الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175381 / تحميل: 6517
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

حسوا في ارتغاء(١) من بغضه أمير المؤمنين صلوات الله عليه ومع الإضراب عن هذا فسوف يأتي الكلام(٢) في نصرة أمير المؤمنين رسول الله ونصرة غيره له.

وادعى أن أبا بكر ضرب على إسلامه وليس المفتون كالوادع قال الله تعالى( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) (٣) .

وبنى الناصب على أن المراد بالفتنة العنت والأذى متعرضا بأمير المؤمنينعليه‌السلام (٤) .

والجواب عن ذلك بما أن هذا شيء لا تعلق له بتقدم الإسلام ولا بشرف إسلام هذا من إسلام ذاك إذ الذي يدعي وقوعه من الضرب كان بعد الإسلام لا معه وما ثبت أيضا وهو متهم في حكايته وروايته فإذن هذا من باب المفاخرة خاصة مقطوع عما نحن وهو فيه.

والجواب عنه مع ثبوته وثبوت مرتبة له بذلك بما أن إسلام أبي بكر رضوان الله عليه كان فرعا لإسلام أمير المؤمنينعليه‌السلام وليس ببعيد أن يحث المقتبل الكهل على فعل المحاسن واعتماد الفضائل إذ يقول الشيخ كيف يصلح لي أن أسبق وأنا ذو سن وأغلب وأنا(٥) ذو حنكة يغلبني الأحداث ويتقدمني الناشئون.

__________________

(١) الحسو: الشرب شيئا فشيئا، الارتغاء: شرب الرغوة وهي زبد اللبن وهو مثل يضرب لمن يظهر طلب القليل ويسر أخذ الكثير.

(٢) ص: (٥٩).

(٣) البقرة: ١٩١.

(٤) العثمانية: ٢٩.

(٥) أضفنا الكلمة ليستقيم الكلام، وفي ن: وكان هو ذا حنكة يأبى أن يغلبه الأحداث ويتقدمه الناشئون.

٨١

وإذا كان الأمر كذا فمناسب أن يكون لإسلام أمير المؤمنينعليه‌السلام حصة في إسلام أبي بكر رضوان الله عليه ومهما حصل به من ثواب الإسلام وتوابع ذلك كان له فيه النصيب الأوفر اعتبارا بما أنه كان الأصل بما وصل إليه.

ومن المنقول: من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة(١) وكذا نقول في إسلام غيره من الصحابة والتابعين ومن يتلوهم من المسلمين.

وأرى كلام الجاحظ حاصله أن أبا بكر رضوان الله عليه ذو ثواب فيما وصل إليه من الضرب أو بكونه لم يرجع عن الإسلام ولم يحد عنه.

والأول غير مفضل له على أمير المؤمنين وغيره من الهاشميين إذ حصل لهم من المتاعب وحصر قريش لهم في الشعب والترهيب ما يرجح على ذلك إذ كانوا معرضين للموت جوعا أو غير جوع وهو من أشد المجاهدات.

وقد بذل أمير المؤمنين صلوات الله عليه نفسه في مرضاة الله وأثنى عليه في قوله تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) (٢) رواه من لا يتهم للإمامية بل هو إلى التهمة عليهم أقرب أبو إسحاق الثعلبي(٣) في كتابه

__________________

(١) مسند احمد بن حنبل: ٤ / ٣٦٢، سنن ابن ماجة ١ / ٩٠ سنن الدارمي: ١ / ١٣٠ باختلاف في اللفظ يسير.

(٢) البقرة: ٢٠٧.

(٣) أبو اسحاق احمد بن محمد بن ابراهيم الثعلبي النيسابوري، المفسر المشهور، كان أوحد زمانه في علم التفسير، حدث عن أبي طاهر بن خزيمة والامام أبي بكر بن مهران المقريء، وكان كثير الحديث، كثير الشيوخ، توفى سنة سبع وعشرين وأربعمائة وقيل غير ذلك، انظر: وفيات الأعيان: ١ / ٧٩، معجم الأدباء: ٥ / ٣٦، النجوم الزاهرة: ٤ / ٢٨٣.

٨٢

كشف البيان(١) وأن أمير المؤمنين آثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعمره وما ثبت ذلك لغيره عند ضربه مثبتا له ثوابا يشهد له(٢) لسان كلام(٣) الكتاب العزيز وإن كان يريد بالفضيلة كونه لم يرجع عن الإسلام فلا ينبغي أن يوصف عين من أعيان الصحابة بالمبالغة في أنه ما ارتد عند ضرب وقد صبر على ذلك غيره أو أشد منه ممن صبر.

وأما تفسير مبغض أمير المؤمنينعليه‌السلام الفتنة بالأذى والعنت فإنه إن كان ما عرف ما ذكر أهل التفسير في ذلك فهو ناقص جدا إذ كان بمقام الغفلة عن اعتبار معاني كتاب الله تعالى خائضا في تفسيره برأيه بانيا له على غير أسه وملعون على ما روي(٤) من فسر القرآن برأيه.

وروى الواحدي(٥) بإسناده المتصل عن ابن عباس عن رسول الله ص

__________________

(١) الكشف والبيان في تفسير القرآن: مخطوط.

ولقد روى نزول هذه الآية في شأن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام جماعة من أعلام القوم غير الثعلبي ونحن نذكر قسما منهم بذكر مصادرها:

تفسير الطبري: ٩ / ١٤٠، مسند احمد بن حنبل: ١ / ٣٣١ ضمن حديث ساقه عن ابن عباس، مستدرك الصحيحين: ٣ / ٤، تلخيص المستدرك ٣ / ٤، مناقب الخوارزمي: ٧٤ تفسير الفخر الرازي: ٥ / ٢٢٣ اسد الغابة: ٤ / ٢٥ تذكرة الخواص: ص ٢٠٨ كفاية الطالب: ص ١١٤، الجامع لأحكام القرآن: ٢ / ٣٧٧، تفسير النيشابوري ( المطبوع بهامش تفسير الطبري: ٢ / ٢٠٨، البحر المحيط: ٢ / ١١٨ الفصول المهمّة: ص ٣٠، حبيب السّير: ٢ / ١٢ تفسير روح المعاني: ٢ / ٨٣، ينابيع المودّة: ص ٩٢.

(٢) ن: به.

(٣) لا توجد في: ن.

(٤) ما بين المعقوفتين لا يوجد في: ج وق.

(٥) هو ابو الحسن علي بن احمد بن محمد بن علي بن متويه الواحدي المتوي، صاحب التفاسير المشهورة: كان استاذ عصره في النحو والتفسير، منها: « البسيط » في تفسير القرآن الكريم، وكذلك « الوسيط » و « الوجيز »، و « اسباب النزول » وغيرها من الكتب.

وكان الواحدي المذكور تلميذ الثعلبي صاحب تفسير « الكشف والبيان »، وعنه اخذ علم

٨٣

قال من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار(١) .

وإن ادعى فيه عن المفسرين النقل فهو بعيد إذ المفسرون فسروا الآية بأن المراد من الفتنة الكفر. فسره الثعلبي(٢) والواحدي(٣) إذ الكفار عيروا المسلمين بالقتل في الشهر الحرام فقال الله تعالى( وَالْفِتْنَةُ ) التي أنتم عليها من الكفر( أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ) في الشهر الحرام في قصة معروفة جرت وكيف يتقدر أن يقول إله العالم إن شيئا مما كان يجري من أذى المسلمين أعظم من القتل.

قال مبغض أمير المؤمنين صلوات الله عليه فلو كان علي بن أبي طالب قد ساوى أبا بكر في الإسلام لقد كان فضله أبو بكر بأن أعتق من المعذبين المفتونين بمكة وأنه كان يلقى الأذى مدة المقام بمكة وعلي وادع(٤) .

أقول إنا قد بينا ما جرى لبني هاشم من الأذى الشديد والخوف القاهر وبذل أمير المؤمنين نفسه فكيف يكون وادعا من هذا سبيله هذا بغض صريح من أبي عثمان لأمير المؤمنينعليه‌السلام فالوعيد المناط

__________________

التفسير، وتوفي عن مرض طويل في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة بمدينة نيسابور.

انظر: وفيات الاعيان: ٣ / ٣٠٣ وأنباه الرواة: ٢ / ٢٢٣.

(١) ما ورد في المصدر هو:

عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه [ وآله ] وسلم -: اتقوا الحديث الا ما علمتم، فانه من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار، انظر أسباب النزول: ٤.

(٢) الكشف والبيان: مخطوط.

(٣) اسباب النزول: ٣٥، ٣٦.

(٤) العثمانية: ٣٠.

٨٤

بالكافرين(١) لاحق به لا محالة إذ بغضته(٢) بما ثبت في الصحيح عند القوم كفر(٣) .

وأما أن أبا بكر رضوان الله عليه أعتق من المعذبين من أعتق فمما لم يثبت برهانه ولو ثبت فإنه فرق بين من أعتق شخصا أو شخصين من الأذى الدنيوي وبين من أعتق من لا يحصى من العذاب الأخروي الأبدي إذ بأمير المؤمنين قامت دعائم الإسلام وقعدت قوائم الشرك وقد تأتي الرواية بك يهتدي المهتدون بعدي وتقرير المعنى منها(٤) .

وذكر شانئ أمير المؤمنينعليه‌السلام حديث الغار(٥) وهذا غير ما نحن فيه وقد سلف تقرير ذلك وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

وادعى أن جماعة أسلموا على يده منهم خمسة من أصحاب الشورى وكلهم يفي بالخلافة وهم أكفاء علي ومنازعوه الرئاسة والإمامة فقد أسلم على يده أكثر ممن أسلم بالسيف لأن هؤلاء أكثر من جميع الناس(٦) .

والذي أقول على شانئ أمير المؤمنين صلوات الله عليه ثم عدو الله إنه شرع معظما الجماعة المشار إليهم من أصحاب الشورى وإن كلهم يفون بالخلافة فإن الذي يقال عليه إن الشورى ليست فخرا دينيا لمن كان داخلا فيها.

__________________

(١) اشارة الى قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ) الاحزاب: ٦٤ وغيره المتضمن لهذا المعنى.

(٢) ن: بغضه.

(٣) تقدمت الاشارة الى قسم منها ص: (١٩).

(٤) ص: (٧٠).

(٥) العثمانية: ٤٣.

(٦) العثمانية: ٣٢.

٨٥

فإن قيل لو لم يكونوا أرباب خصائص ما عول عمر عليهم قلنا هذا ليس دالا على فضيلة باطنة توازي فضيلة(١) من شهد له الخصم بصلاح الباطن وشهد له النبيعليه‌السلام بأن الشاك فيه بائر وسوف يأتي الحديث في هذا(٢) بفصه(٣) عند الحاجة إليه(٤) .

ويقول لسان الجارودية(٥) إن إدخال من أدخل في الشورى إنما يثبت فضلهم لو كان المدخل لهم رسول الله أو من لا يتهم في تدبيره بوجه من الوجوه وأين ذاك أضربنا عن هذا فإن المدخل لهم في الشورى عابهم وتنقصهم(٦) .

__________________

(١) لا توجد في: ق.

(٢) ما بين المعقوفتين لا يوجد في: ن.

(٣) ن: نقصّه.

(٤) ص: (٣٩).

(٥) الجارودية اصحاب أبي الجارود، يذهبون الى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نص على عليعليه‌السلام بالوصف دون التسمية والامام بعده علي والناس قصّروا حيث لم يتعرفوا الوصف ولم يطلبوا الموصوف وانما نصبوا أبا بكر باختيارهم فكفروا بذلك. واختلفت الجارودية فساق بعضهم الامامة من عليعليه‌السلام الى الحسن ثم الى الحسين ثم الى علي بن الحسين ثم الى زيد بن علي ثم منه الى الامام محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين وقالوا بامامته ثم اختلفوا فمنهم من قال انه لم يقتل وهو بعد حي وسيخرج فيملأ الأرض عدلا ومنهم من أقر بموته وساق الامامة الى محمد بن القاسم بن علي بن الحسين بن علي بن صاحب الطالقان ومنهم من قال بامامة يحيى بن عمر صاحب الكوفة وقد قتل في أيام المستعين، الملل والنحل ١ / ١٦٣ و ١٦٤.

(٦) ذكر ابن ابي الحديد في شرح النهج: ١ / ١٨٥.

ان عمر لما طعنه ابو لؤلؤة، وعلم انه ميت، استشار فيمن يولّيه الأمر بعده فأشير عليه بابنه عبد الله، فقال: لاها الله اذا لا يليها رجلان من ولد الخطاب، حسب عمر ما حمّل، حسب عمر ما احتقب، لاها الله لا اتحملها حيا وميتا.

ثم قال: ان رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة من قريش: علي، وعثمان، وطلحة، والزبير وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم.

ثم قال: ان استخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبا بكر - وان أترك فقد ترك من هو خير مني - يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله -.

٨٦

__________________

ثم قال: ادعوهم لي، فدعوهم فدخلوا عليه وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه، فنظر اليهم فقال: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي! فوجموا، فقال لهم ثانية، فأجابه الزبير وقال: وما الذي يبعدنا منها؟ ولّيتها انت فقمت بها ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة.

فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم؟ قال: قل: فانّا لو استعفيناك لم تعفنا. فقال: أما أنت يا زبير فوعق لقس ( أ ) مؤمن الرضا، كافر الغضب، يوما انسان ويوما شيطان، ولعلها لو أفضت اليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير، أفرأيت أن افضت اليك فليت شعري، من يكون للناس يوم تكون شيطانا، ومن يكون يوم تغضب؟ وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الامة وأنت على هذه الصفة.

ثم أقبل على طلحة - وكان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر - فقال له: أقول أم أسكت؟ قال: قل، فانك لا تقول من الخير شيئا قال: أما اني أعرفك منذ اصيبت اصبعك يوم أحد والبأو ( ب ) الذي حدث لك، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب.

قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ: الكلمة المذكورة، ان طلحة لما انزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه الى رسول الله - صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم - ما الذي يغنيه حجابهن اليوم، وسيموت غدا فننكحهنّ، قال ابو عثمان أيضا: لو قال لعمر قائل: انت قلت: ان رسول الله - صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم - مات وهو راض عن الستة، فكيف تقول الآن لطلحة انه مات عليه‌السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها؟ لكان قد رماه بمشاقصة ولكن من الذي كان يجسر على عمر ان يقول له ما دون هذا. فكيف هذا.

قال: ثم اقبل على سعد بن ابي وقاص فقال: انما أنت صاحب مقنب ( ج ) من هذه المقانب، تقاتل به وصاحب قنص وقوس واسهم وما زهرة والخلافة وامور الناس.

ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال: وأما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف ايمان المسلمين بايمانك لرجح ايمانك به، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك، وما زهرة وهذا الأمر.

ثم اقبل على علي عليه‌السلام فقال: لله انت لو لا دعابة فيك، أما والله لأن ولّيتهم لتحملنّهم على الحق الواضح، والمحجة البيضاء.

ثم اقبل على عثمان، فقال: هيها اليك، كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها اياك، فحملت بني امية وبني أبي معيط على رقاب الناس وآثرتهم بالفيء، فسارت اليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحا، والله لان فعلوا لتفعلن، ولأن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال: فاذا كان ذلك فاذكر قولي، فانه كائن.

٨٧

أضربنا عن هذا(١) فإن الذي نحن فيه حال الإسلام وتقدمه

__________________

ثم قال ابن أبي الحديد: ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب ( السفيانية ) وذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر.

وايضا ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ١٢ / ٢٥٨ عن محمد بن سعد عن الواقدي، عن محمد بن عبد الله الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، قال: قال عمر: لا أدري ما اصنع بامة محمد - صلى الله عليه ( وآله ) وسلم -؟ وذلك قبل أن يطعن، فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ - يعني عليا قلت نعم هو لها أهل، في قرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصهره وسابقته وبلاءه، قال: ان فيه بطالة وفكاهة، فقلت: فأين أنت من طلحة؟ قال: فاين الزهو والنخوة! قلت: عبد الرحمن؟ قال: هو رجل صالح على ضعف فيه، قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحب مقنب وقتال لا يقوم بقرية لو حمل أمرها، قلت: فالزبير؟ قال: وعقة لقس ( د )، مؤمن الرضا كافر الغضب، شحيح، وأن هذا الأمر لا يصلح الا لقوي في غير عنف، رفيق في غير ضعف، وجواد في غير سرف، قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه.

( ثم قال ابن ابي الحديد ) وقد يروى من غير هذا الطريق أن عمر قال لأصحاب الشورى: روحوا اليّ، فلما نظر اليهم قال: قد جاءني كل واحد منهم يهز عفريته، يرجو أن يكون خليفة. أما أنت يا طلحة، أفلست القائل: ان قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انكح أزواجه من بعده! فما جعل الله محمدا أحق ببنات أعمامنا منا فأنزل الله تعالى فيك: ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) وأما أنت يا زبير فو الله ما لآن قلبك يوما ولا ليلة، وما زلت جلفا جافيا وأما أنت يا عثمان، فو الله لروثة خير منك، وأما أنت يا عبد الرحمن فانك رجل عاجز تحب قومك جميعا، وأما انت يا سعد، فصاحب عصبية وفتنة، وأما انت يا علي فو الله لو وزن ايمانك بايمان أهل الأرض لرجحهم، فقام عليّ مولّيا يخرج، فقال عمر: والله اني لاعلم مكان رجل لو وليتموه امركم لحملكم على المحجة البيضاء، قالوا: من هو؟ قال: هذا المولّي من بينكم، قالوا: فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس الى ذلك سبيل.

أ - الوعق: الضجر المتبرم، واللقس: من لا يستقيم على وجه.

ب - البأو: الكبر والفخر.

ج - المقنب: صاحب الخيل.

د - رجل وعقة ولعقة: اذا كان فيه حرص ووقوع في الأمر.

(١) ما بين المعقوفتين لا يوجد في: ن.

٨٨

وأي الإسلامين وقع حين ما وقع سريعا لا فيما(١) عقب من الفضائل والخصائص إذ ذلك له باب مفتوح جدا ولأمير المؤمنينعليه‌السلام فيه الفضل المتعين(٢) الذي لا يشاركه فيه غيره ولا يدانيه فيه سواه والسير تكشف عنه من طرق القوم ليس هذا موضع الإبانة عنه.

أضربنا عن هذا فإن شانئ أمير المؤمنينعليه‌السلام حاد عن الطريق اللاحب(٣) في بحثه إما نقصا في قريحته أو بغضا لأمير المؤمنينعليه‌السلام متباعدا عن موالاته وموازرته إذ علماء القوم وكتبهم محشوة من كون الفتنة العظمى كانت بين طلحة والزبير وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين فكان فرع ذلك قتله رضوان الله عليه ثم كان فرع ذلك وقعة الجمل فقتل طلحة والزبير وقتل من الفريقين أمة كبيره.

ذكر الروحي(٤) أن المقتولين من أصحاب طلحة والزبير ثمانية آلاف وقيل سبعة عشر ألفا وقتل من أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام نحو من ألف وذكر أنه قطع على زمام الجمل سبعون يدا.

ثم كان فرع قتل عثمان بعد ذلك حرب صفين فقتل من أصحاب

__________________

(١) لا توجد في: ق.

(٢) ن: المتفنن.

(٣) اللاحب: الواضح ( المنجد ).

(٤) هو ابو الحسن علي بن أبي عبد الله محمد بن أبي السرور بن عبد الرحمن الروحي فقيه مؤرخ.

كان الروحي معاصرا للخليفة المستعصم بالله كما قال في تاريخه ولقد طبع تاريخه في القاهرة عام ١٩٠٩ باسم « بلغة الظرفاء في ذكرى تاريخ الخلفاء » والذي في كشف الظنون: ١ / ٢٥٢ « بلغة الظرفاء إلى معرفة الخلفاء ». وصحف الى الدوحي ولعله غلط مطبعي نقل عنه ابن خلكان في ترجمة الوزير « شاور » وكذلك في ترجمة نزار الفاطمي الملقب بالعزيز بالله، وفيات الأعيان: ٢ / ٤٤٠ و ٥ / ٣٧٢.

وكذلك نقل عنه ابن الفوطي في تلخيص مجمع الآداب: ٢ / ١٢٢٦ وذكره السخاوي في الاعلان بالتوبيخ: ٩٥ وعده في مؤرخي الخلفاء وصحف الى السروجي.

٨٩

أمير المؤمنينعليه‌السلام خمسة وعشرون ألفا ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفا.

وفشا الضلال وولي عتاة بني أمية وضربت المصاحف بالسهام من عتاتهم وسم الحسنعليه‌السلام وقتل الحسينعليه‌السلام سيدا شباب أهل الجنة صلّى الله عليهما وجرى غير ذلك من فنون الفتن.

هذه كانت العاقبة بالجماعة الذين من بهم أبو عثمان على الإسلام.

وأما أنهم كانوا يفون بالخلافة فبهت محض إذ طلحة والزبير رضوان الله عليهما كذباه بطعنهما على عثمان رضوان الله عليه وبطعن عثمان عليهما ومحاربته(١) ومجاذبته.

قال لسان الجارودية ولقد أحسن سعيد(٢) بن زيد بن عمرو بن نفيل(٣) في جوابه لطلحة إذ قال له إن عمك أدخلني في الشورى ولم يدخلك فقال له إنه خافك على الإسلام أو على المسلمين ولم يخفني.

ثم بيان كونهما غير صالحين للخلافة بما أنهما خرجا على الخليفة علي بن أبي طالب والخروج على الإمام فسق عند قوم وعند آخرين كفر.

أضربنا عن ذلك فهو تدبير غير مقترن بالحكمة التي تليق بمن يستحق

__________________

(١) ن: بمحاربته.

(٢) ج وق: سعد بن زيد بن هارون بن نفيل.

(٣) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى العدوي، أسلم قبل دخول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دار الأرقم، وهاجر وشهد احدا والمشاهد بعدها ولم يكن بالمدينة زمان بدر فلذلك لم يشهدها. وضرب له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بسهمه يوم بدر لانه كان غائبا بالشام وكان اسلامه قديما قبل عمر وكان اسلام عمر عنده في بيته لانه كان زوج اخته فاطمة، توفي بالعقيق فحمل الى المدينة في سنة خمسين وقيل احدى وخمسين وقيل غير ذلك وعاش بضعا وسبعين سنة وقيل غير ذلك انظر: الاصابة: ٢ / ٤٦ المغازي: ١ / ١٩ و ٢٠ و ١٥٦ و ٢ / ٧٧٠ و ١١١٨.

٩٠

الخلافة وهو واف بها إذ الرواية رويت بأنهما كانا يختصمان على الخلافة وليس أحدهما أظهر من صاحبه ويتجافيان أمير المؤمنينعليه‌السلام ومفارقته مفارقة الله(١) وحربه حرب الرسول بما روي من طريق القوم وسوف أثبته بفصه(٢) ومن يكون بهذه الصفات كيف يفي بتدبير الخلافة أو يكون أهلا لها.

وأما أمير المؤمنينعليه‌السلام فإنه مهد قواعد الإسلام بإسلامه أولا وبكونه وقى رسول الله بمهجته وهو أصل الإسلام فكل المسلمين حقا في ضيافة أمير المؤمنينعليه‌السلام لأنه وقى لهم بنفسه أصل الإسلام وتعرض للحمام(٣) ثم بعد ذلك حطم قرون الشرك بصولته وبدد جمعهم بمنازلته حتى ذلت صعاب الشرك وخامت(٤) عزة الكفر ولو لا سيوفه البواتر وغروبها(٥) القواطر ما الذي كان يغني إسلام من(٦) أشار إليه وقد جرى لهما يوم أحد أعني عثمان وطلحة رضوان الله عليهما ما رواه السدي(٧) مما لا أرى حكايته إذ متعين على الإنسان قطع لسانه عن

__________________

(١) تقدمت الاشارة الى الأحاديث الواردة بشأن ذلك ص: (٢١).

(٢) يأتي: ص (١١٤) فانتظر.

(٣) الحمام: الموت.

(٤) خام: جبن ونكص.

(٥) غروب: مفردة غرب ( بالفتح فالسكون ) حد كل شيء، وغرب السيف حده الذي يقطع به ( المنجد ).

(٦) ن: الاسلام ممن.

(٧) هو اسماعيل، بن عبد الرحمن، بن ابي كريمة، السدّي، أبو محمد القرشي الكوفي، الاعور، مولى زينب بنت قيس بن محزمة، وقيل مولى بني هاشم، اصله حجازي، سكن الكوفة، وكان يقعد في سدة باب الجامع بالكوفة فسمي السّدي، مات سنة ١٢٧ ه‍. انظر: تهذيب الكمال: ٣ / ١٣٢ ( طبعة بيروت مؤسسة الرسالة )، الجرح والتعديل: ٢ / ١٨٤ ( حيدر أباد الدكن ) سير اعلام النبلاء: ٥ / ٢٦٤.

٩١

القدح(١) فيمن يجب تعظيمه ولا تحل مسبته فلا مسلم على وجه الأرض إلا ولأمير المؤمنينعليه‌السلام عليه حق السيد المحسن على عبده ولا نسبة إذ فرق بين مخلص من معاطب الغضب الإلهي والعذاب الأبدي موقع في سعادات الثواب الأبدي وبين سيد أحسن إلى عبد إحسانا منقطع المدة داثر الجدة.

ثم أي نسبة بين من أعتق نفرا من العذاب الدنيوي وبين من أعتق من لا يحصي عددهم إلا الله من العذاب الأبدي هذا القسم الأخير حلية أمير المؤمنينعليه‌السلام الواضحة براهينها اللائح يقينها والقسم الأول دعوى ومع ثبوتها فهي مقصرة عن مجد أمير المؤمنينعليه‌السلام الشامخ وشرفه الباذخ(٢) الذي تعدى ذرى الأفلاك وزاحم شرف الأملاك بل كان له الشرف عليهم والسبق الأعظم لأخصهم وهذا تأكيد لكلام سلف سؤالا وجوابا.

وأما(٣) أن إسلام من ذكر أكثر من جميع الناس فإنه قول غير مستند إلى أصل ولا مبني على قاعدة بل قد سلف عن قرب تقرير الضرر بجماعة ممن ذكر.

وتعلق(٤) شانئ أمير المؤمنين صلوات الله عليه في فضل من أشار إليه بقوله تعالى( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) إلى قوله( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) (٥) وذكر أنه أنفق أربعين

__________________

(١) لا توجد في: ق.

(٢) الباذخ: العالي ( المنجد ).

(٣) ن: فأما.

(٤) العثمانية: ٣٥.

(٥) الليل: ٥ - ١٩ وهي:( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى * وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى* إِنَ

٩٢

ألفا على نوائب الإسلام(١) .

والذي يقال على هذا إن شانئ أمير المؤمنينعليه‌السلام شرع في تنقص أمير المؤمنين ثم أتبع ذلك بتنقص الكتاب المجيد نجاة العبيد إذ الآية( فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ) (٢) فأسقط من الكتاب المجيد حرفا إما عمدا أو جهلا وادعى أن سبب نزول الآية صنع من صنع وصدقة(٣) من تصدق وقال بعض الشيعة عند ذلك:

روى(٤) أبو إسحاق الثعلبي(٥) وهو ممن لا يتهم أنها نزلت في أبي الدحداح وإن كان قد روى ما ادعى الشانئ روايته وهو مرجوح إذ هو ملتحف بالتهمة مشتمل بالشك بخلاف غيره إذ المحكي أن أبا بكر رضوان الله عليه كان خياطا وقيل معلما وهذا حال بعيد عن ضم الأموال النزرة فكيف عن الجمة الدثرة.

وسوف يأتي الإيراد التام على ما(٦) ادعاه من نزول الآية فيمن ذكر(٧) وأما الصدقة بأربعين ألفا فإن الجارودية تبعد(٨) .

فضل شانئ أمير المؤمنينعليه‌السلام غيره عليه بأنه لم يكن للنبي

__________________

عَلَيْنا لَلْهُدى * وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى * فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى* وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) .

(١) العثمانية: ٣٥ و ٣٦.

(٢) لا توجد في: ق.

(٣) ق: تصدّق.

(٤) في ن بزيادة: و.

(٥) الكشف والبيان: مخطوط.

(٦) في: ن.

(٧) ن: ذكره.

(٨) ما بين المعقوفتين لا يوجد في: ق.

٩٣

عليه‌السلام عنده يد بخلاف علي في كونه تحت عناية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقرير هذا كون إسلام ذاك لألحق بخلاف إسلام علي ومتابعته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يخشى العار في مخالفته(١) .

والذي يقال على هذا.

إن شانئ أمير المؤمنين صلوات الله عليه تعدى حدود الخوارج المارقين شر الخلق والخليقة بما ثبت من الرواية عن الرسول صلوات الله عليه(٢) فهو لذلك أخفض وأخفض من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفار رتبة.

قوله إنه(٣) لم يكن على من أشار إليه يد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول بغير علم وما يدريه بذلك حتى يدعيه.

سلمنا أنه أراد ما عرف أن له عليه يدا وعرف أن له على أمير المؤمنينعليه‌السلام يدا لكن قوله إن أمير المؤمنينعليه‌السلام أسلم خوف العار أو يجوز أن يكون أسلم خوف العار فإن أراد الأول

__________________

(١) العثمانية: ٣٦.

(٢) روى احمد بن حنبل في مسنده: ٣ / ٢٢٤ والحاكم في مستدركه: ٢ / ١٤٧ بسندهما عن أنس بن مالك، ان رسول الله - صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم - قال:

سيكون في امتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر احدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجع حتى يرد السهم على فوقه ( فوق، بالضم فالسكون: فوق السهم موضع الوتر منه. ) وهم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون الى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التحليق.

(٣) ن: اذ.

٩٤

فإن اللعن متوجه إليه إذ هو ساب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال ابن السمعاني(١) في كتابه وحدثني أبي قال حدثنا يحيى بن أبي بكر قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله الجدلي قال دخلت على أم سلمة رضي الله عنها فقالت أيسب رسول الله فيكم فقلت لها معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها قالت سمعت رسول الله يقول من سب عليا فقد سبني

ورواه ابن المغازلي(٢) من طريق ابن عباسرضي‌الله‌عنه (٣) فأشهد على

__________________

(١) هو منصور بن محمد بن عبد الجبار بن احمد بن محمد، أبو المظفر ابن الامام أبي منصور بن السمعاني، ولد في ذي الحجة سنة ٤٢٦، وهو أحد الأئمة في الحديث، قد سمع من أبيه وجماعة، منهم: احمد بن علي بن الحسين الكراعي، ومحمد بن عبد الصمد، ومحمد بن اسماعيل الاسترآبادي.

انظر: البداية والنهاية: ١٢ / ١٥٣ وشذرات الذهب: ٣ / ٣٩٣ والنجوم الزاهرة: ٥ / ١٦٠ وطبقات الشافعية: ٥ / ٣٣٥ والكتاب الذي ينقل عنه هو مناقب الصحابة: مخطوط.

(٢) هو الحافظ ابو الحسن علي بن محمد بن محمد بن الطيب الواسطي الشهير بابن المغازلي ( ووجه الاشتهار به لأن أحد اسلافه كان نزيلا بمحلة المغازليين في واسط ) من أجلّة حفاظ الحديث والتاريخ وقد اعتمد عليه ونقل عنه جماعة كثيرة من رواة الأحاديث منهم السمعاني والذهبي وابن حجر العسقلاني ومن الخاصة يحيى بن محمد البطريق الاسدي الحلي، ومولانا القاضي نور الله التستري وغيرهم له مؤلفات كثيرة منها ذيل تاريخ واسط وشرح الجامع الصحيح للبخاري وكتاب مناقب علي بن أبي طالب وغيرها من الكتب، مات سنة ٥٣٤ وقيل ٤٨٣ غرقا في دجلة ببغداد انظر: تاج العروس: ١ / ١٨٦ الانساب ١٤٦.

(٣) أول الحديث: عن يعقوب بن جعفر بن سليمان بن علي، قال: حدثني ابي عن أبيه عن أبيه قال: كنت مع عبد الله بن العباس، وسعيد بن جبير يقوده، فمر على ضفة زمزم، فاذا بقوم من أهل الشام يسبون عليا، فقال لسعيد: ردّني اليهم فوقف عليهم فقال: ايّكم الساب لله عز وجل؟ قالوا: سبحان الله ما فينا أحد يسب الله عز وجل، قال: فأيكم الساب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قالوا: سبحان الله ما فينا أحد يسب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال: فأيكم الساب علي بن ابي طالب؟ قالوا: أما هذا فقد كان! قال: فاشهد على رسول الله الى آخر الحديث. انظر مناقب ابن المغازلي: ٣٩٤ و ٣٩٥.

٩٥

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعته أذناي(١) ووعاه قلبي يقول لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام يا علي من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله عز وجل ومن سب الله عز وجل أكبه(٢) الله على منكبيه(٣) في النار(٤) .

__________________

وأورده ايضا الحاكم في المستدرك: ١ / ١٢١، واحمد بن حنبل في مسنده: ٦ / ٣٢٣، والنسائي في خصائصه ص ٢٤.

وجاء في مستدرك الحاكم أيضا: ٣ / ١٢١ بسنده عن أبي عبد الله الجدلي يقول:

حججت وأنا غلام فمررت بالمدينة واذا الناس عنق واحد فاتبعتهم فدخلوا على ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي فأجابها رجل جلف جاف: لبيك يا أماه، قالت: يسب رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم في ناديكم؟ قال وانّى ذلك فقالت: فعلي بن ابي طالب قال: أنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا، قالت: فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول: من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله.

وذكر هذا أيضا المتقي في كنز العمال: ٦ / ٤٠١.

وأيضا ذكر الحديث عن ام سلمة رضي الله عنها آخرون منهم: التبريزي في مشكاة المصابيح: ٥٦٥ والسيوطي في تاريخ الخلفاء: ٦٧ وابن حجر في الصواعق المحرقة: ١٧٤ والقندوزي في ينابيع المودة: ٤٨.

(١) ن: نادى.

(٢) المصدر: كبه.

(٣) المصدر: منخريه.

(٤) تمام الحديث: ثم ولّى عنهم ثم قال: يا بنيّ ماذا رأيتهم صنعوا؟ فقلت له: يا أبه.

نظروا اليك بأعين محمّرة

نظر التيوس الى شفار الجازر

فقال: زدني فداك أبوك، فقلت:

خزر العيون نواكس ابصارهم

نظر الذليل الى العزيز القاهر

قال: زدني، فداك ابوك، قلت: ليس عندي مزيد، فقال: لكن عندي فداك ابوك:

احياءهم عار على أمواتهم

والميتون مسبة للغابر

ورواه ايضا الخوارزمي في مناقبه: ٨١، ٨٢.

وأورده في الرياض النضرة بألفاظ متقاربة: ٢ / ١٦٦.

وروى المحب الطبري في ذخائر العقبى ص ٦٦ عن ابن عباس قال:

اشهد بالله لسمعته من رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول: من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله عز وجل اكبه الله على منخريه.

٩٦

 وإن قال أردت يجوز أن يكون أسلم خوف العار قلت فقد روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري(١) قال حدثنا محمد بن عبيد الزيات(٢) قال حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا داود بن سليمان قال حدثنا عبد الله بن محمد القرشي عن أبي علي الخراساني عن ابن عباس قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحشر الشاك في علي من قبره وفي عنقه طوق من نار فيه ثلاثمائة شعبة على كل شعبة شيطان يكلح في وجهه حتى يوقفه موقف القيامة.

ويتعلق في فضل من أشار إليه على عليعليه‌السلام بقوله تعالى( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ) (٣) الآية قال فما ظنك بمن قاتل وأنفق قبل الهجرة(٤) .

والجواب عن هذا بما أنا ما عرفنا أن أحدا قاتل قبل الهجرة وإذا عرفت هذا بان لك أن الرجل مدغل(٥) في الدين ويبين ذلك نصرته لمذهب

__________________

(١) لم ترد ترجمة له ولو مختصرة في كتب التراجم مع انهم ترجموا لشيوخه امثال عمر بن شبه ومحمد بن زكريا الغلابي ويعقوب بن شيبة واحمد بن منصور الرمادي وغيرهم وكذلك ترجموا لمن يروون عنه امثال أبو الفرج الأصفهاني وأبو عبيد الله المرزباني وأبو القاسم الطبراني وأبو احمد العسكري نعم ورد ذكر اسمه فقط في مقاتل الطالبيين وفي شرح ما يقع فيه التصحيف للحسن بن عبد الله العسكري وفي المعجم الصغير للطبراني وفي الأوراق لأبي بكر الصولي في اخبار الراضي بالله: ٦٤ قال في احداث سنة ٣٢٣: وتوفى احمد بن عبد العزيز الجوهري صاحب عمر بن شبه بالبصرة لخمس بقين من شهر ربيع الآخر، ولعل هناك تعمد في اخفاء اسم الجوهري المذكور والله العالم.

(٢) ن: عبد.

(٣) الحديد: ١٠،( وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

(٤) العثمانية: ٣٨.

(٥) ادغل الشيء: ادخل فيه ما يخالفه ويفسده. ( المنجد ).

٩٧

ثم خذلانه له ونصرته لمذهب يخالفه قاعدة من لا يتقيد بقيد ولا يرتبط برباط.

قال الناصب فإن قالوا(١) عرفنا أن أبا بكر أنفق قبل الهجرة فلا نعرفه قاتل قبل الهجرة فقتال علي بعد الهجرة أفضل من إنفاق أبي بكر قبل الهجرة(٢) .

قلنا إن أبا بكر وإن لم يقاتل(٣) فقد قتل مرارا قبل الهجرة(٤) وإن لم يمت(٥) .

والجواب بما أن خصمه لا يوافقه على أن المشار إليه أنفق درهما واحدا(٦) ولأن كان أنفق ما قيل من المال الجم وما ورد فيه ما ورد في

__________________

(١) ن: قيل.

(٢) ما بين المعقوفتين لا يوجد في: ن.

(٣) المصدر بزيادة: قبل الهجرة.

(٤) ما بين المعقوفتين لا يوجد في المصدر.

(٥) العثمانية: ٣٩.

(٦) يعجبني رد الاسكافي عليه ( المطبوع آخر العثمانية ص ٣١٧ ) حيث قال:

اخبرونا على أي نوائب الاسلام انفق هذا المال؟ وفي أي وجه وضعه؟ فانه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه، وينسى ذكره.

وانتم فلم تقفوا على شيء أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب، لعلها يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم، وكيف يدعى له الانفاق الجليل، وقد باع من رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله بعيرين عند خروجه الى يثرب وأخذ منه الثمن في تلك الحال، روى ذلك جميع المحدثين.

وقد رويتم أيضا انه كان حيث كان بالمدينة موسرا، ورويتم عن عائشة انها قالت: هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم، وقلتم ان الله تعالى انزل فيه: ( وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى ) . قلتم: هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة، فأين الفقر الذي زعمتم انه انفق حتى تخلل بالعباءة؟.

ورويتم ان لله تعالى في سماءه ملائكة تخلّلوا بالعباء وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رآهم ليلة الاسراء فسأل جبريل عنهم فقال: هؤلاء ملائكة تأسّوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في

٩٨

جانب أمير المؤمنينعليه‌السلام من الممادح عند صدقته بالخاتم على ما رواه الخصم(١) وعند مناجاته على ما رواه المخالف(٢) وعند صدقته بأربعة

__________________

الأرض، فانه سينفق عليك ماله حتى يخل عباءته في عنقه.

وانتم رويتم أيضا ان الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ ) الآية لم يعمل بها الاّ علي بن ابي طالب وحده، مع اقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الذي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ ) فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه. وهو امساكهم عن تقديم الصدقة، فكيف سخت نفسه بانفاق اربعين ألفا وامسك عن مناجاة الرسول؟ وانما كان يحتاج الى اخراج درهمين.

واما ما ذكرتم من كثرة عياله ونفقته عليهم، فليس في ذلك دليل على تفضيله لأن نفقته على عياله واجبة، مع أن أرباب السير ذكروا انه لم يكن ينفق على ابيه شيئا وانه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذباب.

(١) تأتي الاشارة الى ذلك عما قريب ان شاء الله تعالى.

(٢) روى ذلك ابن جرير الطبري في تفسيره: ٢٨ / ١٤ بسنده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه ( وآله ) وسلّم حتى يتصدقوا فلم يناجه احد الاّ علي بن ابي طالبعليه‌السلام قدم دينارا صدقة تصدق به ثم انزلت الرخصة.

وذكر السيوطي في الدر المنثور في ذيل تفسير الآية المذكورة، والمتقي أيضا في كنز العمال: ١ / ٢٦٨ والمحب الطبري في الرياض النضرة: ٢ / ٢٠٠ كلهم بسندهم عن علي عليه‌السلام قال:

ان في كتاب الله لآية ما عمل بها احد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى، ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) ، كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه ( وآله ) وسلم قدمت بين يدي درهما، ثم نسخت فلم يعمل بها احد، فنزلت: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) ، الآية.

وذكر ايضا الزمخشري في الكشاف في تفسير الآية المذكورة:

انها نزلت بشأن علي عليه‌السلام وساق الحديث وكذلك الواحدي ايضا في أسباب النزول: ص ٣٠٨.

وقد أورد جماعة كثيرة حديث المناجاة نذكر منهم: النسائي في الخصائص: ٥٦ والحاكم في

٩٩

دراهم على ما رووه(١) عند صدقته المذكورة عند سورة هل أتى(٢) فإنه يشكل الحال فيه على منصور أبي عثمان.

وأما أن من أشار إليه قتل قبل الهجرة مرارا فإنه قول لا يستند إلى

__________________

مستدركه: ٢ / ٤٨١ والخازن في تفسيره: ٧ / ٤٤ وابن الاثير في جامع الاصول: ٢ / ٤٥٢ والرازي في تفسيره: ٢٩ / ٢٧١ وسبط ابن الجوزي في التذكرة: ٢١ والشافعي في كفاية الطالب: ١٢٠ والقرطبي في تفسيره: ١٧ / ٣٠٢ وابن الصباغ في الفصول المهمة: ١٠٥ والقندوزي في الينابيع: ١٠٠.

(١) ن: رواه.

(٢) ان آية( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة: ٢٧٤، هي التي نزلت في شأن تصدق المولى أمير المؤمنين -عليه‌السلام - بأربعة دراهم، وليست سورة هل أتى وان كان لها شأن نزول في حقه سلام الله عليه سيأتي تفصيل ذلك ان شاء الله تعالى فلاحظ.

وأما ما رواه القوم بشأن الآية المذكورة فهو:

اسد الغابة: ٤ / ٢٥ روى بطريقين عن مجاهد، عن ابن عباس قال: نزلت في علي بن ابي طالب - عليه‌السلام - كان عنده أربعة دراهم، فانفق بالليل واحدا، وبالنهار واحدا، وفي السر واحدا، وفي العلانية واحدا. وكذلك رواه الزمخشري في الكشاف في تفسير الآية المذكورة والسيوطي في الدر المنثور في ذيلها وابن عساكر في تاريخه: ٢ / ٤١٣ من ترجمة الامام عليه‌السلام والهيثمي في مجمع الزوائد: ٦ / ٣٢٤.

وأما المحب الطبري في الرياض النضرة: ٢ / ٢٠٦ فقد قال:

عن ابن عباس في قوله تعالى ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ ) الآية قال: نزلت في علي ابن أبي طالب عليه‌السلام ، كانت معه أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهما، وفي النهار درهما، ودرهما في السر، ودرهما في العلانية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه ( وآله ) وسلم -: ما حملك على هذا؟ فقال: ان استوجب على الله ما ( وعدني )، فقال: الا أن لك ذلك فنزلت الآية.

وذكر هذا أيضا الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية المذكورة.

وأما ابن حجر فقد روى في صواعقه: ص ٧٨، قال: وأخرج الواقدي عن ابن عباس قال: كان مع علي عليه‌السلام أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية، فنزل فيه: ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ) الآية.

وذكره ايضا الشبلنجي في نور الأبصار: ص ٧٠. والواحدي في أسباب النزول: ص ٦٤.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الآيات

( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) )

التّفسير

البحث عن رفيق السوء :

عباد الله المخلصون الذين استعرضت الآيات السابقة النعم المادية والمعنوية التي أغدقت عليهم ، كالفاكهة ، والحور ، وكأس المعين الذي يطاف به عليهم ، والسرر المتقابلة التي يجلسون عليها ، والأصدقاء الطيبين الذين يجالسونهم ويتحدّثون معهم ، وفجأة ـ خلال جلسات سمرهم في الجنّة ـ يتذكّرون أصدقائهم

٣٢١

في الدنيا ، أصدقائهم الذين انفصلوا عنهم في الطريق ، ولم يجدوا لهم أي أثر في الجنّة ، فيسعون إلى معرفة مصيرهم.

نعم ، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بالحديث والسؤال عن أحوال بعضهم البعض ،( فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) .

فجأة خطر في ذهن أحدهم أمر ، فالتفت إلى أصحابه قائلا : لقد كان لي صديق في الدنيا( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ) .

ومع الأسف ، فإنّه انحرف عن الطريق الصحيح ، وصار منكرا ليوم البعث ، وكان دائما يقول لي : هل تصدّق هذا الكلام وتعتقد به؟( يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) .

هل أنّنا إذا متنا وكنا ترابا وعظاما نحيا مرّة اخرى ، لنساق إلى الحساب ، والجزاء على ما اقترفناه من أعمال؟ إنّ هذا ممّا لا ينبغي أن يصدق :( أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ) (١) .

وهنا يخاطب من كان يتحدّث معهم من أهل الجنّة ، بالقول : ليتني أعرف أين هو الآن؟ وفي أيّة ظروف يعيش؟ فمكانه خال بيننا

ويضيف : أيّها الأصدقاء ، هل تستطيعون البحث عنه ، ومعرفة حاله ،( قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ) (٢) .

وأثناء بحثه عن قرينه وصديقه ينظر إلى جهنّم ، ويرى فجأة صديقه وسط جهنّم( فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ) (٣) .

فيخاطبه قائلا : أقسم بالله لقد كدت أن تهلكني وتسقطني فيما سقطت فيه( قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) (٤) .

__________________

(١) (مدينون) من مادّة (دين) وتعني الجزاء ، وهنا تعني : هل أنّنا سنجزى.

(٢) (مطّلعون) من مادّة (اطّلاع) وتعني التفتيش والبحث ، والإشراف على شيء من مكان عال ، وأخذ المعلومات.

(٣) (سواء) تعني الوسط.

(٤) (تردين) من مادّة (إرداء) وتعني السقوط من مكان عال ، وهلاك الساقط.

٣٢٢

لقد أو شكت أن تؤثّر على صفاء قلبي بوساوسك ، وأن تزجّ بي في الخطّ المنحرف الذي كنت فيه ، فلو لا لطف الله الذي منعني من ذلك ونعمته التي سارعت لمساعدتي ، لكنت اليوم من المحضرين للعذاب مثلك في نار جهنّم( وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) .

فالتوفيق الإلهي كان رفيق دربي ، ولطف هدايته كان الموجّه لي.

وهنا يلقي نظرة اخرى إلى صديقه في جهنّم ، ويقول له موبّخا إيّاه : ألم تكن أنت القائل لي في الدنيا بأنّنا لا نموت( أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ) سوى مرّة واحدة في الدنيا ، وبعدها لا حياة اخرى ولا عذاب( إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) .

الآن انظر ولاحظ الخطأ الكبير الذي وقعت فيه! فبعد الموت كانت هذه الحياة وهكذا ثواب وعقاب ، والآن توضّحت لك كافة الحقائق ، ولكن ما الفائدة فليس هناك طريق للعودة.

طبقا لتفسير الآيتين الأخيرتين ، فإنّ حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم ، كان مركزا على تذكيره بإنكاره للمعاد في الحياة الدنيا.

لكن بعض المفسّرين يحتملون وجود تفسير آخر للآيتين المذكورتين ، وهو أنّه بعد انتهاء حديث الذي هو في الجنّة مع صديقه الذي في جهنّم ، يعود إلى أصحابه في الجنّة للتسامر فيما بينهم ، فيقول أحدهم من شدّة الفرح : أحقّا أنّنا لن نموت مرّة اخرى؟ وأنّنا سنعيش هنا خالدين؟ وهل أنّه بعد الموت الأوّل لا يوجد موت آخر ، وتبقى هذه النعم الإلهيّة معنا ، وما نحن بمعذّبين؟

بالطبع هذا الكلام ليس مصدره الشكّ والتردّد ، إنّما هو نتيجة شدّة الفرح والسرور ، فمثلهم كمثل الإنسان الذي يحصل بعد مدّة من الأمل والانتظار على بيت واسع وفخم ، فيقول وهو متعجّب : كلّ هذا لي؟ يا ربّي! ما هذه النعمة! وهل ستبقي عندي؟

على كلّ حال ، هنا اختتم الحديث بجملة عميقة المعاني وحسّاسة ومؤثّرة جدّا ،

٣٢٣

ومؤكّدة بأنواع التأكيدات( إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

ما أعظم هذا الفوز الذي يغرق فيه الإنسان بنعمة الخلود والحياة الأبدية ، وتشمله الألطاف الإلهية؟ وماذا يتصوّر أفضل وأعظم من ذلك؟

ثمّ يقول تبارك وتعالى في ختام البحث جملة واحدة قصيرة توقظ القلوب وتهزّ الأعماق ،( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) أي لمثل هذا فليعمل الناس ، ومن أجل نيل هذه النعم فليسع الساعون.

بعض المفسّرون يحتملون في كون الآية الأخيرة أنّها من كلام أصحاب الجنّة ، وهذا الاحتمال مستبعد جدّا ، لأنّ الإنسان في ذلك اليوم غير مكلّف ، وبعبارة اخرى لا يوجد أي تكليف في ذلك اليوم حتّى يستنتج من الكلام أنّه تشجيع للآخرين ، في الوقت الذي يوضّح فيه ظاهر الآية إنّها استنتاج للآيات السابقة ، وأنّها تدفع الناس إلى الإيمان والتوجّه إلى العمل ، لذا كان من المناسب أن يورد الباريعزوجل هذا الحديث في نهاية هذا البحث.

* * *

بحوث

١ ـ الرابطة بين أهل الجنّة وأهل النار

يستشف من الآيات المذكورة أعلاه ، وجود نوع من الرابطة بين أهل الجنّة وأهل النار ، فكأنّ أهل الجنّة ـ الذين هم في مرتبة عليا ـ يرون أهل النار ـ الذين هم في الأسفل ـ [وقد استفيد هنا من عبارة (فاطّلع) والتي تعني الإشراف من الأعلى على الأسفل].

وبالطبع فإنّ هذا ليس بدليل على كون الفاصل الموجود بين الجنّة والنار قليلا ، فلربّما يمنحون قوّة نظر خارقة تغدو أمامها قضيّة المكان والفاصل معدومة.

٣٢٤

وقد جاء في كلمات بعض المفسّرين أنّ للجنّة كوة ينظر منها أهل الجنّة إلى أهل النار.

وآيات سورة الأعراف توضّح بصورة جيّدة الرابطة الموجودة بين الفريقين( وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ،(١) كما يمكن الاستفادة من الآية (٤٦) في سورة الأعراف بهذا الشأن( وَبَيْنَهُما حِجابٌ ) أي أنّ هناك حجاب بين أهل الجنّة وأهل النار.

وكلمة (نادى) يستخدمها ـ بصورة طبيعية ـ المتكلّم عند بعد ، وتوضّح في الآية مكان ومرتبة الفريقين.

على أيّة حال ، وكما ذكرنا عدّة مرّات ، فإنّ أوضاع وأحوال يوم القيامة تختلف كثيرا عن أوضاع عالمنا الحالي ، ونحن لا نستطيع تقييم الأوضاع هناك وفق معايير عالمنا.

٢ ـ بحقّ من نزلت هذه الآيات

بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ سبب نزول الآيات المذكورة أعلاه هو ما ورد في سورة الكهف كمثال ،( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ). (٢)

وقد جاء في هذه الآيات أنّ أحد الشخصين كان متكبّرا ومغرورا جدّا ، إضافة إلى أنّه كان ينكر المعاد ، والآخر كان مؤمن يعتقد بالقيامة ، وفيما بعد نزل العذاب الإلهي على الشخص المغرور الكافر وهو في هذه الدنيا ، إذ فقد ثروته وأحاط به

__________________

(١) الأعراف ، ٤٤.

(٢) سورة الكهف ، الآيات ٣٢ إلى ٤٣.

٣٢٥

البلاء من كلّ جانب(١) .

لكن سياق آيات بحثنا هذا يختلف مع ما هي عليه آيات سورة الكهف ، ويبيّن وجود فارق بين الحادثتين.

ويرى البعض الآخر : إنّها تخصّ شخصين شريكين أو صديقين كانا يمتلكان ثروة كبيرة ، أحدهما كان ينفق بسخاء في سبيل الله ، أمّا الثاني الذي كان لا يؤمن بشيء ـ فقد امتنع عن الإنفاق ، وبعد مدّة من الزمن أصيب المنفق بفاقة مالية ، وتعرّض لاستهزاء صديقه ، والذي قال له بلغة السخرية ،( أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ) (٢) .

فإن كانت أسباب النّزول تخصّ هذه الحادثة ، إذا علينا قراءة كلمة (مصدّقين) بتشديد (الصاد) والتي تعني هنا دفع الصدقة والإنفاق.

في حين أنّ المشهور بين القرّاء قراءة كلمة (مصدّقين) بدون تشديد (الصاد) وعلى هذا فإنّ سبب النّزول الآنف الذكر لا يتلاءم والقراءة المشهورة.

٣ ـ لنيل مثل هذه النعم علينا المثابرة

هل من الصحيح أن يصرف الإنسان رأس مال عمره والقابليات الاخرى والعطايا الإلهية في موارد هي كالفقاعات التي لا تدوم سوى لحظات فوق الماء؟ متاع بخس غير دائم ، متاع مليء بالآفات والمشاكل!!.

أو يستثمر هذه القوى العظيمة في مجال يؤدّي إلى حياة خالدة ونعم دائمة ، ومرضاة الله سبحانه وتعالى؟

فما أجمل التعبير الذي صاغته الآيات القرآنية المذكورة أعلاه ، عند ما دعت المؤمنين إلى هذا الهدف ، أي نيل الجنان المملوءة بالملذّات الروحية والجسمية ـ

__________________

(١) تفسير فخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ١٣٩.

(٢) روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٨٣.

٣٢٦

التي تشمل الشراب الطاهر الذي يغرق الإنسان في الظلّ الملكوتي ، والقرناء والأصدقاء الطيبين ذوي القلوب الصافية الذين تزيل مجالستهم كلّ أشكال الغمّ. وليس فيها همّ ولا غمّ ولا مشكلة.

نعم فمن يريد أن يكسب الجنان فعليه أن يسعى ويعمل.

* * *

٣٢٧

الآيات

( أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) )

التّفسير

جوانب من العذاب الأليم لأهل النار :

بعد توضيح النعم الكثيرة والخالدة التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة ، تستعرض الآيات أعلاه العذاب الأليم والمثير للأحزان الذي أعدّه الله لأهل جهنّم ، وتقارنه مع النعم المذكورة سابقا ، بحيث تترك أثرا عميقا في النفوس يردعها عن ارتكاب الأعمال السيّئة والمحرّمة.

ففي البداية تقول :( أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) .

٣٢٨

كلمة (نزل) تعني الشيء الذي يهيّأ لورود الضيف فيقدّم إليه إذا ورد ، والبعض الآخر قال : إنّها تعني الشيء الأوّل الذي يقدّم للضيف حين وروده ، وهذه إشارة إلى النعم المهيئة لورود الضيوف الأعزّاء والمحترمين إلى الجنّة.

والقرآن الكريم يقول : أذلك خير أم شجرة الزقوم؟ ولفظة (خير) ليست دليلا على أنّ شجرة الزقّوم شيء جيّد ، والنعم التي أعدّها الله سبحانه وتعالى لأهل الجنّة أجود ، إذ أنّ مثل هذه الألفاظ تستخدم أحيانا في لغة العرب بشأن بعض الأشياء التي لا فائدة فيها أبدا ، ويحتمل بأنّها نوع من الكناية ، ومثلها كمثل شخص غارق بالذنوب وقد فضح أمام الناس ، وهم يقولون له : هل هذه الفضيحة خير ، أم الفخر والعزّة والشرف؟

وأمّا «زقّوم» فقد قال أهل اللغة : إنّه اسم نبات مرّ وذي طعم ورائحة كريهة(١) .

فيما قال بعض المفسّرين : إنّه اسم نبات يحمل أوراقا صغيرة مرّة وكريهة الرائحة وهو موجود في أرض تهامة ، وكان يعرفه المشركون(٢) . وأضاف صاحب تفسير (روح المعاني) أنّ لهذا النبات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورّم(٣) .

وقال الراغب في (مفرداته) : الزقوم هو كلّ غذاء يثير اشمئزاز أهل جهنم.

وقال صاحب كتاب (لسان العرب) : هذا اللفظ يأتي أساسا بمعنى بلع الشيء ، ويضيف : عند ما نزلت هذه الآية قال أبو جهل ، لا توجد مثل هذه الشجرة في أرضنا ، فمن منكم يعرف معنى زقّوم؟

وهنا أجابه شخص من أفريقيا قائلا : الزقّوم بلغة أهل أفريقيا تعني الزبد والتمر ، وفور ما سمع أبو جهل بجواب الأفريقي ، نادى جاريته ، وقال لها باستهزاء : زقمّينا بمقدار من التمر والزبد. فكانوا يأكلون ويسخرون ويقولون : إنّ محمّد يخوّفنا من

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادّة (زقم).

(٢) تفسير روح المعاني ، المجلّد ٧ ، الصفحة ٤٦٤.

(٣) روح المعاني ، المجلّد ٢٣ ، الصفحة ٨٥.

٣٢٩

هذا في الآخرة ، فنزلت آيات قرآنية قاطعة وحازمة تردّ على أبي جهل وبقيّة المشركين سنتطرّق إليها فيما بعد.

على كلّ حال فإنّ كلمة (شجرة) لا تأتي دائما بمعناها المعروف ، وإنّما تعني في بعض الأحيان (النبات) والقرائن هنا تشير إلى أنّ المراد من الشجرة هو المعنى الثاني أي (النبات).

ثمّ يستعرض القرآن الكريم بعض خصائص هذه النبتة ، ويقول :( إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ) .

ولفظة (فتنة) تعني المحنّة والعذاب ، كما تعني الامتحان ، وغالبا ما جاء هذا المعنى في موارد متعدّدة من سور القرآن المجيد ، وهو إشارة إلى أنّ المشركين عند ما سمعوا كلمة (الزقّوم) عمدوا إلى السخرية والاستهزاء ، فيما كان هذا الأمر امتحانا لأولئك الطغاة.

ويضيف القرآن الحكيم( إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) .

ولكن الظالمين المغرورين يواصلون استهزاءهم ، ويقولون : كيف يمكن لنبات أو شجرة ينبت في قعر جهنّم؟ فأين النار وأين الشجر والنبات؟ وتبعا لذلك فإنّ سماع اسم هذا النبات وأوصافه هو اختبار دنيوي لهم ، وسيكون سببا لعذابهم ومحنتهم في الآخرة.

وكأنّهم كانوا غافلين عن أنّ الأصول التي تحكم في ذلك العالم ـ أي الآخرة ـ تختلف كثيرا عن الأصول الحاكمة في العالم الدنيوي ، فالأشجار والنباتات التي تنبت في قعر جهنّم ، وتنمو في ذلك الظرف ويكون لونها بلون النار ، ليست كالأشجار والنباتات النابتة في حدائق وبساتين هذا العالم ، ويحتمل عدم جهلهم بهذا الأمر ، بل هدفهم الاستهزاء والسخرية فقط.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ ) .

(الطلع) يقال لأوّل ما يبدو من حمل النخلة ، وله قشر أخضر اللون ، وفي داخله

٣٣٠

فروع بيضاء اللون تتحوّل فيما بعد إلى عنقود يحمل التمر.

وكلمة (طلع) من مادّة (طلوع) وبهذه المناسبة أطلق على الثمر في أوّل ظهوره.

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أنّ الناس شاهدوا رؤوس الشياطين حتّى يشبّه القرآن ثمار الزقّوم بها؟

المفسّرون أعطوا أجوبة متعدّدة لهذا السؤال :

فقال البعض : إنّ إحدى معاني كلمة (الشيطان) هي حيّة كريهة المنظر ، شبّهت بها ثمار الزقّوم.

وذهب البعض الآخر إلى أنّه نوع من النبات ذو شكل قبيح ، كما جاء في كتاب (منتهى الارب) أنّ (رأس الشيطان) أو (رؤوس الشياطين) نبات.

إلّا أنّ الرأي الأصحّ ، هو أنّ التشبيه هنا استخدم لبيان شدّة قباحة ثمار الزقّوم وشكلها الباعث على النفور والاشمئزاز ، لأنّ الإنسان عند ما يشمئز من شيء ترتسم صورة ذلك الشيء في مخيلته بشكل قبيح ورهيب ، فيما ترتسم صورة الشيء المحبوب بشكل جميل ووديع في مخيلته.

لهذا فإنّ الناس يرسمون صورة الملائكة بشكل جميل ، فيما يرسمون صورة الشياطين والعفاريت بأقبح صورة ، في الوقت الذي لم ير أحد منهم الملائكة ولا الشياطين. كما يشاهد استخدام هذا الأمر كثيرا في المصطلحات اليومية ، عند ما يقال : الشخص الفلاني كالعفريت ، أو انّه يشبه الشيطان.

هذه كلّها تشبيهات مبنية على أساس الانعكاسات الذهنية للناس عن مفاهيم مختلفة ، وهي تشبيهات لطيفة وحيّة.

ويواصل القرآن الكريم استعراض العذاب الذي سينال المشركين والكافرين ،( فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) (١) .

__________________

(١) ضمير (منها) يعود للشجرة ، وهذا بذاته قرينة على أنّ المقصود من الشجرة هنا النبات وليس الشجرة ، لأنّ النبات يؤكّل لا الشجرة.

٣٣١

هذا هو العذاب والفتنة الذي أشرنا إليه في الآيات السابقة ، حيث إنّ أكل هذا النبات الذي ينبت في جهنّم ذو الرائحة الكريهة والطعم المرّ واللبن الذي يورم ويحرق الأبدان فور ما يصيبها ، وتناوله ـ وبكميّات كبيرة ـ يعدّ عذابا أليما.

ومن البديهي ، فإنّ من يتناول هذا الطعام السيء الطعم والمرّ ، يصيبه العطش ، ولكن حينما يشعر بالعطش ماذا يشرب؟ القرآن يجيب على هذا السؤال بالقول :( ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ) .

«الشوب» هو الشيء المخلوط أو الممزوج مع شيء آخر. و (حميم) هو الماء الحار البالغ في حرارته ، وطبقا لذلك فإنّ حتّى الماء الحار الذي يشربه أولئك الظالمون غير نقي ، بل ملوّث.

وهذا هو غذاء أهل جهنّم ، وهذا هو شرابهم ، وبعد هذه الضيافة إلى أين يذهبون ، فيجيب القرآن على هذا السؤال أيضا بالقول :( ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ) .

بعض المفسّرين فسّروا هذه العبارة على أنّ الماء الحار الملوّث ينبع من عين خارج جهنّم ، وأنّ أهل جهنّم يساقون كما تساق البهائم إلى الأماكن المخصّصة لشرب الماء ، وبعد تناولهم الماء يرجعون إلى الجحيم.

فيما ذهب البعض الآخر إلى القول بأنّه إشارة إلى وجود أماكن ومواقف مختلفة في جهنّم ، ينقل إليها الظالمون والمجرمون ليشربوا منها الماء الحار ، ويرجعون بعد ذلك إلى المكان الذي كانوا فيه سابقا.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يعدّ أنسب.

وكما أشرنا آنفا ، فإنّه لا يمكن تصوّر النعم التي يغدقها الله سبحانه وتعالى على أهل الجنّة ، كما أنّه لا يمكن تصوّر العذاب الذي ينال أهل جهنّم ، بل إنّها تخيّلات ـ وحسب ـ تتراءى أمام أعيننا من خلال عبارات قصار (اللهمّ أعذنا بلطفك واحفظنا من العذاب).

٣٣٢

الآية الأخيرة في بحثنا تناولت السبب الرئيسي الذي أدّى إلى دخول أولئك إلى جهنّم ونيلهم العذاب الأليم والشديد هناك ، تناولته في آيتين قصيرتين مليئتين بالمعاني والحقائق( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ) .

وإنّهم كانوا يسرعون على آثارهم ومن دون أي إرادة( فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ ) .

والملاحظ هنا أنّ لفظة (يهرعون) جاءت بصيغة المبني للمجهول ، وهي من مادّة (هرع) أي أسرع ، وهي إشارة إلى أنّهم كانوا يقلّدون آباءهم قلبا ودينا وإنّهم كانوا يحثّون الخطى على آثارهم إلى درجة كأنّهم يسارعون في ذلك من دون أي إرادة وإختيار ، وإشارة اخرى إلى تعصّبهم وتمسّكهم بالخرافات التي كان أجدادهم الضالّون يعتقدون بها.

* * *

٣٣٣

الآيات

( وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) )

التّفسير

الأمم الضالّة السابقة :

بما أنّ المسائل السابقة المتعلّقة بالمجرمين والضالّين لا تختّص بزمان ومكان معينين ، فالقرآن يتوسّع في الآيات التي تبحث بشكل مفصّل عن هذه المسائل ، ويهيء الأرضية في عدّة آيات قصيرة ومختصرة لشرح امور كثيرة عن الأمم السابقة ، والتي بالاطلاع عليها تكون أدلّة ناطقة للبحوث السابقة. ومن تلك الأمم أقوام نوح وإبراهيم وموسى وهارون ولوط ويونس وغيرهم ، إذ يقول :( وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ) .

فمشركو مكّة ليسوا هم الوحيدين الذين ابتلوا بالضلال نتيجة سيرهم على نهج أجدادهم الأوّلين ، وإنّما ابتليت قبلهم الكثير من الأمم السابقة بنفس المصير.

والتذكير بهذا الأمر إنّما جاء لتسلية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والثلّة من أصحابه

٣٣٤

المؤمنين الذين كانوا في مكّة ـ آنذاك ـ محاصرين من قبل العدو من كلّ الجوانب.

ثمّ يضيف القرآن المجيد أنّ ضلالتهم لم تكن بسبب افتقادهم القائد وعدم موعظتهم( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ) .

إذا أنّنا أرسلنا إليهم أنبياء لإنذارهم من خطر الشرك بالله والكفر به ، والظلم والاعتداء ، وتقليد الآخرين بصورة عمياء ، ولاطلاعهم على مسئولياتهم.

صحيح أنّ الرسل يحملون في يد رسالة الإنذار ، وفي الاخرى رسالة البشارة ، لكن الإنذار يشغل الجزء الأكبر من مواعظهم ونصائحهم ، خاصّة بالنسبة لمثل تلك الأمم الضالّة والعاصية ، ولهذا أكّد عليه هنا.

ثمّ يقول في عبارة قصيرة ذات معان عميقة( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) .

المخاطب في لفظة (فانظر) من الممكن أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أي شخص عاقل يقظ. وفي الحقيقة إنّ هذه الآية المباركة تشير إلى نهاية أقوام سنستعرض أحوالها وأوضاعها بصورة مفصّلة في الآيات القادمة.

أمّا آخر آية في بحثنا فإنّها تستثني جماعة من العذاب الإلهي( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) .

الملاحظ أنّ هذه الآية تشير إلى عاقبة هذه الأمم ، وتدعو إلى التمعن في العذاب الأليم الذي ابتلوا به ، والذي أهلكهم وأبادهم جميعا ما عدا عباد الله المؤمنين والمخلصين الذين نجوا من هذا العذاب(١) .

وجدير بالذكر أنّ كلمة (المخلصين) ـ بفتح اللام ـ كرّرت خمس مرّات ، وهذا بيان لعلو منزلتهم ومرتبتهم ، وكما أشرنا سابقا فإنّ عباد الله المخلصين هم الصفوة التي تسلّحت بالعلم والإيمان ، وانتصرت على النفس بعد مجاهدتها ، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه وأزال عنهم الشوائب ليجعلهم خالصين ، ولهذا فإنّهم يمتلكون

__________________

(١) هذه الجملة استثناء من محذوف يفهم من المذكور ، تقديره هكذا : فانظر كيف كان عاقبة المنذرين فإنّا أهلكناهم جميعا إلّا عباد الله المخلصين.

٣٣٥

الحصانة الكاملة تجاه الانحرافات والزلل.

والشيطان عاجز وآيس من النفوذ إلى داخلهم ، إذ قطع عليه الطريق المؤدّي إليهم منذ اليوم الأوّل ، واعترف هو بعجزه هذا.

كذلك فإنّ فتن المجتمع الذي يعيشون فيه ووساوس الغاوين ، إضافة إلى وجود المتّبعين لنهج آبائهم وأجدادهم الأوّلين ، والثقافة الخاطئة والطاغوتية ، لا تؤثّر أبدا على عباد الله المخلصين ولا تحرفهم عن مسيرتهم.

حقيقة الأمر ، أنّ هذه الآية هي خطاب اطمئنان لمؤمني مكّة المقاومين والصامدين في ذلك الوقت ، وإنّها دعوة لمسلمي عالم اليوم المليء بالفتن ، تدعوهم إلى الانفصال عن صفوف أعداء الله والانضمام إلى عباد الله المخلصين.

* * *

٣٣٦

الآيات

( وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) )

التّفسير

مقتطفات من قصّة نوح :

من هنا يبدأ سرد قصص تسعة أنبياء من أنبياء الله الكبار ، والذين كانت الآيات السابقة قد تطرّقت إليهم بصورة خفيّة ، وتشرع الآيات بنوح شيخ الأنبياء وأوّل اولي العزم من الرسل.

بدأ البحث بالإشارة إلى دعاء نوح الشديد على قومه بعد أن يئس من هدايتهم( وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) (١) .

__________________

(١) (مجيبون) جاءت بصيغة الجمع في حين أنّ المقصود منها الله سبحانه وتعالى والذي استجاب لدعاء نوح ، هذا بسبب أنّ صيغة الجمع تأتي أحيانا للتعظيم ، كما أنّ ضمير جمع المتكلّم في (نادانا) لذلك الغرض أيضا.

٣٣٧

هذا الدعاء يمكن أن يكون إشارة إلى الدعاء الذي ورد في سورة نوح( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) .(١)

أو إشارة إلى الدعاء الذي دعا به الله أثناء صعوده السفينة( رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) .(٢)

أو أنّه إشارة إلى الدعاء الذي جاء في الآية ١٠ من سورة القمر :( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) .

وبالطبع فإنّه ليس هناك أي مانع من أن تكون الآية تشير إلى كلّ هذه الأدعية ، وإنّ الله سبحانه وتعالى استجابها بأحسن وجه.

ولذا فإنّ الله سبحانه وتعالى يجيبه في الآية التي تليها بالقول :( وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) (٣) .

فما هو هذا الغمّ الذي وصفته الآية المباركة بأنّه غمّ كبير آلم نوحا بشدّة؟

يمكن أن يكون ذلك الغمّ نتيجة استهزاء قومه الكافرين المغرورين به ، وتجريحهم إيّاه بكلمات نابية وساخرة تستهدف إهانته وأتباعه المؤمنين ، أو نتيجة تكذيب قومه اللجوجين إيّاه ، إذ كانوا يقولون له أحيانا :( وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) .(٤)

وأحيانا اخرى يقولون له :( يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .(٥)

__________________

(١) سورة نوح ، الآيات ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة المؤمنون ، الآية ٢٩.

(٣) (كرب) طبق قول الراغب في مفرداته هي : الغم الشديد ، ووصفه هنا بالعظيم للتأكيد أكثر على هذا المعنى.

(٤) سورة هود ، الآية ٢٧.

(٥) سورة هود ، الآية ٣٢.

٣٣٨

أو يسخرون منه( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ) .(١) وقد وصل إزعاجهم لنبي الله نوح ـ المعروف بصبره الكبير ـ وإساءتهم الأدب اتّجاهه واتّهامه بالجنون إلى درجة لا تطاق ، بحيث دعا نوح ربّه بالقول :( رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ ) .(٢)

وعلى أيّة حال ، فإنّ مجموع هذه الحوادث السيّئة وأذاهم له كان يحزّ في قلبه الطاهر بشدّة حتّى لحظة وقوع الطوفان ، إذ أنقذه الله سبحانه وتعالى من قبضة قومه الطغاة ، وأزال عنه الكرب العظيم والغمّ الشديد.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من( الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) هو الطوفان الذي لم ينج منه سوى نوح وأتباعه المؤمنين ، ولكن هذا المعنى مستبعد.

ويضيف القرآن الكريم( وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) .

أحقّا أنّ كلّ بني الإنسان الذين يعيشون اليوم على ظهر الكرة الأرضية هم من ذريّة نوح؟ الآية المذكورة أعلاه تصرّح بذلك

أم المقصود هو أنّ مجموعة كبيرة من الأنبياء والأولياء والصالحين هم من ذريته ، وليس كلّ الناس؟ بهذا الشأن لدينا بحث ، سنتطرّق إليه بعون الله.

وإضافة إلى ذلك يقول القرآن : أنّنا جعلنا لنوح ثناء وذكرا جميلا في الأجيال والأمم اللاحقة :( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) .

فقد وصفه القرآن المجيد بالنّبي المقاوم والشجاع والصبور والرحيم والعطوف ، وأطلق عليه لقب شيخ الأنبياء. وتاريخه اسطورة للمقاومة والثبات ، كما يمكن أن يستلهم سالكو طريق الحقّ من برامجه عبرا ودروسا تمكّنهم من اجتياز العراقيل التي يضعها الأعداء والجهلة أمامهم.

فبعد تحمّله كافّة الصعاب والآلام ، منحه الله سبحانه وتعالى وساما خالدا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ٣٨.

(٢) سورة مؤمنون ، الآية ٢٦.

٣٣٩

يفتخر به في العالمين( سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) .

نعم ، فهل هناك فخر أكبر من هذا ، وهو أنّ الله يبعث بالسلام والتحيّات لنبيّه نوح ، السلام الذي سيبقى يهدى إليه من قبل الأمم الإنسانية لحين قيام الساعة ، والملفت للنظر أنّه من النادر أن يوجد في القرآن سلام بهذه السعة على أحد ، خاصّة وأنّ المراد بالعالمين جميعها لكونه جمعا محلّى بالألف واللام (مفيدا للعموم) فيتّسع المعنى ليشمل عوالم البشر وأممهم وجماعاتهم إلى يوم القيامة ويتعدّاهم إلى عوالم الملائكة والملكوتين.

ولكي تكون خصوصيات نوحعليه‌السلام مصدر إشعاع للآخرين ، أضاف القرآن الكريم( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) . و( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .

في الحقيقة ، إنّ درجة عبودية نوح لله وإيمانه به ـ إضافة إلى إحسانه وعمله الصالح الذي ذكرته الآيتان الأخيرتان ـ كانت السبب الرئيسي وراء اللطف الإلهي الذي شمل نوحا وأنقذه من الغمّ الكبير ، وبعث إليه بالسلام ، السلام الذي يمكن أن يشمل كلّ من عمل بما عمل به نوح ، لأنّ معايير الألطاف الإلهيّة لا تتخلّف ، ولا تختّص بشخص دون آخر.

أمّا الآية الأخيرة في بحثنا فقد وضّحت بعبارة قصيرة شديدة اللهجة مصير تلك الامّة الظالمة الشريرة الحاقدة( ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) .

إذ انهمر المطر سيلا من السماء ، وتفجّرت الأرض عيونا ، وغطّت المياه اليابسة كبحر هائج دكّ بأمواجه المتلاطمة الشامخة عروش الطغاة ودمّرها ، لافظا إيّاهم بعدئذ أجسادا هامدة لا حياة فيها ولا روح.

والذي يلفت النظر أنّ الله سبحانه وتعالى استعرض ألطافه على نوح في عدّة آيات ، فيما بيّن عذابه لقوم نوح العاصين في عبارة واحدة قصيرة يرافقها التحقير وعدم الاهتمام بهم ، لأنّ حالة نصر المؤمنين وعزّتهم وتأييد الباري سبحانه لهم جديرة بالتوضيح ، وبيان حال المعاندين والعاصين لا يجدر بالاهتمام والاعتناء.

* * *

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581