الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175744 / تحميل: 6526
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

لقد اشتد الصراع بين موسىعليه‌السلام وأصحابه من جانب ، وبين فرعون وأنصاره من جانب آخر. ووقعت حوادث كثيرة ، لا يذكر القرآن عنها كثيرا في هذه الفقرة ، ولتحقيق هدف خاص يذكر القرآن أنّ فرعون قرّر قتل موسىعليه‌السلام لمنع انتشار دعوته وللحيلولة دون ذيوعها ، لكنّ المستشارين من «الملأ» من القوم عارضوا الفكرة.

يقول تعالى :( وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) .

نستفيد من الآية أنّ أكثرية مستشارية أو بعضهم على الأقل كانوا يعارضون قتل موسى ، لخوفهم أن يطلبعليه‌السلام من ربّه نزول العذاب بساحتهم ، لما كانوا يرون من معجزاته وأعماله غير العادية ، إلّا أنّ فرعون ـ بدافع من غروره ـ يصير على قتله مهما تكن النتائج.

وبالطبع ، فإنّ سبب امتناع «الملأ» عن تأييد فكرة فرعون في قتل موسى غير معلوم ، فهناك احتمالات كثيرة قد يكون بعضها أو كلّها صحيحة

فقد يكون الخوف من العذاب الإلهي ـ كما احتملنا ـ هو السبب.

وقد يكون السبب خشية القوم من تحوّل موسىعليه‌السلام بعد استشهاده إلى هالة مقدّسة ، وهو ممّا يؤدي إلى زيادة عدد الأتباع والمؤمنين بدعوته ، خاصة إذا ما وقعت حادثة قتله بعد قضية لقاء موسى مع السحرة وانتصاره الإعجازي عليهم.

وما يؤكّد هذا المعنى هو أنّ موسى جاء في بداية دعوته بمعجزتين كبيرتين (العصا واليد البيضاء) وقد دعا هذا الأمر فرعون إلى أن يصف موسىعليه‌السلام بالساحر ، وأن يدعوه للمنازلة مع السحرة في ميقات يوم معلوم (يوم الزينة) وكان يأمل الإنتصار على موسىعليه‌السلام عن هذا الطريق ، لذا بقي في انتظار هذا اليوم.

وبمشاهدة هذا الوضع ينتفي احتمال أن يكون فرعون قد صمّم على قتل

٢٤١

موسى قبل حادث يوم الزينة خشية من تبدّل دين أهل مصر(١) .

خلاصة القول : إنّ هؤلاء يعتقدون أنّ موسىعليه‌السلام مجرّد حادث صغير ومحدود ، بينما يؤدي قتله في مثل تلك الظروف إلى أن يتحول إلى تيار تيار كبير يصعب السيطرة عليه.

البعض الآخر من المقربين لفرعون ممّن لا يميل إليه ، كان يرغب ببقاء موسىعليه‌السلام حيا حتى يشغل فكر فرعون دائما ، كي يتمكن هؤلاء من العيش بارتياح بعيدا عن عيون فرعون ، ويفعلون ما شاؤوا من دون رقابته.

وهذا الأمر يعبّر عن «سليقة» في بلاط السلاطين ، إذ يقوم رجال الحاشية ـ من هذا النوع ـ بتحريك بعض أعداء السلطة حتى ينشغل الملك أو السلطان بهم ، وليأمنوا هم من رقابته عليهم ، كي يفعلوا ما يريدون!

وقد استدل فرعون على تصميمه في قتل موسىعليه‌السلام بدليلين ، الأوّل ذو طابع ديني ومعنوي ، والآخر ذو طابع دنيوي ومادي ، فقال الأول ، كما يحكي القرآن ذلك :( إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ ) .

وفي الثّاني :( أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ) .

فإذا سكتّ أنا وكففت عن قتله ، فسيظهر دين موسى وينفذ في أعماق قلوب أهل مصر ، وستتبدل عبادة الأصنام التي تحفظ منافعكم ووحدتكم ، وإذا سكتّ اليوم فإنّ الزمن كفيل بزيادة أنصار موسىعليه‌السلام وأتباعه ، وهو أمر تصعب معه مجاهدته في المستقبل ، إذ ستجر الخصومة والصراع معه إلى إراقة الدماء والفساد وشيوع القلق في البلاد ، لذا فالمصلحة تقتضي أن أقتله أسرع ما يمكن.

بالطبع ، لم يكن فرعون يقصد من الدين شيئا سوى عبادته أو عبادة الأصنام ،

__________________

(١) ورد في تفسير الميزان عند الحديث عن الآية (٣٦) من سورة الشعراء :( قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ ) إنّ الآية دليل على أنّ هناك مجموعة منعت فرعون من قتل «موسى»عليه‌السلام إلّا أنّ التدقيق في الآيات الخاصة بقصة موسى تظهر أنّه لم تكن هناك نية لقتله في ذلك الوقت ، وإنّما كان الهدف اختبار النوايا لمعرفة الصادق من الكاذب ، أما التصميم على القتل فقد كان بعد حادثة السحرة وانتصار موسىعليه‌السلام عليهم ونفوذ تأثيره في أعماق قلوب أهل مصر ، حيث خشي فرعون العواقب.

٢٤٢

وهذا الأسلوب في استخدام لباس الدين واسمه وتبنّي شعاراته ، يستهدف منه السلطان (فرعون) تحذير الناس وتجهيلهم من خلال إعطاء طابع الدين على مواقفه وكيانه وسلطته.

أمّا الفساد فهو من وجهة نظر فرعون يعني الثورة ضدّ استكبار فرعون من أجل تحرير عامّة العباد ، ومحو آثار عبادة الأصنام ، وإحياء معالم التوحيد ، وتشييد الحياة على أساسها.

إنّ استخدام لباس الدين ورفع شعاراته ، وكذلك «التدليس» على المصلحين بالاتهامات ، هما من الأساليب التي يعتمد هما الظلمة والطغاة في كلّ عصر ومصر ، وعالمنا اليوم يموج بالأمثلة على ما نقول!

والآن لنر كيف كان رد فعل موسىعليه‌السلام والذي يبدو أنّه كان حاضر المجلس؟ يقول القرآن في ذلك :( وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ) .

قال موسىعليه‌السلام هذا الكلام بقاطعية واطمئنان يستمدان جذورهما من إيمانه القوي واعتماده المطلق على الله تعالى ، وأثبت بذلك بأنّه لا يهتز أو يخاف أمام التهديدات.

ويستفاد من قول موسىعليه‌السلام أيضا أنّ من تحل فيه صفتا «التكبر» و «عدم الإيمان بيوم الحساب» فهو إنسان خطر ، علينا أن نستعيذ بالله من شرّه وكيده.

فالتكبر يصبح سببا لأن لا يرى الإنسان سوى نفسه وسوى أفكاره ، فهو يعتبر كما في حال فرعون ـ الآيات والمعجزات الإلهية سحرا ، ويعتبر المصلحين مفسدين ، ونصيحة الأصدقاء والمقربين ضعفا في النفس.

أمّا عدم الإيمان بيوم الحساب فيجعل الإنسان حرا طليقا في أعماله وبرامجه ، لا يفكر بالعواقب ، ولا يرى لنفسه حدودا يقف عندها ، وسيقوم بسبب

٢٤٣

انعدام الضوابط وفقدان الرقابة بمواجهة كلّ دعوة صالحة ويحارب الأنبياء.

ولكن ماذا كان عاقبة تهديد فرعون؟

الآيات القادمة تنبئنا بذلك ، وتكشف كيف استطاع موسىعليه‌السلام أن يفلت من مخالب هذا الرجل المتكبر المغرور.

* * *

٢٤٤

الآيتان

( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) )

التّفسير

أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله!

مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسىعليه‌السلام وفرعون ، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون ، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا ، وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه.

٢٤٥

من موقعه في بلاط فرعون ـ مكلفا بحماية موسىعليه‌السلام من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعند ما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون ، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط.

يقول تعالى :( وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ ) .

أتقتلوه في حين أنّه :( وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه ، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة ، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة ، ولم يرضحوا لا لتهديدات فرعون ووعيده ، ولا لإغراءاته وأمنياته ، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق ، في سبيل دعوة موسى ، وإله موسى هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟

فكروا جيدا ، لا تقوموا بعمل عجول ، تحسّبوا لعواقب الأمور وإلّا فالندم حليفكم.

ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين :( وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) .

إنّ حبل الكذب قصير ـ كما يقولون ـ وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذبا ، وينال جزاء الكاذبين ، وإذا كان صادقا ومأمورا من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم ، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق والصواب.

ثم تضيف الآيات :( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) .

فإذا كان موسى سائرا في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية ، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

٢٤٦

ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلّا أن «مؤمن آل فرعون» يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.

والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون ، أو بعض الفراعنة ـ على الأقل ـ كانوا يؤمنون بالله ، وإلّا فإن تعبير «مؤمن آل فرعون» في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسىعليه‌السلام وتعاونه مع بني إسرائيل ، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه ، ولا يناسب أيضا مع أسلوب «التقية» التي كان يعمل بها.

وبالنسبة للتعبير الآنف الذكر( وَإِنْ يَكُ كاذِباً ) فقد طرح المفسّرون سؤالين :

الأوّل : إذا كان موسىعليه‌السلام كاذبا ، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه وحسب ، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.

الثّاني : أما لو كان صادقا ، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها ، كما في تعبير «مؤمن آل فرعون»؟

بالنسبة للسؤال الأول ، نقول : إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه. وإلّا فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله ، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سببا لإضلال الناس وإغوائهم؟

وبالنسبة للسؤال الثّاني ، من الطبيعي أن يكون قصد موسىعليه‌السلام من التهديد بالعذاب ، هو العذاب الدنيوي والأخروي ، والتعبير بـ «بعض» إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي ، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه.

وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون» واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسىعليه‌السلام .

ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي :

٢٤٧

أوضح لهم أولا أنّ عمل موسىعليه‌السلام لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه.

ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض» الأدلة ، ويظهر أنّها أدلة معتبرة ، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطرا واضحا.

والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم ، فإذا كان كاذبا فسينال جزاءه من قبل الله ، ولكن يحتمل أن يكون صادقا ، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر ، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة ، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي.

( يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا ) .

ويحتمل أن يكون غرضه : إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة ، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسىعليه‌السلام ، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة ، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأمور.

ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته ، فقلّل من غضبهم وغيظهم ، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع ، فقطع الكلام بالقول :( قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى ) وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.

ثمّ إنني :( وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) .

وهذه هو حال كافة الطواغيت والجبّارين على طول التأريخ ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره ، ولا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون ، فهم يظنون أن عقلهم كامل ، وأن الآخرين لا يملكون علما ولا عقلا وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.

* * *

٢٤٨

بحوث

أوّلا : من هو مؤمن آل فرعون؟

نستفيد من الآيات القرآنية أنّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسىعليه‌السلام ، ويظلّ يتكتم على إيمانه ، ويعتبر نفسه مكلفا بالدفاع عنهعليه‌السلام .

لقد كان الرجل ـ كما يدل عليه السياق ـ ذكيا ولبقا ، يقدّر قيمة الوقت ، ذا منطق قوي ، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسىعليه‌السلام وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.

تتضمن الرّوايات الإسلامية وتفاسير المفسّرين أوصافا أخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.

البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن عم ـ أو ابن خالة ـ فرعون ، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنّها تطلق على الأقرباء ، بالرغم من أنّها تستخدم أيضا للأصدقاء والمقربين.

والبعض قال : إنّه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل»(١) .

فيما قال البعض الآخر : إنّه خازن خزائن فرعون ، والمسؤول عن الشؤون المالية(٢) .

وينقل عن ابن عباس أنّه قال : إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسىعليه‌السلام ، وهم آل فرعون ، وزوجة فرعون ، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله ، حينما أقدم موسى على قتل القبطي ، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت :( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا

__________________

(١) يستفاد هذا المعنى من روآية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تلاحظ في أمالي الصدوق طبقا لنقل نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥١٩) ولكن بما أن الشائع أن «حزقيل» هو أحد أنبياء بني إسرائيل ، فعندها سيضعف هذا الاحتمال ، إلا إذا كان «حزقيل» هذا غير النبي المعروف في بني إسرائيل. ثم إن الروآية ضعيفة السند.

(٢) ورد هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم ، كما نقل صاحب نور الثقلين في المجلد الرابع ، صفحة ٥١٨.

٢٤٩

مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (١) .

لكن القرائن تفيد أن ثمّة مجموعة قد آمنت بموسىعليه‌السلام بعد مواجهة موسى مع السحرة ، ويظهر من السياق أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.

والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من بني إسرائيل ، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف جدا ، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون» وأيضا نداء «يا قوم».

ولكن يبقى دوره مؤثرا في تأريخ موسىعليه‌السلام وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة لنا.

ثانيا : التقية أداة مؤثّرة في الصراع

(التقية) أو (كتمان الإعتقاد) ليست من الضعيف أو الخوف كما يظن البعض ، بل غالبا ما توظّف كأسلوب مؤثّر في إدارة مع الظالمين والجبارين والطغاة ، إذ أن كشف أسرار العدو لا يمكن أن يتمّ إلّا عن طريق الأشخاص الذين يعملون بأسلوب التقية.

وكذلك الضربات الموجعة والمباغتة للعدو ، لا تتمّ إلّا عن طريق التقية وكتمان الخطط وأساليب الصراع.

لقد كانت «تقية» مؤمن آل فرعون من أجل خدمة دين موسىعليه‌السلام ، والدفاع عنه في اللحظات الصعبة. ثمّ هل هناك أفضل من أن يحظى الإنسان بشخص مؤمن بقضيته ودعوته يزرعه في جهاز عدوه بحيث يستطيع من موقعه أن ينفذ إلى أعماق تنظيمات العدو ، ويحصل على المعلومات والأسرار ليفيد بها قضيته ودعوته ، ويخبر بها أصحابه وقد تقضي الضرورة النفوذ في ذهنية العدو أيضا وتغييرها لمصالح قضيته ودعوته ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

__________________

(١) القصص ، الآية ٢٠.

٢٥٠

الآن نسأل : هل كان بوسع مؤمن آل فرعون إسداء كلّ هذه الخدمات لدعوة موسىعليه‌السلام لو لم يستخدم أسلوب التقية؟

لذلك كلّه ورد في حديث عن الإمام الصادق قولهعليه‌السلام : التقية ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقية له ، والتقية ترس الله في الأرض ، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل»(١) .

إنّ فاعلية هذا المبدأ تكتسب أهمية استثنائية في الوقت الذي يكون فيه المؤمنون قلّة خاضعة للأكثرية التي لا ترحم ولا تتعامل وفق المنطق ، فالعقل لا يسمح بإظهار الإيمان (باستثناء الضرورات) والتفريط بالطاقات الفعّالة ، بل الواجب يقضي بكتمان العقيدة والتخفي على المعتقد في مثل هذا الوضع لكي يصار إلى تجميع الطاقات والقوى والإفادة منها لتسديد الضربة النهائية والقاصمة في الوقت والظرف المناسبين.

إنّ الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التزم بنفسه هذا المبدأ ، حينما أبقى دعوته سريّة لبضع سنوات ، وحينما ازداد أتباعه وتشكّلت النواة الإيمانية القادرة للحفاظ على الدعوة الجديدة صدعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمره تعالى أمام القوم.

ومن بين الأنبياء الآخرين نرى إبراهيمعليه‌السلام الذي استخدم أسلوب التقية ، ووظّف هذا المبدأ في عمله الشجاع الذي حطّم فيه الأصنام ، وإلّا فلولا التقية لم يكن بوسعه أن ينجح في عمله أبدا.

كذلك استفاد أبو طالب عم الرسول من أسلوب التقية في حماية رسول الله ودعوته الناشئة ، إذ لم يعلن عن صريح إيمانه برسول الله وبالإسلام إلّا في فترات ومواقف خاصّة ، كي يستطيع من خلال ذلك لنهوض بأعباء دوره المؤثر في حفظ حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيال مكائد وطغيان الشرك القرشي.

من هنا يتبيّن خطأ رأي من يعتقد بأنّ «التقية» كمبدأ وكأسلوب ، تختص

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٥٢١.

٢٥١

بالشيعة دون غيرهم ، أو أنّها كدليل على الضعف والجبن ، فيما هي موجودة في جميع المذاهب دون استثناء.

ولمزيد من التوضيح ، باستطاعة القارئ الكريم أن يرجع إلى بحثنا في تفسير الآية ٢٨ من آل عمران والآية ١٠٦ من النحل.

ثالثا : من هم الصدّيقون؟

في الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الصديقون ثلاثة : (حبيب النجار) مؤمن آل يس الذي يقول :( اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً ) و (حزقيل) مؤمن آل فرعون و (علي بن أبي طالب وهو أفضلهم».

والملاحظ في هذا الحديث أنّه يروى في مصادر الفريقين(١) .

إنّ تأريخ النبوات يظهر مكانة هؤلاء في دعوات الرسل ، إذ صدّقوهم في أحرج اللحظات ، وكانوا في المقدمة ، فاستحقوا لقب «الصدّيق» خاصة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الذي وقف منذ مطلع عمره الشريف وحتى نهايته مناصرا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد رحلته وذابا عن الدعوة الجديدة ، واستمرّ في كلّ المراحل والأشواط في تقديم التضحيات بمنتهى الإخلاص.

* * *

__________________

(١) يلاحظ الصدوق في «الأمالي» وابن حجر في الفصل الثّاني الباب التاسع من «الصواعق».

٢٥٢

الآيات

( وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) )

التّفسير

التحذير من العاقبة!

كان الشعب المصري آنذاك يمتاز نسبيا بمواصفات التمدّن والثقافة ، وقد اطّلع على أقوال المؤرخين بشأن الأقوام السابقة ، أمثال قوم نوح وعاد وثمود الذين لم تكن أرضهم تبعد عنهم كثيرا ، وكانوا على علم بما آل إليه مصيرهم.

لذلك كلّه فكّر مؤمن آل فرعون بتوجيه أنظار هؤلاء إلى أحداث التأريخ وأخذ يحذرهم من تكرار العواقب الأليمة التي نزلت بغيرهم ، عساهم أن يتيقظوا ويتجنّبوا قتل موسىعليه‌السلام يقول القرآن الكريم حكاية على لسانه :( وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ) .

٢٥٣

ثم أوضح مراده من هذا الكلام بأنني خائف عليكم عن العادات والتقاليد السيئة التي كانت متفشّية في الأقوام السالفة.( مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

لقد نالت هذه الأقوام جزاء ما كانت عليه من الكفر والطغيان ، إذ قتل من قتل منهم بالطوفان العظيم ، وأصيب آخرون منهم بالريح الشديدة ، وبعضهم بالصواعق المحرقة ، ومجموعة بالزلازل المخرّبة.

واليوم يخاطبهم مؤمن آل فرعون : ألا تخشون أن تصيبكم إحدى هذه البلايا العظيمة بسبب إصراركم على الكفر والطغيان؟ هل عندكم ضمان بأنّكم لستم مثل أولئك ، أو أن العقوبات الإلهية لا تشملكم ، ترى ماذا عمل أولئك حتى أصابهم ما أصابهم ، لقد اعترضوا على دعوة الأنبياء الإلهيين ، وفي بعض الأحيان عمدوا إلى قتلهم لذلك كلّه فإني أخاف عليكم مثل هذا المصير المؤلم!؟

ولكن ينبغي أن تعلموا أنّ ما سيصيبكم ويقع بساحتكم هو من عند أنفسكم وبما جنت أيديكم :( وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ) .

لقد خلق الله الناس بفضله وكرمه ، ووهبهم من نعمه ظاهرة وباطنة ، وأرسل أنبياءه لهدايتهم ، ولصدّ طغيان العتاة عنهم ، لذلك فإنّ طغيان العباد وصدّهم عن السبيل هو السبب فيما ينزل بهم من العذاب الأليم.

ثم تضيف الآية على لسانه :( وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ) أي يوم تطلبون العون من بعضكم البعض ، إلّا أصواتكم لا تصل إلى أي مكان.

«التناد» مأخوذة أصلا من كلمة «ندا» وتعني «المناداة» (وهي في الأصل (التنادي) وحذفت الياء ووضعت الكسرة في محلّها) والمشهور بين المفسّرين أنّ

__________________

(١) «داب» على وزن (ضرب) تعني في الأصل الاستمرار في السير ، و (دائب) تطلق على الكائن الذي يستمر في سيره ثمّ أصبحت بعد ذلك تستعمل لأي عادة مستمرة والمقصود هنا من (دأب قوم نوح) هو قيامهم واستمرارهم واعتيادهم على الشرك والطغيان والظلم والكفر.

٢٥٤

(يوم التناد) هو من أسماء يوم القيامة ، وقد ذكروا أسبابا لهذه التسمية متشابهة تقريبا ، فمنهم من يقول : إن ذلك يعود إلى مناداة أهل النّار لأهل الجنّة ، كما يقول القرآن :( وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) فجاءهم الجواب :( إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ ) (١) (٢) . أو أنّ التسمية تعود إلى مناداة الناس بعضهم لبعض طلبا للعون والمساعدة.

وهناك من قال : إن سبب التسمية يعود إلى أنّ الملائكة تناديهم للحساب ، وهم يطلبون العون من الملائكة.

أو لأنّ منادي المحشر ينادي :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٣) .

وقال بعضهم : إنّ السبب يعود إلى أنّ المؤمن عند ما يشاهد صحيفة أعماله ينادي برضى وشوق :( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) (٤) بينما الكافر من شدة خوفه وهول ما يحلّ به يصرخ وينادي :( يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) (٥) .

ولكن يمكن تصور معنى أوسع للآية ، بحيث يشمل «يوم التناد في هذه الدنيا أيضا ، لأنّ المعنى ـ كما رأينا ـ يعني (يوم مناداة البعض بعض الآخر) وهذا المعنى يعبّر عن ضعف الإنسان وعجزه عند ما تنزل به المحن وتحيطه المصاعب والملمّات ، وينقطع عنه العون وأسباب المساعدة ، فيبدأ بالصراخ ولكن بغير نتيجة.

وفي عالمنا هذا ثمّة أمثلة عديدة على «يوم التناد» مثل الأيّام التي ينزل فيها العذاب الإلهي ، أو الأيّام التي يصل فيها المجتمع إلى طريق مسدودة لكثرة ما ارتكب من ذنوب وخطايا ، وقد نستطيع أن نتصور صورا أخرى عن يوم التناد في حياتنا من خلال الحالات التي يمرّ بها الناس بالمشاكل والصعاب المختلفة حيث

__________________

(١) الأعراف ، الآية ٥٠.

(٢) ورد هذا المعنى أيضا في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب «معاني الأخبار» للصدوق.

(٣) هود ، الآية ١٨.

(٤) الحاقة ، الآية ١٩.

(٥) الحاقة ، الآية ٢٥.

٢٥٥

يصرخ الجميع عندها طالبين للحل والنجاة!

الآية التالية تفسّر يوم التناد بقولها :( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ) .

ومثل هؤلاء حق عليهم القول :( وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) إنّ هؤلاء الذين ضلّوا في الحياة الدنيا بابتعادهم عن سبل الرشاد والهداية وتنكبهم عن الطريق المستقيم ، سيضلّون في الآخرة عن الجنّة والرضوان والنعم الإلهية الكبرى. وقد يكون في التعبير القرآني إيماءة خفيفة إلى قول فرعون :( ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ ) .

* * *

٢٥٦

الآيتان

( وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) )

التّفسير

عجز المتكبرين عن الإدراك الصحيح!

هذا المقطع من الآيات الكريمة يستمر في عرض كلام مؤمن آل فرعون ، ومن خلال نظرة فاحصة في سياق الآيات ، يظهر أنّ مؤمن آل فرعون طرح كلامه في خمسة مقاطع ، كلّ منها اكتسى بلون من المخاطبة ، وشكل من الدليل ، الذي يستهدف النفوذ إلى قلب فرعون والمحيطين به ، بغية محو الصدأ وآثار الكفر السوداء منهاكي تذعن لله ورسالاته وأنبيائه ، وتترك التكبر والطغيان :

المقطع الأوّل : راعى فيه مؤمن آل فرعون الاحتياط ، ودعا القوم إلى الحذر من الأضرار المحتملة من جهتين : (قال لهم : لو كان موسى كاذبا فسينال جزاء

٢٥٧

كذبه ، أمّا لو كان صادقا فيشملنا العذاب ، إذا عليكم أن لا تتركوا العمل بالاحتياط).

المقطع الثّاني : وفيه وجّه مؤمن آل فرعون الدعوة إلى التأمّل بما حلّ بالأقوام السابقة وما نال الأمم الداثرة من المصير والجزاء ، كي يأخذوا العبرة من ذلك المصير!

المقطع الثّالث : كأمن في الآيات القرآنية التي بين أيدينا ، إذ تذكر هم الآيات ـ من خلال خطاب مؤمن آل فرعون ـ بجزء من تأريخهم ، هذا التأريخ الذي لا يبعد كثيرا عنهم ، ولم تمحى بعد أواصر الارتباط الذهني والتأريخي فيما بينهم وبينه ، وهذا الجزء يتمثل في نبوة يوسفعليه‌السلام ، الذي يعتبر أحد أجداد موسى ، حيث يبدأ قصة التذكير معهم بقوله تعالى :( وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ) (١) وبالدلائل الواضحة لهدايتكم ولكنكم :( فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ ) .

وشككم هنا ليس بسبب صعوبة دعوته أو عدم اشتمالها على الأدلة والعلائم الكافية ، بل بسبب غروركم حيث أظهرتم الشك والتردد فيها.

ولأجل أن تتنصلوا من المسؤولية ، وتعطوا لأنفسكم الذرائع والمبررات ، قلتم :( حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً ) .

بناء على ذلك كلّه لم تشملكم الهداية الإلهية بسبب أعمالكم ومواقفكم :( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) .

لقد سلكتم سبيل الإسراف والتعدي على حدود الله تعالى كما قمتم بالتشكيك في كلّ شيء ، حتى غدا ذلك كلّه سببا لحرمانكم من اللطف الإلهي في الهداية ، فسدرتم في وادي الضلال والغي ، كي تنتظركم عاقبة هذا الطريق الغاوي.

واليوم ـ والسياق ما زال يحكي خطاب مؤمن آل فرعون لهم ـ اتبعتم نفس

__________________

(١) تعتبر هذه الآية هي الوحيدة في القرآن الكريم التي تشير صراحة إلى نبوة يوسفعليه‌السلام ، وإن كنّا لا نعدم إشارات متفرقة لهذه النبوّة في سياق آيات قرآنية اخرى.

٢٥٨

الأسلوب حيال دعوة موسىعليه‌السلام ، إذ تركتم البحث في أدلة نبوته وعلائم بعثته ورسالته ، فابتعدت عنكم أنوار الهداية ، وظلت قلوبكم سوداء محجوبة عن إشعاعاتها الهادية الوضّاءة.

الآية الكريمة التي تليها تعرّف «المسرف المرتاب» بقول الله تبارك وتعالى :( الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ) (١) .

هؤلاء يرفضون آيات الله البينات من دون أي دليل واضح من عقل أو نقل ، بل يستجيبون في ذلك إلى أهوائهم المغرضة ووساوسهم المضلّة الواهية ، كي يستمروا في رفع راية الجدل والمعارضة.

وللكشف عن قبح هذه المواقف عند الله وعند الذين آمنوا ، تقول الآية :( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (٢) .

ذلك لأنّ الجدال بالباطل (الجدال السلبي) واتخاذ المواقف ضدّ الوقائع والآيات القائمة على أساس الدليل المنطقي ، يعتبر أساسا لضلال المجادلين وتنكبهم عن جادة الهداية والصواب ، وكذلك في إغواء للآخرين ، حيث تنطفئ أنوار الهداية في تلك الأوساط ، وتتقوى أسس ودعائم حاكمية الباطل.

في النهاية ، وبسبب عدم تسليم هؤلاء أمام الحق ، تقرّر الآية قوله تعالى :( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (٣) .

أجل ، إنّ العناد في مقابل الحق يشكّل ستارا مظلما حول فكر الإنسان ، ويسلب منه قابليته على التشخيص الهادي الصحيح ، بحيث ينتهي الأمر إلى أن

__________________

(١) (الذين) هنا بدل عن «مسرف مرتاب» إلّا أنّ المبدل عنه مفرد ، في حين أنّ البدل جاء على صيغة الجمع! السبب في ذلك أنّ الخطاب لا يستهدف شخصا معينا وإنّما يشتمل على النوع.

(٢) فاعل «كبر» هو (الجدال) حيث نستفيد ذلك من الجملة السابقة ، أمّا «مقتا» فهي تمييز ، فيما يرى بعض المفسّرين أنّ الفاعل هو «مسرف مرتاب» إلّا أنّ الرأي الأوّل أفضل.

(٣) «متكبر جبار» وصف للقلب ، وليست وصفا لشخص ، بالرغم من أنّها مضافة. اشارة الى أنّ أساس التكبر والتجبر إنما ينبع من القلب ، ولأنّ القلب يسيطر على كلّ أعضاء ووجود الإنسان ، فإنّ كلّ الوجود الإنساني سيكتسي هذا الطابع الفاسد البذيء.

٢٥٩

يتحول القلب إلى مثل الإناء المغلق ، الذي لا يمكن افراغه من محتواه الفاسد ، ولا إدخال المحتوى الهادي الصحيح.

إنّ الأشخاص الذين يقفون في وجه الحق وأهله بسبب اتصاف بصفتي التكبر والتجبر ، فإنّ الله تعالى سوف يسلب منهم روح طلب الحقيقة الى درجة أن الحق سيكون مرا في مذاقهم ، والباطل حلوا.

وفي كلّ الأحوال ، لقد قام مؤمن آل فرعون بعمله من خلال الوسائل التي وقفنا عليها آنفا ، فانتهى ـ كما سيظهر في الآية اللاحقة ـ إلى أجهاض مخطط فرعون في قتل موسىعليه‌السلام ، أو على الأقل وفّر الوقت الكافي في تأخير تنفيذ هذا لمخطط إلى أن استطاع موسىعليه‌السلام أن يفلت من الخطر.

لقد كانت هذه مهمّة عظيمة أنجزها هذا الرجل المؤمن الشجاع ، الذي انصب جهده في هذه المرحلة الخطيرة من الدعوة الموسوية على إنقاذ حياة كليم اللهعليه‌السلام : وكما سيتضح لا حقا من احتمال أن هذا الرجل ضحى بحياته أيضا في هذا السبيل.

* * *

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

ملاحظة

هل أنّ البشر الموجودين على الأرض هم من ذريّة نوح؟

فسّرت مجموعة من كبار المفسّرين الآية( وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) بأنّ كلّ أجيال البشر التي أتت بعد نوح هي من ذريته.

وقد نقل الكثير من المؤرّخين بقاء ثلاثة أولاد من ذريّة نوح هم (سام) و (حام) و (يافث) بعد الطوفان ، وكلّ القوميات الموجودة اليوم على الكرة الأرضية تنتهي إليهم.

وقد أطلق على العرق العربي والفارسي والرومي العرق السامي ، فيما عرف العرق التركي ومجموعة اخرى بأنّهم من أولاد «يافث» ، أمّا «حام» فإنّ ذريّته تنتشر في السودان والسند والهند والنوبة والحبشة ، كما أنّ الأقباط والبربر هم من ذريّته أيضا.

البحث في هذه المسألة ليس المراد منه معرفة إلى أي من أولاد نوح ينتسب كلّ عرق ، لأنّ المسألة بحدّ ذاتها هي مورد اختلاف بين الكثير من المؤرخين والمفسّرين ، ولكن المتوخّى من البحث هو : هل أنّ كلّ القوميات البشرية تعود في أصلها إلى أولاد نوح الثلاثة.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : ماذا كان مصير المؤمنين الذين ركبوا السفينة مع نوح خلال الطوفان؟ وهل أنّهم جميعا ماتوا من دون أن يتركوا أي خلف لهم وإن كان لهم ذريّة ، فهل كانوا بنات تزوجنّ من أولاد نوح؟

هذه القضيّة من وجهة نظر التأريخ ما تزال غامضة.

على أيّة حال فإنّ هناك أحاديث وآيات قرآنية تشير إلى وجود أقوام وامم على الكرة الأرضية لا ينتهي أصلها إلى أولاد نوح.

منها ما ورد في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الباقرعليه‌السلام في توضيح الآية المذكورة أعلاه : «الحقّ والنبوّة والكتاب والإيمان في عقبه ، وليس كلّ من في

٣٤١

الأرض من بني آدم من ولد نوحعليه‌السلام قال اللهعزوجل في كتابه :( احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) ، وقال اللهعزوجل أيضا :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) (١) .

وعلى هذا فإنّ انتهاء كلّ العروق الموجودة على الأرض إلى أبناء نوح أمر غير ثابت.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث ورد المجلّد الرابع من التفسير نور الثقلين في الصفحة ٤٠٥ ، كما ورد في نهاية آيات البحث في تفسير الصافي.

٣٤٢

الآيات

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) )

التّفسير

خطّة إبراهيم الذكيّة في تحطيم الأصنام :

آيات بحثنا هذا تتناول بشيء من التفصيل حياة النّبي الشجاع إبراهيمعليه‌السلام محطّم الأصنام بعد آيات استعرضت جوانب من تاريخ نوحعليه‌السلام المليء بالحوادث.

ففي البداية تحدّثت القصّة عن تحطيم إبراهيم للأصنام ، والموقف الشديد الذي اتّخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم ، فيما يتطرّق القسم الآخر من القصّة للمشهد

٣٤٣

الكبير الذي يتمثّل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضيّة ذبح ابنه إسماعيل ، والآيات التي تخصّ هذا القسم ذكرت هنا ـ فقط ـ بهذا التفصيل ، ولم تذكر في موضع آخر بهذا الشكل.

الآية الاولى ، ربطت بين قصّة إبراهيم وقصّة نوح بهذه الصورة( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ) .

أي إنّ إبراهيم كان سائرا على خطى نوحعليه‌السلام في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص ، حيث إنّ الأنبياء يبلغون لفكر واحد ، وهم أساتذة جامعة واحدة ، وكلّ واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.

كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح ، رغم أنّ الفاصل الزمني بينهما كان كبيرا (قال بعض المفسّرين : إنّ الفاصل الزمني بينهما يقدر بـ ٢٦٠٠ سنة) ، إذ أنّ العلاقات الإيمانية ـ كما هو معروف ـ لا يؤثّر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير(١) .

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل ، قال تعالى :( إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) .

حيث فسّر المفسّرون (قلب سليم) بعدّة صور ، أشارت كلّ واحدة منها إلى أحد أبعاد هذه المسألة.

القلب الطاهر من الشرك.

أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.

__________________

(١) بعض المفسّرين أرجعوا ضمير (شيعته) إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين أنّ آيات القرآن الكريم تقول : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتّبع ملّة إبراهيم ، علاوة على ذلك فإنّ هذا المرجع ليس له في الآيات السابقة واللاحقة ضمير يدلّ عليه ، ومن الممكن أنّهم تصوّروا أنّ تعبير الشيعة هو دليل على أفضلية نوح من إبراهيم ، في حين أنّ القرآن الكريم تحدّث عن شخصية سامية لإبراهيم ، لكن هذا التعبير خال من أيّة دلالة على هذه المسألة ، بل المقصود استمرار الخطّ الفكري والديني ، كما أنّ أفضلية رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة لكافّة الأنبياء لا تتنافى مع أتباعه لدين إبراهيم التوحيدي يقول القرآن ، في الآية ٩٠ من سورة الأنعام( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) .

٣٤٤

أو القلب الخالي من حبّ الدنيا ، لأنّ حبّ الدنيا هو مصدر كلّ الخطايا.

وأخيرا هو القلب الذي لا يوجد فيه شيء سوى الله.

في الحقيقة إنّ كلمة (سليم) مشتقّة من (السلامة) ، وعند ما تطرح السلامة.

بصورة مطلقة ، فإنّها تشمل أيضا السلامة من كلّ الأمراض الأخلاقية والعقائدية.

فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ) ،(١) أي إنّ قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض ، وإنّ الله سبحانه وتعالى أضاف أمراضا اخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وارتكابهم المزيد من الذنوب.

وأجمل من فسّر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادقعليه‌السلام عند ما قال : «القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه!»(٢) . حيث جمع بقوله كلّ الأوصاف المذكورة مسبقا.

وقد جاء في رواية اخرى للإمام الصادقعليه‌السلام «صاحب النيّة الصادقة صاحب القلب السليم ، لأنّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النيّة لله في الأمور كلّها»(٣) .

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة ، حيث نقرأ في سورة الشعراء ، وفي الآيات ٨٨ و ٨٩ على لسان النّبي الكبير إبراهيمعليه‌السلام قوله تعالى :( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (٤) .

نعم ، من هنا تبدأ قصّة إبراهيم ذي القلب السليم ، والروح الطاهرة ، والإرادة الصلبة ، والعزم الراسخ ، مع قومه ، إذ كلّف بالجهاد ضدّ عباد الأصنام ، وبدأ بأبيه

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية ١٠.

(٢) ورد في الكافي ونقله صاحب تفسير الصافي في ذيل الآية (٨٩) من سورة الشعراء.

(٣) المصدر السابق.

(٤) في مجال القلب السليم ورد بحث مشروح في ذيل الآيات (٨٨) و (٨٩) من سورة الشعراء (تحت عنوان القلب السليم وحده رأسمال النجاة) ص ٢٧٣.

٣٤٥

وعشيرته( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ ) ، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟

أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات ، وأعطاه العقل أن يعظّم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟

ثمّ يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام ، ويقول :( أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ) (١) .

استخدام كلمة (إفك) في هذه الآية ، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح ، توضّح حزم وقاطعية إبراهيمعليه‌السلام بشأن الأصنام.

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة( فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميّا ، ونعمه تحيط بكم من كلّ جانب ، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله ، فهل تتوقّعون أنّه سيرحمكم وسوف لا يعذّبكم بأشدّ العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!

عبارة( بِرَبِّ الْعالَمِينَ ) تشير إلى أنّ كلّ العالم يدور في ظلّ ربوبيته تبارك وتعالى ، وقد تركتموه واتّجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.

وجاء في كتب التأريخ والتّفسير ، أنّ عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنويا ، يهيّئون فيه الطعام داخل معابدهم ، ثمّ يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه ، ثمّ يخرجون جميعا إلى خارج المدينة ، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.

وبذلك خلت المدينة من سكّانها ، فاستغلّ إبراهيمعليه‌السلام هذه الفرصة الجيّدة لتحطيم الأصنام ، الفرصة التي كان إبراهيمعليه‌السلام ينتظرها منذ فترة طويلة ، ولم يكن راغبا في إضاعتها.

وحين دعاه قومه ليلا للمشاركة في مراسمهم نظر إلى النجوم( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي

__________________

(١) في تركيب هذه الجملة ذكر المفسرون احتمالين : الأول : أن (إفكا) مفعول بـ لـ (تريدون) و (آلهة) بدله ، والآخر : أن (آلهة) مفعول به و (إفكا) مفعول لأجله تقدم للأهمية.

٣٤٦

النُّجُومِ ).

فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) .

وبهذا الشكل اعتذر عن مشاركتهم.

بعد اعتذاره تركوه وأسرعوا لتأدية مراسمهم( فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ) .

وهنا يطرح سؤالان.

الأوّل : لماذا نظر إبراهيمعليه‌السلام في النجوم ، وما هو هدفه من هذه النظرة؟

والثاني : هل أنّه كان مريضا حقّا حينما قال : إنّني مريض؟ وما هو مرضه؟

جواب السؤال الأوّل ، مع أخذ اعتقادات أهل بابل وعاداتهم بنظر الإعتبار ، يتّضح أنّهم كانوا يستقرئون النجوم ، وحتّى أنّهم كانوا يقولون بأنّ أصنامهم كانت هياكل النجوم على الأرض ، ولهذا السبب فإنّهم يكنّون لها الاحترام لكونها تمثّل النجوم.

وبالطبع فإلى جانب استقرائهم للنجوم ، كانت هناك خرافات كثيرة في هذا المجال شائعة في أوساطهم ، منها أنّهم كانوا يعتبرون النجوم تؤثّر على حظوظهم ، وكانوا يطلبون منها الخير والبركة ، كما كانوا يستدلّون بها على الحوادث المستقبلية.

ولكي يوهمهم إبراهيمعليه‌السلام بأنّه يقول بمثل قولهم ، نظر إلى السماء وقال حينذاك : إنّي سقيم ، فتركوه ظنّا منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

أمّا بعض كبار المفسّرين ، فقد احتملوا أنّه كان يريد من حركة النجوم تعيين الوقت الدقيق لمرضه ، لأنّه كان مصابا بحمى تعتريه في أوقات معيّنة ، ولكن الاحتمال الأوّل يعدّ مناسبا أكثر ، مع الأخذ بنظر الإعتبار معتقدات أهل بابل السائدة آنذاك.

فيما احتمل البعض الآخر أنّ نظرة إلى السماء هو التفكّر في أسرار الخلق ، رغم أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ نظراته إلى السماء هي نظرات منجم يريد من خلال حركة

٣٤٧

النجوم توقّع الحوادث القادمة.

أمّا بخصوص السؤال الثاني فقد ذكروا أجوبة متعدّدة :

منها : أنّه كان مريضا حقّا ، وحتّى إن لم يكن مريضا فإنّه لن يشارك في مراسم عيدهم ، فمرضه كان عذرا جيّدا لعدم مشاركته في تلك المراسم وفي نفس الوقت فرصة ذهبية لتحطيم الأصنام ، ولا نمتلك دليلا يمكننا من القول بأنّه استخدم التورية ، كما أنّ استخدام التورية من قبل الأنبياء يعدّ عملا غير مناسب.

وقال البعض الآخر : إنّ إبراهيم لم يكن مصابا بمرض جسدي ، وإنّما روحه متعبة ، من جرّاء الممارسات التافهة لقومه وكفرهم وظلمهم وفسادهم ، فبهذا أوضح لهم الحقيقة ، رغم أنّهم تصوّروا شيئا آخر ، واعتقدوا أنّه يعاني من أمراض جسدية.

واحتمل البعض أنّه استخدم التورية في كلامه معهم ، فمثلا يأتي شخص ويطرق باب البيت ، ويستفسر : هل فلان موجود في البيت ، فيأتيه الجواب : إنّه ليس هنا ، والمراد من هنا هو خلف باب البيت وليس البيت كلّه ، في حين أنّ السامع يفهم أنّه ليس موجودا في البيت ، (مثل هذه العبارات التي هي ليست بكذب وظاهرها يعطي مفهوما آخر يطلق عليها في الفقيه اسم «التورية») ومقصود إبراهيمعليه‌السلام انّني يمكن أنّ أمراض في المستقبل ، قال ذلك ليتخلّص منهم ويتركوه وحيدا.

ولكن التّفسير الأوّل والثاني أنسب حسب الظاهر.

وبهذه الطريقة بقي إبراهيمعليه‌السلام وحده في المدينة بعد أن تركها عبدة الأصنام متوجّهين إلى خارجها ، فنظر إبراهيم حوله ونور الاشتياق لتحطيم الأصنام ظاهر في عينيه ، إذ قربت اللحظات التي كان ينتظرها ، وعليه أن يتحرّك لمحاربة الأصنام وإلحاق ضربة عنيفة بها ، ضربة تهزّ العقول التافهة لعبدتها وتوقظهم.

فذهب إلى معبد الأصنام ، ونظر إلى صحون وأواني الطعام المنتشرة في المعبد ، ثمّ نظر إلى الأصنام وصاح بها مستهزئا ، ألا تأكلون من هذا الطعام الذي جلبه لكم

٣٤٨

عبدتكم ، إنّه غذاء دسم ولذيذ ومتنوّع ، ما لكم لا تأكلون؟( فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) (١) .

ثمّ أضاف ، لم لا تتكلّمون؟ لم تعجز ألسنتكم عن النطق؟( ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) .

وبهذا استهزء إبراهيمعليه‌السلام بكلّ معتقداتهم الخرافية ، ومن دون أي شكّ فإنّه كان يعرف أنّها لا تأكل ولا تتحدّث ، وأنّها جماد. وأراد من وراء ذلك عرض حادثة تحطيم الأصنام بصورة جميلة ولطيفة.

بعد ذلك شمر عن ساعديه ، فأمسك الفأس وانقضّ على تلك الأصنام بالضرب بكلّ ما لديه من قوّة( فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) .

والمراد من (اليمين) إمّا يد الإنسان اليمنى ، والتي ينجز الإنسان بها معظم أعماله ، أو أنّها كناية عن القدرة والقوّة ، ويمكن أن تجمع بين المعنيين.

على أيّة حال ، فإنّ انقضاض إبراهيمعليه‌السلام على الأصنام ، حوّل معبد الأصنام المنظّم إلى خربة موحشة ، حيث لم يبق صنم على حالته الاولى ، فالأيدي والأرجل المحطّمة تفرّقت هنا وهناك داخل المعبد ، وكم كان منظر المعبد بالنسبة لعبدة الأصنام مؤثّرا ومؤسفا ومؤلما في نفس الوقت.

وبعد انتهائه من تحطيم الأصنام ، غادر إبراهيم ـ بكلّ هدوء واطمئنان ـ معبد الأصنام عائدا إلى بيته ليعدّ نفسه للحوادث المقبلة ، لأنّه كان يعلم أنّ عمله كان بمثابة انفجار هائل سيهزّ المدينة برمّتها ومملكة بابل بأجمعها ، وسيحدث موجة من الغضب العارم ، الموجة التي سيكون إبراهيمعليه‌السلام وحيدا في وسطها. إلّا أنّ له ربّا يحميه ، وهذا يكفيه.

وفي آخر اليوم عاد عبدة الأصنام إلى مدينتهم ، واتّجهوا فورا إلى معبدهم ، فشاهدوا مشهدا رهيبا وغامضا ، ومن شدّة رهبة المشهد تجمّد البعض في مكانه ، فيما فقد البعض الآخر عقله وهو ينظر بدهشة وتحيّر لجذاذ آلهته المنتشرة هنا

__________________

(١) (راغ) من مادّة (روغ) وتعني التوجّه والتمايل بشكل سرّي ومخفي أو بشكل مؤامرة وتخريب.

٣٤٩

وهناك ، تلك الأصنام التي خالوها ملجأ وملاذا لهم يوم لا ملجأ لهم ، أصبحت بلا ناصر ولا معين.

ثمّ تحوّل جوّ السكوت الذي خيّم عليهم لحظة مشاهدة المشهد ، تحوّل إلى صراخ واستفسار عمّن فعل ذلك بآلهتهم؟

ولم يمرّ وقت طويلا ، حتّى تذكّروا وجود شاب يعبد الله في مدينتهم اسمه إبراهيم ، كان يستهزئ بأصنامهم ، ويهدّد بأنّه أعدّ مخطّطا خطيرا لأصنامهم.

من هنا استدلّوا على أنّ إبراهيم هو الفاعل ، فأقبلوا عليه جميعا غاضبين( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ) .

«يزفّون» مشتقّة من (زفّ) على وزن (كفّ) وتستعمل بخصوص هبوب الرياح والحركة السريعة للنعامة الممتزجة ما بين السير والطيران ، ثمّ تستخدم للكناية عن (زفاف العروس) إذ تعني أخذ العروس إلى بيت زوجها.

على أيّة حال ، المراد هنا هو أنّ عبدة الأصنام جاؤوا مسرعين إلى إبراهيم ، وسنقرأ تتمّة الأحداث في الآيات القادمة.

* * *

ملاحظات

١ ـ هل أنّ الأنبياء يستخدمون التورية؟

«التورية» ـ ويعبّر عنها أحيانا بلفظة (معاريض) ـ تعني أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ويفهم منه غير ما يقصده. فمثلا شخص يسأل آخر : متى رجعت من السفر؟ فيجيبه : قبل غروب الشمس ، في الوقت الذي كان قد عاد من سفره قبل الظهر ، فالسائل يفهم من ظاهر الكلام ، أنّه عاد قبل غروب الشمس بقليل ، في حين أنّه كان يقصد قبل الظهر ، لأنّ قبل الظهر يعدّ أيضا قبل غروب الشمس. أو شخص يسأل آخر : هل تناولت الطعام ، فيجيبه : نعم. فالسائل يفهم من الكلام أنّه تناول

٣٥٠

الطعام اليوم ، في حين أنّ قصد المجيب هو أنّه تناول الطعام يوم أمس.

مسألة هل أنّ التورية كذب أم لا؟ مطروحة في الكتب الفقهية ، فمجموعة من كبار العلماء ومنهم الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه يعتقدون أنّ التورية ليست كذبا ، فلا العرف ولا الروايات تعدها كذبا ، وإنّما وردت بشأنها روايات تنفي عنها صفة الكذب ، إذ قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الرجل يستأذن عليه فيقول للجارية قولي ليس هو هاهنا. فقالعليه‌السلام : لا بأس ليس بكذب»(١) .

والحقّ هو لزوم القول بالتفصيل ، ولا بدّ من وضع ضابطة كليّة : فإذا كان للفظ في اللغة والعرف معنيان ، والمخاطب تصوّر معنى خاصّا من تلك الكلمة ، في حين أنّ المتحدّث يقصد معنى آخر ، مثل هذا يعدّ تورية وليس بكذب ، حيث يستخدم لفظ مشترك المعاني يفهم منه المخاطب شيئا ، في حين أنّ المتحدّث يقصد منه معنى آخر.

وعلى سبيل المثال ، جاء في شرح حال «سعيد بن جبير» ، أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سعيد بالقول : ما هو تقييمك لي ، فأجابه سعيد : إنّك (عادل) ، ففرح جلاوزة الحجّاج ، في حين قال الحجّاج : إنّه بكلامه هذا كفّرني ، لأنّ أحد معاني (العادل) هو العدول من الحقّ إلى الباطل.

أمّا إذا كان للفظ معنى لغوي وعرفي واحد من حيث المفهوم ، والمتحدّث يترك المعنى الحقيقي ويستخدمه كمعنى مجازي من دون أن يذكر قرائن المجاز ، فمثل هذه التورية ـ من دون أيّ شكّ ـ حرام ، ولربّما تمكّنا بهذا التفصيل الجمع بين آراء مختلف الفقهاء.

ولكن ، يجب الانتباه إلى أنّه في بعض الأحيان حتّى في الموارد التي لا تكون فيها التورية مصداقا للكذب ، تكون للتورية أحيانا مفاسد ومضارّ وإيقاع الناس في الخطأ ، ومن هذا الباب قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحرمة ، ولكن إن

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٥٨٠ ، (الباب ١٤١ في أبواب العشرة الحديث ٨).

٣٥١

لم تكن قد اشتملت على مفسدة ، ولم تكن مصداقا للكذب ، فليس هناك دليل على حرمتها. ورواية الإمام الصادقعليه‌السلام هي من هذا القبيل.

بناء على ذلك فإنّ عدم وجود الكذب في التورية ليس كافيا ، بل يجب أيضا أن لا تشتمل التورية على مفاسد ومضارّ اخرى. وبالطبع ففي الحالات التي تقتضي الضرورة فيها أن يقول الإنسان كذبا ، فمن المسلّم به جواز استعمال التورية ما دام هناك مجال لاستخدامها ، لكي لا يكون كلامه مصداقا للكذب.

لكن هل أنّ التورية جائزة أيضا للأنبياء ، أم لا؟

يجب القول : إنّه طالما كانت سببا في تزلزل ثقة الناس المطلقة فهي غير جائزة ، لأنّ الثقة المطلقة هذه هي رأسمال الأنبياء في طريق التبليغ ، وأمّا في موارد مثل ما ورد عن تمارض إبراهيمعليه‌السلام ونظره في النجوم ، ووجود هدف مهمّ في ذلك العمل ، دون أن تتسبّب في تزلزل أعمدة الثقة لدى مريدي الحقّ ، فلا تنطوي على أي إشكال.

٢ ـ إبراهيم والقلب السليم :

كما هو معروف فإنّ كلمة (القلب) تعني في الاصطلاح القرآني الروح والعقل ، ولهذا فإنّ (القلب السليم) يعني الروح الطاهرة السالمة الخالية من كافّة أشكال الشرك والشكّ والفساد.

والقرآن الكريم وصف بعض القلوب بـ (القاسية)( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) .(١)

وأحيانا وصفها بأنّها غير طاهرة ، كما ورد في (سورة المائدة ـ ٤١).

واخرى وصفها بالمريضة (سورة البقرة ـ ٦).

ورابعة وصفها بالقلوب المغلقة المختوم عليها (سورة التوبة ـ ٨٧).

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ١٣.

٣٥٢

وفي مقابل هذه القلوب طرح القلب السليم الخالي من العيوب المذكورة أعلاه ، حيث أنّه صاف ورقيق مليء بالعطف وسالم ولا ينحرف عن الحقّ ، القلب الذي وصف في الروايات بـ (حرم الله) إذ جاء في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله)(١) .

وهو القلب الذي يتمكّن من رؤية الحقائق الغيبية والنظر إلى الملكوت الأعلى ، إذ ورد في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»(٢) .

الملاحظ أنّ (القلب السليم) هو خير رأسمال للنجاة في يوم القيامة ، وبه التحق إبراهيمعليه‌السلام بملكوت ربّه وتسلّم أمر الرسالة.

نختتم هذا البحث بحديث آخر ، إذ ورد في الروايات «إنّ لله في عباده آنية وهو القلب فأحبّها إليه (أصفاها) و (أصلبها) و (أرقّها) : أصلبها في دين الله ، وأصفاها من الذنوب ، وأرقّها على الاخوان»(٣) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٢٥ ، باب حبّ الله الحديث ٢٧.

(٢) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٩ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٣٩.

(٣) بحار الأنوار ، المجلّد ٦٧ ، الصفحة ٥٦ ، باب القلب وصلاحه الحديث ٢٦.

٣٥٣

الآيات

( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) )

التّفسير

فشل مخطّطات المشركين :

بعد أن حطّم إبراهيم الأصنام ، استدعي إبراهيم بهذه التهمة إلى المحكمة ، وهناك سألوه وطلبوا منه الجواب عن اليد التي نفذت هذا الفعل في معبدهم ، وقد شرح القرآن الكريم في سورة الأنبياء الحادثة بصورة مفصّلة ، بينما اكتفى القرآن في آيات بحثنا بالإشارة لمقطع حسّاس واحد من مواقف إبراهيمعليه‌السلام وهو آخر كلامه معهم في مجال بطلان عقيدتهم في عبادة الأصنام( قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ) .

فهل هناك شخص عاقل يعبد شيئا من صنع يديه؟ وما هو الدافع لأي ذي شعور للسجود لشيء صنعه هو بنفسه؟ فأي عقل ومنطق يسمح بفعل هذا؟

٣٥٤

فالمعبود يجب أن يكون خالق الإنسان ، وليس صنيعة يده ، من الآن فكّروا واعرفوا معبودكم الحقيقي( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) .

فهو خالق الأرض والسماء ، ومالك الوقت والزمان ، ويجب السجود لهذا الخالق وحمده وعبادته.

إنّ هذه الحجّة كانت من الوضوح والقوّة إلى حدّ جعلتهم يقفون أمامها مبهوتين وغير قادرين على ردّها ودحضها.

و (ما) في عبارة( ما تَعْمَلُونَ ) هي (ما) الموصولة وليست (ما) المصدرية ، ومنها يراد القول ، إنّ الله خلقكم وكذلك ما تصنعون ، وعند ما يقال : إنّ الأصنام هي من صنع أو أعمل الإنسان ، فذلك يعني أنّ الإنسان أعطاها الشكل فقط ، وإلّا فالمادّة التي تصنع منها الأصنام هي من خلق الله أيضا.

صحيح ما يقال من أنّ هذه السجّادة وذلك البيت وتلك السيارة هي من صنع الإنسان ، ولكن المراد ليس أنّ الإنسان هو الذي خلق المواد الأوّلية لتلك الأشياء ، وإنّما الإنسان صاغ تلك المواد الأوّلية بشكل معيّن.

أمّا إذا اعتبرنا (ما) مصدرية ، فالعبارة تعني ما يلي : إنّ الله خلقكم وأعمالكم.

وبالطبع فإنّ المعنى هذا ليس خطأ ، وعلى خلاف ما يظنّه البعض ليس فيه ما يدلّ على الجبر ، لأنّ الأعمال التي نقوم بها رغم أنّها تتمّ بإرادتنا ، إلّا أنّ إرادة وقدرة التصميم وغيرها من القوى التي تنفذ من خلالها أفعالنا كلّها من الله سبحانه وتعالى ، وبهذا الشكل فإنّ الآية لا تقصد هذا الأمر ، وإنّما تقصد الأصنام ، وتقول : إنّ الله خلقكم أنتم والأصنام التي صنعتموها وصقلتموها. وجمال هذا الحديث يتجسّد هنا ، لأنّ البحث يخصّ الأصنام ولا يخصّ أعمال البشر.

في الحقيقة إنّ موضوع هذه الآية يشبه الموضوع الذي ورد في قصّة موسى والسحرة والتي تقول :( فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ) (١) ، فالمقصود هنا الأفعى التي هي

__________________

(١) الأعراف ، ١١٧.

٣٥٥

من صنع السحرة.

ومن المعروف أنّ الطغاة والجبابرة لا يفهمون لغة المنطق والدليل ، ولهذا لم تؤثّر عليهم الأدلّة والبراهين الظاهرية والقويّة التي بيّنها إبراهيمعليه‌السلام على قلوب الجبابرة الحاكمين في بابل حينذاك ، رغم أنّ مجموعات من أبناء الشعب المستضعف هناك استيقظت من غفلتها وآمنت بدعوة إبراهيمعليه‌السلام .

ولإيقاف انتشار منطق التوحيد بين أبناء مدينة بابل ، عمد الطغاة الذين أحسّوا بخطر انتشار على مصالحهم الخاصّة إلى استخدام منطق القوّة والنار ضدّ إبراهيمعليه‌السلام ، المنطق الذي لا يفهمون سواه. حيث هتفوا بالاعتماد على قدراتهم الدنيوية : أن ابنوا له بنيانا عاليا ، واشعلوا في وسطه النيران ثمّ ارموه فيه( قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ) .

ومن هذه العبارة يستفاد أنّ الأوامر كانت قد صدرت ببناء أربعة جدران كبيرة ، ومن ثمّ إشعال النيران في داخلها ، وبناء الجدران الأربعة الكبيرة ، إنّما تمّ ـ كما يحتمل ـ للحئول دون امتداد النيران إلى خارجها ، ومنع وقوع أخطار محتملة قد تنجم عنها ، ولإيجاد جهنّم واقعية كتلك التي كان إبراهيم يتهدّد ويتوعّد عبدة الأوثان بها.

صحيح أنّ كميّة قليلة من الحطب كانت تكفي لحرق إنسان كإبراهيم ، لكنّهم فعلوا ذلك ليطفؤا غيظ قلوبهم من جرّاء تحطيم أصنامهم ، وبمعنى آخر الانتقام من إبراهيم بأشدّ ما يمكن ، لعلّهم بذلك يعيدون العظمة والابّهة لأصنامهم إضافة إلى أنّ عملهم هذا كان تخويفا وتحذيرا لمعارضيهم ، كي لا تتكرّر مثل هذه الحادثة مرّة اخرى في تأريخ بابل ، لذلك فقد أوقدوا نارا عظيمة.

«الجحيم» في اللغة هي النار التي تجتمع بعضها على بعض.

هذا ، وقد فسّر البعض «البنيان» بأنّه المنجنيق ، والمنجنيق ـ كما هو معروف ـ أداة لقذف الأشياء الثقيلة إلى مكان بعيد ، لكن أكثر المفسّرين انتخبوا التّفسير

٣٥٦

الأوّل ، أي أنّ البنيان هو ذلك البناء المكوّن من أربعة جدران كبيرة.

وآيات القرآن الكريم هنا لم تشر إلى دقائق وتفاصيل هذا الحادث الذي ورد في سورة الأنبياء ، وإنّما أنهت هذه الحادثة بخلاصة مركّزة ولطيفة( فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ ) .

(كيد) في الأصل تعني الاحتيال ، أكان بطريقة صحيحة أم غلط ، مع أنّها غالبا ما تستعمل في موارد مذمومة ، وبما أنّها جاءت بحالة النكرة هنا ، فإنّها تدلّ على عظمة الشيء وأهميّته ، وهي إشارة إلى المخطّط الواسع الذي وضعه طغاة بابل للقضاء على دعوة إبراهيم للناس بقوله وعمله ومحو آثارها.

نعم ، لقد وضعهم الله سبحانه وتعالى في أسفل السافلين ، فيما رفع إبراهيمعليه‌السلام إلى أعلى علّيين ، كما كان أعلى منطقا ، وجعله هو الأعلى في حادثة إشعال النيران ، وأعداءه الأقوياء هم الأخسرين ، فكانت النار عليه بردا وسلاما دون أن تحرق حتّى شعرة واحدة من جسد إبراهيمعليه‌السلام وخرج سالما من ذلك البحر الجهنّمي.

فإرادته تقتضي أن ينجي في يوم من الأيّام نوحا من «الغرق» ، وفي يوم آخر ينقذ إبراهيم من «الحرق» ، وذلك لكي يوضّح أنّ الماء والنار عبدان مطيعان له سبحانه وتعالى ومستجيبان لأوامره.

إبراهيمعليه‌السلام الذي نجا بإرادة الله من هذه الحادثة الرهيبة والمؤامرة الخطيرة التي رسمها أعداؤه له ، وخرج مرفوع الرأس منها ، صمّم على الهجرة إلى أرض بلاد الشام ، إذ أنّ رسالته في بابل قد انتهت ،( وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ) .

من البديهيات أنّ الله لا يحويه مكان ، والهجرة التي تتمّ في سبيله من المجتمع الملوّث الفاسد إلى المجتمع الطاهر الصافي ، فإنّها هجرة إلى الله.

فالهجرة إلى أرض الأنبياء والأولياء ومهبط الوحي الإلهي ، هي هجرة إلى الله ، مثلما يعرف السفر إلى مكّة المكرّمة بأنّه سفر إلى الله ، خاصّة وأنّ هجرة إبراهيمعليه‌السلام

٣٥٧

كانت من أجل تنفيذ واجب رسالي إلهي ، وأنّ الله كان هاديه ومرشده خلال السفر.

الآيات ـ هنا ـ عكست أوّل طلب لإبراهيمعليه‌السلام من الباريعزوجل ، إذ طلب الولد الصالح ، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّة الرسالي ، ويتمم ما تبقّى من مسيرته ، وذلك حينما قال :( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

إنّها حقّا لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الإعتقاد والإيمان ، والصالح من حيث القول والعمل ، والصالح من جميع الجهات.

والذي يلفت النظر أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان قد طلب من الله في إحدى المرّات أن يجعله من مجموعة الصالحين ، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم ،( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) .(١)

فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح ، حيث أنّ كلمة صالح تجمع كلّ الأشياء اللائقة والجيّدة في الإنسان الكامل.

فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم ، ورزقه أولادا صالحين (إسماعيل وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم :( وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) .

* * *

بحثان

١ ـ خالق كلّ شيء :

وردت في آيات بحثنا أنّ إبراهيمعليه‌السلام خاطب عبدة الأصنام قائلا :( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) .

__________________

(١) الشعراء ، ٨٣.

(٢) الأنبياء ، ٨٥ و ٨٦.

٣٥٨

وقد زعم البعض أنّ هذه الآيات تدلّ على ما جاء في مذهب الجبر الفاسد ، وذلك عند ما اعتبروا (ما) في عبارة( ما تَعْمَلُونَ ) (ما) المصدرية ، وقالوا : إنّ هذه الآية تعني أنّ الله خلقكم وأعمالكم ، وبما أنّ أعمالنا هي من خلق الله ، فإنّنا لا نمتلك الإختيار ، أي إنّنا مجبرون.

هذا الكلام لا أساس له من الصحّة لعدّة أسباب :

أوّلا : كما قلنا فإنّ المراد من( ما تَعْمَلُونَ ) هنا ، هي الأصنام التي كانوا يصنعونها بأيديهم ، وليست أعمال الإنسان ، ومن دون أي شكّ فإنّهم كانوا يأخذون المواد من هذه الأرض التي خلقها الله ، وينحتونها بالشكل الذي يروق لهم ، ولهذا فإنّ (ما) هنا هي (ما) الموصولة.

ثانيا : إذا كان مفهوم الآية كما تصوّر أولئك ، فإنّها تكون دليلا لصالح عبدة الأصنام ، وليس ضدّهم ، لأنّهم يستطيعون القول : صناعة الأصنام وعبادتها إنّما هو من خلق الله ، ونحن في هذه الحالة لسنا بمذنبين.

وثالثا : على فرض أنّ معنى الآية هو هكذا ، فليس هناك دليل على الجبر ، لأنّه مع الحرية والإرادة والاختيار فإنّ الله هو خالق أعمالنا ، لأنّ هذه الحرية والإرادة والقدرة على التصميم وكذلك القوى البدنية والفكرية الماديّة والمعنوية لم يعطها غير الله؟ إذا فالخالق هو ، مع أنّ الفعل هو باختيارنا نحن.

٢ ـ هجرة إبراهيمعليه‌السلام :

الكثير من الأنبياء هاجروا خلال فترة حياتهم من أجل أداء رسالتهم ، ومنهم إبراهيم الذي استعرضت آيات مختلفة في القرآن المجيد قضيّة هجرته ، ومنها ما جاء في سورة العنكبوت الآية (٢٦)( وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

في الحقيقة ، إنّ أولياء الله عند ما كانوا يتّمون مهام رسالتهم في إحدى المناطق ،

٣٥٩

أو أنّهم كانوا يحسّون بأنّ المجتمع لا يتقبّل رسالتهم ، كانوا يهاجرون كي لا تتوقّف رسالتهم.

وهذه الهجرة كانت مصدر بركات كثيرة على طول تاريخ الأديان ، حتّى أنّ تاريخ الإسلام من الناحيتين الظاهرية والمعنوية يدور حول محور هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو لا الهجرة لكان الإسلام قد غرق ـ وإلى الأبد ـ في مستنقع عبدة الأصنام في مكّة. فالهجرة هي التي أعطت روحا جديدة للإسلام والمسلمين ، وغيّرت كلّ شيء لصالحهم ، وخطت للبشرية طريقا جديدا للسير عليه.

وبعبارة واحدة : فالهجرة برنامج عام لكلّ مؤمن عند ما يشعر في وقت من الأوقات أنّ الجو الذي يعيش فيه غير متناسب مع أهدافه المقدّسة ، ويبدو كأنّه مستنقع عفن يفسد كلّ ما فيه ، فتكليفه الهجرة ، وعليه أن يحزم حقائب السفر ، وينتقل إلى مناطق أفضل ، فأرض الله واسعة.

والهجرة قبل أن تكون ذات طابع ذاتي خارجي ، فهي ذات طابع ذاتي داخلي ، ففي بداية الأمر يجب على القلب والروح هجر الفساد إلى الطهارة ، وهجر الشرك إلى الإيمان ، وهجر المعاصي إلى طاعة الله العظيم.

فالهجرة الداخلية هي بداية تغيّر الفرد والمجتمع ، ومقدّمة للهجرة الخارجية ، وقد بحث هذا الموضوع بصورة مفصّلة في هذا التّفسير وفي موضوع يتحدّث عن الإسلام والهجرة ، وذلك بعد الآية (١٠٠) في سورة النساء.

* * *

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581