الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175734 / تحميل: 6525
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

ملاحظتان

١ ـ ما هو المقصود من «ذات الصدور»؟

ورد هذا اللفظ بتفاوت يسير في أكثر من عشرة آيات من القرآن الكريم( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

لفظة «ذات» التي مذكّرها «ذو» في الأصل بمعنى «الصاحب» مع أنّها وردت لدى الفلاسفة بمعنى «العين والحقيقة وجوهر الأشياء» ، ولكن على ما قاله (الراغب) في مفرداته فإنّ هذا الاصطلاح لا وجود له في كلام العرب.

وبناء على ذلك فإنّ المقصود من جملة( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) أنّ الله يعلم صاحب ومالك القلوب ، وهي كناية لطيفة عن عقائد ونوايا الناس ، إذ أنّ الإعتقادات والنوايا عند ما تستقر في القلب تكون كأنّها مالك القلب ، والحاكم فيه ، ولهذا السبب تعدّ تلك العقائد والنوايا صاحبا ومالكا للقلب الإنساني.

وذلك تماما ما صاغه بعض كبار العلماء استفادة من هذا المعنى فقالوا : الإنسان آراؤه وأفكاره ، لا صورته وأعضاؤه»(١) .

٢ ـ لا سبيل للرجوع!

من المسلّم به أنّ القيامة والحياة بعد الموت مرحلة تكاملية نسبة إلى الدنيا ، وأنّ الرجوع إلى هذه الدنيا ليس معقولا ، فهل يمكننا العودة إلى الأمس؟ هل يمكن للوليد أن يعود إلى طي الأدوار الجنينية من جديد؟ وهل يمكن للثمرة التي قطفت من غصنها أن تعاد إليه مرّة ثانية؟ لهذا السبب فإنّ العودة إلى الدنيا غير ممكنة لأهل الآخرة.

وعلى فرض إمكانية تلك العودة فإنّ هذا الإنسان الكثير النسيان سوف لن يقوم بغير إدامة أعماله السابقة!

__________________

(١) المرحوم كاشف الغطاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها.

١٠١

ولا نذهب بعيدا ، فنحن مرّات عديدة وفي شرائط بعض الضائقات الحياتية ، نتّخذ قرارا مخلصا بيننا وبين الله على القيام بعمل ما أو ترك عمل ما ، ولكن بمجرّد تغيير تلك الشرائط يتغيّر قولنا وننسى قراراتنا ، إلّا إذا تحقّق لشخص ما تحوّل جدّي حقيقي ، لا تحوّل مشروط بتلك متعدّدة الشرائط التي بتغيّرها يعود إلى سابق حاله.

هذه الحقيقة وردت في آيات متعدّدة من القرآن المجيد ، من جملتها ما ورد في الآية (٢٨) من سورة الأنعام التي أشرنا إليها قبل قليل ، حيث تكذّب هؤلاء وتردّهم.

ولكن الآية (٥٣) من سورة الأعراف تكتفي فقط بأنّ هؤلاء الأفراد خاسرون ، ولكن لم تردّ بصراحة على طلبهم للعودة :( فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

نفس هذا المعنى ورد بشكل آخر في الآيات (١٠٧) و (١٠٨) من سورة المؤمنون :( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ ) .

على كلّ حال ، فتلك مطالب غير ذات جدوى ، وأماني عديمة التحقّق ، ويحتمل أنّهم هم أيضا يعلمون ذلك ، ولكنّهم لشدّة العذاب وانسداد جميع المنافذ أمامهم يكرّرون هذه المطالب.

* * *

١٠٢

الآيات

( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) )

التّفسير

السماوات والأرض بيد القدرة الإلهية :

تنتقل الآيات إلى مرحلة اخرى من تشخيص عوامل ضعف وبطلان مناهج الكفّار والمشركين في التعامل أو التفكير لتكمل البحوث التي مرّت في الآيات السابقة ، فتقول أوّلا :( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ) .

١٠٣

«خلائف» هنا سواء كانت بمعنى خلفاء وممثّلي الله في الأرض ، أم بمعنى خلفاء الأقوام السابقين (وإن كان المعنى الثاني هنا أقرب على ما يبدو) فهي دليل على منتهى اللطف الإلهي على البشر حيث أنّه قيّض لهم جميع إمكانات الحياة.

أعطاهم العقل والشعور والإدراك ، أعطاهم أنواع الطاقات الجسدية ، ملأ للإنسان صفحة الأرض بمختلف أنواع النعم والبركات ، وعلّمه طريقة الاستفادة من تلك الإمكانات ، فكيف نسي الإنسان والحال هذه ولي نعمته الأصلي ، وراح يعبد آلهة خرافية ومصنوعة؟!

هذه الجملة في الحقيقة بيان لـ «توحيد الربوبية» الذي هو دليل على «توحيد العبادة». وهذه الجملة أيضا تنبيه للبشر جميعا ليعلموا بأن مكثهم ليس أبديّا ولا خالدا ، فكما أنّهم خلائف لأقوام آخرين ، فما هي إلّا مدّة حتّى ينتهي دورهم ويكون غيرهم خلائف لهم ، لذا فإنّ عليهم أن يتأمّلوا ويفكّروا ماذا يعملون خلال هذه المدّة القصيرة ، وكيف سيذكرهم التأريخ في هذا العالم؟

لذا تردف الآية قائلة :( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً ) .

الجملتان الأخيرتان في الواقع تفسير الجملة( فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) فهما تقيمان دليلين على رجوع الكفر على صاحبه كالآتي :

الأوّل : إنّ هذا الكفر يؤدّي إلى غضب الله الذي أعطى كلّ هذه المواهب.

والثاني : أنّه علاوة على هذا الغضب الإلهي فإنّ هذا الكفر سوف لن يزيد الظالمين إلّا خسارة وضررا بإتلافهم رأس مالهم المتمثّل بأعمارهم ووجودهم ، وشرائهم للشقاء والانحطاط والظلمة ، وأي خسارة أكثر من هذه.

وكلّ واحد من هذين الدليلين كاف لشجب وإبطال ذلك المنهج الباطل في التعامل مع الحياة.

تكرار( لا يَزِيدُ ) بصيغة المضارع ، إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الإنسان

١٠٤

الميّال بالطبع إلى البحث عن الزيادة ، إذا سار في طريق التوحيد فسيزداد سعادة وكمالا ، وإذا سلك طريق الكفر فسوف يتعرّض لمزيد من غضب الباريعزوجل ويكون نصيبه الضرر والخسارة.

من الجدير بالذكر أيضا أنّ الغضب الإلهي ليس بمعنى الغضب الذي يحصل للإنسان ، لأنّ هذا الغضب في الإنسان عبارة عن نوع من الهيجان والانفعال الداخلي الذي يكون سببا في صدور أفعال قويّة وحادّة وخشنة ، وفي تعبئة كافّة طاقات الإنسان للدفاع أو الانتقام ، وأمّا بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى فليس لأيّ من هذه الآثار التي هي من خواص الموجودات المتغيّرة والممكنة أثر في غضبه ، فغضبه بمعنى رفع الرحمة ومنع اللطف الإلهي من شمول أولئك الذين ارتكبوا السيّئات.

الآية التالية ترد على المشركين بجواب قاطع حازم ، وتذكّرهم بأنّ الإنسان إذا اتّبع أمرا أو تعلّق بأمر ، فيجب أن يكون هناك دليل عقلي على هذا الأمر ، أو دليل نقلي ثابت ، وأنتم أيّها الكفّار حيث لا تملكون أيّا من الدليلين فليس لديكم سوى المكر والغرور.

تقول الآية الكريمة :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) (١) فهل خلقوا شيئا في الأرض. أم شاركوا الله في خلق السماوات؟!

ومع هذا الحال فما هو سبب عبادتكم لها ، لأنّ كون الشيء معبودا فرع كونه خالقا ، فما دمتم تعلمون أنّ خالق السماوات والأرض هو الله تعالى وحده ، فلن يكون هناك معبود غيره ، لأنّ توحيد الخالقية دليل على توحيد العبودية.

والآن بعد أن ثبت أنّكم لا تملكون دليلا عقليا على ادّعائكم ، فهل لديكم دليل

__________________

(١) جملة «أرأيتم» بمعنى : ألا ترون؟ أو : ألا تفكّرون؟ ولكن بعض المفسّرين يقولون بأنّها بمعنى «أخبروني». وقد أوردنا بحثا مطوّلا بهذا الخصوص في تفسير آية (٤٠) من سورة الأنعام.

١٠٥

نقلي؟( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ) .

كلّا ، فليس لديهم أي دليل أو بيّنة أو برهان واضح من الكتب الإلهية ، إذا فليس لديهم سوى المكر والخديعة( بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً ) .

وبتعبير آخر ، إذا كان لعبدة الأوثان وسائر المشركين من كلّ مجموعة وكلّ صنف ادّعاء بقدرة الأصنام على تلبية مطالبهم ، فعليهم أن يعرضوا نموذجا لخلقهم من الأرض ، وإذا كانوا يعتقدون أنّ تلك الأصنام مظهر الملائكة والمقدّسين في السماء ـ كما يدّعي البعض ـ فيجب أن يقيموا الدليل على أنّهم شركاء في خلق السماوات وان كانوا يعتقدون بأنّ هؤلاء الشركاء ليس لهم نصيب في الخلقة ، بل لهم مقام الشفاعة ـ كما يدّعي البعض ـ فيجب أن يأتوا بدليل على إثبات ذلك الادّعاء من الكتب السماوية.

والحال أنّهم لا يملكون أيّا من هذه البيّنات ، فهم مخادعون ظالمون ليس لهم سوى المكر وخديعة بعضهم البعض.

الجدير بالملاحظة أيضا هو المقصود بـ «الأرض والسموات» هنا هو مجموعة المخلوقات الأرضية والسماوية ، والتعبير بـ( ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) و( شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) إشارة إلى أنّ المشاركة في السماوات إنّما يجب أن تكون عن طريق الخلق.

وتنكير «كتابا» ، مع استناده إلى الله سبحانه ، إشارة إلى أنّه ليس هنا أدنى دليل على ادّعائهم في أي من الكتب السماوية.

«بيّنة» إشارة إلى دليل واضح من تلك الكتب السماوية.

«ظالمون» تأكيد مرّة اخرى على أنّ «الشرك» «ظلم» واضح.

«غرور» إشارة إلى أنّ عبدة الأوثان أخذوا هذه الخرافات بعضهم من بعض ، وتلافقوها إمّا على شكل شائعات ، أو تقاليد من بعضهم الآخر.

وتنتقل الآية التي بعدها إلى الحديث عن حاكمية الله سبحانه وتعالى على

١٠٦

مجموعة السماوات والأرض ، وفي الحقيقة فإنّها تنتقل إلى إثبات توحيد الخالقية والربوبية بعد نفي شركة أي من المعبودات الوهمية في عالم الوجود فتقول :( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (١) .

فليس بدء الخلق ـ فقط ـ مرتبطا بالله ، فإنّ حفظ وتدبير الخلق مرتبط بقدرته أيضا ، بل إنّ الخلق له في كلّ لحظة خلق جديد ، وفيض الوجود يغمر الخلق لحظة بعد اخرى من مبدأ الفيض. ولو قطعت الرابطة بين الخلق وبين ذلك المبدأ العظيم الفيّاض ، فليس إلّا العدم والفناء.

صحيح أنّ الآية تؤكّد على مسألة حفظ نظام الوجود الموزون ، ولكن ـ كما ثبت من الأبحاث الفلسفيّة ـ فإنّ الممكنات محتاجة في بقائها إلى موجدها كاحتياجها إليه في بدء إيجادها ، وبذلك فإنّ حفظ النظام ليس سوى إدامة الخلق الجديد والفيض الإلهي.

الملفت للنظر أنّ الأجرام والكرات السماوية ، مع كونها غير مقيّدة بشيء آخر ، إلّا أنّها لم تبرح أماكنها أو مداراتها التي حدّدت لها منذ ملايين السنين ، دون أن تنحرف عن ذلك قيد أنملة ، كما نلاحظ ذلك في المجموعة الشمسية ، فالأرض التي نعيش عليها تواصل دورانها حول الشمس منذ ملايين بل مليارات السنين في مسيرها المحدّد والمحسوب بدقّة والذي يتحقّق من التوازن بين القوى الدافعة والجاذبة ، كما أنّها تدور في نفس الوقت حول نفسها ، ذلك بأمر الله.

وللتأكيد تضيف الآية قائلة :( وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ) .

فلا الأصنام التي صنعتموها ولا الملائكة ، ولا غير ذلك ، لا أحد غير الله قادر على ذلك.

وفي ختام الآية ـ لكي يبقى طريق الأوبة والإنابة أمام المشركين الضالّين مفتوحا يقول تعالى محبّذا لهم التوبة في كلّ مرحلة من الطريق( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً

__________________

(١) جملة «أن تزولا» تقديرها «لئلا تزولا» أو «كراهة أن تزولا».

١٠٧

غَفُوراً ) .

فبمقتضى (حلمه) لا يتعجّل عقابهم ، وبمقتضى (غفرانه) يتقبّل توبتهم ـ بشرائطها ـ في أي مرحلة من مراحل مسيرهم ، وعليه فإنّ ذيل الآية يشير إلى وضع المشركين وشمول الرحمة الإلهية لهم في حال توبتهم وإنابتهم.

اعتبر بعض المفسّرين أنّ هذين الوصفين ذكرا لارتباطهما بموضوع حفظ السموات والأرض ، إذ أنّ زوالهما مصيبة عظيمة ، وبمقتضى حلم الله وغفرانه فإنّه لا يشمل الناس بمثل ذلك العذاب وتلك المصيبة ، وإن كانت أقوال وأعمال الكثير من هؤلاء الكفّار موجبة لإنزال ذلك العذاب ، كما ورد في الآيات ٨٨ إلى ٩٠ من سورة مريم( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ) .

والجدير بالملاحظة أيضا أنّ جملة( وَلَئِنْ زالَتا ) ليست بمعنى أنّه «إذا زالت فليس أحد غير الله يحفظها» ، بل بمعنى «أنّها إذا شارفت على السقوط والزوال فإنّ الله وحده يستطيع حفظها ، وإلّا فلا معنى للحفظ بعد الزوال».

وقد حدث ـ على طول التاريخ البشري ـ مرارا أنّ علماء الفلك توقّعوا أنّ «النجم الفلاني» المذنّب أو غير المذنّب سيمرّ بمحاذاة الكرة الأرضية ويحتمل أن يصطدم بها ، هذه التوقّعات تدفع جميع الناس إلى القلق ، وفي هذه الشرائط يحسّ الجميع بأنّه في مثل حادث كهذا ، ليس في إمكان أحد أن يؤثّر شيئا ، بحيث لو انطلقت إحدى الكرات السماوية باتّجاه الكرة الأرضية واصطدمتا فيما بينهما بتأثير الجاذبية فلن يبقى للتمدّن البشري أثر ، وحتّى الموجودات الاخرى سوف لن يبقى لها أثر على سطح الأرض ، ولن تستطيع أيّة قدرة عدا قدرة الله منع مثل هذه الكارثة من الوقوع.

في مثل تلك الحالات يحسّ الجميع بالحاجة الماسّة والمطلقة إلى الله سبحانه وتعالى ، ولكن بمجرّد أن تزول احتمالات الخطر ، يلقي النسيان بظلاله على

١٠٨

الإنسان.

هذه الكارثة لا تقع فقط من مجرّد اصطدام السيارات مع بعضها ، بل إنّ أيّ انحراف بسيط لأيّ من السيارات ـ كالأرض مثلا ـ عن مسارها يؤدّي إلى وقوع فاجعة عظيمة.

* * *

ملاحظة

الصغير والكبير سيّان أمام قدرة الله!

الملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه ذكرت أنّ السماوات تستند إلى قدرة الله في ثباتها وبقائها ، وفي آيات اخرى من القرآن ورد نفس التعبير فيما يخصّ حفظ الطيور حال طيرانها في السماء.( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ففي موضع يشير إلى أنّ خلق السموات الواسعة دليل على وجوده تعالى ، وفي موضع آخر يعتبر خلق حشرة صغيرة كالبعوضة دليلا على ذلك.

حينا يقسم بالشمس لأنّها منبع عظيم للطاقة في عالم الوجود ، وحينا يقسم بفاكهة مألوفة كالتين.

كلّ ذلك إشارة إلى أنّه لا فرق بين كبير وصغير أمام قدرة الله.

أمير المؤمنين عليه أفضل الصلوات والسلام يقول : «وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء».

إنّ هذه الأشياء جميعها تشير إلى شيء واحد ، وهو أنّ وجود الله سبحانه وتعالى ، وجود لا متناه من جميع الجهات ، والتدقيق في مفهوم «اللامتناهي» يثبت هذه الحقيقة بشكل تامه ، وهي أنّ مفاهيم مثل «الصعب» و «السهل» و «الصغير» و «الكبير» و «المعقّد» و «البسيط» لها معنى بحدود الموجودات المحدودة ـ فقط ـ

١٠٩

ولكن حينما يكون الحديث عن قدرة الله تعالى المطلقة فإنّ هذه المفاهيم تتغيّر بشكل كلّي وتقف جميعا في صفّ واحد بدون أدنى تفاوت فيما بينها «دقّق النظر!!».

* * *

١١٠

الآيات

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) )

سبب النّزول

ورد في تفسير «الدرّ المنثور» و «روح المعاني» و «مفاتيح الغيب» وتفاسير اخرى : «بلغ قريشا قبل مبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذّبوهم ، فو الله لئن أتانا رسول

١١١

لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم»(١) . فلمّا أشرقت شمس الإسلام من أفق بلادهم ، وجاءهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتاب السماوي ، رفضوا ، بل كذّبوا ، وحاربوا ، ومارسوا أنواع المكر والخديعة.

فنزلت الآيات أعلاه تلومهم وتوبّخهم على ادّعاءاتهم الفارغة.

التّفسير

استكبارهم ومكرهم سبب شقائهم :

تواصل هذه الآيات الحديث عن المشركين ومصيرهم في الدنيا والآخرة.

الآية الاولى تقول :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ) (٢) .

«أيمان» جمع «يمين» بمعنى القسم ، وفي الأصل فإنّ معنى اليمين هو اليد اليمنى ، واليمين في الحلف مستعار منها اعتبارا بما يفعله المعاهد والمحالف وغيره من المصافحة باليمين عندها.

«جهد» : من «الجهاد» بمعنى السعي والمشقّة ، وبذا يكون معنى( جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ) حلفوا واجتهدوا في الحلف على أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.

نعم ، فعند ما طالعوا صفحات التأريخ ، واطّلعوا على عدم وفاء وعدم شكر تلك الأقوام وجناياتهم بالنسبة إلى أنبيائهم وخصوصا اليهود ، تعجّبوا كثيرا وادّعوا لأنفسهم الادّعاءات وتفاخروا على هؤلاء بأن يكون حالهم أفضل منهم.

__________________

(١) أغلب التفاسير.

(٢) لأنّ «إحدى» جاءت بصيغة المفرد ، فمعنى الآية «أنّهم سيكونون أكثر اهتداء من واحدة من الأمم» وقد تكون الإشارة إلى اليهود (لأنّ صيغة المفرد في الجملة المثبتة ليس فيها معنى العموم) يبدو ذلك للوهلة الاولى ، ولكن كما أشار بعض المفسّرين فإنّ قرائن الحال تشير إلى أنّ المقصود من الآية العموم ، لأنّ الحديث في مقام المبالغة والتأكيد ، وتشير إلى ادّعائهم بأنّه في حال بعثة رسول إليهم فانّهم سيكونون أهدى من جميع الأمم السابقة.

١١٢

ولكن بمجرّد أن واجهوا محكّ التجربة ، ودخلوا كورة الامتحان المشتعلة ، وتحقّق طلبهم ببعثة نبيّ منهم ، تبيّن أنّهم من نفس تلك الطينة ، حيث أشار القرآن إلى ذلك بعد تلك الجملة الاولى من الآية بالقول :( فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) .

هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وعلى خلاف ما يدّعون ـ بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى ، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم ، إلّا أنّهم لم يكونوا يحترمونها ، كذلك لم يكن لديهم أي اعتبار لما كان يمليه العقل من تصرفات. وبقيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم الجاهلية ، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر ، زادت الفاصلة بينهم وبين الحقّ ، نعم كانوا بعيدين عن الحقّ ، لكنّهم ازدادوا بعدا عن الحقّ بعد بعثة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة ، تقول : إنّ بعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الاستكبار في الأرض ، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ( اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ) (١) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون( وَمَكْرَ السَّيِّئِ ) (٢) .

ولكن( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) .

جملة «لا يحيق» : الفعل (يحيق) من (حاق) بمعنى نزل وأصاب ، والجملة معناها «لا ينزل ولا يصيب ولا يحيط» إشارة إلى أنّ الاحتيال قد يؤدّي ـ مؤقتا ـ

__________________

(١) أغلب المفسّرين قالوا بأنّ «استكبارا» هو «مفعول لأجله» من حيث التركيب النحوي وهي بيان لعلّة «النفور» وابتعادهم عن الحقّ ، و «مكر السيء» عطف على «استكبارا» في حين أنّ البعض الآخر قال : إنّها عطف على «نفورا».

(٢) «مكر السيئ» إضافة (للجنس) إلى (النوع) ، كما هو نقول : «علم الفقه» لأنّ (مكر) بمعنى (البحث عن حلّ) سواء كان خيرا أو شرّا ، لذا فإنّ هذه الكلمة تطلق كصفة لله سبحانه( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ) آل عمران ـ ٥٤ ، ولكن «السيء» تحصر المكر في نوع خاصّ منه ، وهو الاحتيال.

١١٣

إلى الإحاطة بالآخرين ، ولكنّه في النهاية يعود على صاحبه ، فهو مفضوح وضعيف وعاجز أمام خلق الله ، وسيندمون حتما أمام الله سبحانه وتعالى ، وذلك هو المصير المشؤوم الذي انتهى إليه مشركو مكّة.

هذه الآية في الحقيقة تريد القول بأنّهم لم يكتفوا فقط بالابتعاد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّهم استعانوا بكلّ قدرتهم واستطاعتهم لأجل إنزال ضربة قويّة به وبدعوته ، والسبب في كلّ ذلك لم يكن سوى الكبر والغرور وعدم الرضوخ للحقّ.

ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة ، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر ، يقول تعالى :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ) (١) .

هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم فرعون ، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم ، والقرآن الكريم أشار مرارا إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسّد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في مكّة.

ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة :( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً ) . فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوما على أعمال معيّنة ، ثمّ لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل الحكيم ، وكلّ ما يفعله بناء على حكمة وعدل تاميين؟!

فإنّ تغيير السنن يمكن تصوّره بالنسبة إلى من يمتلك اطّلاعا أو معرفة محدودة ، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنّة سابقة ، أو يكون الإنسان عالما ، إلّا أنّه لا يتصرّف طبقا للحكمة والعدالة ، بل طبقا لميول خاصّة في نفسه ، ولكن الله سبحانه وتعالى منزّه عن جميع تلك الأمور ، وسنّته حاكمة على من يأتي كما كانت تحكم من مضى ، ولا تقبل التغيير أبدا.

__________________

(١) «نظر» و «انتظار» تأتي أحيانا لتشير إلى نفس المعنى. كما يقول الراغب.

١١٤

وقد أكّد القرآن الكريم في مواضع عديدة على قضيّة ثبات سنن الله وعدم تغيّرها ، وقد فصّلنا الحديث في ذلك في تفسير الآية (٦٢) من سورة الأحزاب ، وبالجملة فإنّ في هذا العالم ـ عالم التكوين التشريع ـ ثمّة قوانين ثابتة لا تتغيّر ، عبّر عنها القرآن الكريم «السنن الإلهيّة» والتي لا سبيل إلى تغيّرها.

هذه القوانين كما أنّها حكمت في الماضي فإنّها حاكمة اليوم وغدا. ومجازات المستكبرين الكفرة الذين لم تنفع بهم الموعظة الإلهية من هذه السنن ، ومنها أيضا نصرة أتباع الحقّ الذين لا ينثنون عن جدّهم وسعيهم المخلص ، هاتان السنّتان كانتا ولا تزالان ثابتتين أمس واليوم وغدا(١) .

الجدير بالملاحظة أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن «عدم تبديل» السنن الإلهيّة ، الأحزاب ـ ٦٢ ، وفي البعض الآخر الحديث عن «عدم تحويل» السنن الإلهيّة ، سورة الإسراء ـ ٧٧ ، ولكن الآية مورد البحث أكّدت على الحالتين معا.

فهل أنّ هاتين الحالتين تعبير عن معنى واحد ، بحيث أنّهما ذكرتا معا للتأكيد ، أم أنّ كلا منهما يشير إلى معنى مستقل؟

بمراجعة أصل اللفظين يتّضح أنّهما إشارة إلى معنيين مختلفين : (تبديل) الشيء ، تعويضه بغيره كاملا ، بحيث يرفع الأوّل ويوضع الثاني ، ولكن (تحويل) الشيء ، هو تغيّر بعض صفات الشيء الأوّل من ناحية كيفية أو كمية مع بقائه.

وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الاستبدال ولا التعويض الكامل ، ولا التغيير النسبي من حيث الشدّة والضعف أو القلّة والزيادة. من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع الجهات ، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة اخرى. ولا أن يوقع عقابا أقلّ شدّة على مجموعة دون اخرى ، وهكذا قانون يستند إلى أصل

__________________

(١) لنا شرحا مفصّل بهذا الخصوص في سورتي الأحزاب والإسراء.

١١٥

ثابت ، لا يقبل التبديل ولا التحويل(١) .

آخر ما نريد التوقّف عنده هو أنّ الآية تضيف «سنّة» إلى لفظ الجلالة «الله» وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف «سنّة» إلى «الأوّلين» ويظهر في بادئ الأمر وجود تنافي بين الحالتين ، ولكن الأمر ليس كذلك ، لأنّه في الحالة الاولى أضيفت «سنّة» إلى «الفاعل» ، وفي الحالة الثانية أضيفت «سنّة» إلى «المفعول به».

ففي الحالة الاولى تعبير عن مجري السنّة ، وفي الثانية عمّن أجريت عليه السنّة.

الآية التالية تدعو هؤلاء المشركين والمجرمين إلى مطالعة آثار الماضين والمصير الذي وصلوا إليه ، حتّى يروا بأمّ أعينهم في آثارهم ومواطنهم السابقة جميع ما سمعوه ، وبذا يتحوّل البيان إلى العيان. فتقول الآية الكريمة :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

فإذا كانوا يتصوّرون أنّهم أشدّ قوّة من أولئك فهم على اشتباه عظيم تلك ، لأنّ الأقوام السالفة كانت أقوى منهم :( وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) .

فالفراعنة الذين حكموا مصر ، ونمرود الذي حكم بابل ودولا اخرى بمنتهى القدرة ، كانوا أقوياء إلى درجة لا يمكن قياسها مع قوّة مشركي مكّة.

إضافة إلى أنّ الإنسان مهما بلغ من القوّة والقدرة ، فإنّ قدرته وقوّته لا شيء إزاء قوّة الله ، لماذا؟ لأنّه( وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ) (٢) فهو العليم القدير ، لا يخفى عليه شيء ، ولا يستعصي على قدرته شيء ، ولا يغلبه أحد ، فلو تصوّر هؤلاء المستكبرون الماكرون أنّهم يستطيعون

__________________

(١) جمع من المفسّرين فسّروا «تحويل» هنا بمعنى «نقل مكان العذاب» بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى ينقل عقوبته من شخص لينزلها على شخص آخر. ومع ملاحظة أنّ هذا التّفسير لا ينسجم على ما يبدو مع الآية أعلاه ، فالحديث ليس عن نقل العذاب من شخص إلى آخر ، بل عن عدم قبول السنن للزيادة والنقص أو التغيير والتبديل ، فكأنّ هؤلاء المفسّرين خلطوا بين كلمتي «تحوّل» و «تحويل» ، وقد ورد في بعض متون اللغة كمجمع البحرين «التحويل : تصيير الشيء على خلاف ما كان. والتحوّل : التنقّل من موضع إلى موضع».

(٢) جملة «ليعجزه» كما ذكرنا سابقا من مادّة «عجز» وهي هنا بمعنى : يجعله عاجزا ، لذا ففي كثير من المواضع جاءت بمعنى الفرار من قدرة الله ، أو بمعنى عدم التمكّن من شخص.

١١٦

الفرار من يد قدرته تعالى فهم مشتبهون أشدّ الاشتباه. وإذا لم ينفضوا أيديهم من تلك الأعمال السيّئة ، فسوف يلاقون نفس المصير الذي لقيه من كان قبلهم.

يمرّ بنا مرارا التعرّض لهذا الأمر في القرآن الكريم ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يدعو الكفّار والعاصين إلى «السير في الأرض» ومشاهدة آثار الأقوام الماضين ومصائرهم الأليمة.

ورد في الآية (٩) من سورة الروم( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

وورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف ـ ١٠٩ ، والحجّ ـ ٤٦ ، وغافر ٢١ و ٨٢ ، والأنعام ـ ١١ إلى غير ذلك.

هذا التأكيد المتكرّر دليل على التأثير الخاصّ لتلك المشاهدات في النفس الإنسانية ، فإنّ عليهم أن يروا بأعينهم ما قرءوه في التأريخ أو سمعوه ، ليذهبوا وينظروا عروش الفراعنة المحطّمة. وقصور الأكاسرة المدمّرة ، وقبور القياصرة الموحشة ، وعظام نمرود المتفسّخة ، وأرض قوم لوط وثمود الخالية ، ثمّ ليستمعوا إلى نصائحهم الصامتة ، وأنينهم من تحت التراب ، وينظروا بامّ أعينهم ماذا حلّ بهؤلاء.

* * *

١١٧

الآية

( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥) )

التّفسير

لو لا لطف الله ورحمته!

الآية مورد البحث وهي الآية الأخيرة من آيات سورة فاطر ، وبعد تلك البحوث الحادّة والتهديدات الشديدة التي مرّت في الآيات المختلفة للسورة ، تنهي هذه الآية السورة ببيان اللطف والرحمة الإلهيّة بالبشر ، تماما كما ابتدأت السورة بذكر افتتاح الله الرحمة للناس. وعليه فإنّ البدء والختام متّفقان ومنسجمان في توضيح رحمة الله.

زيادة على ذلك ، فإنّ الآية السابقة التي تهدّد المجرمين الكفّار بمصير الأقوام الغابرين ، تطرح كذلك السؤال التالي ، وهو إذا كانت السنّة الإلهية ثابتة على جميع الطغاة والعاصين ، فلما ذا لا يعاقب مشركو مكّة؟! وتجيب على السؤال قائلة :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ) ولا يمنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والتفكّر في

١١٨

مصيرهم وتهذيب أخلاقهم( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) .

نعم لو أراد الله مؤاخذتهم على ذنوبهم لأنزل عليهم عقوبات متتالية ، صواعق ، وزلازل ، وطوفانات ، فيدمّر المجرمين ولا يبقى أثرا للحياة على هذه الأرض.( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ويعطيهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس.

هذا الحلم والإمهال الإلهي له أبعاد وحسابات خاصّة ، فهو إمهال إلى أن يحلّ أجلهم( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) (١) فانّه تعالى يرى أعمالهم ومطّلع على نيّاتهم.

هنا يطرح سؤالان ، جوابهما يتّضح ممّا ذكرناه أعلاه :

الأوّل : هل أنّ هذا الحكم العام( ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) يشمل حتّى الأنبياء والأولياء والصالحين أيضا؟

الجواب واضح ، لأنّ المعني بأمثال هذا الحكم هم الأغلبية والأكثرية منهم ، والرسل والأئمّة والصلحاء الذين هم أقلّية خارجون عن ذلك الحكم ، والخلاصة أنّ كلّ حكم له استثناءات ، والأنبياء والصالحون مستثنون من هذا الحكم. تماما مثلما نقول : إنّ أهل الدنيا غافلون وحريصون ومغرورون ، والمقصود الأكثرية منهم ، في الآية (٤١) من سورة الروم نقرأ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) . فبديهي أن الفساد ليس نتيجة لأعمال جميع البشر ، بل هو نتيجة لأعمال أكثريتهم.

وكذلك فإنّ الآية (٣٢) من نفس هذه السورة ، التي قسّمت الناس إلى ثلاث مجموعات «ظالم» و «مقتصد» و «سابق بالخيرات» شاهد آخر على هذا المعنى.

__________________

(١) جملة( فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ ) جملة شرطية ، وجزاؤها يقع في تقدير جواب الشرط هكذا «فإذا جاء أجلهم يجازى كلّ واحد بما عمل» ، وعليه فإنّ جملة «فإنّ الله» من قبيل «علّة الجزاء» وهي تقوم مقام المعلول المحذوف. ويحتمل كذلك أنّ الجزاء هو( لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) كما ورد في آيات اخرى من القرآن الكريم كالآية ٦١ من سورة النحل ، وعليه فإنّ جملة( فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) إشارة إلى أنّ الله يعرفهم جميعا ، ويعلم أيّا منهم أبلغ أجله لكي يأخذه بقدرته تعالى.

١١٩

وعليه فإنّ الآية أعلاه ليس فيها ما ينافي عصمة الأنبياء إطلاقا.

الثاني : هل أنّ التعبير بـ «دابّة» في الآية أعلاه يشير إلى شمول غير البشر ، أي أنّ تلك الدواب أيضا سوف تتعرّض للفناء نتيجة إيقاع الجزاء على البشر؟!

الجواب على هذا السؤال يتّضح إذا علمنا أنّ أصل فلسفة وجود الدواب هو تسخيرها لمنفعة الإنسان ، فإذا انعدم الإنسان من سطح الكرة الأرضية فليس من داع لوجود تلك الدواب(١) .

وأخيرا نختم هذا البحث بالحديث التالي الوارد عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يقول : «سبق العلم ، وجفّ القلم ، ومضى القضاء ، وتمّ القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل ، وبالسعادة من الله لمن آمن واتّقى ، وبالشقاء لمن كذّب وكفر ، وبالولاية من اللهعزوجل للمؤمنين ، وبالبراءة منه للمشركين» ثمّ قال : «إنّ اللهعزوجل يقول : يا ابن آدم ، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبقوّتي وعصمتي وعافيتي أدّيت إليّ فرائضي ، وأنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بذنبك منّي ، الخير منّي إليك واصل بما أوليتك به ، والشرّ منك إليك بما جنيت جزاء ، وبكثير من تسلّطي لك انطويت على طاعتي ، وبسوء ظنّك بي قنطت من رحمتي ، تلي الحمد والحجّة عليك بالبيان ، ولي السبيل عليك بالعصيان ، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان. لم أدع تحذيرك ولم آخذك عند غرّتك ، وهو قولهعزوجل :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) لم اكلّفك فوق طاقتك ، ولم احمّلك من الأمانة إلّا ما قرّرت بها على نفسك ، ورضيت لنفسي منك ما رضيت به لنفسك منّي ، ثمّ قالعزوجل :( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ

__________________

(١) «دابة» من مادة «دب» والدب والدبيب مشي خفيف ، ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر ، ويستعمل في كل حيوان وإن اختصت في التعارف بالخيل. وكذلك تطلق كلمة «الدواب» خاصة على الحيوانات التي تستعمل للركوب.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول على منبره : « معاشر الناس ، إنّي فرطكم ، وإنّكم واردون عليّ الحوض ، أعرض ما بين بصرى وصنعاء ، فيه عدد النجوم قدحاناً من فضّة ، وأنا سائلكم حين ترودن عليّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فاستمسكوا به لن تضلّوا ، ولا تبدّلوا في عترتي أهل بيتي ، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير ، أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، أنتظر من يرد عليّ منكم ، وسوف تأخّر أُناس دوني ، فأقول : يا ربّ ، منّي ومن أُمّتي ، فيقال : يا محمّد ، هل شعرت بما عملوا؟ إنّهم ما برحوا بعدك على أعقابهم ».

ثمّ قال : « أُوصيكم في عترتي خيراً » ثلاثاً ، أو قال : « في أهل بيتي » ، فقام إليه سلمان ، فقال : يا رسول الله ، ألا تخبرني عن الأئمّة بعدك؟ أما هم من عترتك؟

فقال : « نعم ، الأئمّة بعدي من عترتي عدد نقباء بني إسرائيل ، تسعة من صلب الحسين ( عليه السلام ) ، أعطاهم الله علمي وفهمي ، فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ، واتّبعوهم فإنّهم مع الحقّ والحقّ معهم »(١) .

الرابع : أخبرنا محمّد بن عبد الله ، قال : حدَّثنا أبو الحسن عيسى بن العراد الكبير ، قال : حدَّثني أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن عمر بن مسلم

____________

١ ـ كفاية الأثر : ١٢٧ ، ما جاء عن حذيفة بن أسيد.

وسؤال سلمان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن الأئمّة له طريقان آخران عن حذيفة بن أسيد وآخر عن عمران بن حصين ، وفيه : أُوصيكم في عترتي خيراً ، ذكرها في كفاية الأثر بعد هذا الحديث مباشرة ، ومن الواضح أنّ سؤال سلمان في هذه الأحاديث هو جزء من هذا الحديث الطويل بخصوص الثقلين ، وعنه في إثبات الهداة ٢ : ٥٣٣ ح ٥٢٩ ، وأورد الشطر الأخير منه ، والبرهان ١ : ١٠ ح ٤ ، وغاية المرام ٢ : ٣٢١ ح ١ ، الباب (٢٩) ، ونسبه إلى ابن بابويه أيضاً كما نبّهنا سابقاً ، والبحار ٢٦ : ٣٢٨ ح ١٨٥.

٣٤١

ابن لاحق اللاحفي(١) بالبصرة في سنة عشر وثلاثمائة ، قال : حدَّثنا محمّد ابن عمارة السكري ، عن إبراهيم بن عاصم ، عن عبد الله بن هارون الكرسحي(٢) ، قال : حدَّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد بن سلامة ، عن حذيفة اليمان ، قال : صلّى بنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ أقبل بوجهه الكريم علينا ، فقال : « معاشر أصحابي ، أُوصيكم بتقوى الله والعمل بطاعته ، فمن عمل بها فاز وغنم ، ومن أنجح(٣) وتركها حلّت به الندامة ، فالتمسوا بالتقوى السلامة من أهوال يوم القيامة ، فكأنّي أُدعى فأُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، ومن تمسّك بعترتي من بعدي كان من الفائزين ، ومن تخلّف عنهم كان من الهالكين ».

فقلت : يا رسول الله ، على ما تخلفنا؟

قال : « على من خلف موسى بن عمران قومه؟ ».

قلت : على وصيّه يوشع بن نون ، قال : « فإنّ وصيّ وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، قائد البررة وقاتل الكفرة ، منصور من نصره مخذول من خذله ».

قلت : يا رسول الله ، فكم يكون الأئمّة من بعدك؟

قال : « عدد نقباء بني إسرائيل ، تسعة من صلب الحسين ( عليه السلام ) ، أعطاهم الله علمي وفهمي ، خزّان علم الله ومعادن وحيه » ، قلت : يا رسول الله ، فما لأولاد الحسن؟

____________

١ ـ قد يكون ( اللاحقي ) كما في إثبات الهداة.

٢ ـ الظاهر أنّه ( الكرخي ) كما في غاية المرام.

٣ ـ الظاهر أنّ هنا تصحيف أو تأخير وتقديم ، وفي غاية المرام هكذا : فمن عمل بها فاز ونجح وغنم.

٣٤٢

قال : إنّ الله تبارك وتعالى جعل الإمامة في عقب الحسين ، وذلك قوله تعالى :( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) .

قلت : أفلا تسمّيهم لي يا رسول الله؟

قال : بلى ، إنّه لما عُرج بي إلى السماء ، ونظرت إلى ساق العرش فرأيت مكتوباً بالنور : لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ، أيّدته بعليّ ونصرته به ، ورأيت أنوار الحسن والحسين وفاطمة ، ورأيت في ثلاثة مواضع عليّاً عليّاً عليّاً ومحمّداً محمّداً وموسى وجعفراً والحسن والحجّة يتلألأ من بينهم كأنّه كوكب درّيّ ، فقلت : يا ربّ ، من هؤلاء الذين قرنت أسماءهم باسمك؟ قال : يا محمّد ، إنّهم هم الأوصياء والأئمّة بعدك ، خلقتُهم من طينتك ، فطوبى لمن أحبّهم والويل لمن أبغضهم ، فبهم أُنزل الغيث وبهم أُثيب وأُعاقب ».

ثمّ رفع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده إلى السماء ودعا بدعوات ، فسمعته في ما يقول : « اللّهم اجعل العلم والفقه في عقبي وعقب عقبي ، وفي زرعي وزرع زرعي »(١) .

الخامس : حدَّثني علي بن الحسين بن محمّد ، قال : حدَّثنا عتبة بن عبد الله الحمّصي بمكّة قراءة عليه سنة ثمانين وثلاثمائة ، قال : حدَّثنا موسى القطقطاني ، قال : حدَّثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدَّثنا حسين بن زيد بن علي ، قال : حدَّثنا عبد الله بن حسين بن حسن ، عن أبيه ، عن الحسن ( عليه السلام ) ، قال : « خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوماً ، فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه : معاشر الناس ، كأنّي أُدعى فأُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ، فتعلّموا منهم

____________

١ ـ كفاية الأثر : ١٣٦ ، ما جاء عن حذيفة بن اليمان ، وعنه في إثبات الهداة ٢ : ٥٣٥ ح ٥٣٤ ، وغاية المرام ٢ : ٢٣٦ ح ٩٩ ، باب (٢٩) ، و ٢ : ٣٢١ ح ٢ ، الباب (٢٩) ، ولكنّه نسبه إلى ابن بابويه كعادته ، والبحار ٣٦ : ٣٣١ ح ١٩١.

٣٤٣

ولا تعلّموهم ، فإنّهم أعلم منكم ، لا يخلو الأرض منهم ، ولو خلت إذاً لساخت بأهلها » الحديث(١) .

السادس : قال : وكقوله : « إنّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(٢) .

السابع : حدَّثنا أحمد بن إسماعيل ، قال : حدَّثنا محمّد بن همام ، عن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن موسى بن مسلم ، عن مسعدة ، قال : كنت عند الصادق ( عليه السلام ) إذ أتاه شيخ كبير قد انحنى متّكئاً على عصاه ، فسلّم فردّ أبو عبد الله ( عليه السلام ) الجواب ، ثمّ قال : يا ابن رسول الله ، ناولني يدك أُقبّلها ، فأعطاه يده فقبّلها ثمّ بكى ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : « ما يبكيك يا شيخ؟ ».

قال : جُعِلت فداك ، أقمت على قائمكم منذ مائة سنة أقول : هذا الشهر وهذه السنة ، وقد كبرت سنّي ودقّ عظمي واقترب أجلي ولا أرى ما أُحبّ ، أراكم معتلّين مشرّدين ، وأرى عدوّكم يطيرون بالأجنحة ، فكيف لا أبكي ، فدمعت عينا أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، ثمّ قال : « يا شيخ ، إن أبقاك الله حتّى تر قائمنا كنت معنا في السنام الأعلى ، وإن حلّت بك المنيّة جئت يوم القيامة مع ثقل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، ونحن ثقله ، فقال ( عليه السلام ) : إنّي مخلّف فيكم الثقلين ، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ».

فقال الشيخ : لا أُبالي بعدما سمعت هذا الخبر.

قال : « يا شيخ ، إنّ قائمنا يخرج من صلب الحسن ، والحسن يخرج

____________

١ ـ كفاية الأثر : ١٦٢ ، ماروي عن الحسن بن علي ( عليهما السلام ).

والحديث طويل فيه تعداد الأئمّة ( عليهم السلام ) من ولد الحسين بأسمائهم وصفاتهم ، اخترنا موضع الحاجة منه ، وعنه في إثبات الهداة ١ : ٥٩١ ح ٥٤٤ باختصار ، وغاية المرام ١ : ١١٥ ح ١٦ ، باب (١١) ، و ٢ : ٣٢٤ ح ٧ ، باب (٢٩) ، و ٣ : ٩ ح ١١ ، باب (٣١) ، والبحار ٣٦ : ٣٣٨ ح ٢٠١.

٢ ـ كفاية الأثر : ٢١٠.

٣٤٤

من صلب علي ، وعلي يخرج من صلب محمّد ، ومحمّد يخرج من صلب علي ، وعلي يخرج من صلب ابني هذا ـ وأشار إلى موسى ( عليه السلام ) ـ ، وهذا خرج من صلبي ، نحن اثنا عشر كلّنا معصومون مطهّرون » الحديث(١) .

أبو القاسم علي بن محمّد بن علي الخزّاز القمّي :

قال النجاشي ( ت ٤٥٠ هـ ) : علي بن محمّد بن علي الخزّاز ، ثقة من أصحابنا ( أبو القاسم ) ، وكان فقيهاً وجهاً ، له كتاب الإيضاح من أُصول الدين على مذهب أهل البيت ( عليهم السلام )(٢) .

ولكن الطوسي ( ت ٤٦٠ هـ ) ذكر في رجاله أنّ أباه أحمد ، وقال : علي بن أحمد بن علي الخزّاز ، نزيل الريّ ، يكنّى ( أبا الحسن ) ، متكلّم جليل(٣) ، وفي الفهرست ، قال : علي الخزّاز الرازي متكلّم جليل له كتب في الكلام ، وله أُنس بالفقه ، وكان مقيماً بالريّ وبها مات ( رحمه الله )(٤) .

وذكره العلاّمة ( ت ٧٢٦ هـ ) مرّة بعنوان : علي بن الخزّاز ، متكلّم جليل ، له كتب في الكلام ، وله أُنس بالفقه ، كان مقيماً بالريّ وبها مات(٥) ، ومرّة بعنوان : علي بن محمّد بن علي الخزّاز ، يكنّى أبا القاسم ، كان ثقة من أصحابنا فقيهاً وجيهاً(٦) ، وكذا في إيضاح الاشتباه : علي بن محمّد بن علي الخزّاز(٧) ، وكأنّه جعله اثنان.

____________

١ ـ كفاية الأثر : ٢٦٤ ، ما جاء عن جعفر بن محمّد ( عليهما السلام ) ، وعنه في إثبات الهداة ١ : ٦٠٣ ح ٥٨٦ ، وأورده من حديث الثقلين إلى آخره ، وغاية المرام ٢ : ٣٢٣ ح ٦ ، ونسبه إلى ابن بابويه كعادته ، والبحار ٣٦ : ٤٠٨ ح ١٧.

٢ ـ رجال النجاشي: ٢٦٨ [ ٧٠٠ ].

٣ ـ رجال الطوسي : ٤٣٠ [ ٦١٧٢ ] ، من لم يرو عن واحد من الأئمّة ( عليهم السلام ).

٤ ـ فهرست الطوسي: ٢٩٠ [ ٤٣٣ ].

٥ ـ خلاصة الأقوال : ١٨٠ [ ٥٣٥ ].

٦ ـ خلاصة الأقوال: ١٨٨ [ ٥٦٤ ].

٧ ـ إيضاح الاشتباه : ٢٢٢ [ ٤٠٧ ].

٣٤٥

وقال ابن داود ( ت ٧٠٧ هـ ) : علي بن محمّد بن علي الخزّاز ، أبو القاسم [ جش [ ثقة ، كان من أصحابنا وجيهاً(١) .

كفاية الأثر :

قال ابن شهرآشوب ( ت ٥٨٨ هـ ) ـ بعد أن عنونه بـ ( علي بن محمّد ابن علي الخزّاز القمّي ) ـ من كتبه : كتاب الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة ، الإيضاح في الاعتقاد ، الكفاية في النصوص(٢) .

وقال البهبهاني ( ت ١٢٠٥ هـ ) في التعليقه ـ بعد أن ذكر ما قاله ابن شهرآشوب ـ : قد رأيت هذا الكتاب ـ أعني الكفاية ـ كتاباً مبسوطاً جيّداً في غاية الجودة ، جميعه نصوص عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وعن غيره أيضاً على أنّ الأئمّة اثنا عشر ، وفيه بعض تحقيقاته ، يظهر منه كونه في غاية الفضل ، ويظهر من ذلك الكتاب كونه من تلامذة الصدوق وأبي المفضّل الشيباني ومن في طبقتهما ( رضي الله عنهم ).

ونقل عن خالي العلاّمة(٣) نسبة هذا الكتاب إلى المفيد ، وعن غيره(٤) إلى الصدوق ، ونسبا إلى الوهم ; لما ذكره ابن شهرآشوب ، والسيّد الجليل عبد الكريم بن طاووس في فرحة الغري ، والعلاّمة في إجازته لأولاد

____________

١ ـ رجال ابن داود : ١٤١ [ ١٠٧٨ ] ، القسم الأوّل.

وانظر : الوجيزة ( رجال المجلسي ) : ٢٥٦ [ ١٢٠٥ ] و ٢٦٥ [ ١٢٨٢ ] ، معجم الثقات : ٨٦ [ ٥٧٩ ] ، منهج المقال : ٢٢٥ و ٢٣٨ ، في المتن والحاشية ، نقد الرجال ٣ : ٢٢٨ [ ٣٥٠١ ] و ٢٩٨ [ ٣٦٩٠ ] ، تنقيح المقال ٢ : ٢٦٥ و ٢٦٧ و ٣٠٧ ، قاموس الرجال ٧ : ٣٦٠ [ ٥٠٢١ ] و ٥٦٦ [ ٥٣١٣ ].

٢ ـ معالم العلماء : ٧١ [ ٤٧٨ ].

٣ ـ العلاّمة المجلسي ، ولكن الظاهر أنّ النقل غير صحيح ، كما سيأتي من قول المجلسي في البحار.

٤ ـ الظاهر أنّه البحراني ، كما نبّهنا سابقاً عند ذكر الروايات.

٣٤٦

زهرة ، والشيخ الحرّ في وسائل الشيعة ، فإنّهم أيضاً صرّحوا بكونه لهذا الجليل(١) .

وعدّه الشيخ الحرّ العاملي ( ت ١١٠٤ هـ ) في الكتب المعتمدة عنده ، وقال : كتاب الكفاية في النصوص على عدد الأئمّة ( عليهم السلام ) للشيخ الثقة الصدوق علي بن محمّد الخزّاز القمّي(٢) ، وذكر طريقه إليه(٣) .

وذكره المجلسي ( ت ١١١١ هـ ) في مصادره ، وقال : كتاب كفاية الأثر في النصوص على الأئمّة الاثني عشر للشيخ السعيد علي بن محمّد بن علي الخزّاز القمّي(٤) .

وقال في توثيقه : وكتاب الكفاية كتاب شريف ، لم يؤلّف مثله في الإمامة ، وهذا الكتاب ومؤلّفه مذكوران في إجازة العلاّمة ، وغيرها ، وتأليفه أوّل دليل على فضله وثقته وديانته ، ثمّ ذكر توثيق العلاّمة في الخلاصة ، وابن شهرآشوب في المعالم(٥) .

وهناك نسخ عديدة للكتاب منها في مكتبة العلاّمة المحدّث الأرموي ، فرغ من نسخها سنة ٩٣١ هـ ونسخت على نسخة تاريخها ٤٠٤ هـ ، ونسخة أُخرى ذكر السيّد العلاّمة محسن الأمين في كتابه ( معادن الجواهر ) أنّه وجدها في جبل عامل ، قد فرغ من نسخها سنه ٥٨٤ هـ ، وعليها إجازة بخطّ شاذان بن جبرئيل بن إسماعيل القمّي ، وهو يروي الكتاب عن السيّد العالم فخر الدين محمّد بن سرايا الحسني الجرجاني ،

____________

١ ـ منهج المقال : ٢٣٨ ، الحاشية.

٢ ـ خاتمة الوسائل ٣٠ : ١٥٦ [ ٢٩ ].

٣ ـ خاتمة الوسائل ٣٠ : ١٧٩ ، الطريق الواحد والعشرون.

٤ ـ البحار ١ : ١٠ ، مصادر الكتاب.

٥ ـ البحار ١ : ٢٩ ، توثيق المصادر.

٣٤٧

عن الشيخ الفقيه علي بن علي بن عبد الصمد التميمي ، عن أبيه ، عن السيّد العالم أبي البركات الحوري عن المصنّف ( رحمه الله ).

وعلى النسخة خطوط بالإجازة والقراءة متتابعة التواريخ(١) .

____________

١ ـ معادن الجواهر ٢ : ٢٠٧ الباب السادس : في أُمور متفرّقة.

وانظر أيضاً : مقدّمة كتاب كفاية الأثر ، ورياض العلماء ٤ : ٢٢٦.

٣٤٨

حديث الثقلين عند الإماميّة ( الاثني عشريّة )

القرن الخامس الهجري

٣٤٩
٣٥٠

(٣٥) مقتضب الأثر

لأحمد بن عيّاش الجوهري ( ت ٤٠١ هـ )

الحديث :

الحمد لله المبتدي خلقه بالنعم ، وإيجادهم بعد العدم ، والمصطفي منهم من شاء في الأُمم ، حججاً على سائر الأُمم ، وبمحمّد ( صلى الله عليه وآله ) ختم ، وبالأئمّة من بعده النعمة أتمّ ، وقال :( بَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) ثمّ قرنهم رسول الله بكتاب ربّه ، جعلهم قرناءه ، وعليه أُمناءه ، فقال : « إنّي مخلّف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » فجعل حكمهما في الطاعة وفي الاقتداء بهما واحد(١) .

أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن عيّاش الجوهري ( ت ٤٠١ هـ ) :

قال النجاشي ( ت ٤٥٠ هـ ) : أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن الحسن ابن عيّاش بن إبراهيم بن أيّوب الجوهري ، أبو عبد الله ، وأُمّه سكينة بنت الحسين بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن إسحاق بنت أخي القاضي أبي عمر محمّد بن يوسف.

____________

١ ـ مقتضب الأثر في النصّ على الأئمّة الاثني عشر : ٢٨٧ ، مقدّمة الكتاب ضمن مجلّة علوم الحديث ( العدد التاسع ).

٣٥١

كان سمع الحديث وأكثر ، واضطرب في آخر عمره ، وكان جدّه وأبوه من وجوه أهل بغداد أيّام آل حمّاد والقاضي أبي عمر.

ثمّ قال ـ بعد أن ذكر كتبه ـ : رأيت هذا الشيخ ، وكان صديقاً لي ولوالدي ، وسمعت منه شيئاً كثيراً ، ورأيت شيوخنا يضعّفونه ، فلم أرو عنه شيئاً وتجنّبته ، وكان من أهل العلم والأدب القويّ ، وطيّب الشعر ، وحسن الخطّ ، رحمه الله وسامحه ، ومات سنة إحدى وأربعمائة(١) .

وقال الطوسي ( ت ٤٦٠ هـ ) في الفهرست : كان سمع الحديث وأكثر ، واختلّ في آخر عمره ، وكان جدّه وأبوه وجيهين ببغداد ، وأُمّه سكينة بنت الحسين بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن إسحاق بنت أخي القاضي أبي عمر محمّد بن يوسف(٢) .

وذكره في رجاله في من لم يرو عن واحد من الأئمّة ( عليهم السلام ) ، وقال : أحمد بن محمّد بن عيّاش ، يكنّى أبا عبد الله ، كثير الرواية إلاّ أنّه اختلّ في آخر عمره ، أخبرنا عنه جماعة من أصحابنا ، مات سنة إحدى وأربعمائة(٣) .

ووصفه ابن شاذان ( القرن الخامس ) بالحافظ في عدّة مواضع من كتابه المائة منقبة(٤) .

وسكت عنه ابن شهرآشوب ( ت ٨٨ هـ ) في معالمه ، واكتفى بعدّ كتبه ، وذكر اسمه ، هكذا : أحمد بن محمّد بن عبيد الله بن سليمان ، أبو عبد الله الجوهري(٥) .

وذكره العلاّمة ( ت ٧٢٦ هـ ) في الخلاصة في القسم الثاني المخصّص

____________

١ ـ رجال النجاشي : ٨٥ [ ٢٠٧ ].

٢ ـ فهرست الطوسي : ٧٨ [ ٩٩ ].

٣ ـ رجال الطوسي : ٤١٣ [ ٥٩٨٣ ].

٤ ـ مائة منقبة : ٦٤ ، المنقبة ١٧ و ٣٠ و ٨٢.

٥ ـ معالم العلماء : ٢٠ [ ٩٠ ].

٣٥٢

للضعاف بمثل ما ذكره النجاشي والطوسي ، ونقل كلام النجاشي الأخير(١) ، ومثله فعل ابن داود ( ت ٧٠٧ هـ )(٢) .

وعدّه في الحاوي من الضعاف(٣) ).

وفي الوجيزة للمجلسي ( ت ١١١١ هـ ) : ضعيف ، وفيه مدح(٤) ، وقال في البحار عند ذكره لكتابه المقتضب : ذكره الشيخ والنجاشي في فهرستيهما ، وعدّا هذا الكتاب من كتبه ، ومدحاه بكثرة الرواية ، لكن نسبا إليه أنّه خلط في آخر عمره ، وذكره ابن شهرآشوب وعدّ مؤلّفاته ، ولم يقدح فيه بشيء(٥) .

وقال المامقاني ( ت ١٣٥١ هـ ) ـ بعد أن نقل ما أوردناه آنفاً ـ : قلت : بعد إحراز كونه إماميّاً كما تكشف عنه كتبه وورود المدح فيه ، كان مقتضى القاعدة عدّ حديثه من الحسن لا الضعيف سيّما إن أُريد بالاختلال في آخر عمره خلل في عقله دون مذهبه ، وترحّم النجاشي عليه مؤيّد لحسنه ، كما لا زال يستشهد بنحو ذلك الوحيد لحسن الرجل ، وإن أُريد بالاختلال اختلال مذهبه كما يومي إليه قول النجاشي بعد الترحّم وسامحه ، وقوله قبل ذلك اضطرب في آخر عمره ، فإنّ ذلك لا يراد به على الظاهر اختلال العقل ، نقول : لا مانع من الأخذ برواياته التي رواها في حال استقامته واعتداله ولكن تجنّب النجاشي من الرواية عنه احتياطاً أوجب تضعيفهم

____________

١ ـ خلاصة الأقوال : ٣٢٢ [ ١٢٦٥ ] ، القسم الثاني ، وانظر : إيضاح الاشتباه : ١٠٢ [ ٦٥ ].

٢ ـ رجال ابن داود : ٢٢٩ [ ٤١ ] ، القسم الثاني ، وانظر : مجمع الرجال ١ : ١٥٢ ، نقد الرجال ١ : ١٦٣ [ ٣٢٦ ] ، منتهى المقال ١ : ٣٣٠ [ ٢٣٧ ] ، جامع الرواة ١ : ٦٨ ، الكنى والألقاب ١ : ٣٦٩ ، معجم رجال الحديث ٣ : ٧٧.

٣ ـ حاوي الأقوال ٣ : ٣٩٣ [ ١٢٧٣ ].

٤ ـ الوجيزة ( رجال المجلسي ) : ١٥٤ [ ١٢٩ ].

٥ ـ البحار ١ : ٣٧ ، توثيق المصادر.

٣٥٣

للرجل واتّباعهم إيّاه ، وهو كما ترى(١) .

وعلّق التستري ( ت ١٤١٥ هـ ) في القاموس : هذا ، وأحسن النجاشي في تجنّبه عن الرواية عنه ، وقد روى الشيخ في مصباحه عنه في أدعية شهر رجب دعاء ( اللّهمّ إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك ) وهو دعاء مختلّ الألفاظ والمعاني ، وفيه فقرة منكرة ( لا فرق بينك وبينها إلاّ أنّهم عبادك )(٢) .

أقول : اختلال الألفاظ والمعاني لا نسلّم به ، وهذه الفقرة ظاهرة التصحيف وهم أعلم بمعناها ، وقد يكون ما قاله النجاشي من الاضطراب والطوسي من الاختلال يشير إلى مثل هذا ، فالناظر في كلام النجاشي والطوسي يرى كلامهما واحداً ، إلاّ في كلمتي ( اضطرب ) و ( اختلّ ) فكأنّ مرادهما واحد ، وعليه فلا يراد منهما الطعن في مذهبه ، بل الأقرب تضعيفه من جهة الضبط وهو في آخر عمره.

أمّا تجنّب النجاشي الرواية عنه ، فإنّه لم يلتزم به في عدّة موارد كما سيأتي عن العلاّمة الطهراني ، فالظاهر أنَّه كان منه مراعاة للشيوخ الذين ضعّفوه كما نقل ، وإن لم يرتضه هو كلّ الرضا ، وإلاّ لما روى عنه في هذه الموارد العديدة.

قال صاحب الرياض ( ت حدود ١١٣٠ هـ ) : من فضلاء الشيعة الإماميّة ورئيسهم(٣) .

وقال الخوانساري ( ت ١٣١٣ هـ ) ـ بعد أن عنون له بالحافظ الفقيه المشهور ـ : يروي عنه في البحار كثيراً ، وهو من جملة المعتمدين من الأصحاب ( رضوان الله عليهم أجمعين )(٤) .

____________

١ ـ تنقيح المقال ١ : ٨٨ [ ٥١٧ ].

٢ ـ قاموس الرجال ١ : ٦٢٢ [ ٥٦١ ].

٣ ـ رياض العلماء ٦ : ٣١.

٤ ـ روضات الجنّات ١ : ٦٠ [ ١٢ ].

٣٥٤

وقال العلاّمة الطهراني ( ت ١٣٨٩ هـ ) في الطبقات : ذكره النجاشي ، وقال : كان صديقاً لي ولوالدي وسمعت منه شيئاً كثيراً ، وذكر أنَّه لا يروي عنه ، لكن ينقل عنه كثيراً ، منها في ترجمة رومي بن زرارة ، قال : له كتاب رواه ابن عيّاش ، قال : حدَّثنا علي بن محمّد بن زياد التستري(١) ، ومنها في ترجمة عبيد بن كثير ، قال : رواه أبو عبد الله بن عيّاش ، عن أبي الحسين عبد الصمد بن مكرم(٢) ، وفي ترجمة القاسم بن الوليد : قال أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن عبيد الله : حدَّثنا عبيد الله بن أبي زيد(٣) يعني أبا طالب الأنباري عبيد الله بن أحمد بن أبي زيد ، وقال في ترجمة محمّد بن جعفر ابن عنبسة : قال أبو عبد الله بن عيّاش : حدَّثنا علي بن محمّد بن جعفر بن عنبسة(٤) ، وفي ترجمة علي بن محمّد بن جعفر بن عنبسة : قال أبو عبد الله ابن عيّاش : يقال له ابن ريدويه(٥) ، وفي ترجمة محمّد بن سنان : كان أبو عبد الله بن عيّاش يقول : حدَّثنا أبو عيسى محمّد بن أحمد بن محمّد بن سنان(٦) (٧) .

وقال أيضاً : مؤلّف كتاب ( مقتضب الأثر ) والمتوفّى ٤٠١ ، وعمّر طويلا ; لأنّه يروي عن أحمد بن محمّد بن عقدة الذي توفّي ٣٣٣ هـ ، يعدّ من أعلام هذا القرن ; لأنّ تمام حياته ونشاطه العلمي في هذا القرن ، لكن حيث أدرك القرن الخامس ذكرته هناك(٨) .

____________

١ ـ رجال النجاشي : ١٦٦ [ ٤٤٠ ].

٢ ـ رجال النجاشي : ٢٣٤ [ ٦٢٠ ].

٣ ـ رجال النجاشي : ٣١٣ [ ٨٥٥ ].

٤ ـ رجال النجاشي : ٣٧٦ [ ١٠٢٥ ].

٥ ـ رجال النجاشي : ٢٦٢ [ ٦٨٦ ].

٦ ـ رجال النجاشي : ٣٢٨ [ ٨٨٨ ].

٧ ـ طبقات أعلام الشيعة ( القرن الخامس ) ٢ : ٢٣.

٨ ـ طبقات أعلام الشيعة ( القرن الرابع ) ١ : ٥١.

٣٥٥

أقول : لعلّ تضعيف شيوخ النجاشي له جاء من روايته لكتب الضعفاء ، وذلك ظاهر لمن تتبّع الموارد التي ذكرناها آنفاً عن الطهراني في رجال النجاشي.

وقد أضاف السيّد الخوئي ( ت ١٤١٣ هـ ) ( قدس سره ) مورداً آخر ، وهو ما رواه في ترجمة الحسين بن بسطام ، قال : وقال أبو عبد الله بن عيّاش : هو الحسين بن بسطام بن سابور الزيّات ، ثمّ قال : قال ابن عبّاس : أخبرناه الشريف أبو الحسين صالح بن الحسين النوفلي(١) (٢) .

ثمّ أنّه قد لا يلتفت إلى مثل هذه التضعيفات بعد أن روى عنه الأجلاّء مثل الدوريستي(٣) ، كما سيأتي في إجازات الكتاب.

كتاب مقتضب الأثر :

نسبه إلى ابن عيّاش كلّ من ترجم له.

قال النجاشي ( ت ٤٥٠ هـ ) : له كتب ، منها : كتاب مقتضب الأثر في عدد الأئمّة الاثني عشر ، كتاب الأغسال(٤) .

وقال الطوسي ( ت ٤٦٠ هـ ) : وصنّف كتباً منها : كتاب مقتضب الأثر في عدد الأئمّة الاثني عشر ( عليهم السلام ) ، ثمّ قال ـ بعد أن ذكر بقيّة كتبه ـ : أخبرنا بسائر كتبه ورواياته جماعة من أصحابنا عنه ، ومات سنه إحدى وأربعمائة(٥) .

وطريقه صحيح ، قاله السيّد الخوئي ( ت ١٤١٣ هـ ) ( قدس سره )(٦) .

____________

١ ـ رجال النجاشي : ٣٩ [ ٧٩ ].

٢ ـ معجم رجال الحديث ٣ : ٧٨ ، وانظر : الجامع في الرجال ١ : ١٧٤.

٣ ـ أعيان الشيعة ٣ : ١٢٥ ، وانظر : تهذيب المقال ٣ : ٣٦٤.

٤ ـ رجال النجاشي : ٨٦ [ ٢٠٧ ].

٥ ـ فهرست الطوسي : ٧٨ [ ٩٩ ].

٦ ـ معجم رجال الحديث ٣ : ٧٨ [ ٨٨٤ ].

٣٥٦

وأورده المجلسي ( ت ١١١١ هـ ) ضمن مصادره(١) ، وقال في توثيقه : وبالجملة كتابه من الأُصول المعتبرة عند الشيعة ، كما يظهر من التتبّع(٢) .

وقال النوري ( ت ١٣٢٠ هـ ) : وكتاب مقتضب الأثر في عدد الأئمّة الاثني عشر ( عليهم السلام ) ، وهو مع صغر حجمه من نفائس الكتب(٣) .

وقد ذكر السيّد ابن طاووس ( ت ٦٦٤ هـ ) في الطرائف أنّه رآه ، قال : وقد رأيت تصنيفاً لأبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن عيّاش اسمه ( كتاب مقتضب الأثر في إمامة الاثني عشر ) وهو نحو من أربعين ورقة ، في النسخة التي رأيتها ، يذكر فيها أحاديث عن نبيّهم محمّد ( صلى الله عليه وآله ) بإمامة الاثني عشر من قريش بأسمائهم(٤) .

وقال الطهراني ( ت ١٣٨٩ هـ ) : إجازة الشيخ الجليل أبي محمّد عبد الله بن جعفر بن محمّد بن موسى بن جعفر بن محمّد بن أحمد العيّاشي الدوريستي للشيخ صفيّ الدين أبي الفتوح الهمداني محمّد بن أحمد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الجبّار بن الحسين بن محمّد بن أحمد بن المشرون الوزيري ، ولولده أبي نصر أحمد بن محمّد مختصرة ، كتبها بخطّه لهما على ظهر مقتضب الأثر في شعبان سنة ٥٧٥ هـ ، يرويه عن جدّه محمّد بن موسى ، عن جدّه جعفر بن محمّد ، عن الحسن بن محمّد ابن إسماعيل بن أشناس البزّاز ، عن مصنّفه الشيخ الإمام أبي عبد الله أحمد ابن محمّد بن عبد الله بن الحسين بن عيّاش بن إبراهيم بن أيّوب الجوهري المتوفّى سنه ٤٠١(٥) .

____________

١ ـ البحار ١ : ١٩.

٢ ـ البحار ١ : ٣٧ ، توثيق المصادر.

٣ ـ خاتمة المستدرك ٣ : ٣٨.

٤ ـ الطرائف ١ : ٢٥٤ ، وانظر : البحار ٣٦ : ٣٦٤.

٥ ـ الذريعة ١ : ٢٠٣ [ ١٠٦٢ ].

٣٥٧

وقال عند ذكره لمقتضب الأثر ، وبعد أن أورد ما في أوّل الكتاب وعدد أجزائه ومحتواها : والنسخة في خزانة كتب الميرزا محمّد الطهراني ، وحسب أمره طبع في سنة ( ١٣٤٦ هـ ) ، ورأيت نسخة منتسخة من أصل كَتَبه محمّد بن أحمد بن محمّد بن عبد الكريم بن ، أبو الفتوح الهمداني ، فرغ منه ليلة ( ٢٢ شعبان ـ عظّم الله قدره ـ سنة ٥٧٥ ) وكتب على النسخة المذكورة في التاريخ المذكور ـ أعني شعبان ٥٧٥ ـ عبد الله بن جعفر بن محمّد بن موسى بن جعفر بن محمّد بن أحمد العبّاس(١) الدوريستي المذكور في ( ج ١ ـ ص ٢٠٣ ) بخطّه مالفظه ( مات مصنّف الكتاب سنة ٤٠١ ) ، ثمّ ذكر إجازة الدوريستي لأبي الفتوح وولده بمثل ما مرّ ، وقال : إنّها موجودة في مستدرك الإجازات على إجازات البحار(٢) .

وهناك إجازة أُخرى لهذا الكتاب من بعض أفاضل تلامذة الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد الحلّي ونظرائه ، والظاهر أنّها من السيّد محمّد ابن الحسين بن محمّد بن أبي الرضا العلوي ـ كما استظهره المجلسي ( ت ١١١١ هـ ) في بحاره ـ للسيّد شمس الدين محمّد ابن السيّد جمال الدين أحمد بن أبي المعالي أُستاذ الشهيد ( قدس سره )(٣) :

بسم الله الرحمن الرحيم ، وأجزت له رواية كتاب مقتضب الأثر في الأئمّة الاثني عشر تأليف الشيخ أبي عبد الله أحمد بن محمّد بن عبد الله ابن الحسن بن عيّاش ، عن إبراهيم بن أيّوب ، عن الشيخ نجيب الدين المذكور ، عن السيّد ابن زهرة ، عن الشيخ الفقيه أبي سالم علي بن الحسن ابن المظفّر ، عن الفقيه رشيد الدين أبي الطيّب طاهر بن محمّد بن علي

____________

١ ـ هكذا في الذريعة ، وقد مرّ منه ( العيّاشي ).

٢ ـ الذريعة ٢٢ : ٢١ [ ٥٨٢٣ ].

٣ ـ البحار ١٠٧ : ١٥٢ ، وانظر : أعيان الشيعة ٣ : ١٢٥.

٣٥٨

الخواري ، عن الفقيه عبد الله بن جعفر بن محمّد بن موسى بن جعفر الدوريستي ، عن جدّه أبي جعفر محمّد بن موسى ، عن جدّه أبي عبد الله جعفر بن محمّد الدوريستي ، عن المصنّف(١) .

ومن الواضح أنّ هذه الإجازة بنفس طريق عبد الله بن جعفر الدوريستي صاحب الإجازة السابقة.

وقد طبع هذا الكتاب طبعة جديدة محقّقة في مجلّة علوم الحديث ( العدد التاسع ) ، وذكر العلاّمة البارع السيّد محمّد رضا الجلالي في أوّلها تحت عنوان ( تتميم النظر في التقديم لمقتضب الأثر ) أنّه اطَّلعَ على ثلاث نسخ من الكتاب اثنان منها في المكتبة الرضويّة وأُخرى عند السيّد محمّد علي الطبسي الحائري دام ظلّه ، ثمّ أورد وصفاً مفصّلاً لهذه النسخ ، تنطبق مواصفات اثنتين منها على مواصفات النسخة التي مرّ ذكرها عن العلاّمة الطهراني ، فلعلّه رأى إحداهما(٢) .

____________

١ ـ البحار ١٠٧ : ١٦٨.

٢ ـ انظر مجلّة علوم الحديث ، العدد التاسع ، ( تتميم النظر في التقديم لمقتضب الأثر ).

٣٥٩
٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581