الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175532 / تحميل: 6521
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

من لحم وعظم وعصب، واللحم والعظم والعصب جسم مخصوص وصفات مخصوصة، أعني بالجسم عبارة عن مقدار له طول وعرض وعمق يمنع غيره من أن يوجد بحيث هو إلا بأن يتنحى عن ذلك المكان. وقد يستعار هذا اللفظ أعني اليد لمعنى آخر ليس ذلك المعنى بجسم أصلاً كما يقال البلدة في يد الأمير فإن ذلك مفهوم وإن كان الأمير مقطوع اليد مثلاً.

فعلى العامي وغير العامي أن يتحقق قطعاً ويقيناً أن الرسولعليه‌السلام لم يرد بذلك جسماً هو عضو مركب من لحم ودم وعظم وأن ذلك في حق الله تعالى محال وهو عنه مقدس، فإن خطر بباله أن الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم! فإن كل جسم فهو مخلوق وعبادة المخلوق كفر وعبادة الصنم كان كفراً لأنه مخلوق وكان مخلوقاً لأنه جسم، فمن عبد جسماً فهو كافر بإجماع الأئمة، السلف منهم والخلف، سواء كان ذلك الجسم كثيفاً كالجبال الصم الصلاب أو لطيفاً كالهواء والماء، وسواء كان مظلماً كالأرض أو مشرقاً كالشمس والقمر والكواكب، أو مشفاً لا لون له كالهواء، أو عظيماً كالعرش والكرسي والسماء، أو صغيراً كالذرة والهباء، أو جماداً كالحجارة، أو حيواناً كالإنسان.

فالجسم صنم، فبأن يقدر حسنه وجماله أو عظمه أو صغره أو صلابته وبقاؤه لا يخرج عن كونه صنماً.

ومن نفى الجسمية عنه وعن يده وإصبعه، فقد نفى العضوية واللحم والعصب وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث ليعتقد بعده أنه عبارة عن معنى من المعاني ليس بجسم ولا عرض في جسم يليق ذلك المعنى بالله تعالى، فإن كان لا يدري ذلك المعنى ولا يفهم كنه حقيقته فليس عليه في ذلك تكليف أصلاً، فمعرفة تأويله ومعناه ليس بواجب عليه، بل واجب عليه أن لا يخوض فيه. انتهى. وبذلك وافق الغزالي ورشيد رضا مذهبنا ومذهب المتأولين، وخالف المفوضة وأهل الظاهر!

٦١

وكل علماء السنّة حتى المجسّمة يصيرون متأوّلة عند الحاجة

كل المجسمة من الأشاعرة والحنابلة والوهابيين الذين حرموا التأويل، وأنكروا وجود المجاز في القرآن، وأوجبوا حمل ألفاظه وألفاظ أحاديث الصفات على معانيها الظاهرة الحقيقية، بل حتى أولئك الذين حكموا بأن المتأولة أهل ضلالة وبدعة وكفر وحذروا منهم.. كلهم يصيرون متأولة من الدرجة الأولى عندما يقعون في مأزق الآيات والأحاديث التي تخالف مذهبهم وتنفي إمكان الرؤية بالعين والتشبيه والتجسيم كقوله تعالى:لا تدركه الأبصار ...ليس كمثله شيء ...لا يحيطون به علماً ...لن تراني .. إلخ.

وهكذا نجد أن إخواننا الذين نبزونا بألفاظ (متاولة، متوالي، بني متوال) يقومون هم بتأويل جميع الآيات والأحاديث المخالفة لمذهبهم جهاراً نهاراً، وجوباً قربة إلى الله تعالى، من أجل الدفاع عن أحاديث الرؤية بالعين وظاهر الآيات المتشابهة فيها!

وهكذا يسقط منهجهم العلمي بتحريمهم التأويل في بعض الآيات والأحاديث وتحليله في بعضها! وكان الأولى بهم أن لا يلقوا أنفسهم في هذا المأزق ويتأولوا الآيات التي يوهم ظاهرها الرؤية من أول الأمر من أجل الجمع المنطقي بينها وبين الآيات النافية للرؤية.

وإذا سألتهم: لماذا أوجبتم الأخذ بظاهر هذه المجموعة من الآيات والأحاديث وحرمتم تأويلها، وأوجبتم تأويل تلك المجموعة وحرمتم الأخذ بظاهرها! فليس عندهم جواب، إلا أنهم أرادوا المحافظة على ظواهر آيات الرؤية بالعين وأحاديث الآحاد، مهما كلفهم ذلك من تناقض في المنهج العلمي، فالمهم عندهم أن لا تنخدش روايات الرؤية بالعين عن كعب الأحبار ومن قلده من الخلفاء!

٦٢

- قال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص ١٤٨

ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر في الفتح ١٣ - ٤٣٢: فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها. انتهى.

وقد تبنى ابن تيمية والوهابيون هذا الحل (الشرعي) فحكموا بوجوب تصديق هذه الروايات وتحريم تأويلها حتى لو أدت إلى التجسيم، ثم هجموا على روايات التنزيه ونفي التجسيم بمعول التأويل!

- وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص ١٥٦ - ١٥٩

وقد نقل الحافظ ابن جرير في تفسيره ٢٧ - ٧ تأويل لفظة (أيد) الواردة في قوله تعالى:وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ، بالقوة أيضاً عن جماعة من أئمة السلف منهم: مجاهد وقتادة ومنصور وابن زيد وسفيان... ومما يجدر التنبيه عليه هنا ولا يجوز إغفاله أن هؤلاء القوم الذين يحاربون التأويل ويزعمون أنه ضلال وبدعة وتحريف للقرآن والسنة هم أنفسهم يؤولون ما لا يوافق آراءهم من نصوص الكتاب والسنة في مسائل الصفات! فنراهم يؤولون مثل قوله تعالى: وهو معكم وقوله تعالى: ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، وقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، وقوله تعالى: إنني معكما أسمع وأرى، وقوله تعالى:وهو معكم ، إلى غير ذلك من نصوص واضحة!

فإذا كان هذا قرآن وذاك قرآن فما الذي أوجب اعتقاد ظاهر هذا دون ظاهر ذاك وكله قرآن! ولماذا جوزوا تأويل ظاهر هذا دون ذلك!

... روى الخلال بسنده عن حنبل عن عمه الإمام أحمد بن حنبل أنه سمعه يقول: احتجوا عليّ يوم المناظرة فقالوا: تجيء يوم القيامة سورة البقرة... الحديث قال فقلت لهم: إنما هو الثواب. اهـ. فتأمل في هذا التأويل الصريح... نقل الحافظ

٦٣

البيهقي في الأسماء والصفات ص ٤٧٠ عن البخاري أنه قال: معنى الضحك: الرحمة اهـ. وقال الحافظ البيهقي ص ٢٩٨: روى الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: معنى الضحك فيه - أي الحديث - الرحمة اه- فتأمل. وقد نقل هذا التأويل أيضاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري ٦ - ٤٠.

- وقال التلمساني في نفح الطيب ج ٨ ص ٣٤

حكاية أبي بكر بن الطيب مع رؤساء بعض المعتزله. وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفه فناظره في مسألة رؤية الباري فقال رئيسهم: ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال قوله تعالى:لا تدركه الأبصار فنظر بعض المعتزله إلى بعض وقالوا: جن القاضي! وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا على مذهبهم وهو ساكت ثم قال لهم: أتقولون إن من لسان العرب قولك الحائط لا يبصر قالوا: لا... قال فلا يصح إذا نفي الصفة عما من شأنه صحة إثباتها له؟ قالوا: نعم، قال فكذلك قوله تعالى:لا تدركه الأبصار ، لو لا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه! انتهى.

وهكذا نرى أن الذين حرموا التأويل وكفروا المسلمين بسببه، أفرطوا في ارتكابه ووصلوا به إلى حد السفسطة، فأولوا النفي الصريح بالإثبات، ولم يبق عليهم إلا أن يؤلوا(لا إله إلا الله) بوجود عدة آلهة مع الله سبحانه وتعالى عما يصفون. وسوف ترى مزيداً من فنونهم في تأويل آيات نفي الرؤية والتنزيه، عند استعراض تفسيرها، إن شاء الله تعالى.

- ونختم بما قاله الشيخ محمد رضا جعفري في بحث الكلام عند الإمامية ص ١٥١ من مجلة تراثنا عدد ٣٠

قال أبو الفرج ابن الجوزي: «واعلم أن عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا، لأنهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى الحكم..» (١)

وقال أيضاً: «واعلم أن الناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب: إحداها،

٦٤

إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل، إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى(وجاء ربّك) (٢) أي: جاء أمره، وهذا مذهب السلف.

والمرتبة الثانية، التأويل، وهو مقام خطر.

والمرتبة الثالثة، القول فيها بمقتضى الحس، وقد عمَّ جهلة الناقلين(٣)، إذ ليس لهم حظ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على الله تعالى وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذا عدموا تصرفوا في النقل بمقتضى الحس» (٤).

وقال تقي الدين ابن تيمية، راداً على من قال: إن أكثر الحنابلة مجسمة ومشبهة:

«المشبهة والمجسمة في غير أصحاب الإمام أحمد أكثر منهم فيهم، فهؤلاء أصناف الأكراد، كلهم شافعية، وفيهم من التشبيه والتجسيم ما لا يوجد في صنف آخر، وأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية، وأما الحنبلية المحضة فليس فيهم من ذلك ما في غيرهم، والكرامية كلهم حنفية»(٥).  ولست أقر ابن تيمية على دفاعه عن أهل مذهبه ولكني أسكت عنه....

٤ - نماذج مختارة: وكنموذج لما أشار إليه ابن الجوزي في كلامه عن المحدثين أختار ثلاثة لم يكونوا من الحنابلة الصرحاء، وأقدم لكل منهم بعض الترجمة كي لا يتهمني متهم بأني عثرت على مغمورين خاملين لم يكونوا ذوي شأن عند المحدثين:

١ - إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم، أبو يعقوب الحنظلي المروزي، ابن راهويه النيسابوري (١٦١/٧٧٨ ت ٢٣٨/٨٥٣.

قال الخطيب: كان أحد أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، اجتمع له الحديث والفقه، والحفظ والصدق، والورع والزهد، ورحل إلى العراق، والحجاز، واليمن، والشام... وورد بغداد وجالس حفاظ أهلها، وذاكرهم، وعاد إلى خراسان فاستوطن نيسابور إلى أن توفي بها، وانتشر علمه عند الخراسانيين. وهكذا قال المزي والسبكي. وهو شيخ البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وبقية بن الوليد، ويحيى بن آدم - وهما من شيوخه - وأحمد بن حنبل، وإسحاق

٦٥

الكوسج، ومحمد بن رافع، ويحيى بن معين - هؤلاء من أقرانه - وجماعة.

قال نعيم بن حماد: إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد بن حنبل فاتهمه في دينه، وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه فاتهمه في دينه.

وقال النسائي: أحد الأئمة، ثقة مأمون. وقال أحمد بن حنبل: إذا حدثك أبو يعقوب أمير المؤمنين فتمسك به. وقال أبو حاتم: إمام من أئمة المسلمين. وقال ابن حبان: وكان إسحاق من سادات زمانه فقهاً، وعلماً، وحفظاً، ونظراً، ممن صنف الكتب، وفرع السنن، وذب عنها، وقمع من خالفها، وقبره مشهور يزار. وقال أبو عبد الله الحاكم: إمام عصره في الحفظ والفتوى. وقال أبو نعيم الأصبهاني: كان إسحاق قرين أحمد [ بن حنبل ] وكان للآثار مثيراً، ولأهل الزيغ مبيراً.

وقال الذهبي: الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ، قد كان مع حفظه إماماً في التفسير، رأساً في الفقه، من أئمة الإجتهاد(٦).

أبو عيسى الترمذي - بعد أن أخرج الروايات التي تقول: إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه... الحديث - قال: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟

هكذا روي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه. وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد، والسمع، والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد ها هنا القوة.

وقال إسحاق بن إبراهيم(٧): إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثل سمع، فهذا التشبيه. وأما

٦٦

إذا قال - كما قال الله تعالى -: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً، وهو كما قال الله تعالى:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (٨).

٢ - أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري (٢٢٣/٨٣٨ - ٣١١/٩٢٤) قالوا عنه: إنه كان إمام نيسابور في عصره، فقيهاً، مجتهداً، بحراً من بحور العلم، اتفق أهل عصره على تقدمه في العلم، ولقبه الصفدي، واليافعي، والذهبي، والسبكي، وابن الجزري، والسيوطي، وابن عبدالحي بإمام الأئمة. وقال الدار قطني: كان إماماً معدوم النظير. وقال ابن كثير: هو من المجتهدين في دين الإسلام. وذكروا له الكرامات. وقال السمعاني: وجماعة [ من المحدثين ] ينسبون إليه، يقال لكل واحد منهم خزيمي [ فهو إمام مدرسة حدثية ]. وهذا بعض ما قيل فيه(٩):

أثبت ابن خزيمة الوجه لله سبحانه، وقال: (ليس معناه أن يشبه وجهه وجه الآدميين، وإلا لكان كل قائل إن لبني آدم وجهاً، وللخنازير، والقردة، والكلاب... - إلى آخر ما عدد من الحيوانات - وجوهاً، قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب...)(١٠).

وذكر مثل هذا في العين، واليد، والكف، واليمين، وقال: إن عيني الله لا تشبهان أي عين لغيره، وأضاف: نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى وما بينهما ونزيد شرحاً وبياناً ونقول: عين الله عز وجل قديمة لم تزل باقية، ولا يزال محكوم لها بالبقاء منفي عنها الهلاك والفناء، وعيون بني آدم محدثة، كانت عدماً غير مكونة فكونها الله وخلقها بكلامه الذي هو صفة من صفات ذاته...»(١١).

وقال: إن لله يدين ويداه قديمتان لم تزالا باقيتين، وأيدي المخلوقين محدثة فأي تشبيه!...(١٢) ونفى التأويل عن كل هذا، خاصة تأويل اليد بالنعمة أو القوة(١٣).

وذكر «أن كلام ربنا عز وجل لا يشبه كلام المخلوقين، لأن كلام الله كلام متواصل

٦٧

لا سكت بينه ولا سمت، لا ككلام الآدميين الذي يكون بين كلامه سكت وسمت لانقطاع النفس، أو التذاكر، أو العي...»(١٤).

٣ - عثمان بن سعيد، أبو سعيد الدارمي، التميمي، السجستاني (ح ١٩٩/٨١٥ - ٢٨٠/٨٩٤) الإمام العلامة الحافظ، الناقد الحجة، وكان جذعاً وقذئ في أعين المبتدعة، قائماً بالسنة، ثقة، حجة، ثبتاً. وقيل فيه: كان إماماً يقتدى به في حياته وبعد مماته. ذكره الشافعية في طبقاتهم، وعده الحنابلة من أصحاب ابن حنبل(١٥).

قال الدارمي بأن لله مكاناً حده، وهو العرش(١٦) و(هو بائن من خلقه فوق عرشه بفرجة بينه في هواء الآخرة، حيث لا خلق معه هناك غيره، ولا فوقه سماء)(١٧) وقال (قد أيّنّا له مكاناً واحداً، أعلى مكان، وأطهر مكان، وأشرف مكان: عرشه العظيم فوق السماء السابعة العليا، حيث ليس معه هناك إنس ولا جان، ولا بجنبه حش، ولا مرحاض، ولا شيطان. وزعمت أنت(١٨) والمضلون من زعمائك أنه في كل مكان، وكل حش ومرحاض، وبجنب كل إنسان وجان! أفأنتم تشبهونه إذ قلتم بالحلول في الأماكن أم نحن؟!)(١٩)

وقال (ولو لم يكن لله يدان بهما خلق آدم ومسه مسيساً كما ادعيت، لم يجز أن يقال (لله): بيدك الخير...)(٢٠) وأحال في ذلك كل معنى أو تأويل من نعمة أو قوة إلا اليدين(٢١) (بما لهما من المعنى، وهو العضو الخاص المحسوس)، (وأن لله إصبعين، من غير تأويل بمعنى آخر)(٢٢) (والقدمان قدمان من غير تأويل)(٢٣) (غير أنا نقول، كما قال الله(ويبقى وجه ربّك) (٢٤) إنه عنى به الوجه الذي هو الوجه عند المؤمنين، لا الأعمال الصالحة، ولا القبلة...)(٢٥) وإن نفي التشبيه إنما هو بأن يكون لله كل هذا، ولكن لا يشبه شيء منه شيئاً مما في المخلوقين)(٢٦).

وقال الجعفري في هوامشه:

(١) تلبيس إبليس: ط ادارة الطباعة المنيرية، القاهرة: ١٣٦٨/١١٦.

(٢) الفجر ٨٩: ٢٢.

(٣) ويقصد بهم المحدثين.

٦٨

(٤) دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه، المكتبة التوفيقية، القاهرة: ١٩٧٦/٧٣ - ٧٤.

(٥) المناظرة في العقيدة الواسطية، مجموعة الرسائل الكبرى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط ٢:١٣٩٢/١٩٧٢، ١/٤١٨.

(٦) التاريخ الكبير ١ - ٣٧٩ - ٣٨٠ = ١٢٠٩، التاريخ الصغير ٢/٣٦٨، الجرح والتعديل ١ - ١ (٢) ٢٠٩ - ٢١٠= ٧١٤، ابن حبان، الثقات ٨/١١٥ - ١١٦، طبقات الحنابلة ١/١٠٩ = ١٢٢، المنهج الأحمد ١/١٠٨ - ١٠٩ = ٤٣،تاريخ بغداد ٦/٣٤٥ - ٣٣٥ = ٣٣٨١، حلية الأولياء ٩/٢٣٤ - ٢٣٨ ابن خلكان ١/١٩٩ - ٢٠١، الأنساب ٦/٥٦ -٥٧، السبكي، طبقات الشافعية ٢/٨٣ - ٩٣، ميزان الإعتدال ١/١٨٢ - ١٨٣ = ٧٣٣، سير أعلام النبلاء ١١/٣٥٨ -٣٨٢، تذكرة الحفّاظ ٢/٤٣٣ - ٤٣٥، العبر ١/٤٢٦، الوافي بالوفيات ٨/٣٨٦ - ٣٨٨ = ٣٨٢٥، طبقات الحفاظ /١٨٨ - ١٨٩ = ٤١٩، ابن كثير ١٠/٣١٧، تهذيب التهذيب ١/٢١٦ - ٢١٩ = ٤٠٨ ، تهذيب الكمال ٢/٣٧٣ - ٣٨٨ -٣٣٢، طبقات المفسرين ١/١٠٢ - ١٠٣، شذرات الذهب ٢/٨٩.

(٧) هو إسحاق بن راهويه - عارضة الأحوذي: ٣/٣٣٢.

(٨) الجامع الصحيح، الزكاة (ما جاء في فضل الصدقة) ٣/٥٠ - ٥١ أي ٦٦٢.

(٩) الذهبي سير أعلام النبلاء: ١٤/٣٦٥ - ٣٨٢، تذكرة الحفاظ: ٢/٧٢٠ - ٧٣١، العبر: ٢/١٤٩، السمعاني، الأنساب: ٥/١٢٤، ابن الأثير، اللباب: ١/٤٤٢، ابن الجوزي، المنتظم: ٦/١٨٤ - ١٨٦، ابن كثير، البداية والنهاية،١١/١٤٩، السبكي، طبقات الشافعية: ٣/١٠٩ - ١١٩، الصفدي، الوافي بالوفيات: ٢/١٩٦، اليافعي، مرآة الجنان:٢/٢٦٤، ابن عبد الحي، شذرات الذهب: ٢/٢٦٢ - ٢٦٣، السيوطي، طبقات الحفاظ: ٣١٠ - ٣١١، ابن الجزري،طبقات القراء: ٢/٩٧ - ٩٨.

(١٠) التوحيد واثبات صفات الرب، راجعه وعلق عليه محمد خليل هراس، المدرس بكلية أصول الدين (بالأزهر)، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة: ١٣٨٧/١٩٦٨، /٢٣.

(١١) المصدر / ٥٠ -٥٢.

(١٢) المصدر / ٨٢ - ٨٥.

(١٣) المصدر / ٨٥ - ٨٧.

(١٤) المصدر / ١٤٥.

(١٥) سير أعلام النبلاء: ١٣/٣١٩ - ٣٢٦، تذكرة الحفاظ: ٢/٦٢١ - ٦٢٢، العبر: ٢/٦٤، مرآة الجنان:

٦٩

٢/١٩٣، ابن كثير ١١/٦٩، طبقات الشافعية: ٢/٣٠٢ - ٣٠٦، طبقات الحفاظ: ٢٧٤، طبقات الحنابلة: ١/٢٢١، شذرات الذهب: ٢/١٧٦.

(١٦) الرد على بشر المريسي، عقائد السلف، نشر: دكتور علي سامي النشار، عمار جمعي الطالبي، منشأة المعارف الإسكندرية، مصر: ١٩٧١/٣٨٢.

(١٧) المصدر / ٤٣٩.

(١٨) يخاطب به بشر المريسي، الذي يرد عليه الدارمي، وهو بشر بن غياب المريسي، البغدادي، الحنفي (ح ١٣٨/٧٥٥ - ٢١٨ / ٨٣٣) من أعلام الحنيفة، وممن نادى بخلق القرآن ودافع عنه، وعن كثير من آراء المعتزلة.

(١٩) المصدر/ ٤٥٤

(٢٠) المصدر/ ٣٨٧

(٢١) (بما لهما من المعنى، وهو العضو الخاص المحسوس) المصدر / ٣٩٨.

(٢٢) المصدر / ٤٢٠.

(٢٣) المصدر / ٤٢٣ - ٤٢٤، ٤٢٧ - ٤٢٨.

(٢٤) الرحمن ٥٥/٢٧.

(٢٥) المصدر / ٥١٦.

(٢٦) المصدر / ٤٣٢ - ٤٣٣، ٥٠٨.. انتهى.

٧٠

الفصل الثالث

بازار الأحاديث في الرؤية والتشبيه والتجسيم

قالوا إن الله تعالى على صورة بشر!

- صحيح مسلم ج ٨ ص ٣٢

- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص) إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته..

- فردوس الأخبار للديلمي ج ٢ ص ٢٩٩

أبو هريرة: خلق الله عز وجل آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً... فكل من يدخل الجنة على صورة آدم ستون ذراعاً فلم تزل تنقص بعده حتى الآن. انتهى. ونحوه في ج ٥ ص ١٦٥ ونحوه في مصابيحه ج ٣ ص ٢٦٦

- مختصر تاريخ دمشق ج ٣ جزء ٥ ص ١٢٥

عن أبي هريرة، عن النبي (ص) قال: خلق الله آدم على صورته طوله سبعون ذراعاً... الى آخره. وقد تقدم تكذيب الإمام مالك لهذا الحديث وغيره من أحاديث رؤية الله تعالى بالعين، من سير أعلام النبلاء ج ٨ ص ١٠٣

٧١

- وروى ابن حجر في لسان الميزان ج ٣ ص ٢٩٩ صيغة معقولة لهذا الحديث قال:... العلاء بن مسلمة، حدثنا عبد الله بن سيف، ثنا إسماعيل بن رافع، عن المقبري، عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه مرفوعاً: لا يضربن أحدكم وجه خادمه ولا يقول لعن الله من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة وجهه. انتهى. فهل يقبلها اخواننا ويخلصون أنفسهم من ورطة التجسيم.

- لجنة الإفتاء الوهابية ج ٤ ص ٣٦٨ فتوى رقم ٢٣٣١

س ١: عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خلق الله آدم على صورته ستون ذراعاً، فهل هذا الحديث صحيح؟

ج: نص الحديث: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ثم قال: إذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع فما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق تنقص بعده إلى الآن. رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم. وهو حديث صحيح ولا غرابة في متنه فإن له معنيان:

الأول: أن الله لم يخلف آدم صغيراً قصيراً كالأطفال من ذريته ثم نما وطال حتى بلغ ستين ذراعاً، بل جعله يوم خلقه طويلاً على صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعاً.

والثاني: أن الضمير في قوله (على صورته) يعود على الله بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: على صورة الرحمن وهو ظاهر السياق ولا يلزم على ذلك التشبيه، فإن الله سمى نفسه بأسماء سمى بها خلقه، ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقه، ولم يلزم من ذلك التشبيه وكذا الصورة، ولا يلزم من إتيانها لله تشبيهه بخلقه لأن الاشتراك في الإسم وفي المعنى الكلي لا يلزم منه التشبيه فيما يخص كلا منهما، لقوله تعالى:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .

٧٢

وقالوا له سمع وبصر كسمع الإنسان وبصره

- سنن أبي داود ج ٢ ص ٤١٩

... مولى أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية:إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها .. إلى قوله تعالى سميعاً بصيراً، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه، قال أبو هريرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع إصبعيه، قال ابن يونس قال المقرىء: يعني أن الله سميع بصير، يعني أن لله سمعاً وبصراً، قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية. انتهى. ورواه في ج ٢ ص ٢٣٣، وكأن قصد أبي داود أن الجهمية أفرطوا في التنزيه، فيجب أن نرد عليهم بالتجسيم!

وقالوا له عينان مثل الإنسان وهما سالمتان

- صحيح البخاري ج ٢ جزء ٤ ص ١٤١

قال عبد الله (يعني ابن عمر) ذكر النبي (ص) يوماً بين ظهري الناس المسيح الدجال فقال: إن الله ليس بأعور، إلا أن المسيح الدجال أعور العين. انتهى. وقد فسرها الوهابيون وأسلافهم، بأن الله تعالى له عينان سالمتان! ورواه البغوي في مصابيحه ج ٣ ص ٤٩٧، ٥٠٧ عن ابن عمر أنه قال: قام رسول الله (ص) ثم ذكر الدجال: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور. عن عباده ابن الصامت عن رسول الله (ص): إن المسيح الدجال رجلٌ قصير أفجح جعد أعور، وإن ربكم ليس بأعور.

وقالوا له أيدي وأعين ورجلان

- قال ابن حزم في المحلى ج ١ ص ٣٣

مسألة: وإن لله عز وجل عزاً وعزة وجلالاً وإكراماً، ويداً ويدين وأيدياً (كذا) ووجهاً وعيناً وأعيناً، وكبرياء، وكل ذلك حق لا يرجع منه ولا من علمه تعالى وقدره وقوته إلا إلى الله تعالى لا إلى شيء غير الله عز وجل أصلاً، نقر من ذلك مما في القرآن

٧٣

وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحل أن يزاد في ذلك ما لم يأت به نص من قرآن أو سنة صحيحة.

قال عز وجل:ذو الجلال والإكرام وقال تعالى:يد الله فوق أيديهم ، لما خلقت بيدي، ومما عملت أيدينا أنعاماً، إنما نطعمكم لوجه الله، ولتصنع على عيني، إنك بأعيننا. ولا يحل أن يقال عينين لأنه لم يأت بذلك نص، ولا أن يقال سمع وبصر ولا حياة، لأنه لم يأت بذلك نص لكنه تعالى سميع بصير حي قيوم. انتهى.

ولعل ابن حزم لم يطلع على نص العينين وحديث السمع والبصر وغيرها، وإلا لقال بها!

وقالوا قد يكون له أُذن وقد يكون بلا أُذن

- فتاوى الألباني ص ٣٤٤

- سؤال السائل: صفة الأذن لله، موقف أهل السنة والجماعة منها؟

جواب: لا يثبتون ولا ينفون بالرأي، أما ما أثبته النص فهم يثبتونه بدون تكييف السلفيون مستريحون من هذه الكيفية يعني استراحوا من التشبيه عملاً بالتنزيه... وأن العين: صفة من صفاته تليق بعظمته وجلاله.

وقالوا له جنب وحقو

- تفسير الطبري ج ٢٦ ص ٣٦

- عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنه قال خلق الله الخلق فلما فرغ منهم تعلقت الرحم بحقو الرحمن فقال مه! فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة... ورواه البغوي في مصابيحه ج ٣ ص ٣٥٠

- وقال الشاطبي في الإعتصام ج ٢ ص ٣٠٣

قول من زعم: أن لله سبحانه وتعالى جنباً مستدلاً بقوله: أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت من جنب الله.

٧٤

وقالوا إنّه يمشي وقد يركض ويهرول

- فتاوى الألباني ص ٥٠٦

سؤال: حول الهرولة، وهل أنكم تثبتون صفة الهرولة لله تعالى؟

جواب: الهرولة كالمجيء والنزول صفات ليس يوجد عندنا ما ينفيها.

- فتاوى ابن باز ج ٥ ص ٣٧٤

... ومن ذلك الحديث القدسي وهو قول الله سبحانه: من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة... أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة... انتهى.

وقالوا إنّه تعالى يرى بالعين في الدنيا

- الفرق بين الفرق للنوبختي ص ٢٩٤

وأجمع أهل السنة على أن الله تعالى يكون مرئياً للمؤمنين في الآخرة، وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ولكل حي من طريق العقل ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة، من طريق الخبر..

- مسند أحمد ج ٤ ص ٦٦

... عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات غداة وهو طيب النفس مسفر الوجه أو مشرق الوجه فقلنا: يا رسول الله إنا نراك طيب النفس مسفر الوجه أو مشرق الوجه، فقال: وما يمنعي وأتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة، قال يا محمد، قلت لبيك ربي وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري أي رب! قال ذلك مرتين أو ثلاثاً، قال فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي حتى تجلى لي ما في السموات وما في الأرض، ثم تلا هذه

٧٥

الآية:وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ . انتهى. ورواه في ج ٥ ص ٣٧٨، وستأتي بقية رواياته في تفسير قوله تعالى(ما كذب الفؤاد ما رأى) .

وقالوا إنه يلبس قباء وجبة ويركب على جمل

- لسان الميزان ج ٢ ص ٢٣٨

ومما في الصفات له (حدثنا) أبو حفص بن سلمون ثنا عمرو بن عثمان ثنا أحمد بن محمد بن يوسف الإصبهاني ثنا شعيب بن بيان الصفار ثنا عمران القطان عن قتادة عن أنسرضي‌الله‌عنه مرفوعاً: إذا كان يوم الجمعة ينزل الله بين الأذان والإقامة عليه رداء مكتوب عليه إنني أنا الله لا إله إلا أنا، يقف في قبلة كل مؤمن مقبلاً عليه، فإذا سلم الإمام صعد إلى السماء. وروى عن ابن سلمون بإسناد له: رأيت ربي بعرفات على جمل أحمر عليه إزار! انتهى. ورواه في ميزان الإعتدال ج ١ ص ٥١٢

وقالوا إنّه فتى أمرد جعد الشعر

- ميزان الإعتدال ج ١ ص ٥٩٣

... عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: فلما تجلى ربه للجبل، قال: أخرج طرف خنصره وضرب على إبهامه فساخ الجبل، فقال حميد الطويل لثابت: تحدث بمثل هذا! قال فضرب في صدر حميد وقال: يقوله أنس ويقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكتمه أنا! رواه جماعة عن حماد وصححه الترمذي. إبراهيم بن أبي سويد وأسود بن عامر، حدثنا حماد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً: رأيت ربي جعداً أمرد، عليه حلة خضراء.

وقال ابن عدي: حدثنا عبد الله بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا النضر بن سلمة شاذان، حدثنا الأسود بن عامر، عن حماد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أن محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد دونه ستر من لؤلؤ قدميه أو رجليه في خضرة.

٧٦

... قال المرودي: قلت لأحمد: يقولون لم يسمع قتادة عن عكرمة فغضب وأخرج كتابه بسماع قتادة عن عكرمة في ستة أحاديث. ورواه الحكم بن أبان عن زيرك عن عكرمة. وهو غريب جداً.

وقالوا إنّه يضحك في الدنيا والآخرة

- صحيح البخاري ج ٢ جزء ٣ ص ٢١٠

عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد.

- صحيح البخاري ج ٤ ص ٢٢٦

... فباتا طاويين، فلما أصبح غد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل الله:وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .

- سنن النسائي ج ٦ ص ٣٨

... عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل يعجب من رجلين يقتل أحدهما صاحبه، وقال مرة أخرى: ليضحك من رجلين يقتل أحدهما صاحبه ثم يدخلان الجنة. تفسير ذلك أخبرنا محمد بن سلمة... عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد. انتهى. ورواه ابن ماجة في ج ١ ص ٦٨

- وروى أحمد في مسنده ج ١ ص ٣٩٢

عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن آخر من يدخل الجنة رجل يمشي على الصراط فينكب مرة ويمشي مرة وتسفعه النار مرة، فإذا جاوز

٧٧

الصراط التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين، قال فترفع له شجرة فينظر إليها فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة فأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول: أي عبدي فلعلي إن أدنيتك منها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهد الله أن لا يسأله غيرها والرب عز وجل يعلم أنه سيسأله لأنه يرى ما لا صبر له يعني عليه، فيدنيه منها ثم ترفع له شجرة وهي أحسن منها فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة فأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول: أي عبدي ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب هذه لا أسألك غيرها ويعاهده والرب يعلم أنه سيسأله غيرها فيدنيه منها، فترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن منها فيقول: رب أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول: أي عبدي ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب هذه الشجرة لا أسألك غيرها ويعاهده والرب يعلم أنه سيسأله غيرها لأنه يرى ما لا صبر له عليها فيدنيه منها فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول: يا رب الجنة الجنة، فيقول: عبدي ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها، فيقول: يا رب أدخلني الجنة.

قال فيقول عز وجل: ما يصريني منك أي عبدي أيرضيك أن أعطيك من الجنة الدنيا ومثلها معها؟

قال فيقول: أتهزؤ بي وأنت رب العزة!

قال فضحك عبد الله حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا تسألوني لم ضحكت؟

قالوا له لم ضحكت؟

قال: لضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسألوني لم ضحكت؟

قالوا: لم ضحكت يا رسول الله؟

قال: لضحك الرب حين قال أتهزأ بي وأنت رب العزة!! انتهى. ورواه في ج ١ ص٤١١ وج ٢ ص ٣١٨ وص ٤٦٤ وص ٥١١ وروى نحوه في ج ٢ ص ٢٧٦ وص ٢٩٤

٧٨

وص٥٣٤ وج ٣ ص ٨٠ وابن ماجة في سننه ج ١ ص ٦٤ والديلمي في فردوس الأخبار ج ٣ ص ٩ ح ٣٧٠٣ والبغوي في مصابيحه ج ١ ص ٤٣٣ وص ٥٤٤ وج ٣ ص ٥٤٦ والبيهقي في شعب الإيمان ج ١ ص ٢٤٩ وفي دلائل النبوة ج ٦ ص ١٤٣ والهيثمي في مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٦١٥ والشوكاني في نيل الأوطار ج ٣ ص ٥٧ وغيرهم.. وغيرهم..

وسيأتي عدد آخر من روايات ضحك الله المزعوم على هذا الرجل في روايات رؤيته بالعين في الآخرة.

- وقال ابن تيمية في الإيمان ص ٤٢٤

وفي الصحيحين في حديث الشفاعة يقول كل من الرسل إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله... وكذلك ضحكه إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة وضحكه إلى الذي يدخل الجنة آخر الناس ويقول: أتسخر بي وأنت رب العالمين! وكل هذا في الصحيح.

وقالوا إنه يضحك لمن يستلقي على دابّته

- وروى أحمد في ج ١ ص ٣٣٠ رواية غريبة نسب فيها تصرفاً غير معقول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسب فيها إلى الله تعالى أنه يضحك لمن يذكره على دابته ثم يستلقي! قال الإمام أحمد:

عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وحمد الله ثلاثاً، وسبح الله ثلاثاً، وهلل الله واحدة ثم استلقى عليه فضحك، ثم أقبل عليَّ فقال: ما من إمريء يركب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله تبارك وتعالى فضحك إليه كما ضحكت إليك!

وقالوا مادام الله يضحك فأملنا فيه كبير

- روى أحمد في مسنده ج ٤ ص ١١ وص ١٢ وص ١٣ رواية تعطي الناس الأمل بالله

٧٩

تعالى لأنه يضحك! قال:... عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، قال قلت: يا رسول الله أو يضحك الرب عز وجل! قال نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً!

- وروى الديلمي في فردوس الأخبار ج ٣ ص ١٠

أبوذر الغفاري: ضحك الله ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غيره ولن نعدم من رب يضحك خيراً. وستأتي روايته عن النويري وغيره.

وقالوا إنّه يضحك.. ويظل يضحك

- قال ابن قيم الجوزية في زاد المعاد ج ٣ ص ٥٦٦ - ٥٦٧

- قوله (ص): فيضل يضحك، هو من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته.. وكذلك: فأصبح ربك يطوف في الأرض، هو من صفات فعله كقوله تعالى:وجاء ربّك والملك ، وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، ويدنو عشية عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة. والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل.

- وقال النويري في نهاية الإرب ج ٧ جزء ١٤ ص ٢٩٢

عن لقيط بن عامر العقيلي قال... أتينا رسول الله (ص) حين انصرف من صلاة الغداة فقام خطيباً فقال أيها الناس... يشرف عليكم أزلين فيظل يضحك، قد علم أن غوثكم قريب. قال لقيط له: لن نعدم من رب يضحك خيراً.. انتهى. وروى نحوه المنذري في الترغيب والترهيب ج ١ ص ٤٣٤ وص ٤٣٦ وج ٤ ص ٥٠٣

وقالوا إنّه ضحك لطلحة وسعد

- أُسد الغابة ج ٣ ص ٨٣

روي أنه (طلحة بن البراء) توفي ليلاً فقال أدفنوني.. ولا تدعوا رسول الله (ص)

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ملاحظة

هل أنّ البشر الموجودين على الأرض هم من ذريّة نوح؟

فسّرت مجموعة من كبار المفسّرين الآية( وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) بأنّ كلّ أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته.

وقد نقل الكثير من المؤرّخين بقاء ثلاثة أولاد من ذريّة نوح هم (سام) و (حام) و (يافث) بعد الطوفان ، وكلّ القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية تنتهي إليهم.

وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي ، فيما عرف العرق التركي ومجموعة اخرى بأنّهم من أولاد «يافث» ، أمّا «حام» فإنّ ذريّته تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة ، كما أنّ الأقباط والبربر هم من ذريّته أيضا.

البحث في هذه المسألة ليس المراد منه معرفة إلى أي من أولاد نوح ينتسب كلّ عرق ، لأنّ المسألة بحدّ ذاتها هي مورد اختلاف بين الكثير من المؤرخين والمفسّرين ، ولكن المتوخّى من البحث هو : هل أنّ كلّ القوميات البشرية تعود في أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل أنّهم جميعا ماتوا من دون أن يتركوا أي خلف لهم وإن كان لهم ذريّة ، فهل كانوا بنات تزوجنّ من أولاد نوح؟

هذه القضيّة من وجهة نظر التأريخ ما تزال غامضة.

على أيّة حال فإنّ هناك أحاديث وآيات قرآنية تشير إلى وجود أقوام وامم على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح.

منها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقرعليه‌السلام في توضيح الآية المذكورة أعلاه : «الحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه ، وليس كلّ من في

٣٤١

الأرض من بني آدم من ولد نوحعليه‌السلام قال اللهعزوجل في كتابه :( احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) ، وقال اللهعزوجل أيضا :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) (١) .

وعلى هذا فإنّ انتهاء كلّ العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير ثابت.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث ورد المجلّد الرابع من التفسير نور الثقلين في الصفحة ٤٠٥ ، كما ورد في نهاية آيات البحث في تفسير الصافي.

٣٤٢

الآيات

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) )

التّفسير

خطّة إبراهيم الذكيّة في تحطيم الأصنام :

آيات بحثنا هذا تتناول بشيء من التفصيل حياة النّبي الشجاع إبراهيمعليه‌السلام محطّم الأصنام بعد آيات استعرضت جوانب من تاريخ نوحعليه‌السلام المليء بالحوادث.

ففي البداية تحدّثت القصّة عن تحطيم إبراهيم للأصنام ، والموقف الشديد الذي اتّخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم ، فيما يتطرّق القسم الآخر من القصّة للمشهد

٣٤٣

الكبير الذي يتمثّل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضيّة ذبح ابنه إسماعيل ، والآيات التي تخصّ هذا القسم ذكرت هنا ـ فقط ـ بهذا التفصيل ، ولم تذكر في موضع آخر بهذا الشكل.

الآية الاولى ، ربطت بين قصّة إبراهيم وقصّة نوح بهذه الصورة( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) .

أي إنّ إبراهيم كان سائرا على خطى نوحعليه‌السلام في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص ، حيث إنّ الأنبياء يبلغون لفكر واحد ، وهم أساتذة جامعة واحدة ، وكلّ واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح ، رغم أنّ الفاصل الزمني بينهما كان كبيرا (قال بعض المفسّرين : إنّ الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ ٢٦٠٠ سنة) ، إذ أنّ العلاقات الإيمانية ـ كما هو معروف ـ لا يؤثّر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير(١) .

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل ، قال تعالى :( إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .

حيث فسّر المفسّرون (قلب سليم) بعدّة صور ، أشارت كلّ واحدة منها إلى أحد أبعاد هذه المسألة.

القلب الطاهر من الشرك.

أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.

__________________

(١) بعض المفسّرين أرجعوا ضمير (شيعته) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أنّ آيات القرآن الكريم تقول : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع ملّة إبراهيم ، علاوة على ذلك فإنّ هذا المرجع ليس له في الآيات السابقة واللاحقة ضمير يدلّ عليه ، ومن الممكن أنّهم تصوّروا أنّ تعبير الشيعة هو دليل على أفضلية نوح من إبراهيم ، في حين أنّ القرآن الكريم تحدّث عن شخصية سامية لإبراهيم ، لكن هذا التعبير خال من أيّة دلالة على هذه المسألة ، بل المقصود استمرار الخطّ الفكري والديني ، كما أنّ أفضلية رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة لكافّة الأنبياء لا تتنافى مع أتباعه لدين إبراهيم التوحيدي يقول القرآن ، في الآية ٩٠ من سورة الأنعام( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) .

٣٤٤

أو القلب الخالي من حبّ الدنيا ، لأنّ حبّ الدنيا هو مصدر كلّ الخطايا.

وأخيرا هو القلب الذي لا يوجد فيه شيء سوى الله.

في الحقيقة إنّ كلمة (سليم) مشتقّة من (السلامة) ، وعند ما تطرح السلامة.

بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل أيضا السلامة من كلّ الأمراض الأخلاقية والعقائدية.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) ،(١) أي إنّ قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض ، وإنّ الله سبحانه وتعالى أضاف أمراضا اخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وارتكابهم المزيد من الذنوب.

وأجمل من فسّر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادقعليه‌السلام عند ما قال : «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه!»(٢) . حيث جمع بقوله كلّ الأوصاف المذكورة مسبقا.

وقد جاء في رواية اخرى للإمام الصادقعليه‌السلام «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم ، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الأمور كلّها»(٣) .

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة ، حيث نقرأ في سورة الشعراء ، وفي الآيات ٨٨ و ٨٩ على لسان النّبي الكبير إبراهيمعليه‌السلام قوله تعالى :( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٤) .

نعم ، من هنا تبدأ قصّة إبراهيم ذي القلب السليم ، والروح الطاهرة ، والإرادة الصلبة ، والعزم الراسخ ، مع قومه ، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عباد الأصنام ، وبدأ بأبيه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٠.

(٢) ورد في الكافي ونقله صاحب تفسير الصافي في ذيل الآية (٨٩) من سورة الشعراء.

(٣) المصدر السابق.

(٤) في مجال القلب السليم ورد بحث مشروح في ذيل الآيات (٨٨) و (٨٩) من سورة الشعراء (تحت عنوان القلب السليم وحده رأسمال النجاة) ص ٢٧٣.

٣٤٥

وعشيرته( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ ) ، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات ، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثمّ يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام ، ويقول :( أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ) (١) .

استخدام كلمة (إفك) في هذه الآية ، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح ، توضّح حزم وقاطعية إبراهيمعليه‌السلام بشأن الأصنام.

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة( فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّا ، ونعمه تحيط بكم من كلّ جانب ، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله ، فهل تتوقّعون أنّه سيرحمكم وسوف لا يعذّبكم بأشدّ العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!

عبارة( بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) تشير إلى أنّ كلّ العالم يدور في ظلّ ربوبيته تبارك وتعالى ، وقد تركتموه واتّجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.

وجاء في كتب التأريخ والتّفسير ، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنويا ، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم ، ثمّ يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه ، ثمّ يخرجون جميعا إلى خارج المدينة ، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وبذلك خلت المدينة من سكّانها ، فاستغلّ إبراهيمعليه‌السلام هذه الفرصة الجيّدة لتحطيم الأصنام ، الفرصة التي كان إبراهيمعليه‌السلام ينتظرها منذ فترة طويلة ، ولم يكن راغبا في إضاعتها.

وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي

__________________

(١) في تركيب هذه الجملة ذكر المفسرون احتمالين : الأول : أن (إفكا) مفعول بـ لـ (تريدون) و (آلهة) بدله ، والآخر : أن (آلهة) مفعول به و (إفكا) مفعول لأجله تقدم للأهمية.

٣٤٦

النُّجُومِ ).

فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) .

وبهذا الشكل اعتذر عن مشاركتهم.

بعد اعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) .

وهنا يطرح سؤالان.

الأوّل : لماذا نظر إبراهيمعليه‌السلام في النجوم ، وما هو هدفه من هذه النظرة؟

والثاني : هل أنّه كان مريضا حقّا حينما قال : إنّني مريض؟ وما هو مرضه؟

جواب السؤال الأوّل ، مع أخذ اعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار ، يتّضح أنّهم كانوا يستقرئون النجوم ، وحتّى أنّهم كانوا يقولون بأنّ أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض ، ولهذا السبب فإنّهم يكنّون لها الاحترام لكونها تمثّل النجوم.

وبالطبع فإلى جانب استقرائهم للنجوم ، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم ، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم ، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة ، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيمعليه‌السلام بأنّه يقول بمثل قولهم ، نظر إلى السماء وقال حينذاك : إنّي سقيم ، فتركوه ظنّا منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

أمّا بعض كبار المفسّرين ، فقد احتملوا أنّه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه ، لأنّه كان مصابا بحمى تعتريه في أوقات معيّنة ، ولكن الاحتمال الأوّل يعدّ مناسبا أكثر ، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.

فيما احتمل البعض الآخر أنّ نظرة إلى السماء هو التفكّر في أسرار الخلق ، رغم أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة

٣٤٧

النجوم توقّع الحوادث القادمة.

أمّا بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعدّدة :

منها : أنّه كان مريضا حقّا ، وحتّى إن لم يكن مريضا فإنّه لن يشارك في مراسم عيدهم ، فمرضه كان عذرا جيّدا لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام ، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنّه استخدم التورية ، كما أنّ استخدام التورية من قبل الأنبياء يعدّ عملا غير مناسب.

وقال البعض الآخر : إنّ إبراهيم لم يكن مصابا بمرض جسدي ، وإنّما روحه متعبة ، من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم ، فبهذا أوضح لهم الحقيقة ، رغم أنّهم تصوّروا شيئا آخر ، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

واحتمل البعض أنّه استخدم التورية في كلامه معهم ، فمثلا يأتي شخص ويطرق باب البيت ، ويستفسر : هل فلان موجود في البيت ، فيأتيه الجواب : إنّه ليس هنا ، والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كلّه ، في حين أنّ السامع يفهم أنّه ليس موجودا في البيت ، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها يعطي مفهوما آخر يطلق عليها في الفقيه اسم «التورية») ومقصود إبراهيمعليه‌السلام انّني يمكن أنّ أمراض في المستقبل ، قال ذلك ليتخلّص منهم ويتركوه وحيدا.

ولكن التّفسير الأوّل والثاني أنسب حسب الظاهر.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيمعليه‌السلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها ، فنظر إبراهيم حوله ونور الاشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه ، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها ، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها ، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام ، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد ، ثمّ نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا ، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم

٣٤٨

عبدتكم ، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوّع ، ما لكم لا تأكلون؟( فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) (١) .

ثمّ أضاف ، لم لا تتكلّمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟( ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) .

وبهذا استهزء إبراهيمعليه‌السلام بكلّ معتقداتهم الخرافية ، ومن دون أي شكّ فإنّه كان يعرف أنّها لا تأكل ولا تتحدّث ، وأنّها جماد. وأراد من وراء ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

بعد ذلك شمر عن ساعديه ، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكلّ ما لديه من قوّة( فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) .

والمراد من (اليمين) إمّا يد الإنسان اليمنى ، والتي ينجز الإنسان بها معظم أعماله ، أو أنّها كناية عن القدرة والقوّة ، ويمكن أن تجمع بين المعنيين.

على أيّة حال ، فإنّ انقضاض إبراهيمعليه‌السلام على الأصنام ، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة ، حيث لم يبق صنم على حالته الاولى ، فالأيدي والأرجل المحطّمة تفرّقت هنا وهناك داخل المعبد ، وكم كان منظر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثّرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.

وبعد انتهائه من تحطيم الأصنام ، غادر إبراهيم ـ بكلّ هدوء واطمئنان ـ معبد الأصنام عائدا إلى بيته ليعدّ نفسه للحوادث المقبلة ، لأنّه كان يعلم أنّ عمله كان بمثابة انفجار هائل سيهزّ المدينة برمّتها ومملكة بابل بأجمعها ، وسيحدث موجة من الغضب العارم ، الموجة التي سيكون إبراهيمعليه‌السلام وحيدا في وسطها. إلّا أنّ له ربّا يحميه ، وهذا يكفيه.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم ، واتّجهوا فورا إلى معبدهم ، فشاهدوا مشهدا رهيبا وغامضا ، ومن شدّة رهبة المشهد تجمّد البعض في مكانه ، فيما فقد البعض الآخر عقله وهو ينظر بدهشة وتحيّر لجذاذ آلهته المنتشرة هنا

__________________

(١) (راغ) من مادّة (روغ) وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

٣٤٩

وهناك ، تلك الأصنام التي خالوها ملجأ وملاذا لهم يوم لا ملجأ لهم ، أصبحت بلا ناصر ولا معين.

ثمّ تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد ، تحوّل إلى صراخ واستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويلا ، حتّى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم اسمه إبراهيم ، كان يستهزئ بأصنامهم ، ويهدّد بأنّه أعدّ مخطّطا خطيرا لأصنامهم.

من هنا استدلّوا على أنّ إبراهيم هو الفاعل ، فأقبلوا عليه جميعا غاضبين( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) .

«يزفّون» مشتقّة من (زفّ) على وزن (كفّ) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران ، ثمّ تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

على أيّة حال ، المراد هنا هو أنّ عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم ، وسنقرأ تتمّة الأحداث في الآيات القادمة.

* * *

ملاحظات

١ ـ هل أنّ الأنبياء يستخدمون التورية؟

«التورية» ـ ويعبّر عنها أحيانا بلفظة (معاريض) ـ تعني أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر : متى رجعت من السفر؟ فيجيبه : قبل غروب الشمس ، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل الظهر ، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام ، أنّه عاد قبل غروب الشمس بقليل ، في حين أنّه كان يقصد قبل الظهر ، لأنّ قبل الظهر يعدّ أيضا قبل غروب الشمس. أو شخص يسأل آخر : هل تناولت الطعام ، فيجيبه : نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنّه تناول

٣٥٠

الطعام اليوم ، في حين أنّ قصد المجيب هو أنّه تناول الطعام يوم أمس.

مسألة هل أنّ التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية ، فمجموعة من كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أنّ التورية ليست كذبا ، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذبا ، وإنّما وردت بشأنها روايات تنفي عنها صفة الكذب ، إذ قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية قولي ليس هو هاهنا. فقالعليه‌السلام : لا بأس ليس بكذب»(١) .

والحقّ هو لزوم القول بالتفصيل ، ولا بدّ من وضع ضابطة كليّة : فإذا كان للفظ في اللغة والعرف معنيان ، والمخاطب تصوّر معنى خاصّا من تلك الكلمة ، في حين أنّ المتحدّث يقصد معنى آخر ، مثل هذا يعدّ تورية وليس بكذب ، حيث يستخدم لفظ مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئا ، في حين أنّ المتحدّث يقصد منه معنى آخر.

وعلى سبيل المثال ، جاء في شرح حال «سعيد بن جبير» ، أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول : ما هو تقييمك لي ، فأجابه سعيد : إنّك (عادل) ، ففرح جلاوزة الحجّاج ، في حين قال الحجّاج : إنّه بكلامه هذا كفّرني ، لأنّ أحد معاني (العادل) هو العدول من الحقّ إلى الباطل.

أمّا إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم ، والمتحدّث يترك المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز ، فمثل هذه التورية ـ من دون أيّ شكّ ـ حرام ، ولربّما تمكّنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء مختلف الفقهاء.

ولكن ، يجب الانتباه إلى أنّه في بعض الأحيان حتّى في الموارد التي لا تكون فيها التورية مصداقا للكذب ، تكون للتورية أحيانا مفاسد ومضارّ وإيقاع الناس في الخطأ ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة ، ولكن إن

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٥٨٠ ، (الباب ١٤١ في أبواب العشرة الحديث ٨).

٣٥١

لم تكن قد اشتملت على مفسدة ، ولم تكن مصداقا للكذب ، فليس هناك دليل على حرمتها. ورواية الإمام الصادقعليه‌السلام هي من هذا القبيل.

بناء على ذلك فإنّ عدم وجود الكذب في التورية ليس كافيا ، بل يجب أيضا أن لا تشتمل التورية على مفاسد ومضارّ اخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذبا ، فمن المسلّم به جواز استعمال التورية ما دام هناك مجال لاستخدامها ، لكي لا يكون كلامه مصداقا للكذب.

لكن هل أنّ التورية جائزة أيضا للأنبياء ، أم لا؟

يجب القول : إنّه طالما كانت سببا في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة ، لأنّ الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ ، وأمّا في موارد مثل ما ورد عن تمارض إبراهيمعليه‌السلام ونظره في النجوم ، ووجود هدف مهمّ في ذلك العمل ، دون أن تتسبّب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحقّ ، فلا تنطوي على أي إشكال.

٢ ـ إبراهيم والقلب السليم :

كما هو معروف فإنّ كلمة (القلب) تعني في الاصطلاح القرآني الروح والعقل ، ولهذا فإنّ (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافّة أشكال الشرك والشكّ والفساد.

والقرآن الكريم وصف بعض القلوب بـ (القاسية)( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) .(١)

وأحيانا وصفها بأنّها غير طاهرة ، كما ورد في (سورة المائدة ـ ٤١).

واخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة ـ ٦).

ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة ـ ٨٧).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١٣.

٣٥٢

وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه ، حيث أنّه صاف ورقيق مليء بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحقّ ، القلب الذي وصف في الروايات بـ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله)(١) .

وهو القلب الذي يتمكّن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى ، إذ ورد في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»(٢) .

الملاحظ أنّ (القلب السليم) هو خير رأسمال للنجاة في يوم القيامة ، وبه التحق إبراهيمعليه‌السلام بملكوت ربّه وتسلّم أمر الرسالة.

نختتم هذا البحث بحديث آخر ، إذ ورد في الروايات «إنّ لله في عباده آنية وهو القلب فأحبّها إليه (أصفاها) و (أصلبها) و (أرقّها) : أصلبها في دين الله ، وأصفاها من الذنوب ، وأرقّها على الاخوان»(٣) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٢٥ ، باب حبّ الله الحديث ٢٧.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٩ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٣٩.

(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٦ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٢٦.

٣٥٣

الآيات

( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) )

التّفسير

فشل مخطّطات المشركين :

بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام ، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة ، وهناك سألوه وطلبوا منه الجواب عن اليد التي نفذت هذا الفعل في معبدهم ، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصّلة ، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حسّاس واحد من مواقف إبراهيمعليه‌السلام وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) .

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئا من صنع يديه؟ وما هو الدافع لأي ذي شعور للسجود لشيء صنعه هو بنفسه؟ فأي عقل ومنطق يسمح بفعل هذا؟

٣٥٤

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان ، وليس صنيعة يده ، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) .

فهو خالق الأرض والسماء ، ومالك الوقت والزمان ، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حدّ جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّها ودحضها.

و (ما) في عبارة( ما تَعْمَلُونَ ) هي (ما) الموصولة وليست (ما) المصدرية ، ومنها يراد القول ، إنّ الله خلقكم وكذلك ما تصنعون ، وعند ما يقال : إنّ الأصنام هي من صنع أو أعمل الإنسان ، فذلك يعني أنّ الإنسان أعطاها الشكل فقط ، وإلّا فالمادّة التي تصنع منها الأصنام هي من خلق الله أيضا.

صحيح ما يقال من أنّ هذه السجّادة وذلك البيت وتلك السيارة هي من صنع الإنسان ، ولكن المراد ليس أنّ الإنسان هو الذي خلق المواد الأوّلية لتلك الأشياء ، وإنّما الإنسان صاغ تلك المواد الأوّلية بشكل معيّن.

أمّا إذا اعتبرنا (ما) مصدرية ، فالعبارة تعني ما يلي : إنّ الله خلقكم وأعمالكم.

وبالطبع فإنّ المعنى هذا ليس خطأ ، وعلى خلاف ما يظنّه البعض ليس فيه ما يدلّ على الجبر ، لأنّ الأعمال التي نقوم بها رغم أنّها تتمّ بإرادتنا ، إلّا أنّ إرادة وقدرة التصميم وغيرها من القوى التي تنفذ من خلالها أفعالنا كلّها من الله سبحانه وتعالى ، وبهذا الشكل فإنّ الآية لا تقصد هذا الأمر ، وإنّما تقصد الأصنام ، وتقول : إنّ الله خلقكم أنتم والأصنام التي صنعتموها وصقلتموها. وجمال هذا الحديث يتجسّد هنا ، لأنّ البحث يخصّ الأصنام ولا يخصّ أعمال البشر.

في الحقيقة إنّ موضوع هذه الآية يشبه الموضوع الذي ورد في قصّة موسى والسحرة والتي تقول :( فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) (١) ، فالمقصود هنا الأفعى التي هي

__________________

(١) الأعراف ، ١١٧.

٣٥٥

من صنع السحرة.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل ، ولهذا لم تؤثّر عليهم الأدلّة والبراهين الظاهرية والقويّة التي بيّنها إبراهيمعليه‌السلام على قلوب الجبابرة الحاكمين في بابل حينذاك ، رغم أنّ مجموعات من أبناء الشعب المستضعف هناك استيقظت من غفلتها وآمنت بدعوة إبراهيمعليه‌السلام .

ولإيقاف انتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل ، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر انتشار على مصالحهم الخاصّة إلى استخدام منطق القوّة والنار ضدّ إبراهيمعليه‌السلام ، المنطق الذي لا يفهمون سواه. حيث هتفوا بالاعتماد على قدراتهم الدنيوية : أن ابنوا له بنيانا عاليا ، واشعلوا في وسطه النيران ثمّ ارموه فيه( قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) .

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة ، ومن ثمّ إشعال النيران في داخلها ، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة ، إنّما تمّ ـ كما يحتمل ـ للحئول دون امتداد النيران إلى خارجها ، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها ، ولإيجاد جهنّم واقعية كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

صحيح أنّ كميّة قليلة من الحطب كانت تكفي لحرق إنسان كإبراهيم ، لكنّهم فعلوا ذلك ليطفؤا غيظ قلوبهم من جرّاء تحطيم أصنامهم ، وبمعنى آخر الانتقام من إبراهيم بأشدّ ما يمكن ، لعلّهم بذلك يعيدون العظمة والابّهة لأصنامهم إضافة إلى أنّ عملهم هذا كان تخويفا وتحذيرا لمعارضيهم ، كي لا تتكرّر مثل هذه الحادثة مرّة اخرى في تأريخ بابل ، لذلك فقد أوقدوا نارا عظيمة.

«الجحيم» في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.

هذا ، وقد فسّر البعض «البنيان» بأنّه المنجنيق ، والمنجنيق ـ كما هو معروف ـ أداة لقذف الأشياء الثقيلة إلى مكان بعيد ، لكن أكثر المفسّرين انتخبوا التّفسير

٣٥٦

الأوّل ، أي أنّ البنيان هو ذلك البناء المكوّن من أربعة جدران كبيرة.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى دقائق وتفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء ، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة( فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ ) .

(كيد) في الأصل تعني الاحتيال ، أكان بطريقة صحيحة أم غلط ، مع أنّها غالبا ما تستعمل في موارد مذمومة ، وبما أنّها جاءت بحالة النكرة هنا ، فإنّها تدلّ على عظمة الشيء وأهميّته ، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

نعم ، لقد وضعهم الله سبحانه وتعالى في أسفل السافلين ، فيما رفع إبراهيمعليه‌السلام إلى أعلى علّيين ، كما كان أعلى منطقا ، وجعله هو الأعلى في حادثة إشعال النيران ، وأعداءه الأقوياء هم الأخسرين ، فكانت النار عليه بردا وسلاما دون أن تحرق حتّى شعرة واحدة من جسد إبراهيمعليه‌السلام وخرج سالما من ذلك البحر الجهنّمي.

فإرادته تقتضي أن ينجي في يوم من الأيّام نوحا من «الغرق» ، وفي يوم آخر ينقذ إبراهيم من «الحرق» ، وذلك لكي يوضّح أنّ الماء والنار عبدان مطيعان له سبحانه وتعالى ومستجيبان لأوامره.

إبراهيمعليه‌السلام الذي نجا بإرادة الله من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له ، وخرج مرفوع الرأس منها ، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام ، إذ أنّ رسالته في بابل قد انتهت ،( وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .

من البديهيات أنّ الله لا يحويه مكان ، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي ، فإنّها هجرة إلى الله.

فالهجرة إلى أرض الأنبياء والأولياء ومهبط الوحي الإلهي ، هي هجرة إلى الله ، مثلما يعرف السفر إلى مكّة المكرّمة بأنّه سفر إلى الله ، خاصّة وأنّ هجرة إبراهيمعليه‌السلام

٣٥٧

كانت من أجل تنفيذ واجب رسالي إلهي ، وأنّ الله كان هاديه ومرشده خلال السفر.

الآيات ـ هنا ـ عكست أوّل طلب لإبراهيمعليه‌السلام من الباريعزوجل ، إذ طلب الولد الصالح ، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّة الرسالي ، ويتمم ما تبقّى من مسيرته ، وذلك حينما قال :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إنّها حقّا لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الإعتقاد والإيمان ، والصالح من حيث القول والعمل ، والصالح من جميع الجهات.

والذي يلفت النظر أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان قد طلب من الله في إحدى المرّات أن يجعله من مجموعة الصالحين ، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم ،( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح ، حيث أنّ كلمة صالح تجمع كلّ الأشياء اللائقة والجيّدة في الإنسان الكامل.

فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم ، ورزقه أولادا صالحين (إسماعيل وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم :( وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) .

* * *

بحثان

١ ـ خالق كلّ شيء :

وردت في آيات بحثنا أنّ إبراهيمعليه‌السلام خاطب عبدة الأصنام قائلا :( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) الشعراء ، ٨٣.

(٢) الأنبياء ، ٨٥ و ٨٦.

٣٥٨

وقد زعم البعض أنّ هذه الآيات تدلّ على ما جاء في مذهب الجبر الفاسد ، وذلك عند ما اعتبروا (ما) في عبارة( ما تَعْمَلُونَ ) (ما) المصدرية ، وقالوا : إنّ هذه الآية تعني أنّ الله خلقكم وأعمالكم ، وبما أنّ أعمالنا هي من خلق الله ، فإنّنا لا نمتلك الإختيار ، أي إنّنا مجبرون.

هذا الكلام لا أساس له من الصحّة لعدّة أسباب :

أوّلا : كما قلنا فإنّ المراد من( ما تَعْمَلُونَ ) هنا ، هي الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم ، وليست أعمال الإنسان ، ومن دون أي شكّ فإنّهم كانوا يأخذون المواد من هذه الأرض التي خلقها الله ، وينحتونها بالشكل الذي يروق لهم ، ولهذا فإنّ (ما) هنا هي (ما) الموصولة.

ثانيا : إذا كان مفهوم الآية كما تصوّر أولئك ، فإنّها تكون دليلا لصالح عبدة الأصنام ، وليس ضدّهم ، لأنّهم يستطيعون القول : صناعة الأصنام وعبادتها إنّما هو من خلق الله ، ونحن في هذه الحالة لسنا بمذنبين.

وثالثا : على فرض أنّ معنى الآية هو هكذا ، فليس هناك دليل على الجبر ، لأنّه مع الحرية والإرادة والاختيار فإنّ الله هو خالق أعمالنا ، لأنّ هذه الحرية والإرادة والقدرة على التصميم وكذلك القوى البدنية والفكرية الماديّة والمعنوية لم يعطها غير الله؟ إذا فالخالق هو ، مع أنّ الفعل هو باختيارنا نحن.

٢ ـ هجرة إبراهيمعليه‌السلام :

الكثير من الأنبياء هاجروا خلال فترة حياتهم من أجل أداء رسالتهم ، ومنهم إبراهيم الذي استعرضت آيات مختلفة في القرآن المجيد قضيّة هجرته ، ومنها ما جاء في سورة العنكبوت الآية (٢٦)( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

في الحقيقة ، إنّ أولياء الله عند ما كانوا يتّمون مهام رسالتهم في إحدى المناطق ،

٣٥٩

أو أنّهم كانوا يحسّون بأنّ المجتمع لا يتقبّل رسالتهم ، كانوا يهاجرون كي لا تتوقّف رسالتهم.

وهذه الهجرة كانت مصدر بركات كثيرة على طول تاريخ الأديان ، حتّى أنّ تاريخ الإسلام من الناحيتين الظاهرية والمعنوية يدور حول محور هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لا الهجرة لكان الإسلام قد غرق ـ وإلى الأبد ـ في مستنقع عبدة الأصنام في مكّة. فالهجرة هي التي أعطت روحا جديدة للإسلام والمسلمين ، وغيّرت كلّ شيء لصالحهم ، وخطت للبشرية طريقا جديدا للسير عليه.

وبعبارة واحدة : فالهجرة برنامج عام لكلّ مؤمن عند ما يشعر في وقت من الأوقات أنّ الجو الذي يعيش فيه غير متناسب مع أهدافه المقدّسة ، ويبدو كأنّه مستنقع عفن يفسد كلّ ما فيه ، فتكليفه الهجرة ، وعليه أن يحزم حقائب السفر ، وينتقل إلى مناطق أفضل ، فأرض الله واسعة.

والهجرة قبل أن تكون ذات طابع ذاتي خارجي ، فهي ذات طابع ذاتي داخلي ، ففي بداية الأمر يجب على القلب والروح هجر الفساد إلى الطهارة ، وهجر الشرك إلى الإيمان ، وهجر المعاصي إلى طاعة الله العظيم.

فالهجرة الداخلية هي بداية تغيّر الفرد والمجتمع ، ومقدّمة للهجرة الخارجية ، وقد بحث هذا الموضوع بصورة مفصّلة في هذا التّفسير وفي موضوع يتحدّث عن الإسلام والهجرة ، وذلك بعد الآية (١٠٠) في سورة النساء.

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581