الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175541 / تحميل: 6521
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً ) (١) .

* * *

إلهي ، اجعلنا ممّن ينتفعون من الفرصة قبل فواتها ، فيرجعون إلى وجهك الكريم ، ونوّر ما مضى من أيّامنا بنور حسناتك ورضاك.

إلهي ، إذا لم تشملنا برحمتك فإنّ جهنّم التي أشعلناها بأعمالنا السيّئة ستمتدّ بألسنتها إلينا وتلقي بنا في لهواتها ، وإن لم تضيء قلوبنا بنور غفرانك فإنّ قلوبنا ستصبح مرتعا للشيطان اللعين.

إلهي ، أعذنا من كلّ شرك ، وأسرج مصباح الإيمان والتوحيد الخالص في أعماق قلوبنا وزوّدنا بالتقوى في أقوالنا وأعمالنا ، إنّك مجيب الدعاء.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٧٠ الحديث ١٢٢.

١٢١
١٢٢

سورة

يس

مكّية

وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية

١٢٣
١٢٤

سورة يس

محتوى السورة :

هذه السورة من السور المكّية ، لذا فهي من حيث النظرة الإجمالية لها نفس المحتوى العام للسور المكّية ، فهي تتحدّث عن التوحيد والمعاد والوحي والقرآن والإنذار والبشارة ، ويلاحظ في هذه السورة أربعة أقسام رئيسيّة :

١ ـ تتحدّث السورة أوّلا عن رسالة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن المجيد والهدف من نزول ذلك الكتاب السماوي العظيم وعن المؤمنين به ، وتستمر بذلك حتّى آخر الآية الحادية عشرة.

٢ ـ قسم آخر من هذه السورة يتحدّث عن رسالة ثلاثة من أنبياء الله ، وكيف كانت دعوتهم للتوحيد ، وجهادهم المتواصل المرير ضدّ الشرك ، وهذا في الحقيقة نوع من التسلية والمواساة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضيح الطريق أمامه لتبليغ رسالته الكبرى.

٣ ـ قسم آخر منها ، والذي يبدأ من الآية ٣٣ وحتّى الآية ٤٤ ، مملوء بالنكات التوحيدية الملفتة للنظر ، وهو عرض معبّر عن الآيات والدلائل المشيرة إلى عظمة الله في عالم الوجود ، كذلك فإنّ أواخر السورة أيضا تعود إلى نفس هذا البحث التوحيدي والآيات الإلهية.

٤ ـ قسم مهمّ آخر من هذه السورة ، يتحدّث حول المواضيع المرتبطة بالمعاد والأدلّة المختلفة عليه ، وكيفية الحشر والنشر ، والسؤال والجواب في يوم القيامة ، ونهاية الدنيا ، ثمّ الجنّة والنار ، وهذا القسم يتضمّن مطالب مهمّة ودقيقة جدّا.

١٢٥

وخلال هذه البحوث الأربعة ترد آيات محرّكة ومحفّزة لأجل تنبيه وإنذار الغافلين والجهّال ، لها الأثر القوي في القلوب والنفوس.

الخلاصة ، أنّ الإنسان يواجه في هذه السورة بمشاهد مختلفة من الخلق والقيامة ، الحياة والموت ، الإنذار والبشارة ، بحيث تشكّل بمجموعها نسخة الشفاء ومجموعة موقظة من الغفلة.

فضيلة سورة «يس» :

سورة يس ـ بشهادة الأحاديث المتعدّدة التي وردت بهذا الخصوص ـ من أهمّ السور القرآنية ، إلى حدّ أنّ الأحاديث لقّبتها بـ «قلب القرآن» ففي حديث عن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ «إنّ لكلّ شيء قلبا ، وقلب القرآن يس»(١) .

وفي حديث عن أبي بصير عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ لكلّ شيء قلبا وقلب القرآن يس ، فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتّى يمسي ، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام وكلّ به ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم ومن كلّ آفة ...» الحديث(٢) .

كذلك نقرأ عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا «سورة تدعى في التوراة المعمة! قيل : وما المعمة؟ قال : تعم صاحبها خير الدنيا والآخرة» الحديث(٣) .

وهناك روايات اخرى عديدة بهذا الخصوص ، وردت في كتب الفريقين أعرضنا عن ذكرها حذرا من الإطالة.

لذا يجب الإقرار بأنّه ربّما لم تنل سورة من سور القرآن الاخرى كلّ هذه الفضائل الخاصّة بسورة يس.

__________________

(١) مجمع البيان ، مجلّد ٤ ، صفحة ٤١٣.

(٢) مجمع البيان ، مجلّد ٤ ، صفحة ٤١٣.

(٣) المصدر السابق.

١٢٦

وكما أشرنا سابقا فإنّ هذه الفضيلة والثواب لا ينالهما من يكتفي بقراءة الألفاظ ـ فقط ـ مشيحا عن مفاهيم السورة ، بل إنّ عظمة فضيلة هذه السورة إنّما هي لعظمة محتواها

محتوى يوقظ من الغفلة ويضخّ في النفس الإيمان ، ويولد روح المسؤولية ويدعو إلى التقوى ، بحيث أنّ الإنسان إذا تفكّر في هذه الآية وجعل ذلك التفكّر يلقي بظلاله على أعماله ، فإنّه يفوز بخير الدنيا والآخرة.

فمثلا ، الآية (٦٠) من هذه السورة تتحدّث حول عهد الله في التحذير من عبادة الشيطان( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) .

ومن الواضح أنّه حينما ينشغل الإنسان بهذا العهد الإلهي ـ تماما مثلما ورد في الأحاديث التي ذكرناها ـ سيكون في أمان من أي شيطان رجيم ، ولكن لو قرئت هذه الآية بلا رويّة ، وفي مقام العمل يكون من الأصدقاء المخلصين والأوفياء للشيطان ، فإنّه لن ينال ذلك الفخر الذي ذكرناه ، وهذا يصدق على آيات هذه السورة آية آية.

* * *

١٢٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

التّفسير

هذه السورة تبدأ ـ كما هو الحال في ثمان وعشرين سورة اخرى ـ بحروف مقطّعة وهي (ياء) و (سين).

وقد فصّلنا الحديث فيما يخصّ الحروف المقطّعة في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) ، ولكن فيما يخصّ سورة (يس) فتوجد تفسيرات اخرى أيضا لهذه الحروف المقطّعة.

١٢٨

من جملتها أنّ هذه الكلمة (يس) تتكوّن من «ياء» حرف نداء و «سين» أي شخص الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليه فيكون المعنى أنّه خطاب للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتوضيح قضايا لاحقة.

وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ هذه الكلمة تمثّل أحد أسماء الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

ومنها أنّ المخاطب هنا هو الإنسان و «سين» إشارة له ، ولكن هذا الاحتمال لا يحقّق الانسجام بين هذه الآية والآيات اللاحقة ، لأنّ هذه الآيات تتحدّث إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده.

لذا نقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يس اسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدليل على ذلك قوله تعالى :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (٢) .

بعد هذه الحروف المقطّعة ـ وكما هو الحال في أغلب السور التي تبتدى بالحروف المقطّعة ـ يأتي الحديث عن القرآن المجيد ، فيورد هنا قسما بالقرآن ، إذ يقول :( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) . الملفت للنظر أنّه وصف «القرآن» هنا بـ «الحكيم» ، في حين أنّ الحكمة عادة صفة للعاقل ، كأنّه سبحانه يريد طرح القرآن على أنّه موجود حي وعاقل ومرشد ، يستطيع فتح أبواب الحكمة أمام البشر ، ويؤدّي إلى الصراط المستقيم الذي تشير إليه الآيات التالية.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة لأنّ يقسم ، ولكن الأقسام القرآنية تتضمّن ـ دائما ـ فائدتين أساسيتين : الاولى التأكيد على الموضوع اللاحق للقسم ، والثانية بيان عظمة الشيء الذي يقسم به الله تعالى ، إذ أنّ القسم لا يكون عادة بأشياء ليست ذات قيمة.

الآية التي بعدها توضّح الأمر الذي من آجله أقسم الله تعالى في مقدّمة السورة

__________________

(١) نور الثقلين ، مجلد ٤ ، صفحة ٣٧٤ و ٣٧٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٧٥.

١٢٩

الكريمة :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (١) .

بعد ذلك تضيف الآية( تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) (٢) .

التأكيد على «العزيز» كصفة لله سبحانه وتعالى ، لأجل بيان قدرته سبحانه وتعالى في قبال كتاب كبير كهذا ، كتاب يقف معجزة شامخة على مرّ العصور والقرون ، ولن تستطيع أيّة قدرة مهما كانت أن تمحو أثره العظيم من صفحة القلوب.

والتأكيد على «رحيميته» لأجل بيان هذه الحقيقة وهي أنّ رحمته أوجبت أن تقيّض للبشر نعمة عظيمة كهذه.

بعض المفسّرين قالوا بأنّ هاتين الصفتين ذكرتا للإشارة إلى نوعين من ردود الفعل المحتملة من قبل الناس إزاء نزول ذلك الكتاب السماوي وإرسال النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو أنكروا وكذّبوا ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يهدّدهم بعزّته ، ولو دخلوا من باب التسليم والقبول ، فإنّ الله يبشّرهم برحمته الخاصّة.

وعليه فإنّ عزّته ورحمته إحداهما مظهر للإنذار والاخرى للبشارة ، وباقترانهما جعل هذا الكتاب السماوي العظيم في متناول البشرية.

هنا يطرح سؤال : هل يمكن إثبات حقّانية الرّسول أو الكتاب السماوي ، بواسطة قسم أو تأكيد؟

الجواب تستبطنه الآيات المذكورة ، لأنّها من جانب تصف القرآن بالحكيم ، مشيرة إلى أنّ حكمته ليست مخفية عن أحد ، وذلك دليل على حقّانيته.

__________________

(١) اختلف المفسّرون في تركيب جملة( عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) بعضهم قال «إنّها جار ومجرور» متعلّقان بـ «المرسلين» ، بحيث يكون المعنى «رسالتك على صراط مستقيم» وبعضهم قال : «إنّها خبر بعد خبر» والمعنى «إنّك مستقر على صراط مستقيم» ، والبعض الآخر اعتبروها (حال) منصوبة والمعنى «إنّك من المرسلين وحالك على صراط مستقيم» (من الطبيعي أن ليس هناك تفاوت كثير في المعنى).

(٢) «تنزيل» مفعول منصوب لفعل مقدّر والتقدير «نزل تنزيل العزيز الرحيم» ، كذلك فقد وردت احتمالات اخرى لإعراب هذه الجملة.

١٣٠

ومن جانب آخر فإنّ وصف الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه( عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، بمعنى أنّ محتوى دعوته يتّضح من سبيله القويم ، وماضيه أيضا دليل على أنّه لم يسلك في حياته سوى الطريق المستقيم.

وقد أشرنا في البحوث التي أوردناها حول أدلّة حقّانية الرسل ، إلى أنّ أحد أهمّ الطرق لإدراك حقّانية الرسل ، هو التحقّق والاطلاع على محتوى دعواتهم بشكل دقيق ، الأمر الذي يؤكّد دائما أنّها متوافقة ومنسجمة مع الفطرة والعقل والوجدان ، وقابلة للإدراك والتعقّل البشري ، إضافة إلى أنّ تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّل على أنّه رجل أمانة وصدق ، وليس رجل كذب وتزوير هذه الأمور قرائن حيّة على كونه رسول الله ، والآيات أعلاه في الحقيقة تشير إلى كلا المطلبين ، وعليه فإنّ القسم والدعوى أعلاه لم يكونا بلا سبب أبدا.

ناهيك عن أنّه من حيث أدب المناظرة ، فإنّه لأجل النفوذ في قلوب المنكرين والمعاندين يجب أن تكون العبارات في طرحها أكثر إحكاما وحسما ومصحوبة بتأكيد أقوى ، كيما تستطيع التأثير في هؤلاء.

يبقى سؤال : وهو لماذا كان المخاطب في هذه الجملة شخص الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس المشركين أو عموم الناس؟

الجواب هو التأكيد على أنّك يا أيّها النّبي على الحقّ وعلى الصراط المستقيم ، سواء استجاب هؤلاء أو لم يستجيبوا ، لذا فإنّ عليك الاجتهاد في تبليغ رسالتك العظيمة ، ولا تعر المخالفين أدنى اهتمام.

الآية التالية تشرح الهدف الأصلي لنزول القرآن كما يلي( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) (١) أي إنّه لم يأت نذير لآبائهم.

__________________

(١) أعطى المفسّرون احتمالات مختلفة حول كون «ما» نافية أو غير ذلك ، أغلبهم قالوا بأنّها «نافية» ، وقد اعتمدنا ذلك نحن في تفسيرنا ، أوّلا : لأنّ جملة «فهم غافلون» دليل على ذلك المعنى ، فعدم وجود المنذر سبب للغفلة.

١٣١

من المسلّم أنّ المقصود بهؤلاء القوم هم المشركون في مكّة ، وإذا قيل أنّه لم تخل امّة من منذر ، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله ، علاوة على أنّه تعالى يقول في الآية (٢٤) من سورة فاطر( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) ؟

فنقول : إنّ المقصود من الآية ـ مورد البحث ـ هو المنذر الظاهر والنّبي العظيم الذي ملأ صيته الآفاق ، وإلّا فإنّ الأرض لم تخل يوما من حجّة لله على عباده ، وإذا نظرنا إلى الفترة من عصر المسيحعليه‌السلام إلى قيام الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجدها لم تخل من الحجّة الإلهية ، بل إنّها فترة من قيام اولي العزم ، يقول أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام بهذا الخصوص «إنّ الله بعث محمّداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدّعي نبوّة!»(١) .

وعلى كلّ حال فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم كان تنبيه الناس الغافلين ، وإيقاظ النائمين ، وتذكيرهم بالمخاطر المحيطة بهم ، والذنوب والمعاصي التي ارتكبوها ، والشرك وأنواع المفاسد التي تلوّثوا بها ، نعم فالقرآن أساس العلم واليقظة ، وكتاب تطهير القلب والروح.

ثمّ يتنبّأ القرآن الكريم بما يؤول إليه مصير الكفّار والمشركين فيقول تعالى :( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

احتمل المفسّرون هنا العديد من الاحتمالات في المراد من «القول» هنا.

الظاهر أنّه ذلك الوعيد الإلهي لكل أتباع الشيطان بالعذاب في جهنّم ، فمثله ما ورد في الآية (١٣) من سورة السجدة( وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ

__________________

الآية الثالثة من سورة السجدة ـ أيضا ـ شاهد على ذلك ، حيث يقول سبحانه وتعالى :( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) . وقال بعضهم بأنّ «ما» هنا موصولة ، بحيث يكون معنى الجملة «لتنذر قوما بالذي انذر آباؤهم». وبعض احتملوا أنّ «ما» مصدرية ، وعليه يكون معنى الجملة «لتنذر قوما بنفس الإنذار الذي كان لآبائهم» ، ولكن يبدو أنّ كلا الاحتمالين ضعيف.

(١) نهج البلاغة ، خ ٣٣ و ١٠٤.

١٣٢

الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) . كذلك في الآية (٧١) من سورة الزمر نقرأ( وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

على كلّ حال فإنّ ذلك يخصّ أولئك الذين قطعوا كلّ ارتباط لهم بالله سبحانه وتعالى ، وأغلقوا عليهم منافذ الهداية بأجمعها ، وأوصلوا عنادهم وتكبّرهم وحماقتهم إلى الحدّ الأعلى ، نعم فهم لن يؤمنوا أبدا ، وليس لديهم أي طريق للعودة ، لأنّهم قد دمّروا كلّ الجسور خلفهم.

في الحقيقة فإنّ الإنسان القابل للإصلاح والهداية هو ذلك الّذي لم يلوّث فطرته التوحيدية تماما بأعماله القبيحة وأخلاقه المنحرفة ، وإلّا فإنّ الظلمة المطلقة ستتغلّب على قلبه وتغلق عليه كلّ منافذ الأمل.

فاتّضح أنّ المقصود هم تلك الأكثرية من الرؤوس المشركة الكافرة الّتي لم تؤمن أبدا ، وكذلك كان ، فقد قتلوا في حروبهم ضدّ الإسلام وهم على حال الشرك وعبادة الأوثان ، وما تبقى منهم ظلّ على ضلاله إلى آخر الأمر.

وإلّا فإنّ أكثر مشركي العرب أسلموا بعد فتح مكّة بمفاد قوله تعالى :( يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) .(١)

ويشهد بذلك ما ورد في الآيات التالية التي تتحدّث عن وجود سدّ أمام وخلف هؤلاء وكونهم لا يبصرون. وأنّه لا ينفع معهم الإنذار أو عدمه(٢) .

الآية التي بعدها تواصل وصف تلك الفئة المعاندة ، فتقول :( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) أي مرفوعي الرأس لوجود الغلّ حول الأعناق.

«أغلال» جمع «غل» : من مادّة «غلل» ويعني تدرع الشيء وتوسطه ، ومنه

__________________

(١) سورة النصر ، الآية ٢.

(٢) بناء على ما عرضناه يتضح بأنّ الضمير في «أكثرهم» يعود على قادة القوم وليس على القوم ، وشاهد ذلك الآيات التالية لتلك الآية.

١٣٣

الغلل (على وزن عمل) للماء الجاري بين الشجر. و «الغل» الحلقة حول العنق أو اليدين وتربط بعد ذلك بسلسلة ، وبما أنّ العنق أو اليدين تقع في ما بينها فقد استعملت هذه المفردة في هذا المورد ، وحينا تكون الأغلال في العنق مربوطة بسلسلة مستقلّة عمّا تربط به أغلال الأيدي ، وحينا تكون جميعها مربوطة بسلسلة واحدة فيكون الشخص بذلك تحت ضغط شديد وفي محدودية وعذاب شديدين.

وإذا قيل لحالة العطش الشديد أو الحسرة والغضب «غلة» فإنّ ذلك لنفوذ تلك الحالة في داخل قلب وجسم الإنسان ، وأساسا فإنّ مادّة «غل» ـ على وزن جدّ ـ بمعنى الدخول أو الإدخال ، لذا قيل عن حاصل الكسب أو الزراعة وأمثالها «غلة»(١) .

وقد تكون حلقة «الغل» حول الرقبة عريضة أحيانا بحيث تضغط على الذقن وترفع الرأس إلى الأعلى ، من هنا فإنّ المقيّد يتحمّل عذابا فوق العذاب الذي يتحمّله من ذلك القيد بأنّه لا يستطيع مشاهدة أطرافه.

ويا له من تمثيل رائع حيث شبّه القرآن الكريم حال عبدة الأوثان المشركين بحال هذا الإنسان ، فقد طوّقوا أنفسهم بطوق «التقليد الأعمى» ، وربطوا ذلك بسلسلة «العادات والتقاليد الخرافية» فكانت تلك الأغلال من العرض والاتّساع أنّها أبقت رؤوسهم تنظر إلى الأعلى وحرمتهم بذلك من رؤية الحقائق ، وبذلك فإنّهم أسرى لا يملكون القدرة والفعّالية والحركة ، ولا قدرة الإبصار(٢) .

على أيّة حال فإنّ الآية الذي أعلاه ، تعتبر شرحا لحال تلك الفئة الكافرة في الدنيا وحالهم في عالم الآخرة الذي هو تجسيد لمسائل هذا العالم ، وليس من الغريب استخدام صيغة الماضي في تصوير حال الآخرة هنا ، فإنّ الكثير من الآيات

__________________

(١) مفردات الراغب ، وقطر المحيط ، ومجمع البحرين ، مادّة غل.

(٢) على ما أوردناه أصبح واضحا أنّ الضمير «هي» في جملة( فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ) يعود على «الأغلال» بحيث إنّها رفعت أذقانهم إلى الأعلى ، وجملة «فهم مقمحون» تفريع على ذلك. وما احتمله البعض من أنّ «هي» تعود على «الأيدي» التي لم يرد ذكرها في الآية ، يبدو بعيدا جدّا.

١٣٤

القرآنية الكريمة تتكلّم بصيغة الماضي حينما تتعرّض إلى الحوادث المسلّم بها في المستقبل للدلالة على مضارع متحقّق الوقوع ، وبذلك يمكن أن تكون إشارة إلى كلا المعنيين حالهم في الدنيا وحالهم في الآخرة.

جمع من المفسّرين ذكروا في أسباب نزول هذه الآية والآية التالية لها أنّهما نزلتا في (أبي جهل) أو (رجل من مخزوم) أو قريش ، الذين صمّموا مرارا على قتل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن الله سبحانه وتعالى منعهم من ذلك بطريقة إعجازية فكلّما أرادوا إنزال ضربة بالنّبي عميت عيونهم عن الإبصار أو أنّهم سلبوا القدرة على التحرّك تماما(١) .

ولكن سبب النّزول ذلك لا يمنع من عمومية مفهوم الآية وسعة معناها ، بحيث يشمل جميع أئمّة الكفر والمعاندين ، وفي الضمن فهي تعتبر تأييدا لما قلناه في تفسير( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) في أنّ المقصود بهم هم أئمّة الكفر والنفاق وليس أكثرية المشركين.

الآية التالية تتناول وصفا آخر لحالة تلك المجموعة ، وتمثيلا ناطقا عن عوامل وأسباب عدم تقبّلهم الحقائق فتقول :( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) وحوصروا بين هذين السدّين وأمسوا لا يملكون طريقا لا إلى الأمام ولا إلى الوراء ، آنئذ( فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) .

ويا له من تشبيه رائع!! فهم من جهة كالأسرى في الأغلال والسلاسل ، ومن جهة اخرى فإنّ حلقة الغلّ عريضة بحيث أنّها ترفع رؤوسهم إلى السماء ، وتمنعهم من أن يبصروا شيئا ممّا حولهم ، ومن جهة ثالثة فهم محاصرون بين سدود من أمامهم وخلفهم وممنوعون من سلوك طريقهم إلى الأمام أو إلى الخلف. ومن جهة رابعة( فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) إذ فقدت عيونهم كلّ قدرة على الإبصار.

تأمّلوا مليّا ماذا ينتظر ممّن هو على تلك الحال؟ ما هو مقدار إدراكه للحقائق؟

__________________

(١) تفسير الآلوسي ، المجلّد ٢٢ ، صفحة ١٩٩.

١٣٥

ماذا يمكنه أن يبصر؟ وكيف يمكنه أن ينقل خطاه؟ فكذلك حال المستكبرين المعاندين العمي الصمّ في قبال الحقائق!!

لهذا فإنّه تعالى يقول في آخر آية من هذه المجموعة( وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) . فمهما كان حديثك نافذا في القلوب ومهما كان أثر الوحي السماوي ، فإنّه لن يؤثّر ما لم يجد الأرضية المناسبة ، فلو سطعت الشمس آلاف السنين على أرض سبخة ، ونزلت عليها مياه الأمطار المباركة ، وهبّت عليها نسائم الربيع على الدوام ، فليس لها أن تنبت سوى الشوك والتبن ، لأنّ قابلية القابل شرط مع فاعلية الفاعل.

* * *

بحوث

١ ـ فقدان وسائل المعرفة

يحتاج الإنسان للتعرّف على العالم الخارجي إلى الاستفادة من وسائل وأدوات تسمّى «وسائل المعرفة».

قسم منها «باطنية» والقسم الآخر «ظاهرية».

العقل والوجدان والفطرة من وسائل المعرفة الباطنية ، والحواس الظاهرية كالأبصار والأسماع وأمثالها وسائل المعرفة الظاهرية.

وقد أعطى الله هذه الوسائل القدرة على الاشتداد شيئا فشيئا إذا استفيد منها على وجه صحيح حتّى تتمكّن من تشخيص الحقائق بصورة أفضل وأدق.

أمّا إذا استغلّت بطريقة خاطئة ، أو لم يتمّ الاستفادة منها أصلا ، فإنّها تضطرب بشكل كلّي وتعكس الحقائق بشكل مقلوب ، تماما كالمرآة الصافية إذا غطّاها غبار غليظ أو أنّها تخرّشت بحيث أضحت لا تعكس الصورة عليها ، أو أنّها تعكس ما لا ينطبق على الواقع.

١٣٦

هذه الأعمال المغلوطة والمواقف المنحرفة هي التي تصادر وسائل المعرفة من الإنسان ، ولهذا السبب فإنّ المقصّر الأصلي هو الإنسان ، وهو الذي جنى على نفسه.

الآيات أعلاه تشبيه معبّر عن هذه المسألة المهمّة والمصيرية ، فهي تشبه المستكبرين والمتعصّبين والأنانيين والمنافقين بالمقيدين بالأغلال والسلاسل من جهة ، سلاسل الكبر والهوس والغرور والتقليد الأعمى الذي وضعوه على أعناقهم وأياديهم. وبأولئك المحاصرين بين سدّين منيعين لا يمكن عبورهما.

ومن جهة اخرى فإنّ أعينهم مغلقة ولا تبصر.

الغلّ والسلاسل وحدها تكفي لمنعهم من الحركة ، والسدّان العظيمان أيضا وحدهما كافيان لمنعهم من الفعّالية ، انعدام البصر وحده أيضا عامل مستقل.

هذان السدّان عاليان ومتقاربان إلى حدّ أنّهما وحدهما كافيان لسلبهم القدرة على الإبصار ، كما أنّهما كافيان لسلبهم قدرة الحركة. وقد كرّرنا القول بأنّ الإنسان تبقى هدايته ممكنة ما لم يصل إلى تلك المرحلة ، أمّا حينما يبلغ تلك المرحلة ، فلو اجتمع جميع الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام أيضا وقرءوا له جميع الكتب السماوية ، فلن يؤثّر ذلك فيه.

وذلك ما تمّ التأكيد عليه ، سواء في آيات القرآن أو الروايات ، وهو أنّ الإنسان إذا زلّت قدمه أو ارتكب ذنبا فعليه أو يتوب فورا ويتوجّه إلى الله ، وأن يبتعد عن التسويف والتأخير ، والإصرار والتكرار ، ومن أجل أن لا يصل إلى تلك المرحلة عليه أن ينظف صدأ القلب ، ويدمّر السدود والموانع الصغيرة قبل أن تتحوّل إلى سدود كبيرة وعظيمة ، ويحتفظ بمساره وتكامله وينفض الغبار عن عينيه لكي يتمكّن من الإبصار.

١٣٧

٢ ـ السدود من الأمام والخلف

طرح بعض المفسّرين هذا السؤال ، وهو أنّ المانع الأساسي من استمرار الحركة هو السدّ الذي يكون أمام الإنسان ، فما معنى السدّ من الخلف؟

وأجاب بعضهم قائلا : «إنّ الإنسان له هداية فطرية ووجدانية ـ وهداية نظرية استدلالية ـ فكأنّه تعالى يقول :( جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) » أي : حرمناهم من سلوك سبيل الهداية النظرية وجعلنا( مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ) أي : منعناهم من العودة إلى الهداية الفطرية(١) .

وقال البعض الآخر : انّ السدّ من بين أيديهم إشارة إلى الموانع التي تمنعهم من الوصول إلى الآخرة وسلوك طريق السعادة الخالدة ، وأمّا السدّ من خلفهم فهو الذي يصدّهم عن تحصيل السعادة الدنيوية(٢) .

كذلك يحتمل التّفسير التالي أيضا ، وهو إنّ السالك إذا انسدّ الطريق الذي قدّامه فقد فاته المقصد ولكنّه يرجع ليبحث عن طريق آخر يوصله إلى المقصد ، فإذا أغلق الطريق من خلفه ومن قدّامه فسوف يكون محروما من الوصول إلى المقصد حتما.

وفي الثنايا يتّضح الجواب أيضا على السؤال التالي : وهو لماذا لم يذكر السدود عن اليمين والشمال؟ ذلك لأنّ الإنسان لا يصل إلى المقصد الذي أمامه بالسير يمينا أو شمالا ، إضافة إلى أنّ السدّ عادة يبنى في مكان يكون طرفاه الأيمن والأيسر مغلقين ، والممر الوحيد هو مكان السدّ الذي ينغلق هو الآخر بوجوده ، فيكون الإنسان في حصار كامل عمليّا.

٣ ـ الحرمان من السير الآفاقي والأنفسي

هناك طريقان معروفان لمعرفة الله ، الأوّل التأمّل والتفكّر في آثار الله في جسم

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي الكبير ، تفسير الآيات مورد البحث مجلّد ٢٦ ، ص ٤٥.

(٢) تفسير القرطبي ، تفسير الآيات مورد البحث ، مجلّد ١٥ ، ص ١٠.

١٣٨

الإنسان وروحه ، وتلك «الآيات الأنفسية» ، والثاني التأمّل في الآيات الخارجية الموجودة في الأرض والسماء والثوابت والسيارات من الكواكب ، والجبال والبحار. وتلك تسمّى «الآيات الآفاقية» وقد أشار القرآن إليهما في الآية (٥٣) من سورة فصّلت( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ ) . وحينما يفقد الإنسان قدرة المعرفة ، فإنّه يغلق عليه طريق مشاهدة الآيات الأنفسية والآفاقية على حدّ سواء.

في الآيات الماضية وفي جملة( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) إشارة إلى المعنى الأوّل ، لأنّ الأغلال ترفع رؤوسهم إلى الأعلى بحيث أنّهم لا يملكون القدرة على رؤية أنفسهم ، وكذلك فإنّ السدود أمامهم وخلفهم تمنعهم من رؤية ما حولهم ، بحيث أنّهم مهما نظروا فلن يبصروا غير السدود ، وبذا يحرمون من مشاهدة الآيات الآفاقية.

* * *

١٣٩

الآيتان

( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) )

التّفسير

من هم الذين يتقبّلون إنذارك؟

كان الحديث في الآيات السابقة عن مجموعة لا تملك أي استعداد لتقبّل الإنذارات الإلهيّة ويتساوى عندهم الإنذار وعدمه ، أمّا هذه الآيات فتتحدّث عن فئة اخرى هي على النقيض من تلك الفئة ، وذلك لكي يتّضح المطلب بالمقارنة بين الفئتين كما هو أسلوب القرآن.

تقول الآية الاولى من هذه المجموعة( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) .

هنا ينبغي الالتفات إلى امور :

١ ـ ذكرت في هذه الآية صفتان لمن تؤثّر فيهم مواعظ وإنذارات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وهي «أتباع الذكر» و «الخشية من الله في الغيب». لا شكّ أنّ المقصود من هاتين

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

ثم قال له عمرو: و ادع أنت اصحابك. قال: نعم يأكل أصحابك ثم يجلس هؤلاء بعد، فجعلوا كلما قام رجل من حاشية عمرو قعد موضعه رجل من حاشية معاوية، حتى خرج أصحاب عمرو و جلس أصحاب معاوية، فقام الّذي و كله فأغلق الباب، فقال له عمرو: فعلتها. قال: أي و اللَّه بيني و بينك أمران اختر أيهما شئت البيعة لي او أقتلك، ليس و اللَّه غيرهما. قال عمرو: فأذن لغلامي وردان حتى أشاوره. قال: لا تراه و اللَّه و لا يراك الا قتيلا أو على ما قلت لك. قال: فأولني اذن مصر. قال: هي لك ما عشت، فاستوثق كل واحد منهما من صاحبه،

و احضر معاوية خواصه من أهل الشام، و منع أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو، فقال لهم عمرو، قد رأيت ان أبايع معاوية، فلم ار أحدا أقوى على هذا الأمر منه، فبايعه أهل الشام و انصرف إلى منزله خليفة( ١) .

و في (تاريخ الطبري): قال عمرو بن العاص: ما رأيت معاوية متكئا قط واضعا إحدى رجليه على الاخرى كاسرا عينه يقول لرجل تكلم الا رحمته.

و قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى و قيصر و دهاءهما و عندكم معاوية.

و خرج عمر إلى الشام فرأى معاوية في موكب يتلقاه غدوا، و يروح إليه في موكب، فقال له: يا معاوية تروح في موكب، و تغدو في مثله، و بلغني انك تصبح في منزلك و ذوو الحاجات ببابك. فقال له معاوية: ان العدو بها قريب منا، و لهم فينا عيون و جواسيس، فأردت ان يروا للاسلام عزا. فقال عمر: ان هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب. فقال له معاوية: مرني بما شئت أصر إليه. فقال له عمر: ويحك ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلاّ تركتني

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٤٠١.

٥٦١

ما أدري آمرك أم أنهاك( ١) .

و في (عيون ابن قتيبة): قال عمر بن الخطاب في معاوية: احذروا آدم قريش و ابن كريمها، من لا ينام إلا على الرضا، و يضحك في الغضب، و يأخذ ما فوقه من تحته.

و فيه: قال معاوية: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، و لا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، و لو أن بيني و بين الناس شعرة ما انقطعت. قيل:

و كيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها، و إذا خلوها مددتها.

و فيه: فخر سليمان مولى زياد بزياد عند معاوية، فقال له معاوية:

أسكت ما أدرك صاحبك شيئا قط بسيفه الا و قد أدركت أكثر منه بلساني.

و في (بلاغات نساء البغدادي): لما أتى نعي يزيد بن أبي سفيان قال بعض المعزين لامه هند بنت عتبة: انا لنرجو أن يكون في معاوية خلف منه.

قالت: أو مثل معاوية يكون خلفا من أحد، و اللَّه لو جمعت العرب من أقطارها،

ثم رمي به فيها يخرج من أيها شاء.

و قيل لها: ان عاش معاوية ساد قومه. فقالت: ثكلته ان لم يسد الا قومه.

و في السير: انه قال لابنه يزيد، ان الكوفة و المدينة تختلفان عليه بعده،

و انّه لا يصل الكوفة إلاّ عبيد اللَّه حتى أنه كتب له امارته عليها قبل موته، و انه لا يصلح المدينة إلاّ مسلم بن عقبة المرّي.

و في (عيون القتيبي): قال معاوية لقد كنت ألقى الرجل من العرب أعلم ان في قلبه عليّ ضغنا، فأستشيره فيثير إليّ منه بقدر ما يجده في نفسه، فلا يزال يوسعني شتما و أوسعه حلما حتى يرجع صديقا أستعين به فيعينني،

و استنجد به فينجدني.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ٢٤٤ و ٢٤٧، سنة ٦٠.

٥٦٢

قلت: هكذا نقل ابن قتيبة (فأستشيره) بالشين، و ليس من النسخة حيث نقله في باب المشورة، و هو غلط من ابن قتيبة و انما هو (فأستثيره) بالثاء المثلثة، أي أعمل معه ما يوجب ثورانه، و الشاهد على ما قلنا قوله بعد (فيثير إليّ منه) و أيضا لا مناسبة لمشورة العدو، فانها توجب غشه في الجواب لا ثورانه.

و كان إذا ذم أحد خصمائه خواصه يحضر نفسه أن يذم لئلاّ ينفروا عنه، ففي خبر ورود عقيل عليه و طعن عقيل على جلسائه عمرو بن العاص،

و أبي موسى الاشعري، و الضحاك بن قيس: فلما رأى معاوية انه قد أغضب جلساءه علم أنه ان استخبره عن نفسه قال فيه سوء، فأحب أن يسأله، فيقول فيه ما يعلمه من السوء، فيذهب بذلك غضب جلسائه، فقال لعقيل: ما تقول في؟

قال عقيل: دعني من هذا. فلمّا اصرّ قال: أتعرف حمامة؟ قال: و من حمامة؟

قال: قد أخبرتك، ثم قام فمضى، فأرسل معاوية إلى النسابة، فدعاه، فقال له:

من حمامة؟ قال: ولي الامان؟ قال: نعم. قال: جدتك امّ أبي سفيان، كانت بغيّا في الجاهلية صاحبة راية. فقال لجلسائه: ساويتكم وزدت عليكم، فلا تغضبوا( ١) .

و في (المروج): كان معاوية إذا أتاه عن بطريق من بطارقة الروم كيد،

احتال له، فأهدى إليه و كاتبه حتى يغري به ملك الروم، فمرة أخبره رسله إلى الروم أن هناك بطريقا يؤذيهم و يسي‏ء عشرتهم، فقال معاوية: أي شي‏ء ممّا في بلادنا أحب إليه؟ قالوا: الخفاف الحمر و دهن البان، فألطفه بهما حتى عرفت رسله باعتياده، ثم كتب إليه كتابا كأنه جواب كتابه منه يعلم بأنه وثق بما وعده به من نصره و خذلان ملك الروم، و أمر الرسول بأن يتعرض لأن يظهر

____________________

(١) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٢: ١٢٤.

٥٦٣

على الكتاب، فلما ذهبت رسله في أوقاتها ثم رجعت إليه قال: ما حدث هناك؟

قالوا: رأينا البطريق الفلاني مصلوبا. فقال معاوية، انا أبو عبد الرحمن( ١) .

و فيه: أخبرني بعض الروم ممن أسلم ان الروم صوّرت عشرة أنفس في بعض كنائسها من أهل البأس و النجدة و المكائد و الحيلة في النصرانية من المسلمين، منهم الرجل الّذي بعث به معاوية حين احتال على البطريق، فأسره من القسطنطينية، فأقاد منه بالضرب ورده إلى القسطنطينية، فأما خبره فهو أن المسلمين غزوا في أيام معاوية، فأسر جماعة منهم، فأوقفوا بين يدي الملك، فتكلم بعض الاسارى، فدنا منه بعض البطارقة، فلطم وجهه، فآلمه،

و كان رجلا من قريش، فصاح: وا اسلاماه، أين أنت عنّا يا معاوية إذ حملتنا،

و ضيعت ثغورنا، و حكمت العدو في دمائنا و أعراضنا، فنمي الخبر إلى معاوية، فآلمه، فامتنع من لذيذ الطعام و الشراب، فخلا بنفسه و امتنع من الناس و لم يظهر ذلك لاحد، ثم أخذ في اعمال الحيلة باقامة الفداء للمسلمين،

فلما صار الرجل إلى دار الاسلام دعاه معاوية فبره و أحسن إليه، ثم بعث إلى رجل من ساحل دمشق من مدينة صور و كان به عارفا كثير الغزوات في البحر مرطان بالرومية، فأحضره و خلا به و أخبره بما قد عزم عليه و سأله اعمال الحيلة فيه و التأني له، فتوافقا على أن يدفع للرجل مالا عظيما يبتاع به أنواعا من الطرف و الملح و الجهاز و الطيب و الجوهر و غير ذلك، و ابتني له مركب لا يلحقه في جريه سرعة، و لا يدرك في مسيره بنيانا عجيبا، فسار الرجل حتى أتى مدينة قبرص، فاتصل برئيسها و أخبره أن معه جارية للملك و أنه يريد التجارة إلى القسطنطينية قاصدا إلى الملك و خواصه بذلك، فروسل الملك بذلك و أعلم بحال الرجل، فأذن له في الدخول فسار إليها، فلما وصل

____________________

(١) لم اظفر عليه في مروج الذهب.

٥٦٤

أهدى للملك و جميع بطارقته، و بايعهم و شاراهم، و لم يعط البطريق الّذي لطم وجه القرشي شيئا، و تأنى في الأمر على حسب ما رسم له معاوية، و أقبل الرجل من القسطنطينية إلى الشام، و قد أمره البطارقة و الملك بابتياع حوائج ذكروها و أنواع من الامتعة و صفوها، فلما صار إلى الشام سار إلى معاوية سرا و ذكر له من الأمر ما جرى، فابتيع له جميع ما طلب منه و ما علم أن رغبتهم فيه و قال له: ان ذاك البطريق إذا عدت إلى كرتك سيعذلك عن تخلفك عن بره و استهانتك به، فاعتذر إليه و لا طفه بالقصد و الهدايا و اجعله القيم بأمرك و المتفقد لأحوالك، و انظر ماذا يطلب منك من الشام، فان منزلتك ستزداد عندهم، فإذا أتقنت جميع ما أمرتك به، و علمت غرض البطريق منك،

و أي شي‏ء يأمرك لتكون الحيلة بحسب ذلك.

فلما رجع إلى القسطنطينية و معه جميع ما طلب منه و الزيادة على ما لم يطلب منه زادت منزلته عند الملك و البطارقة و سائر الحاشية، فلما كان في بعض الايام و هو يريد الدخول إلى الملك قبض عليه ذلك البطريق في دار الملك و قال: ما ذنبي إليك و بماذا أستحق غيري أن تقصده و تقضي حوائجه و تعرض عني. فقال له: اكثر من ذكرت ابتدأني و أنا غريب أدخل إلى هذا الملك و هذا البلد كالمتنكر من أساري المسلمين و جواسيسهم لئلا ينموا بخبري في أمري إلى المسلمين فيكون في ذلك فقدي، و إذ قد علمت ميلك إليّ فلست أحب أن يعتني أمري سواك، و لا يقوم به عند الملك غيرك، فأمرني بجميع حوائجك،

و جميع ما يعرض من امورك بأرض الاسلام.

و أهدى إلى البطريق هدية حسنة من الزجاج المخروط و الطيب و الجواهر و الطرائف و الثياب، و لم يزل هذا فعله يتردد من الروم إلى معاوية،

و من معاوية إلى الروم، و يسأل الملك و البطريق و غيره الحوائج و الحيلة لا

٥٦٥

تتوجه لمعاوية حتى مضى على ذلك سنين، فلما كان في بعضها قال البطريق للصوري و قد أراد الرجوع قد اشتهيت أن تمن علي بابتياع بساط سوسنجردي بمخاده و وسائده لي يكون فيه من أنواع الالوان من الحمرة و الزرقة و غيرهما، و يكون من صفته كذا و كذا و لو بلغ ثمنه كل مبلغ. فأنعم له بذلك و كان من شأن الصوري إذا ورد إلى القسطنطينية أن يكون مركبه بالقرب من موضع ذلك البطريق، و للبطريق ضيعة سرية و فيها قصر مشيد و متنزه حسن على أميال من البلد راكبة على الخليج، و كان البطريق اكثر أوقاته في ذلك المتنزه، و كانت الضيعة مما يلي فم الخليج مما يلي بحر الروم و القسطنطينية.

فانصرف الصوري إلى معاوية سرا و أخبره بالحال، فأحضر معاوية بساطا بوسائد و مخاد و مجلس، فانصرف به الصوري مع جميع ما طلب منه من الشام و قد تقدم إليه معاوية بالحيلة و كيفية ايقاعها و كان الصوري فيما وصفنا من هذه المدة قد صار كأحدهم في المؤانسة و العشرة و في الروم طمع و شره، فلما دخل من البحر إلى خليج القسطنطينية و قد طابت له الريح و قد قرب من ضيعة البطريق أخذ الصوري خبر البطريق من أصحاب المراكب و القوارب، فأخبر أن البطريق في ضيعته، و ذلك أن الخليج نحو من ثلاثمائة و خمسين ميلا، و المراكب لا تحصى في هذا الخليج كثرة، فلما علم الصوري أن البطريق في ضيعته فرش ذلك البساط، و نضد ذلك الصدر و المجلس بالوسائد و المخاد في صحن المركب و مجلسه، و الرجال تحت المجلس بأيديهم المجاذف مشكّلة، و لا يعلم بهم أنهم في بطن المركب الا من ظهر منهم في المركب عمله، و الريح في القلع، و المركب مار في الخليج كأنه سهم خرج من كبد قوس لا يستطيع القائم على الشط أن يملأ بصره منه

٥٦٦

بسرعة سيره، فأشرف على قصر البطريق و هو جالس في مستشرفه مع حرمه، و قد أخذت منه الخمر و علاه الطرب.

فلما رأى مركب الصوري غنّى طربا بقدومه من أسفل القصر و حط القلع و أشرف البطريق على المركب، فنظر إلى ما فيه من حسن ذاك البساط و نظم ذاك الفرش كأنه رياض تزهر، فلم يستطع اللبث في موضعه حتى نزل قبل أن يخرج الصوري من مركبه إليه، فلما استقرت قدمه في المركب و دنا من المجلس ضرب الصوري بعقبه على من تحت البساط من الوقوف و كانت علامة بينه و بين الرجال الّذين في بطن المركب فما استقر دقه بقدمه حتى اختطف المركب بالمجاذيف فإذا هو في وسط البحر لا يلوي على شي‏ء،

و ارتفع الخبر و لم يدر ما الخبر لمعاجلة الأمر، فلم يكن الليل حتى خرج من الخليج و توسط البحر، و قد أوثق البطريق كتافا، و طابت له الريح، و أسعده الجد، و حملت المجاذيف في ذلك الخليج، فتعلق اليوم السابع بساحل الشام و رأى البر، و حمل الرجل، فكانوا اليوم الثالث عشر حضورا بين يدي معاوية بالفرح و السرور.

فقال معاوية: علي بالرجل القرشي، فأتي به و قد حضره خواص الناس،

فأخذوا مجالسهم و قد غص المجلس بأهله، فقال معاوية: أنظر لا تتعد ما جرى عليك، منه، و اقتص منه على حسب ما صنع بك، فلطمه القرشي لطمات و وكزه في حلقه و أغرق في دعاء معاوية.

ثم أحسن معاوية إلى البطريق و خلع عليه و حمل معه البساط و أضاف إلى ذلك امورا كثيرة و هدايا إلى الملك و قال له: ارجع إلى ملكك و قل له تركت ملك العرب يقيم الحدود على بساطك، و يقتص لرعيته في دار سلطانك. و قال للصوري: سرمعه حتى تاتي الخليج فتطرحه فيه إلى أن قال فقال الملك بعد

٥٦٧

وصول البطريق: هذا أمكر الملوك و أدهى العرب( ١) .

و من دهائه أن طلحة و الزبير مع كونهما من قاتلي عثمان و المؤلبين عليه حتى أن مروان مع كونه في عسكر طلحة و الزبير رمى طلحة بسهم فقتله و قال أخذت ثاري كتب إليهما يحرضهما على ادعاء الخلافة و ثار عثمان ليزلزل بذلك أمر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فكتب إلى طلحة: انك أقل قريش في قريش وترا، مع صباحة وجهك، و سماحة كفّك، و فصاحة لسانك. فأنت بازاء من تقدمك في السابقة، و خامس المبشرين بالجنة، و لك يوم احد و شرفه و فضله، فسارع إلى ما تقلدك الرعية من أمرها ممّا لا يسعك التخلف عنه، و لا يرضى اللَّه منك الا بالقيام به، فقد أحكمت لك الأمر قبلي، و الزبير غير مقدم عليك بفضل، و أيكما قدم صاحبه فالمقدم الامام، و الأمر من بعده للمقدم له،

سلك اللَّه بك قصد المهتدين و وهب لك رشد الموفقين( ٢) .

و كتب إلى الزبير: أما بعد انك ابن أخي خديجة، و ابن عمّة النبيّ،

و حواريه، و سلفه، و صهر أبي بكر، و فارس المسلمين، و أنت الباذل في اللَّه مهجته بمكة عند صيحة الشيطان، بعثك المنبعث، فخرجت كالثعبان المنسلخ، بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرديع، كل ذلك قوة ايمان،

و صدق يقين، و سبقت لك من النبيّ البشارة بالجنة، و جعلك عمر أحد المستخلفين على الامة، و اعلم أن الرعية أصبحت كالغنم المتفرقة لغيبة الراعي، فسارع إلى حقن الدماء، و لم الشعث، و جمع الكلمة، و صلاح ذات البين،

قبل تفاقم الأمر و انتشار الامة، فقد أصبح الناس على شفا جرف هار، عمّا قليل ينهار ان لم يرأب فشمر لتأليف الامة، و ابتغ إلى ربك سبيلا، فقد أحكمت الأمر

____________________

(١) مروج الذهب ٤: ١٢٦ ١٣١.

(٢) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ١٠: ٢٣٥.

٥٦٨

من قبلي لك و لصاحبك على أن الأمر للمقدم، ثم لصاحبه من بعده. جعلك اللَّه من أئمة الهدى و بغاة الخير و التقوى( ١) .

و كتب إليه قبلا حين بلغه بيعة الناس لهعليه‌السلام : لعبد اللَّه الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك. أما بعد: فاني قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا و استوسقوا كما يستوسق الحلب، فدونك الكوفة و البصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فانه لا شي‏ء بعد هذين المصرين،

و قد بايعت لطلحة من بعدك، فأظهر الطلب بدم عثمان و ادعوا الناس إلى ذلك،

و ليكن منكما الجد و التشمير أظفر كما اللَّه و خذل مناوئيكما. فسر به و أعلم طلحة، فأجمعا عند ذلك على خلافهعليه‌السلام ( ٢) .

و كان من دهائه أنه كان يقول: يجب أن يكون الاموي حليما،

و المخزومي زهيا، و الهاشمي سخيا، فبلغ كلامه الحسنعليه‌السلام ، فقال: أراد أن يتحلم الامويون، فيحبهم الناس، و يتيه المخزوميون، فيتنفر الناس عنهم،

و يبذل الهاشميون أموالهم، فيفتقروا و ينقرضوا( ٣) .

«و لكنه يغدر و يفجر» بايعه الحسنعليه‌السلام على أن يرد الأمر إلى أهله بعده و يكون لأهل البيت، و ألا يتعرض لشيعة أبيه، فغدر و فجر، فجعل الأمر من بعده لابنه الخمّير السكّير اللاعب بالقرود و الكلاب، و قتل الشيعة تحت كل حجر و مدر، و منهم حجر بن عدي، و عمرو بن الحمق.

و كتب الحسينعليه‌السلام إليه كما في (خلفاء ابن قتيبة): «أ لست قاتل حجر و أصحابه العابدين المجتهدين الّذين كانوا يستفظعون البدع و يأمرون

____________________

(١) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ١٠: ٢٣٦.

(٢) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ١: ٢٣١.

(٣) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ١٩: ٢٥٤.

٥٦٩

بالمعروف و ينهون عن المنكر، فقتلتهم ظلما و عدوانا من بعد ما اعطيتهم المواثيق الغليظة و العهود المؤكدة، جرأة على اللَّه و استخفافا بعهده، أو لست قاتل عمرو بن الحمق الّذي أخلقته العبادة من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من سقف الجبال، أو لست المدعي زيادا في الاسلام،

فزعمت انه ابن أبي سفيان و قد قضى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أن الولد للفراش و للعاهر الحجر، ثم سلطته على أهل الاسلام يقتلهم و يقطّع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يصلبهم على جذوع النخل، سبحان اللَّه لكأنك لست من هذه الامة و ليسوا منك، و اعلم أن اللَّه ليس بناس قتلك بالظنة و امارتك صبيا يشرب الشراب و يلعب بالكلاب( ١) .

و في (مقاتل أبي الفرج): قال أبو إسحاق: سمعت معاوية بالنخيلة يقول:

ألا ان كل شي‏ء أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدمي هاتين لا أفي به. قال أبو إسحاق: و كان و اللَّه غدّارا.

و قال سعيد بن سويد: صلّى بنا معاوية في النخيلة الجمعة، ثم خطبنا فقال: اني و اللَّه ما قاتلتكم لتصلّوا و لا لتصوموا و لا لتحجّوا و لا لتزكّوا، انكم لتفعلون ذلك، انما قاتلتكم لأتأمر عليكم، و قد أعطاني اللَّه ذلك و أنتم له كارهون. قال عبد الرحمن بن شريك في حديثه: هذا هو التهتك( ٢) .

و في (العقد) بعد ذكر أن الحسين و من معه لما أنكروا بيعة يزيد لما دعاهم مروان بالمدينة، و كان من قبل معاوية عليها، فكتب مروان إلى معاوية بذلك، فقدم معاوية المدينة في ألف فدعا لهم بدواب، فحملهم عليها، و خرج حتى أتى مكة، و بعد حجه أمر بأثقاله فقدمت، و أمر بالمنبر فقرب من الكعبة

____________________

(١) الامامة و السياسة ١: ١٨١.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٤٥.

٥٧٠

و قال لهم، اني أتقدم إليكم و قد أعذر من أنذر، اني قائل مقالة فأقسم باللَّه لئن رد علي رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه، فلا ينظر امرؤ منكم الا لنفسه و لا يبق الا عليها، و أمر أن يقوم على رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما، فان تكلم بكلمة يرد بها عليه قوله قتلاه، و خرج و اخرجهم معه حتى رقي المنبر و حف به اهل الشام و اجتمع الناس فقال: انا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار. قالوا: ان حسينا، و ابن أبي بكر، و ابن عمر،

و ابن الزبير لم يبايعوا اليزيد، و هؤلاء الرهط سادة المسلمين و خيارهم لا نبرم أمرا دونهم، و لا نقضي أمرا إلاّ عن مشورتهم، و اني دعوتهم فوجدتهم سامعين مطيعين، فبايعوا و سلموا و أطاعوا. فقال أهل الشام: و ما يعظم من أمر هؤلاء ائذن لنا فنضرب اعناقهم لا نرضى حتى يبايعوا علانية. فقال معاوية سبحان اللَّه ما أسرع الناس إلى قريش بالشر و أحلى دمائهم عندهم،

انصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد، و دعا الناس إلى البيعة فبايعوا، ثم قربت رواحله فركب و مضى. فقال الناس للحسينعليه‌السلام و أصحابه: قلتم لا نبايع فلما دعيتم و ارضيتم بايعتم. قالوا: لم نفعل. قالوا: بلى قد فعلتم و بايعتم أفلا أنكرتم. قالوا: خفنا القتل و كادكم بنا و كادنا بكم.

و كان لمعاوية مؤسس مذهب اخواننا و خال مؤمنيهم شركاء أحدهم صدّيقهم كان داهية فتخلّف عن جيش اسامة مع صياح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض موته كلما أفاق «جهّزوا جيش أسامة لعن اللَّه من تخلف عنه»( ١ ) ، و لما ولي الأمر و استقر بعث أسامة و قال: لو خطفتني الكلاب و الذئاب لم أرد قضاء قضى به النبيّ( ٢ ) ، ثم غدر بمالك بن نويرة، آمنه ثم قتله و زنا بامرأته، و الغدر

____________________

(١) رواه الجوهري في السقيفة: ٧٥، و الشهرستاني في الملل ١: ٢٩.

(٢) رواه الطبري في تاريخه ٢: ٤٦٢، سنة ١١، و الواقدي في المغازي ٣: ١١٢١.

٥٧١

و الزنا و ان كانا من عامله خالد الا أنه لما كان راضيا بفعل خالد كانا منه، قال تعالى في عقر ناقة ثمود مع تصدي أحدهم له و رضا باقيهم به فعقروها( ١ ) و هو لم يقتنع بالرضا بل حامى عنه، فلما قال له عمر: ان خالدا و ثب على مسلم، فقتله غدرا و زنا بامرأته فأقد منه وحده، قال له: لا أشيم سيفا سله اللَّه على الكافرين( ٢) .

و ثانيهم فاروقهم كان داهية، فحظر في أيامه على طلحة و الزبير الخروج من المدينة، و كلما جأرا بأنا نريد الجهاد في سبيل اللَّه و الخروج إلى فارس و الروم كباقي المسلمين، قال لهما: يكفيكما جهاد كما مع النبيّ، مع أن الجهاد كالصلاة، فكما لا يكفي صلاة مسلم زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاته بعده كذلك جهاده، الا أنه خاف منهما لو خرجا ادعاء الأمر في قباله.

و الزبير هو الّذي لما قال عمر لأهل الشورى أكلكم يطمع بالخلافة بعدي قال لعمر: و ما الّذي يبعدنا منها وليتها، و لسنا دونك في قريش و لا في السابقة و لا في القرابة( ٣) .

و طلحة هو الّذي قال لأبي بكر لما استخلف عمر «استخلفته علينا و قد عرفته، و علمت بوائقه فينا و أنت بين أظهرنا، فكيف إذا وليت عنا و أنت لاق اللَّه تعالى فسائلك»( ٤) .

و أحكم الأمر لبني امية أعداء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و أعداء أهل بيته و أعداء دين اللَّه بتدبير شورى في ستة و حكمية ابن عوف ليتولى عثمان الّذي كان عرف ببذل دمه و عرضه فضلا عن دينه لبني امية بني ابيه، و الا يدع باقي الستة الزبير

____________________

(١) هود: ٦٥، و الشعراء: ١٥٧، و الشمس: ١٤.

(٢) رواه الطبري في تاريخه ٢: ٥٠٣، سنة ١١.

(٣) رواه الجاحظ في السفيانية عنه شرح ابن أبي الحديد ١: ١٨٥.

(٤) روى هذا المضمون الطبري في تاريخه ٢: ٦٢١، سنة ١٣.

٥٧٢

و طلحة امر أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد عثمان يستقر بكونهما مثله في شورى عمر كتخلف سعد عنهعليه‌السلام و تنفير الناس عنه كذلك، و مع فعله ذلك المؤدي قهرا إلى قيام طلحة و الزبير عليهعليه‌السلام قال لهم: لا تختلفوا و الا يغلب معاوية عليكم الأمر( ١ ) ، فهل غلّب معاوية الا هو و قد عرفت كتابهما إلى طلحة و الزبير.

و بالجملة شوراه كان دهاء عظيما، فكان عرف من شواهد الاحوال أن عثمان يقتله الناس في تهالكه لبني امية، و يؤدي ذلك قهرا إلى اقبال العامة إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فأدخل طلحة و الزبير مع بغضه لهما كما عرفت مما مر في الشورى لينهضا في قبال عليّعليه‌السلام و يكون معاوية في قباله بالشام، و هو ذاك الدهّاء مع باقي أقاربه مروان، و الوليد بن عقبة، و غيرهما، و قد حصل الأمر كما دبر، و لذا كانعليه‌السلام يقول «يا للَّه و للشورى»( ٢) .

كما انه غدر بيوم الغدير أي غدر مع اقراره و بخبخته، ففي (فضائل أحمد بن حنبل) عن البراء بن عازب قال: كنّا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بغدير خم، فنودي فينا الصلاة جامعة و كسح للنبيّ بين شجرتين، فصلى الظهر و أخذ بيد عليّعليه‌السلام و قال: اللهم من كنت مولاه فهذا مولاه، قال فلقي عمر عليّا بعد ذلك فقال له: هنيئا لك يا ابن أبي طالب، أصبحت و أمسيت مولاي و مولى كل مؤمن و مؤمنة( ٣) .

و من الدهاة الغدارين عمرو بن العاص، و من دهائه أنه لولاه لما قدر معاوية على ايجاد حرب صفين و لا استقامته فيه، فجمع له كلمة أهل الشام بما دبر له من وضع جمع ليشهدوا عند شر حبيل شيخ أهل الشام و المطاع

____________________

(١) رواه الجاحظ في السفيانية عنه شرح ابن أبي الحديد ١: ١٨٧.

(٢) راجع نهج البلاغة ١: ٣٤، الخطبة ٣.

(٣) تذكرة الخواص: ٢٩.

٥٧٣

فيهم بأن عليّا قتل عثمان، كما أنه فرق كلمة أهل العراق لما انهزم معاوية و أراد الفرار برفع المصاحف و الدعاء إلى ما فيها، و غدراته اكثر من أن تحصى، و منها في معاهدته مع أبي موسى في التحكيم.

و من الدهاة الغدارين المغيرة بن شعبة، و في غارات الثقفي: ذكر المغيرة وجده مع معاوية عند عليّعليه‌السلام فقال: و ما المغيرة انما كان اسلامه لفجره و غدره بنفر من قومه، فهرب و أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كالعائذ بالاسلام الخبر( ١) .

و في تاريخ الطبري قال قبيصة الاسدي: لو أن المغيرة جعل في مدينة لا يخرج من أبوابها كلها الا بالغدر لخرج منها( ٢) .

و لدهائه كان أبو بكر و عمر يفزعان إليه في معضلاتهما، ففي استقرار أمر خلافتهما لجئا إليه فقال لهما: الرأي ان تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا يكون له و لعقبه و تكون لكما الحجة على علي و على بني هاشم إذا كان العباس معكم( ٣ ) ، و لدهائه أراد عمر ابقاءه ذخيرة له و لمن بعده في دفع أهل البيت، فلقن زيادا الاباء عن الشهادة عليه بالزنا لئلا يرجم.

و شتان بينهما و بين أمير المؤمنينعليه‌السلام ، هما فزعا إلى مثل المغيرة الّذي حمل معاوية على استلحاق زياد بزنا أبيه به لرفع درجته، و مفاسد ذلك في الاسلام معلومة، كما حمله على استخلاف ابنه السكير الخمير الّذي أنكره مثل زياد و مروان و هما هما لئلا يعزله عن الامارة لشيخوخته، و قد أشار هو بنفسه عليهعليه‌السلام بابقاء معاوية على امارته حتى يستقر أمره ثم يعزله فأباه،

____________________

(١) الغارات ٢: ٥١٦.

(٢) تاريخ الطبري ٤: ٢٥٠، سنة ٦٠.

(٣) رواه الجوهري في السقيفة: ٤٧، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة ١: ١٥، و اليعقوبي في تاريخه ٢: ١٢٤.

٥٧٤

و قال: ما كنت متخذ المضلين عضدا و لو لم يستقر امر سلطنتي.

كما أن الثاني حظر على طلحة و الزبير الخروج من المدينة بتوهم الخروج عليه مع اقتداره ذاك الّذي أجروا أو امره بعده في ترتيبه الشورى،

و هوعليه‌السلام مع تزلزل أمره و علمه بارادة طلحة و الزبير الغدر خلى بينهما و بين ما أراد اليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حي عن بينة.

و في (أمالي القالي): كان معاوية يقول: انا للاناة، و عمرو للبديهة، و زياد للصغار و الكبار، و المغيرة للأمر العظيم.

هذا، و من الدهاة الغدارين عبد الملك، أعطى عمرو بن سعيد الامان، ثم قتله، فقال الشاعر:

غدرتم بعمرو يا بنيّ خيط باطل

و أنتم ذوو قربى به و ذوو صهر

و منهم منصور الدوانيقي، خرج عليه محمّد و إبراهيم ابنا عبد اللَّه بن الحسن، فأشخص إليهما عيسى بن موسى الّذي أراد خلعه من ولاية العهد بعده من أخيه و قال: لم أبال أيهما قتل.

و خرج عليه عمه عبد اللَّه بن علي، فأشخص إليه أبا مسلم الّذي أراد قتله،

و اعطى ابن هبيرة و عمه و أبا مسلم الامان، و غدر بجميعهم و قتلهم.

و لما كتب إلى محمّد بن عبد اللَّه ببذل الامان له أجابه أي امان تعطيني،

أمان ابن هبيرة، أم أمان عمك، أم أمان أبي مسلم.

«و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس» اتيانهعليه‌السلام ب «لو لا» الامتناعية لأن الدهاء ليس مجرد جودة الرأي، بل مع النكر و الاغتيال و الغدر و الاحتيال،

قال الجاحظ في (مفاخرات هاشم و امية) بعد ذكر مفاخرة امية بدهائها: قالت هاشم أما ما ذكرتم من الدهاء و النكر فان ذلك من أسماء فجار العقلاء و ليس

٥٧٥

من اسماء أهل الصواب: في الرأي من العقلاء الابرار( ١) .

كانعليه‌السلام من أعقل الناس بدون ان يكون أدهاهم.

و يشهد لكونهعليه‌السلام أعقل جميع الناس مع قطع النظر عن مؤيديته بالالهام الإلهي كالنبيّ بوحيه قضاياه الّتي كشف بها الواقع حتى صارعليه‌السلام مثلا بين الناس في كشف المعضلات، منها ما ورد أن غلاما في المدينة كان يدعي على امرأة انها امّه و أنها طردته، و كانت المرأة تدعي انها جارية بخاتمها، فأمر عمر و كان ذلك في أيامه بحبس الغلام، فاستجار الغلام بهعليه‌السلام ، فقال للمرأة: أ لك ولي؟ فقالت: اخوتي. فقالعليه‌السلام لهم امري فيكم و في اختكم جائز؟ قالوا: نعم. فقال: أشهد من حضر اني زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم من مالي، فصاحت المرأة النار النار يا ابن عم الرسول، تريد أن تزوجني من ابني، هذا ابني ولدته من هجين، فأمرني أخوتي ان انتفي منه و اطرده( ٢) .

و منها ما ورد أن رجلا أقبل على عهدهعليه‌السلام حاجا من الجبل و معه غلام له، فأذنب الغلام في الطريق، فضربه المولى، فقال الغلام لمولاه: ما أنت مولاي بل أنا مولاك، فكانا في الطريق يتوعدان حتى اتيا الكوفة، فحضرا عندهعليه‌السلام و قال المولى: هذا غلام لي، فأذنب فضربته فوثب علي، و قال الغلام:

ان أبي ارسلني معه ليعلمني و انه وثب عليّ يدعيني ليذهب بمالي، و كل منهما يحلف و يكذّب الاخر، فوعظهما فلم يقلعا، فقالعليه‌السلام لقنبر: اثقب في الحائط ثقبا ففعل، و قال لهما: ادخلا رأسيكما في الثقب ففعلا، ثم قال لقنبر جئنى بسيف

____________________

(١) نقله عنه ابن أبي الحديد في شرحه ١٥: ٢٧٠.

(٢) رواه الكليني في الكافي ٧: ٤٢٣ ح ٦، و الطوسي في التهذيب ٦: ٣٠٤ ح ٥٦، و القمي في عجائب الاحكام: ٢٨ ح ٢٥.

٥٧٦

رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أضرب رقبة العبد منهما، فأتاه به، فقال له: عجل اضرب رقبة العبد منهما، فأخرج العبد رأسه مبادرا و مكث الآخر في الثقب، فقالعليه‌السلام له ألست تزعم انك لست بعبد له، فكيف أخرجت رأسك. قال: بلى و لكن ضربني و تعدي علي، فتوثقعليه‌السلام له و دفعه إليه( ١) .

و منها ما ورد أن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغير بينة، فالتبس الحكم فيه على عمر، ففزع إليهعليه‌السلام ،

فاستدعى المرأتين و وعظهما و خوفهما، فأقامتا، فقال عند تماديهما في النزاع:

ائتوني بمنشار، فقالت المرأتان: ما تصنع؟ قال: أقده نصفين لكل واحدة منكما نصفه، فسكتت إحداهما و قالت الاخرى: اللَّه اللَّه يا أبا الحسن ان كان لا بد من ذلك فقد سمحت به لها. فقالعليه‌السلام : اللَّه اكبر هذا ابنك دونها و لو كان ابنها لرقت عليه، فاعترفت الاخرى أن الولد لصاحبتها، فسرى عن عمر، فدعا لهعليه‌السلام بما فرج عنه في القضاء( ٢) .

و منها ما ورد أن جمعا خرجوا في عهدهعليه‌السلام في سفر معهم رجل ذو ثروة، فرجعوا و لم يرجع، فسألهم ابنه عنه فقالوا: مات. فقال لهم: أين ماله؟

فقالوا: ما خلف شيئا، فرفعهم الابن إلى شريح قاضيه، فاستحلفهم و خلاهم،

فأتى الابن إليهعليه‌السلام و قص القصة، فأمر باحضار شريح و قال له: كيف قضيت؟ قال: لم يكن للابن بينة، فاستحلفت خصماءه. فقالعليه‌السلام له: هيهات هكذا يحكم في مثل هذا، يا قنبر ادع لي بشرطة الخميس، فدعاهم، فوكل بكل رجل منهم رجلا من الشرطة، ثم نظر إلى وجوههم فقال: أتقولون اني لا أعلم

____________________

(١) رواه الكليني في الكافي ٧: ٤٢٥ ح ٨، و الطوسي في التهذيب ٦: ٣٠٧ ح ٥٨، و القمي في عجائب الاحكام: ٧٢ ح ٧٢.

(٢) رواه المفيد في الإرشاد: ١١٠.

٥٧٧

ما صنعتم بأبي هذا الفتى، اني اذن لجاهل. ثم قال: فرقوهم و غطوا رؤوسهم،

ففرق بينهم و أقيم كل رجل منهم إلى اسطوانة من المسجد، ثم دعاعليه‌السلام كاتبه عبيد اللَّه بن أبي رافع فقال له: هات صحيفة و دواة، و جلس في مجلس القضاء،

و جلس الناس إليه، و قال لهم إذا كبرت فكبروا، ثم دعا بواحد منهم، فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه و قال للكاتب: اكتب اقراره و ما يقول: ثم أقبلعليه‌السلام عليه بالسؤال فقال له: في أي يوم خرجتم من منازلكم و أبو هذا الفتى معكم؟

فقال: في يوم كذا و كذا. قال: و في أي شهر؟ قال: في شهر كذا و كذا. قال: و في أي سنة؟ قال: كذا و كذا. قال و إلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبو هذا الفتى؟ قال: إلى موضع كذا و كذا. قال: و في منزل من مات؟ قال: في منزل فلان به فلان. قال: و ما كان مرضه؟ قال: كذا و كذا. قال: و كم يوما مرض؟ قال: كذا و كذا. قال: ففي أي يوم مات، و من غسله، و من كفنه، و بما كفنتموه، و من صلى عليه، و من نزل في قبره. فلما سأله عن جميع ما يريد كبّرعليه‌السلام و كبر الناس جميعا فارتاب اولئك الباقون و لم يشكوا أن صاحبهم أقر عليهم و على نفسه،

ثم امر أن يغطى رأسه و ينطلق به إلى السجن، ثم دعا بآخر فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه و قال له: زعمتم اني لا أعلم ما صنعتم. فقال: ما انا الا واحد منهم، و لقد كنت كارها لقتله فأقر، ثم دعا بواحد بعد واحد كلهم يقر بالقتل و أخذ المال، ثم رد الّذي امر به إلى السجن، فأقر أيضا، فألزمهم المال و الدم( ١) .

و منها ما ورد أن عمر قد أتي بجارية قد شهد عليها أنها بغت، و من قصتها انها كانت يتيمة عند رجل كثيرا ما يغيب عن أهله، فشبت و تخوفت امرأة الرجل أن يتزوجها زوجها، فدعت بنسوة، فأمسكنها، فأخذت عذرتها بأصبعها، فلما قدم الرجل رمتها المرأة بالفاحشة، و أقامت البينة من جاراتها

____________________

(١) رواه الكليني في الكافي ٧: ٣٧١ ح ٨، و المفيد في الإرشاد: ١١٥، و القمي في عجائب الاحكام: ٦٠ ح ٦١.

٥٧٨

اللاتي ساعدنها على ذلك، فرفع ذلك إلى عمر، فلم يدر كيف يقضي فيها، فقال عمر للرجل: اذهب بنا إلى عليّعليه‌السلام ، فأتوه و قصوا عليه القصة، فقال لامرأة الرجل: ألك بينة؟ قالت: هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول، و أحضرتهن،

فأخرجعليه‌السلام السيف من غمده، فطرحه بين يديه و أمر بكل واحدة منهن فادخلت بيتا، ثم دعا امرأة الرجل، فأدارها بكل وجه، فأبت ان تزول عن قولها،

فردها إلى البيت الّذي كانت فيه و دعا احدى الشهود و جثا على ركبتيه ثم قال:

أتعرفيني أنا عليّ بن أبي طالب و هذا سيفي، و قد قالت امرأة الرجل ما قالت:

و رجعت إلى الحق، و اعطيتها الأمان و إن لم تصدّقيني لأمكنّن السيف منك.

فالتفتت إلى عمر و قالت الأمان على الصدق. فقالعليه‌السلام لها: فاصدقي. فقالت: لا و اللَّه الا ان امرأة الرجل رأت جمالا من هذه الجارية و هيئة، فخافت فساد زوجها، فسقتها المسكر و دعتنا، فأمسكناها، فافتضتها باصبعها. فقالعليه‌السلام :

اللَّه أكبر أنا أوّل من فرق بين الشهود الا دانيال النبيّعليه‌السلام . و ألزمهن حد القاذف، و ألزمهن جميعا العقر، و امر الزوج ان يطلق المرأة، و زوجه الجارية،

و ساق عنه المهر إليها( ١) .

إلى غير ذلك من قضاياهعليه‌السلام الّتي لو أردنا الاستشهاد بها لطال الكتاب،

و من اراد اكثر راجع كتابنا في ذلك، فإنه لو اجتمعت عقلاء الثقلين على أن يستكشفوا مثل ما كشف ما قدروا.

و أما اطلاق كليب الجرمي عليهعليه‌السلام كونه أدهى العرب في خبر رواه عنه الطبري في الجمل ان بعد ورود طلحة و الزبير و عائشة البصرة لطلب دم عثمان قال قومه له و لرجلين آخرين: انطلقوا حتى تأتوا عليّا و أصحابه

____________________

(١) رواه الكليني في الكافي ٧: ٤٢٥ ح ٩، و الطوسي في التهذيب ٦: ٣٠٨ ح ٥٩، و القمي في عجائب الاحكام: ٣٤ ح ٢٨.

٥٧٩

و سلوهم عن هذا الأمر الّذي اختلط علينا، فأتيناه، فسألناه، فقال: عدا الناس على هذا الرجل و أنا معتزل، فقتلوه، ثم و لوني و أنا كاره، و لو لا خشية على الدين لم أجبهم، ثم طفق هذان في النكث، فأخذت عليهما و اخذت عهودهما عند ذلك، و أذنت لهما في العمرة، فقدما على حليلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعرضاها لما لا يحل لهما، فاتبعتهما لكيلا يفتقوا في الاسلام فتقا. قال: فبايع صاحباي و أما أنا فأمسكت و قلت بعثتني قومي لامر فلا احدث شيئا حتى أرجع إليهم. فقال: فان لم يفعلوا؟ قلت: لم أفعل. فقال: أرأيت لو انهم بعثوك رائدا فرجعت إليهم،

فأخبرتهم عن الكلاء و الماء، فخالفوا إلى المعاطش و الجدوبة ما كنت صانعا.

قلت: كنت تاركهم و مخالفهم إلى الكلاء و الماء. قال: فمد يدك، فو اللَّه ما استطعت ان امتنع، فبسطت يدي، فبايعته و كان من أدهى العرب الخبر( ١) ،

فأما تجوز منه و اما قلة معرفة منه، كما يكشف عنه عدم تميزه حتى ضربعليه‌السلام له المثل.

هذا، و روى (الكافي) مسندا عن هشام بن سالم يرفعه قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : لو لا أن المكر و الخديعة في النار لكنت أمكر الناس( ٢) .

«و لكن كل غدرة فجرة و لكل» هكذا في (المصرية)، و الصواب: (و كل) كما في (ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية)( ٣ ) «فجرة كفرة».

روى (الكافي) مسندا عن الأصبغ قال: قالعليه‌السلام على المنبر: أيها الناس لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ألا ان لكل غدرة فجرة، و لكل فجرة كفرة، ألا و ان الغدر و الفجور و الخيانة في النار( ٤) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٥٠٥، سنة ٣٦.

(٢) الكافي ٢: ٣٣٦ ح ١.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ١٠: ٢١١، و شرح ابن ميثم ٣: ٤٧٠.

(٤) الكافي ٢: ٣٣٨ ح ٦.

٥٨٠

581