الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175301 / تحميل: 6512
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وزيادة أو نقص العمر سواء بلحاظ القدرة أو بلحاظ العلم والحسابات كلّها بالنسبة إليه تعالى سهلة وبسيطة. وذلك بمجموعه يمثّل جانبا من «آيات الأنفس» التي تربطنا ببداية عالم الوجود والتعرّف عليه من جهة ، كما تعتبر أدلّة حيّة على مسألة إمكانية المعاد من جهة اخرى.

فهل أنّ القادر على الخلق الأوّل من التراب والنطفة غير قادر على إعادة الحياة للناس مرّة اخرى!؟

وهل أنّ العالم بكلّ دقائق وتفاصيل الأمور المرتبطة بتلك القوانين ، يواجه مشكلة في حفظ أعمال العباد ليوم المعاد.

تشير الآية التالية ـ التي تعتبر قسما آخر من آيات الآفاق الدالّة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى ـ إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها ، فتقول الآية الكريمة :( وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ) (١) .

فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من السماء إلى الأرض ، وأنّ كليهما من أصل واحد ، إلّا أنّهما يظهران على هيئتين متفاوتين تماما بشكل كامل وبفوائد متفاوتة أيضا.

والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كلّ منهما :( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والانتقال( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

تأمّل الأمور التالية :

١ ـ «فرات» : على ما ذكر في لسان العرب هو الماء العذب جدّا.

__________________

(١) «عذب» كما يذكر الراغب في مفرداته بمعنى «الماء النقي البارد» وفي لسان العرب بمعنى : «الماء الطيّب» ، ويمكن أن يكون النقي والبارد داخلان في مفهوم «الطيّب».

٤١

«سائغ» : الماء الذي يستمرأ بسهولة لعذوبته ، على عكس الماء المالح ـ أو الأجاج ـ وهو الماء المرّ الذي يمجّه الإنسان.

٢ ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ هذه الآية مثال للفرق بين المؤمن والكافر ، ولكن الآيات السابقة واللاحقة لها ، والتي تتحدّث عن الخلقة ، وحتّى نفس هذه الآية ، شاهدة على حقيقة أنّ هذه الجملة أيضا تبحث في أسرار التوحيد ، وتشير إلى تنوّع المياه وآثارها المتفاوتة وفوائدها المشتركة.

٣ ـ ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي : المواد الغذائية ، ووسائل الزينة ، ومسألة الحمل والنقل.

ونعلم بأنّ البحر يشكّل منبعا مهمّا من المنابع الغذائية للبشر ، وكلّ عام يستخرج منه ملايين الأطنان من اللحوم الطازجة ، بدون أن يتحمّل الإنسان في سبيل ذلك تعبا أو مشقّة ، فإنّ نظام التوازن في الطبيعة يشتمل على برنامج دقيق محسوب بحيث يستطيع الناس الإفادة من تلك المائدة الإلهيّة بدون اعتراض وبأقل زحمة ومشقّة.

كذلك يستخرج من البحار أيضا وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ ـ والمرجان ـ والصدف ـ والدرّ) ، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيدا عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس ، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء ، وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة.

وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم أسس التمدّن الإنساني والحياة الاجتماعية ، فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها ، فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات

٤٢

بهذا الخصوص. إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار ، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر ، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الاخرى ، وعلى سبيل المثال فإنّ سفينة واحدة تستطيع حمل عشرات الآلاف من السيارات على ظهرها(١) .

٤ ـ بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالأمور التي ذكرت أعلاه ، والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة ، فهناك مسألة تكون الغيوم ، الأدوية النفط ، الألبسة ، الأسمدة للأراضي البور ، التأثير في إيجاد الرياح إلى غير ذلك من بركات البحار الاخرى.

٥ ـ تأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحما طريّا» إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك.

٦ ـ هنا يثار سؤال وهو أنّ البحار المالحة تملأ الكرة الأرضية في انتشارها ، فأين تقع بحور الماء العذب؟

وللإجابة يجب القول أنّ بحر وبحيرات الماء العذب أيضا ليست قليلة في الكرة الأرضية مثل بحيرات الماء العذب في الولايات المتحدة وغيرها ، إضافة إلى أنّ الأنهر الكبيرة تسمّى بحارا أيضا في بعض الأحيان ، فقد ورد استعمال كلمة «البحر» لـ (نهر النيل) في قصّة موسى ، كما في سورة البقرة ـ الآية ٥٠ والشعراء ـ ٦٣ والأعراف ـ ١٣٨).

كذلك فإنّه يمكن اعتبار مصبّات الأنهار في البحار والمحيطات عبارة عن بحيرات عذبة ، لأنّ مياه الأنهار عند انصبابها في المحيط تدفع مياه البحار وتبقى غير قابلة للاختلاط لمدّة قصيرة.

__________________

(١) لقد صنعت حاليا سفن حمولتها خمسمائة الف طنّ لنقل النفط ، ولا يمكن لأيّة وسيلة اخرى غير السفينة أن تنقل هذا المقدار الضخم من النفط ، كما أنّه لا يمكن لأي طريق أن يحمل مثل هذه الناقلة ، كما أنّ قدرة السفن في السابق كانت أكثر من قدرة الحيوانات.

٤٣

٧ ـ جملة( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) لها معنى واسع وشامل لكلّ فعّالية اقتصادية تعتمد على البحر.

* * *

بحث

العوامل المعنوية المؤثّرة في طول العمر

قام المفسّرون ببحوث مختلفة بما يتناسب مع البحث الوارد في هذه الآيات حول إطالة وإقصار العمر بأمر الله ، وذلك بما يتوافق مع الروايات الواردة في هذا الخصوص.

طبيعي أنّ هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثّر على طول أو قصر العمر ، والتي أصبح أكثرها معروفا عند الناس ، كالتغذية الصحيحة بعيدا عن الإفراط والتفريط ، العمل وإدامة الحركة ، تحاشي المواد المخدّرة ، والإدمانات الخطرة والمشروبات الكحولية ، الابتعاد عن المهيّجات المستمرة ، التمسّك بإيمان قوي يساعد الإنسان على العيش باطمئنان وهدوء في الملمّات ، ويعطيه القدرة على مواجهة ذلك.

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ هناك عوامل اخرى غير واضحة الارتباط ظاهرا بقضيّة طول العمر ، ولكن الروايات أكّدت عليها ، وكنموذج نورد الروايات التالية :

أ ـ عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار»(١) .

ب ـ وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من سرّه أن يبسط في رزقه وينسئ له في أجله فليصل رحمه»(٢) .

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، مجلّد ٤ ، صفحة ٣٥٤ و ٣٥٥.

(٢) المصدر السابق.

٤٤

ج ـ وفيما يخصّ بعض المعاصي مثل الزنا وأثرها في تقصير عمر الإنسان نقرأ في الرواية المشهورة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معشر المسلمين إيّاكم والزنا فإنّ فيه ستّ خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أمّا التي في الدنيا فإنّه يذهب بالبهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر»(١) .

د ـ عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «البر وصدقة السرّ ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ، ويدفعان عن سبعين ميتة سوء»(٢) .

كذلك فقد وردت الإشارة إلى المعاصي والذنوب الاخرى كالظلم ، بل مطلق المعاصي.

بعض المفسّرين الذين لم يتمكّنوا من التفريق بين «الأجل المحتوم» و «الأجل المعلّق» اعترضوا على مثل هذه الأحاديث واعتقدوا بأنّها مخالفة لنصّ القرآن وأنّ عمر الإنسان له حدّ ثابت لا يتغيّر.

توضيح المسألة : ـ لا شكّ أن للإنسان أجلا محتوما وأجلا معلّقا.

الأجل المحتوم الذي هو نهاية استعداد الجسم للبقاء ، وبحلوله ينتهي كلّ شيء بأمر الله.

الأجل المعلّق أو المخروم الذي ينتفي بانتفاء شرائطه ، مثلا إنسان ينتحر فلو أنّه لم يقم بتلك الكبيرة فإنّه سيبقى لسنوات اخرى يواصل حياته. أو أنّه نتيجة تعاطي المشروبات الكحولية والمواد المخدّرة وممارسة الشهوات بدون قيد أو شرط ، يفقد الجسم قدراته في مدّة قصيرة. في حال أنّه بالابتعاد عن هذه الأمور يستطيع أن يعيش لسنوات طويلة اخرى.

هذه امور قابلة للإدراك والتجربة بالنسبة إلى الجميع ، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) سفينة البحار ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣٣ ـ مادّة صدقة.

٤٥

كذلك فإنّه فيما يخصّ الأقدار فإنّ هناك أمورا ترتبط بالأجل المخروم ، وهي أيضا غير قابلة للإنكار.

وعليه فإذا ورد في الروايات أنّ الإنفاق في سبيل الله أو صلة الرحم تطيل العمر وتدفع أنواعا من البلاء ، فهي في الحقيقة تقصد هذه العوامل.

وإذا لم نفصل بين الأجل المخروم والأجل المحتوم لا يمكننا إدراك كثير من الأمور المتعلّقة بالقضاء والقدر ، وتأثير الجهاد والسعي والعمل الدائب في الحياة ، وسوف تبقى هذه الأمور غير قابلة للحلّ.

هذا البحث يمكن توضيحه بمثال واحد بسيط وهو الآتي :

لو اشترى أحدهم سيارة جديدة بحيث يتوقّع من صناعتها أن تدوم عشرين عاما ، بشرط المحافظة عليها وصيانتها ، وفي هذه الحالة فإنّ الأجل الحتمي لهذه السيارة هو عشرون عاما ، ولكن لو لم تتحقّق لها الصيانة المطلوبة وقام صاحبها بتسليمها إلى أشخاص لا مبالين وغير عارفين بقيادة السيارات ، أو أن يحملها فوق طاقتها ، أو أن يقودها بعنف في طرق وعرة يوميا ، فإنّ أجلها المحتوم ذلك يمكن أن يهبط إلى النصف أو العشر ، وذلك هو الأجل المخروم ، ونحن نعجب كيف أنّ بعض المفسّرين لم يلتفتوا إلى هذه القضية الواضحة.

* * *

٤٦

الآيتان

( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) )

التّفسير

الأصنام لا تسمع دعاءكم!!

تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية ، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي ، وليرجع عن أيّ شرك أو عبادة خرافية ، يقول تعالى :( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) .

«يولج» من مادّة «إيلاج» بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد المعنيين أو كليهما ، أي : الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة. ممّا يؤدّي إلى حصول الفصول المختلفة بكلّ آثارها وبركاتها ، أو

٤٧

الانتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس ، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الانتقال المفاجئ من النور إلى الظلام وبالعكس(١) .

ثمّ يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى :( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) . وأيّ تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر ، وهذا التسخير يعتبر مصدرا لمختلف أنواع البركات في حياة البشر ، فإنّ السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك في حركة دائبة لكي يستطيع الإنسان إدامة حياته ، وليفيق من غفلته فيذكر الواهب الأصلي لهذه المواهب بالنسبة إلى تسخير الشمس والقمر عرضنا شرحا في تفسير الآية الثانية من سورة الرعد والآية ٣٣ من سورة إبراهيم).

ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر ، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد ، فحتّى هذه السيارات العظيمة بكلّ ذلك النور والإشراق ستصيبها العتمة في النهاية. وتتوقّف عن العمل. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول :( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) .

فبمقتضى( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) (٢) ، فإنّها جميعا ستواجه مصير الانطفاء والفناء.

بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لجملة( لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) ، وذلك أنّها تعبير عن حركة دوران الشمس والقمر حول محوريهما ، والتي تتمّ في الاولى في عام ، وفي الثانية في شهر واحد(٣) .

ولكن بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في القرآن الكريم ـ بمعنى

__________________

(١) بحثنا موضوع التغيير التدريجي لليل والنهار في تفسير الآية (٢٧) من سورة آل عمران.

(٢) سورة التكوير ، ١ ـ ٢.

(٣) تفسير «روح البيان» و «أبو الفتوح الرازي».

٤٨

انتهاء العمر ـ يتّضح أنّ التّفسير المشار إليه صحيحا ، كما أنّ التّفسير الأوّل أيضا ـ أي نهاية عمر الشمس والقمر ـ ورد في الآيات (٦١ ـ النحل و ٤٥ ـ فاطر ٤٢ ـ الزمر ٤ ـ النور ٦٧ ـ غافر).

ثمّ يقول تعالى مسلّطا الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) الله الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكلّ بركاتها.( لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (١) .

«قطمير» : على ما يقول الراغب : هو الأثر في ظهر النواة ، وذلك مثل للشيء الطفيف ، ويقول «الطبرسي» في مجمع البيان والقرطبي في تفسيره : هو الغشاء الرقيق الشفّاف الذي يغلف نواة التمر بكاملها. وعلى كلّ حال فهو كناية عن موجودات حقيرة تافهة.

نعم فهذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ، لا تدفع عنكم ولا حتّى عن نفسها ، لا تحكم ولا تملك حتّى غلاف نواة تمر! فإذا كانت حالها كذلك ، فكيف تعبدونها أيّها المغفّلون ، وتريدون منها حلا لمشكلاتكم.

ثمّ تضيف الآية :( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) ، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر ، جمادات لا شعور لها ،( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ) .

إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعا ولا ضرّا حتّى بمقدار (قطمير) وعلى هذا فكيف تنتظرون منها أن تعمل لكم شيئا أو تحلّ لكم عقدة.

وأدهى من ذلك( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . ويقولون : اللهم إنّهم لم يعبدوننا ، بل إنّهم عبدوا أهواءهم في الحقيقة.

هذه الشهادة إمّا بلسان الحال الذي يدركه كلّ شخص بآذان وجدانه ، أو أنّ الله في ذلك اليوم يعطي فيه جوارح الإنسان وأعضاءه إمكانية التكلّم فتنطق هذه

__________________

(١) التعبير بـ «الذين» الذي هو عادة لجمع المذكّر العاقل ، ذكرت هنا للأصنام بسبب إعتقاد المشركين الوهمي بهذه الموجودات الجامدة ، وقد ذكره القرآن هكذا ، ثمّ ردّ عليه بشدّة.

٤٩

الأصنام أيضا ، ويشهدن بأنّ هؤلاء المشركين المنحرفين إنّما عبدوا في الحقيقة أوهامهم وشهواتهم.

ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (٢٨) من سورة يونس حيث يقول تعالى :( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) .

احتمل جمع من المفسّرين أنّ أمثال هذه التعبيرات وردت بخصوص معبودات من أمثال الملائكة أو حضرة المسيحعليه‌السلام ، لأنّ الحديث والتكلّم من خصوصية هؤلاء فقط ، وجملة( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) إشارة إلى أنّهم مشغولون بأنفسهم إلى درجة أنّكم لو خاطبتموهم لا يسمعون دعائكم(١) .

ولكن ـ مع الالتفات إلى سعة مفهوم( الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) ـ يظهر أنّ المقصود هو الأصنام ، وأنّ جملة( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) ترتبط بالدنيا خاصّة. ثمّ يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر : أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك الله تعالى :( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) .

فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة ، وتتضايق منكم ، فلا تتعجّبوا من هذا القول ، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكلّ ما في هذا الكون بالتفصيل ، فهو المحيط علما بالمستقبل والماضي والحاضر.

* * *

بحث

الدين أصل التحوّلات :

بسبب إحساس العقائد المادية والشيوعية بالخطر من المذاهب السماوية الحقّة ، فهي تدعوها بـ (أفيون الشعوب) أي أنّها عامل تخدير لأفكار الجماهير!!

__________________

(١) ورد هذا التّفسير في مجمع البيان ، وتفسير الآلوسي ، والقرطبي.

٥٠

وقد سعى المستعمرون في الغرب والشرق إلى تلقين مثل هذا الرأي عن طريق علماء الاجتماع وعلماء النفس ، وذلك لتضليل الجماهير وإبعادها عن فطرتها ، والذي دفعهم إلى هذا هو خوفهم وحذرهم من نهضة الشعوب المؤمنة المسلّحة بالأفكار الدينية السماوية ، ومن استقبالها الشهادة في سبيل الله بصدور رحبة! والأنكى من ذلك أنّهم أو عزوا منشأ الدين لجهل البشر بالعوامل الطبيعيّة.

والجواب على مثل الكلام مرّ في محلّه ، ولسنا هنا في معرض سرد الردود جميعا ، ولكن الآيات التي نحن بصددها تدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر ، واعتبرت طريق التفكّر هو الأساس لتطور وتكامل البشرية.

كيف يمكن أن يكون الإسلام داعية لتخدير أفكار الناس ، أو أنّه نشأ بفعل جهل البشر بالعوامل الطبيعيّة ، ويدعو الناس إلى النهضة والتفكّر والعيش بصفاء في محيط بعيد عن الضوضاء والضجيج الإعلامي المسموم ، بعيدا عن التعصّب والعناد؟! هل يمكن اتّهام الدين الذي يدعو الناس لمثل هذه الأفكار بكونه أفيون الشعب ، أو عامل تخدير لها؟!

ويمكن هنا القول : إنّ على الإنسان أن لا يفكّر لوحده وبشكل انفرادي ، بل عليه مشاورة الآخرين وأن تتعاضد آراؤه معهم ، لسماع دعوة الأنبياء الصادقة ، ومطالعة الدلائل والآيات التي جاؤوا بها عند ذلك يمكن للإنسان الإذعان للحقّ.

إنّ الأحداث التي مرّت في عصرنا الحالي سيّما نهضة المسلمين الثوريين في مختلف البلدان الإسلامية بوجه القوى الكبرى وعملائها في الشرق والغرب ، والتي جعلت الدنيا ظلاما دامسا في وجوههم ، وهزّت كياناتهم ، تشير جميعا إلى أنّ الخطر الكبير الذي يتهدّد هذه القوى هو العقائد الدينية الأصلية ، ومن هنا يفهم هدف الاتّهامات الموجّهة ضدّ العقائد الدينية.

وممّا يثير العجب والغرابة أنّ علماء الاجتماع في الغرب قالوا بعدم وجود عالم ما وراء الطبيعة ، واعتبروا الدين ظاهرة من صنع البشر ، كما قالوا بوجود عوامل

٥١

مختلفة لنشوء الدين ، كالعامل الاقتصادي ، وخوف الإنسان ، وعدم اطّلاعه ، والعقد النفسية إلخ!! كما أنّهم غير مستعدّين للتفكّر ولو للحظة واحدة بعالم ما وراء الطبيعة وبالدلائل المدهشة والواضحة لتوحيد الخالق جلّ وعلا ، والعلامات الصريحة لنبوّة الأنبياء كنبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وغير مستعدّين أيضا للتنصّل عن أحكامهم التي أثبتت فشلها.

لا يمكن أن نماثل بين هؤلاء وبين مشركي عصر الجاهلية بالتعصّب والعناد وعدم الاطّلاع ، نعم ، هؤلاء متعصّبون ومعاندون ولكنّهم مطّلعون ، ولهذا فهم أكثر خطرا وضلالة من مشركي عصر الجاهلية.

وممّا يجدر ذكره أنّ ذيل أكثر الآيات القرآنية يدعو الإنسان إلى التفكّر والتعقّل والتذكّر : فأحيانا تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (النحل ـ ١١ و ٦٩) واخرى تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الرعد ـ ٣ ، والزمر ـ ٤٢ ، والجاثية ـ ١٣) وثالثة تقول :( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (الحشر ـ ٢١ ، والأعراف ـ ١٧٦) ، وأحيانا تطرح الآيات القرآنية نفس المفهوم وجها لوجه( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (البقرة ـ ٢١٩ و ٢٦٦).

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من هذا القبيل ، منه الدعوة إلى الفقه ـ أي الفهم ـ والدعوة إلى العقل والتعقّل ، ومدح الناس المتعلّقين ، والندم الشديد لأولئك المتعصّبين ، وقد جاء ذلك في (٤٦) آية من آيات القرآن المجيد ، وقد قال الكثير من العلماء : إنّنا لو أردنا جمع هذه الآيات وتفسيرها لاحتجنا إلى كتاب مستقل.

وفي هذا المجال ذكر القرآن الكريم أنّ أحد صفات أهل النار هو عدم التفكّر والتعقّل كقوله تعالى :( وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) ومنه قوله تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

* * *

٥٢

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) )

التّفسير

( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى )

بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان ، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول : ما هي حاجة الله لأن يعبد بحيث يصرّ كلّ هذا الإصرار ، ويؤكّد كلّ هذا التأكيد على عبادته وحده؟ لذا فإنّ هذه الآيات توضّح هذه الحقيقة وهي أنّنا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى ، فتقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

٥٣

فيا له من حديث مهمّ وقيم ذلك الذي يوضّح موقعنا في عالم الوجود من خالق الوجود ، ويكشف الكثير من الغموض ، ويجيب على الكثير من الأسئلة.

نعم ، فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه ، واحد أحد ، وهو الله تعالى ، وكلّ البشر بل كلّ الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع ارتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم ، فكما أنّه غير محتاج مطلقا ، فإنّ البشر يمثّلون الفقر المطلق ، وكما أنّه قائم بذاته ، فالمخلوقات كلّها قائمة به تعالى ، لأنّه وجود لا متناهي من كلّ ناحية ، وواجب الوجود في الذات والصفات.

ومع حال كهذه ، ما حاجته تعالى لعبادتنا؟! فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته ، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي ، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) .

وعليه فإنّ البشر محتاجون له لا لسواه ، لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا رؤوسهم لغيره تعالى ، وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلّا منه تبارك اسمه ، لأنّ ما سوى الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه ، وحتّى أنّ تعظيم أنبياء الله وقادة الحقّ إنّما هو لأنّهم رسله تعالى وممثّلوه ، لا لذواتهم مستقلّة.

وعليه فهو «غني» كما أنّه «حميد» أي إنّه في عين استغنائه عن كلّ أحد ، فهو رحيم وعطوف وأهل بكلّ حمد وشكر ، وفي عين انّه أرحم الراحمين ، فهو غير محتاج لأحد مطلقا.

الالتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين ، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب ، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئا من أنفسهم يستقلّون به ، وأنّهم مؤتمنون على كلّ ما في أيديهم من جانب آخر ، لكي لا

٥٤

يمدّوا يد الحاجة إلى غيره ، ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم ، وأن يتحرّروا من كلّ تعلّق آخر ، ويعتمدوا على همّتهم ، وبهذه النظرة الشمولية يرى المؤمنون أنّ كلّ موجود في هذا العالم إنّما هو من أشعّة وجوده تعالى ، وأن لا ينشغلوا عن (مسبّب الأسباب) بالأسباب ذاتها.

جمع من الفلاسفة عدّوا هذه الآية إشارة إلى البرهان المعروف «الإمكان والفقر» أو «الإمكان والوجوب» لإثبات واجب الوجود ، مع أنّ الآية ليست في مقام بيان الاستدلال على إثبات وجود الله ، بل إنّها شرح لصفاته تعالى ، ولكن يمكن اعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية.

شرح برهان الإمكان والوجوب «الفقر والغنى» :

إنّ جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلّها ذات يوم «عدما» ، ثمّ اكتست بلباس الوجود ، أو بتعبير أدقّ : كان يوم لم تكن شيئا فيه ، ثمّ صارت وجودا ، وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّها معلولة في وجودها لوجود آخر ، وليس لها وجود من ذاتها.

ونعلم بأنّ أي وجود معلول ، مرتبط وقائم بعلّته وكلّه احتياج ، وإذا كانت تلك (العلّة) أيضا معلولة لعلّة اخرى

فإنّها بدورها ستكون محتاجة ، ولو تسلسل هذا الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة الفقيرة ، وبديهي أنّ مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبدا ، لأنّ منتهى الاحتياج احتياج ، ومنتهى الفقر فقر ، وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي عدد ، كما أنّه ممّا لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة استقلال.

من هنا نستنتج أنّنا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته ، ومستقل من جميع النواحي ، وهو علّة لا معلول ، وهو واجب الوجود.

هنا يثار السؤال التالي : لماذا تتعرّض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله

٥٥

فقط؟ بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر؟

والجواب : إذا كان الإنسان ـ الذي يعتبر سيّد المخلوقات ـ غارقا في الحاجة والفقر إلى الله ، فإنّ حال بقيّة الموجودات واضحة ، وبتعبير آخر فإنّ بقيّة الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو «إمكان الوجود».

وتخصيص الحديث في الإنسان إنّما هو لأجل كبح جماح غروره ، وإلفات نظره إلى حاجته إلى الله في كلّ حال ، وفي كلّ شيء وكلّ مكان ، ليكون ذلك أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية ، ذلك الالتفات الذي يؤدّي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص والحسد ، ويبعث على التواضع أمام الحقّ.

ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان يقول تعالى في الآية التالية :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

وعليه فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إليكم أو إلى عبادتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إليه.

وهذه الآية شبيهة بما ورد في الآية (١٣٣) من سورة الأنعام حيث يقول تعالى :( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) .

فهو تعالى ليس محتاجا لطاعتكم ولا خائفا من معصيتكم ، وفي نفس الوقت فإنّ رحمته الواسعة تشملكم جميعا ، ولا ينقص من عظمته شيئا ذهاب العالم بأسره ، كما أنّ خلق هذا العالم لا يضيف إلى مقام كبريائه شيئا.

وفي الآية الثالثة أيضا يعود التأكيد مرّة ثانية فيقول تعالى :( وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ) نعم ، فإنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وهذا يصدق على جميع عالم الوجود.

على كلّ حال ، فإنّه تعالى إذا أمركم بالإيمان والطاعة والعبادة فإنّما ذلك

٥٦

لأجلكم أنتم ، وكلّ ما ينشأ عن ذلك من فائدة أو بركة إنّما يعود عليكم.

الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلّق بما سبق بحثه في الآيات السابقة :

الأوّل : من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) سؤالا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط ، إذ أنّ المؤمنين الصالحين موجودون في كلّ عصر وزمان ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضا معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين ، ويحكمون بالفناء على حد سواء؟

هنا يجيب( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

«وزر» بمعنى الثقل ، وقد أخذ من «وزر» (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل ، وأحيانا يأتي بمعنى المسؤولية ويعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل ، والوزير المتحمّل ثقل المسؤولية من أميره ، والموازرة : المعاونة(١) ، لأنّ الشخص عند المعاونة يتحمّل قسطا من الثقل عن رفيقه.

وهذه الجملة تعتبر واحدة من الاسس الهامّة في الإعتقادات الإسلامية ، والحقيقة أنّها ترتبط من جانب بالعدل الإلهي ، بحيث يرتهن كلّ بعمله. وهو تعالى إنّما يثيب الشخص على سعيه واجتهاده في طريق الخير ، ويعاقبه على ذنبه.

ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة ، بحيث لا يكون أحد مستعدّا لتحمّل وزر عمل غيره على عاتقه مهما كان قريبا منه.

والالتفات إلى هذا المعنى له الأثر الفعّال في البناء الروحي للإنسان ، حيث يكون مراقبا لنفسه ، ولا يسمح لها بالفساد بحجّة فساد الأقران أو المحيط ، ففساد المحيط لا يمكن اعتباره مسوغا لإفساد النفس ، إذ أنّ كلا يحمل وحده وزر ذنبه.

ومن جانب آخر فإنّه يفهم الناس ويبصرهم بأنّ حساب الله للمجتمع لا يكون

__________________

(١) الراغب في مفرداته كتاب الواو.

٥٧

حسابا جميعا ، بل إنّ كلّ فرد يحاسب بشكل مستقل ، أي إنّ الفرد إذا أدّى ما عليه من تطهير نفسه ، ومحاربة الفساد ، فليس عليه أدنى بأس أو خوف إذا كان العالم بأسره ملوّثين بالكفر والشرك والظلم والمعصية.

وأساسا فلن يكون لأي برنامج تربوي أثر ما لم يولّ اهتماما لهذا الأصل المهمّ (دقّق النظر)!!

هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر ، يقول تعالى :( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) (١) .

في حديث عن ابن عبّاس أو غيره ، أنّ امّا وابنها يأتيان في يوم القيامة وكلّا منهما عليه ذنوب كثيرة ، وتطلب الامّ من ابنها أن يحمل عنها بعض تلك المسؤوليات في قبال تربيتها له وحملها به ، فيقول لها ابتعدي عنّي فأنا أسوأ منك حالا(٢) .

ويبرز هنا السؤال التالي : هل أنّ هذه الآية تنافي ما ورد في الروايات الكثيرة حول السنّة السيّئة والسنّة الحسنة؟ حيث أنّ الروايات تقول : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها ووزر من عمل بها».

ولكنّنا إذا التفتنا إلى نكتة واحدة ، يتّضح الجواب على هذا السؤال ، وهي أنّ عدم تسجيل ذنب أحد على آخر ، إنّما هو في صورة أن لا يكون له سهم في ذلك

__________________

(١) «مثقلة» بمعنى «الحامل لحمل ثقيل» ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه ، و (حمل) : على ما يقوله الراغب : معنى واحد اعتبر في أشياء كثيرة ، فسوّي بين لفظة في فعل وفرّق بين كثير منها في مصادرها ، فقيل في الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر (حمل) ، وفي الأثقال المحمولة في الباطن (حمل) كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تشبيها بحمل المرأة ، ولأنّ ما ورد في هذه الآية ، هو تشبيه للذنب بالحمل المحمول على العاتق ، فيجب أن تقرأ بكسر الحاء.

(٢) مع أنّ الحديث ورد في تفاسير مختلفة حينا عن الفضيل بن عيّاض ، وحينا عن ابن عبّاس ، ولكن يستبعد أن يكون الحديث عنهما مستقلا ، فمن الممكن أن يكون أصل الحديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . راجع تفسير (أبو الفتوح ، والقرطبي ، وروح البيان) وقد أوردناه بالمعنى.

٥٨

العمل ، ولكن إذا كان له سهم في إيجاد سنّة ، أو الإعانة والمساعدة أو الترغيب والتشجيع ، فمن المسلّم أنّه يحسب من عمله ويكون شريكا ومساهما في ذلك العمل.

وأخيرا ، في الجملة الثالثة من الآية ، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط ، تقول الآية الكريمة :( إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) .

فإن لم يكن خوف الله متمكّنا من القلب ، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوّة غيبية في السرّ أو العلن ، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير بالله في تقوية ذلك الإحساس فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.

وحين لا يكون الإنسان قد اعتنق عقيدة ما ولم يؤمن ، فلو لم تكن لديه روح البحث عن الحقّ ، وإحساس بالمسؤولية تجاه معرفة الحقيقة ، فلن يصغي لدعوة الأنبياء ، ولن يتفكّر في آيات الله في هذه الدنيا.

وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اخرى إلى حقيقة (إنّ الله غير محتاج لأحد) فتضيف :( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) .

وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهمّية ما دام المصير إلى الله( وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) وبالتالي فانّه سيحاسب الجميع على أعمالهم.

* * *

٥٩

الآيات

( وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) )

التّفسير

وما تستوي الظلمات ولا النّور :

تذكر الآيات مورد البحث ـ بما يتناسب مع البحوث التي مرّت حول الإيمان والكفر في الآيات السابقة ـ أربعة أمثلة جميلة للمؤمن والكافر ، توضّح بأجلى شكل آثار الإيمان والكفر.

في المثال الأوّل : شبّه «الكافر والمؤمن» بـ «الأعمى والبصير» حيث تقول الآية الكريمة :( وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) .

الإيمان نور وإشراق ، يعطي البصيرة والمعرفة للإنسان في النظرة إلى العالم ، وفي الإعتقاد ، والعمل وفي كلّ الحياة ، أمّا الكفر فظلمة كالحة ، فلا إعتقاد صحيح ونظرة سليمة عن العالم ، ولا عمل صالح.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

التّفسير

العقاب بعد البيان :

إن الآية الأولى تشير إلى قانون كلّي وعام ، يؤيده العقل أيضا ، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى ما دام لم يبيّن حكما ، ولم يصل شيء من الشرع حوله ، فإنّه تعالى سوف لا يحاسب عليه أحدا ، وبتعبير آخر : فإنّ التكليف والمسؤولية تقع دائما بعد بيان الأحكام ، وهذا هو الذي يعبر عنه في علم الأصول بقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

ولذلك فأوّل ما تطالعنا به الآية قوله :( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) .

إنّ المقصود من (يضل) ـ في الأصل الإضلال والتضييع ، أو الحكم بالإضلال ـ كما احتمله بعض المفسّرين (كما يقال في التعديل والتفسيق ، أي الحكم بعدالة الشخص وفسقه)(1) أو بمعنى الإضلال من طريق الثواب يوم القيامة ، وهو في الواقع بمعنى العقاب.

أو أنّ المقصود من «الإضلال» ما قلناه سابقا ، وهو سلب نعمة التوفيق ، وإيكال الإنسان إلى نفسه ، ونتيجة ذلك هو الضياع والحيرة والانحراف عن طريق الهداية لا محالة ، وهذا التعبير إشارة خفية ولطيفة إلى حقيقة ثابتة ، وهي أنّ الذّنوب دائما هي مصدر وسبب الضلال والضياع والابتعاد عن طريق الرشاد(2) .

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي إن علم الله يحتم ويؤكّد على أنّ الله سبحانه ما دام لم يبيّن الحكم الشرعي لعباده ، فإنّه سوف لا يؤاخذهم أو يسألهم عنه.

__________________

(1) يتصور البعض أنّ باب (تفعيل) هو الوحيد الذي يأتي أحيانا بمعنى الحكم ، في حين يلاحظ ذلك في باب (إفعال) أيضا ، كالشعر المعروف المنقول عن الكميت ، حيث يقول في بيان عشقه وحبّه لآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وطائفة قد أكفروني بحبّكم.

(2) لمزيد التوضيح حول معنى الهداية والضلال في القرآن ، راجع ذيل الآية (26) من سورة البقرة.

٢٤١

جواب سؤال

يتصور بعض المفسّرين والمحدّثين أنّ الآية دليل على أن «المستقلات العقلية» ـ (وهي الأمور التي يدركها الإنسان عن طريق العقل لا عن طريق حكم الشرع ، كإدراك قبح الظلم وحسن العدل ، أو سوء الكذب والسرقة والاعتداء وقتل النفس وأمثال ذلك) ـ ما دام الشرع لم يبيّنها ، فإن أحدا غير مسئول عنها. وبتعبير آخر فإنّ كل الأحكام العقلية يجب أن تؤيد من قبل الشرع لإيجاد التكليف والمسؤولية على الناس ، وعلى هذا فإنّ الناس قبل نزول الشرع غير مسئولين مطلقا ، حتى في مقابل المستقلات العقلية.

إلّا أنّ بطلان هذا التصور واضح ، فإنّ جملة( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ) تجيبهم وتبيّن لهم أنّ هذه الآية وأمثالها خاصّة بالمسائل التي بقيت في حيز الإبهام وتحتاج إلى التّبيين والإيضاح ، ومن المسلّم أنّها لا تشمل المستقلات العقلية ، لأنّ قبح الظلم وحسن العدل ليس أمرا مبهما حتى يحتاج إلى توضيح.

الذين يذهبون إلى هذا القول غفلوا عن أن هذا القول ـ إن صحّ ـ فلا وجه لوجوب تلبية دعوة الأنبياء ، ولا مبرر لأن يطالعوا ويحققوا دعوى مدعي النّبوة ومعجزاته حتى يتبيّن لهم صدقه أو كذبه ، لأنّ صدق النّبي والحكم الإلهي لم يبيّن لحد الآن لهؤلاء ، وعلى هذا فلا داعي للتحقق من دعواه.

وعلى هذا فكما يجب التثبت من دعوى من يدعي النّبوة بحكم العقل ، وهو من المستقلات العقلية ، فكذلك يجب اتباع سائر المسائل التي يدركها العقل بوضوح.

والدليل على هذا الكلام التعبير المستفاد من بعض الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، ففي كتاب التوحيد ، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير هذه الآية : «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه»(1) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الآية وأمثالها تعتبر أساسا لقانون كلّي أصولي ، وهو

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 276.

٢٤٢

أننا ما دمنا لا نملك الدليل على وجوب أو حرمة شيء ، فإنّنا غير مسئولين عنه ، وبتعبير آخر فإنّ كل شيء مباح لنا ، إلّا أن يقوم دليل على وجوبه أو تحريمه ، وهو ما يسمونه ب (أصل البراءة).

وتستند الآية التالية على هذه المسألة وتوكّد :( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) وأن نظام الحياة والموت أيضا بيد قدرته ، فإنّه هو الذي( يُحْيِي وَيُمِيتُ ) وعلى هذا :( وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) ، وهو إشارة إلى أنّه لما كانت كل القدرات والحكومات في عالم الوجود بيده ، وخاضعة لأمره ، فلا ينبغي لكم أن تتكلوا على غيره ، وتلتجئوا إلى البعيدين عن الله وإلى أعدائه وتوادوهم ، وتوثقوا علاقتكم بهم عن طريق الاستغفار وغيره.

* * *

٢٤٣

الآيتان

( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) )

سبب النّزول

درس كبير!

قال المفسّرون : إنّ الآية الأولى نزلت في غزوة تبوك ، وما واجهه المسلمون من المشاكل والمصاعب العظيمة ، هذه المشاكل التي كانت من الكثرة والصعوبة بمكان بحيث صمّم جماعة على الرجوع ، إلّا أنّ اللطف الإلهي والتوفيق الرّباني شملهم ، فثبتوا في مكانهم.

ومن جملة من قيل أن الآية نزلت فيهم أبو خيثمة ، وكان من أصحاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،لا من المنافقين ، إلّا أنّه لضعفه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤٤

مرّت عشرة أيّام على هذه الواقعة ، وكان الهواء حارا محرقا ، فحضر يوما عند زوجتيه، وكنّ قد هيأن خيمته ، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد ، فتذكر فجأة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغاص في تفكير عميق ، وقال في نفسه : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وضمن له آخرته ، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار في الصحاري المحرقة ، وتحمل مشقّة هذا السفر ، أمّا أبو خيثمة ـ يعني نفسه ـ فهو في ظل بارد ، يتمتع بأنواع الأطعمة ، والنساء الجميلات!! إنّ هذا ليس من الإنصاف.

فالتفت إلى زوجاته وقال : أقسم بالله أن لا أكلم إحداكن كلمة ، ولا أستظل بهذه الخيمة حتى ألتحق بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار ، وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس ببنت شفة ، وواصل سيره حتى اقترب من تبوك.

فقال المسلمون بعضهم لبعض : من هذا الراكب على الطريق؟ ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كن أبا خيثمة» فلمّا اقترب وعرفه الناس ، قالوا : نعم ، هو أبو خيثمة ، فأناخ راحلته وسلّم على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحدثه بما جرى له ، فرحبّ به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا له.

وبذلك فإنّه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل ، إلّا أنّ الله سبحانه وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبّت قدمه.

* * *

وقد نقل سبب آخر لنزول الآية الثّانية ، خلاصته : إنّ ثلاثة من المسلمين وهم : «كعب بن مالك» و «مرارة بن ربيع» و «وهلال بن أمية» ، امتنعوا من المسير مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاشتراك في غزوة تبوك ، إلّا أن ذلك ليس لكونهم جزءا من المنافقين ، بل لكسلهم وتثاقلهم ، فلم يمض زمان حتى ندموا.

فلمّا رجع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن

٢٤٥

تقصيرهم ، إلّا أن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة ، وأمر المسلمين أيضا أن لا يكلموهم.

لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة ، حتى أنّ أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلّا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأذن لهم بالمفارقة ، لكنّه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.

إنّ فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر ، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال.

ومن المسائل التي أثرت تأثيرا روحيا شديدا ، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال : كنت يوما جالسا في سوق المدينة وأنا مغموم ، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي ، فلمّا عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها : إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا ، فتغير حالي وقلت : الويل لي ، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!

خلاصة الأمر : إنّ عوائل هؤلاء وأصدقاءهم كانوا يأتونهم بالطعام ، إلّا أنّهم لا يكلمونهم قط ، ومضت مدّة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم ، لكن دون جدوى في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال : إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا ، فلما ذا لا يعتزل كل منا صاحبه ، صحيح أنّنا مذنبون جميعا ، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضا ، ولم بتكلموا بكلمة واحدة ، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيرا وبعد خمسين يوما من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك(1) .

__________________

(1) مجمع البيان ، وسفينة البحار ، وتفسير أبي الفتوح الرازي.

٢٤٦

التّفسير

الحصار الاجتماعي للمذنبين :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عن غزوة تبوك ، والمسائل والأحداث التي ترتبط بهذا الحدث الكبير ، وما جرى خلاله.

فتشير الآية الأولى إلى رحمة الله اللامتناهية التي شملت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار في اللحظات الحساسة ، وتقول :( لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) .

ثمّ تبيّن أن شمول هذه الرحمة الإلهية لهم كان في وقت اشتدت فيه الحوادث والضغوط والاضطرابات إلى الحد الذي أوشكت أن تزل فيه أقدام بعض المسلمين عن جادة الصواب ، (وصمموا على الرجوع من تبوك) فتقول :( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) . ثمّ توكّد مرّة أخرى على أن الله سبحانه قد تاب عليهم ، فتقول :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ولم تشمل الرحمة الإلهية هذا القسم الكبير الذي شارك في الجهاد فقط ، بل شملت حتى الثلاثة الذين تخلفوا عن القتال ومشاركة المجاهدين في ساحة الجهاد :( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) .

إلّا أنّ اللطف الإلهي لم يشمل هؤلاء المتخلفين بهذه السهولة ، بل عند ما عاش هؤلاء ـ وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال بن أمية ، الذين مر شرح حالهم في سبب النزول ـ مقاطعة اجتماعية شديدة ، وقاطعهم كل الناس بالصورة التي تصورها الآية ، فتقول :( حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) .

بل إنّ صدور هؤلاء امتلأت همّا وغمّا بحيث ظنوا أن لا مكان لهم في الوجود ، فكأنّه ضاق عليهم( وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ ) فابتعد أحدهم عن الآخر وقطعوا العلاقة فيما بينهم.

عند ذلك رأوا كل الأبواب مغلقة بوجوههم. فأيقنوا( وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ

٢٤٧

إِلَّا إِلَيْهِ ) فأدركتهم رحمة الله مرّة أخرى ، وسهلت ويسرت عليهم أمر التوبة الحقيقية ، والرجوع إلى طريق الصواب ليتوبوا :( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .

* * *

بحوث

وهنا بحوث نلفت النظر إليها :

1 ـ المراد من توبة الله على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قرأنا في الآية الأولى أن الله سبحانه قد تاب على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين والأنصار ، وقبل توبتهم. ولا شك أنّ النّبي معصوم من الذنوب ، ولم يرتكب معصية ليتوب فيقبل الله توبته ، وإن كان بعض مفسّري العامّة قد اعتبروا التعبير في هذه الآية دليلا على صدور السهو والمعصية من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحداث تبوك.

إلّا أنّ التدقيق في نفس هذه الآية وسائر آيات القرآن سيرشدنا إلى عدم صحة هذا التّفسير ، لأن :

أوّلا : إن معنى توبة الله سبحانه رجوعه بالرحمة والرعاية على عباده ، ولا يوجد في هذا المعنى أثر للزلل أو المعصية ، كما قال في سورة النساء بعد ذكر قسم من الأحكام:( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) . ففي هذه الآية والتي قبلها لم يرد حديث عن الزلل والمعصية ، بل الكلام ـ عن تبيين الأحكام والإرشاد إلى سنن الماضين القيمة المفيدة ، وهذا بنفسه يوضح أن التوبة هنا بمعنى شمول رحمة الله سبحانه لعباده.

ثانيا : لقد ورد في كتب اللغة أن أحد معاني التوبة هو ما ذكرناه ، ففي كتاب (القاموس) المعروف ورد في أن هذا هو أحد معاني التوبة ما لفظة : رجع عليه بفضله

٢٤٨

وقبوله :

ثالثا : إنّ الآية تحصر الانحراف عن طريق الحق والتخلف عنه بجماعة من المؤمنين ، مع أنّها تصرح بأنّ الرحمة الإلهية تعم الجميع ، وهو بنفسه يبيّن أنّ توبة الله هنا ليست بمعنى قبول عذر العباد ، بل هي الرحمة الإلهية الخاصّة التي أدركت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكل المؤمنين بدون استثناء في اللحظات الحساسة ، وثبّتت أقدامهم في أمر الجهاد.

2 ـ غزوة تبوك وساعة العسرة

«السّاعة» من الناحية اللغوية بمعنى مقطع زمني ، سواء كان قصيرا أم طويلا ، ولا يقال للزمن الطويل جدا : ساعة. «والعسرة» بمعنى المشقة والصعوبة.

إن تاريخ الإسلام يبيّن أنّ المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة ، لأنّ المسير إلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم.

وكذلك فإنّ الفصل كان فصل اقتطاف الثمار ، ولا بدّ من جمع ما على الأشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم.

وإذا تجاوزنا جميع ذلك ، فإنّ المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جدا.

والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كانت يومها من أقوى الامبراطوريات العالمية.

إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إلى الحد الذي قد يضطر أحيانا عشرة أشخاص إلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة ، وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل ، وكانوا مضطرين إلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية

أمّا من ناحية الطعام والشراب ، فإنّهم كانوا يعانون من قلّة المواد الغذائية.

٢٤٩

بحيث أنّ عدّة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحيانا ، فيمص كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إلى النواة وكان عدّة أفراد يشتركون في جرعة ماء!!

لكن ، ورغم كل هذه الأوضاع ، فإنّ المسلمين كانوا يتمتعون بمعنويات عالية وراسخة، وبالرغم من كل المشكلات ، فإنّهم توجهوا برفقة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو العدو ، وبهذه الاستقامة والرجولة فإنّهم سجلوا للمسلمين. وفي كل العصور والقرون ، درسا كبيرا خالدا في ذاكرة الزمن درسا كافيا لكل الأجيال ، وطريقا للانتصار على أكبر الأعداء وأخطرهم وأكثرهم عدّة ولا شك أنّ بين المسلمين من كان يمتلك معنويات أضعف ، وهم الذين دارت في رؤوسهم فكرة الرجوع والذين عبّر عنهم القرآن الكريم ب( مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) لأنّ (يزيغ) مأخوذة من (زيغ) بمعنى الميل والانحراف عن الحق نحو الباطل.

لكن ، وكما رأينا ، فإنّ المعنويات العالية للأكثرية من المسلمين ، ولطف الله سبحانه بهم ، هو الذي صرف هؤلاء عن هذه الفكرة ، ليلتحقوا بجماعة المجاهدين في طريق الحق.

3 ـ ما هو معنى( خُلِّفُوا ) ؟

لقد عبرت الآيات عن هؤلاء الثلاثة المقصرين المهملين ب (خلّفوا) بمعنى الذين تركهم الجيش وراء ظهره ، وذلك لأن المسلمين عند ما كانوا يصادفون من يتخاذل ويكسل عن الجهاد ، فإنّهم لا يعبؤون به ، بل يتركونه وراء ظهورهم ويتوجهون إلى جبهات الجهاد.

أو لأنّ هؤلاء عند ما حضروا عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعتذروا ويطلبوا الصفح عن ذنبهم لم يقبل عذرهم ، وأخّر قبول توبتهم.

٢٥٠

4 ـ درس كبير دائمي

من المسائل المهمّة التي تستفاد من هذه الآيات ، مسألة مجازاة المجرمين والفاسدين عن طريق الحصار الاجتماعي وقطع الروابط والعلاقات ، فنحن نرى أن قطع الروابط هذا قد وضع هؤلاء الثلاثة في شدة كانت أصعب عليهم من كل السجون بحيث ضاقت عليهم الدنيا تحت وطأت الحصار الاجتماعي وقطعوا الأمل من كل شيء.

إنّ هذا الأسلوب قد أثر في المجتمع الإسلامي آنذاك تأثيرا قويا جدّا ، بحيث قلّ بعد هذه الحادثة من يجرءوا أن يرتكبوا مثل هذه المعاصي.

إنّ هذا النوع من العقاب لا يحتاج إلى متاعب وميزانية السجون ، وليس فيه خاصية تربية الكسالى والأشرار كما هو حال السجون ، إلّا أنّ أثره أكبر وأشدّ من تأثير أي سجن ، فهو نوع من الإضراب والجهاد السلبي للمجتمع مقابل الأفراد الفاسدين ، فإنّ المسلمين إذا أقدموا على مثل هذه المجابهة في مقابل المتخلفين عن أداء الواجبات الاجتماعية الحساسة ، فإنّ النصر سيكون حليفهم قطعا ، وسيكون بامكانهم تطهير مجتمعهم بكل سهولة.

أمّا روح المجاملة والمساومة والاستسلام التي سرت اليوم ـ مع الأسف ـ في كثير من المجتمعات الإسلامية كمرض عضال ، فإنّها لا تمنع ولا تقف أمام أمثال هؤلاء المتخلفين ، بل وتشجعهم على أعمالهم القبيحة.

5 ـ غزوة تبوك ونتائجها

منطقة «تبوك» هي أبعد نقطة وصل إليها النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزواته ، وهذه الكلمة في الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام ، ولذلك سمّيت تلك المنطقة بأرض تبوك.

إنّ انتشار الإسلام السريع في جزيرة العرب كان سببا في أن يدوي صوت

٢٥١

الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية ، ولم يكن أحد يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم ، فلما بزغ فجر الإسلام ، وظهرت قوّة جيش النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي وحّد الحجاز تحت راية واحدة ، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.

إنّ دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز ، كانت تحتمل أن تكون من أوائل ضحايا تقدم الإسلام السريع ، لذلك فقد جهزت جيشا قوامه أربعون ألف مقاتل ، وكان مجهزا بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوّة عظمى كإمبراطورية الروم ، واستقر الجيش في حدود الحجاز ، فوصل الخبر إلى مسامع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق المسافرين ، فأراد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلقن الروم وباقي جيرانه درسا يكون لهم عبرة.

فلم يتأخر عن إصدار أمره بالتهيؤ والاستعداد للجهاد ، وبعث الرسل الى المناطق الأخرى يبلّغون المسلمين بأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه ثلاثون ألفا لقتال الروميين ، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف راجل.

كان الهواء شديد الحّر ، وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية ، والمحصولات الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعد ، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع بالنسبة للمسلمين صعبة جدّا ، إلّا أنّ أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.

إنّ هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الاقتصادية ، والمسير الطويل ، والرياح السموم المحرقة ، وعواصف الرمال الكاسحة ، وعدم امتلاك الوسائل الكافية للنقل ، قد عرف ب (جيش العسرة) ، ولكنّه تحمل جميع هذه المشاكل ، ووصل إلى أرض تبوك في غرة شعبان من السنة التاسعة للهجرة ، وكان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خلف علياعليه‌السلام مكانه ، وهي الغزوة الوحيدة التي لم يشارك فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إن قيام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإقامة عليعليه‌السلام مكانه كان عملا ضروريا وفي محله ، فإنّه

٢٥٢

كان من المحتمل جدا أن يستفيد المتخلفون من المشركين أو المنافقين ـ الذي امتنعوا بحجج مختلفة عن الاشتراك في الجهاد ـ من غيبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطويلة ، ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة ، إلّا أنّ وجود عليعليه‌السلام كان سدّا منيعا في وجه مؤامراتهم وخططهم.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما وصل إلى تبوك لم ير أثرا لجيوش الروم ، وربّما كان ذلك لأنّهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإسلامي العظيم ، وقد سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة ، وما أبدوه من بلاء حسن في الحروب ، فرأوا أنّ الأصلح سحب قواتهم إلى داخل بلادهم ، وليبيّنوا أنّ خبر تجمع جيش الروم على الحدود ، ونيّته بالقيام بهجوم على المدينة ، شائعة لا أساس لها ، لأنّهم خافوا من التورط بمثل هذه الحرب الطاحنة دون مبررات منطقية ، فخافوا من ذلك.

إلّا أنّ حضور جنود الإسلام إلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه عدة دروس :

أولا : إنّ هذا الموضوع أثبت أنّ المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود الإسلام ، كانت قوية إلى الدرجة التي لا يخافون معها من الاشتباك مع أقوى جيش في ذلك الزمان.

ثانيا : إنّ الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمضوا عهودا بعدم التعرض للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومحاربته ، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه الناحية ، وأمنوا خطرهم.

ثالثا : إنّ إشعاع الإسلام وأمواجه قد نفذت إلى داخل حدود إمبراطورية الروم ، ودوّى صدى الإسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم ، وهذا قد هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإسلام والإيمان به.

رابعا : إنّ المسلمين بقطعهم هذا الطريق ، وتحملهم لهذه الصعاب ، قد عبّدوا

٢٥٣

الطريق لفتح الشام في المستقبل ، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في النهاية.

وهكذا ، فإنّ هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.

وعلى كل حال ، فإنّ النّبي على عادته ـ قد استشار جيشه في الاستمرار في التقدم أو الرجوع ، وكان رأي الأكثر بأنّ الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح التعليمات الإسلامية ، خاصّة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة الكبيرة في الطريق ، وضعفت مقاومتهم الجسمية ، فأقر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرأي ورد جيوش المسلمين إلى المدينة.

* * *

٢٥٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) )

التّفسير

كونوا مع الصّادقين :

في الآيات السابقة كان الحديث حول جماعة من المتخلفين الذين نقضوا عهدهم مع الله ورسوله ، وأظهروا عمليا تكذيبهم للإيمان بالله واليوم الآخر ، ورأينا كيف أنّ المسلمين قد أرجعوهم إلى حظيرة الإيمان بمقاطعتهم ، ونبّهوههم على خطئهم.

أمّا هذه الآية فقد أشارت إلى النقطة المقابلة لهؤلاء ، فهي تأمر بتحكيم الروابط مع الصادقين الذين حافظوا على عهدهم وثبتوا عليه.

في البداية تقول الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ) ولأجل أن يستطيعوا سلوك طريق التقوى المليء بالمنعطفات والاخطار بدون اشتباه وانحراف أضافت :( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) .

وقد احتمل المفسّرون احتمالات مختلفة في المقصود من الصادقين ، ومن هم؟إلّا أنّنا إذا أردنا اختصار الطريق ، يجب أن نرجع إلى القرآن الكريم نفسه الذي فسّر معنى الصادقين في آيات متعددة.

٢٥٥

فنقرأ في سورة البقرة ، الآية (177) :( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) .

فنحن نرى في هذه الآية أنّها بعد نهي المسلمين عن البحث والمناقشة حول مسألة تغيير القبلة ، تفسر لهم حقيقة العمل الصالح والبر بأنّه الإيمان بالله ويوم القيامة والملائكة والكتب السماوية والأنبياء ، ثمّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين والمحرومين ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والاستقامة والصمود أمام المشاكل حين الجهاد ، وبعد ذكر كل هذه الصفات تقول : إنّ الذين يمتلكون هذه الصفات هم الصادقون وهم المتقون.

وعلى هذا ، فإنّ الصادق هو الذي يؤمن بكل المقدسات ، ثمّ يعمل بموجبها في جميع النواحي ، وفي الآية (15) من سورة الحجرات نقرا :( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فإنّ هذه الآية أيضا تعرّف الصدق بأنّه مجموع الإيمان والعمل الذي لا تشوبه أية شائبة من التردد أو المخالفة.

ونقرا في الآية (8) من سورة الحشر :( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) فهذه الآية عرّفت الصادقين بأنّهم المؤمنون المحرومون الذين استقاموا وثبتوا رغم كل المشاكل ، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم ، ولم يكن لهم هدف وغاية سوى رضى الله ونصرة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

من مجموع هذه الآيات نحصل على نتيجة ، وهي أنّ الصادقين هم الذين

٢٥٦

يؤدون تعهداتهم أمام الإيمان بالله على أحسن وجه دون أي تردد أو تماهل ولا يخافون سيل المصاعب والعقبات ، بل يثبتون صدق إيمانهم بأنواع الفداء والتضحية.

ولا شك أنّ لهذه الصفات درجات ، فقد يكون البعض في قمتها ، وهم الذين نسمّيهم بالمعصومين ، والبعض في درجات أقل وأدنى منها.

هل المراد من الصّادقين هم المعصومون فقط؟

بالرغم من أنّ مفهوم الصادقين ـ كما ذكرنا سابقا ـ مفهوم واسع ، إلّا أنّ المستفاد من الرّوايات الكثيرة أنّ المراد من هذا المفهوم هنا هم المعصومون فقط.

يروي سليم بن قيس الهلالي : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان له يوما كلام مع جمع من المسلمين ، ومن جملة ما قال : «فأنشدكم الله أتعلمون أن الله أنزل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) . فقال سلمان : يا رسول الله أعامّة هي أم خاصّة؟ قال: أمّا المأمورون فالعامّة من المؤمنين أمروا بذلك ، وأمّا الصادقون فخاصّة لأخي علي والأوصياء من بعده إلى يوم القيامة»؟ قالوا : اللهم نعم(1) .

ويروي نافع عن عبد الله بن عمر : إنّ الله سبحانه أمر أوّلا المسلمين أن يخافوا الله ثمّ قال :( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يعني مع محمّد وأهل بيته(2) .

وبالرغم من أنّ بعض مفسّري أهل السنة ـ كصاحب المنار ـ قد نقلوا ذيل الرّواية أعلاه هكذا : مع محمّد وأصحابه ، ولكن مع ملاحظة أن مفهوم الآية عام وشامل لكل زمان ، وصحابة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا في زمن خاص ، تبيّن لنا أنّ العبارة التي وردت في كتب الشيعة عن عبد الله بن عمر هي الأصح.

ونقل صاحب تفسير البرهان نظير هذا المضمون عن طرق العامّة ، وقال : إنّ

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

(2) المصدر السّابق.

٢٥٧

موفق بن أحمد بإسناده عن ابن عباس ، يروي في ذيل هذه الآية : هو علي بن أبي طالب. ثمّ يقول : أورد ذلك أيضا عبد الرزاق في كتاب رموز الكنوز(1) .

أمّا المطلب الأهم ، فهو أنّ الآية تأمر أوّلا بالتقوى ، ثمّ بالكون مع الصادقين ، فلو أنّ مفهوم الصادقين في الآية عامّا وشاملا لكل المؤمنين الحقيقيين المستقيمين ، لكان اللازم أن يقال : وكونوا من الصادقين ، لا مع الصادقين. (فتأمل جيدا).

إنّ هذه بذاتها قرينة واضحة على أنّ (الصّادقين) في الآية هم فئة خاصّة.

ومن جهة أخرى ، فليس المراد من الكون معهم أن يكون الإنسان مجالسا ومعاشرا لهم، بل المراد قطعا هو اتباعهم والسير في خطاهم.

إذا كان الشخص غير معصوم هل يمكن صدور أمر بدون قيد أو شرط باتباعه والسير في ركابه؟ أليس هذا بنفسه دليلا على أن هذه الفئة والمجموعة هم المعصومون؟

وعلى هذا ، فإنّ ما استفدناه من الرّوايات يمكن استفادته من الآية إذا دققنا النظر فيها.

إن الملفت للنظر هنا ، أنّ المفسّر المعروف الفخر الرازي ، المعروف بتعصبه وتشكيكه، قد قبل هذه الحقيقة ـ وإن كان أغلب مفسّري السنة سكتوا عنها عند مرورهم بهذه الآية ـ ويقول : إنّ الله قد أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ، وعلى هذا فإنّ الآية تدل على أن من يجوز الخطأ عليهم يجب عليهم الاقتداء بالمعصوم حتى يبقوا مصونين عن الخطأ في ظلّه وعصمته ، وسيكون هذا الأمر في كل زمان ، ولا نملك أي دليل على اختصاص ذلك بعصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلّا أنّه يضيف بعد ذلك : إنّنا نقبل أنّ مفهوم الآية هو هذا ، ويجب أن يوجد معصوم في كل وقت ، إلّا أنّنا نرى أن هذا المعصوم هو جميع الأمّة ، لا أنّه فرد

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 170.

٢٥٨

واحد! وبتعبير آخر : إنّ هذه الآية دليل على حجية إجماع المؤمنين ، وعدم خطأ مجموع الأمّة(1) .

وبهذا الترتيب ، فإنّ الرازي قد طوى نصف الطريق جيدا ، إلّا أنّه زاغ في النصف الثّاني ، ولو أنّه التفت إلى النكتة التي وردت في متن الآية لأكمل النصف الثّاني أيضا بسلامة ، وهي أنّه لو كان المقصود من الصادقين مجموع الأمّة ، فإنّ الأتباع سيكونون جزء من ذلك المجموع وهو في الواقع اتباع الجزء للقدوة والإمام ، وسيعني ذلك اتحاد التابع والمتبوع، في حين نرى أنّ ظاهر الآية هو أن القدوة غير المقتدي ، والتابعين غير المتبوعين ، بل يفترقون عنهم. (دققوا ذلك).

ونتيجة ذلك : إنّ هذه الآية من الآيات التي تدل على وجود المعصوم في كل عصر وزمان.

ويبقى سؤال أخير ، وهو أنّ الصادقين جمع ، وهل يجب على هذا الأساس أن يكون في كل زمان معصومون متعددون؟

والجواب على هذا السؤال واضح أيضا ، وهو أنّ الخطاب ليس مختصا بأهل زمن وعصر معين ، بل إنّ الآية تخاطب كل العصور والقرون ، ومن البديهي أن المخاطبين على مر العصور لا بد وأن سيكونوا مع جمع من الصادقين. وبتعبير آخر ، فإنّه لما كان في كل زمان معصوم ، فإنّنا إذا أخذنا كل القرون والعصور بنظر الإعتبار ، فإنّ الكلام سيكون عن جمع المعصومين لا عن شخص واحد.

والشاهد الناطق على هذا الموضوع هو أنّه لا يوجد في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد تجب طاعته غير شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي الوقت نفسه فإنّ من المسلّم أنّ الآية تشمل المؤمنين في زمانه ، وعلى هذا الأساس سنفهم أن الجمع الوارد في الآية لا يراد منه الجمع في زمان واحد، بل هو في مجموعة الأزمنة.

* * *

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 16 ، ص 220 ـ 221.

٢٥٩

الآيتان

( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) )

التّفسير

معاناة المجاهدين لا تبقى بدون ثواب :

كان البحث في الآيات السابقة حول توبيخ وملامة الممتنعين عن الاشتراك في غزوة تبوك ، وتبحث هاتان الآيتان البحث النهائي لهذا الموضوع كقانون كلّي.

فالآية الأولى تقول :( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) لأنّه قائد الأمّة ، ورسول الله ، ورمز

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581