ قصيدة من شعره لا يتركها حتى ينتهي منها وفيه نشوة كالراح تدفع شاربها إلى المزيد منها ليزداد نشوة وسروراً. وأكثر الخبراء بالأدب يعدون الشيخ كاظم الأزري في طليعة شعراء العراق وذلك في بعض مناحيه الشعرية، ومن فحولهم

__________________

1 - قال الشيخ الطهراني في ( الذريعة ) قسم الديوان: كانت وفاة الشيخ كاظم الأزري 1 ج 1 سنة 1211 - والمدفون بالكاظمية تجاه المقبرة المنسوبة الى الشريف المرتضى، كما وجد بها على لوحة قبره.

أقول: المقبرة تسمى بمقبرة المرتضى نسبة الى ابراهيم المرتضى ابن الامام الكاظم (ع).

٣١

البارزين في المناحي الآخرى. ويصعب التمييز بين قصائده من ناحية السلاسة والطلاوة والرقة والانسجام وهو صاحب الهائية التي تنوف على أكثر من خمسمائة بيت ويعرفها الناس بقرآن الشعر وبالملحمة الكبرى وهذه القصيدة الفذة في بابها هي صدى نفسه الكبيرة الخصب الممرع طبعت على حدة مع تخميسها للشيخ جابر الكاظمي(1) . أما ديوانه فقد عني السيد رشيد السعدي بطبعة سنة 1320. وتلاقفته الأيدي بوقته ولا زال الناس يتطلبونه ويستنسخونه. على أن الديوان لم يستوعب شعره كله بل لايزال عند بعض الحريصين على الأدب قسم منه غير مطبوع. وفي تتمة أمل الآمل: كان فاضلاً متكلماً حكيماً أديباً شاعراً مفلقاً تقدم على جميع شعراء عصره وقال في « التتمة » عن القصيدة الهائية: كانت تزيد على ألف بيت أكلت الأرضة جملة منها كانت النسخة موضوعة في دولاب خوفاً عليها ولما أخرجوها وجدوا جملة منها قد تلف فقدموها إلى السيد صدر الدين العاملي فأخرج منها هذا الموجود اليوم الذي خمسه الشيخ جابر.

وإليك نبذة صغيرة من شعره الذي أصبح يدور على الألسن كالأمثال السائرة: منها قوله:

وما أسفي على الدنيا ولكن

على ابل حداها غير حاد

وقوله:

وقد تأتي الخديعة من صديق

كما تأتي النصيحة من معاد

__________________

1 - قال الشيخ محمد محرز الدين في ( معارف الرجال ) جاء في هدية الأحباب، عن شيخ الفقهاء صاحب كتاب ( جواهر الكلام ) انه كان يتمنى أن تكون القصيدة الأزرية في صحيفة أعماله، وكتاب الجواهر في صحيفة أعمال الأزري.

٣٢

وقوله:

إن من كان همه في المعالي

هجر الظل واستظل الهجيرا

وقوله:

لا تعجبا لفساد كل صحيحة

فالناس في زمن كجلد الأجرب

وقوله:

لا تنوحي إلا علي لديهم

ما على كل من يموت يناح

وقوله:

ولسوف يدرك كل باغ بغيه

المرء ينسى والزمان يؤرخ

وقوله:

ذريتي أذق حر الزمان وبرده

فلا خير فيمن عاقة الحر والبرد

وقوله:

فتيقظ إذا رأيت عيون

الحظ يقظى ونم إذا الحظ ناما

وقوله:

ولو كان في الجبن استراحة أهله

لما سهرت عين القطا وغفى الرند

أما ملحمته الشهيرة التي استهلها بقوله:

لمن الشمس في قباب قباها

شف جسم الدجى بروح ضياها

فقد تضمنت كثيراً من الأمثال والروائع وهي من أروع ما قيل في مدح الرسول الأعظم وعترته الطيبين وهي على جانب كبير من الجزالة والبلاغة وقوة

٣٣

الاحتجاج وقد طبعت غير مرة مع تخميسها، بالحروف الحجرية أولاً ثم أعيدت مرة بعد مرة.

أقول وان والديوان المشار إليه فيه اغلاط كثيرة وجملة من الأشعار منسوبة له ولم تصح هذه النسبة كالبيتين الواردتين في ديوانه - حرف الراء ص 125.

قالوا حبيبك ملسوع فقلت لهم

من عقرب الصدغ أم من حية الشعر

قالوا بلى من أفاعي الأرض قلت لهم

فكيف ترقى أفاعي الأرض للقمر

وقد أثبتهما الحافظ الدميري في ( حياة الحيوان ) قبل أن يولد الأزري بقرون وذلك في مادة ( العقرب ) ولا يخفى ان وفاة الدميري كانت لسنة 808 ولم يذكر الدميري صاحبهما بل جاء بهما على سبيل الاستشهاد فقال:

وإليك جملة من روائع الأزري في الإمام الحسين (ع):

هي المعالم ابلتها يد الغير

وصارم الدهر لا ينفك ذا أثر

يا سعد دع عنك دعوى الحب ناحية

وخلني وسؤال الارسم الدثر

أين الأولى كان اشراق الزمان بهم

اشراق ناحية الآكام بالزهر

جار الزمان عليهم غير مكترث

وأي حر عليه الدهر لم يجر

وكم تلاعب بالأمجاد حادثة

كما تلاعبت الغلمان بالأكر

لا حبذا فلك دارت دوائره

على الكرام فلم تترك ولم تذر

وان ينل منك مقدار فلا عجب

هل ابن آدم الا عرضة الخطر

وكيف تأمن من مكر الزمان يدا

خانت بآل علي خيرة الخير

أفدي القروم الأولى سارت ركائبهم

والموت خلفهم يسري على الأثر

ما أبرقت في الوغى يوماً سيوفهم

إلا وفاض سحاب الهام بالمطر

يسطو بكل هلال كل بدر دجى

بجنح ليل من الهيجاء معتكر

هم الاسود ولكن الوغى اجم

ولا مخالب غير البيض والسمر

٣٤

ثاروا ولولا قضاء الله يمسكهم

لم يتركوا لبني سفيان من أثر

أبدوا وقائع تنسي ذكر غيرهم

والوخز بالسمر ينسي الوخز بالأبر

غر المفارق والأخلاق قد رفلوا

من المحامد في أسنى من الحبر

لله من في فيافي كربلاء ثووا

وعندهم علم ما يجري من القدر

سل كربلا كم حوت منهم بدور دجى

كأنها فلك للأنجم الزهر

لم أنس حامية الاسلام منفردا

صفر الأنامل من حام ومنتصر

رأى قنا الدين من بعد استقامتها

مغموزة وعليها صدع منكسر

فقام يجمع شملا غير مجتمع

منها ويجبر كسراً غير منجبر

لم انسه وهو خواض عجاجتها

يشق بالسيف منها سورة السور

كم طعنة تتلظى من أنامله

كالبرق يقدح من عود الحيا النضر

وضربة تتجلى من بوارقه

كالشمس طالعة من جانبي نهر

وواحد الدهر قد نابته واحدة

من النوائب كانت عبرة العبر

من آل أحمد لم تترك سوابقه

في كل آونة فخراً لمفتخر

اذا نضى بردة التشكيل عنه تجد

لاهوت قدس تردى هيكل البشر

ما مسه الخطب الا مس مختبر

فما رأى منه إلا اشرف الخبر

فأقبل النصر يسعى نحوه عجلا

مسعى غلام إلى مولاه مبتدر

فأصدر النصر لم يطمع بمورده

فعاد حيران بين الورد والصدر

يا من تساق المنايا طوع راحته

موقوفة بين قوليه خذي وذري

لله رمحك اذ ناجى نفوسهم

بصادق الطعن دون الكاذب الأشر

يا ابن النبيين ما للعلم من وطن

الا لديك وما للحلم من وطر

يا نيرا راق مرآه ومخبره

فكان للدهر ملء السمع والبصر

لاقاك منفرداً أقصى جموعهم

فكنت أقدر من ليث على حمر

صالوا وصلت ولكن أين منك هم

ألنقش في الرمل غير النقش في الحجر

لم تدع آجالهم إلا وكان لهم

جواب مصغ لأمر السيف مؤتمر

حتى دعتك من الأقدار أشرفها

إلى جوار عزيز الملك مقتدر

٣٥

فكنت أسرع من لبى لدعوته

حاشاك من فشل فيها ومن خور

إن يقتلوك فلا عن فقد معرفة

الشمس معروفة بالعين والأثر

لم يطلبوك بثار أنت صاحبه

ثار لعمرك لو لا الله لم يثر

أي المحاجر لا تبكي عليك دما

ابكيت والله حتى محجر الحجر

لهفي لرأسك والخطار يرفعه

قسرا فيطرق رأس المجد والخطر

قد كنت في مشرق الدنيا ومغربها

كالحمد لم تغن عنها سائر السور

ما انصفتك الظبى يا شمس دارتها

إذ قابلتك بوجه غير مستتر

ولا رعتك القنا يا ليث غابتها

إذ لم تذب لحياء منك أو حذر

كم خضت فيها بيوم الروع معمعة

ينبو بها غرب حد الصارم الذكر

فعاد خصمك والخذلان يتبعه

وعدت ترفل في برد من الظفر

اين الظبي والقنا مما خصصت به

لولا سهام اراشتها يد القدر

أما درى الدهر مذوافاك مقتنصاً

بأن طائره لولاك لم يطر

يا صفقة(1) الدين لم تنفق بضاعتها(2)

في كربلاء ولم تربح سوى الضرر

وموسما للوغى في كربلاء جرى

ببيعة فاز فيها كل متجر

أنظر إلى الدهر قد شلت أنامله

والعلم ذو مقلة مكفوفة البصر

وأصبحت عرصات العلم دارسة

كأنها الشجر الخالي من الثمر

يادهر حسبك ما أبديت من غير(3)

أين الأسود أسود الله من مضر

أمسى الهدى والندى يستصر خان لهم(4)

والقوم لم يصبحوا إلا على سفر

يا دهر مالك ترمي كل ذي خطر

عن المناكب بعد العز في الحفر

جررت آل علي في القيود فهل

للقوم عندك ذنب غير مغتفر

تركت كل كمي من ليوثهم

فرائساً(5) بين ناب الكلب والظفر

__________________

1 - واصفقة خ ل

2 - بضاعته خ ل.

3 - عبر خ ل.

4 - بهم خ ل.

5 - فريسة خ ل.

٣٦

أما ترى علم الاسلام بعدهم

والكفر ما بين مطوي ومنتشر

من ذاكر لبنات المصطفى مقلا

قد ولكتها يد الضراء بالسهر

وكيف أسلو لآل الله أفئدة

يعار منها جناح الطائر الذعر

هذى نجائب للهادي تقلقلها

ايدي النجائب من بدو ومن حضر

وهذه حرمات الله تهتكها

خزر الحواجب هتك النوب والخزر

لم انس من عترة الهادي جحاجحة

يسقون من كدر يكسون من عفر

قد غير الطعن منهم كل جارحة

الا المكارم في أمن من الغير

هم الأشاوس تمضي كل آونة

وذكرهم غرة في جبهة السير

من المعزي نبي الله في ملأ

كانوا بمنزلة الأرواح للصور

أن يتركوا زينة الدنيا فانهم

من حضرة الملك الأعلى على سرر

وان أبوا لذة الأولى مكدرة

فقد صفت لهم الأخرى من الكدر

انى تصيب الليالي بعدهم غرضاً

والقوس خالية من ذلك الوتر

بني أمية لا تسري الظنون بكم

فان للثأر ليثا من بني مضر

سيفا من الله لم تفلل مضاربه

يبري الذي هو من دين الإله بري

كم حرمة هتكت فيكم لفاطمة

وكم دم عندكم للمصطفى هدر

أين المفر بني سفيان من أسد

لو صاح بالفلك الدوار لم يدر

مؤيد العز يستسقى الرشاد به

انواء عز بلطف الله منهمر

وينزل الملأ الأعلى لخدمته

موصولة زمر الأملاك بالزمر

يا غاية الدين والدنيا وبدءهما

وعصمة النفر العاصين من سقر

ليست مصيبتكم هذي التي وردت

كدراء أول مشروب لكم كدر

لقد صبرتم على أمثالها كرماً

والله غير مضيع أجر مصطبر

فهاكم يا غياث الله مرثية

من عبد عبدكم المعروف بالأزري

يرجو الاغاثة منكم يوم محشره

وأنتم خير مدخور لمدخر

سمي كاظمكم اهدى لكم مدحاً

اصفى من الدر بل أنقى من الدرر

حييتم بصلاة الله ما حييت

يذكركم صفحات الصحف والزبر

٣٧

السيد سليمان الكبير

سرت تطوي الوهاد إلى الروابي

ولا تهوى الهشيم ولا الجوابي

نفور من بنات العيس تفري

مهامه دونها شيب الغراب

تعير الريح اخفاقاً خفاقاً

وتغني بالسراب عن الشراب

تريك الجيد قائمة فتلقى

على خمس تسير من الهباب

تلوح على الربي نسراً وتهوي

هوي المصلتات إلى الرقاب

تمر على الحزون كومض برق

تألق بين مركوم السحاب

تخال ذميلها في السهل سرباً

من الكدري فر من العقاب

وإن وخدت بجرعاء وتلع

تلوت بينها مثل الحباب

تسيح على الفيافي القفر تطوي

مفاوز عاريات من ذئاب

تراها إن حدوت لها ظليماً

تذعر بين هاتيك الشعاب

تعير الريم لفتتها وتضوي

بأعضاد من التبر المذاب

فإن تشنق لها خرمت أو أن

لها أسلست تهوى في العذاب

فدعها والمسير فحيث تهوى

طلاب دونه أعلى الطلاب

إلى ظل الإله وسر قدس

تلألأ من ذرى أعلى الحجاب

إلى البطل الكمي وبحر جود

سواحله الندى دون العباب

إلى علم الهدى ومنار فضل

إلى بحر الندى فصل الخطاب

٣٨

إلى نور العلي ومن لديه

علي وهو في أم الكتاب

صراط مسقيم بل حكيم

بأمر الله في يوم الحساب

قسيم النار والجنات بين

الخلائق كلها يوم المئاب

إلى من قال فيه الله بلغ

لأحمد بعد تعظيم العتاب

وإلا لم تكن بلغت عني

ولم تك سامعاً فيه جوابي

فقام له بها بغدير خم

خطيباً معلناً صوت الخطاب

ألا من كنت مولاه فهذا

له مولى ينوب بكم منابي

فوالي من يواليه وعادي

معاديه ومن لعداه صابي

بأمر الله قوموا بايعوه

على نهج الهداية والصواب

فبايعه الجميع وما تأنى

شريف أو دني أو صحابي

فمنهم مؤمن سراً وجهراً

ومنهم من ينافق في ارتياب

ومنهم من أبى ويقول جهراً

نبيكم بها أضحى يحابي

فلما كذبوا المختار فيها

هوى النجمان يا لك من عجاب

فبرهانان ذانك من إلهي

لحيدرة فأيهما المحابي

أمن في داره أمسى منيراً

أم الهاوي لتعجيل العذاب

ومن أفق السما قد خر نجم

على الشيطان يهوي كالشهاب

لذلك أنزل الرحمن فيه

لسورة سائل سوء العذاب

له الآيات في الآيات تتلى

بمحكمها وتأويل الصواب

كيوم أكمل الإسلام فيه

ونعمته تتم بلا ذهاب

معاجز حارت الأوهام فيها

فلا تحصى بعد أو حساب

وأن المصطفى للعلم دار

وحيدر سورها بل خير باب

وكلهم أحمداً جمل وضب

وخاطب حيدراً خرس الذياب

وثعباناً وليثاً ثم موتى

رماماً قد بلوا تحت التراب

وشق البدر للهادي وردت

ذكاء للوصي المستطاب

٣٩

حسام الله خافض كل رفع

من الاشراك من بعد انتصاب

صفاتك معجزات معجزات

ذوي الألباب توقع في ارتياب

متى راموا حقايقها يضلوا

عن التوحيد في تيه التصابي

وان يجهلها أبداً ضلالاً

عن الاسلام بل أي انقلاب

ألا يامحنة الألباب أنى

بحدك ذو ذكاء فيك صابي

فيالك محنة للخلق عظمى

ورحمتها ويالك من عذاب

وصاعقة على الأبطال تهوي

من الآفاق طوراً كالعقاب

وطوراً تحصب الفرسان حصباً

مبيراً في الذهاب وفي الإياب

بذلت لأحمد نفساً تسامت

وحزت ببذلها كل الثواب

جزاك الله عنه كل خير

أبا الحسنين من حصن مهاب

أبا الحسنين يانعم المنادى

إذا دهم المصاب على المصاب

يعز عليك لو تلقى حسيناً

رميلاً فوقه يجثو الضبابي

قتيلاً ظامياً والماء أضحى

مباحاً للذئاب وللكلاب

غسيلاً بالدماء لقاً جريحاً

على الرمضاء ووايلاه كابي

ولو شاهدت يا مولاي لما

دهى نسوانه هول المصاب

برزن من الخيام مهتكات

نوادب بعد صون واحتجاب

تخال نساءه لما تبدت

شموساً قد برزن من الحجاب

وكل نادب واعظم كربي

وواذلاه واطول اكتئابي

ثواكل لا تجف لها دموع

محسرة على حسر الركاب

فذي تنعى عليه بلا قناع

وذي تبكي عليه بلا نقاب

وهذي نادب واطول حزني

ووجدي باحتراق وانتحاب

سبايا بين شر الناس تسري

على قتب مسلبة الثياب

بنات محمد أضحت أسارى

حيارى بعد سبي واستلاب

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

الالتفات إلى أنّ «الربا» معناه في الأصل «الزيادة».

فالتّفسير الأوّل ، وهو أوضح من جميع التفاسير ، ومنسجم مع مفهوم الآية أكثر ، ومتناسق مع الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، أن المراد من الربا هو الهدايا التي يقدمها بعض الأفراد للآخرين ، ولا سيما إلى أصحاب الثروة والمال ، كي ينالوا منهم أجرا أحسن وأكثر!

وبديهي أنّه في مثل هذه الهدايا لا يؤخذ بنظر الاعتبار استحقاق الطرف الآخر ولا الجدارة والأولوية ، بل كل ما يهدف اليه أن تصل الهدية إلى مكان ، تعود على مهديها بمبلغ أوفر ومن الطبيعي أن مثل هذه الهدايا ليس فيها «جنبة» إخلاص ، فلا قيمة لها من الجهة الأخلاقية ، والمعنوية!.

فعلى هذا يكون معنى «الربا» في هذه الآية هو «الهدية والعطية» والمراد من جملة( لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ) هو أخذ الأجر الوافر من الناس!

ولا شك أن أخذ مثل هذه الأجرة ليس حراما ، إذ ليس فيه شرط أو قرار ، إلّا أنّه فاقد للقيمة الأخلاقية والمعنوية ولذلك فقد ورد التعبير عن هذا الربا ـ في روايات متعددة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في مصادر معروفة ، بـ «الربا الحلال» في قبال «الربا الحرام» الذي يستلزم الشرط والعقد أو الاتفاق.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب تهذيب الأحكام ، في تفسير الآية هو قولهعليه‌السلام : «هو هديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منهما ، فذلك ربا يؤكل»!

كما نقرأ حديثا آخر عنهعليه‌السلام «الربا رباءان ، أحدهما حلال والآخر حرام ، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل أخاه قرضا يريد أن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا يأخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه على غير شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله :( فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ) وأمّا الحرام فالرجل

٥٤١

يقرض قرضا ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام».(١)

وهناك تفسير آخر لهذه الآية ، وهو أن المراد من الربا في هذه الآية هو الربا الحرام ، وطبقا لهذا التّفسير فإن القرآن يريد أن يقيس الربا بالإنفاق الخالص لوجه الله ، ويبين أن الربا وإن كان ظاهره زيادة المال ، إلّا أنّه ليس زيادة عند الله ، فالزيادة الحقيقية والواقعية هي الإنفاق في سبيل الله.

وعلى هذا الأساس فقد عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإرشاد الأخلاقي والنصح ، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية «وكانت لنا إشارة أيضا في الجزء الثّاني من التّفسير الأمثل على هذا الأساس».

وبالطبع ليس بين المعنيين أيّ تضاد ، ويمكن أن تؤخذ الآية بمعناها الواسع الذي يجمع «الربا الحلال» و «الربا الحرام» ويقاس كلاهما بالإنفاق في سبيل الله ، إلّا أن تعبيرات الآية أكثر انسجاما مع التّفسير الأول ، لأنّ الظاهر من الآية هنا أن عملا قد صدر ليس فيه ثواب ، وهو مباح ، لأنّ الآية تقول : إن هذا العمل لا يربو عند الله ، وهذا يتناسب مع الربا الحلال الذي ليس فيه وزر ولا ثواب ، وليس شيئا يستوجب مقت الله وغضبه وقد قلنا : إن الروايات الإسلامية ناظرة إلى هذا المعنى.

وينبغي الإشارة إلى هذه اللطيفة اللغوية ، وهي أنّ كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل ، لا تعني أنّهم يزيدون ويضعفون بأنفسهم للمال ، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف ، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول ، مثل «الموسر» أي : صاحب المال الكثير.

وينبغي أيضا أن يعرف بالنظرة البعيدة أن المراد من الضعف والمضاعف

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩١.

٥٤٢

ليس معناه «مثل الشيء مرّتين» بل يشمل المثل مرتين ويشمل أمثال الشيء ، والحدّ الأقل في الآية هنا عشرة أمثال ، لأنّ القرآن يقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .(١)

وتبلغ الزيادة أحيانا كما في القرض إلى ثمانية عشر كما نقرأ في هذا حديثا للإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «على باب الجنّة مكتوب : القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر».(٢)

وقد تبلغ الزيادة إلى سبعمائة «ضعف» كما هو في شأن الإنفاق في سبيل الله ، إذ تقول الآية :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) (٣)

وفي الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ عودة أخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، وهي الموضوع الأساس الذي ورد في كثير من آيات هذه السورة وتصف الآية «الله» بأربعة أوصاف لتكون إشارة للتوحيد ومواجهة الشرك ، ودليلا على المعاد أيضا فتقول :( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ومن المسلّم به أن المشركين لم يكن أيّ منهم يعتقد بأن الخلق كان من قبل الأوثان ، أو أن أرزاقهم بيد الأوثان والأصنام ، أو أن نهاية حياتهم بأيدي هذه الأوثان كذلك!! بل لأنّهم جعلوا هذه الأوثان المصنوعة واسعة وشفعاء بينهم وبين الله ، فعلى هذا يكون الجواب على هذه الأسئلة هو النفي ، والاستفهام هنا استفهام إنكاري!.

الموضوع الآخر الذي يثير السؤال هنا هو أن أولئك المشركين لم يكونوا

__________________

(١) الأنعام ، الآية ١٦٠.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١٩٠.

(٣) البقرة ، الآية ٢٦١.

٥٤٣

يعتقدون بالحياة بعد الموت ، فكيف يستند القرآن في آخر وصف لله تعالى إلى ذلك؟!

لعل هذا التعبير هو لأنّ مسألة المعاد والحياة بعد الموت ـ كما ذكرناها في بحوثنا المتقدمة ـ لها «جنبة» فطريّة ، والقرآن هنا لا يستند إلى معتقداتهم ، بل إلى فطرتهم.

إضافة إلى ذلك فقد يتفق أن متكلما ذلقا حين يواجه شخصا آخر ينكر موضوعا ما ، فيستدرجه بما لديه من حقائق يتقبلها ذلك الآخر ويستند إليها بشكل قطعي ليظهر أثرها ، وينزل صاحبه من مركب الإنكار.

ثمّ بعد هذا كله فإن بين الحياة الأولى من قبل الله وقدرته على ذلك ، والحياة بعد الموت رابطة لا تقبل الانفصام ، ومع ملاحظة هذه الرابطة المنطقية فإن «كلا الأمرين» جاءا في عبارة واحدة.

وعلى كل حال فإن القرآن يقول : عند ما يكون الخلق والرزق والموت والحياة بيد الله ، فالعبادة ينبغي أن تكون له فقط ، ويكشف هذه الحقيقة بقوله :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وهي أنّ المشركين أهانوا كثيرا مقام رب العزة إذ أشركوه في العبادة مع أوثانهم.

* * *

٥٤٤

الآيات

( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) )

التّفسير

أساس الفساد ومصدره أعمال الناس أنفسهم :

كان الكلام في الآيات السابقة عن الشرك ، ونعلم أنّ أساس جميع المفاسد هو الغفلة عن أصل التوحيد والتوجه نحو الشرك ، لذلك فإنّ القرآن ـ في هذه الآيات محل البحث ـ يتحدث عن ظهور الفساد في الأرض بسبب أعمال الناس أنفسهم ، فيقول :( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) .

والله يريد أن يريهم ما قدموه و( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ

٥٤٥

يَرْجِعُونَ ) .

والآية الآنفة الذكر تبيّن المعنى الواسع حول ارتباط الفساد بالذنب ، الذي لا يختصّ بأرض «مكّة» والحجاز ، ولا بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو من قبيل القضية الحقيقية التي تبيّن العلاقة بين الموضوع والمحمول!

وبعبارة أخرى : حيثما ظهر الفساد فهو انعكاس لأعمال الناس وفيه ـ ضمنا ـ هدف تربوي ، ليذوق الناس «طعم العلقم» نتيجة أعمالهم ، لعلهم ينتهون ويثوبون إلى رشدهم!

ويقول بعضهم : إنّ هذه الآية ناظرة إلى القحط و «الجدب» الذي أصاب المشركين بسبب دعاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على مشركي مكّة! فانقطعت المزن ويبست الصحاري ، وصار من الصعب عليهم الصيد من البحر الأحمر أيضا.

وعلى فرض أن يكون هذا الكلام صحيحا تاريخيا ، إلّا أنّه بيان لأحد المصاديق ولا يحدد معنى الآية في مسألة ارتباط الفساد بالذنب ، فهي ليست محدّدة بذلك الزمان والمكان ، ولا بالجدب وانقطاع «الغيث».

وممّا ذكرناه آنفا يتّضح جيدا أنّ كثيرا من التّفاسير المحدودة والضيقة التي نقلها بعض المفسّرين في ذيل الآية غير مقبولة بأي وجه.

كما فسّروا الفساد في الأرض بأنّه قتل «هابيل» على يد «قابيل» ، أو أن المراد بالفساد في البحر هو غصب السفن في عصر موسى ، والخضرعليهم‌السلام .

أو أنّ المراد من الفساد في البر والبحر هو ظهور الحكّام المتسلطين الفاسدين الذين يشيعون الفساد في جميع هذه المناطق!.

وبالطبع فإنّ الممكن أن تكون مصاديق الآية مثل هؤلاء الأفراد الذين يتسلطون على الناس نتيجة الدنيا والمجاملة وجرّ الناس للذل ، ولكن من المسلّم به أن هذا المصداق لا يعني تخصيص مفهوم الآية!.

كما أنّ جماعة من المفسّرين بحثوا في معنى الفساد في البحر أيضا ، فقال

٥٤٦

بعضهم : المراد بالبحر هو المدن التي إلى جانب البحر ، وقال بعضهم : إنّ المراد بالبحر هو «المناطق المخصبة ذات البساتين والأثمار».

ولا نجد دليلا على هذه التمحّلات ، لأنّ البحر معناه معروف ، والفساد فيه لعله قلّة المواهب البحرية ، أو عدم الأمن فيه ، أو الحروب البحرية.

ونقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام في هذا الصدد «حياة دواب البحر بالمطر ، فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البحر والبرّ ، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي»(١) .

وبالطبع فإنّ ما ورد في هذه الرواية هو مصداق واضح للفساد وما ورد في شأن نزول المطر «وحياة دواب البحر به» فهو موضوع دقيق ، تؤكّد عليه التجربة ، فكلما قلّ ماء السماء «المطر» قل السمك في البحر ، حتى أنّنا سمعنا ممن يقطنون ساحل البحر يقولون: إن فائدة الغيث للبحر أكثر من فائدته للصحراء!.

وفي الآية التالية يأمر الله الناس بالسير في الأرض ليروا شواهد كثيرة «حيّة» من مسألة ظهور الفساد في الأرض بسبب المعاصي والذنوب من قبل الناس. ويوصي نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأمرهم بذلك ، فيقول :( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) .

انظروا قصور «الظالمين» المتهدمة ، وأبراجها المتداعية والخزائن المطموسة ، وجماعاتهم المتفرقة ، ثمّ انظروا إلى قبورهم المدروسة وعظامهم النخرة!

وانظروا عاقبة أمر الظلم والشرك وما آلى إليه.

أجل( كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) .

والشرك أساس الفساد والانحراف والضلال!

ممّا يستلفت الانتباه ، أنّه حين كان الكلام في الآيات السابقة عن نعم الله ،

__________________

(١) تفسير القمي : طبقا لنقل تفسير الميزان ، ج ١٦ ، ص ٢١٠.

٥٤٧

كانت بدايته حول خلق الإنسان ثمّ رزقه من قبل الله( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ) إلّا أن الكلام في الآيات محل البحث التي تتحدث عن العقاب يبدأ الكلام فيها أوّلا بالإشارة إلى زوال النعم على أثر المعاصي والذنوب ، ثمّ الهلاك على أثر الشرك ، لأنّه عند الهبة والعطاء «أوّل الأمر يذكر الخلق ثمّ الرزق» وعند الاسترجاع ، «فأوّل الأمر زوال النعمة ثمّ الهلاك».

والتعبير بـ( كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) مع الالتفات إلى أنّ هذه السورة مكّية وكان المسلمون في ذلك الوقت قلّة ، فلعل ذلك إشارة إلى أن لا تخافوا من كثرة المشركين ، لأنّ الله أهلك من قبلهم من هو أشدّ منهم ، واكثر جمعا ، وهو في الوقت ذاته إنذار للطغاة ليسيروا في الأرض فينظروا بأم أعينهم عاقبة الظالمين من قبلهم!.

وحيث أن التصور والوعي والانتباه ، ثمّ العودة والإنابة إلى الله ، كل ذلك لا يكون ـ دائما ـ مفيدا ومؤثرا ، ففي الآية التالية يوجه القرآن الخطاب للنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلا :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) (١) أي يتفرقون «فريق في الجنّة وفريق في السعير».

ووصف الدين بأنه «قيّم» مع ملاحظة أن «القيّم معناه الثابت والقائم» هو إشارة إلى أن هذا التوجه المستمر «أو الإقامة» هي للدين أي لأنّ الإسلام دين ثابت ومستقيم وذو نظام قائم في الحياة المادية والمعنوية للناس ، فلا تمل عنه أبدا ، بل أقم وجهك للدين القيم!

وإنّما وجه الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ليعرف الآخرون واجبهم ووظيفتهم أيضا.

__________________

(١) كلمة «مردّ» في جملة «لا مرد له من الله» مصدر ميمي وهو هنا بمعنى اسم الفاعل فيكون معنى الجملة : لا رادّ له من الله. والضمير في «له» يعود إلى «يوم» ويكون المفهوم العام للجملة. لا يستطيع أي كان أن يعيد ذلك اليوم من الله ، أي يقف بوجه القضاء والمحاكمة بتأخير ذلك اليوم و «تعطيله». والخلاصة : إنّه لا يخلف الله وعده ليعيد ذلك اليوم ، وليس لأحد سواه القدرة على ذلك ؛ فوقوع ذلك اليوم لا بدّ منه وهو يوم محتوم» (فلاحظوا بدقة).

٥٤٨

والتعبير بـ «يصدعون» من مادة «صدع» معناه في الأصل : كسر الإناء ، ثمّ انتقل بالتدريج إلى أي نوع من أنواع التفرق والتشتت. وهنا إشارة إلى انفصال صفوف أهل الجنان عن صفوف أهل النيران ، وكل من هذه الصفوف يتفرق إلى عدة صفوف ، وذلك لسلسلة المراتب في الجنان ، ودركات النيران «والعياذ بالله».

والآية التالية ـ بيان لهذا الانفصال في يوم القيامة ، إذ تقول :( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) .

كلمة «يمهدون» مشتقّة من «المهد» على زنة «عهد» وكما يقول الراغب في مفرداته فإنّ معناه السرير المعدّ للطفل ، ثمّ توسعوا في المعنى فصار المهد والمهاد لكل مكان مهيأ ومعد «وفيه منتهى الدعة والراحة» وقد انتخب هذا التعبير لأهل الجنّة والمؤمنين الصالحين ، من هذه الجهة.

والخلاصة : لا تحسبوا أن إيمانكم وكفركم وأعمالكم الصالحة والطالحة لها أثر على الله ، بل أنتم الذين تفرحون بها أو تساءون( يَوْمَ تَرَوْنَها ) .

ومن الطريف أنّ القرآن اكتفى في شأن الكفار بالتعبير بـ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) ولكن بالنسبة للمؤمنين تضيف الآية التالية : أن المؤمنين لا يرون أعمالهم فحسب ، بل يوليهم الله من مواهبه وفضله فيقول :( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) .

ومن المسلّم به أن هذا الفضل لا يشمل الكفار إذ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) ولا شكّ أنّ الله يعاملهم وفق عدالته ، ويجزيهم ما يستحقون ، لا أكثر ، لكن لا ينالهم منه فضل وموهبة أيضا.

* * *

٥٤٩

بحوث

١ ـ العلاقة بين الذنب والفساد

ممّا لا شك فيه أن كل ذنب يترك أثره في المجتمع ، كما يترك أثره في الأفراد عن طريق المجتمع أيضا ويسبب نوعا من الفساد في التنظيم الاجتماعي ، فالذنب والعمل القبيح ، وتجاوز القانون ، مثلها كمثل الغذاء السيء والمسموم ، إذ يترك أثره غير المطلوب والسيء في البدن شئنا أم أبينا ، ويقع الإنسان فريسة للآثار الوضعية لذلك الغذاء المسموم.

«الكذب» يسلب الاعتماد.

و «خيانة الأمانة» تحطّم الروابط الاجتماعية.

و «الظلم» يسبب إيذاء الآخرين وظلمهم.

والإفراط في الحرية يجرّ إلى الديكتاتورية ، والديكتاتورية تجر إلى الإنفجار.

و «ترك حقوق المحرومين» يورث العداوة والحقد والبغضاء ، و «تراكم الأحقاد والعداوات» يزلزل أساس المجتمع!.

والخلاصة ، أن كلّ عمل غير صحيح له أثره السيّء سواء كان ذلك في دائرة محدودة أم واسعة ، وأحد تفاسير الآية( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) هو هذا (وهذا يبيّن العلاقة الطبيعية بين الذنب والفساد ـ «هنا»).

إلّا أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ كثيرا من الذنوب ـ إضافة لما ذكرنا ـ تجلب معها سلسلة من الآثار السيئة ، وعلاقتها وارتباطها مع تلك الآثار ـ من الناحية الطبيعية على الأقل ـ غير معروفة.

فمثلا ورد في الرّوايات الإسلامية أن قطع الرحم يقصر العمر ، وأن أكل المال الحرام يورث ظلمة القلب ، وأن كثرة الزنا يورث فناء الناس ويقلل الرزق(١) .

__________________

(١) في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «للزنا عقوبات ثلاث منها في الدنيا وثلاث في الآخرة ، فأمّا العقوبات فى

٥٥٠

حتى أنّنا لنقرأ حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يقول فيه : «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال»(١)

وقد ورد في القرآن نظير هذا المعنى في تعبير آخر ، حيث يقول القرآن :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

إذن فالفساد ـ في الآية محل البحث ـ هو الفساد الأعمّ «الذي يشمل المفاسد الاجتماعية ، والبلايا ، وسلب النعم والبركات».

وممّا يستلفت الانتباه أن الآية المتقدمة يستفاد منها ضمنا أن واحدا من حكم الآفات والبلايا تأثيرها التربوي على الناس ، إذ عليهم أن يروا رد الفعل الناتج من أعمالهم ليفيقوا من نومهم وغفلتهم ، ويعودوا إلى الطهارة والتقوى!

ولا نقول : إنّ جميع الشرور والآفات هي من هذا القبيل ، ولكننا نقول : إن قسما منها ـ على الأقل ـ فيه هذه الحكمة والغاية وبالطبع فإنّ له حكمة أخرى بحثناها في محلها.

٢ ـ فلسفة السير في الأرض

لقد وردت مسألة «السير في الأرض» ست مرات في القرآن المجيد ، (في سورة آل عمران والأنعام والنحل والنمل والعنكبوت والروم) حيث وردت مرّة بقصد التفكر في أسرار الخلق (سورة العنكبوت الآية ٢٠) وخمس مرات بقصد العبرة من العواقب الوخيمة التي نالها الظالمون والجبابرة والطغاة الآثمون!

__________________

الدنيا فإنه يسلب النور من الإنسان ، ويبتله بموت الفجأة ، ويقطع الرزق. وأمّا التي في الآخرة فهو على سوء الحساب وغضب الله والخلود في نار جهنم» (سفينة البحار ـ مادة زنى).

(١) سفينة البحار (مادة ذنب).

(٢) الأعراف ، الآية ٩٦.

٥٥١

والقرآن يهتمّ بالمسائل العينية والحسية ـ التي يمكن لمس آثارها في الأمور التربوية ـ اهتماما خاصا ، ولا سيما أنّه يأمر المسلمين أن ينطلقوا من محيطهم المحدود إلى المدى الأرحب ، ويسيروا ويسيحوا في هذا العالم ، وليفكروا في أعمال الآخرين وسجاياهم وعواقب أمورهم ، وأن يستوحوا من هذه «الحياة» العابرة «ويدخروا ذخيرة قيمة» من العبرة والاطلاع!

إنّ القوى الشيطانية في العصر الحاضر ـ من أجل سعة استثمارها في العالم كافة ـ مشطت وفحصت جميع الدول والبلدان والأمم وطريقة حياتهم وثقافتهم ونقاط القوّة والضعف فيهم بصورة جيدة.

إنّ القرآن يقول : بدلا من هؤلاء المستكبرين سيروا أنتم في أرجاء الأرض وبدلا من خططهم ومؤامراتهم الشيطانية تعلموا دروسا رحمانية.

العبرة والإعتبار من حياة الآخرين أهم من التجارب الشخصية وأكثر قيمة ، لأنّ الإنسان ينبغي أن يتحمل خلال تجاربه أضرارا ليتعلم مسائل جديدة إلّا أن الإنسان عند استلهام العبرة من الآخرين يربح معارف جمة وثمينة دون أن يتحمل ضررا.

وأمر القرآن بالسير في الأرض ينطبق على أكمل الأساليب والطرق التي حصل عليها البشر في العصر الحاضر ، وذلك بأن يأخذوا بأيدي التلاميذ ـ بعد استيعاب المسائل في الكتب ـ ويسيروا في الأرض ، ويطالعوا الشواهد العينية التي قرءوها في الكتب!

وبالطبع فهناك اليوم نوع آخر من السير في الأرض بعنوان «السياحة» في العالم ، وذلك من قبل «الحضارة الشيطانية» لجلب الأموال والثروة «الحرام» التي راجت سوقها ، وغالبا ما تكون فيها أهداف منحرفة وتضليلية ، كنقل الثقافة السقيمة وإشاعة الهوى والسفاهة والحماقة واللهو هذه هي «السياحة المخربة»!

٥٥٢

ولكن الإسلام يؤيد السياحة التي تكون وسيلة لنقل الثقافات الصحيحة والتجارب المتراكمة ، واستكناه أسرار الخلق في عالم البشر وعالم الطبيعة ، واستلهام دروس العبرة من عواقب المفسدين والظالمين الوخيمة.

ولا بأس بالإشارة إلى أنّ هناك سياحة منعها الإسلام ونقرأ حديثا يقول : «لا سياحة في الإسلام»(١) .

والمراد من هذا الحديث هو في جميع سنوات حياتهم ـ أو بعضها ـ منفصلين عن الحياة الاجتماعية تماما ، ودون أن يكون لهم نشاط ملحوظ ، فهم يسيحون في الأرض ويعيشون كالرهبان! فيكونون عالة على الآخرين.

وبتعبير آخر : إنّ عمل هؤلاء بمثابة «الرهبانية السيارة» مقابل الرهبان الثابتين المنزوين في الدير والمنعزلين عن المجتمع ، وحيث أن الإسلام يخالف هذا الاتجاه والانزواء الاجتماعي ، فهو يعد هذه «السياحة» غير مشروعة أيضا.

٣ ـ الدين القيّم

كان الخطاب في الآيات المتقدمة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل تمام توجهه نحو الدين المستقيم والثابت ، الذي ليس فيه اعوجاج ولا انحراف ولا تزلزل في قواعده أبدا.

ومن الطريف أن تعبيرات أخرى في آيات القرآن المتعددة جاءت بصدد هذا الدين ، ففي الآية (١٠٥) من سورة يونس جاء التعبير عنه بالحنيف( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) .

وفي الآية (٣) من سورة الزمر وصف بالخالص( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) .

__________________

(١) مجمع البحرين مادة «سيح» ، وفي حديث آخر عن النّبي العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الكتاب نفسه نقرأ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سياحة أمتي الغزو والجهاد».

٥٥٣

وفي الآية (٥٢) من سورة النحل ، وصف بأنّه واصب ، أي لا يتغير( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

وفي الآية (٧٨) من سورة الحج وصف بأنه خال من الحرج والشدة( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) !

ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن!

وكل واحد من هذه الأمور يمثل بعدا من أبعاد الدين الإسلامي ، وهو في الوقت ذاته من باب اللازم والملزوم.

أجل ينبغي أن ينتخب مثل هذا الدين ، وأن يسعى في معرفته ، وأن يحفظ حتى آخر رمق!

٤ ـ لا عودة في يوم القيامة!

قرأنا في الآيات المتقدمة عن يوم القيامة قوله تعالى :( يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) ولا طريق للعودة إلى الدنيا!

ويلاحظ في آيات القرآن الأخر ما يشبه هذا التعبير ، ومن ذلك الآية (٤٤) من سورة الشورى ـ حين يرى الظالمون العذاب يقولون :( هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) .

كما وصف يوم القيامة في الآية (٤٧) من سورة الشورى ـ أيضا ـ بقوله تعالى :( يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) .

والحقيقة أن عالم الوجود له مراحل لا عودة فيها إلى مرحلة سابقة ، وهذه سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول!

ترى ، هل يرجع الطفل ـ سواء ولد كاملا أو ناقصا ـ جنينا مرّة أخرى إلى رحم أمه؟!

٥٥٤

وهل ترجع الثمرة المقطوفة من الشجرة ـ ناضجة كانت أم لا ـ إلى أغصانها؟!

فانتقال الإنسان من هذا العالم إلى العالم الآخر على هذه الشاكلة ، أي لا طريق للعودة أبدا وهذه حقيقة تخيف الإنسان وتهزّه وتنذره ليكون يقظا!.

* * *

٥٥٥

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) )

التّفسير

انظر إلى آثار رحمة الله :

قلنا : إن في هذه السورة قسما مهمّا «يستلفت النظر» من دلائل التوحيد

٥٥٦

وآيات الله ، مبينا في سبع آيات تبدأ كل منها بقوله :( وَمِنْ آياتِهِ ) قرأنا ست آيات منها بصورة متتابعة ، والآية الأولى من الآيات أعلاه هي سابع الآيات التي مرت. وآخرها.

وحيث كان الكلام في الآيات السابقة عن الإيمان والعمل الصالح ، فبيان دلائل التوحيد ـ أيضا ـ تأكيدا على ذلك!

تقول هذه الآية :( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ) فهي تمضي سابقة للغيث في حركتها ، فتجمع القطع المتفرقة من الغيوم وتربط بينها وتؤلفها وتحملها إلى الأرض اليابسة العطشى ، وتغطي صفحة السماء ، ومع تغير درجة حرارة الجو تهيء المطر للنزول من هذه الغيوم.

ولعلّ أهمية قدوم الرياح المبشرات ـ لأهل المدن المتنعمة ـ ليست جليّة واضحة إلّا أن أهل الصحاري اليابسة الظمأى إلى المطر ، ما إن تتحرك الرياح مصحوبة بالسحاب التي هطلت في نقطة أخرى ـ والنسيم يحمل رائحة الطلّ والرطوبة منها ، حتى يلمع وميض الأمل في قلوبهم.

وبالرغم من أنّ آيات القرآن تستند إلى البشارة في نزول الغيث أكثر من غيرها ، إلّا أنّه لا يمكن تحديد كلمة «مبشرات» في هذا المضمون فحسب ، لأنّ الرياح تصحب بشائر أخر أيضا.

فالرياح تبدل حرارة الجو وبرودته الشديدة إلى «الاعتدال».

والرياح تستهلك العفونة في الفضاء الكبير وتصفي الهواء.

والرياح تخفف من وطء حرارة الشمس على الأوراق والنباتات ، وتمنع من احتراقها بحرارة الشمس.

كما أنّ الرياح تنقل غاز الأوكسجين المتولد من النباتات وأوراق الشجر ـ إلى الإنسان ، وتهب غاز ثاني أوكسيد الكاربون الخارج مع زفير الإنسان وتنفسه إلى النباتات أيضا.

٥٥٧

وهي كذلك تؤدي وظيفة أخرى ، فقد أرسلها الله لواقح تنقل معها لقاح الأزهار الذكور للإناث.

والرياح تحرك الطواحين الهوائية وتصفي البيادر.

والرياح تنقل البذور من المناطق التي قد تجمعت فيها وتنثرها وتبسطها على الصحراء ، كأنّها فلاح مشفق ، فتغدو خضراء ممرعة بعد أن كانت يبابا.

والرياح تنقل السفن مع مسافريها وأثقالهم إلى نقاط مختلفة.

وحتى في هذا العصر الذي حلت الوسائل الحديثة «الماكنات» مكان الرياح ، فما تزال الرياح ذات أثر بالنسبة للسفن في اتجاهاتها المخالفة لها أو الموافقة لها سرعة وبطأ!

أجل ، أنّ الرياح مبشرات من جهات شتى.

ولذلك فنحن نقرأ في تعقيب الآية قوله تعالى :( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

أجل ، إنّ الرياح هي وسيلة لتكاثر النعم العديدة في مجال الزراعة والتدجين ، وهي وسيلة للحمل والنقل أيضا ، وأخيرا فهي سبب للازدهار التجاري.

وقد أشير إلى الموضوع الأوّل بجملة( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) وإلى الثّاني بجملة( وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) وللثالث بجملة( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) !

والطريف هنا أن جميع هذه البركات منشؤها الحركة ، الحركة في ذرات الهواء في الفضاء الجوي لكن لا يعرف قدر أية نعمة حتى تسلب عن الإنسان! فيعرفها حينذاك. فما لم تتوقف هذه الرياح والنسائم ، فلا يعرف الإنسان ما ذا يحلّ به من بلاء؟!

فتوقف الهواء يجعل الحياة في أفضل الحقول كالحياة في أشد المطامير والسجون ظلمة! وعلى العكس فلو أن نسيما عليلا هب في خلايا السجون

٥٥٨

الانفرادية لجعلها كالفضاء الرحب «المفتوح» ، وعادة فإنّ واحدا من أساليب التعذيب في السجون هو سدّ منافذ الهواء!.

حتى أنّ الهواء لو توقف في المحيطات وهدأت الأمواج ، لأصبحت حياة الحيوانات البحرية مهددة بالخطر على أثر قلّة الأوكسجين ، ويتحول البحر حينذاك إلى مستنقع متعفن موحش!

يقول «الفخر الرازي» إن جملة( وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) مع ملاحظة أن الإذاقة تستعمل في الشيء القليل ، فهي إشارة أن جميع الدنيا ونعمها لا تتجاور الرحمة القليلة ، أمّا الرحمة الواسعة (من قبل الله) فهي خاصة بالحياة الأخرى!.

وفي الآية التالية يقع الكلام عن إرسال الأنبياء إلى قومهم ، في حين أن الآية التي بعدها تتحدث عن هبوب الرياح مرّة أخرى ، ولعل وجود هذه الآية بين آيتين تتحدثان عن نعمة هبوب الرياح له جانب اعتراضي ، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين.

ولعل ذكر النبوّة إلى جانب هذه المسائل ، إنّما هو لإكمال البحث المتعلق بالمبدأ والمعاد ، إذ ورد البحث عنهما مرارا في هذه السورة كما قاله بعض المفسّرين.

ويمكن أن يكون وجود هذه الآية إنذارا لأولئك الذين يتمتعون بجميع هذه النعم الكثيرة ويكفرون بها.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية تقول :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) أي المعجزات والدلائل الواضحة والبراهين العقلية ، فاستجاب جماعة منهم لهذه الدلائل ، ولم يستجب آخرون لها برغم النصائح( فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) ونصرنا المؤمنين( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

والتعبير بـ «كان» التي تدل على أن هذه السنة لها جدر عميق ، والتعبير بـ «حقّا» وبعده التعبير بـ «علينا» هو بنفسه مبين للحق ومشعر به ، جميع هذه

٥٥٩

الألفاظ تأكيدات متتابعة في هذا المجال وتقديم «حقا علينا» على «نصر المؤمنين» الذي يدل على الحصر ، هو تأكيد آخر. وبالمجموع تعطي الآية هذا المعنى «إن نصر المؤمنين من المسلّم به هو في عهدتنا وهذا الوعد سنجعله عمليا دون الحاجة إلى نصر من الآخرين».

وهذه الجملة ـ ضمنا ـ فيها تسلية وطمأنة لقلوب المسلمين ، الذين كانوا حينئذ في مكّة تحت ضغوط الأعداء واضطهادهم وكان الأعداء أكثر عددا وعددا.

وأساسا فإنّ أعداء الله طالما كانوا غرقى في الآثام والذنوب ، فإنّ ذلك بنفسه أحد عوامل انتصار المؤمنين ، لأنّ الذنب سيدمرهم آخر الأمر ويهيء وسائل هلاكهم بأيديهم ، ويرسل عليهم نقمة الله.

أمّا الآية الأخرى فتعود ثانية لذكر نعمة هبوب الرياح فتقول :( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ) (١) أي القطع الصغيرة المتراكمة ثمّ تخرج قطرات المطر منها على شكل حبات صغيرة( فَتَرَى الْوَدْقَ (٢) يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) .

أجل ، إن واحدا من الآثار المهمة عند نزول الغيث ، يقع على عاتق الرياح ، إذ تحمل قطعات السحاب من البحر إلى الأرض العطشى واليابسة ، والرياح هي المأمورة ببسط السحاب والغيوم في السماء جعلها متراكمة بعضها فوق بعض ، وبعد أن تلطف الجو وتصيره رطبا تهيء الغيث للنزول.

إن مثل الرياح كمثل راعي الغنم المحنّك ، الذي يجمع قطيع الغنم عند الاقتضاء من أطراف الصحراء ، ويسير بها في مسير معيّن ليقوم بالتالي على حلب

__________________

(١) «الكسف» جمع «كسفة» على وزن «حجلة» ومعناها القطعة ، وهي هنا ـ كما يبدو ـ إشارة إلى القطعات من الغيوم المتراكمة بعضها فوق بعض فتجعلها غليظة وشديدة ، وذلك حين تكون الغيوم مهيأة لنزول المطر.

(٢) «الودق» على وزن (الحلق) وتطلق على ذرات الماء الصغيرة كمثل الغبار أحيانا ، إذ تتناثر عند نزول الغيث في السماء ، كما تطلق على قطرات «المطر» المتفرقة أحيانا

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592