الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175749 / تحميل: 6526
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) )

التّفسير

إبراهيم عند المذبح :

بحثنا في الآيات السابقة انتهى عند هجرة إبراهيمعليه‌السلام من بابل بعد أن أدّى رسالته هناك ، وطلبه من الله أن يرزقه ولدا صالحا ، إذ لم يكن له ولد.

وأوّل آية في هذا البحث تتحدّث عن الاستجابة لدعاء إبراهيم ، إذ قالت الآية :( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) .

٣٦١

في الواقع إنّ ثلاثة بشائر جمعت في هذه الآية ، الاولى أنّه سيرزق طفلا ذكرا ، والثانية أنّ هذا الطفل يبلغ سنّ الفتوّة ، أمّا الثالثة فهي أنّ صفته حليم.

وكلمة (حليم) تعني الذي لا يعجّل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه ، وقيل : الذي لا يعجّل بالعقوبة ، والذي له روح كبيرة وهو متسلّط على أحاسيسه.

ويرى «الراغب» في مفرداته أنّ كلمة حليم تعني الضابط نفسه في لحظة الإثارة والغضب ، وبسبب كون هذه الحالة تنشأ من العقل والإدراك ، فإنّ كلمة وعكس تعني ـ أحيانا ـ العقل والإدراك.

ولكن المعنى الحقيقي لكلمة حليم هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه.

ويمكن الاستفادة من هذا الوصف في أنّ الله بشّر عبده إبراهيم في أنّه سيعطي ابنه إسماعيل عمرا يمكن وصفه فيه بالحليم ، كما أنّ الآيات التالية ستوضّح أنّ إسماعيل بيّن مرتبة حلمه أثناء قضيّة الذبح ، مثلما وضّح أبوه إبراهيم حلمه في أثناء قضيّة الذبح ، وأثناء إحراقه بالنار.

وكلمة (حليم) كرّرت (١٥) مرّة في القرآن المجيد ، وأغلبها وردت وصفا لله ، عدا ثلاث موارد جاءت في وصف إبراهيم وابنه إسماعيل من قبل القرآن الكريم ، والثالثة جاءت في وصف شعيب وعلى لسان الآخرين.

وكلمة (غلام) حسب إعتقاد البعض تطلق على كلّ طفل لم يصل بعد مرحلة الشباب ، والبعض يطلقها على الطفل الذي اجتاز عمره العشر سنوات ولم يصل بعد إلى سنّ البلوغ.

ويمكن الاستفادة من العبارات المختلفة الواردة بلغة العرب في أنّ كلمة (غلام) تطلق على الذكر الذي اجتاز مرحلة الطفولة ولم يصل بعد إلى مرحلة الشباب.

أخيرا ، ولد الطفل الموعود لإبراهيم وفق البشارة الإلهيّة ، وأثلج قلب إبراهيم الذي كان ينتظر الولد الصالح لسنوات طوال ، اجتاز الطفل مرحلة الطفولة وأضحى

٣٦٢

غلاما. وهنا يقول القرآن :( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ) .

يعني أنّه وصل إلى مرحلة من العمر يستطيع فيها السعي وبذل الجهد مع والده في مختلف امور الحياة وإعانته على أموره.

وقال البعض : بأنّ (السعي) هنا يعني العمل لله والعبادة ، وبالطبع فإنّ كلمة (السعي) لها مفاهيم ومعان واسعة تشمل هذا المعنى أيضا ، ولكنّها لا يقتصر معناها عليه. و (معه) تدلّ على أنّه كان يساعد والده في امور الحياة.

على كلّ حال ، فقد ذهب جمع من المفسّرين : إنّ عمر إسماعيل كان (١٣) عاما حينما رأى إبراهيم ذلك المنام العجيب المحير ، والذي يدلّ على بدء إمتحان عسير آخر لهذا النّبي ذي الشأن العظيم ، إذ رأى في المنام أنّ الله يأمره بذبح ابنه الوحيد وقطع رأسه. فنهض من نومه مرعوبا ، لأنّه يعلم أنّ ما يراه الأنبياء في نومهم هو حقيقة وليس من وساوس الشياطين ، وقد تكرّرت رؤيته هذه ليلتين أخريين ، فكان هذا بمثابة تأكيد على ضرورة تنفيذ هذا الأمر فورا.

وقيل : إنّ أوّل رؤيا له كانت في ليلة التروية ، أي ليلة الثامن من شهر ذي الحجّة ، كما شاهد نفس الرؤيا في ليلة عرفة ، وليلة عيد الأضحى ، وبهذا لم يبق عنده أدنى شكّ في أنّ هذا الأمر هو من الله سبحانه وتعالى.

إمتحان شاقّ آخر يمرّ على إبراهيم الآن ، إبراهيم الذي نجح في كافّة الامتحانات الصعبة السابقة وخرج منها مرفوع الرأس ، الامتحان الذي يفرض عليه وضع عواطف الابوّة جانبا والامتثال لأوامر الله بذبح ابنه الذي كان ينتظره لفترة طويلة ، وهو الآن غلام يافع قوي.

ولكن قبل كلّ شيء ، فكّر إبراهيمعليه‌السلام في إعداد ابنه لهذا الأمر ، حيث( قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى ) .

الولد الذي كان نسخة طبق الأصل من والده ، والذي تعلم خلال فترة عمره القصيرة الصبر والثبات والإيمان في مدرسة والده ، رحّب بالأمر الإلهي بصدر

٣٦٣

واسع وطيبة نفس ، وبصراحة واضحة قال لوالده :( قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) .

ولا تفكّر في أمري ، فانّك( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .

فما أعظم كلمات الأب والابن وكم تخفي في بواطنها من الأمور الدقيقة والمعاني العميقة؟!

فمن جهة ، الأب يصارح ولده البالغ من العمر (١٣) عاما بقضيّة الذبح ، ويطلب منه إعطاء رأيه فيها ، حيث جعله هنا شخصيّة مستقلّة حرّة الإرادة.

فإبراهيم لم يقصد أبدا خداع ولده ، ودعوته إلى ساحة الامتحان العسير بصورة عمياء ، بل رغب بإشراكه في هذا الجهاد الكبير ضدّ النفس ، وجعله يستشعر حلاوة لذّة التسليم لأمر الله والرضى به ، كما استشعر حلاوتها هو.

ومن جهة اخرى ، عمد الابن إلى ترسيخ عزم وتصميم والده في تنفيذ ما أمر به ، إذ لم يقل له : اذبحني ، وإنّما قال له : افعل ما أنت مأمور به ، فإنّني مستسلم لهذا الأمر ، وخاصّة أنّه خاطب أباه بكلمة( يا أَبَتِ ) كي يوضّح أنّ هذه القضيّة لا تقلّل من عاطفة الابن تجاه أبيه ولو بمقدار ذرّة ، وأنّ أمر الله هو فوق كلّ شيء.

ومن جهة ثالثة ، أظهر أدبا رفيعا اتّجاه الله سبحانه وتعالى ، وأن لا يعتمد أحد على إيمانه وإرادته وتصميمه فقط ، وإنّما يعتمد على إرادة ومشيئة الله ، وبعبارة اخرى : أن يطلب توفيق الاستعانة والاستقامة من الله.

وبهذا الشكل يجتاز الأب وابنه المرحلة الاولى من هذا الامتحان الصعب بانتصار كامل.

ماذا يدور في هذا الوسط؟ القرآن الكريم لم يفصل مجريات الحدث ، وركّز فقط على النقاط الحسّاسة في هذه القصّة العجيبة.

كتب البعض : إنّ إسماعيل ساعد والده في تنفيذ هذا الأمر الإلهي ، وعمل على تقليل ألم وحزن والدته.

فعند ما أخذه والده للذبح وسط الجبال الجرداء والحارقة في أرض (منى) قال

٣٦٤

إسماعيل لوالده :

يا أبت ، أحكم من شدّ الحبل كي لا تتحرّك يدي ورجلي أثناء تنفيذك الأمر الإلهي ، أخاف أن يقلّل ذلك من مقدار الجزاء الذي سأناله.

والدي العزيز اشحذ السكّين جيّدا ، وامرره بسرعة على رقبتي كي يكون تحمّل ألم الذبح سهلا بالنسبة لي ولك.

والدي قبل ذبحي اخلع ثوبي من على جسدي كي لا يتلوّث بالدم ، لأنّي أخاف أن تراه والدتي وتفقد عنان صبرها.

ثمّ أضاف : أوصل سلامي إلى والدتي ، وإن لم يكن هناك مانع أوصل ثوبي إليها كي يسلّي خواطرها ويهدّئ من آلامها ، لأنّها ستشمّ رائحة ابنها منه ، وكلّما أحسّت بضيق القلب ، تضعه على صدرها ليخفّف الحرقة الموجودة في أعماقها.

قربت اللحظات الحسّاسة ، فالأمر الإلهي يجب أن ينفّذ ، فعند ما رأى إبراهيمعليه‌السلام درجة استسلام ولده للأمر الإلهي احتضنه وقبّل وجهه ، وفي هذه اللحظة بكى الاثنان ، البكاء الذي يبرز العواطف الإنسانية ومقدّمة الشوق للقاء الله.

القرآن الكريم يوضّح هذا الأمر في جملة قصيرة ولكنّها مليئة بالمعاني ، فيقول تعالى :( فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) (١) .

مرّة اخرى تطرّق القرآن هنا باختصار ، كي يسمح للقارئ متابعة هذه القصّة بانشداد كبير.

قال البعض : إنّ المراد من عبارة( تَلَّهُ لِلْجَبِينِ ) هو أنّه وضع جبين ولده ـ طبقا لاقتراحه ـ على الأرض ، حتّى لا تقع عيناه على وجه ابنه فتهيج عنده عاطفة الابوّة وتمنعه من تنفيذ الأمر الإلهي.

__________________

(١) (تلّه) من مادّة (تلّ) وتعني في الأصل المكان المرتفع ، و (تلّه للجبين) تعني أنّه وضع أحد جوانب وجه ابنه على مكان مرتفع من الأرض.

(جبين) تعني أحد جانبي الجبهة أو الوجه ، وطرفي الوجه أو الجبهة يقال لهما (جبينان).

٣٦٥

على أيّة حال كبّ إبراهيمعليه‌السلام ابنه على جبينه ، ومرّر السكّين بسرعة وقوّة على رقبة ابنه ، وروحه تعيش حالة الهيجان ، وحبّ الله كان الشيء الوحيد الذي يدفعه إلى تنفيذ الأمر ومن دون أي تردّد.

إلّا أنّ السكّين الحادّة لم تترك أدنى أثر على رقبة إسماعيل اللطيفة.

وهنا غرق إبراهيم في حيرته ، ومرّر السكّين مرّة اخرى على رقبة ولده ، ولكنّها لم تؤثّر بشيء كالمرّة السابقة.

نعم ، فإبراهيم الخليل يقول للسكّين : اذبحي ، لكنّ الله الجليل يعطي أوامره للسكّين أن لا تذبحي ، والسكّين لا تستجيب سوى لأوامر الباريعزوجل .

وهنا ينهي القرآن كلّ حالات الانتظار وبعبارة قصيرة مليئة بالمعاني العميقة( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

إذ نمنحهم توفيق النجاح في الامتحان ، ونحفظ لهم ولدهم العزيز ، نعم فالذي يستسلم تماما وبكلّ وجوده للأمر الإلهي ويصل إلى أقصى درجات الإحسان ، لا يمكن مكافأته بأقلّ من هذا.

ثمّ يضيف القرآن الكريم( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) .

عمليّة ذبح الابن البارّ المطيع على يد أبيه ، لا تعدّ عمليّة سهلة وبسيطة بالنسبة لأب انتظر فترة طويلة كي يرزقه الله بهذا الابن ، فكيف يمكن إماتة قلبه تجاه ولده؟ والأكثر من ذلك استسلامه ورضاه المطلق ـ من دون أي انزعاج ـ لتنفيذ هذا الأمر ، وتنفيذه كافّة مراحل العملية من بدايتها إلى نهايتها ، بصورة لا يغفل فيها عن أي شيء من الاستعداد لعملية الذبح نفسيا وعمليّا.

والذي يثير العجب أكثر هو التسليم المطلق لهذا الغلام أمام أمر الله ، إذ استقبل أمر الذبح بصدر مفتوح واطمئنان يحفّه اللطف الإلهي ، واستسلام في مقابل هذا الأمر.

لذا فقد ورد في بعض الروايات أنّ جبرئيل هتف «الله أكبر» «الله أكبر» أثناء

٣٦٦

عمليّة الذبح لتعجّبه.

فيما هتف إسماعيل «لا إله إلّا الله ، والله أكبر».

ثمّ قال إبراهيم «الله أكبر ولله الحمد»(١) .

وهذه العبارات تشبه التكبيرات التي نردّدها في يوم عيد الأضحى.

ولكي لا يبقى برنامج إبراهيم ناقصا ، وتتحقّق أمنية إبراهيم في تقديم القربان لله ، بعث الله كبشا كبيرا إلى إبراهيم ليذبحه بدلا عن ابنه إسماعيل ، ولتصير سنّة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحجّ وتأتي إلى أرض (منى)( وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) .

ما المراد بالذبح العظيم؟

هل أنّه يقصد منه الجانب الجسمي والظاهري؟

أو لأنّه كان فداء عن إسماعيل؟

أو لأنّه كان لله وفي سبيل الله؟

أو لأنّ هذه الاضحية بعثها الله تعالى إلى إبراهيم؟

المفسّرون قالوا الكثير بشأنها ، ولكن لا يوجد أي مانع يحول دون جمع كلّ ما هو مقصود أعلاه.

وإحدى دلائل عظمة هذا الذبح ، هو اتّساع نطاق هذه العملية سنة بعد سنة بمرور الزمن ، وحاليا يذبح في كلّ عام أكثر من مليون اضحية تيمنّا بذلك الذبح العظيم وإحياء لذلك العمل العظيم.

«فديناه» مشتقّة من (الفداء) وتعني جعل الشيء مكان الشيء لدفع الضرر عنه ، لذا يطلق على المال الذي يدفع لإطلاق سراح الأسير (الفدية) كما تطلق (الفدية) على الكفّارة التي يخرجها بعض المرضى بدلا عن صيامهم.

وبشأن كيفية وصول الكبش العظيم إلى إبراهيمعليه‌السلام ، أعرب الكثير من

__________________

(١) تفسير القرطبي ، وتفسير روح البيان.

٣٦٧

المفسّرين عن اعتقادهم في أنّ جبرئيل أنزله ، فيما قال البعض الآخر : إنّه هبط عليه من أطراف جبال (منى) ، ومهما كان فإنّ وصوله إلى إبراهيم كان بأمر من الله.

النجاح الذي حقّقه إبراهيمعليه‌السلام في الامتحان الصعب ، لم يمدحه الله فقط ذلك اليوم ، وإنّما جعله خالدا على مدى الأجيال( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) .

إذ غدا إبراهيمعليه‌السلام «أسوة حسنة» لكلّ الأجيال ، و «قدوة» لكلّ الطاهرين ، وأضحت أعماله سنّة في الحجّ ، وستبقى خالدة حتّى تقوم القيامة ، إنّه أبو الأنبياء الكبار ، وإنّه أبو هذه الامّة الإسلامية ورسولها الأكرم محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولمّا امتاز به إبراهيمعليه‌السلام من صفات حميدة ، خصّة الباريعزوجل بالسلام( سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ) .

نعم ، إنّا كذلك نجزي ونثيب المحسنين( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) جزاء يعادل عظمة الدنيا ، جزاء خالد على مدى الزمان ، جزاء يجعل من إبراهيم أهلا لسلام اللهعزوجل عليه.

وعبارة( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) تثير الانتباه ، إذ أنّها أتت قبل عدّة آيات ، وتكرّرت ثانية هنا ، فهناك حتما علّة لهذا التكرار.

المرحلة الاولى ربّما كانت بسبب أنّ الله سبحانه وتعالى صادق على نجاح إبراهيم في الامتحان الصعب ، وأمضى نتيجة قبوله ، وهذه بحدّ ذاتها أهمّ مكافأة يمنحها الله سبحانه وتعالى لإبراهيم ، ثمّ تأتي قضيّة (الفدية بذبح عظيم) و (بقاء اسمه وسنّته خالدين على مدى التاريخ) و (إرسال الباريعزوجل سلامه وتحيّاته إلى إبراهيم) التي اعتبرت ثلاث نعم كبيرة منحها الله سبحانه وتعالى لعبده إبراهيم بعنوان أنّها مكافأة وجزاء للمحسنين.

* * *

٣٦٨

بحوث

١ ـ من هو ذبيح الله؟

اختلف المفسّرون بشأن الولد الذي امر إبراهيم بذبحه ، هل كان (إسماعيل أم إسحاق) الذي لقّب بذبيح الله؟ إذ أنّ هناك نقاشا بين المفسّرين ، فمجموعة تقول : إنّ (إسحاق) هو (ذبيح الله) فيما تعتبر مجموعة اخرى (إسماعيل) هو الذبيح ، التّفسير الأوّل أكّد عليه الكثير من مفسّري أهل السنّة ، فيما أكّد مفسّر والشيعة على أنّ إسماعيل هو الذبيح.

وظاهر آيات القرآن الكريم المختلفة تؤكّد على أنّ إسماعيل هو ذبيح الله ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلا : في إحدى آيات القرآن الكريم نقرأ( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .(١) هذه العبارة توضح بصورة جيّدة ، أنّ الله سبحانه وتعالى بشّر إبراهيم بولادة إسحاق بعد قضيّة الذبح ، نتيجة تضحياته ، ولهذا فإنّ قضيّة الذبح لا تخصّه أبدا ، إضافة إلى أنّ الباريعزوجل عند ما يبشّر أحدا بالنبوّة ، فذلك يعني بقاء ذلك الشخص حيّا ، وهذا لا يتناسب مع قضيّة الذبح التي خصّت غلاما.

ثانيا : نقرأ في الآية ٧١ من سورة هود ، قوله تعالى :( فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ) هذه الآية توضّح أنّ إبراهيم كان مطمئنا على بقاء ولده إسحاق ، وأنّ الله سيرزق إسحاق ولدا اسمه يعقوب ، وهذا يعني أنّ الذبح لا يشمله أبدا. فالذين اعتبروا إسحاق هو الذبيح ، يبدو أنّهم لم يأخذوا بنظر الإعتبار حقيقة هذه الآيات.

ونقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث موثوق ، جاء فيه : «أنا ابن الذبيحين» والمقصود من الذبيحين ، الأوّل هو والده (عبد الله) الذي كان أبوه عبد المطّلب قد

__________________

(١) الصافات ، ١١٢.

٣٦٩

نذر بذبحه تقرّبا إلى الله تعالى والذي (فداه) بأمر من الله بـ (١٠٠) بعير ، وقصّته معروفة ، والثاني هو (إسماعيل) لأنّ من الأمور الثابتة كون نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو من أبناء إسماعيل وليس من أبناء إسحاق(١) .

وورد في الدعاء الذي رواه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (يا من فدا إسماعيل من الذبح)(٢) .

وجاء في روايات اخرى عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام ، أنّهما أجابا على أسئلة تستفسر عن الذبيح ، فأجابا أنّه إسماعيل.

وجاء في حديث نقل عن الإمام الرضاعليه‌السلام «لو علم اللهعزوجل شيئا أكرم من الضأن لفدى به إسماعيل»(٣) .

خلاصة الأمر ، هو أنّ الروايات والأحاديث التي وردت بهذا الشأن كثيرة ، وإذا أردنا استعراضها جميعا ، فإنّ البحث يتّسع كثيرا.

وفي مقابل هذه الروايات الكثيرة المتناسبة مع ظاهر الآيات القرآنية ، هناك روايات شاذّة تدلّ على أنّ إسحاق هو المقصود (بذبيح الله) ولا تتطابق مع روايات المجموعة الاولى ولا مع ظاهر الآيات القرآنية.

وبغضّ النظر عمّا قيل ، فهناك قضيّة مسلّم بها ، وهي أنّ الطفل الذي جاء به إبراهيم مع امّه إلى مكّة المكرّمة بأمر من الله ثمّ تركهما هناك ، وساعده من بعد في بناء الكعبة المشرفة ، وأدّى مراسم الطواف والسعي هو إسماعيل ، وهذا يدلّ على أنّ الذبيح هو إسماعيل ، لأنّ عملية الذبح تكمل الأعمال المذكورة أعلاه.

ممّا يذكر أنّ كتاب (التوراة) الحالي والمعروف بالعهد القديم يؤكّد على أنّ الذبيح كان إسحاق.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢١.

(٣) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢٢.

٣٧٠

هنا يستشف أنّ بعض الروايات الإسلامية غير المعروفة والتي تؤكّد على أنّ إسحاق هو (ذبيح الله) متأثّرة ببعض الروايات الإسرائيلية ، ويحتمل أنّ اليهود وضعوها ، وذلك لأنّهم من ذريّة (إسحاق) ، وقد حاولوا نسب هذا الفخر لهم ، حتّى ولو كان عن طريق تزييف الوقائع والحقائق ، وسلبه من المسلمين الذين كان نبيّهم نبي الرحمة أحد أحفاد إسماعيل.

على أيّة حال ، فإنّ ظواهر آيات القرآن الكريم هي أقوى دليل لنا ، إذ توضّح بصورة كافية ، أنّ الذبيح هو إسماعيل ، رغم أنّه لا فرق بالنسبة لنا إن كان الذبيح إسماعيل أو إسحاق ، فالإثنان هما أبناء إبراهيمعليه‌السلام ، وكلاهما من أنبياء الله العظام ، ولكن الهدف هو توضيح هذه الحادثة التاريخية.

٢ ـ هل أنّ إبراهيم كان مكلّفا بذبح ابنه؟

من الأسئلة المهمّة الاخرى التي تطرح نفسها في هذا البحث ، والتي تثير التساؤل في أوساط المفسّرين ، هي : هل أنّ إبراهيم كان حقّا مكلّفا بذبح ابنه أم أنّه كان مكلّفا بتنفيذ مقدّمات الذبح؟

فإن كان مكلّفا بالذبح ، فكيف ينسخ هذا الحكم الإلهي قبل تنفيذ عمليّة الذبح ، في حين أنّ النسخ قبل العمل غير جائز ، وهذا المعنى ثابت في علم (اصول الفقه).

وإن كان مكلّفا بتنفيذ مقدّمات عملية الذبح ، فهذا لا يعتبر فخرا له. وما قيل من أنّ أهميّة المسألة نشأت من أنّ إبراهيم بعد تنفيذه لهذا الأمر وتهيئة مقدّماته كان ينتظر نزول أمر بشأن الذبح وكان هذا هو الامتحان الكبير له ـ فهو كلام غير جدير بالردّ.

باعتقادنا ، أنّ التقوّلات هذه ناشئة عن عدم التفريق بين الأوامر الامتحانية وغير الامتحانية ، فالأمر الصادر إلى إبراهيم هو أمر امتحاني ، وكما هو معروف فإنّ الأوامر الامتحانية لا تتعلّق فيها الإرادة الحقيقيّة بطبيعة العمل ، وإنّما الهدف

٣٧١

منها توضيح مقدار الاستعداد الموجود عند الإنسان الممتحن بالنسبة إلى طاعته للأوامر؟ كما أنّ الشخص الممتحن ليس له اطلاع بخفايا الأمور. وبهذا الشكل فإنّ عملية النسخ لم تحصل هنا حتّى تناقش قضيّة صحّتها ووقوعها قبل العمل.

مخاطبة الباريعزوجل عبده إبراهيم بعد الحادثة( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) إنّما جاءت بسبب إثبات مقدرته على ذبح ابنه العزيز ، واستعداده روحيّا لتنفيذ هذا الأمر ، ونجاحه في هذا الامتحان.

٣ ـ كيف يمكن أن تكون رؤيا إبراهيم حجّة؟

بشأن (الرؤيا) هناك كلام كثير ، ورد جزء يسير منه في تفسير سورة يوسف بعد الآية الرابعة.

لا بدّ هنا من الالتفات إلى أمر وهو : كيف اعتبر إبراهيم منامه حجّة ، واتّخذه معيارا لعمله؟

في الجواب على هذا السؤال ، يقال : إنّ رؤيا الأنبياء لا يمكن أن تكون رؤيا شيطانية ، وإنّها ليست ناشئة عن فعّالية قوّة وهمية ، وإنّما هي جانب من نظام النبوّة والوحي.

وبتعبير آخر : إنّ ارتباط الأنبياء مع الوحي يكون أحيانا بشكل إلقاء في القلب.

وأحيانا عن طريق مشاهدة الوحي.

وأحيانا عن طريق سماع أمواج صوتية ، بعثت بأمر من الله.

وأحيانا عن طريق المنام.

وبهذا الشكل لا يمكن وقوع أي خطأ أو اشتباه في رؤيتهم ، والذي يشاهدونه في منامهم هو كالذي يشاهدونه في يقظتهم.

وقيل : إنّ إبراهيم أمر عن طريق الوحي أثناء يقظته بأن ينفّذ ما يراه بشأن الذبح في المنام.

٣٧٢

وقيل أيضا : إنّ القرائن المختلفة التي كانت في هذا المنام ، ومنها تكراره ثلاث ليال متتالية ، أوجد عنده علما ويقينا بأنّ ما شاهده في المنام هو تكليف إلهي وليس أمرا آخر.

على أيّة حال ، يمكن أن تكون كلّ هذه التفاسير صحيحة ، ولا يوجد تناقض بينها ، كما أنّها لا تتعارض وظواهر آيات القرآن الكريم.

٤ ـ عدم تأثّر روح إبراهيم الكبيرة بوساوس الشيطان :

لأنّ إمتحان إبراهيم كان من أكبر الامتحانات على طول التاريخ ، إذ كان الهدف منه إخلاء قلبه في أيّ حبّ لغير الله ، وجعله متنوّرا ـ فقط ـ بعشق وحبّ الله ، فقد عمد الشيطان ـ كما جاء في بعض الروايات ـ إلى تكريس كلّ طاقاته لعمل شيء ما يحول دون خروج إبراهيم منتصرا من الامتحان.

فأحيانا كان يذهب إلى زوجته (هاجر) ويقول لها : أتعلمين بماذا يفكّر إبراهيم؟ إنّه يفكّر بذبح ولده إسماعيل اليوم!

فكانت تجيبه هاجر : اذهب ولا تتحدّث بأمر محال ، فإنّه أرحم من أن يقتل ولده ، فهل يمكن العثور في هذه الدنيا على إنسان يذبح ولده بيده؟

الشيطان هنا يواصل وساوسه ، ويقول : إنّه يزعم بأنّ الله أمره بذلك.

فتجيبه هاجر : إذا كان الله قد أمره بذلك فعليه أن يطيع أوامر الله ، وليس هناك طريق آخر سوى الرضى والتسليم لأمر الله.

وأحيانا كان يذهب صوب (الولد) ليوسوس في قلبه ، لكنّه فشل أيضا إذ لم يحصل على أيّة نتيجة لأنّ إسماعيل كان كلّه قطعة من الرضى والتسليم لذلك الأمر.

وأخيرا اتّجه نحو الأب ، وقال له : يا إبراهيم إنّ المنام الذي رأيته هو منام شيطاني! لا تطع الشيطان!

٣٧٣

فعرفه إبراهيم الذي كان يسطع بنور الإيمان والنبوّة ، وصاح به : ابتعد من هنا يا عدوّ الله(١) .

وورد في حديث آخر أنّ إبراهيم جاء في البداية إلى (المشعر الحرام) ليذبح ابنه هناك ، ولكن الشيطان تبعه ، فترك المحلّ وذهب إلى مكان (الجمرة الاولى) فتبعه الشيطان أيضا ، فرماه إبراهيم بسبع قطع من الحجارة ، وعند وصوله إلى (الجمرة الثانية) شاهد الشيطان أمامه أيضا فرماه بسبع قطع اخرى من الحجارة ، وحالما وصل إلى جمرة العقبة وشاهد الشيطان ثالثة رماه بسبع اخرى ، وبهذا جعل الشيطان ييأس منه إلى الأبد(٢) .

من هنا يتّضح أنّ وساوس الشياطين أثناء أداء الامتحان الكبير يتعدّد أشكالها ، إذ أنّها تعترض طريق الإنسان من عدّة جهات وتتلوّن بعدّة ألوان ، فلذا يجب على المؤمنين أن يكونوا كإبراهيم قادرين على تشخيص الشيطان ومعرفته بسرعة مهما كان متسترا بشكل من الأشكال ، وإغلاق كلّ طريق يحتمل أن يرد منه ورميه بالحجارة ، فما أعظم هذا الدرس!!

٥ ـ فلسفة التكبيرات في (منى):

وكما هو معروف فإنّ من الأعمال الواردة في الروايات الإسلامية بشأن عيد الأضحى ، هي التكبيرات الخاصّة التي يردّدها المسلمون بعد الصلاة ، سواء كانوا من المشاركين في مراسم الحجّ بمنى ، أو ممّن لم يشارك فيها من المسلمين في سائر بقاع الأرض. (غاية الأمر انّ الحجّاج في منى يكبّرون بعده صلاة أوّلها بعد صلاة الظهر من يوم العيد ، وفي المناطق الاخرى يكبّر المسلمون هذه التكبيرات بعد ١٠ صلوات).

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، المجلّد ٩ ، الصفحة ٣٢٦ ، في ذيل الآيات المتعلّقة بالبحث.

(٢) تفسير (أبو الفتوح الرازي) المجلّد (٩) الصفحة (٣٢٦) في ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

٣٧٤

وكيفيّة هذه التكبيرات هي : (الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلّا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا). فعند ما نقارن بين هذا الأمر والحديث الذي ذكرناه سابقا ، تتّضح حقيقة هذه التكبيرات ، وهي أنّها مجموع تكبيرات جبرئيل وإسماعيل ووالده إبراهيم ، وشيء أضيف إليه.

وبعبارة اخرى فإنّ هذه العبارات تحيي في الأذهان خاطرة انتصار إبراهيم وابنه إسماعيل في الامتحان الكبير ، وتعطي العبر لكلّ المسلمين ، سواء كانوا في منى أو في غيرها.

وقد اتّضح من الروايات الإسلامية أنّ سبب تسمية أرض (منى) بهذا الاسم ، إنّما يعود إلى أنّ إبراهيم عند ما وصل إلى هذه الأرض ، بعد ما اجتاز ـ بنجاح ـ الامتحان الصعب ، نزل عليه جبرئيل وقال له : اطلب ما شئت من ربّ العالمين ، فتمنّى من الله أن يأمره بذبح كبش فدية عن ابنه إسماعيل ، وقد تحقّقت أمنيته هذه(١) .

٦ ـ الحجّ عبادة مهمّة تبني الإنسان :

السفر للحجّ ـ في الحقيقة ـ هو سفر عظيم ، إذ أنّه سفر إلهي ، وساحة واسعة لبناء النفس والجهاد الأكبر.

مراسم الحجّ توضّح ـ في الواقع ـ عبادة ممزوجة ـ بصورة عميقة ـ بخاطرات جهاد إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجته هاجر ، فلو أغفلنا عن هذه النقطة أثناء مطالعتنا الأمور الخاصّة بأسرار الحجّ ، فإنّ الكثير من مراسمه ستبدو لنا كألغاز ، نعم إنّ مفتاح حلّ هذه الألغاز هو الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الامتزاج العميق.

فعند ما نأتي إلى مكان ذبح الأضاحي في أرضي (منى) نتعجّب لأيّ شيء تذبح هذه الأضاحي؟ فهل أنّ ذبح الحيوان يمكن أنّ يكون حلقة من مجموعة حلقات

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٢٠ ، الحديث ٦٨.

٣٧٥

العبادة؟

إلّا أنّنا عند ما نتذكّر إيثار إبراهيمعليه‌السلام الذي أراد ذبح أعزّ أعزّائه وأطيب ثمار عمره (إسماعيل) في تلك الأرض في سبيل الله ، العملية التي غدت سنّة فيما بعد وبعنوان ذبح الأضاحي في منى ، ندرك فلسفة هذا العمل.

فالذبح إشارة إلى اجتياز كلّ شيء في سبيل التوجّه إلى الله ، وهو مظهر لإخلاء القلب من كلّ شيء عدا ذكر الله ، ويمكن استمداد التربية الكافية من هذه المناسك ، إذا تجسّد لنا مشهد ذبح إسماعيل ، ومعنويات الأب وابنه إسماعيل أثناء عملية الذبح ، وهذا المشهد يجعل معنويات الإنسان تسطع بأنوارها(١) .

أمّا أثناء توجّهنا إلى رمي الجمرات (وهي ثلاثة أعمدة مبنية من الحجر يرميها الحجّاج أثناء تأديتهم لمراسم الحجّ ، وفي كلّ مرّة يرمون سبعة أحجار عليها وفق مراسم خاصّة) فيتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي : ماذا يعني رمي هذا المقدار من قطع الحجارة على عمود من الحجر لا روح فيه؟ وأي مشكلة سيحلّ هذا العمل؟

إلّا أنّنا عند ما نتذكّر أنّها تمثّل جهاد الموحّد إبراهيم ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرّات في الطريق ، وهو مصمّم على أن يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر ، وكلّما ظهر له رماه بالحجر ، فإنّ محتوى هذه الشعيرة يتوضّح أكثر.

فمعنى هذه الشعيرة هو أنّكم طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد الأكبر ضدّ وساوس الشيطان ، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم فلن تنتصروا أبدا.

وإن كنتم تنتظرون أن يشملكم الله بلطفه ورحمته ، كما شمل إبراهيم بذلك

__________________

(١) ممّا يوسف له أنّ مراسم ذبح الأضاحي في عصرنا الحالي لا تتمّ بالشكل المطلوب ، ولذا على علماء الإسلام أن يبذلوا الجهد لإنقاذ هذه المراسم العظيمة ، وبهذا الشأن وبخصوص فلسفة الحجّ أوردنا بحوثا مفصّلة في ذيل الآية (٣٨) من سورة الحجّ.

٣٧٦

وبعث إليه بالسلام وأبقى رسالته وذكراه خالدتين في العالمين ، عليكم أن تسيروا على خطاه.

وفور ما نصل إلى الصفا والمروة ونشاهد أفواجا أفواجا من الناس تنساب من هذا التل الصغير إلى ذلك التل الأصغر ، وتعود مرّة اخرى من هنا إلى هناك ، وتكرّر هذا العمل من دون أن تحصل على شيء ، وأحيانا تهرول وأحيانا اخرى تمشي ، ومن الطبيعي أن يثير هذا العمل العجب ، فما ذا يفعل هؤلاء هنا ، وما هي المفاهيم التي يحملها هذا العمل؟

إلّا أنّنا لو رجعنا إلى الوراء ، واستذكرنا الجهود التي بذلتها تلك المرأة المؤمنة (هاجر) لإنقاذ حياة ابنها الرضيع (إسماعيل) في تلك الأرض القاحلة والحارقة ، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى أعطاها ما تريد بعد جهدها وسعيها ، عند ما فجّر عين زمزم من تحت رجلي ولدها الرضيع ، فجأة ترجع بنا عجلة الزمن إلى الوراء ، ويكشف لنا عن الحجب ، ونشاهد أنفسنا في تلك اللحظة واقفين قرب هاجرعليها‌السلام ، فنشترك معها في السعي والجهد ، لأنّ الذي لا يسعى ولا يبذل الجهد في سبيل الله ، لا يصل إلى نتيجة.

وبسهولة نستطيع تلخيص ما قلناه ، وهو أنّ الحجّ يجب أن يقترن بتعلّم هذه الرموز ، وتتجسّد ذكريات إبراهيم وابنه وزوجته خطوة خطوة ، كي يدرك الحاجّ فلسفة الحجّ وتشعّ أنوار آثاره الأخلاقية العميقة في نفوس الحجيج ، فبدون تلك المعاني والدروس يكون الحجّ مجرّد قشر ليس أكثر.

* * *

٣٧٧

الآيات

( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) )

التّفسير

إبراهيم ذلك العبد المؤمن :

الآيات الثلاث المذكورة أعلاه هي آخر الآيات التي تواصل الحديث عن قصّة إبراهيم وابنه وتكملها ، وفي الحقيقة إنّها دليل يوضّح ما مضى ، وفي نفس الوقت هي نتيجة له.

في البداية تصف الآية القرآنية الكريمة إبراهيم( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .

وفي الواقع إنّ هذه الآية دليل على ما ذكر فيما قبل ، كما توضّح حقيقة مفادها أنّ إيمان إبراهيم القوي دفعه إلى أن يضع كلّ وجوده وكيانه وحتّى ابنه العزيز البارّ ، في صحن الإخلاص فداء لربّه سبحانه وتعالى.

نعم كلّ هذه هي من ثمار الإيمان ، وتجلّياته ، وما أعجب هذه الثمار

٣٧٨

والتجلّيات!!

هذا التعبير يعطي أبعادا أوسع وأعمّ لما جرى لإبراهيم وابنه ، ويخرج هذه المجريات من بعدها الشخصي والخاص ، ويوضّح أنّه أينما كان الإيمان كان هناك إيثار وحبّ وفداء وعفو ، وأنّ إبراهيم كان يختار كلّ ما يختاره الله ويريد كلّ ما أراده الله ، وكلّ مؤمن يستطيع أن يكون كذلك.

ثمّ تتناول هذه الآيات نعمة اخرى من النعم التي وهبها الله تعالى لإبراهيم( وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

فبالانتباه إلى الآية( فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) التي ذكرناها في مقدّمة هذه الأحداث ، يتّضح بصورة جيّدة أنّ هاتين البشارتين تتعلّقان بولدين ، وبما أنّ البشرى الأخيرة وفق ما جاء في الآية تخصّ (إسحاق) ، فإنّ (الغلام الحليم) بالتأكيد هو (إسماعيل) فالذين يصرّون على أنّ الذبيح هو (إسحاق) عليهم أن يعرفوا أنّهم اعتبروا الآيتين تشيران إلى موضوع واحد مع هذا التفاوت ، وهو أنّ الآية الاولى بشّرت بالولد والآية الثانية بشّرت بالنبوّة ، ولكن هذا المعنى مستبعد جدّا ، والآيات المذكورة أعلاه تبيّن بوضوح أنّ البشارتين تتعلّقان بولدين.

على أيّة حال فإنّ بشرى النبوّة تكشف عن أنّ إسحاق يجب أن يبقى حيّا وأن يؤدّي تكاليف ومهمّة النبوّة ، وهذا لا يتلاءم مع قضيّة الذبح.

مرّة اخرى سنتطرّق إلى عظمة مرتبة الصالحين ، إذ وصفت الآية الكريمة إسحاق بأنّه (يجب أن يصبح نبيّا وأن يكون من الصالحين) فكم هي رفيعة مرتبة الصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟

الآية الأخيرة تتحدّث عن البركة التي أنزلها الباري جلّ وعلا على إبراهيم وابنه إسحاق( وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ ) .

ولكن البركة في أي شيء؟ لم يرد بهذا الشأن أي توضيح ، وكما هو معلوم فإنّ

٣٧٩

الفعل عند ما يأتي بصورة مطلقة ومن دون أي قيد أو شرط ، فإنّه يعطي معنى عاما ، فبهذا تكون البركة شاملة لكلّ شيء ، في الحياة ، في الأجيال القادمة ، في التأريخ ، والرسالة ، وفي كلّ شيء.

فكلمة (بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير ، وعند ما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير).

وتدريجيّا أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما ، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقيا وثابتا مبارك.

ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اسرتهم ، وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كلّ أنبياء بني إسرائيل من ذريّة إسحاق ، في حين أنّ نبي الإسلام العظيم هو من ذريّة إسماعيل.

وهذه البركات لا تشمل كلّ أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته ، وإنّما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم ، إذ تقول الآية في آخرها( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) .

كلمة (محسن) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله ، وهل يتصوّر أنّ هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟

و (ظالم) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.

وعبارة (لنفسه) إشارة إلى الكفر وارتكاب الذنوب يعدّ أوّلا ظلم للنفس ، الظلم الواضح والمكشوف.

فالآية المذكورة أعلاه تجيب اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء ، وتقول لهم : إنّ صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للافتخار ، إن لم ترافقها

٣٨٠

صلة في الفكر والالتزام بالرسالة.

وكشاهد على هذا الكلام فقد ورد حديث لنبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب فيه بني هاشم «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» أي أنّهم مرتبطون بي رساليا وأنتم مرتبطون بي جسديا(١) .

* * *

__________________

(١) روح البيان ، المجلّد ٧ ، الصفحة ٤٧٩.

٣٨١

الآيات

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) )

التّفسير

النعم التي منّ بها الله على موسى وهارون :

الآيات المباركة هذه تشير إلى جوانب من النعم الإلهيّة التي أغدقها الله جلّ شأنه على موسى وأخيه هارون ، والبحث هنا ليتناغم ويتواءم مع البحوث السابقة بشأن نوح وإبراهيم في الآيات السابقة ، فمحتوى الآيات يشابه بعضه البعض ، ونفس الألفاظ تتكرّر في بعض الجوانب ، وذلك لتوجد نظاما تربويا منسجما للمؤمنين.

٣٨٢

مرّة اخرى استخدم في هذه الآيات أسلوب (الإجمال والتفصيل) الأسلوب الذي استخدمه القرآن في نقل العديد من الحوادث.

الآية الاولى تشير إلى قوله تعالى :( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ ) .

«المنّة» في الأصل من «المنّ» ويعني الحجر الذي يستعمل للوزن ، ثمّ أطلق على النعم الكبيرة والثقيلة ، فلو كانت لها جنبة عملية وموضوعية فالمنّة جميلة ومحمودة ، ولو اقتصرت على اللفظ والكلام فهي سلبية ومذمومة ، والغالب إنّها تستعمل في المحاورات العرفية بالمعنى الثاني ، وهذا هو السبب في تداعي المفهوم السلبي من هذه الآيات الكريمة ، ولكن لا بدّ من القول انّ هذه المفردة وردت في اللغة والآيات الكريمة بمعناها الواسع الذي يشمل المفهوم الأوّل منها. (أي منع النعم والمواهب الكبيرة).

وعلى كلّ حال فانّ الله سبحانه وتعالى أنعم على الأخوين موسى وهارون بنعمة عظيمة.

أمّا الآيات التي تلتها فتشرح سبعة من هذه النعم ، وكلّ واحدة منها أفضل من أختها.

ففي المرحلة الاولى ، يقول سبحانه وتعالى :( وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) .

فهل هناك قلق أكثر من هذا ، وهو أنّ بني إسرائيل يعيشون في قبضة الفراعنة المتجبّرين الطغاة؟ يذبحون أولادهم ويسخّرون نساءهم في خدمتهم ، ويستعبدون رجالهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقّة.

أليس فقدان الحرية والابتلاء بسلطان جائر لا يرحم الكبير ولا الصغير ، حتّى يبلغ به طغيانه إلى أن يتلاعب بنواميس الناس وشرفهم ، أليس هذا كربا عظيما ، وألما شديدا ، إذن فإنقاذهم من قبضة فراعنة مصر المتجبّرين ، كانت أوّل نعمة يغدقها الباريعزوجل على بني إسرائيل.

٣٨٣

وفي المرحلة الثانية ، قال الباريعزوجل :( وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ ) . ففي ذلك اليوم كان جيش الفراعنة ذا قوّة عظيمة ويتقدّمه الطاغية فرعون ، فيما كان بنو إسرائيل قوم ضعفاء وعاجزين يفتقدون لرجال الحرب وللسلاح أيضا ، إلّا أنّ المدد الإلهي وصلهم في تلك اللحظات ، وأغرق فرعون وجيشه وسط أمواج البحر ، وأورث بني إسرائيل قصور وثروات وحدائق وكنوز الفراعنة.

وفي المرحلة الثالثة من مراحل إغداق النعم على بني إسرائيل وشمولهم بعنايته ، جاء في محكم كتابه العزيز( وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ) .

نعم (التوراة) هو كتاب مستبين ، أي يوضّح لهم المجهولات المبهمة ، ويجيبهم على كلّ ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم ، كما أكّدت الآية (٤٤) في سورة المائدة ذلك( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) .

وفي المرحلة الرابعة أشار القرآن الكريم إلى نعمة معنوية اخرى منّ بها جلّ شأنه على موسى وهارون ، وهي هدايتهما إلى الصراط المستقيم ،( وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) .

الطريق الصحيح الخالي من كلّ اعوجاج ، ألا وهو طريق الأنبياء والأولياء ، والذي لا يوجد فيه أي خطر من قبيل الانحراف والضلال والسقوط.

وعند ما نقرأ سورة الحمد في كلّ الصلوات ونطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم ، نقول :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) . أي إنّنا نطلب منه أن يهدينا إلى طريق الأنبياء والأولياء.

أمّا المرحلة الخامسة فإنّها أكّدت على استمرار رسالتهما والثناء الجميل عليهما ، إذ تقول الآية :( وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ ) .

وهذه العبارة نفسها وردت في الآيات السابقة بشأن إبراهيم ونوح ، لأنّ كلّ الدعاة إلى الله السالكين لطريق الحقّ ، يبقى اسمهم وتاريخهم خالدا على مرّ

٣٨٤

الزمن ، ويجب أن يبقى خالدا ، لأنّهم لا يخصّون قوما أو شعبا معيّن ، وإنّما كلّ الإنسانية.

والمرحلة السادسة تستعرض التحيّة الطيّبة المباركة التي وردت إلى كلّ من موسى وهارون من عند الله( سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ) .

سلام من عند الله العظيم والرحيم ، السلام الذي هو رمز لسلامة الدين والإيمان والرسالة والإعتقاد والمذهب ، السلام الذي يوضّح النجاة والأمن من العقاب والعذاب في هذه الدنيا وفي الآخرة.

وفي المرحلة السابعة ـ الأخيرة ـ نصل إلى مرحلة الثواب والمكافأة الكبرى التي يقدّمها الباريعزوجل إليهما( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

نعم إنّ حصولهما على كلّ هذه المفاخر لم يكن من دون دليل أو سبب ، إذ كانا من المحسنين والمؤمنين والمخلصين والطيّبين ، فمثل هؤلاء جديرون بالثواب والمكافأة.

والملفت للنظر أنّ هذه الآية( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) تكرّرت في هذه السورة عدّة مرّات ، إذ جاءت بحقّ نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ، وعبارة مشابهة لها بشأن يوسف وردت في سورة يوسف الآية (٢٢) كما وردت في الآية (٨٤) في سورة الأنعام عن أنبياء آخرين كان ثوابهم نفس الثواب ، وكلّهم يقرّون بأنّ كلّ من يريد أن تشمله العناية الإلهيّة عليه أوّلا أن ينضمّ إلى زمرة المحسنين كي تغدق عليه البركات الإلهيّة.

الآية الأخيرة في بحثنا تشير إلى نفس الدليل الذي ورد في قصّة نوح وإبراهيم من قبل( إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .

فالإيمان هو الذي ينير روح الإنسان ويعطيه القوّة ، ويدفعه إلى الطهارة والتقوى وعمل الإحسان والخير ، الإحسان الذي يفتح أبواب الرحمة الإلهيّة على الإنسان ، فتنزل عليه مختلف أشكال النعم.

* * *

٣٨٥

الآيات

( وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) )

التّفسير

النّبي إلياس ومواجهته للمشركين :

القصّة الرابعة في هذه السورة استعرضت بصورة مختصرة حياة نبي الله (إلياس) ، يقول تعالى :( وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

الحديث حول «إلياس» وخصوصياته ونسبه وحياته سيأتي لا حقا في آخر هذه الآيات ـ إن شاء الله.

ثمّ تبدأ الآيات بالتفصيل بعد الإجمال وتقول : واذكر عند ما أنذر قومه( إِذْ قالَ

٣٨٦

لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ) .

أي اتّقوا الله واجتنبوا الشرك وعبادة الأصنام وارتكاب الذنوب والمظالم ، وكلّ ما يؤدّي بالإنسان إلى الباطل والفساد.

أمّا الآية التي تلتها فقد تحدّثت بصراحة أكثر( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ) .

ومن هنا يتّضح أنّ قومه كانوا يعبدون صنما اسمه (بعل) ويسجدون له ، وأنّ هذا النّبي كان يدعوهم إلى ترك هذا العمل القبيح ، والتوجّه إلى الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون العظيم وتوحيده وعبادته.

جمع من المفسّرين ذهبوا إلى أنّ إلياس كان مبعوثا إلى مدينة «بعلبك» إحدى مدن بلاد الشام(١) لأنّ (بعل) هو اسم ذلك الصنم و (بك) تعني مدينة ، ومن تركيب هاتين الكلمتين نحصل على كلمة (بعلبك) وقيل : إنّ الصنم (بعل) كان مصنوعا من الذهب وطوله حوالي (٢٠) ذراعا وله أربعة أوجه ، وخدمته كانوا (٤٠٠) شخصا(٢) .

ولكن البعض ذهبوا إلى أنّ (بعل) ليس اسما لصنم معيّن ، بل يطلق بصورة عامّة على الأصنام ، فيما قال البعض الآخر : إنّها تعني (الربّ والمعبود). وقال (الراغب) في مفرداته : إنّ كلمة «بعل» تعني (الزوج) أمّا العرب فتطلقها على الأصنام التي تعبدها والتي بواسطتها يقربون إلى الله سبحانه وتعالى على حدّ زعمهم.

وعبارة( أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ) رغم أنّها تشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون ولا يوجد خالق سواه ، فهي تشير أيضا حسب الظاهر إلى الأشياء المصنوعة ، أي التي يصنعها الإنسان بعد أن يغيّر شكل المواد الطبيعية ، ومن هنا سمّي بالخالق ، رغم أنّه تعبير مجازي.

__________________

(١) بعلبك اليوم جزء من لبنان وتقع قرب الحدود السورية.

(٢) «روح المعاني» ذيل الآيات الخاصّة بالبحث.

٣٨٧

على أيّة حال ، فقد عمد إلياس إلى توبيخ قومه بشدّة ، وقال لهم :( اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) .

إذ أنّ الله ملككم ومربّيكم ، وكلّ نعمة عندكم فهي منه ، وأي مشكلة عندكم تتيسر بقدرته فغيره ، لا يعدّ مصدرا للخير والبركة ، ولا يمكنه دفع الشرّ والبلاء عنكم.

الظاهر هنا أنّ المشركين في زمان إلياس ، قالوا ـ كما قال المشركون في زمان نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنّنا نتّبع سنن أجدادنا الأوّلين ، فأجابهم إلياسعليه‌السلام بقوله :( اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) .

واستخدام كلمة (ربّ) هنا أفضل منبّه للعقل والتفكير ، لأنّ أهمّ قضيّة في حياة الإنسان هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربّيه وولي نعمته اليوم؟

إلّا أنّ قومه اللجوجين والمتكبّرين لم يعطوا اذنا صاغية لنصائحه ومواعظه ، ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم ، وإنّما كذّبوه( فَكَذَّبُوهُ ) .

ومقابل تصرفاتهم هذه توعدهم الله سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها : إنّنا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذّبهم في جهنّم( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

ولكن يبدو أنّ هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس ، ولكي لا يضيع حقّ هؤلاء ، قال تعالى مباشرة بعد تلك الآية( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) (١) .

الآيات الأخيرة من بحثنا استعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحقّ الأنبياء الماضين (نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وهارون) ولأهميّتها نستعرضها مرّة اخرى.

__________________

(١) وفقا لما ذكرناه أعلاه فإنّ هذا الاستثناء هو استثناء متّصل من (الواو) في «كذّبوه» ، وتعني أنّ كلّ قومه كذّبوه وابتلوا بالعذاب الإلهي ، عدا عباد الله المخلصين.

٣٨٨

قوله تعالى :( وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ) أي إنّ الأمم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خطّ التوحيد ، وسقاية شجرة الإيمان ، وما دامت الحياة موجودة في هذه الدنيا فإنّ رسالتهم ستبقى حيّة وخالدة.

وفي المرحلة الثانية أثنى الله سبحانه وتعالى وبعث بتحيّاته إلى آل ياسين ، قال تعالى :( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) .

استخدام عبارة (الياسين) بدلا عن (الياس) إمّا لكونها من الناحية اللغوية لفظا لـ (إلياس) واللتين لهما نفس المعنى ، أو أنّها إشارة إلى (إلياس) وأتباعه المؤمنين ، فوردت بصورة الجمع(١) .

وفي المرحلة الثالثة ، قال تعالى :( إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

«الإحسان» هنا شمل ، معنى واسعا وهو العمل بكلّ السنن والأوامر ، ومن ثمّ الجهاد ضدّ كافّة أشكال الشرك والانحراف والذنوب والفساد.

أمّا المرحلة الرابعة فتطرح الإيمان كأمر أساسي يجب أن يتوفّر في الأنبياء الذين استعرضتهم هذه السورة المباركة فتقول الآية هنا :( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .

«الإيمان» و «العبودية» لله هما مصدر الإحسان ، والإحسان يؤدّي إلى انضمام المحسن لصفوف المخلصين الذين يشملهم سلام الله.

* * *

__________________

(١) في البداية كانت (إلياس) ثمّ نسبت إليها ياء فأصبحت (الياسيّ) ، ثمّ جمعت فأصبحت ، (الياسيين) وعند تخفيفها أضحت (الياسين).

٣٨٩

بحثان

١ ـ من هو إلياس؟

لا يوجد أيّ شكّ في أنّ «إلياس» هو أحد أنبياء الله الكبار ، وآيات بحثنا تصرّح بهذا الأمر ، قال تعالى :( إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

اسم نبي الله (إلياس) جاء في آيتين من آيات القرآن المجيد ، الاولى في هذه السورة ، أي سورة الصافات ، والثانية في سورة الأنعام الآية (٨٥) إذ ذكر اسمه مع مجموعة اخرى من الأنبياء( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

وأبدى المفسّرون وجهات نظر متعدّدة بشأن إلياس ، إذ أنّ البعض تساءل هل أنّ اسم «إلياس» هو اسم ثان لنبي واحد ، أم أنّه يتعلّق ببني ليس له اسم ثان ، وما هي صفات وخصائص هذا النبي؟

للإجابة على هذه التساؤلات نستعرض وجهات النظر المتعدّدة تلك :

أ ـ يعتقد البعض أنّ «إلياس» هو إدريس (لأنّ كلمة إدريس ، تلفظ إدراس ، وبعد أنّ طرأت عليها تغيّرات بسيطة أضحت إلياس).

ب ـ «إلياس» هو أحد أنبياء بني إسرائيل ، وهو ابن (ياسين) أحد أحفاد هارون أخي نبي الله موسىعليه‌السلام .

ج ـ مجموعة من المفسّرين اعتبرت «إلياس» هو الخضر.

في حين أعربت مجموعة اخرى عن اعتقادها في أنّ إلياس هو صديق الخضر ، وكلاهما ما زال حيّا ، وأنّ إلياس موكّل بالفيافي ، والخضر موكّل بالبحار والجزر.

ومجموعة ثالثة أكّدت على أنّ إلياس موكّل بالصحاري والخضر موكّل بالجبال ، ويقولون بخلود الإثنين.

والبعض يرى أنّ إلياس ابن (اليسع).

د ـ إلياس هو نفسه (إيليا) نبي بني إسرائيل الذي عاصر الملك (آجاب) والذي أرسله الباريعزوجل لإنذار وهداية (آجاب) الطاغية المتجبّر.

٣٩٠

وقال البعض : إنّه يحيى معمدان المسيح.

ولكن الذي يتناسب وظاهر آيات القرآن الكريم هو أنّ هذا الاسم اسم أحد أنبياء الله غير تلك الأسماء التي وردت في القرآن المجيد ، وأنّه بعث لهداية قوم يعبدون الأصنام ، فكذّبه أكثر القوم ، عدا مجموعة من المؤمنين المخلصين الذين صدّقوه.

وكما أشرنا سابقا فإنّ البعض يعتقد بأنّه بعث إلى بلاد الشام ، استنادا إلى اسم الصنم (بعل) الذي كان يعبده القوم الموجودون في تلك المنطقة ، وهي «بعلبك» التي هي اليوم إحدى مدن لبنان وتقع قرب الحدود السورية.

على أيّة حال ، فقد وردت قصص مختلفة في الكتب بشأن هذا النبي ، ولأنّها غير معتمدة وموثوقة فقد صرف النظر عنها(١) .

٢ ـ من هم إل ياسين؟

المفسّرون والمؤرخون أبدوا وجهات نظر مختلفة بشأن (الياسين) منها :

أ ـ ذهب البعض إلى أنّ إلياس والياسين هما لغتان ، كما هو شائع بالنسبة لـ (ميكال) و (ميكائيل) إذ أنّهما لغتان في اسم واحد لأحد الملائكة ، ول (سيناء) و (سينين) حيث تطلقان على مساحة من الأرض تقع بين مصر وفلسطين ، و (إلياس) و (الياسين) هي أيضا لغتان في اسم واحد لهذا النّبي الكبير(٢) .

ب ـ البعض الآخر يعتبرها جمعا ، وبهذا الشكل (إلياس) أضيفت إليها (ياء) فأصبحت (الياسي) ، وبعد ذلك جمعت بإضافة الياء والنون إليها فأصبحت (الياسين) وبعد تخفيفها غدت (الياسين) ، وطبقا لهذا يفهم منها أنّها تخصّ كلّ

__________________

(١) تفسير (مجمع البيان) وتفسير (الميزان) و (روح البيان) و (فخر الرازي) و (في ظلال) و (أعلام القرآن).

(٢) البيان في غريب إعراب القرآن ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣٠٨.

٣٩١

الذين أطاعوا الياس والتزموا بنهجه(١) .

ج ـ (آلياسين) بالألف الممدودة ، مركّبة من كلمتي (آل) و (ياسين) وقيل أنّ ياسين هو اسم والد (الياس) ، ووفق رواية اخرى فإنّه أحد أسماء نبيّنا الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبهذا فإنّ كلمة (آل ياسين) تعني عائلة نبي الإسلام أو عائلة ياسين والد الياس.

الدلائل الواضحة الموجودة في القرآن تؤيّد المعنى الأوّل ، والذي يقول : إنّ المقصود من (الياسين) هو (الياس) لأنّ الآية التي تلي هذه الآية المباركة( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) بآية تقول :( إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) وعودة الضمير المفرد على (الياسين) دليل على أنّه شخص واحد لا أكثر ، وهو إلياس.

وهناك دليل آخر ، هو أنّ الآيات الأربعة الأخيرة التي وردت في نهاية قصّة إلياس ، هي نفس الآيات التي وردت في نهاية قصص نوح وإبراهيم وموسى وهارون ، وعند ما نضع هذه الآيات الواحدة إلى جنب الاخرى نرى أنّ سلام الله في تلك الآيات مرسل إلى الأنبياء الذين تتطرّق إليهم الآيات المباركة ،( سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) ـ( سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ) ـ( سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ) .

وطبقا لذلك فإنّ( سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ ) تعني السلام على إلياس.

والنقطة التي ينبغي الالتفات إليها ، أنّ الكثير من التفاسير أوردت حديثا بسند عن ابن عبّاس يصرّح بأنّ المراد من (آل ياسين) هم آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ أحد أسماء نبيّنا هو ياسين.

روى الشيخ الصدوق في كتابه (معاني الأخبار) في باب تفسير (آل ياسين) خمسة أحاديث بهذا الشأن ، كلّها لا تنتهي من حيث السند إلى أهل البيتعليهم‌السلام

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٩٢

سوى واحد ، والراوي لهذا الحديث شخص يدعى (كادح) أو (قادح)(١) وهو مجهول ولا توجد ترجمته في كتب الرجال.

وعلى فرض ـ وفقا لهذه الأخبار ـ أنّ الآية الآنفة تقرأ بصورة سلام على آل ياسين وبغضّ النظر عن عدم تناسب الآيات ، ورأينا أنّ إسناد هذه الرّوايات أيضا قابلة للنقاش ، فمن الأفضل أن نتجنّب القضاء بخصوص هذه الرّوايات ونترك الحكم عليها لأهلها.

* * *

__________________

(١) معاني الأخبار : ص ١٢٢.

٣٩٣

الآيات

( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) )

التّفسير

تدمير قوم لوط :

«لوط» هو خامس نبي يذكر اسمه في هذه السورة ضمن تسلسل الآيات التي تحدّثت بصورة مختصرة عن تأريخه لاستمداد العبر منه.

وطبقا لما جاء في آيات القرآن بشأن لوط ، يتّضح أنّه كان معاصرا لإبراهيمعليه‌السلام ، وأنّه من أنبياء الله العظام ، وذلك ما جاء في الآية (٢٦) من سورة العنكبوت والآية (٧٤) من سورة هود.

وقد ورد اسم «لوط» كثيرا في آيات القرآن الكريم ، وتكرّر البحث في القرآن بشأنه هو وقومه عدّة مرّات ، قومه المنحرفون الذين كشف القرآن الكريم (الآيات ١٦٧ إلى ١٧٣ من سورة الشعراء ، وفي الآيات ٧٠ إلى ٨٣ من سورة هود ، وفي الآيات ٥٤ إلى ٥٨ من سورة النمل وغيرها من السور) عن المصير الأليم الذي

٣٩٤

حلّ بهم.

بحثنا يبدأ بقوله تعالى :( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وبعد هذا البيان الإجمالي يعمد القرآن إلى التفصيل ويبيّن جوانب من قصّة لوط ، حيث قال : تذكر تلك الفترة الزمنية التي أنقذنا فيها لوطا وأهله( إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ) .

عدا زوجته العجوز التي جعلناها مع من بقي في العذاب( إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ) (١) .

( ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ) .

الجمل القصيرة ـ التي وردت أعلاه ـ تشير إلى تأريخ قوم لوط المليء بالحوادث ، والتي ورد شرحها في سور (هود) و (الشعراء) و (العنكبوت).

«لوط» كسائر الأنبياء بدأ دعوته بتوحيد الله ، ثمّ عمد إلى الجهاد ضدّ الفساد الموجود في المجتمع المحيط به ، خاصّة ذلك الانحراف الخلقي المعروف باللواط ، والذي ظلّ كوصمة عار لقوم لوط على طول التاريخ.

فهذا النّبي العظيم عانى المرارة مع قومه ، وبذل كلّ ما يمتلك من جهد لإصلاح قومه المنحرفين ، ومنعهم من الاستمرار في ممارسة عملهم القبيح ، ولكن جهوده لم تسفر عن شيء. وعند ما شاهد أنّ أفراد قلائل آمنوا به ، قرّر إنقاذ نفسه وإنقاذهم من المحيط الفاسد الذي يعيشون فيه.

وفي نهاية الأمر فقد لوط الأمل في إصلاح قومه وعمد إلى الدعاء عليهم ، حيث طلب من الله سبحانه وتعالى إنقاذه وعائلته ، فاستجاب الباريعزوجل لدعائه وأنقذه وعائلته مع تلك الصفوة القليلة التي آمنت به ، عدا زوجته العجوز

__________________

(١) (غابر) من مادّة (غبور) على وزن (عبور) وتعني بقايا الشيء ، فعند ما تتحرّك مجموعة من مكان ما ويبقى أحد أفرادها هناك يقال له (غابر) ولهذا السبب يقال لما يتبقّى من التراب (غبار) ، ولما تبقّى من الحليب في الثدي (غبرة) على وزن (لقمة).

٣٩٥

التي لم ترفض فقط التمسّك بالتعليمات التي جاء بها ، وإنّما عمدت ـ أحيانا ـ إلى تقديم العون لأعدائه.

وقد عذّب الله قوم لوط بأشدّ العذاب ، إذ خسف بهم الأرض ثمّ أمطر عليهم حجارة من سجّيل ، ليهلكوا عن آخرهم ، وتمحى أجسادهم من الوجود أيضا.

وباعتبار أنّ هذه الآيات كانت مقدّمة لإيقاظ الغافلين والمغرورين ، فقد أضاف القرآن الكريم( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ) . أي إنّكم تمرّون في كلّ صباح بجانب ديارهم الخربة من جرّاء العذاب.

كما تمرّون من هناك في الليل أفلا تعقلون؟( وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

هذه الآيات تخاطب قوافل أهل الحجاز التي كانت تذهب ليلا ونهارا إلى بلاد الشام عبر مدن قوم لوط ، وتقول : لو كان لهم آذان حيّة لسمعوا الصراخ المذهل والعويل المفزع لهؤلاء القوم المعذّبين.

لأنّ آثار ديار قوم لوط الخربة تحكي بصمت دروسا كبيرة لكلّ المارّين من هناك ، وتحذر من الابتلاء بمثل هذا العذاب.

نعم ، إنّه درس ما أكثر العبر فيه ، ولكن المعتبرين منه قليل «ما أكثر العبر وأقلّ الإعتبار»(١) .

ونظير هذا المعنى موجود في الآية (٧٦) من سورة الحجر ، والتي تقول بعد بيان قصّة قوم لوط( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) أي إنّ آثارهم تقع دائما في طريق القوافل والمشاة المارّين من هناك.

وفسّرت رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام الآية بشكل آخر ، فعند ما سأله أحد أصحابه عن معنى الآية( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) أجاب الإمام الصادق قائلا : «تمرّون عليهم في القرآن إذا قرأتم في القرآن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٢٩٧.

٣٩٦

فاقرؤوا ما قصّ الله عليكم من خبرهم»(١) .

هذا التّفسير قد يكون إشارة إلى تفسير ثان ، على أيّة حال فالجمع بين التّفسيرين لا ضرر فيه ، لأنّ آثار قوم لوط الباقية شاخصة للأبصار ، إضافة إلى أنّ آيات القرآن الكريم تتطرّق لأخبار قوم لوط والعذاب الذي نزل عليهم.

* * *

__________________

(١) روضة الكافي ، نقلا عن نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، صفحة ٤٣٢.

٣٩٧

الآيات

( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨) )

التّفسير

يونس في بوتقة الامتحان :

الحديث هنا عن قصّة نبي الله «يونس»عليه‌السلام وقومه التائبين ، والتي هي سادس وآخر قصّة تتناول قصص الأنبياء والأمم السابقة ، والذي يلفت النظر أنّ القصص الخمس التي تحدّثت عن قوم (نوح) و (إبراهيم) و (موسى وهارون) و (الياس) و (لوط) أشارت إلى أنّ تلك الأقوام لم تصغ لنصائح الأنبياء الذين بعثوا إليها وبقيت غارقة في نومها ، فعمّها العذاب الإلهي ، فيما أنقذ الله سبحانه وتعالى الأنبياء العظام

٣٩٨

الذين أرسلهم إلى تلك الأقوام مع القلّة القليلة ممّن اتّبعهم.

إلّا أنّ قضيّة نبي الله يونس تنتهي أحداثها بشكل معاكس لما انتهت إليه تلك القصص ، إذ أنّ قوم يونس صحوا من غفلتهم وتابوا إلى الله فور مشاهدتهم دلائل العذاب الإلهي الذي سيحلّ لهم إن لم يؤمنوا ، وأنّ الله شملهم بلطفه وأنزل عليهم بركاته الماديّة والمعنوية ، وفي المقابل فإنّ نبي الله يونس ابتلي ببعض الابتلاءات والمشاكل لأنّه تعجّل في ترك قومه وهجره إيّاهم ، حتّى أنّ القرآن المجيد أطلق عليه كلمة (أبق) والتي تعني هرب العبد من مولاه!

وهذه القصّة بمثابة خطاب موجّه لمشركي قريش ، وإلى كلّ البشر على طول التأريخ ، جاء فيه : هل تريدون أن تكونوا كالأقوام الخمسة الماضية ، أم كقوم يونس؟ وهل ترغبون في أن تكون عاقبتكم الشؤم والألم؟ أما ترغبون في أن تنتهي عواقبكم بخير وسعادة؟ اعلموا أنّ ذلك مرتبط بما تعزمون عليه.

على أيّة حال ، فإنّ ذكر هذا النّبي العظيم وقصّته مع قومه ، وردت في سور متعدّدة من سور القرآن المجيد (منها سورة الأنبياء ، ويونس ، والقلم ، وفي هذه السورة أي الصافات) وعكست كلّ واحدة منها جوانب من أوضاعه وحياته ، وسورة «الصافات» هذه تسلّط الأضواء أكثر على قضيّة هرب يونس وابتلاءه ، ومن ثمّ نجاته من بطن الحوت.

في البداية ، وكما تعوّدنا في القصص السابقة ، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته ، إذ تقول الآية :( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

نبي الله «يونس»عليه‌السلام كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد الله ومجاهدة عبدة الأصنام ، ومن ثمّ محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك ، إلّا أنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الاستجابة لدعوته.

استمرّ يونسعليه‌السلام بوعظ قومه بقلب حزين لأجلهم ، مريدا لهم الخير وكأنّه أب

٣٩٩

رحيم لهم ، في حين كانوا يواجهون منطقه الحكيم بالسفسطة والمغالطة ، عدا مجموعة قليلة منهم ، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته.

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام ، يئس يونس من هدايتهم ، وكما جاء في بعض الروايات ، فإنّ يونسعليه‌السلام قرّر طبقا لاقتراح الرجل العابد ، مع ملاحظة أوضاع وأحوال قومه الضالّين ، قرّر الدعاء عليهم(١) .

وبالفعل فقد دعا عليهم ، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم ، ومع حلول موعد نزول العذاب ، رحل يونس ـ بمعيّته الرجل العابد ـ عن قومه وهو غاضب عليهم ، ووصل إلى ساحل البحر ، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها.

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية ، حيث قالت :( إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) .

كلمة «أبق» مشتقّة من (إباق) والتي تعني فرار العبد من سيّده ، إنّها لعبارة عجيبة ، إذ تبيّن أن ترك العمل بالأولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند الله ، مهما كان بسيطا فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباريعزوجل موقفا معاتبا ومؤنّبا للأنبياء ، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه.

ومن دون أي شكّ فإنّ نبي الله يونسعليه‌السلام ، معصوم عن الخطأ ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاما اخرى من قومه ، وأن يبقى معه حتّى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب ، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى.

حقّا إنّه دعا قومه إلى توحيد الله أربعين عاما ـ وفق ما ورد في بعض الروايات ـ ولكن كان من الأجدر به أن يضيف عدّة أيام أو عدة ساعات إلى ذلك الوقت ببقائه معهم ، لذلك فعند ما ترك قومه وهجرهم شبهه القرآن بالعبد الآبق.

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، صفحة ٣٥.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581