الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175949 / تحميل: 6532
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

من لحم وعظم وعصب، واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة، أعني بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك المكان. وقد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلاً كما يقال البلدة في يد الأمير فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلاً.

فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعاً ويقيناً أن الرسولعليه‌السلام لم يرد بذلك جسماً هو عضو مركب من لحم ودم وعظم وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم! فإن كل جسم فهو مخلوق وعبادة المخلوق كفر وعبادة الصنم كان كفراً لأنه مخلوق وكان مخلوقاً لأنه جسم، فمن عبد جسماً فهو كافر بإجماع الأئمة، السلف منهم والخلف، سواء كان ذلك الجسم كثيفاً كالجبال الصم الصلاب أو لطيفاً كالهواء والماء، وسواء كان مظلماً كالأرض أو مشرقاً كالشمس والقمر والكواكب، أو مشفاً لا لون له كالهواء، أو عظيماً كالعرش والكرسي والسماء، أو صغيراً كالذرة والهباء، أو جماداً كالحجارة، أو حيواناً كالإنسان.

فالجسم صنم، فبأن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره أو صلابته وبقاؤه لا يخرج عن كونه صنماً.

ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وإصبعه، فقد نفى العضوية واللحم والعصب وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث ليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ولا عرض في جسم يليق ذلك المعنى بالله تعالى، فإن كان لا يدري ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصلاً، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه، بل واجب عليه أن لا يخوض فيه. انتهى. وبذلك وافق الغزالي ورشيد رضا مذهبنا ومذهب المتأولين، وخالف المفوضة وأهل الظاهر!

٦١

وكل علماء السنّة حتى المجسّمة يصيرون متأوّلة عند الحاجة

كل المجسمة من الأشاعرة والحنابلة والوهابيين الذين حرموا التأويل، وأنكروا وجود المجاز في القرآن، وأوجبوا حمل ألفاظه وألفاظ أحاديث الصفات على معانيها الظاهرة الحقيقية، بل حتى أولئك الذين حكموا بأن المتأولة أهل ضلالة وبدعة وكفر وحذروا منهم.. كلهم يصيرون متأولة من الدرجة الأولى عندما يقعون في مأزق الآيات والأحاديث التي تخالف مذهبهم وتنفي إمكان الرؤية بالعين والتشبيه والتجسيم كقوله تعالى:لا تدركه الأبصار ...ليس كمثله شيء ...لا يحيطون به علماً ...لن تراني .. إلخ.

وهكذا نجد أن إخواننا الذين نبزونا بألفاظ (متاولة، متوالي، بني متوال) يقومون هم بتأويل جميع الآيات والأحاديث المخالفة لمذهبهم جهاراً نهاراً، وجوباً قربة إلى الله تعالى، من أجل الدفاع عن أحاديث الرؤية بالعين وظاهر الآيات المتشابهة فيها!

وهكذا يسقط منهجهم العلمي بتحريمهم التأويل في بعض الآيات والأحاديث وتحليله في بعضها! وكان الأولى بهم أن لا يلقوا أنفسهم في هذا المأزق ويتأولوا الآيات التي يوهم ظاهرها الرؤية من أول الأمر من أجل الجمع المنطقي بينها وبين الآيات النافية للرؤية.

وإذا سألتهم: لماذا أوجبتم الأخذ بظاهر هذه المجموعة من الآيات والأحاديث وحرمتم تأويلها، وأوجبتم تأويل تلك المجموعة وحرمتم الأخذ بظاهرها! فليس عندهم جواب، إلا أنهم أرادوا المحافظة على ظواهر آيات الرؤية بالعين وأحاديث الآحاد، مهما كلفهم ذلك من تناقض في المنهج العلمي، فالمهم عندهم أن لا تنخدش روايات الرؤية بالعين عن كعب الأحبار ومن قلده من الخلفاء!

٦٢

- قال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص ١٤٨

ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر في الفتح ١٣ - ٤٣٢: فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها. انتهى.

وقد تبنى ابن تيمية والوهابيون هذا الحل (الشرعي) فحكموا بوجوب تصديق هذه الروايات وتحريم تأويلها حتى لو أدت إلى التجسيم، ثم هجموا على روايات التنزيه ونفي التجسيم بمعول التأويل!

- وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص ١٥٦ - ١٥٩

وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره ٢٧ - ٧ تأويل لفظة (أيد) الواردة في قوله تعالى:وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ، بالقوة أيضاً عن جماعة من أئمة السلف منهم: مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان... ومما يجدر التنبيه عليه هنا ولا يجوز إغفاله أن هؤلاء القوم الذين يحاربون التأويل ويزعمون أنه ضلال وبدعة وتحريف للقرآن والسنة هم أنفسهم يؤولون ما لا يوافق آراءهم من نصوص الكتاب والسنة في مسائل الصفات! فنراهم يؤولون مثل قوله تعالى: وهو معكم وقوله تعالى: ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، وقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، وقوله تعالى: إنني معكما أسمع وأرى، وقوله تعالى:وهو معكم ، إلى غير ذلك من نصوص واضحة!

فإذا كان هذا قرآن وذاك قرآن فما الذي أوجب اعتقاد ظاهر هذا دون ظاهر ذاك وكله قرآن! ولماذا جوزوا تأويل ظاهر هذا دون ذلك!

... روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الإمام أحمد بن حنبل أنه سمعه يقول: احتجوا عليّ يوم المناظرة فقالوا: تجيء يوم القيامة سورة البقرة... الحديث قال فقلت لهم: إنما هو الثواب. اهـ. فتأمل في هذا التأويل الصريح... نقل الحافظ

٦٣

البيهقي في الأسماء والصفات ص ٤٧٠ عن البخاري أنه قال: معنى الضحك: الرحمة اهـ. وقال الحافظ البيهقي ص ٢٩٨: روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: معنى الضحك فيه - أي الحديث - الرحمة اه- فتأمل. وقد نقل هذا التأويل أيضاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري ٦ - ٤٠.

- وقال التلمساني في نفح الطيب ج ٨ ص ٣٤

حكاية أبي بكر بن الطيب مع رؤساء بعض المعتزله. وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفه فناظره في مسألة رؤية الباري فقال رئيسهم: ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال قوله تعالى:لا تدركه الأبصار فنظر بعض المعتزله إلى بعض وقالوا: جن القاضي! وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا على مذهبهم وهو ساكت ثم قال لهم: أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا: لا... قال فلا يصح إذا نفي الصفة عما من شأنه صحة إثباتها له؟ قالوا: نعم، قال فكذلك قوله تعالى:لا تدركه الأبصار ، لو لا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه! انتهى.

وهكذا نرى أن الذين حرموا التأويل وكفروا المسلمين بسببه، أفرطوا في ارتكابه ووصلوا به إلى حد السفسطة، فأولوا النفي الصريح بالإثبات، ولم يبق عليهم إلا أن يؤلوا(لا إله إلا الله) بوجود عدة آلهة مع الله سبحانه وتعالى عما يصفون. وسوف ترى مزيداً من فنونهم في تأويل آيات نفي الرؤية والتنزيه، عند استعراض تفسيرها، إن شاء الله تعالى.

- ونختم بما قاله الشيخ محمد رضا جعفري في بحث الكلام عند الإمامية ص ١٥١ من مجلة تراثنا عدد ٣٠

قال أبو الفرج ابن الجوزي: «واعلم أن عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا، لأنهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى الحكم..» (١)

وقال أيضاً: «واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب: إحداها،

٦٤

إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل، إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى(وجاء ربّك) (٢) أي: جاء أمره، وهذا مذهب السلف.

والمرتبة الثانية، التأويل، وهو مقام خطر.

والمرتبة الثالثة، القول فيها بمقتضى الحس، وقد عمَّ جهلة الناقلين(٣)، إذ ليس لهم حظ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على الله تعالى وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذا عدموا تصرفوا في النقل بمقتضى الحس» (٤).

وقال تقي الدين ابن تيمية، راداً على من قال: إن أكثر الحنابلة مجسمة ومشبهة:

«المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، فهؤلاء أصناف الأكراد، كلهم شافعية، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم، والكرامية كلهم حنفية»(٥).  ولست أقر ابن تيمية على دفاعه عن أهل مذهبه ولكني أسكت عنه....

٤ - نماذج مختارة: وكنموذج لما أشار إليه ابن الجوزي في كلامه عن المحدثين أختار ثلاثة لم يكونوا من الحنابلة الصرحاء، وأقدم لكل منهم بعض الترجمة كي لا يتهمني متهم بأني عثرت على مغمورين خاملين لم يكونوا ذوي شأن عند المحدثين:

١ - إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم، أبو يعقوب الحنظلي المروزي، ابن راهويه النيسابوري (١٦١/٧٧٨ ت ٢٣٨/٨٥٣.

قال الخطيب: كان أحد أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، اجتمع له الحديث والفقه، والحفظ والصدق، والورع والزهد، ورحل إلى العراق، والحجاز، واليمن، والشام... وورد بغداد وجالس حفاظ أهلها، وذاكرهم، وعاد إلى خراسان فاستوطن نيسابور إلى أن توفي بها، وانتشر علمه عند الخراسانيين. وهكذا قال المزي والسبكي. وهو شيخ البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وبقية بن الوليد، ويحيى بن آدم - وهما من شيوخه - وأحمد بن حنبل، وإسحاق

٦٥

الكوسج، ومحمد بن رافع، ويحيى بن معين - هؤلاء من أقرانه - وجماعة.

قال نعيم بن حماد: إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد بن حنبل فاتهمه في دينه، وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه فاتهمه في دينه.

وقال النسائي: أحد الأئمة، ثقة مأمون. وقال أحمد بن حنبل: إذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به. وقال أبو حاتم: إمام من أئمة المسلمين. وقال ابن حبان: وكان إسحاق من سادات زمانه فقهاً، وعلماً، وحفظاً، ونظراً، ممن صنف الكتب، وفرع السنن، وذب عنها، وقمع من خالفها، وقبره مشهور يزار. وقال أبو عبد الله الحاكم: إمام عصره في الحفظ والفتوى. وقال أبو نعيم الأصبهاني: كان إسحاق قرين أحمد [ بن حنبل ] وكان للآثار مثيراً، ولأهل الزيغ مبيراً.

وقال الذهبي: الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ، قد كان مع حفظه إماماً في التفسير، رأساً في الفقه، من أئمة الإجتهاد(٦).

أبو عيسى الترمذي - بعد أن أخرج الروايات التي تقول: إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه... الحديث - قال: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟

هكذا روي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه. وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد ها هنا القوة.

وقال إسحاق بن إبراهيم(٧): إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع، فهذا التشبيه. وأما

٦٦

إذا قال - كما قال الله تعالى -: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، وهو كما قال الله تعالى:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (٨).

٢ - أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري (٢٢٣/٨٣٨ - ٣١١/٩٢٤) قالوا عنه: إنه كان إمام نيسابور في عصره، فقيهاً، مجتهداً، بحراً من بحور العلم، اتفق أهل عصره على تقدمه في العلم، ولقبه الصفدي، واليافعي، والذهبي، والسبكي، وابن الجزري، والسيوطي، وابن عبدالحي بإمام الأئمة. وقال الدار قطني: كان إماماً معدوم النظير. وقال ابن كثير: هو من المجتهدين في دين الإسلام. وذكروا له الكرامات. وقال السمعاني: وجماعة [ من المحدثين ] ينسبون إليه، يقال لكل واحد منهم خزيمي [ فهو إمام مدرسة حدثية ]. وهذا بعض ما قيل فيه(٩):

أثبت ابن خزيمة الوجه لله سبحانه، وقال: (ليس معناه أن يشبه وجهه وجه الآدميين، وإلا لكان كل قائل إن لبني آدم وجهاً، وللخنازير، والقردة، والكلاب... - إلى آخر ما عدد من الحيوانات - وجوهاً، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب...)(١٠).

وذكر مثل هذا في العين، واليد، والكف، واليمين، وقال: إن عيني الله لا تشبهان أي عين لغيره، وأضاف: نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى وما بينهما ونزيد شرحاً وبياناً ونقول: عين الله عز وجل قديمة لم تزل باقية، ولا يزال محكوم لها بالبقاء منفي عنها الهلاك والفناء، وعيون بني آدم محدثة، كانت عدماً غير مكونة فكونها الله وخلقها بكلامه الذي هو صفة من صفات ذاته...»(١١).

وقال: إن لله يدين ويداه قديمتان لم تزالا باقيتين، وأيدي المخلوقين محدثة فأي تشبيه!...(١٢) ونفى التأويل عن كل هذا، خاصة تأويل اليد بالنعمة أو القوة(١٣).

وذكر «أن كلام ربنا عز وجل لا يشبه كلام المخلوقين، لأن كلام الله كلام متواصل

٦٧

لا سكت بينه ولا سمت، لا ككلام الآدميين الذي يكون بين كلامه سكت وسمت لانقطاع النفس، أو التذاكر، أو العي...»(١٤).

٣ - عثمان بن سعيد، أبو سعيد الدارمي، التميمي، السجستاني (ح ١٩٩/٨١٥ - ٢٨٠/٨٩٤) الإمام العلامة الحافظ، الناقد الحجة، وكان جذعاً وقذئ في أعين المبتدعة، قائماً بالسنة، ثقة، حجة، ثبتاً. وقيل فيه: كان إماماً يقتدى به في حياته وبعد مماته. ذكره الشافعية في طبقاتهم، وعده الحنابلة من أصحاب ابن حنبل(١٥).

قال الدارمي بأن لله مكاناً حده، وهو العرش(١٦) و(هو بائن من خلقه فوق عرشه بفرجة بينه في هواء الآخرة، حيث لا خلق معه هناك غيره، ولا فوقه سماء)(١٧) وقال (قد أيّنّا له مكاناً واحداً، أعلى مكان، وأطهر مكان، وأشرف مكان: عرشه العظيم فوق السماء السابعة العليا، حيث ليس معه هناك إنس ولا جان، ولا بجنبه حش، ولا مرحاض، ولا شيطان. وزعمت أنت(١٨) والمضلون من زعمائك أنه في كل مكان، وكل حش ومرحاض، وبجنب كل إنسان وجان! أفأنتم تشبهونه إذ قلتم بالحلول في الأماكن أم نحن؟!)(١٩)

وقال (ولو لم يكن لله يدان بهما خلق آدم ومسه مسيساً كما ادعيت، لم يجز أن يقال (لله): بيدك الخير...)(٢٠) وأحال في ذلك كل معنى أو تأويل من نعمة أو قوة إلا اليدين(٢١) (بما لهما من المعنى، وهو العضو الخاص المحسوس)، (وأن لله إصبعين، من غير تأويل بمعنى آخر)(٢٢) (والقدمان قدمان من غير تأويل)(٢٣) (غير أنا نقول، كما قال الله(ويبقى وجه ربّك) (٢٤) إنه عنى به الوجه الذي هو الوجه عند المؤمنين، لا الأعمال الصالحة، ولا القبلة...)(٢٥) وإن نفي التشبيه إنما هو بأن يكون لله كل هذا، ولكن لا يشبه شيء منه شيئاً مما في المخلوقين)(٢٦).

وقال الجعفري في هوامشه:

(١) تلبيس إبليس: ط ادارة الطباعة المنيرية، القاهرة: ١٣٦٨/١١٦.

(٢) الفجر ٨٩: ٢٢.

(٣) ويقصد بهم المحدثين.

٦٨

(٤) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، المكتبة التوفيقية، القاهرة: ١٩٧٦/٧٣ - ٧٤.

(٥) المناظرة في العقيدة الواسطية، مجموعة الرسائل الكبرى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط ٢:١٣٩٢/١٩٧٢، ١/٤١٨.

(٦) التاريخ الكبير ١ - ٣٧٩ - ٣٨٠ = ١٢٠٩، التاريخ الصغير ٢/٣٦٨، الجرح والتعديل ١ - ١ (٢) ٢٠٩ - ٢١٠= ٧١٤، ابن حبان، الثقات ٨/١١٥ - ١١٦، طبقات الحنابلة ١/١٠٩ = ١٢٢، المنهج الأحمد ١/١٠٨ - ١٠٩ = ٤٣،تاريخ بغداد ٦/٣٤٥ - ٣٣٥ = ٣٣٨١، حلية الأولياء ٩/٢٣٤ - ٢٣٨ ابن خلكان ١/١٩٩ - ٢٠١، الأنساب ٦/٥٦ -٥٧، السبكي، طبقات الشافعية ٢/٨٣ - ٩٣، ميزان الإعتدال ١/١٨٢ - ١٨٣ = ٧٣٣، سير أعلام النبلاء ١١/٣٥٨ -٣٨٢، تذكرة الحفّاظ ٢/٤٣٣ - ٤٣٥، العبر ١/٤٢٦، الوافي بالوفيات ٨/٣٨٦ - ٣٨٨ = ٣٨٢٥، طبقات الحفاظ /١٨٨ - ١٨٩ = ٤١٩، ابن كثير ١٠/٣١٧، تهذيب التهذيب ١/٢١٦ - ٢١٩ = ٤٠٨ ، تهذيب الكمال ٢/٣٧٣ - ٣٨٨ -٣٣٢، طبقات المفسرين ١/١٠٢ - ١٠٣، شذرات الذهب ٢/٨٩.

(٧) هو إسحاق بن راهويه - عارضة الأحوذي: ٣/٣٣٢.

(٨) الجامع الصحيح، الزكاة (ما جاء في فضل الصدقة) ٣/٥٠ - ٥١ أي ٦٦٢.

(٩) الذهبي سير أعلام النبلاء: ١٤/٣٦٥ - ٣٨٢، تذكرة الحفاظ: ٢/٧٢٠ - ٧٣١، العبر: ٢/١٤٩، السمعاني، الأنساب: ٥/١٢٤، ابن الأثير، اللباب: ١/٤٤٢، ابن الجوزي، المنتظم: ٦/١٨٤ - ١٨٦، ابن كثير، البداية والنهاية،١١/١٤٩، السبكي، طبقات الشافعية: ٣/١٠٩ - ١١٩، الصفدي، الوافي بالوفيات: ٢/١٩٦، اليافعي، مرآة الجنان:٢/٢٦٤، ابن عبد الحي، شذرات الذهب: ٢/٢٦٢ - ٢٦٣، السيوطي، طبقات الحفاظ: ٣١٠ - ٣١١، ابن الجزري،طبقات القراء: ٢/٩٧ - ٩٨.

(١٠) التوحيد واثبات صفات الرب، راجعه وعلق عليه محمد خليل هراس، المدرس بكلية أصول الدين (بالأزهر)، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة: ١٣٨٧/١٩٦٨، /٢٣.

(١١) المصدر / ٥٠ -٥٢.

(١٢) المصدر / ٨٢ - ٨٥.

(١٣) المصدر / ٨٥ - ٨٧.

(١٤) المصدر / ١٤٥.

(١٥) سير أعلام النبلاء: ١٣/٣١٩ - ٣٢٦، تذكرة الحفاظ: ٢/٦٢١ - ٦٢٢، العبر: ٢/٦٤، مرآة الجنان:

٦٩

٢/١٩٣، ابن كثير ١١/٦٩، طبقات الشافعية: ٢/٣٠٢ - ٣٠٦، طبقات الحفاظ: ٢٧٤، طبقات الحنابلة: ١/٢٢١، شذرات الذهب: ٢/١٧٦.

(١٦) الرد على بشر المريسي، عقائد السلف، نشر: دكتور علي سامي النشار، عمار جمعي الطالبي، منشأة المعارف الإسكندرية، مصر: ١٩٧١/٣٨٢.

(١٧) المصدر / ٤٣٩.

(١٨) يخاطب به بشر المريسي، الذي يرد عليه الدارمي، وهو بشر بن غياب المريسي، البغدادي، الحنفي (ح ١٣٨/٧٥٥ - ٢١٨ / ٨٣٣) من أعلام الحنيفة، وممن نادى بخلق القرآن ودافع عنه، وعن كثير من آراء المعتزلة.

(١٩) المصدر/ ٤٥٤

(٢٠) المصدر/ ٣٨٧

(٢١) (بما لهما من المعنى، وهو العضو الخاص المحسوس) المصدر / ٣٩٨.

(٢٢) المصدر / ٤٢٠.

(٢٣) المصدر / ٤٢٣ - ٤٢٤، ٤٢٧ - ٤٢٨.

(٢٤) الرحمن ٥٥/٢٧.

(٢٥) المصدر / ٥١٦.

(٢٦) المصدر / ٤٣٢ - ٤٣٣، ٥٠٨.. انتهى.

٧٠

الفصل الثالث

بازار الأحاديث في الرؤية والتشبيه والتجسيم

قالوا إن الله تعالى على صورة بشر!

- صحيح مسلم ج ٨ ص ٣٢

- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص) إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته..

- فردوس الأخبار للديلمي ج ٢ ص ٢٩٩

أبو هريرة: خلق الله عز وجل آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً... فكل من يدخل الجنة على صورة آدم ستون ذراعاً فلم تزل تنقص بعده حتى الآن. انتهى. ونحوه في ج ٥ ص ١٦٥ ونحوه في مصابيحه ج ٣ ص ٢٦٦

- مختصر تاريخ دمشق ج ٣ جزء ٥ ص ١٢٥

عن أبي هريرة، عن النبي (ص) قال: خلق الله آدم على صورته طوله سبعون ذراعاً... الى آخره. وقد تقدم تكذيب الإمام مالك لهذا الحديث وغيره من أحاديث رؤية الله تعالى بالعين، من سير أعلام النبلاء ج ٨ ص ١٠٣

٧١

- وروى ابن حجر في لسان الميزان ج ٣ ص ٢٩٩ صيغة معقولة لهذا الحديث قال:... العلاء بن مسلمة، حدثنا عبد الله بن سيف، ثنا إسماعيل بن رافع، عن المقبري، عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه مرفوعاً: لا يضربن أحدكم وجه خادمه ولا يقول لعن الله من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة وجهه. انتهى. فهل يقبلها اخواننا ويخلصون أنفسهم من ورطة التجسيم.

- لجنة الإفتاء الوهابية ج ٤ ص ٣٦٨ فتوى رقم ٢٣٣١

س ١: عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خلق الله آدم على صورته ستون ذراعاً، فهل هذا الحديث صحيح؟

ج: نص الحديث: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ثم قال: إذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع فما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق تنقص بعده إلى الآن. رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم. وهو حديث صحيح ولا غرابة في متنه فإن له معنيان:

الأول: أن الله لم يخلف آدم صغيراً قصيراً كالأطفال من ذريته ثم نما وطال حتى بلغ ستين ذراعاً، بل جعله يوم خلقه طويلاً على صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعاً.

والثاني: أن الضمير في قوله (على صورته) يعود على الله بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: على صورة الرحمن وهو ظاهر السياق ولا يلزم على ذلك التشبيه، فإن الله سمى نفسه بأسماء سمى بها خلقه، ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقه، ولم يلزم من ذلك التشبيه وكذا الصورة، ولا يلزم من إتيانها لله تشبيهه بخلقه لأن الاشتراك في الإسم وفي المعنى الكلي لا يلزم منه التشبيه فيما يخص كلا منهما، لقوله تعالى:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

٧٢

وقالوا له سمع وبصر كسمع الإنسان وبصره

- سنن أبي داود ج ٢ ص ٤١٩

... مولى أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية:إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها .. إلى قوله تعالى سميعاً بصيراً، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع إصبعيه، قال ابن يونس قال المقرىء: يعني أن الله سميع بصير، يعني أن لله سمعاً وبصراً، قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية. انتهى. ورواه في ج ٢ ص ٢٣٣، وكأن قصد أبي داود أن الجهمية أفرطوا في التنزيه، فيجب أن نرد عليهم بالتجسيم!

وقالوا له عينان مثل الإنسان وهما سالمتان

- صحيح البخاري ج ٢ جزء ٤ ص ١٤١

قال عبد الله (يعني ابن عمر) ذكر النبي (ص) يوماً بين ظهري الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور، إلا أن المسيح الدجال أعور العين. انتهى. وقد فسرها الوهابيون وأسلافهم، بأن الله تعالى له عينان سالمتان! ورواه البغوي في مصابيحه ج ٣ ص ٤٩٧، ٥٠٧ عن ابن عمر أنه قال: قام رسول الله (ص) ثم ذكر الدجال: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور. عن عباده ابن الصامت عن رسول الله (ص): إن المسيح الدجال رجلٌ قصير أفجح جعد أعور، وإن ربكم ليس بأعور.

وقالوا له أيدي وأعين ورجلان

- قال ابن حزم في المحلى ج ١ ص ٣٣

مسألة: وإن لله عز وجل عزاً وعزة وجلالاً وإكراماً، ويداً ويدين وأيدياً (كذا) ووجهاً وعيناً وأعيناً، وكبرياء، وكل ذلك حق لا يرجع منه ولا من علمه تعالى وقدره وقوته إلا إلى الله تعالى لا إلى شيء غير الله عز وجل أصلاً، نقر من ذلك مما في القرآن

٧٣

وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحل أن يزاد في ذلك ما لم يأت به نص من قرآن أو سنة صحيحة.

قال عز وجل:ذو الجلال والإكرام وقال تعالى:يد الله فوق أيديهم ، لما خلقت بيدي، ومما عملت أيدينا أنعاماً، إنما نطعمكم لوجه الله، ولتصنع على عيني، إنك بأعيننا. ولا يحل أن يقال عينين لأنه لم يأت بذلك نص، ولا أن يقال سمع وبصر ولا حياة، لأنه لم يأت بذلك نص لكنه تعالى سميع بصير حي قيوم. انتهى.

ولعل ابن حزم لم يطلع على نص العينين وحديث السمع والبصر وغيرها، وإلا لقال بها!

وقالوا قد يكون له أُذن وقد يكون بلا أُذن

- فتاوى الألباني ص ٣٤٤

- سؤال السائل: صفة الأذن لله، موقف أهل السنة والجماعة منها؟

جواب: لا يثبتون ولا ينفون بالرأي، أما ما أثبته النص فهم يثبتونه بدون تكييف السلفيون مستريحون من هذه الكيفية يعني استراحوا من التشبيه عملاً بالتنزيه... وأن العين: صفة من صفاته تليق بعظمته وجلاله.

وقالوا له جنب وحقو

- تفسير الطبري ج ٢٦ ص ٣٦

- عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال خلق الله الخلق فلما فرغ منهم تعلقت الرحم بحقو الرحمن فقال مه! فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة... ورواه البغوي في مصابيحه ج ٣ ص ٣٥٠

- وقال الشاطبي في الإعتصام ج ٢ ص ٣٠٣

قول من زعم: أن لله سبحانه وتعالى جنباً مستدلاً بقوله: أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت من جنب الله.

٧٤

وقالوا إنّه يمشي وقد يركض ويهرول

- فتاوى الألباني ص ٥٠٦

سؤال: حول الهرولة، وهل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى؟

جواب: الهرولة كالمجيء والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها.

- فتاوى ابن باز ج ٥ ص ٣٧٤

... ومن ذلك الحديث القدسي وهو قول الله سبحانه: من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة... أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة... انتهى.

وقالوا إنّه تعالى يرى بالعين في الدنيا

- الفرق بين الفرق للنوبختي ص ٢٩٤

وأجمع أهل السنة على أن الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة، وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ولكل حي من طريق العقل ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة، من طريق الخبر..

- مسند أحمد ج ٤ ص ٦٦

... عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات غداة وهو طيب النفس مسفر الوجه أو مشرق الوجه فقلنا: يا رسول الله إنا نراك طيب النفس مسفر الوجه أو مشرق الوجه، فقال: وما يمنعي وأتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة، قال يا محمد، قلت لبيك ربي وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري أي رب! قال ذلك مرتين أو ثلاثاً، قال فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي حتى تجلى لي ما في السموات وما في الأرض، ثم تلا هذه

٧٥

الآية:وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . انتهى. ورواه في ج ٥ ص ٣٧٨، وستأتي بقية رواياته في تفسير قوله تعالى(ما كذب الفؤاد ما رأى) .

وقالوا إنه يلبس قباء وجبة ويركب على جمل

- لسان الميزان ج ٢ ص ٢٣٨

ومما في الصفات له (حدثنا) أبو حفص بن سلمون ثنا عمرو بن عثمان ثنا أحمد بن محمد بن يوسف الإصبهاني ثنا شعيب بن بيان الصفار ثنا عمران القطان عن قتادة عن أنسرضي‌الله‌عنه مرفوعاً: إذا كان يوم الجمعة ينزل الله بين الأذان والإقامة عليه رداء مكتوب عليه إنني أنا الله لا إله إلا أنا، يقف في قبلة كل مؤمن مقبلاً عليه، فإذا سلم الإمام صعد إلى السماء. وروى عن ابن سلمون بإسناد له: رأيت ربي بعرفات على جمل أحمر عليه إزار! انتهى. ورواه في ميزان الإعتدال ج ١ ص ٥١٢

وقالوا إنّه فتى أمرد جعد الشعر

- ميزان الإعتدال ج ١ ص ٥٩٣

... عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: فلما تجلى ربه للجبل، قال: أخرج طرف خنصره وضرب على إبهامه فساخ الجبل، فقال حميد الطويل لثابت: تحدث بمثل هذا! قال فضرب في صدر حميد وقال: يقوله أنس ويقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكتمه أنا! رواه جماعة عن حماد وصححه الترمذي. إبراهيم بن أبي سويد وأسود بن عامر، حدثنا حماد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً: رأيت ربي جعداً أمرد، عليه حلة خضراء.

وقال ابن عدي: حدثنا عبد الله بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا النضر بن سلمة شاذان، حدثنا الأسود بن عامر، عن حماد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد دونه ستر من لؤلؤ قدميه أو رجليه في خضرة.

٧٦

... قال المرودي: قلت لأحمد: يقولون لم يسمع قتادة عن عكرمة فغضب وأخرج كتابه بسماع قتادة عن عكرمة في ستة أحاديث. ورواه الحكم بن أبان عن زيرك عن عكرمة. وهو غريب جداً.

وقالوا إنّه يضحك في الدنيا والآخرة

- صحيح البخاري ج ٢ جزء ٣ ص ٢١٠

عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد.

- صحيح البخاري ج ٤ ص ٢٢٦

... فباتا طاويين، فلما أصبح غد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل الله:وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

- سنن النسائي ج ٦ ص ٣٨

... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه، وقال مرة أخرى: ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يدخلان الجنة. تفسير ذلك أخبرنا محمد بن سلمة... عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد. انتهى. ورواه ابن ماجة في ج ١ ص ٦٨

- وروى أحمد في مسنده ج ١ ص ٣٩٢

عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط فينكب مرة ويمشي مرة وتسفعه النار مرة، فإذا جاوز

٧٧

الصراط التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين، قال فترفع له شجرة فينظر إليها فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة فأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول: أي عبدي فلعلي إن أدنيتك منها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهد الله أن لا يسأله غيرها والرب عز وجل يعلم أنه سيسأله لأنه يرى ما لا صبر له يعني عليه، فيدنيه منها ثم ترفع له شجرة وهي أحسن منها فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة فأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول: أي عبدي ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب هذه لا أسألك غيرها ويعاهده والرب يعلم أنه سيسأله غيرها فيدنيه منها، فترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن منها فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول: أي عبدي ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب هذه الشجرة لا أسألك غيرها ويعاهده والرب يعلم أنه سيسأله غيرها لأنه يرى ما لا صبر له عليها فيدنيه منها فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول: يا رب الجنة الجنة، فيقول: عبدي ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب أدخلني الجنة.

قال فيقول عز وجل: ما يصريني منك أي عبدي أيرضيك أن أعطيك من الجنة الدنيا ومثلها معها؟

قال فيقول: أتهزؤ بي وأنت رب العزة!

قال فضحك عبد الله حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا تسألوني لم ضحكت؟

قالوا له لم ضحكت؟

قال: لضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسألوني لم ضحكت؟

قالوا: لم ضحكت يا رسول الله؟

قال: لضحك الرب حين قال أتهزأ بي وأنت رب العزة!! انتهى. ورواه في ج ١ ص٤١١ وج ٢ ص ٣١٨ وص ٤٦٤ وص ٥١١ وروى نحوه في ج ٢ ص ٢٧٦ وص ٢٩٤

٧٨

وص٥٣٤ وج ٣ ص ٨٠ وابن ماجة في سننه ج ١ ص ٦٤ والديلمي في فردوس الأخبار ج ٣ ص ٩ ح ٣٧٠٣ والبغوي في مصابيحه ج ١ ص ٤٣٣ وص ٥٤٤ وج ٣ ص ٥٤٦ والبيهقي في شعب الإيمان ج ١ ص ٢٤٩ وفي دلائل النبوة ج ٦ ص ١٤٣ والهيثمي في مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٦١٥ والشوكاني في نيل الأوطار ج ٣ ص ٥٧ وغيرهم.. وغيرهم..

وسيأتي عدد آخر من روايات ضحك الله المزعوم على هذا الرجل في روايات رؤيته بالعين في الآخرة.

- وقال ابن تيمية في الإيمان ص ٤٢٤

وفي الصحيحين في حديث الشفاعة يقول كل من الرسل إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله... وكذلك ضحكه إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة وضحكه إلى الذي يدخل الجنة آخر الناس ويقول: أتسخر بي وأنت رب العالمين! وكل هذا في الصحيح.

وقالوا إنه يضحك لمن يستلقي على دابّته

- وروى أحمد في ج ١ ص ٣٣٠ رواية غريبة نسب فيها تصرفاً غير معقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسب فيها إلى الله تعالى أنه يضحك لمن يذكره على دابته ثم يستلقي! قال الإمام أحمد:

عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وحمد الله ثلاثاً، وسبح الله ثلاثاً، وهلل الله واحدة ثم استلقى عليه فضحك، ثم أقبل عليَّ فقال: ما من إمريء يركب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله تبارك وتعالى فضحك إليه كما ضحكت إليك!

وقالوا مادام الله يضحك فأملنا فيه كبير

- روى أحمد في مسنده ج ٤ ص ١١ وص ١٢ وص ١٣ رواية تعطي الناس الأمل بالله

٧٩

تعالى لأنه يضحك! قال:... عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، قال قلت: يا رسول الله أو يضحك الرب عز وجل! قال نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً!

- وروى الديلمي في فردوس الأخبار ج ٣ ص ١٠

أبوذر الغفاري: ضحك الله ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غيره ولن نعدم من رب يضحك خيراً. وستأتي روايته عن النويري وغيره.

وقالوا إنّه يضحك.. ويظل يضحك

- قال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد ج ٣ ص ٥٦٦ - ٥٦٧

- قوله (ص): فيضل يضحك، هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته.. وكذلك: فأصبح ربك يطوف في الأرض، هو من صفات فعله كقوله تعالى:وجاء ربّك والملك ، وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، ويدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة. والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل.

- وقال النويري في نهاية الإرب ج ٧ جزء ١٤ ص ٢٩٢

عن لقيط بن عامر العقيلي قال... أتينا رسول الله (ص) حين انصرف من صلاة الغداة فقام خطيباً فقال أيها الناس... يشرف عليكم أزلين فيظل يضحك، قد علم أن غوثكم قريب. قال لقيط له: لن نعدم من رب يضحك خيراً.. انتهى. وروى نحوه المنذري في الترغيب والترهيب ج ١ ص ٤٣٤ وص ٤٣٦ وج ٤ ص ٥٠٣

وقالوا إنّه ضحك لطلحة وسعد

- أُسد الغابة ج ٣ ص ٨٣

روي أنه (طلحة بن البراء) توفي ليلاً فقال أدفنوني.. ولا تدعوا رسول الله (ص)

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الاولى : «الملائكة المقرّبون»( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .(١)

والثانية : الأشخاص الذين بلغوا بإيمانهم أكمل الإيمان ويسمّيهم القرآن «المخلصين» فيقول عنهم :( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) (٢) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فقد كان هذا مآل ذلك الرجل المؤمن المجاهد الصادق الذي أدّى رسالته ولم يقصّر في حماية الرسل الإلهيين ، وارتشف في النهاية كأس الشهادة ، وقفل راجعا إلى جوار رحمة ربّه الكريم.

ولكن لننظر ما هو مصير هؤلاء القوم الطغاة الظلمة؟.

مع أنّ القرآن الكريم لم يورد شيئا في ما انتهى إليه عمل هؤلاء الثلاثة من الرسل الذين بعثوا إلى هؤلاء القوم ، لكن جمعا من المفسّرين ذكروا أنّ هؤلاء قتلوا الرسل أيضا إضافة إلى قتلهم ذلك الرجل المؤمن ، وفي حال أنّ البعض الآخر يصرّح بأنّ هذا الرجل الصالح شاغل هؤلاء القوم بحديثه وبشهادته لكي يتسنّى لهؤلاء الرسل التخلّص ممّا حيك ضدّهم من المؤامرات ، والانتقال إلى مكان أكثر أمنا ، ولكن نزول العذاب الإلهي الأليم على هؤلاء القوم قرينة على ترجيح القول الأوّل ، وإن كان التعبير «من بعده» (أي بعد شهادة ذلك المؤمن) يدلّل ـ في خصوص نزول العذاب الإلهي ـ على أنّ القول الثاني أصحّ «تأمّل بدقّة!!».

رأينا كيف أصرّ أهالي مدينة أنطاكية على مخالفة الإلهيين ، والآن لننظر ما ذا كانت نتيجة عملهم؟

القرآن الكريم يقول في هذا الخصوص :( وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ) .

__________________

(١) الأنبياء ، ٢٧.

(٢) المعارج ، ٣٥.

(٣) الميزان ، المجلّد ١٧ ، صفحة ٨٢.

١٦١
١٦٢

بداية الجزء الثالث والعشرون

من

القرآن الكريم

١٦٣
١٦٤

فلسنا بحاجة إلى تلك الأمور ، وأساسا فانّه ليس من سنّتنا لإهلاك قوم ظالمين أن نستخدم جنود السماء ، لأنّ إشارة واحدة كانت كافية للقضاء عليهم جميعا وإرسالهم إلى ديار العدم والفناء ، إشارة واحدة كانت كافية لتبديل عوامل حياتهم ومعيشتهم إلى عوامل موت وفناء ، وفي لحظة خاطفة تقلب حياتهم عاليها سافلها.

ثمّ يضيف تعالى( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) .

هل أنّ تلك الصيحة كانت صدى صاعقة نزلت من الغيوم على الأرض وهزّت كلّ شيء ، ودمّرت كلّ العمران الموجود ، وجعلت القوم من شدّة الخوف والوحشة يستسلمون للموت؟

أو أنّها كانت صيحة ناتجة عن زلزلة خرجت من قلب الأرض فضجّت في الفضاء بحيث أنّ موج انفجارها أهلك الجميع.

أيّا كانت فإنّها لم تكن سوى صيحة لم تتجاوز اللحظة الخاطفة في وقوعها ، صيحة أسكتت جميع الصيحات ، هزّة أوقفت كلّ شيء عن التحرّك ، وهكذا هي قدرة الله سبحانه وتعالى ، وهكذا هو مصير قوم ضالّين لا نفع فيهم.

الآية الأخيرة تتعرّض إلى طريقة جميع متمرّدي التاريخ إزاء الدعوات الإلهية لأنبياء الله بلهجة جميلة تأسر القلوب فتقول :( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

وا أسفاه عليهم أن أغلقوا نافذة الرحمة الإلهية عليهم! وا أسفاه عليهم أن كسّروا مصباح هدايتهم!! ، هؤلاء الضالّون المحرومون من السعادة لم يكتفوا بعدم الاستماع بآذان قلوبهم لنداء قادة البشرية العظام فقط ، بل إنّهم أصرّوا على السخرية والاستهزاء منهم ثمّ بادروا إلى قتلهم. مع أنّهم علموا المصير المشؤوم للطغاة الكفّار من قبلهم ، وسمعوا أو قرءوا على صفحات التأريخ كيف كانت خاتمتهم الأليمة ، ولكنّهم لم يعتبروا بالمواعظ وسلكوا نفس المسير ، وصاروا إلى

١٦٥

نفس المصير.

ومن الواضح أنّ هذه الجملة هي قول الله تعالى ، لأنّ جميع هذه الآيات توضيح منه تعالى ، غير أنّ من الطبيعي أن الحسرة هنا ـ بمعناها المتعارف وهو الغمّ على ما فات ـ لا تنطبق على الله سبحانه وتعالى ، كما أنّ (الغضب) وأمثاله أيضا لا يصدر بمفهومه المتعارف من الله سبحانه ، بل المقصود أنّ حال تلك الفئة التعيسة سيء إلى حدّ أنّ كلّ إنسان يطّلع عليه يتأسّف ويتحسّر متسائلا : لماذا غرقوا في تلك الدوامة مع توفّر كلّ وسائل النجاة؟

التعبير بـ «عباد» إشارة إلى أنّ العجب أن يكون هؤلاء العباد غارقين بنعم الله سبحانه وتعالى ثمّ يرتكبون مثل تلك الجنايات.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة رسل أنطاكية

(أنطاكية) واحدة من أقدم مدن الشام التي بنيت ـ على قول البعض ـ بحدود ثلاثمائة سنة قبل الميلاد. وكانت تعدّ من أكبر ثلاث مدن رومية في ذلك الزمان من حيث الثروة والعلم والتجارة.

تبعد (أنطاكية) مائة كيلومتر عن مدينة حلب ، وستّين كيلومترا عن الإسكندرية.

فتحت من قبل (أبي عبيدة الجراح) في زمن الخليفة الثاني ، وقبل أهلها دفع الجزية والبقاء على ديانتهم.

احتلّها الفرنسيون بعد الحرب العالمية الاولى ، وحينما أراد الفرنسيون ترك الشام ألحقوها بالأراضي التركية خوفا على أهالي أنطاكية من أن يمسّهم سوء بعد خروجهم لأنّهم نصارى مثلهم.

١٦٦

(أنطاكية) تعتبر بالنسبة إلى النصارى كالمدينة المنورة للمسلمين ، المدينة الثانية في الأهمية بعد بيت المقدس ، التي ابتدأ المسيحعليه‌السلام منها دعوته ، ثمّ هاجر بعض من آمن بالمسيحعليه‌السلام ـ بولس وبرنابا ـ(١) إلى أنطاكية ودعوا الناس هناك إلى المسيحية ، وبذا انتشرت المسيحية هناك ، وبهذا اللحاظ أشار القرآن الكريم إلى هذه المدينة لأهميّتها(٢) .

«الطبرسي» ـ أعلى الله مقامه ـ في تفسير مجمع البيان يقول : قالوا بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى مدينة أنطاكية ، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو (حبيب) صاحب (يس) فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما : من أنتما؟

قالا : رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن.

فقال : أمعكما آية؟

قالا : نعم ، نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.

فقال الشيخ : إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين.

قالا : فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله ، فذهب بهما فمسحا ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا ، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى.

وكان لهم ملك يعبد الأصنام فانتهى الخبر إليه ، فدعاهما فقال لهما : من أنتما؟

قالا : رسولا عيسى ، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر.

فقال الملك : ولنا إله سوى آلهتنا؟

__________________

(١) «بولس» من المبلّغين المسيحيين المعروفين الذي سعى كثيرا في نشر الديانة المسيحية. «برنابا» ـ بفتح الباء ـ اسمه الأصلي «يوسف» كان من أصدقاء بولس ومرقس ، له إنجيل معروف ذكر فيه كثيرا البشارة بظهور نبي الإسلام ، ولكن المسيحيين لا يعتقدون بصحّته ويقولون انّ هذا الإنجيل قد كتبه أحد المسلمين.

(٢) تفسير «أبو الفتوح الرازي» وهامش العالم المرحوم «الشعراني».

١٦٧

قالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك.

قال : قوما حتّى أنظر في أمركما ، فأخذهما الناس في السوق وضربوهما.

وروي أنّ عيسىعليه‌السلام بعث هذين الرّسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها ، وطالت مدّة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبّروا وذكرا الله فغضب الملك وأمر بحبسهما ، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة ، فلمّا كذب الرسولان وضربا ، بعث عيسى (شمعون الصفا) رأس الحواريين على أثرهما لينصرهما ، فدخل شمعون البلدة متنكّرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتّى أنسوا به فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه ورضي عشرته وأنس به وأكرمه ، ثمّ قال له ذات يوم : أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك فهل سمعت قولهما. قال الملك حال الغضب بيني وبين ذلك. قال : فإن رأى الملك دعاهما حتّى نتطلّع ما عندهما فدعاهما الملك.

فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا.

قالا : الله الذي خلق كلّ شيء لا شريك له.

قال : وما آيتكما.

قالا : ما تتمنّاه.

فأمر الملك أن يأتوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان حتّى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حديقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما ، فتعجب الملك.

فقال شمعون للملك : أرأيت لو سألت إلهك حتّى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك ولإلهك شرفا؟

فقال الملك : ليس لي عنك سرّ ، إنّ إلهنا الذي نعبده لا يضرّ ولا ينفع.

ثمّ قال الملك للرسولين : إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به وبكما.

قالا : إلهنا قادر على كلّ شيء.

١٦٨

فقال الملك : إنّ هاهنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام لم ندفنه حتّى يرجع أبوه ـ وكان غائبا ـ فجاءوا بالميّت وقد تغيّر وأروح ، فجعلا يدعوان ربّهما علانية ، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّا ، فقام الميّت وقال لهم : إنّي قدمتّ منذ سبعة أيّام ، وأدخلت في سبعة أودية من النار وأنا احذّركم ممّا أنتم فيه ، فآمنوا بالله فتعجّب الملك.

فلمّا علم شمعون أنّ قوله أثّر في الملك ، دعاه إلى الله فآمن وآمن من أهل مملكته قوم وكفر آخرون.

ونقل «العياشي» في تفسيره مثل هذه الرواية عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام مع بعض التفاوت(١) .

ولكن بمطالعة الآيات السابقة ، يبدو من المستبعد أنّ أهل تلك المدينة كانوا قد آمنوا ، لأنّ القرآن الكريم يقول :( إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ) . ويمكن أن يكون هناك اشتباه في الرواية من جهة الراوي.

ومن الجدير بالملاحظة أيضا أنّ التعبير بـ «المرسلون» في الآيات أعلاه يدلّل على أنّهما أنبياء مرسلون من الله تعالى ، علاوة على أنّ القرآن الكريم يقول : بأنّ أهالي تلك المدينة( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ) ، ومثل هذه التعبيرات ترد في القرآن الكريم عادة فيما يخصّ الأنبياء ، وإن كان قد قيل بأنّ رسل الأنبياء هم رسل الله ، ولكن هذا التوجيه يبدو بعيدا.

٢ ـ ما نتعلّمه من هذه القصّة

نتعلّم من القصّة التي عرضتها الآيات السابقة أمورا عديدة منها :

الف ـ أنّ المؤمنين لا يستوحشون أبدا من سلوك طريق الله سبحانه وتعالى منفردين كما هو حال المؤمن «حبيب النجّار» الذي لم ترهبه كثرة المشركين في مدينته.

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلّد ٤ (الجزء ٨) ـ صفحة ٤١٩.

١٦٩

يقول أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام : «لا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة أهله»(١) .

ب ـ المؤمن عاشق لهداية الناس ، ويتألّم لضلالهم ، وحتّى بعد شهادته يتمنّى أن يرى الآخرون مقامه ليكون سببا في إيمانهم!

ج ـ محتوى دعوة الأنبياء بحدّ ذاتها دليل على هدايتهم وحقّانيتهم( وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

د ـ الدعوة إلى الله يجب أن تكون خالية من أي ترقّب للأجر لكي تكون مؤثّرة.

ه ـ تارة يكون الضلال مكشوفا وواضحا ، أي أنّه ضلال مبين ، وعبادة الأوثان تعدّ مصداقا واضحا لـ «الضلال المبين».

و ـ أهل الحقّ يستندون إلى الواقعيات ، والضالّون يستندون إلى أوهام وظنون.

ز ـ إذا كان هناك شؤم ونكبات فإنّ سببها نفس الإنسان وأعماله.

ح ـ الإسراف سبب لكثير من الانحرافات والنكبات.

ط ـ وظيفة الأنبياء وأتباعهم «البلاغ المبين» والدعوة العلنية ، سواء استجاب الناس أو لم يستجيبوا.

ي ـ التجمّع والكثرة من العوامل المهمّة للنصرة والعزّة والقوّة( فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ) .

ك ـ إنّ الله لا يحتاج لتدمير أئمّة التمرّد والعصيان إلى تجنيد طاقات الأرض والسماء ، بل تكفي الإشارة.

ل ـ لا فاصلة بين الشهادة والجنّة ، والشهيد قبل أن يغادر الدنيا يقع في أحضان الحصور العين(٢) .

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠١ ، صفحة ٣١٩.

(٢) ذكرنا رواية شريفة مفصّلة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال عند تفسير سورة (آل عمران) ذيل الآية ١٦٩.

١٧٠

م ـ إنّ الله يطهّر الإنسان من الذنوب أوّلا ثمّ يقربه إلى جوار رحمته( بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ) .

ن ـ يجب على مريد الحقّ أن لا يستوحش من مخالفة الأعداء ، لأنّ ذلك ديدنهم على مدى الدهور( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

وأي حسرة أكبر وأشدّ من أن يغلق الإنسان ـ لمجرّد تعصّبه وغروره ـ عينيه ، فلا يبصر الشمس المضيئة الساطعة.

س ـ كان المستضعفون يؤمنون بالأنبياء قبل جميع الناس( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ).

ع ـ وهم الذين لم يتعبوا ولم يكلّوا من طريق الحقّ ، ولم يكن لسعيهم واجتهادهم حدّ.( يَسْعى ) .

ف ـ يجب تعلّم طريقة التبليغ والدعوة إلى الله من الرسل الإلهيين الذين استفادوا من جميع الأساليب والطرائق المؤثّرة لأجل النفوذ في قلوب الغافلين ، وفي الآية أعلاه والروايات التي أدرجناها نموذج على ذلك.

٣ ـ ثواب وعقاب البرزخ

ورد في الآيات الماضية أنّ (المؤمن حبيب النجّار) بعد شهادته دخل الجنّة وتمنّى أن لو يعلم قومه بمصيره. ومن المسلّم أنّ هذه الآيات ـ كما هو الحال في الآيات الاخرى التي تتحدّث عن الشهداء ـ ليست مربوطة بالجنّة المقصودة بعد يوم القيامة والتي تكون بعد البعث والحساب في المحشر.

من هنا يتّضح أنّ وراءنا جنّة وجحيما في البرزخ أيضا ، يتنعّم فيها الشهداء ويحترق فيها الطغاة من أمثال «آل فرعون» ومع الالتفات إلى هذا المعنى ، تنحلّ

١٧١

كثير من الإشكالات فيما يخصّ الجنّة والنار ، من أمثال ما ورد في روايات الإسراء والمعراج وأمثالها.

٤ ـ قادة الأمم

نقل في تفسير الثعلبي عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون ، فهم الصدّيقون وعلي أفضلهم»(١) .

كما ورد هذا المعنى تقريبا في رواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوردها صاحب تفسير «الدرّ المنثور» عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الصدّيقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل ياسين الذي قال : يا قوم اتّبعوا المرسلين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله ، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم»(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٤ ، ص ٤٢١ القرطبي ـ الميزان ، نور الثقلين.

(٢) تفسير الدرّ المنثور ، على ما نقله الميزان ، المجلّد ١٧ ، صفحة ٨٦.

١٧٢

الآيتان

( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) )

التّفسير

الغفلة الدائمة :

تتحدّث هاتان الآيتان ـ استنادا إلى ما مرّ في الآيات السابقة ـ عن الغفلة المستمرّة لمجموعة كبيرة من البشر في هذا العالم على مرّ العصور والقرون ، فتقول الآية :( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (١) .

فهؤلاء الكفّار ليسوا بدعا من الأمر ، فقد كان قبلهم أقوام آخرون تمرّدوا على الحقّ مثلهم عاشوا في هذه الدنيا ، ومصائرهم الأليمة التي ملأت صفحات التأريخ ، والآثار المعبّرة التي بقيت في مدنهم المدمّرة ، كلّها شاخصة أمام العيان ، فهل يكفي ذلك المقدار لتحقّق العبرة والإعتبار؟

ولكن على من يعود ضمير الجمع في( أَلَمْ يَرَوْا ) ؟

__________________

(١) الاستفهام في الآية أعلاه استفهام تقريري و «كم» خبرية ، وهي هنا بمعنى الكثرة في محلّ مفعول به للفعل (يروا) و (من القرون) توضيح لذلك. و «قرون» كما ذكرنا سابقا تأتي بمعنى العصور وهي جمع (قرن) مائة سنة أو بمعنى (الجيل) الذي يعيش في زمان معيّن.

١٧٣

احتمل المفسّرون عدّة وجوه :

الأوّل : أنّه يعود على «أصحاب القرية» الذين تحدّثت الآيات السابقة حولهم.

والثاني : أنّه يعود على «أهل مكّة» الذين نزلت هذه الآيات لتنبيههم.

ولكن يستدلّ من الآية السابقة( يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ) على أنّ المقصود هو جميع البشر ، إذ أنّ كلمة «العباد» في الآية المذكورة تشمل جميع البشر على طول التاريخ ، الذين ما إن جاءهم الأنبياء حتّى هبّوا لمخالفتهم وتكذيبهم والاستهزاء بهم ، وعلى كلّ حال فهي دعوة لجميع البشر بأن يتأمّلوا في تأريخ القدماء ، ويعتبروا من آثارهم التي خلّفوها ، بفتح قلوبهم وبصائرهم.

في آخر الآية يضيف تعالى :( أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ) (١) .

أي أنّ المصيبة الكبرى في استحالة رجوعهم إلى هذه الدنيا لجبران ما فاتهم وتبديل ذنوبهم حسنات ، لأنّهم دمّروا كلّ الجسور خلفهم ، فلم يبق لهم سبيل للرجوع أبدا.

هذا التّفسير يشبه بالضبط ما

قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه أفضل الصلاة والسلام) حينما تحدّث في أخذ العبرة من الموتى فقال : «لا عن قبيح يستطيعون انتقالا ولا في حسن يستطيعون ازديادا».(٢)

وتضيف الآية التالية( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) (٣) .

أي أنّ المسألة لا تنتهي بهلاكهم وعدم استطاعتهم العودة إلى هذه الدنيا ، كلّا فانّ الموت في الحقيقة بداية الشوط وليس نهايته ، فعاجلا سيحضر الجميع في

__________________

(١) هذه الجملة بدل عن «كم أهلكنا» والتقدير «ألم يروا أنّهم إليهم لا يرجعون» البعض احتمل أيضا أنّ الجملة حالية (حال الهالكين).

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ١٨٨.

(٣) المعروف بين المفسّرين حول تركيب هذه الآية : «إنّ» نافية. والبعض قال : إنّها مخفّفة لذا فإنّها لا تنصب ما بعدها ، و «لمّا» بمعنى «إلّا» ، بلحاظ أنّ ذلك ورد في كلام العرب ، و (جميع) بمعنى «مجموع» خبر «كلّ» (تنوين كل) بدل عن مضاف إليه محذوف تقديره «هم» والأصل «كلّهم») و «محضرون» إمّا خبر بعد خبر ، أو صفة لـ «جميع» وعلى ذلك تكون الجملة في التقدير هكذا «وما كلّهم إلّا مجموعون يوم القيامة محضرون لدينا».

١٧٤

عرصة المحشر للحساب ، ثمّ العقاب الإلهي المتلاحق والمستمر في انتظارهم.

إذا كانت الحال كذلك أفلا ينبغي عليهم الإعتبار من مصير هؤلاء السابقين لهم ، والاستفادة من الفرصة قبل الفوت للابتعاد عن مواجهة ذلك المصير المشؤوم.

نعم ، فلو كان الموت خاتمة لكلّ شيء ، لكان ممكنا أن يقولوا بأنّه بداية راحتهم ، ولكن يا حسرة!! وكما يقول الشاعر :

ولو أنّا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كلّ حيّ

ولكنّا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعده عن كلّ شيء

* * *

١٧٥

الآيات

( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) )

التّفسير

آيات اخرى!!

ممّا مرّ بحثه في الآيات السابقة حول جهاد الرسل ضدّ الشرك وعبادة الأوثان ، وكذلك التعرّض إلى مسألة المعاد في الآية الأخيرة من المقطع السابق ، توضّح الآيات ـ مورد البحث ـ مسألتي التوحيد والمعاد معا لإيقاظ المنكرين لهاتين المسألتين ودفعهم إلى الإيمان.

تتعرّض الآية الاولى إلى قضيّة إحياء الأرض الميتة والبركات التي تعود على الإنسان من ذلك فتقول :( وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ

١٧٦

يَأْكُلُونَ ) (١) .

قضيّة الحياة والبقاء من أهمّ دلائل التوحيد ، وهي قضيّة في واقعها معقّدة ومليئة بالألغاز وباعثة على الدهشة ، إذ أنّها حيّرت عقول العلماء جميعا ، فبرغم التطور والتقدّم الحاصل في وسائل الدراسة وفي العلوم بشكل عام ، لا زال الكثير من الأسرار تنتظر الحلّ! وحتّى الآن لم يعلم تحت تأثير أي العوامل تتحوّل موجودات ميتة إلى خلايا حيّة؟

حتّى الآن ، لم يعرف كيف تتكوّن طبقات خلايا البذور؟ وما هي القوانين المعقّدة التي تحكمها؟ بحيث أنّها بمجرد توفّر الشرائط المساعدة تبدأ بالتحرّك والنمو والرشد. وتستلّ من ذرّات التراب الميتة وجودها ، وبهذا الطريق تتحوّل الموجودات الميتة إلى أنسجة موجودات حيّة فتعكس في كلّ يوم مظهرا مختلفا من مظاهر حياتها ونموّها.

قضيّة الحياة في عالم النباتات والحيوانات وإحياء الأرض الميتة تعتبر من جانب دليلا على وجود معلومات وقوانين دقيقة سخّرت في خلق ذلك العالم ، ومن جانب آخر تعتبر دليلا على البعث بعد الموت.

ومن الواضح أنّ الضمير في «لهم» يعود على كلمة «العباد» التي ورد ذكرها في الآيات السابقة ، والمقصود من «العباد» هنا هم جميع الذين وقعوا في خطأ في تقدير مسألة المبدأ والمعاد ، والذي عدّ القرآن الكريم وضعهم باعثا على الحسرة والأسف.

تنكير «آية» ، إشارة إلى عظمة وأهميّة ووضوح تلك الآية التوحيدية.

جملة( فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ) إشارة من جانب إلى أنّ الإنسان يستفيد من بعض بذور النباتات للتغذية ، بينما بعضها غير قابل للأكل ، ولكن له فوائد اخرى كتغذية

__________________

(١) وردت احتمالات عديدة في إعراب الآية ، ولكن أوضحها على ما يبدو ، هو كون «آية لهم» خبر مقدّم و «الأرض الميتة» مبتدأ مؤخّر ، و «أحيينا» جملة استئنافية وهي توضيح وتفسير للجملة السابقة.

١٧٧

الحيوانات ، وصناعة الأصباغ ، والأدوية ، والأمور الاخرى التي لها أهميّة في حياة الإنسان.

ومن جانب آخر فإنّ تقديم «منه» على «يأكلون» والذي يدلّ عادة على الحصر ، هو لبيان أنّ أكثر وأفضل تغذية للإنسان هي من المواد النباتية إلى درجة أنّه يمكن القول أنّ جميع غذاء الإنسان يتشكّل منها.

الآية التالية توضيح وشرح للآية الاولى من هذه الآيات ، فهي توضّح كيفية إحياء الأرض الميتة ، فتقول :( وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ ) .

كان الحديث في الآية الاولى عن الحبوب الغذائية ، بينما الحديث هنا عن الفواكه المقوّية والمغذّية والتي يعدّ «التمر» و «العنب» أبرز وأهمّ نماذجها حيث يعتبر كلّ منهما غذاء كاملا.

وكما أشرنا سابقا فقد دلّت دراسات العلماء وبحوثهم على أنّ هاتين الفاكهتين تحتويان على الفيتامينات والمواد الحياتية المختلفة واللازمة لجسم الإنسان ، إضافة إلى أنّ هاتين الفاكهتين يمكن حفظهما وتناولهما طازجتين أو مجفّفتين على مدار العام.

«أعناب» جمع «عنب» و «النخيل» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ جمعه «نخل» ولكن باختلاف بين الكلمتين ، (فالعنب) يطلق على الثمرة نفسها ، ومن النادر إطلاقه على شجرة العنب ولكن «النخل» اسم للشجرة ، و (الثمرة) يقال له «الرطب» أو «التمر».

يرى البعض بأنّ هذا الاختلاف في التعبير عن الفاكهتين بالإشارة إلى الشجرة مرّة وإلى الثمرة مرّة اخرى ، بسبب أنّ النخلة ـ وكما هو معروف ـ كلّها مفيدة وقابلة للاستفادة ، جذعها وجريدها وسعفها وأخيرا ثمرها ، في حين أنّ شجرة (الكرم) غالبا ما يستفاد من «عنبها» فقط ، وأمّا ساقها وأوراقها فلا يستفاد منها إلّا

١٧٨

قليلا.

وأمّا ما ورد من ذكر الاثنتين بصيغة الجمع ، فيبدو أنّه إشارة إلى الأنواع المختلفة لكلّ منهما ، إذ أنّ كلا منهما لها عشرات الأنواع تختلف في أشكالها وخصائصها ومذاقها.

والجدير بالملاحظة ـ أيضا ـ أنّ الحديث في هذه الآية تعرّض إلى إحياء الأرض الميتة دون أن يقرن ذلك بذكر المطر الذي عادة ما يذكر في مثل هذه المواضع ، وورد الحديث هنا عن «العيون» ، وذلك لأنّ المطر كاف لزراعة الكثير من المحاصيل والنباتات ، في حين أنّ الأشجار المثمرة تحتاج إلى الماء الجاري أيضا.

«فجّرنا» من مادّة «تفجير» وهو شقّ الشيء شقّا واسعا ، ومن هنا استخدمت الكلمة للتعبير عن العيون ، لأنّها تشقّ الأرض وتدفع ماءها إلى سطح الأرض(١) .

الآية التالية تشرح وتوضّح الهدف من خلق تلك الأشجار المباركة المثمرة فتقول : إنّ الغرض من خلقها لكي يأكلوا من ثمارها دون حاجة إلى بذل جهد في ذلك ودون تدخّل الإنسان في صناعتها( لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ) .

نعم ، ثمار على شكل غذاء كامل تظهر على أغصان أشجارها ، قابلة للأكل بمجرّد جنيها من أغصانها ، ولا تحتاج إلى طبخ أو أيّة تغييرات اخرى ، ذلك إشارة إلى غاية لطف الله بهذا الإنسان وكرمه.

حتّى أنّ ذلك الطعام الجاهز اللذيذ ، يمكن تجميعه وتعليبه لكي يحفظ لمدّة طويلة بدون أن ينقص من قيمته الغذائية شيء ، على خلاف الأغذية التي يصنعها الإنسان من المواد الطبيعية التي أعطاها الله له ، فهي غالبا ما تكون سريعة التلف

__________________

(١) من الجدير بالملاحظة أنّ الصيغة الثلاثية المجردة لها «فجر» بمعنى (الشقّ) وهنا استخدمت على وزن «تفعيل» بمعنى التكثير والتشديد.

١٧٩

والفساد.

ويوجد تفسير آخر أيضا لمعنى الآية ، وهو جدير بالنظر ، وذلك أنّ القرآن الكريم يريد الإشارة إلى الفواكه التي يمكن الاستفادة منها دون إدخال تغيير عليها ، وكذلك إلى أنواع الأغذية المختلفة التي يمكن الحصول عليها من تلك الفواكه ، بالقيام ببعض الأمور (في التّفسير الأوّل تكون (ما) في الجملة نافية ، بينما في التّفسير الثاني تكون موصولة).

وعلى كلّ حال ، فالهدف هو تحريك حسّ تشخيص الحقّ ، والشكر في الإنسان ، لكي يضعوا أقدامهم على أوّل طريق معرفة الله عن طريق الشكر ، لأنّ شكر المنعم أوّل قدم في طريق معرفته.

الآية الأخيرة من الآيات موضع البحث ، تتحدّث عن تسبيح الله وتنزيهه ، وتشجب شرك المشركين الذي ذكرته الآيات السابقة ، وتوضّح طريق التوحيد وعبادة الأحد الصمد للجميع فتقول :( سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

نعم ، فالله الذي خلق كلّ هذه الأزواج في هذا العالم الواسع ، لا حدّ لعلمه وقدرته ومنزّه عن كلّ نقص وعيب ، لذا فلا شريك ولا شبيه له ، وإن عدّ بعض الناس الحجر والخشب الجامد الميّت نظائر له ، فإنّ تلك النسبة الباطلة لا تنقص من مقام كبريائه شيئا.

بديهي أنّ الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يسبّحه أحد ، إنّما ذلك تعليم للعباد ومنهاج عملي من أجل طي طريق التكامل.

__________________

(١) «سبحان» على قول جماعة من المفسّرين وعلماء الأدب هي «علم» للتسبيح ، لأنّ العلم (الاسم الخاصّ) يكون أحيانا للأشخاص فيسمّى «علم الشخص» ، وأحيانا للجنس فيسمّى «علم الجنس» ، وأحيانا للمعنى فيسمّى «علم المعنى» بناء على هذا فمفهوم «سبحان» هو تنزيه وتقديس الله من كلّ عيب ونقص ، تنزيها يتناسب وعظمة الخالق ، والعلم لا يضاف إلّا في «علم المعنى». قال البعض أيضا أنّ «سبحان» لها معنى مصدري ، ومفعول مطلق لفعل مقدّر ، وفي أيّة صورة فهي تبيّن التنزيه الإلهي بأوكد وجه.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581