الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175390 / تحميل: 6517
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

(وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابراً نعم العبد انّه اوّاب).

فزوجة ايوب كانت امرأة وفية له وعطوفة عليه الرغم من الخطأ الذي ارتكبته، وطبقاً لقسم أيوب لابد من مجازاتها، ولكن كانت تستحق العفو فضربها بحزمة من سويقات الشعير وان لم يكن مصداقاً واقعياً للقسم ولكن كان لابد منه لاجل حفظ حرمة القانون الالهي وعدم اشاعة نقض القانون، وايوب (عليه السلام) في حين انه عفا قد حفظ ظاهر القانون الالهي ولم ينقضه فجمع بين الامرين.(١) .

ورود نظير هذا المعنى في اجراء الحدود الاسلامية على المذنبين المرضى، وذكر في عدة روايات أن رجلاً مريضاً زنى فطبقاً للقوانين الشرعية الاسلامية يجب ان يقام عليه حد الجلد مائة سوط فجيء به الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدعا الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعذق تمر فيه مئة غصن فضربه مرة واحدة، فكان الحد.(٢)

وقال الامام الصادق (عليه السلام):

إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتى برجلٍ احتنبن (أحبن) مستسقي البطن قد بدت عروق فخذيه وقد زنى بامرأة مريضة، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعذق فيه شمراخ فضرب به الرجل ضربة، وضربت به المرأة ضربة ثمّ خلّى سبيلهما ثم قرأ هذه الآية الشريفة:

____________________

(١) اقتبس من تفسير نمونة ح ١٩ ص ٢٩٩.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ص ٣٢٠ الى ٣٢٣.

٦١

(وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث).(١)

وجدير بالذكر ان نقول: ان هذه الأمور خاصة واستثنائية ولا تجري الحكم السابق في كل الامور. نعم حتى في الأمور الاستثنائية يجب حفظ الحدود القانونية ولو ظاهراً حتى لا يشيع التخلف عن القانون في المجتمع. وفي أمر البدعة الذي هو من اكبر الذنوب ونوع من أجرء انواع التحدي للقوانين الاسلامية. نلفت الانتباه الى عدة روايات.

١ - قال امير المؤمنين (عليه السلام):

« وان شر الناس عند الله امام جائر ضلّ وضلّ به فأمات سنة مأخوذة وأحيا بدعةً متروكةً ».(٢)

٢ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« أذا ظهرت البدع في امّتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله ».(٣)

٣ - قال الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« كلّ بدعةٍ ضلالة وكلّ ضلالةٍ سبيلها الى النار ».(٤)

٤ - قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« من مشى الى صاحب بدعةٍ فوقّره فقد سعى في

____________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ٣٢١.

(٢) نهج البلاغة الخطبة ١٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ج ١١ ص ٥١٠.

(٤) الوسائل ج ١١ ص ٥١١.

٦٢

هدم الاسلام »(١) .

حكم الاعدام لاهل البدع:

كان فارس بن حاتم أحد الكاذبين والمغالين وأصحاب البدعة المشهورين في زمن الامام الهادي (عليه السلام). وكان يدعو الناس الى اتباع مذهبه الفاسد فأهدر الامام (عليه السلام) دمه وضمن الجنة لقاتلةٍ. فقتله « ابو جنيد » القصّاب بساطور اللحم وقضى عليه(٢) .

د - الحوارات والكتب الضالة:

الاسلام دين الحرية للأفكار ولا يكره الانسان على اعتناق العقيدة.

فاذا كان الاسلام كذلك فلابدّ من هذا السؤال:

لماذا يحرم الاسلام قراءة كتب الضلالة؟

والجواب: المختصر لهذا السؤال؛ أن كتب الضلالةٍ حرّمت قراءتها على الذين لا يملكون قدرة التمييز بين الافكار، حيث تؤثر الافكار الضالّة ومبتدعوها على ذهنية الانسان المسلم البسيط مما تجعله يؤمن بها في بعض الاحيان وبالتالي يهيئ في نفسه أرضية خصبة للانحراف والذنب. ولتوضيح ذلك نمثله بانسانٍ يستطيع ان

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) سفينة البحار: ج ١ ص ٣٥٦.

٦٣

يحمل ثقلاً يزن مائتا كيلو وانسان آخر لا يستطيع ان يحمل الخمس كيلوات، وهكذا التفاوت في تحمل الافكار وتمييزها. فبعض لا يستطيع ان يحل أبسط المعادلات الحسابية بينما الآخر يستطيع ان يحل أصعب وأعقد المسائل الرياضية.

فمطالعة كتب الضلالة من قبل العلماء أصحاب القدرة الفكرية في التحقيق والمناقشة لا حرج فيه. لانهم بمطالعتهم لهذه الكتب بمتلكون القدرة على تمييز الحق عن الباطل.

أما مطالعة هذه الكتب من قبل الافراد أصحاب القدرة الفكرية الضعيفة يشكل خطراً على ايمانهم وبالتالي يؤدي الى انحرافهم عن الحق. فالذي يستطيع ان ياكل كيلو واحد من الطعام ليس له القابلية على اكل عشرة كيلوات.

وهكذا نرى في التاريخ ان اعداء الاسلام قاموا. بنشر كتب الضلالة ودعوة الناس على الباطل، فمثلاً عندما رأى علماء اليهود ان الاسلام قد شكل خطراً عليهم قاموا بتحريف ما جاء في التوراة اذ جاء بها ذكر اوصاف نبي الاسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) فغيروها وذكروا صفات مناقضة لها وعرضوها على عوام اليهود حتى لا يدخلوا الاسلام كما جاء في الآية ٧٩ من سورة البقرة قوله تعالى:

(فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسبون).

٦٤

ونظيره في سورة لقمان الآية ٦.

(ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله بغير علم ويتخّذها هزوا اؤلئك لهم عذاب مهين).

وفي تفسير هذه الآية يروى ان تاجراً مشركاً ذهب الى بلاد فارس وتعلم قصة رستم واسفنديار ورجع الى الحجاز وقال: اذا كان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قصة عاد وثمود فانا اقول قصة رستم اسفنديار، فنزلت الآية تذمه على ذلك.

وقال الامام الجواد (عليه السلام):

« من أصغى الى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن لسان إبليس فقد عبد ابليس ».(١)

هـ - التلقين والتقليد:

إن احدى العوامل في المسائل التربوية والثقافية التي تهيىء الأرضية هي « التلقين والتقليد ». فاذا كان التقليد صحيحاً ولائقاً هيأ الارضية للأعمال الحسنة والاّ فعلى العكس من ذلك.

التلقين:

كثيراً ما تتكرر في القرآن الكريم كلمات حول التلقين. وهذا التكرار اضافة الى فوائده الاخرى فهو بمثابة ما يسمى بالتلقين القرآني

____________________

(١) تحف العقول ص ٣٣٦.

٦٥

الذي يدعو الناس ويهيئ لهم الارضية لهدايتهم الى الصراط السوي. فكلمة « الله » و « اله » وردت في القرآن الكريم ٢٨٠٧ مرات او مثلاً جملة:

(إنّ الله على كلّ شيءٍ قديرٍ) و (إنّ الله قدير) التي وردت في القرآن ٤٥، وفي سورة « الرحمن » التي نزلت في مكة المكرمة والتي تحتوي على ٧٨ آية:

تكررت آية:

(فبأي آلاء ربكما تكذّبان) احدى وثلاثين مرةً.

وفي سورة المرسلات كررت آية:

(ويل يؤمئذٍ للمكذّبين) عشر مرات، ومثل هذه الآية، تكررت في سورة الطور الآية ١١ وفي سورة المطففين الآية ١٠.

إنّ اكثر هذا التكرار يعطي الجانب التلقيني للقرآن حتى يدخل الى أتون القلب.

وفي سورة القمر تكررت هذه الآية الكريمة اربع مرات:

(ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكرٍ).

قال الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« لا تلقّنوا الكذاب فتكذبوا »(١) .

____________________

(١) سفينة البحار: ج ١ ص ٤٧٤ كان تلقين يعقوب (عليه السلام) لأولاده « لم ادع يوسف يمضي معكم الى الصحراء وأخاف ان يا كله الذئب » هذا التلقين استفاد منه اولاده سلباً.

٦٦

التقليد:

انّ التقليد الاعمى هو احد المواضيع لتهيئة الارضية الثقافية للذنب.

وللتقليد عدة اقسام:

١ - مثل تقليد العالم من العالم.

٢ - تقليد العالم من الجاهل.

٣ - تقليد الجاهل من الجاهل.

٤ - تقليد الجاهل من العالم.

من بين هذه الأقسام قسم صحيح واحد وهو الرابع، اما القسم الاول فهو في بعض الاحيان صحيح واحياناً أخرى ليس بصحيح.

اما تقليد الجاهل او تقليد العالم من الجاهل فهو تقليد أعمى واحياناً يكون السبب في تهيئة الأرضية الى السقوط في المفاسد ارتكاب الجرائم.

التقليد الاعمى:

معناه عدم الاستقلال والخضوع بذلّ للآخرين، فيكون عندها الانسان أجوفاً، او متطفلاً يعيش على موائدٍ الآخرين.

وفي الآية ١٠ من سورة ابراهيم نقرأ:

(قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السّماوات والأرض

٦٧

يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجلٍ مسمّى قالوا إن انتم إلاّ بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطانٍ مبينٍ).

فالتقليد الاعمى للأجداد كان منطقاً ضعيفاً يتمسك به المشركون في مقابلتهم للأنبياء، وهذا المنطق الضعيف كان داعياً الى الانحراف الاخلاقي والعقائدي.

وفي سورة البقرة الآية ١٧٠ نقرأ:

(وإذا قيل لهم أتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبّع ما الفينا عليه آبائنا).(١)

و - المتابعة والاقتداء:

إنّ انتحال الشخصية المتميزة أحد الاسباب لايجاد الارضية الثقافية للذنب. حيث يحتاج الانسان وبشكل واضح الى الأسوة، وقد تكون الاسوة هي الانسان الكامل فيقتفي أثرها في حياته الاجتماعية ليصل الى الاهداف الانسانية العالية.

إنّ وجود القدوة والشخصية المتميزة لها تأثير بالغ في حياة الناس وهي وسيلة ذات اثر فعال في تربيتهم. ومن طبيعة الانسان متابعة القدوة والسير خلفه فاذا كانت الثقافة في المجتمع غير صحيحة

____________________

(١) وهناك تقليد اعمى عن الاجداد جاء في آية ٧٠ من سورة الاعراف وآية ٦٢، ٨٧ من سورة هود.

٦٨

فان المقتدى به يكون كاذباً يسير بالانسانية الى الهاوية والدمار.

وتعبير (أسوة حسنة) ورد في القرآن الكريم ومعناه ان يتبع الانسان آثار القدوة الصالحة والصحيحة. وقد ذكرت هذه العبارة ثلاث مرات (في سورة الاحزاب الآية ١، وفي سورة الممتحنة الآية ٤، ٥).

وفي هذه الموارد الثلاثة عرف الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وابراهيم (عليه السلام) بالأسوة الحسنة.

ويجب الانتباه جيداً الى أن القدوة الكاذبة والشخصية البراقة هي احدى المصائب الكبرى والسبب في تهيئة الارضية للفساد والذنب فيجب ان تتّخذ الحيطة والدقة في هذا المجال.

ز - كتمان الحق:

إنّ كتمان الحق، وكتمان العلم، وكتمان كل وجهٍ من اوجهٍ القيم يعتبر أحد العوامل الاخرى لتهيئةالارضية لارتكاب الذنب. ويوجب الانحراف واندثار الحق والقيم في المجتمع.

وقد نهى القرآن الكريم عن كتمان الحق وبشدة كما جاء في الآية ٤٢ من سورة البقرة:

(ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون).

وفي الآية ١٥٩ من نفس السورة السابقة. نزلت لعنة الله على كاتمي الحق.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

٦٩

« من سئل عن علم يعلمه فكتم لجم يوم القيامة بلجام من نارٍ ».(١)

____________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٢٤٠ - سفينة البحار ج ٢ ص ٤٧٠.

٧٠

٢ - الاجواء العائلية والذنب

من الأمور الاخرى التي تهيئ الارضية للذنب هي: العائلة السيئة، حيث أن طهارة العائلة لها الاثر البالغ على شخصية الفرد في الاجتناب عن الذنوب، كما قال الشاعر الفارسي ما ترجمته: أذا كان البناء من الاساس مائلاً فحتى لو وصل الى الثريا ظل الحائط مائلاً.

وقال حافظ ما ترجمته:

الجوهر الطاهر هو الاليق ان يصل اليه الفيض وليس كل حجر طين هو لؤلؤ ومرجان.

فالمذهب الاسلامي مذهب جامع وسليم لأنه يهيىء الارضية للعائلة على اساس سليم وصحيح. فلو طبقت القوانين التي وضعها الاسلام في تربية الاسرة بدقة من البداية فمن المؤكد اننا نحصل على نتائج مشرقة، وهذه القوانين عبارة عن:

١ - العمل بقانون الوراثة.

٧١

٢ - الزواج.

٣ - تربية الأبناء على اساس اسلامي صحيح.

٤ - الطعام الحلال والحرام:

١ - العمل بقانون الوراثة:

من المسلّم به في نظر العلم والدين ان الابناء يتبعون الابوين في وراثة البنية الجسمية، كذلك يرثون الامور المعنوية والحالات الروحية منهم، فمثلاً: اذا كان الآباء ممن يمتلكون صفات الشجاعة والطهارة والتدين فلا شكّ في انتقال هذه الصفات الوراثية الى ابنائهم، وعلى العكس اذا كان الآباء لا يمتلكون الشجاعة وكانوا ضعيفي الارادة وليسوا ملتزمين بالشريعة، فتكون ارضية مساعدة على انتقال هذه الصفات الى الابناء. ولاجل ان نوضح اكثر نذكر هذه الآية وبعض الروايات.

١ - قال الله سبحانه وتعالى في اشمئزاز نوح (عليه السلام) من قومه الظالمين:

(وقال نوح ربّ لاتذر على الأرض من الكافرين ديّارراً إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا الاّ فاجراً كفّاراً)(١)

وهذه اشارة الى قانون الوراثة للابوين الفاسقين الذي تظهر نتائجه جليةً على الابناء فيتصفون بصفات أبويهم.

____________________

(١) سورة نوح (عليه السلام) الآية ٢٦ - ٢٧.

٧٢

٢ - في الزيارة المطلقة للامام الحسين (عليه السلام) (وبعض الزيارات الاخرى للائمة الاطهار سلام الله عليهم اجمعين) نقرأ:

« أشهد انك كنت نوراً في الاصلاب الشامخة والارحام المطهرة لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها ».

وهذه العبارة المشهورة في كتب الادعية تشير الى طهارة اباء وامهات الائمة المعصومين (عليهم السلام)، فهم في هذا المجال قد ورثوا الطهارة والقداسة.

٣ - قال الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« الشقيّ شقيّ في بطن أمه، والسعيد سعيد في بطن أمه ».(١)

يعني الانسان يمتلك الارضية للسعادة والشقاء من الناحية الوراثية.

٤ - اختيار الزوجة الشجاعة:

بعد شهادة فاطمة الزهراء (عليها السلام) اراد امير المؤمنين علي (عليه السلام) ان يتزوج، فاستشار اخاه عقيلاً وكان نساباً للعرب. فقال له امير المؤمنين علي (عليه السلام):

اريد امرأة ولدتها الفحول. أجابه عقيل: ولأي امر تريد امرأة هكذا؟!

قال أمير المؤمنين (عليه السلم): « حتى تلد لي ولداً شجاعاً ».

____________________

(١) نهج الفصاحة ص ٣٧٥ - بحار ج ٣ ص ٤٤.

٧٣

اجابه عقيل: هذه الصفات في فاطمة (عليه السلام) (ام البنين) بنت حزام بن خالد بن ربيعة من قبيلة بني كلاب، فما رأيت اشجع منهم ولا اسخى واربط جأشاً.

فتزوجها امير المؤمنين (عليه السلام) وولدت له قمر بني هاشم العباس (عليه السلام) الذي استشهد في واقعة الطف بكربلاء. وثلاثة اخوة آخرين كلهم استشهدوا في كربلاء.

فهؤلاء الابناء قد ورثوا الشجاعة و... من الجانبين (الاب والأم).

٥ - قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في رسالة يخاطب بها مالك الاشتر بخصوص « البيوتات الصالحة » في الاعتماد عليهم وقد ذكرها في موردين حيث قال (عليه السلام):

« ثم الصق بذوي المؤونات والأحساب واهل البيوتات الصالحة ».

وفي مورد آخر قال (عليه السلام):

« وتوخ منهم اهل التجربة والحياء من اصل البيوتات الصالحة والقدم في الاسلام ».(١)

ويستفاد من هذه العبارة اعطاء المناصب الحساسة والمهمة لاشخاص لديهم خصائص منها الانتساب للبيوتات الصالحة.

٦ - وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام) أيضاً:

____________________

(١) نهج البلاغة الرسالة ٥٣.

٧٤

« حسن الاخلاق برهان كرم الاعراق ».(١)

والمقصود من كرم الاعراق هو طهارة العائلة التي تورثها للابناء.

من ذكريات معركة الجمل:

دارت حرب الجمل في منطقة البصرة سنة ٣٦ هجري بين جيش امير المؤمنين (عليه السلام) وجيش عائشة وطلحة والزبير. وقد أعطى امير المؤمنين الراية الى ولده محمد بن الحنفية وقال له: احمل عليهم، فرشقه الاعداء بسهام كثيرة رشقة واحدة فتباطأ محمد بن احنفية قليلاً حتى تنفذ السهام، فقال له الامام (عليه السلام): احمل عليهم، فأراد ان يحمل عليهم لكن رشقات السهام منعته من التقدم فجاءه امير المؤمنين علي (عليه السلام) « وضربه بقائم سيفه وقال: تقدم، ادركك عرق من امك »(٢) .

علامات اولاد الحرام:

قال الامام الصادق (عليه السلام): للاولاد غير الشرعيين علامات:

« أحدها بغضنا أهل البيت، وثانيها أنه يحنّ الى الحرام الذي خلق منه، وثالثها الاستخفاف بالدين، ورابعها سوء المحضر للناس.

____________________

(١) غرر الحكم ١ ص ٣٧٩.

(٢) تتمة المنتهى ص ٢.

٧٥

ولا يسيء محضر إخوانه إلا من ولد على غير فراش أبيه أو حملت به أمه في حيضها »(١)

* * *

نعم، ان الاشخاص الذين ولدوا على أساس غير قانوني ولا شرعي فمن الطبيعي ان تكون الارضية لاقتراف الاعمال المنكرة والذنوب الكثيرة ديدناً لهم.

وفي النتيجة نحصل على ان قانون الوراثة من الاصول المسلمة علمياً واسلامياً فلو ابتني على اساس خاطىء وغير صحيح لهيأ الارضية لوجود الانسان المذنب والعاصي.

٢ - الزواج الصحيح:

أكد الاسلام على الزواج وبناء العائلة واعتبره من الأصول الاجتماعية والمهمة وخاصة في اختيار الزوجة. حيث وضع اموراً يجب مراعاتها واهمها الزوجة الصالحة لانها تهيىء الارضية الصالحة للابناء الصالحين، وبالعكس، المرأة الملوثة فانها منبت للأبناء الملوثين وبدورها تكون السبب في الانحراف واقتراف الآثام.

وتوجد عدة روايات تخصّ هذا الموضوع.

١ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٥٦٠ - البحار ج ٧٥ ص ٢٧٩.

٧٦

« أيها الناس اياكم وخضراء الدمن، قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء ».(١)

٢ - وقال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لأحدٍ استشاره في الزواج:

« انكح وعليك بذات الدين ».(٢)

٣ - قال امير المؤمنين (عليه السلام):

« اياكم وتزويج الحمقاء فان صحبتها بلاء وولدها ضياع ».(٣)

٤ - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

« خيار نسائكم العفيفة الغلمة ».(٤)

٥ - قال الامام الصادق (عليه السلام):

« من زوّج كريمته من شارب خمر قطع رحمها ».(٥)

قال الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« من شرب الخمر بعد ما حرمها الله على لساني فليس بأهل ان يزوج اذا خطب ».(٦)

٦ - قال الامام الصادق (عليه السلام):

« طوبى لمن كانت أمه عفيفة ».(٧)

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٤ ص ٢٩.

(٢) نفس المصدر ص ٣٠.

(٣) فروع الكافي ج ١٣ ص ١٢ - الوسائل ج ١٤ ص ٥٦.

(٤) التهذيب ج ٢ ص ٢٢٧ - الوسائل ج ١٤ ص ١٤.

(٥) فروع الكافي ج ٢ ص ١١.

(٦) وسائل الشيعة ج ١٤ ص ٥٣.

(٧) بحار الانوار ٢٣ ص ٧٩.

٧٧

٣ - تربية الابناء وفق الأسس الصحيحة:

إنّ أحد الواجبات المهمة في الاسلام هو التربية الاسلامية الصحيحة للأبناء. حيث تربي عندهم روح القيم والمثل الانسانية. وعلى العكس فانّ الاهمال في تربية الابناء او التربية الخاطئة تعتبر احدى الطرق لوجود الانحراف والذنب عند الابناء. فالاسلام أكد على هذا الجانب واهتم به اهتماماً بالغاً، فكما ان الفلاح الذي يزرع الشجرة في الارض يجب عليه مراعاتها ومعالجة الاضرار والامراض التي تصيبها حتى تعطي في النتيجة ثماراً يانعة. كذلك للأبوين ان يحرصوا على تربية الابناء وان لا يقصّروا في تربيتهم فيكونوا عرضة للمساوئ والسقوط والانحراف.

فالمرأة بعد زواجها ليس لها عمل إلاّ الاهتمام بزوجها وبيتها وابنائها. فلو انها تحمّلت تلك المسؤوليات الثلاث وفق الاسس الاسلامية الصحيحة لكانت كفيلة بحل جميع المشاكل في حياة العائلة، والواجب على الرجل كذلك ان يبذل قصارى جهده لمساعدة المرأة في تأدية هذه الواجبات الثلاث.

فالاثنان مسؤولان عن تربية ابنائهم، ولكن الحمل لثقيل تتحمله المرأة، لان المرأة دائمة الوجود في البيت وقريبة من الاطفال. وكذلك وحسب القانون الطبيعي فمنذ ان تستقر النطفة في رحم المرأة و تمر بمراحل الجنين و... يكون للمرأة تاثير بالغ في تكوين وتربية

٧٨

الابناء.

قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه »(١) .

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ايضاً:

« رحم الله عبداً أعان ولده على بره بالاحسان اليه، والتألف له وتعليمه وتأديبه ».(٢)

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ايضاً:

« رحم الله والدين اعانا ولدهما على برهما ».(٣)

وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

« وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه، ويعلمه القرآن ».(٤)

شدة المحافظة على كيان العائلة:

للمحبة وشدة حفظ كيان العائلة أثر فعال في التربية الصحيحة للابناء فعلى الاب والام ان يحفظا سلامة محيط البيت لأنه محيط البيت لأنه محيط تربية الابناء، فالخطوة الاولى للاصلاح والتربية الصحيحة للابناء هي

____________________

(١) عوالي اللئالي: ج ١، ح ١٨، ص ٣٥.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦٢٦.

(٣) فروع الكافي ج ٦ ص ٤٨.

(٤) نهج البلاغة حكمة ٣٩٩.

٧٩

اصلاح محيط البيت فالمحبة بين الرجل وزوجته تهيىء سلامة محيط البيت.

قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« خيركم خيركم لاهله وأنا خيركم لاهلي ».(١)

وجاءت في بحار الانوار (المجلد ١٠٣ صفحة ٢٢٦ الى ٢٣٣) روايات كثيرة توكد وتوصي بالمحبة بين الزوج وزوجته.

وقال الامام الصادق (عليه السلام) ايضاً:

« من اخلاق الانبياء محبتهم لنسائهم ».(٢)

وحضر رجل عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:

« ما قبّلت صبياً قط » فعندما ذهب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): « هذا رجل عندي انه من اهل النار ».

وقال يونس بن رباط: ان الامام الصادق (عليه السلام) نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:

« رحم الله من اعان ولده على بره ».

فقلت: وكيف يكون ذلك؟

أجاب الامام (عليه السلام):

« يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٤ ص ١٢٢.

(٢) بحار الانوار ج ١٠٣ ص ٢٨٨.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الاولى : «الملائكة المقرّبون»( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .(١)

والثانية : الأشخاص الذين بلغوا بإيمانهم أكمل الإيمان ويسمّيهم القرآن «المخلصين» فيقول عنهم :( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) (٢) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فقد كان هذا مآل ذلك الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدّى رسالته ولم يقصّر في حماية الرسل الإلهيين ، وارتشف في النهاية كأس الشهادة ، وقفل راجعا إلى جوار رحمة ربّه الكريم.

ولكن لننظر ما هو مصير هؤلاء القوم الطغاة الظلمة؟.

مع أنّ القرآن الكريم لم يورد شيئا في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من الرسل الذين بعثوا إلى هؤلاء القوم ، لكن جمعا من المفسّرين ذكروا أنّ هؤلاء قتلوا الرسل أيضا إضافة إلى قتلهم ذلك الرجل المؤمن ، وفي حال أنّ البعض الآخر يصرّح بأنّ هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنّى لهؤلاء الرسل التخلّص ممّا حيك ضدّهم من المؤامرات ، والانتقال إلى مكان أكثر أمنا ، ولكن نزول العذاب الإلهي الأليم على هؤلاء القوم قرينة على ترجيح القول الأوّل ، وإن كان التعبير «من بعده» (أي بعد شهادة ذلك المؤمن) يدلّل ـ في خصوص نزول العذاب الإلهي ـ على أنّ القول الثاني أصحّ «تأمّل بدقّة!!».

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين ، والآن لننظر ما ذا كانت نتيجة عملهم؟

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص :( وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ) .

__________________

(١) الأنبياء ، ٢٧.

(٢) المعارج ، ٣٥.

(٣) الميزان ، المجلّد ١٧ ، صفحة ٨٢.

١٦١
١٦٢

بداية الجزء الثالث والعشرون

من

القرآن الكريم

١٦٣
١٦٤

فلسنا بحاجة إلى تلك الأمور ، وأساسا فانّه ليس من سنّتنا لإهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود السماء ، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعا وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء ، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء ، وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها.

ثمّ يضيف تعالى( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) .

هل أنّ تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزّت كلّ شيء ، ودمّرت كلّ العمران الموجود ، وجعلت القوم من شدّة الخوف والوحشة يستسلمون للموت؟

أو أنّها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجّت في الفضاء بحيث أنّ موج انفجارها أهلك الجميع.

أيّا كانت فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها ، صيحة أسكتت جميع الصيحات ، هزّة أوقفت كلّ شيء عن التحرّك ، وهكذا هي قدرة الله سبحانه وتعالى ، وهكذا هو مصير قوم ضالّين لا نفع فيهم.

الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمرّدي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول :( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

وا أسفاه عليهم أن أغلقوا نافذة الرحمة الإلهية عليهم! وا أسفاه عليهم أن كسّروا مصباح هدايتهم!! ، هؤلاء الضالّون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الاستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط ، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والاستهزاء منهم ثمّ بادروا إلى قتلهم. مع أنّهم علموا المصير المشؤوم للطغاة الكفّار من قبلهم ، وسمعوا أو قرءوا على صفحات التأريخ كيف كانت خاتمتهم الأليمة ، ولكنّهم لم يعتبروا بالمواعظ وسلكوا نفس المسير ، وصاروا إلى

١٦٥

نفس المصير.

ومن الواضح أنّ هذه الجملة هي قول الله تعالى ، لأنّ جميع هذه الآيات توضيح منه تعالى ، غير أنّ من الطبيعي أن الحسرة هنا ـ بمعناها المتعارف وهو الغمّ على ما فات ـ لا تنطبق على الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ (الغضب) وأمثاله أيضا لا يصدر بمفهومه المتعارف من الله سبحانه ، بل المقصود أنّ حال تلك الفئة التعيسة سيء إلى حدّ أنّ كلّ إنسان يطّلع عليه يتأسّف ويتحسّر متسائلا : لماذا غرقوا في تلك الدوامة مع توفّر كلّ وسائل النجاة؟

التعبير بـ «عباد» إشارة إلى أنّ العجب أن يكون هؤلاء العباد غارقين بنعم الله سبحانه وتعالى ثمّ يرتكبون مثل تلك الجنايات.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة رسل أنطاكية

(أنطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت ـ على قول البعض ـ بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعدّ من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة.

تبعد (أنطاكية) مائة كيلومتر عن مدينة حلب ، وستّين كيلومترا عن الإسكندرية.

فتحت من قبل (أبي عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني ، وقبل أهلها دفع الجزية والبقاء على ديانتهم.

احتلّها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الاولى ، وحينما أراد الفرنسيون ترك الشام ألحقوها بالأراضي التركية خوفا على أهالي أنطاكية من أن يمسّهم سوء بعد خروجهم لأنّهم نصارى مثلهم.

١٦٦

(أنطاكية) تعتبر بالنسبة إلى النصارى كالمدينة المنورة للمسلمين ، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس ، التي ابتدأ المسيحعليه‌السلام منها دعوته ، ثمّ هاجر بعض من آمن بالمسيحعليه‌السلام ـ بولس وبرنابا ـ(١) إلى أنطاكية ودعوا الناس هناك إلى المسيحية ، وبذا انتشرت المسيحية هناك ، وبهذا اللحاظ أشار القرآن الكريم إلى هذه المدينة لأهميّتها(٢) .

«الطبرسي» ـ أعلى الله مقامه ـ في تفسير مجمع البيان يقول : قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية ، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما : من أنتما؟

قالا : رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن.

فقال : أمعكما آية؟

قالا : نعم ، نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.

فقال الشيخ : إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين.

قالا : فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله ، فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا ، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى.

وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه ، فدعاهما فقال لهما : من أنتما؟

قالا : رسولا عيسى ، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر.

فقال الملك : ولنا إله سوى آلهتنا؟

__________________

(١) «بولس» من المبلّغين المسيحيين المعروفين الذي سعى كثيرا في نشر الديانة المسيحية. «برنابا» ـ بفتح الباء ـ اسمه الأصلي «يوسف» كان من أصدقاء بولس ومرقس ، له إنجيل معروف ذكر فيه كثيرا البشارة بظهور نبي الإسلام ، ولكن المسيحيين لا يعتقدون بصحّته ويقولون انّ هذا الإنجيل قد كتبه أحد المسلمين.

(٢) تفسير «أبو الفتوح الرازي» وهامش العالم المرحوم «الشعراني».

١٦٧

قالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك.

قال : قوما حتّى أنظر في أمركما ، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما.

وروي أنّ عيسىعليه‌السلام بعث هذين الرّسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها ، وطالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّروا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما ، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة ، فلمّا كذب الرسولان وضربا ، بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما ، فدخل شمعون البلدة متنكّرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه ، ثمّ قال له ذات يوم : أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال : فإن رأى الملك دعاهما حتّى نتطلّع ما عندهما فدعاهما الملك.

فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا.

قالا : الله الذي خلق كلّ شيء لا شريك له.

قال : وما آيتكما.

قالا : ما تتمنّاه.

فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان حتّى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حديقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما ، فتعجب الملك.

فقال شمعون للملك : أرأيت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفا؟

فقال الملك : ليس لي عنك سرّ ، إنّ إلهنا الذي نعبده لا يضرّ ولا ينفع.

ثمّ قال الملك للرسولين : إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به وبكما.

قالا : إلهنا قادر على كلّ شيء.

١٦٨

فقال الملك : إنّ هاهنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه ـ وكان غائبا ـ فجاءوا بالميّت وقد تغيّر وأروح ، فجعلا يدعوان ربّهما علانية ، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّا ، فقام الميّت وقال لهم : إنّي قدمتّ منذ سبعة أيّام ، وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا احذّركم ممّا أنتم فيه ، فآمنوا بالله فتعجّب الملك.

فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك ، دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون.

ونقل «العياشي» في تفسيره مثل هذه الرواية عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام مع بعض التفاوت(١) .

ولكن بمطالعة الآيات السابقة ، يبدو من المستبعد أنّ أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا ، لأنّ القرآن الكريم يقول :( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) . ويمكن أن يكون هناك اشتباه في الرواية من جهة الراوي.

ومن الجدير بالملاحظة أيضا أنّ التعبير بـ «المرسلون» في الآيات أعلاه يدلّل على أنّهما أنبياء مرسلون من الله تعالى ، علاوة على أنّ القرآن الكريم يقول : بأنّ أهالي تلك المدينة( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ) ، ومثل هذه التعبيرات ترد في القرآن الكريم عادة فيما يخصّ الأنبياء ، وإن كان قد قيل بأنّ رسل الأنبياء هم رسل الله ، ولكن هذا التوجيه يبدو بعيدا.

٢ ـ ما نتعلّمه من هذه القصّة

نتعلّم من القصّة التي عرضتها الآيات السابقة أمورا عديدة منها :

الف ـ أنّ المؤمنين لا يستوحشون أبدا من سلوك طريق الله سبحانه وتعالى منفردين كما هو حال المؤمن «حبيب النجّار» الذي لم ترهبه كثرة المشركين في مدينته.

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٤ (الجزء ٨) ـ صفحة ٤١٩.

١٦٩

يقول أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام : «لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة أهله»(١) .

ب ـ المؤمن عاشق لهداية الناس ، ويتألّم لضلالهم ، وحتّى بعد شهادته يتمنّى أن يرى الآخرون مقامه ليكون سببا في إيمانهم!

ج ـ محتوى دعوة الأنبياء بحدّ ذاتها دليل على هدايتهم وحقّانيتهم( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

د ـ الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالية من أي ترقّب للأجر لكي تكون مؤثّرة.

ه ـ تارة يكون الضلال مكشوفا وواضحا ، أي أنّه ضلال مبين ، وعبادة الأوثان تعدّ مصداقا واضحا لـ «الضلال المبين».

و ـ أهل الحقّ يستندون إلى الواقعيات ، والضالّون يستندون إلى أوهام وظنون.

ز ـ إذا كان هناك شؤم ونكبات فإنّ سببها نفس الإنسان وأعماله.

ح ـ الإسراف سبب لكثير من الانحرافات والنكبات.

ط ـ وظيفة الأنبياء وأتباعهم «البلاغ المبين» والدعوة العلنية ، سواء استجاب الناس أو لم يستجيبوا.

ي ـ التجمّع والكثرة من العوامل المهمّة للنصرة والعزّة والقوّة( فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ) .

ك ـ إنّ الله لا يحتاج لتدمير أئمّة التمرّد والعصيان إلى تجنيد طاقات الأرض والسماء ، بل تكفي الإشارة.

ل ـ لا فاصلة بين الشهادة والجنّة ، والشهيد قبل أن يغادر الدنيا يقع في أحضان الحصور العين(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠١ ، صفحة ٣١٩.

(٢) ذكرنا رواية شريفة مفصّلة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال عند تفسير سورة (آل عمران) ذيل الآية ١٦٩.

١٧٠

م ـ إنّ الله يطهّر الإنسان من الذنوب أوّلا ثمّ يقربه إلى جوار رحمته( بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) .

ن ـ يجب على مريد الحقّ أن لا يستوحش من مخالفة الأعداء ، لأنّ ذلك ديدنهم على مدى الدهور( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

وأي حسرة أكبر وأشدّ من أن يغلق الإنسان ـ لمجرّد تعصّبه وغروره ـ عينيه ، فلا يبصر الشمس المضيئة الساطعة.

س ـ كان المستضعفون يؤمنون بالأنبياء قبل جميع الناس( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ).

ع ـ وهم الذين لم يتعبوا ولم يكلّوا من طريق الحقّ ، ولم يكن لسعيهم واجتهادهم حدّ.( يَسْعى ) .

ف ـ يجب تعلّم طريقة التبليغ والدعوة إلى الله من الرسل الإلهيين الذين استفادوا من جميع الأساليب والطرائق المؤثّرة لأجل النفوذ في قلوب الغافلين ، وفي الآية أعلاه والروايات التي أدرجناها نموذج على ذلك.

٣ ـ ثواب وعقاب البرزخ

ورد في الآيات الماضية أنّ (المؤمن حبيب النجّار) بعد شهادته دخل الجنّة وتمنّى أن لو يعلم قومه بمصيره. ومن المسلّم أنّ هذه الآيات ـ كما هو الحال في الآيات الاخرى التي تتحدّث عن الشهداء ـ ليست مربوطة بالجنّة المقصودة بعد يوم القيامة والتي تكون بعد البعث والحساب في المحشر.

من هنا يتّضح أنّ وراءنا جنّة وجحيما في البرزخ أيضا ، يتنعّم فيها الشهداء ويحترق فيها الطغاة من أمثال «آل فرعون» ومع الالتفات إلى هذا المعنى ، تنحلّ

١٧١

كثير من الإشكالات فيما يخصّ الجنّة والنار ، من أمثال ما ورد في روايات الإسراء والمعراج وأمثالها.

٤ ـ قادة الأمم

نقل في تفسير الثعلبي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون ، فهم الصدّيقون وعلي أفضلهم»(١) .

كما ورد هذا المعنى تقريبا في رواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوردها صاحب تفسير «الدرّ المنثور» عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الصدّيقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل ياسين الذي قال : يا قوم اتّبعوا المرسلين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله ، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم»(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢١ القرطبي ـ الميزان ، نور الثقلين.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، على ما نقله الميزان ، المجلّد ١٧ ، صفحة ٨٦.

١٧٢

الآيتان

( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) )

التّفسير

الغفلة الدائمة :

تتحدّث هاتان الآيتان ـ استنادا إلى ما مرّ في الآيات السابقة ـ عن الغفلة المستمرّة لمجموعة كبيرة من البشر في هذا العالم على مرّ العصور والقرون ، فتقول الآية :( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (١) .

فهؤلاء الكفّار ليسوا بدعا من الأمر ، فقد كان قبلهم أقوام آخرون تمرّدوا على الحقّ مثلهم عاشوا في هذه الدنيا ، ومصائرهم الأليمة التي ملأت صفحات التأريخ ، والآثار المعبّرة التي بقيت في مدنهم المدمّرة ، كلّها شاخصة أمام العيان ، فهل يكفي ذلك المقدار لتحقّق العبرة والإعتبار؟

ولكن على من يعود ضمير الجمع في( أَلَمْ يَرَوْا ) ؟

__________________

(١) الاستفهام في الآية أعلاه استفهام تقريري و «كم» خبرية ، وهي هنا بمعنى الكثرة في محلّ مفعول به للفعل (يروا) و (من القرون) توضيح لذلك. و «قرون» كما ذكرنا سابقا تأتي بمعنى العصور وهي جمع (قرن) مائة سنة أو بمعنى (الجيل) الذي يعيش في زمان معيّن.

١٧٣

احتمل المفسّرون عدّة وجوه :

الأوّل : أنّه يعود على «أصحاب القرية» الذين تحدّثت الآيات السابقة حولهم.

والثاني : أنّه يعود على «أهل مكّة» الذين نزلت هذه الآيات لتنبيههم.

ولكن يستدلّ من الآية السابقة( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ) على أنّ المقصود هو جميع البشر ، إذ أنّ كلمة «العباد» في الآية المذكورة تشمل جميع البشر على طول التاريخ ، الذين ما إن جاءهم الأنبياء حتّى هبّوا لمخالفتهم وتكذيبهم والاستهزاء بهم ، وعلى كلّ حال فهي دعوة لجميع البشر بأن يتأمّلوا في تأريخ القدماء ، ويعتبروا من آثارهم التي خلّفوها ، بفتح قلوبهم وبصائرهم.

في آخر الآية يضيف تعالى :( أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) (١) .

أي أنّ المصيبة الكبرى في استحالة رجوعهم إلى هذه الدنيا لجبران ما فاتهم وتبديل ذنوبهم حسنات ، لأنّهم دمّروا كلّ الجسور خلفهم ، فلم يبق لهم سبيل للرجوع أبدا.

هذا التّفسير يشبه بالضبط ما

قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) حينما تحدّث في أخذ العبرة من الموتى فقال : «لا عن قبيح يستطيعون انتقالا ولا في حسن يستطيعون ازديادا».(٢)

وتضيف الآية التالية( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) (٣) .

أي أنّ المسألة لا تنتهي بهلاكهم وعدم استطاعتهم العودة إلى هذه الدنيا ، كلّا فانّ الموت في الحقيقة بداية الشوط وليس نهايته ، فعاجلا سيحضر الجميع في

__________________

(١) هذه الجملة بدل عن «كم أهلكنا» والتقدير «ألم يروا أنّهم إليهم لا يرجعون» البعض احتمل أيضا أنّ الجملة حالية (حال الهالكين).

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٨.

(٣) المعروف بين المفسّرين حول تركيب هذه الآية : «إنّ» نافية. والبعض قال : إنّها مخفّفة لذا فإنّها لا تنصب ما بعدها ، و «لمّا» بمعنى «إلّا» ، بلحاظ أنّ ذلك ورد في كلام العرب ، و (جميع) بمعنى «مجموع» خبر «كلّ» (تنوين كل) بدل عن مضاف إليه محذوف تقديره «هم» والأصل «كلّهم») و «محضرون» إمّا خبر بعد خبر ، أو صفة لـ «جميع» وعلى ذلك تكون الجملة في التقدير هكذا «وما كلّهم إلّا مجموعون يوم القيامة محضرون لدينا».

١٧٤

عرصة المحشر للحساب ، ثمّ العقاب الإلهي المتلاحق والمستمر في انتظارهم.

إذا كانت الحال كذلك أفلا ينبغي عليهم الإعتبار من مصير هؤلاء السابقين لهم ، والاستفادة من الفرصة قبل الفوت للابتعاد عن مواجهة ذلك المصير المشؤوم.

نعم ، فلو كان الموت خاتمة لكلّ شيء ، لكان ممكنا أن يقولوا بأنّه بداية راحتهم ، ولكن يا حسرة!! وكما يقول الشاعر :

ولو أنّا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كلّ حيّ

ولكنّا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعده عن كلّ شيء

* * *

١٧٥

الآيات

( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) )

التّفسير

آيات اخرى!!

ممّا مرّ بحثه في الآيات السابقة حول جهاد الرسل ضدّ الشرك وعبادة الأوثان ، وكذلك التعرّض إلى مسألة المعاد في الآية الأخيرة من المقطع السابق ، توضّح الآيات ـ مورد البحث ـ مسألتي التوحيد والمعاد معا لإيقاظ المنكرين لهاتين المسألتين ودفعهم إلى الإيمان.

تتعرّض الآية الاولى إلى قضيّة إحياء الأرض الميتة والبركات التي تعود على الإنسان من ذلك فتقول :( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ

١٧٦

يَأْكُلُونَ ) (١) .

قضيّة الحياة والبقاء من أهمّ دلائل التوحيد ، وهي قضيّة في واقعها معقّدة ومليئة بالألغاز وباعثة على الدهشة ، إذ أنّها حيّرت عقول العلماء جميعا ، فبرغم التطور والتقدّم الحاصل في وسائل الدراسة وفي العلوم بشكل عام ، لا زال الكثير من الأسرار تنتظر الحلّ! وحتّى الآن لم يعلم تحت تأثير أي العوامل تتحوّل موجودات ميتة إلى خلايا حيّة؟

حتّى الآن ، لم يعرف كيف تتكوّن طبقات خلايا البذور؟ وما هي القوانين المعقّدة التي تحكمها؟ بحيث أنّها بمجرد توفّر الشرائط المساعدة تبدأ بالتحرّك والنمو والرشد. وتستلّ من ذرّات التراب الميتة وجودها ، وبهذا الطريق تتحوّل الموجودات الميتة إلى أنسجة موجودات حيّة فتعكس في كلّ يوم مظهرا مختلفا من مظاهر حياتها ونموّها.

قضيّة الحياة في عالم النباتات والحيوانات وإحياء الأرض الميتة تعتبر من جانب دليلا على وجود معلومات وقوانين دقيقة سخّرت في خلق ذلك العالم ، ومن جانب آخر تعتبر دليلا على البعث بعد الموت.

ومن الواضح أنّ الضمير في «لهم» يعود على كلمة «العباد» التي ورد ذكرها في الآيات السابقة ، والمقصود من «العباد» هنا هم جميع الذين وقعوا في خطأ في تقدير مسألة المبدأ والمعاد ، والذي عدّ القرآن الكريم وضعهم باعثا على الحسرة والأسف.

تنكير «آية» ، إشارة إلى عظمة وأهميّة ووضوح تلك الآية التوحيدية.

جملة( فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) إشارة من جانب إلى أنّ الإنسان يستفيد من بعض بذور النباتات للتغذية ، بينما بعضها غير قابل للأكل ، ولكن له فوائد اخرى كتغذية

__________________

(١) وردت احتمالات عديدة في إعراب الآية ، ولكن أوضحها على ما يبدو ، هو كون «آية لهم» خبر مقدّم و «الأرض الميتة» مبتدأ مؤخّر ، و «أحيينا» جملة استئنافية وهي توضيح وتفسير للجملة السابقة.

١٧٧

الحيوانات ، وصناعة الأصباغ ، والأدوية ، والأمور الاخرى التي لها أهميّة في حياة الإنسان.

ومن جانب آخر فإنّ تقديم «منه» على «يأكلون» والذي يدلّ عادة على الحصر ، هو لبيان أنّ أكثر وأفضل تغذية للإنسان هي من المواد النباتية إلى درجة أنّه يمكن القول أنّ جميع غذاء الإنسان يتشكّل منها.

الآية التالية توضيح وشرح للآية الاولى من هذه الآيات ، فهي توضّح كيفية إحياء الأرض الميتة ، فتقول :( وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ ) .

كان الحديث في الآية الاولى عن الحبوب الغذائية ، بينما الحديث هنا عن الفواكه المقوّية والمغذّية والتي يعدّ «التمر» و «العنب» أبرز وأهمّ نماذجها حيث يعتبر كلّ منهما غذاء كاملا.

وكما أشرنا سابقا فقد دلّت دراسات العلماء وبحوثهم على أنّ هاتين الفاكهتين تحتويان على الفيتامينات والمواد الحياتية المختلفة واللازمة لجسم الإنسان ، إضافة إلى أنّ هاتين الفاكهتين يمكن حفظهما وتناولهما طازجتين أو مجفّفتين على مدار العام.

«أعناب» جمع «عنب» و «النخيل» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ جمعه «نخل» ولكن باختلاف بين الكلمتين ، (فالعنب) يطلق على الثمرة نفسها ، ومن النادر إطلاقه على شجرة العنب ولكن «النخل» اسم للشجرة ، و (الثمرة) يقال له «الرطب» أو «التمر».

يرى البعض بأنّ هذا الاختلاف في التعبير عن الفاكهتين بالإشارة إلى الشجرة مرّة وإلى الثمرة مرّة اخرى ، بسبب أنّ النخلة ـ وكما هو معروف ـ كلّها مفيدة وقابلة للاستفادة ، جذعها وجريدها وسعفها وأخيرا ثمرها ، في حين أنّ شجرة (الكرم) غالبا ما يستفاد من «عنبها» فقط ، وأمّا ساقها وأوراقها فلا يستفاد منها إلّا

١٧٨

قليلا.

وأمّا ما ورد من ذكر الاثنتين بصيغة الجمع ، فيبدو أنّه إشارة إلى الأنواع المختلفة لكلّ منهما ، إذ أنّ كلا منهما لها عشرات الأنواع تختلف في أشكالها وخصائصها ومذاقها.

والجدير بالملاحظة ـ أيضا ـ أنّ الحديث في هذه الآية تعرّض إلى إحياء الأرض الميتة دون أن يقرن ذلك بذكر المطر الذي عادة ما يذكر في مثل هذه المواضع ، وورد الحديث هنا عن «العيون» ، وذلك لأنّ المطر كاف لزراعة الكثير من المحاصيل والنباتات ، في حين أنّ الأشجار المثمرة تحتاج إلى الماء الجاري أيضا.

«فجّرنا» من مادّة «تفجير» وهو شقّ الشيء شقّا واسعا ، ومن هنا استخدمت الكلمة للتعبير عن العيون ، لأنّها تشقّ الأرض وتدفع ماءها إلى سطح الأرض(١) .

الآية التالية تشرح وتوضّح الهدف من خلق تلك الأشجار المباركة المثمرة فتقول : إنّ الغرض من خلقها لكي يأكلوا من ثمارها دون حاجة إلى بذل جهد في ذلك ودون تدخّل الإنسان في صناعتها( لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ) .

نعم ، ثمار على شكل غذاء كامل تظهر على أغصان أشجارها ، قابلة للأكل بمجرّد جنيها من أغصانها ، ولا تحتاج إلى طبخ أو أيّة تغييرات اخرى ، ذلك إشارة إلى غاية لطف الله بهذا الإنسان وكرمه.

حتّى أنّ ذلك الطعام الجاهز اللذيذ ، يمكن تجميعه وتعليبه لكي يحفظ لمدّة طويلة بدون أن ينقص من قيمته الغذائية شيء ، على خلاف الأغذية التي يصنعها الإنسان من المواد الطبيعية التي أعطاها الله له ، فهي غالبا ما تكون سريعة التلف

__________________

(١) من الجدير بالملاحظة أنّ الصيغة الثلاثية المجردة لها «فجر» بمعنى (الشقّ) وهنا استخدمت على وزن «تفعيل» بمعنى التكثير والتشديد.

١٧٩

والفساد.

ويوجد تفسير آخر أيضا لمعنى الآية ، وهو جدير بالنظر ، وذلك أنّ القرآن الكريم يريد الإشارة إلى الفواكه التي يمكن الاستفادة منها دون إدخال تغيير عليها ، وكذلك إلى أنواع الأغذية المختلفة التي يمكن الحصول عليها من تلك الفواكه ، بالقيام ببعض الأمور (في التّفسير الأوّل تكون (ما) في الجملة نافية ، بينما في التّفسير الثاني تكون موصولة).

وعلى كلّ حال ، فالهدف هو تحريك حسّ تشخيص الحقّ ، والشكر في الإنسان ، لكي يضعوا أقدامهم على أوّل طريق معرفة الله عن طريق الشكر ، لأنّ شكر المنعم أوّل قدم في طريق معرفته.

الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث ، تتحدّث عن تسبيح الله وتنزيهه ، وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة ، وتوضّح طريق التوحيد وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول :( سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

نعم ، فالله الذي خلق كلّ هذه الأزواج في هذا العالم الواسع ، لا حدّ لعلمه وقدرته ومنزّه عن كلّ نقص وعيب ، لذا فلا شريك ولا شبيه له ، وإن عدّ بعض الناس الحجر والخشب الجامد الميّت نظائر له ، فإنّ تلك النسبة الباطلة لا تنقص من مقام كبريائه شيئا.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبّحه أحد ، إنّما ذلك تعليم للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.

__________________

(١) «سبحان» على قول جماعة من المفسّرين وعلماء الأدب هي «علم» للتسبيح ، لأنّ العلم (الاسم الخاصّ) يكون أحيانا للأشخاص فيسمّى «علم الشخص» ، وأحيانا للجنس فيسمّى «علم الجنس» ، وأحيانا للمعنى فيسمّى «علم المعنى» بناء على هذا فمفهوم «سبحان» هو تنزيه وتقديس الله من كلّ عيب ونقص ، تنزيها يتناسب وعظمة الخالق ، والعلم لا يضاف إلّا في «علم المعنى». قال البعض أيضا أنّ «سبحان» لها معنى مصدري ، ومفعول مطلق لفعل مقدّر ، وفي أيّة صورة فهي تبيّن التنزيه الإلهي بأوكد وجه.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581