الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٢

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 592

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 592
المشاهدات: 166464
تحميل: 5277


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 592 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166464 / تحميل: 5277
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 12

مؤلف:
العربية

١

ملاحظة هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

www.alhassanain.org/arabic

٢

٣
٤

سورة

النمل

مكيّة

وعدد آياتها ثلاث وتسعون آية

٥
٦

سورة النّمل

محتوى سورة النمل

هذه السورة نزلت بمكّة ـ كما ذكرنا آنفا ـ والمعروف أنّها نزلت بعد سورة الشعراء.

ومحتوى هذه السورة ـ بصورة عامّة ـ كمحتوى سائر السور المكية ، فأكثر اهتمامها ـ من الوجهة الاعتقادية ـ ينصبّ على المبدأ والمعاد وتتحدث عن الوحي والقرآن وآيات الله في عالم الإيجاد والخلق ، وكيفية المعاد والقيامة؟

وأمّا من ناحية المسائل العملية والاخلاقية ، فالقسم الكبير منها يتحدث عن قصص خمسة أنبياء كرام ومواجهاتهم لأممهم المنحرفة ، لتكون هذه السورة تسلية للمؤمنين القلّة بمكّة في ذلك اليوم ، وفي الوقت ذاته تكون إنذارا للمشركين المعاندين الظالمين ليروا عواقب أمرهم في صفحات تاريخ الظلمة الماضين ، فلعلهم يحذرون ويرجعون إلى الرشد.

وأحد خصائص هذه السورة هي بيان قسم مهم من قصّة النّبي سليمان وملكة سبأ ، وكيفية إيمانها بالتوحيد ، وكلام الطير ـ كالهدهد ، والحشرات كالنمل ـ مع سليمانعليه‌السلام .

وهذه السورة سمّيت سورة «النمل» لورود ذكر النمل فيها ، والعجيب أنّها سمّيت بسورة «سليمان» كما في بعض الرّوايات «والنمل أخرى» سليمان أحيانا ، وكما سنلاحظ فإنّ هذه التسميات للسور ليست اعتباطا ، بل هي مدروسة ودقيقة في تسميتها ، فهي من تعليمات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتكشف عن حقيقة

٧

مهمّة يغفل عنها الناس في الظروف الاعتيادية!.

وتتحدث هذه السورة ضمنا عن علم الله غير المحدود ، وهيمنته وسلطانه على كل شيء في عالم الوجود ، وحاكميته عالم عباده والالتفات إلى ذلك له أثره الكبير في المسائل التربوية للإنسان.

وتبدأ هذه السورة بالبشرى وتنتهي بالتهديد ، فالبشرى للمؤمنين ، والتهديد للناس بأنّ الله غير غافل عن أعمالكم.

فضيلة سورة النمل :

جاء في بعض أحاديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذّب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلّا الله»(١) .

وبالرغم من أنّ هذه السورة تتحدث عن موسى وسليمان وداود وصالح ولوط ، وليس فيها كلام عن هود وشعيب وإبراهيم ، إلّا أنّه حيث أنّ جميع الأنبياء سواء في دعوتهم إلى الله ـ فلا مجال لأن نعجب من هذا التعبير.

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سور الطواسين الثلاث «يعني سور الشعراء والنمل والقصص» في ليلة جمعة كان من أولياء الله وفي جواره وكنفه ، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا ، وأعطي في الآخرة من الجنّة حتى يرضى وفوق رضاه ، وزوجه الله مائة زوجة من الحور العين»(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ذيل الآيات وتفسير الثقلين ، ج ٤ ، ص ٧٤.

(٢) «ثواب الأعمال» نقلا ، نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٧٤.

٨

الآيات

سْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) )

التّفسير

القرآن منزل من لدن حكيم عليم :

نواجه مرّة أخرى ـ في بداية هذه السورة ـ الحروف المقطّعة من القرآن (طس).

وبملاحظة أنّ ما بعدها مباشرة هو الكلام عن عظمة القرآن ، فيبدو أنّ واحدا من أسرار هذه الحروف هو أنّ هذا الكتاب العظيم والآيات البيّنات منه ، كل ذلك يتألف من حروف بسيطة وإن الجدير بالثناء هو الخالق العظيم الموجد لهذا الأثر البديع من حروف بسيطة كهذه الحروف ، وكان لنا في هذا الشأن بحوث مفصّلة في بداية سورة البقرة وسورة آل

٩

عمران وسورة الأعراف.

ثمّ يضيف القرآن قائلا :( تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ ) والإشارة للبعيد بلفظ (تلك) لبيان عظمة هذه الآيات السماوية ، والتعبير بـ (المبين) تأكيد على أنّ القرآن واضح بنفسه وموضح للحقائق أيضا(١) .

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين احتمل أنّ التعبير بـ( الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ ) إشارة إلى معنيين مستقلين ، وأن «الكتاب المبين» يراد منه اللوح المحفوظ إلّا أن ظاهر الآية يدلّ على أنّ كلاهما لبيان حقيقة واحدة ، فالأوّل في ثوب الألفاظ والتلاوة ، والثّاني في ثوب الكتابة والرسم.

وفي الآية التالية وصفان آخران للقرآن إذ تقول :( هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) .

وهكذا فإن اعتقاد المؤمنين راسخ في شأن المبدأ والمعاد ، وارتباط متين بالله وخلقه أيضا فالأوصاف المتقدمة تشير إلى اعتقادهم الكامل ومنهجهم العملي الجامع!.

وهنا ينقدح سؤال وهو : إذا كان هؤلاء المؤمنون قد اختاروا الطريق السوي ، من حيث المباني الاعتقادية والعملية ، فما الحاجة لأنّ يأتي القرآن لهدايتهم؟!

ويتّضح الجواب بملاحظة أنّ الهداية لها مراحل مختلفة ، وكل مرحلة مقدمة لما بعدها ،.

ثمّ إنّ استمرار الهداية مسألة مهمّة ، وهي ما نسألها الله سبحانه ليل نهار بقولنا:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ليثبتنا في هذا المسير ، ويجعلنا مستمرين فيه بلطفه ، فلو لا لطفه لما كان ذلك ممكنا لنا

__________________

(١) «المبين» مشتق من (الإبانة) وكما يقول بعض المفسّرين «كالآلوسي في روح المعاني» : إنّ هذه المادة قد يأتي فعلها لازما ، وقد يأتى متعديا ففي الصورة الأولى يكون مفهوم المبين هو الواضح والبيّن ، وفي الصورة الثّانية يكون مفهومه الموضح!

١٠

وبعد هذا كلّه ، فالإفادة من آيات القرآن والكتاب المبين هي نصيب أولئك الذين فيهم القابلية على معرفة الحق وطلب الحق. وإن لم يبلغوا مرحلة الهداية الكاملة وإذا ما وجدنا التعبير في بعض آيات القرآن بأنّه( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) «كما في الآية ٢ من سورة البقرة» وفي مكان آخر( لِلْمُسْلِمِينَ ) «كما في الآية ١٠٢ من سوره النحل» وهنا( هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) فإنّ ذلك ناشئ من أنّه إذا لم يكن في قلب الإنسان أدنى مرحلة من التقوى والتسليم والإيمان بالواقع ، فإنّه لا يتجه نحو الحق ، ولا يبحث عنه ، ولا يفيد من نور هذا الكتاب المبين لأنّ قابلية المحل شرط أيضا.

ثمّ بعد ذلك فإن الهدى والبشرى مقترنين معا وهما للمؤمنين فحسب ، وليس للآخرين مثل هذه المزية

ومن هنا يتّضح مجيء التعبير بالهداية بشكل واسع لعموم الناس( هُدىً ) للناس فإن المراد منه أولئك الذين تتوفر فيهم الأرضيّة المناسبة لقبول الحق ، وإلّا فأنّ المعاندين الألداء. عماة القلوب ، لو أشرقت عليهم آلاف الشموس بدل شمسنا هذه ليهتدوا ، لما اهتدوا أبدا.

وتتحدّث الاية التالية عن الأشخاص في المقابلة للمؤمنين ، وتصف واحدة من أخطر حالاتهم فتقول :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) . أي حيارى في حياتهم.

فهم يرون الملوّث نقيّا ، والقبيح حسنا ، والعيب فخرا ، والشقاء سعادة وانتصارا!.

أجل ، هذا حال من يسلك الطريق المنحرف ويتوغل فيها فواضح أن الإنسان حين يقوم بعمل قبيح. فإنّ قبحه يخف تدريجا ، ويعتاد عليه ، وعند ما يتطبع عليه يوجهه ويبرره ، حتى يبدو له حسنا ويعدّه من وظائفه! وما أكثر الذين تلوثت أيديهم بالأعمال الإجرامية وهم يفتخرون بتلك الأعمال ويعدونها

١١

أعمالا إيجابيّة.

وهذا التغير في القيم ، أو اضطراب المعايير في نظر الإنسان ، يؤدي إلى الحيرة في متاهات الحياة وهو من أسوأ الحالات التي تصيب الإنسان.

والذي يلفت النظر أنّ «التزيين» في الآية محل البحث ـ وفي آية أخرى من القرآن ، وهي الآية (١٠٨) من سورة الأنعام ، نسب إلى الله سبحانه ، مع أنّه نسب في ثمانية مواطن إلى الشيطان ، وفي عشرة أخر جاء بصيغ الفعل المجهول (زيّن) ولو فكرنا بإمعان ـ وأمعنا النظر ، لوجدنا جميع هذه الصور كاشفة عن حقيقة واحدة!

فأمّا نسبة التزيين إلى الله ، فلأنّه «مسبب الأسباب» في عالم الإيجاد ، وما من موجود مؤثر إلّا ويعود تأثيره إلى الله.

أجل ، إنّ هذه الخاصية أوجدها الله في تكرار العمل ليتطبّع عليه الإنسان ويتغير حسّ التشخيص فيه دون أن تسلب المسؤولية عنه ، أو أن تكون نقصا في خلقة الله أو إيرادا عليه (لاحظوا بدقّة).

وأمّا نسبة التزيين إلى الشيطان (أو هوى النفس) فلأن كلّا منهما عامل قريب وبغير واسطة للتزيين.

وأمّا مجيء التزيين بصورة الفعل المبني للمجهول ، فهو إشارة إلى أنّ طبيعة العمل يقتضي أن يوجد ـ على أثر التكرار ـ حالة وملكة وعلاقة وعشقا!!

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة «تزيين الأعمال» وعاقبة أولئك الذين شغفوا بها فتقول :( أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ ) .

فهم في الدنيا سيمسون حيارى آيسين نادمين ، وسينالون العقاب الصارم في الآخرة( وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ) .

والدليل على أنّهم في الآخرة هم الأخسرون ، ما جاء في الآية (١٠٣) من سورة الكهف( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ

١٢

الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .

فأية خسارة أعظم من أن يرى الإنسان عمله القبيح حسنا!! وأن يهدر جميع طاقاته من أجله ، ظنّا منه بأنّه عمل «إيجابي» مثبت ، إلّا أنّه يراه في عاقبة أمره شقاء وذلة وعذابا.

وأمّا الآية الأخيرة ـ من الآيات محل البحث ـ فهي بمثابة إكمال البيانات السابقة في صدد عظمة محتوى القرآن ، ومقدمة لقصص الأنبياء التي تبدأ بعدها مباشرة فتقول :( وَإِنَّكَ (١) الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) .

وبالرغم من أنّ الحكيم والعليم كلاهما إشارة إلى علم الله سبحانه ، إلّا أن الحكمة تبيّن الجوانب العملية ، والعلم يبيّن الجوانب النظرية وبتعبير آخر : إن العليم يخبر عن علم الله الواسع ، والحكيم يدل على الهدف من إيجاد هذا العالم وإنزال القرآن على قلب النّبي (محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

ومثل هذا القرآن النازل من قبل الله ينبغي أن يكن مبينا وهدى وبشرى للمؤمنين ، وأن تكون قصصه خالية من أي نوع من أنواع الخرافات والتضليل والأباطيل والتحريف.

الواقعية والإيمان :

المسألة المهمة في حياة الإنسان هي أن يدرك الواقعيّات بما هي عليه ، وأن يكون موقفه منها صريحا فلا تمنعه من فهمها وإدراكها تصوراته وأحكامه المسبقة ورغباته الانحرافية وحبّه وبغضه ، ولذلك فأنّ أهم تعريف للفلسفة هو : إدراك الحقائق كما هي!.

__________________

(١) «تلقى» فعل مضارع مبني للمفعول ، وهو من باب التفعيل ، والفعل الثلاثي المجرّد من هذه المادة (لقي) وهو يتعدى إلى مفعول واحد. أمّا المزيد فيتعدى إلى مفعولين. وفي الآية محل البحث (الله) هو الفاعل وملقي القرآن ، والنّبي (مفعول به أول) ، والقرآن مفعول ثان ، وحيث أنّ الفعل بني للمجهول يقوم المفعول الأوّل مقام الفاعل فرفع ، وأمّا المفعول الثّاني فعلى حالة.

١٣

ولذلك فقد كان من دعاء المعصومين : (اللهم أرنى الأشياء كما هي) أي لأعرف قيمها وأؤدي حقّها.

وهذه الحالة لا تتحقق بغير الإيمان! لأنّ الهوى والهوس والانحرافات أو الرغبات النفسية ، تكون حجابا وسدا كبيرا في هذا الطريق ، ولا يمكن رفع هذا الحجاب أو السد إلّا بالتقوى وضبط هوى النفس!.

لذلك فقد قرأنا في الآيات آنفة الذكر :( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ) .

والمثل الواضح والجلي لهذا المعنى نراه في حياة كثير من عبدة الدنيا في زماننا بشكل بيّن. فهم يفتخرون ببعض المسائل ويرونها حضارة ، إلّا أنّها في الواقع ليست إلّا الفضيحة والعار والذل.

فالتفسخ والحماقة عندهم دليل «الحرية».

والتعري والسفور من قبل النساء دليل «التمدن».

التكالب على بهارج الدنيا وزخارفها دليل على «الشخصيّة».

الغرق في ألوان الفساد دليل «التحرر».

القتل والإجرام دليل على «القوّة».

التخريب وغصب رؤوس الأموال دليل على الاستعمار ، أي البناء والعمران(١) !! استخدام اجهزة الاعلام العامة كالراديو والتلفزيون لتوكيد المفاهيم!!

سحق حقوق المحرومين دليل على احترام حقوق البشر.

الأسر في قبضة المخدرات والفضائح وما إلى ذلك من أشكال الحرية!.

والتزوير والغش واقتناء الأموال من أي طريق كان وكيف كان ، دليل على

__________________

(١) المفهوم اللغوي للاستعمار مفهوم جميل ، يعني الإعمار كما جاء في القرآن( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها ) إلّا أن المفهوم السياسي للاستعمار هو التسلط من قبل الأجنبي واستثماره لخيرات الشعوب (المصحح).

١٤

الجدارة والذكاء.

رعاية أصول العدل واحترام حقوق الآخرين دليل على الضعف وعدم اللياقة!.

الكذب والدجل ونقض العهود وما إلى ذلك دليل على السياسة.

والخلاصة : إنّ الأعمال السيئة والقبيحة تتزين في نظر هؤلاء الى درجة أنّهم لا يشعرون في أنفسهم بالخجل منها. بل ويفتخرون ويتباهون بها!!

وواضح إلى اين يتجه مثل هذا العالم وماذا سيكون مصيره!!

* * *

١٥

الآيات

( إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) )

التّفسير

موسى يقتبس النّور :

يجري الكلام في هذه السورة ـ كما أشرنا من قبل ـ بعد بيان أهمّية القرآن ، عن قصص خمسة أنبياء عظام ، وذكر أممهم ، والوعد بانتصار المؤمنين وعقاب

١٦

الكافرين.

فأوّل نبيّ تتحدث عنه هذه السورة ، هو موسىعليه‌السلام أحد الأنبياء «أولي العزم» وتبدأ مباشرة بأهم نقطة من حياته وأكثرها «حسّاسية» وهي لحظة نزول الوحي على قلبه وإشراقه فيه ، وتكليم الله إيّاه إذ تقول الآية :( إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً ) (١) اي رأيت نارا من بعيد ، فامكثوا هنيئة( سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ) (٢) .

في تلك الليلة الظلماء ، كان موسىعليه‌السلام يسير بزوجته بنت النبيّ شعيبعليه‌السلام في طريق مصر ـ وفي الصحراء ـ فهبت ريح باردة ، وكانت زوجته (أهله) مقرّبا ، فأحسّت بوجع الطلق ، فوجد موسىعليه‌السلام نفسه بمسيس الحاجة إلى النّار لتصطلي المرأة بها ، لكن لم يكن في الصحراء أيّ شيء ، فلمّا لاحت له النّار من بعيد سرّ كثيرا ، وعلم أنّها دليل على وجود إنسان أو أناس ، فقال : سأمضي وآتيكم منها بخبر أو شعلة للتدفئة.

ممّا يلفت النظر أنّ موسىعليه‌السلام يقول لأهله سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس «بضمير الجمع لا الإفراد» ولعل هذا التعبير هو أنّ موسىعليه‌السلام كان معه بالإضافة إلى زوجته أطفال أيضا لأنّه كان قد مضى على زواجه عشر حجج (عشر سنين) في مدين أو أنّ الخطاب بصيغة الجمع (آتيكم) يوحي بالاطمئنان في هذه الصحراء الموحشة!.

وهكذا فقد ترك موسى أهله في ذلك المكان واتّجه نحو «النّار» التي آنسها( فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهناك احتمالات مختلفة عند المفسّرين في المراد من قوله تعالى :( مَنْ فِي

__________________

(١) «آنست» فعل ماض مأخوذ من (الإيناس) وهو الرؤية المقرونة بالراحة النفسية والسكينة وإنما يطلق على الإنسان فهو لهذا المعنى.

(٢) «الشهاب» هو النور الذي ينبثق من النار كالعمود ، وكل نور له عمود يدعى شهابا ، وفي الأصل يطلق الشهاب على واحد النيازك التي تهوي من السماء بسرعة مذهلة فتحرق بسبب اصطدامها بالغلاف الجوي فيكون لها عمود من نار ، «والقبس» شعلة من النار تنفصل عنها. «وتصطلون» من الاصطلاء وهو الدفء (بالنار)

١٧

النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ) ! فما المقصود من هذا التعبير؟!

ويبدو أنّ المراد من( مَنْ فِي النَّارِ ) هو موسى نفسه ، حيث كان قريبا منها ومن الشجرة الخضراء التي عندها ، فكأنّ موسى كان في النّار نفسها ، وأنّ المراد من( مَنْ حَوْلَها ) هم الملائكة المقرّبون من ساحة القدس ، الذين كانوا يحيطون بتلك الأرض المقدسة في ذلك الوقت.

أو أنّ المراد ـ على عكس ما ذكرنا آنفا ـ فمن في النّار : هم الملائكة المقرّبون ، ومن حولها هو موسىعليه‌السلام .

وعلى كلّ حال فقد جاء في بعض الرّوايات أنّ موسىعليه‌السلام لما وصل النّار ونظر بدقّة ، رأى النّار تشتعل من غصن أخضر! وتتسع الشعلة لحظة بعد أخرى ، والشجرة تزداد اخضرارا وجمالا فلا حرارة النّار تحرق الشجرة ، ولا رطوبة الشجرة تطفئ لهب النّار ، فتعجب من هذا المشهد الرائع وانحنى ليقتبس من هذه النّار ويشعل الغصن اليابس «الحطب» الذي كان معه ، فأتته النّار فارتاع ورجع فمرّة يأتي موسى إلى النّار ، ومرّة تأتي النّار إلى موسى ، وبيّنا هو على هذه الحالة ، إذا بالنداء يقرع سمعه مبشرا إيّاه بالوحي.

فالمراد أنّ موسىعليه‌السلام اقترب من النّار ألى درجة عبّر عنه بأنّه «في النّار».

والتّفسير الثّالث لهذه الجملة ، هو أنّ المراد من (من في النّار) هو نور الله الذي تجلّى في تلك الشعلة ، والمراد من «من حولها» هو موسى الذي كان قريبا منها. وعلى كل حال فمن أجل أن لا يتوهم أحد من هذه العبارة مفهوم «التجسيم» فقد ختمت الآية بـ( سُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) تنزيها له عن كل عيب ونقص وجسميّة وما يعترض الجسم من عوارض!.

ومرّة أخرى نودي موسى بالقول :( يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

وذلك يزول عن موسىعليه‌السلام كل شك وتردّد ، وليعلم أنّ الّذي يكلمه هو ربّ العالمين ، لا شعلة النّار ولا الشجرة ، الربّ القوي العزيز الذي لا يغلب ولا يقهر ،

١٨

والحكيم ذو التدبير في جميع الأمور!.

وهذا التعبير في الحقيقة مقدّمة لبيان المعجزة التي سيأتي بيانها في الآية التالية لأنّ الإعجاز آت من هاتين الصفتين «قدرة الله» و «حكمته» ، ولكن قبل أن نصل إلى الآية التالية ينقدح هذا السؤال وهو : من أين تيقن موسىعليه‌السلام أنّ هذا النداء هو نداء الله وليس سواه؟!

يمكن أن يجاب على هذا السؤال بأنّ هذا النداء ـ أو الصوت المقرون بمعجزة جليّة ، وهي إشراق النّار من الغصن الأخضر «في الشجرة الخضراء» ـ دليل حي على أنّ هذا أمر إلهي!.

ثمّ إنّه ـ كما سنرى في الآية التالية ـ بعد هذا النداء أمر موسىعليه‌السلام بإلقاء العصا وإظهار اليد البيضاء ، على نحو الإعجاز ، وهما شاهدان صادقان آخران على هذه الحقيقة.

ثمّ بعد هذا كله (فعلى القاعدة) فإن نداء الله له خصوصية تميزه عن كلّ نداء آخر ، وحين يسمعه الإنسان يؤثر في روحه وقلبه تأثيرا لا يخالطه الشك أو التردد بأنّ هذا النداء هو نداء الله سبحانه.

وحيث أنّ الصدع بالرسالة والبلاغ (وأية رسالة وبلاغ رسالة إلى جبار مستكبر ظالم كفرعون). لا بدّ له من قوّة ظاهرية وباطنية وسند على حقانيته

فلذا أمر موسى بأن يلقي عصاه :( وَأَلْقِ عَصاكَ ) .

فألقى موسى عصاه ، فتبدلت ثعبانا عظيما ، فلمّا رآه موسى يتحرك بسرعة كما تتحرك الحيّات الصغار خاف وولّى هاربا ولم يلتفت الى الوراء :( فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ) .(١)

ويحتمل أنّ عصا موسى تبدلت بادئ الأمر إلى حيّة صغيرة ، ثمّ تحولت إلى

__________________

(١) يعتقد بعض المفسّرين أنّ «الجان» مأخوذ من الجن ، وهو الموجود غير المرئي ، لأنّ الحيّات الصغيرة تتحرك بين العشب في الأرض وتخفي نفسها.

١٩

أفعى كبيرة في المراحل الأخر!

وهنا خوطب موسى مرّة أخرى أن( يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) فهنا مقام القرب ، وحرم أمن الله القادر المتعال.

وهنا لا معنى للخوف والوحشة. ومعنى الآية : أن يا موسى إنّك بين يدي خالق الوجود العظيم ، والحضور عنده ملازم لأمن المطلق!.

ونقرأ نظير هذا التعبير في الآية (٣١) من سورة القصص :( يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ) .

إلّا أنّ في الآية التالية استثناء للجملة السابقة ، حيث ذكره القرآن فقال :( إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) !.

وهناك رأيان مختلفان لدى المفسّرين في علاقة الاستثناء بالجملة :

فالرأي الأوّل : أنّ هناك حذفا ذيل الآية آنفة الذكر وتقديره : إنّك من الآمنين وغير الأنبياء ليس آمنا. ثمّ استثنى سبحانه من ذلك «بإلّا» من ظلم ثمّ بدل حسنا ، فهو من الآمنين أيضا لأن الله غفور رحيم.

والثّاني : أنّ الاستثناء من ضمن الجملة ، والظلم إشارة إلى ترك الأولى الذي قد يقع من الأنبياء ، وهو لا ينافي مقام العصمة ، ومعنى الآية على هذا الرأي : أن الأنبياء في حال ترك الأولى غير آمنين أيضا ، وأنّ الله يحاسبهم حسابا عسيرا ، كما جاء في آيات القرآن عن قصّة آدم وقصّة يونسعليهما‌السلام !.

إلّا أولئك الذين التفتوا إلى ترك الأولى ، وانعطفوا نحو الله الرحيم ، فبدلوا حسنا وعملا صالحا بعد ذلك ، كما جاء في شأن موسىعليه‌السلام نفسه في قصّة قتله الرجل القبطي ، إذ اعترف موسى بتركه الأولى ، فقال :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) (١) .

__________________

(١) القصص ، ١٦.

٢٠