الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175006 / تحميل: 6503
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

لقد كنت في ما مضى أسجد للشمس وأعبد الأصنام ، وكنت غارقة في الزينة والتجميل ، وكنت أتصور أنّي أعلى الناس في الدنيا.

أمّا الآن فإنّني أفهم أنّني ضعيفة جدّا وهذه الزخارف والزبارج لا تروي ظمأ الإنسان ولا تبلّ غليل روحه!.

ربّاه أتيت إليك مسلمة مع سليمان نادمة عن سالف عمري ، خاضعة عنقي إليك. الطريف هنا أنّها تقول : أسلمت مع سليمان ، فتستعمل كلمة (مع) ليتجلّى أن الجميع إخوة في السبيل إلى الله! لا كما يعتاده الجبابرة إذ يتسلط بعضهم على رقاب بعض ، وترى جماعة أسيرة في قبضة آخر.

فهنا لا يوجد غالب ومغلوب ، بل الجميع ـ بعد قبول الحق ـ في صف واحد!.

صحيح أن ملكة سبأ كانت قد أعلنت إيمانها قبل ذلك أيضا ، لأنّنا سمعنا عن لسانها في الآيات آنفة الذكر( وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ) .

إلّا أن إسلام الملكة هنا وصل إلى أوجه ، لذلك أكّدت إسلامها مرّة أخرى.

إنها رأت دلائل متعددة على حقانية دعوة سليمان.

فمجيء الهدهد بتلك الحالة الخاصّة!

وعدم قبول سليمان الهدية الثمينة المرسلة من قبلها.

وإحضار عرشها في فترة قصيرة من مدى بعيد.

وأخيرا مشاهدة قدرة سليمان الاعجازية ، وما لمسته فيه من أخلاق دمثة لا تشبه أخلاق الملوك!

* * *

بحثان

١ ـ عاقبة أمر ملكة سبأ

كان هذا كل ما ورد في القرآن المجيد عن ملكة سبأ إذ آمنت أخيرا ولحقت

٨١

بالصالحين لكن هل عادت إلى وطنها بعد إيمانها ، وواصلت حكمها من قبل سليمان ، أو بقيت عند سليمان وتزوجت منه؟! أو تزوجت من أحد ملوك اليمن المشهورين باسم «تبّع»؟

هذه الأمور لم يشر إليها القرآن الكريم ، لأنّها لا علاقة لها بالهدف الأصلي الذي يبتغيه القرآن من المسائل التربوية! إلّا أن المؤرّخين والمفسّرين كلّا منهم اختار رأيا ، ولا نجد ضرورة في الخوض في ذلك ، وإن كان المشهور ـ طبقا لما قاله أغلب المفسّرين ـ أنّها تزوّجت من سليمان نفسه(١) .

إلّا أنّه ينبغي أن نذكّر بهذا الأمر المهم ، وهو أنّه وردت أساطير كثيرة حول سليمان وجنوده وحكومته وخصوصيات ملكة سبأ. وجزئيات حياتها أيضا ، ممّا يصعب على عامة الناس تمييزها من الحقائق التاريخية ، وربّما يغشّي هذه الحقائق التاريخية. ظلّ مظلم من الخرافات يشوه وجهها الناصع وهذه هي نتيجة الخرافات المتداخلة في الحقائق التي ينبغي أن تراقب مراقبة تامّة!.

٢ ـ خلاصة عامة عن حياة سليمان

ما ورد عن سيرة سليمان وحالاته في الثلاثين آية آنفة الذكر ، يكشف عن مسائل كثيرة ، قرأنا قسما منها في أثناء البحث ، ونشير إلى القسم الآخر إشارة عابرة :

١ ـ إنّ هذه القصّة تبدأ بالحديث عن موهبة (العلم الوافر) التي وهبها الله لسليمان بن داود ، وتنتهي بالتسليم لأمر الله ، وذلك التوحيد أساسه العلم أيضا.

٢ ـ هذه القصّة تدل على أن غياب طائر أحيانا (في تحليقة استثنائية) قد يغير مسير تأريخ أمّة ، ويجرها من الفساد إلى الصلاح ، ومن الشرك إلى الإيمان وهذا مثل عن بيان قدرة الله ، ومثل من حكومة الحق!.

__________________

(١) الآلوسي في روح المعاني.

٨٢

٣ ـ إنّ هذه القصّة تكشف عن أن نور التوحيد يشرق في جميع القلوب ، حتى الطائر الذي يبدو ظاهرا أنّه صامت ، فإنّه يخبر عن أسرار التوحيد العميقة!.

٤ ـ ينبغي من أجل لفت نظر الإنسان إلى القيمة الواقعية له وهدايته نحو الله ، أن يدمّر غروره وكبرياؤه أولا ليماط عن وجه ستار الظلام ، كما فعل سليمان ، فدمر غرور ملكة سبأ وذلك بإحضار عرشها ، وإدخالها الصرح الممرد الذي حسبته لجة.

٥ ـ إنّ الهدف النهائي في حكومة الأنبياء ليس التوسع في رقعة الأرض ، بل الهدف هو ما قرأناه في آخر آية من الآيات محل البحث ، وهو أن يعترف الظالم بذنبه ، وأن يسلم لربّ العالمين ، ولذلك فإن القرآن ختم بهذه «اللطيفة» القصّة المذكورة.

٦ ـ إنّ روح الإيمان هي التسليم ، لذلك فقد أكّد سليمان عليه في كتابه إلى ملكة سبأ.

٧ ـ قد يكون بعض الناس مع ما لديه من قدرة عظيمة لا ترقى إليه قدرة الآخرين ، محتاجا إلى موجود ضعيف كالطائر مثلا ، لا إلى علمه فحسب ، بل قد يستعين بعلمه أيضا ، وقد تحقّره نملة بما هي عليه من ضعف!

٨ ـ إنّ نزول هذه الآيات في مكّة حيث كان المسلمون تحت نير العدو ، وكانت الأبواب موصدة بوجوههم ، هذا النّزول كان له مفهومه الخاص. وهو تقوية معنويات المسلمين وتسلية قلوبهم ، واحياء أملهم بلطف الله ورحمته والانتصارات المقبلة.

* * *

٨٣

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) )

التّفسير

صالح في ثمود :

بعد ذكر جانب من قصص موسى وداود وسليمانعليه‌السلام فإنّ هذه الآيات تتحدث عن قصّة رابع نبيّ ـ وتبيّن جانبا من حياته مع قومه ـ في هذه السورة ، وهي ما جاء عن صالحعليه‌السلام وقومه «ثمود»!

إذ يقول القرآن :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) (١) .

وكما قيل من قبل : إنّ التعبير بـ «أخاهم» الوارد في قصص كثير من الأنبياء ، هو إشارة إلى منتهى المحبّة والإشفاق من قبل الأنبياء لأممهم ، كما أن في بعض المواطن إشارة الى علاقة القربى «الروابط العائلية للأنبياء بأقوامهم».

__________________

(١) جملة (أن اعبدوا الله) مجرورة بحرف جر مقدر وأصلها : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا بعبادة الله.

٨٤

وعلى كل حال ، فإنّ جميع دعوة هذا النّبي العظيم تلخصت في جملة( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) . أجل ، إنّ عبادة الله هي عصارة كل تعليمات رسل الله.

ثمّ يضيف قائلا :( فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ ) (١) . المؤمنون من جهة والمنكرون المعاندون من جهة أخرى.

وقد عبر في الآيتين ٧٥ و ٧٦ من سورة الأعراف عن الفريقين ، بالمستكبرين والمستضعفين :( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) .

وبالطبع فإنّ هذه المواجهة بين الفريقين «الكفار والمؤمنين» تصدق في شأن كثير من الأنبياء ، بالرغم من أن بعض الأنبياء بقوا محرومين حتى من هذا المقدار القليل من الأنصار حيث وقف كل افراد قومهم ضدهم.

فأخذ صالحعليه‌السلام ينذرهم ويحذرهم من عذاب الله الأليم إلّا أنّ أولئك لم يستجيبوا له وتمسكوا بعنادهم وطلبوا منه بإصرار أن إذا كنت نبيّا فليحل بنا عذاب الله «وقد صرحت الآية ٧٧ من سورة الأعراف بأنّهم سألوا نبيّهم نزول العذاب»( وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

إلّا أن صالحا أجابهم محذرا و( قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ) .

فلم تفكرون بعذاب الله دائما وتستعجلونه؟ ألا تعلمون أن عذاب الله إذا حلّ بساحتكم ختم حياتكم ولا يبقى مجال للايمان؟

تعالوا واختبروا صدق دعوتي في البعد الايجابي والأمل في رحمة الله في

__________________

(١) كلمة (فريقان) تثنية ، وفعلها مسند إلى ضمير الجميع ، وذلك لأنّ كل فريق يتألف من جماعة فأخذ الجمع بنظر الإعتبار

٨٥

ظل الإيمان به( لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) !.

علام تسألون عن نزول العذاب وتصرون على السيئات؟! ولم هذا العناد وهذه الحماقة؟!

لم يكن قوم صالح ـ وحدهم ـ قد طلبوا العذاب بعد انكارهم دعوة نبيّهم ، فقد ورد في القرآن المجيد هذا الأمر مرارا في شأن الأمم الآخرين ، ومنهم قوم هود «كما في الآية ٧٠ من سورة الأعراف».

ونقرأ في شأن النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما واجهه به بعض المشركين المعاندين ، إذ قالوا :( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) .(١) وهذا أمر عجيب حقّا أن يريد الإنسان اختبار صدق دعوة نبيّه عن طريق العقاب المهلك ، لا عن طريق طلب الرحمة! مع أنّهم يعلمون يقينا احتمال صدق دعوة هؤلاء الأنبياء «يعلمون ذلك في قلوبهم وإن أنكروه بلسانهم».

وهذا الأمر يشبه حالة ما لو أدعى رجل بأنّه طبيب ، فيقول : هذا الدواء ناجع شاف ، وذلك الدواء ضار مهلك. ونحن من أجل أن نختبر صدقه نستعمل الدواء المهلك!!

فهذا منتهى الجهل والتعصب ولمرض الجهل الكثير من هذه الافرازات.

وعلى كل حال ، فإنّ هؤلاء القوم المعاندين بدلا من أن يصغوا لنصيحة نبيّهم ويستجيبوا له ، واجهوه باستنتاجات واهية وكلمات باطلة! منها أنّهم( قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) ولعل تلك السنة كانت سنة قحط وجدب ، فقالوا : إنّ هذا البلاء والمشاكل والعقبات كلّها بسبب قدوم هذا النّبي وأصحابه فهم مشئومون

__________________

(١) الأنفال ، الآية ٣٢.

٨٦

جلبوا الشقاء لمجتمعنا!!

فكانوا يحاولون مواجهة دعوة نبيّهم صالح ومنطقه المتين بحربة التطير ، التي هي حربة المعاندين الخرافيين.

لكنّه ردّ عليهم و( قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) فهو الذي يبتليكم بسبب أعمالكم بهذه المصائب التي أدت إلى هذه العقوبات.

في الحقيقة إن ذلك اختبار وإمتحان إلهي كبير لكم ، أجل( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ) .

هذه امتحانات وفتن إلهية هذه إنذارات وتنبيهات لينتبه ـ من فيهم اللياقة من غفلتهم ، ويصلحوا انحرافهم ويتجهوا نحو الله!.

* * *

بحث

«التطيّر والتفاؤل»

«التطيّر» مأخوذ من مادة «طير» وهو معروف ، إذ يعني ما يطير بجناحين في الجوّ ، ولما كان العرب يتشاءمون غالبا من بعض الطيور ، سمي الفأل غير المحبوب تطيّرا ، وهو في قبال «التفأل» ومعناه الفأل الحسن المحبوب.

وقد وردت في القرآن الإشارة إلى هذا المعنى مرارا وهي أن المشركين الخرافيّين كانوا يواجهون أنبياءهم بحربة التطير ، كما نقرأ ذلك في قصّة موسى وأصحابه( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ) (١) .

وفي الآيات ـ محل البحث ـ أظهر قوم «ثمود» المشركون رد فعلّهم في

__________________

(١) الأعراف ، ١٣١.

٨٧

مقابل نبيّهم «صالح» بالتطير أيضا.

وأساسا ، ونقرأ في سورة «يس» أن المشركين تطيّروا من مجيء رسل المسيحعليه‌السلام الى «انطاكية» (يس ـ ١٨).

فإنّ الإنسان لا يمكن أن يقف أمام الحوادث على حال واحدة ، فلا بدّ أن يفسّر آخر الأمر لكل حادثة علة فإذا كان الإنسان مؤمنا موحدا لله ، فإنّه يرجع العلل إلى ذاته المقدسة تعالى طبقا لحكمته ، فكل شيء عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. ولو استند إلى العلم في تحليل العلة والمعلول الطبيعيين ، فستحل مشكلته ايضا ، وإلّا فإنّه سينتج أوهاما وخرافات لا أساس لها أوهاما لا حد لها وأحدها «التطير» والفأل السيء!

مثلا كان عرب الجاهلية إذا رأوا الطائر يتحرك من اليمين نحو الشمال عدوّه فألا حسنا ، وإذا رأوه يتحرك من الشمال «اليسار» نحو اليمين عدّوه فألا سيئا ، ودليلا على الخسران أو الهزيمة! وغيرها من الخرافات الكثيرة عندهم(١) .

واليوم يوجد ـ من قبيل هذه الخرافات والأوهام ـ الكثير في مجتمعات لا تؤمن بالله ، وإن حققت نصرا من حيث العلم والمعرفة ، بحيث لو سقطت «مملحة» على الأرض أقلقتهم إلى حد كبير! ويستوحشون من الدار أو البيت أو الكرسي المرقم بـ ١٣ ، وما زالت سوق المنجمين وأصحاب الفأل رائجة غير كاسدة! فهناك مشترون كثر «للطالع والبخت»!.

إلّا أنّ القرآن جمع كل هذه الأمور فجعلها في جملة موجزة قصيرة فقال :( طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) .

__________________

(١) يشير الكميت الأسدي إلى بعض هذه الخرافات في قصيدته البائية فيقول :

ولا أنا ممن يزجر الطير همّه

أصاح غراب أم تعرض ثعلب

ولا السانحات البارحات عشية

أمرّ سليم القرن أم مرّ أعضب (المصحح).

٨٨

أجل ، فطائركم وطالعكم وانتصاركم وهزيمتكم وتوفيقكم وفشلكم كله عند الله ، الله الحكيم الذي يهب عطاياه لمن كانت عنده اللياقة ، واللياقة بدورها انعكاس تنعكس عن الايمان والأعمال الصالحة أو الطالحة!.

وهكذا فإنّ الإسلام يدعو أتباعه ليخرجهم من وادي الخرافة إلى الحقيقة ، ومن المفازة(١) إلى الصراط المستقيم.

«كان لنا بحث مفصل في مجال التطير والتفاؤل ذيل الآية ١٣١ من سورة الأعراف».

* * *

__________________

(١) المفازاة تأتي بمعنى الفوز ، وتأتى بمعنى الهلاك فهي من الأضداد في اللغة ـ وهنا معناها الصحراء المهلكة (المصحح).

٨٩

الآيات

( وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) )

التّفسير

تآمر تسعة رهط في وادي القرى :

نقرأ هنا قسما آخر من قصّة «صالح» وقومه ، حيث يكمل القسم السابق ويأتي على نهايته ، وهو ما يتعلق بالتآمر على قتل «صالح» من قبل تسعة «رهط»(١) من المنافقين والكفار ، وفشل هذا التآمر! في وادي القرى منطقة «النّبي صالح وقومه».

__________________

(١) «الرهط» من الناس ما لا يقل عن الثلاثة ولا يزيد عن العشرة ، وهو اسم جنس لا مفرد له من نوعه ويجمع على أراهط وأرهاط ـ ولا يكون في الرهط امرأة (المصحح).

٩٠

يقول القرآن في هذا الشأن( وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ ) .

ومع ملاحظة أنّ «الرّهط» يعني في اللغة الجماعة التي تقلّ عن العشرة أو تقلّ عن الأربعين ، فإنّه يتّضح أن كلّا من المجموعات الصغيرة التسع كان لها منهج خاص ، وقد اجتمعوا على أمر واحد ، وهو الإفساد في الأرض والإخلال بالمجتمع (ونظامه الاجتماعي) ومبادئ العقيدة والأخلاق فيه.

وجملة «لا يصلحون» تأكيد على هذا الأمر ، لأنّ الإنسان قد يفسد في بعض الحالات ثمّ يندم ويتوجه نحو الإصلاح إنّ المفسدين الواقعيين ليسوا كذلك ، فهم يواصلون الفساد والإفساد ولا يفكرون بالإصلاح!.

وخاصّة أن الفعل في الجملة «يفسدون» فعل مضارع ، وهو يدل على الاستمرار ، فمعناه أن إفسادهم كان مستمرا وكلّ رهط من هؤلاء التسعة كان له زعيم وقائد ويحتمل أن كلّا ينتسب إلى قبيلة!.

ولا ريب أن ظهور «صالح» بمبادئه السامية قد ضيّق الخناق عليهم ، ولذلك تقول الآية التالية في حقّهم :( قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

«تقاسموا» فعل أمر ، أيّ اشتركوا جميعا في اليمين ، وتعهّدوا على هذه المؤامرة الكبرى تعهدا لا عودة فيه ولا انعطاف!.

الطريف أنّ أولئك كانوا يقسمون بالله ، ويعني هذا أنّهم كانوا يعتقدون بالله ، مع أنّهم يعبدون الأصنام ، وكانوا يبدأون باسمه في المسائل المهمّة كما يدل هذا الأمر على أنّهم كانوا في منتهى الغرور و «السكر» بحيث يقومون بهذه الجناية الكبرى على اسم الله وذكره!! فكأنّهم يريدون أن يقوموا بعبادة أو خدمة مقبولة إلّا أنّ هذا نهج الغافلين المغرورين الذين لا يعرفون الله والضالين عن الحق.

وكلمة «لنبيتنّه» مأخوذة من «التبييت» ، ومعناه الهجوم ليلا ، وهذا التعبير

٩١

يدلّ على أنّهم كانوا يخافون من جماعة صالح وأتباعه ، ويستوحشون من قومه لذلك ومن أجل أن يحققوا هدفهم ولا يكونوا في الوقت ذاته مثار غضب أتباع صالح ، اضطروا إلى أن يبيتوا الأمر ، واتفقوا أن لو سألوهم عن مهلك النّبي ـ لأنّهم كانوا معروفين بمخالفته من قبل ـ حلفوا بأن لا علاقة لهم بذلك الأمر ، ولم يشهدوا الحادثة أبدا.

جاء في التواريخ أن المؤامرة كانت بهذه الصورة ، وهي أن جبلا كان في طرف المدينة وكان فيه غار يتعبّد فيه صالح ، وكان يأتيه ليلا بعض الأحيان يعبد الله فيه ويتضرع إليه ، فصمّموا على أن يكمنوا له هناك ليقتلوه عند مجيئه في الليل ، ويحملوا على بيته بعد استشهاده ثمّ يعودوا إلى بيوتهم ، وإذا سئلوا أظهروا جهلهم وعدم معرفتهم بالحادث.

فلمّا كمنوا في زاوية واختبئوا في ناحية من الجبل انثالت صخور من الجبل تهوي إلى الأرض ، فهوت عليهم صخرة عظيمة فأهلكتهم في الحال!

لذلك يقول القرآن في الآية التالية :( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

ثمّ يضيف قائلا :( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وكلمة (مكر) ـ كما بينّاها سابقا ـ تستعملها العرب في كل حيلة وتفكير للتخلص أو الاهتداء إلى أمر ما ولا تختص بالأمور التي تجلب الضرر ، بل تستعمل بما يضر وما ينفع فيصح وصف المكر بالخير إذا كان لما ينفع ، ووصفه بالسوء إذا كان لما يضرّ قال سبحانه :( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) . وقال :( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ) ! «فتأملوا بدقّة» يقول الراغب في المفردات المكر صرف الغير عما يقصده فبناء على هذا إذا نسبت هذه الكلمة إلى الله فإنّها تعني إحباط المؤامرات الضارة من قبل

٩٢

الآخرين ، وإذا نسبت إلى المفسدين فهي تعني الوقوف بوجه المناهج الإصلاحية ، والحيلولة دونها.

ثمّ يعبّر القرآن عن كيفية هلاكهم وعاقبة أمرهم فيقول :( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ) .

فلا صوت يسمع منها

ولا حركة تتردد

ولا أثر من تلك الزخارف والزبارج والنعم والمجالس الموبوءة بالذنوب والخطايا.

أجل ، لقد أذهبهم ريح عتوّهم وظلمهم ، واحترقوا بنار ذنوبهم فهلكوا جميعا( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

إلّا أن الأخضر لم يحترق باليابس ، والأبرياء لم يؤخذوا بجرم الأشقياء بل سلم المتقون( وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ عقوبة ثمود

تختلف تعابير آيات القرآن في موضوع هلاك قوم صالح «ثمود».

فتارة يأتي التعبير عن هلاكهم بالزلزلة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ) .(١)

وتارة يقول : «عنهم» القرآن :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) (٢) .

وتارة يقول :( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) (٣) .

__________________

(١) الأعراف ، الآية ٧٨.

(٢) الذاريات ، ٤٤.

(٣) هود ، ٦٧.

٩٣

إلّا أنّه لا منافاة بين هذه التعابير الثلاثة أبدا لأنّ «الصاعقة» هي الشعلة الكبيرة بين السحاب والأرض المقرونة بصيحة عظيمة واهتزاز شديد في الأرض «ذكرنا تفصيلا عن الصيحة السماوية في ذيل الآية ٦٧».

٢ ـ روى بعض المفسّرين أن أصحاب صالح الذين نجوا معه كانوا أربعة آلاف رجل ، وقد خرجوا بأمر الله من المنطقة الموبوءة بالفساد إلى حضر موت»(١) .

٣ ـ «خاوية» من (الخواء) على وزن (الهواء) معناه السقوط والهويّ والانهدام ، وقد يأتي الخواء بمعنى الخلو وهذا التعبير ورد في سقوط النجم وهويّه ، إذا قالوا «خوى النجم» أي هوى.

ويرى الراغب في المفردات أن الأصل في «خوى» هو الخلو ويرد هذا التعبير في البطون الغرثى ، والجوز الخالي ، والنجوم التي لا تعقب الغيث ، كان عرب الجاهلية يعتقدون أن كل نجم يظهر في الأفق يصحبه الغيث! «المطر».

٤ ـ روي عن ابن عباس أنّه قال : استفدت من القرآن أن الظلم يخرب البيوت ويهدمها ، ثمّ استدل بالآية الكريمة( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ) (٢) .

وفي الحقيقة فإن تأثير الظلم في تخريب البيوت والمدن والمجتمعات لا يقاس بأي شيء ، فالظلم يأتي بالصاعقة المهلكة ، والظلم يزلزل ويدمر والظلم له أثر كأثر الصيحة ـ في السماء ـ المهلكة المميتة ، وقد أكد التأريخ مرارا هذه الحقيقة وأثبتها ، وهي أن الدنيا قد تدوم مع الكفر ، إلّا أنّها لا تدوم مع الظلم أبدا.

٥ ـ ما لا شك فيه أن عقاب ثمود «قوم صالح» كان بعد أن عقروا الناقة «قتلوها» وكما يقول القرآن في الآيات (٦٥) ـ (٦٧) من سورة هود :( فَعَقَرُوها

__________________

(١) راجع الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، والقرطبي في تفسيره المعروف ، ذيل الآيات محل البحث.

(٢) مجمع البيان ذيل الآية محل البحث

٩٤

فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

فبناء على هذه الآيات لم ينزل العذاب مباشرة بعد المؤامرة على قتل صالح ، بل الاحتمال القوي أن الجماعة الذين تآمروا على قتله أهلكوا فحسب ، ثمّ أمهل الله الباقين ، فلمّا قتلوا الناقة أهلك الله جميع الظالمين والآثمين الكافرين.

وهذه هي نتيجة الجمع بين آيات هذه السورة ، والآيات الواردة في هذا الشأن في سورتي الأعراف وهود.

وبتعبير آخر : في الآيات محل البحث جاء بيان إهلاكهم بعد مؤامرتهم على قتل نبيهم صالح ، أمّا في سورتي الأعراف وهود فبيان هلاكهم بعد عقرهم الناقة. ونتيجة الأمرين أنّهم حاولوا قتل نبيّهم ، فلمّا لم يفلحوا أقدموا على قتل الناقة (وعقرها) التي كانت معجزته الكبرى ونزل عليهم العذاب بعد أن أمهلوا ثلاثة أيام.

ويحتمل أيضا أنّهم أقدموا على قتل الناقة أولا ، فلما هدّدهم نبيّهم صالح بنزول العذاب بعد ثلاثة أيّام حاولوا قتله ، فأهلكوا دون أن يفلحوا في قتله(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير روح البيان ذيل الآية محل البحث

٩٥

الآيتان

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) )

التّفسير

انحراف قوم لوط!

بعد ذكر جوانب من حياة موسى وداود وسليمان وصالحعليهم‌السلام مع أممهم وأقوامهم ، فإنّ النّبي الخامس الذي وردت الإشارة إليه في هذه السورة : نبيّ الله العظيم «لوط».

وليست هذه أوّل مرّة يشير القرآن إلى هذا الموضوع ، بل تكررت الإشارة إليه عدّة مرّات ، كما في سورة الحجر ، وسورة هود ، وسورة الشعراء ، وسورة الأعراف.

وهذا التكرار والتشابه ، لأنّ القرآن ليس كتابا تاريخيا كي يتحدث عن الموضوع مرّة ولا يعود إليه بل هو كتاب تربوي إنساني ونعرف انّ المسائل التربوية قد تقتضي الظروف أحيانا أن تكرر الحادثة ويذكر بها مرارا ، وأن ينظر إليها من زوايا مختلفة ، ويستنتج من جهاتها المتعددة.

٩٦

وعلى كل حال فإنّ حياة قوم لوط المشهورين بالانحراف الجنسي والعادات السيئة المخزية الأخرى ، كما أنّ عاقبة حياتهم الوخيمة يمكن أن تكون لوحة بليغة لأولئك السادرين في شهواتهم وإن سعة هذا التلوث بين الناس تقتضي أن يكرر ما جرى على قوم لوط مرارا.

يقول القرآن : في الآيتين محل البحث أوّلا :( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) (١) .

«الفاحشة» كما أشرنا إليها من قبل ، تعني الأعمال السيئة القبيحة ، والمراد منها الانحراف الجنسي وعمل اللواط المخزي.

وجملة( وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) إشارة إلى أنّكم ـ يعني قوم لوط ـ ترون بأم أعينكم قبح هذا العمل وآثاره الوخيمة ، وكيف تلوّث مجتمعكم من قرنه إلى قدمه به وحتى الأطفال في غير مأمن من هذا العمل القبيح ، فعلام تبصرون ولا تتنبهون!

وأمّا ما يحتمله بعضهم من أن جملة «تبصرون» إشارة إلى أنّهم كانوا يشهدون فعل اللواط «بين الفاعل والمفعول» فهذا المعنى لا ينسجم وظاهر التعبير ، لأنّ لوطا يريد أن يحرّك «وجدانهم» وضمائرهم ، وأن يوصل نداء فطرتهم إلى آذانهم فكلام لوط نابع من البصيرة ورؤية العواقب الوخيمة لهذا العمل والتنبه منه.

ثمّ يضيف القرآن قائلا :( أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ) .

وقد ورد التعبير عن هذا العمل القبيح بالفاحشة ، ثمّ وضحه أكثر لئلا يبقى أي إبهام في الكلام ، وهذا اللون من الكلام واحد من فنون البلاغة لبيان المسائل المهمة.

__________________

(١) يحتمل أن «ولوطا» منصوب بالفعل (أرسلنا) الذي سبق ذكره في الآيات المتقدمة ، ويحتمل أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره (اذكر) وحيث جاء بعد الكلمة (إذ قال) فالاحتمال الثّاني أنسب

٩٧

ولكي يتّضح بأن الدافع على هذا العمل هو الجهل ، فالقرآن يضيف قائلا :( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) .

تجهلون بالله وتجهلون هدف الخلق ونواميسه وتجهلون آثار هذا الذنب وعواقبه الوخيمة ، ولو فكرتم في أنفسكم لرأيتم أن هذا العمل قبيح جدّا ، وقد جاءت الجملة بصيغة الاستفهام ليكون الجواب نابعا من أعماقهم ووجدانهم ، فيكون أكثر تأثيرا.

* * *

٩٨

بداية الجزء العشرون

من

القرآن الكريم

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

ووفق ما ورد في الرّوايات ، فقد صعد يونسعليه‌السلام إلى السفينة ، ثمّ إنّ حوتا ضخما وقف أمام السفينة ، فاتحا فمه وكأنّه يطلب الطعام ، فقال ركاب السفينة أنّ هناك شخصا مذنبا معنا يجب أن يكون طعام هذا الحوت ، ولم يجدوا سبيلا سوى الاقتراع لتحديد الشخص الذي يرمى للحوت ، وعند ما اقترعوا خرج اسم يونس ، وطبقا للرواية فإنّهم اقترعوا ثلاث مرّات وفي كلّ مرّة كان يخرج اسم يونسعليه‌السلام ، فأمسكوا بيونس وقذفوه في فم الحوت العظيم ، وقد أشار القرآن المجيد في آية قصيرة إلى هذه الحادثة ، قال تعالى :( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) .

«ساهم» في مادّة (سهم) وتعني اشتراكه في الاقتراع ، فالاقتراع تمّ على ظهر السفينة بالشكل التالي ، كتبوا اسم كلّ راكب على (سهم) ثمّ خلطوا الأسهم وسحبوا سهما واحدا ، فخرج السهم الذي يحمل اسم يونسعليه‌السلام .

(مدحض) مشتقّة من (دحض) وتعني إبطال مفعول الشيء أو إزالته أو التغلّب عليه ، والمراد هنا أنّ اسمه ظهر في عملية الاقتراع من بين بقيّة الأسماء.

وورد بهذا الشأن تفسير آخر يقول : إنّ إعصارا هبّ في البحر عرض السفينة ومن فيها من الرّكاب للخطر بسبب ثقل حمولتها ، ولم يكن لهم سبيل للنجاة سوى تخفيف وزن السفينة من خلال إلقاء بعض ركّابها في وسط البحر ، وعند ما اقترعوا على من يرمونه في الماء خرج اسم يونس ، وبعد رميه في البحر ابتلعه حوت عظيم.

وقال القرآن الكريم :( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) أي إنّ حوتا عظيما التقمه وهو مستحقّ للملامة.

«التقم» مشتقّة من (الالتقام) وتعني (البلع).

(مليم) من مادّة (لوم) وتعني التوبيخ والعتب (وعند ما تأتي بصفة الفعل فإنّها تعطي معنى استحقاق الملامة).

ومن المسلّم أنّ هذه الملامة لم تكن بسبب ارتكابه ذنبا كبيرا أو صغيرا وإنّما

٤٠١

بسبب تركه العمل بالأولى ، واستعجاله في ترك قومه وهجرانهم.

وبعد بلعه من قبل الحوت أعطى الله سبحانه وتعالى أمرا تكوينيا إلى الحوت أن لا تلحق الأذى بيونس ، إذ أنّ عليه أن يقضي فترة في السجن الذي لم يسبق له مثيل ، كي يدرك تركه العمل بالأولى ، ويسعى لإصلاحه.

وورد في إحدى الرّوايات أنّ «أوحى الله إلى الحوت : لا تكسر منه عظما ولا تقطع له وصلا»(١) .

يونسعليه‌السلام انتبه بسرعة للحادث ، وتوجّه على الفور إلى الله سبحانه وتعالى وتكامل وجوده مستغفرا الله على تركه العمل بالأولى ، وطالبا العفو منه.

ونقلت الآية (٨٧) في سورة الأنبياء صورة توجّه يونسعليه‌السلام بالدعاء الذي يسمّيه أهل العرفان باليونسية ، قال تعالى :( فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) .

أي إنّه نادى من بطن الحوت بأن لا معبود سواك ، وأنّني كنت من الظالمين ، إذ ظلمت نفسي وابتعدت عن باب رحمتك.

اعتراف يونس الخالص بالظلم ، وتسبيحه الله المرافق للندم أدّى مفعوله ، إذ استجاب الله له وأنقذه من الغمّ ، كما جاء في الآية (٨٨) من سورة الأنبياء ،( فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .

ونلاحظ الآن ماذا تقول الآيات بشأن يونسعليه‌السلام ، قال تعالى :( فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) أي لو لم يكن من المسبّحين لأبقيناه في بطن الحوت حتّى يوم القيامة ، ويعني تبديل سجنه المؤقّت إلى سجن دائم ، ومن ثمّ تبديل سجنه الدائم إلى مقبرة له.

وبخصوص بقاء يونس في بطن الحوت حتّى يوم القيامة (على فرض أنّه ترك

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ١٦٥ ، كما ورد نفس المعنى مع اختلاف بسيط في تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٧.

٤٠٢

تسبيح الله والتوبة إليه) فهل أنّه يعني بقاءه حيّا أم ميّتا ، المفسّرون ذكروا بهذا الشأن احتمالات متعدّدة منها :

أوّلا : بقاء الإثنين ـ أي يونس والحوت ـ أحياء ، ويونس يبقى إلى يوم القيامة مسجونا في بطن الحوت.

ثانيا : وفاة يونس ، وبقاء الحوت حيّا باعتباره قبرا متحركا لجثّة يونس.

ثالثا : وفاة الإثنين ، وهنا يكون بطن الحوت قبرا ليونس ، والأرض قبرا للحوت ، حيث يدفن في قلب الحوت ، والحوت يدفن في باطن الأرض إلى يوم القيامة.

الآية مورد البحث لا تدلّ على أي من الاحتمالات التي ذكرناها ، فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم تؤكّد موت الجميع في آخر الزمان ، لذا فإنّ بقاء يونس أو الحوت أحياء حتّى يوم القيامة غير ممكن ، وبهذا يعدّ الاحتمال الثالث أقرب الاحتمالات إلى الواقع(١) .

وهناك احتمال آخر يقول : إنّ هذه العبارة هي كناية عن طول المدّة ، وتعني أنّه سيبقى لمدّة طويلة في هذا السجن.

ولا ننسى أنّ هذه الأمور كان يمكن أن تتحقّق لو أنّه كان قد ترك تسبيح الله والتوبة إليه ، ولكن الذي حدث أنّ تسبيحه وتوبته جعلاه مشمولا بالعفو الإلهي.

ويضيف القرآن ، وقد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا ، وهو مريض( فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ) .

فالحوت الضخم لفظ يونس ـ الذي لم يكن غذاء صالحا لذلك الحوت ـ على ساحل خال من الزرع والنبات ، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثر على سلامة وصحّة جسم يونس ، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

__________________

(١) الملفت للنظر أنّ المفسّر الكبير العلّامة (الطبرسي) الذي غالبا ما يجمع الآراء المختلفة في ذيل الآيات ، اقتنع هنا بإيراد احتمال واحد فقط ، والذي يقول (لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة).

٤٠٣

إنّنا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت ، فمن المسلّم به أنّه لا يمكن تجنّب المؤثّرات هناك مهما كانت الفترة الزمينة التي قضاها في بطن الحوت ، صحيح أنّ الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن الحوت ، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثّر بعض الشيء بمؤثّرات ذلك السجن ، لذا فقد كتب بعض المفسّرون أنّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة ضعيف وهزيل جدّا لا يمتلك القدرة على الحركة.

مرّة اخرى شمله اللطف الإلهي ، لأنّ جسمه كان مريضا ومتعبا ، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقا وعاجزا ، وكانت حرارة الشمس تؤذيه ، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول ، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة( وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ) .

(اليقطين) تعني ـ كما قال أصحاب اللغة والتّفسير ـ كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة ، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو (القرع) ، والذي يجب الالتفات إليه أنّ كلمة «الشجرة» في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان ، وبعبارة اخرى : تشمل كلّ الأشجار والنباتات ، ونقلوا حديثا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قالوا فيه : إنّ شخصا سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجل هي شجرة أخي يونس»(١) .

وقيل : إنّ أوراق شجرة القرع ، إضافة إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّا ويمكن الاستفادة منها كظلّ جيّد ، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق ، ولهذا فإنّ يونسعليه‌السلام التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في

__________________

(١) روح المعاني ، المجلّد ٧ ، الصفحة ٤٨٩.

٤٠٤

نفس الوقت ، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقا جدّا وحسّاسا ، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة.

ويحتمل أنّ الباريعزوجل يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت ، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق ، كي يبذل جهدا وسعيا أكثر ـ عند ما يتسلّم القيادة في المستقبل ـ لإنقاذ امّته من نار جهنّم ، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة(١) .

نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه ، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان ، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي ، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم ، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجودا في المدينة ، واتّخاذه قائدا لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وورد في روايات اخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء ، وفرّقوا بين المرأة وطفلها ، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها ، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم ، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.

وهنا أزاح الله عنهم سحب العذاب وأنزلها على الجبال ، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله(٢) .

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجئ بأمر أثار عنده الدهشة والعجب ، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام ، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.

القرآن يقول هنا :( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) كانوا قد آمنوا بالله ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٣٦ ، الحديث ١١٦.

(٢) نقل صاحب تفسير البرهان ، وفي المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٥ هذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

٤٠٥

واغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة ،( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط ، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم ، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس ، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونسعليه‌السلام بعث من جديد إلى قومه السابقين ، أمّا الذين قالوا : إنّه بعث إلى قوم آخرين ، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات.

لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى :( فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوما مؤمنين ، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة.

ومن جهة اخرى ، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين ، وذلك في الآية (٩٨)( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) .

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من( إِلى حِينٍ ) هو لفترة معيّنة ، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي.

سؤال يطرح نفسه : لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه :( مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) ؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المائة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها ، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما ، وإعطائه هالة من العظمة ، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ(١) .

* * *

__________________

(١) لهذا فإنّ (أو) هنا تأتي بمعنى ، (بل).

٤٠٦

بحوث

١ ـ عرض موجز لحياة يونسعليه‌السلام

(يونس) بن (متى) ويلقّب بـ (ذي النون) أي صاحب الحوت ، وقد اعطي هذا اللقب لأنّ قصّته ارتبطت بالحوت ، وهو من المعروفين ، وعلى الظاهر أنّه ولد بعد موسى وهارون.

وقال البعض : إنّه من أولاد (هود) وقد كلّف من قبل الباريعزوجل بهداية من تبقّى من قوم ثمود.

والمنطقة التي بعث إليها كانت إحدى مناطق العراق وتسمّى (نينوى)(١) .

وقال البعض : إنّ بعثته كانت قبل ولادة المسيحعليه‌السلام بحوالي (٨٢٥) عاما ، وحاليا هناك قبر قرب مدينة الكوفة على ضعاف النهر يعرف بقبر (يونس).

وجاء في بعض الكتب أنّ يونس كان من أبناء بني إسرائيل وبعث إلى أهل نينوى بعد سليمان. وقد شرح كتاب (يوناه) أحد كتب التوراة العهد القديم في بحوث مفصّلة حياة النّبي يونس وتحت عنوان (يوناه بن متى). وطبقا لما جاء في هذا الكتاب ، فإنّ يونس كان مكلّفا بالذهاب إلى مدينة (نينوى) الكبيرة ، ومجابهة شرور الطغاة هناك.

ثمّ تذكّر التوراة حوادث اخرى ، تشبه كثيرا ما جاء في القرآن ، مع وجود اختلاف ، وهو أنّ الروايات الإسلامية تقول : إنّ يونس دعا قومه إلى التوحيد ونفّذ ما أوكل إليه في هذا المجال ، وبعد أن رفض قومه دعوته دعا عليهم وتركهم وحصل له ما حصل في حادثة السفينة والحوت ، ولكن التوراة ذكرت عبارة غير مقبولة ، إذ قالت : إنّ يونس طلب قبل بعثه إلى قومه أن يعفى من هذه المهمّة ، ولهذا

__________________

(١) نينوى ، اسم عدّة مناطق ، الاولى : مدينة قرب الموصل ، والاخرى في ضواحي الكوفة في جهة كربلاء ، ومدينة في آسيا الصغرى ، عاصمة مملكة آشور وتقع عاى ضفاف نهر دجلة (دائرة المعارف ده خدا) والبعض الآخر قال : إنّ نينوى هي أكبر مدن مملكة آشور الواقعة في الضفّة الشرقية لنهر دجلة وقد بنيت مقابل الموصل (معجم قصص القرآن).

٤٠٧

توقّف عن الدعوة وانهزم وحصلت له حادثة السفينة والحوت.

والذي يثير العجب أكثر أنّ التوراة تقول : إنّ يونس تألّم وغضب كثيرا عند ما أزال الله سبحانه وتعالى العذاب عن قومه بعد ما أعلنوا توبتهم(١) .

وجاء في أحد فصول التوراة ـ أيضا ـ أنّ يونس بعث مرّتين ، امتنع في الاولى وابتلي بذلك المصير المؤلم ، وفي المرّة الثانية بعث أيضا إلى المدينة (نينوى) نفسها ، وكان أهلها قد تيقّظوا من غفلتهم وآمنوا بالله ، وتابوا إليه وشملهم العفو الإلهي ، ذلك العفو الذي لم يفرح قلب يونس.

وبمقارنة ما جاء في القرآن المجيد والروايات الإسلامية مع ما جاء في كتاب التوراة الحالي يتّضح إلى أي درجة تحطّ (التوراة المحرّفة) من شأن نبي الله يونس ، فأحيانا ينسب إليه عدم قبوله حمل الرسالة التي كلّف بها ، وأحيانا غضبه وسخطه على قرار الله سبحانه وتعالى بشمول قومه التائبين بالعفو والرحمة. وهذا يدلّ على أنّ التوراة الحالية كتاب لا يمكن الاعتماد عليه بأي شكل من الأشكال.

على أيّة حال ، فإنّ يونس من الأنبياء الكبار الذين ذكرهم القرآن بأحسن وأفضل الذكر.

٢ ـ كيف بقي يونس حيّا في بطن الحوت؟

قلنا : إنّه ليس هناك دليل واضح يبيّن كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت؟ هل أنّها كانت عدّة ساعات أم عدّة أيّام أم عدّة أسابيع؟

فقد ورد في بعض الروايات أنّه أمضى (٩) ساعات في بطن الحوت ، فيما قالت روايات اخرى : إنّه أمضى ثلاثة أيّام ، وأكّدت اخرى أنّه أمضى أكثر ، حتّى أنّ البعض قال : إنّه أمضى (٤٠) يوما في بطن الحوت.

__________________

(١) (التوراة) كتاب (النّبي يوناه) الفصل الأوّل والثاني والثالث والرابع.

٤٠٨

ولكن لا يوجد لدينا دليل ثابت على أي من هذه الأقوال.

وقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم نقلا عن حديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أنّ يونس أمضى (٩) ساعات في بطن الحوت(١) .

وقال بعض المفسّرين من أهل السنّة : إنّ المدّة التي أمضاها يونس في بطن الحوت كانت ساعة واحدة فقط(٢) .

وكم كانت المدّة؟ فإنّ مثل هذا الأمر ـ من دون أي شكّ ـ يعدّ أمرا غير عادي ، حيث إنّ الإنسان لا يستطيع أن يبقى حيّا لعدّة دقائق في محيط فارغ من الهواء ، وإذا رأينا أنّ الجنين يعيش عدّة أشهر في بطن أمّه حيّا ، فإنّما ذلك بسبب عدم عمل أجهزته التنفسيّة وحصوله على الأوكسيجين اللازم عن طريق دم والدته.

ووفقا لهذا فإنّ ما جرى ليونس إنّما هو معجزة من دون أي شكّ ، وهذه ليست المعجزة الأولى التي نصادفها في القرآن المجيد ، فالباريعزوجل ـ الذي حفظ إبراهيمعليه‌السلام في وسط النار ، وأنقذ موسى وبني إسرائيل من الغرق بعد أن أوجد لهم طريقا يابسا وسط البحر ، وخلّص نوحا من الطوفان العظيم بواسطة سفينة بسيطة ليهبط من بعد على الأرض اليابسة بسلام ـ قادر على حفظ عبد من عباده المخلصين مدّة من الزمن في بطن الحوت.

وبالطبع فإنّ وجود مثل تلك الحيتان الكبيرة في الماضي والحاضر لا يعدّ أمرا عجيبا ، إذ يوجد حاليا نوع من أنواع الحيتان يطلق عليه اسم (بالن) طوله أكثر من (٣٠) مترا ويعدّ أكبر حيوان على وجه الأرض ، وقلبه يزن طنّا واحدا.

في هذه السورة طالعنا قصص الأنبياء السابقين الذين نجوا بإعجاز من قبضة البلاء ، ويونس كان آخرهم في هذه السلسلة.

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم ، وفقا لما ورد في نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٣٦.

(٢) تفسير القرطبي ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٥٦٧.

٤٠٩

٣ ـ دروس وعبر كبيرة في قصص صغيرة :

وكما نعرف ، فإنّ استعراض القرآن لهذه القصص يهدف إلى تربية الإنسان ، لأنّ القرآن ليس كتاب قصص وإنّما هو كتاب هدفه بناء الإنسان وتربيته.

من هذه القصّة العجيبة يمكن استخلاص الكثير من المواعظ والعبر :

أ ـ ترك النّبي للعمل بالأولى يعدّ أمرا مهمّا عند الله ، ويؤدّي إلى مجازاة ذلك النبي ، لأنّ مرتبة الأنبياء عالية جدّا ، وأبسط غفلة منهم تعادل ذنبا كبيرا يرتكبه عوام الناس ، ولهذا السبب أطلق الله سبحانه وتعالى تسمية (الآبق) على عبده يونس في هذه الآية ، والتي تعني العبد الهارب.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ ركّاب السفينة كانوا يقولون : هناك شخص عاص بيننا!

وعاقبة الأمر أنّ الباريعزوجل ابتلاه بسجن رهيب ، ثمّ أنقذه منه بعد أن تاب وعاد إلى الله ، وكان منهار القوى مريضا.

ذلك ليعرف الجميع أنّ التواني غير مقبول من أي أحد ، فعظمة مرتبة أنبياء وأولياء الله إنّما يحصلون عليها من طاعتهم الخالصة لأوامر الله سبحانه وتعالى ، وإلّا فالله لا تربطه صلة قربى مع أي أحد ، وإنّ الموقف الحازم الذي اتّخذه الله تجاه عبده يونس يوضّح عظمة مرتبة هذا النّبي الكبير.

ب ـ أحداث هذه القصّة (وخاصّة ما ورد في الآية (٨٧) من سورة الأنبياء) كشفت عن سبيل نجاة المؤمنين من الغمّ والحزن والابتلاءات والمشاكل ، وهو نفس السبيل الذي انتهجه يونس ، وهو اعترافه بخطئه أمام الله وتسبيحه الله وتنزيهه والعودة إليه.

ج ـ هذه القصّة توضّح كيف أنّ قوما مذنبين مستحقّين للعذاب يستطيعون في آخر اللحظات تغيير مسيرتهم التأريخية ، بعودتهم إلى أحضان الرحمة الإلهيّة ، وإنقاذ أنفسهم من العذاب ، وهذا مشروط بالصحوة من غفلتهم قبل فوات الأوان ،

٤١٠

وانتخاب شخص «عالم» قائدا لهم.

د ـ هذه الحادثة تبيّن أنّ الإيمان بالله والتوبة من الذنوب علاوة على أنّها تتسبّب في نزول الآثار والبركات المعنوية ، فهي توجد النعم والهبات الدنيوية وتجعلها في إختيار الإنسان ، وتوجد حالة من العمران والبناء ، وتطيل الأعمار ، ونظير هذا المعنى ورد أيضا في قصّة نوحعليه‌السلام والذي سنقرأ شرحه بعون الله في تفسير سورة نوح.

ه ـ أخيرا فإنّ مجريات هذه القصّة تستعرض قدرة الباريعزوجل العظيمة التي لا يقف أمامها شيء ولا يصعب عليها شيء ، إلى درجة تستطيع حفظ حياة إنسان في فم وجوف حيوان كبير وحشي ، وإخراجه سالما من هناك ، هذا الأمر يبيّن أنّ كلّ ما هو موجود في هذا الكون هو أداة بيده تعالى ومسخّر لأوامره.

٤ ـ الجواب على سؤال :

هنا يطرح هذا السؤال : عند بيان قصص الأقوام الاخرى في القرآن المجيد ، نلاحظ أنّه عند نزول العذاب عليهم (عذاب الاستئصال الذي كان ينال كلّ الأقوام الطاغية والمتجبّرة) لا تكون التوبة مقبولة والإنابة مؤثّرة ، فكيف استثني قوم يونس من هذا الأمر؟

هناك إجابتان على هذا السؤال :

الأولى : هي أنّ العذاب لم يكن قد نزل بهم ، لأنّهم بمجرّد أن شاهدوا دلائل بسيطة تنذر بالعذاب ، استغلّوا هذه الفرصة وآمنوا بالله وتابوا إليه قبل حلول البلاء.

الثانية : أنّ عذابهم لم يكن لإهلاكهم ، وإنّما كان بمثابة تنبيه وتأديب لهم قبل نزول العذاب المهلك ، وهو الأسلوب الذي كان يتّبع مع الأقوام السابقة ، أي تظهر لهم بعض دلائل العذاب كآخر فرصة لهم ، فإن آمنوا كفّ الله عنهم العذاب ، وإن بقوا على طغيانهم أنزل الله العذاب عليهم ليهلكهم عن آخرهم ، كما عذّب قوم فرعون بمختلف أنواع العذاب قبل أن يغرقهم الله في البحر.

٤١١

٥ ـ القرعة ومشروعيتها في الإسلام :

وردت أحاديث متعدّدة بشأن القرعة ومشروعيتها في الإسلام ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام «أي قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى الله ، أليس اللهعزوجل يقول :( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) (١) .

وهذا إشارة إلى أنّ القرعة هي طريق الحلّ الصحيح في حالة استعصاء أمر ما وعدم وجود طريق آخر لحلّه ، وتفويض الأمر لله كما جاء في قصّة يونس حيث انطبقت تماما مع الواقع.

وهذا المعنى ورد بصراحة في حديث لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فيه : «ليس من قوم تنازعوا (تقارعوا) ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج لهم المحقّ»(٢) .

ومن يريد الاطلاع أكثر على هذه المسألة فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة (للمؤلّف).

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٣٧ الحديث ٦.

(٢) (الوسائل) كتاب القضاء ، المجلّد ١٨ ، باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة في أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى (الباب ١٣) الحديث (٥).

٤١٢

الآيات

( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) )

التّفسير

التهم القبيحة :

بعد استعراض ستّ قصص من قصص الأنبياء السابقين ، واستخلاص الدروس التربوية منها ، يغيّر القرآن موضوع الحديث ، ويتناول موضوعا آخر يرتبط بمشركي مكّة آنذاك ، ويستعرض لنا أنماطا مختلفة من شركهم ويحاكمهم بشدّة ، ثمّ يدحض بالأدلّة القاطعة أفكارهم الخرافية.

٤١٣

والقضيّة هي أنّ مجموعة من المشركين العرب وبسبب جهلهم وسطحيّة تفكيرهم كانوا يقيسون اللهعزوجل بأنفسهم ، ويقولون : إنّ للهعزوجل أولادا ، وأحيانا يقولون : إنّ له زوجة.

قبائل (جهينة) و (سليم) و (خزاعة) و (بني مليح) كانوا يعتقدون أنّ الملائكة هي بنات اللهعزوجل ، ومجموعة اخرى من المشركين كانت تعتقد أنّ (الجنّ) هم أولاد اللهعزوجل ، فيما قال البعض الآخر : إنّ (الجنّ) هم زوجات اللهعزوجل .

الأوهام الخرافية هذه ، كانت السبب الرئيسي لانحرافهم عن طريق الحقّ بصورة زالت معها كلّ آثار التوحيد والإعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى من قلوبهم.

وقد ورد في أحد الأحاديث أنّ النمل يتصوّر أنّ لخالقه قرنين إثنين مثلما هي تمتلك.

نعم ، العقل الناقص للإنسان يدفعه إلى المقارنة ، المقارنة بين الخالق والمخلوق ، وهذه المقارنة من أسوأ الأسباب التي تؤدّي بالإنسان إلى الضلال عن معرفة الله.

على أيّة حال ، فالقرآن الكريم يردّ على الذين يتصوّرون أنّ الملائكة هي بنات الله بثلاث طرق ، أحدها تجريبي ، والآخر عقلي ، والثالث نقلي ، وفي البداية يقول ، اسألهم هل أنّ الله تعالى خصّ نفسه بالبنات ، وخصّهم بالبنين ،( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ) .

وكيف تنسبون ما لا تقبلون به لأنفسكم إلى الله ، حيث أنّهم طبق عقائدهم الباطلة كانوا يكرهون البنات بشدّة ويحبّون الأولاد كثيرا ، فالأولاد كان لهم دورا مؤثّرا خلال الحرب والإغارة على بقيّة القبائل ، في حين أنّ البنات عاجزات عن تقديم مثل هذه المساعدة.

ومن دون أي شكّ فإنّ الولد والبنت من حيث وجهة النظر الإنسانية ، ومن حيث التقييم عند الله سبحانه وتعالى متساوون ، وميزان شخصيتهم هو التقوى

٤١٤

والطهارة ، واستدلال القرآن هنا إنّما يأتي من باب (ذكر مسلّمات الخصم) ومن ثمّ ردّها عليه. وشبيه هذا المعنى ورد في سور اخرى من سور القرآن ، ومنها ما جاء في الآية (٢١ و ٢٢) من سورة النجم( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) !.

ثمّ ينتقل الحديث إلى عرض دليل حسّي على المسألة هذه ، وبشكل استفهام استنكاري ، قال تعالى :( أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ) .

ومن دون أي شكّ فإنّ جوابهم في هذا المجال سلبي ، إذ لم يستطع أحدا منهم الادّعاء بأنّه كان موجودا أثناء خلق الملائكة.

مرّة اخرى يطرح القرآن الدليل العقلي المقتبس من مسلّماتهم الذهنية ويقول :( أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ) .

هل تدركون ما تقولون وكيف تحكمون :( ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ؟

ألم يحن الوقت الذي تتركون فيه هذه الخرافات والأوهام القبيحة والتافهة؟

( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ؟

إذن أنّ هذا الكلام باطل من الأساس بحيث لو أنّ أي إنسان له ذرّة من عقل ودراية ، ويتفكّر في الأمر جيّدا ، لأدرك بطلان هذه المزاعم.

بعد إثبات بطلان ادّعاءاتهم الخرافية بدليل تجريبي وآخر عقلي ، ننتقل إلى الدليل الثالث وهو الدليل النقلي ، حيث يقول القرآن الكريم مخاطبا إيّاهم : لو كان ما تزعمونه صحيحا لذكرته الكتب السابقة ، فهل يوجد لديكم دليل واضح عليه ،( أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ) .

وإذا كنتم صادقين في قولكم فأتوا بذلك الكتاب( فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

هذا الادّعاء في أي كتاب موجود؟ وفي أي وحي مذكور؟ وعلى أي رسول نزل؟

٤١٥

هذا القول يشبه بقيّة الأقوال التي يخاطب بها القرآن عبدة الأصنام( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) .

كلّا ، إنّها لم ترد في الكتب السماوية ، بل انّها خرافات انتقلت من جيل إلى جيل ومن جهلة إلى آخرين ، وإنّها دعاوي مرفوضة ولا أساس لها ، كما أشير إليها في نهاية الآيات المذكورة أعلاه( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) .

الآية اللاحقة تطرّقت إلى خرافة اخرى من خرافات مشركي العرب ، والّتي تزعم بوجود نسبة بين اللهعزوجل والجنّ ، فالآية هنا لا تخاطبهم بصورة مباشرة وإنّما تخاطبهم بضمير الغائب ، لأنّهم أناس تافهون ، ولا تتوفّر فيهم الكفاءة واللياقة للردّ على زعمهم( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ) .

فما هي النسبة الموجودة بين الله والجنّ؟

وردت عدّة تفاسير مختلفة لهذا السؤال ، منها :

قال البعض : إنّهم كانوا ثنويين ، ويعتقدون (نعوذ بالله) أنّ الله والشيطان إخوة ، الله خالق المحبّة ، والشيطان خالق الشرور.

وهذا التّفسير مستبعد ، لأنّ المذهب الثنوي لم يكن معروفا عند العرب ، بل كان منتشرا في إيران خلال عهد الساسانيين.

واعتبر البعض الآخر الجنّ هم نفس الملائكة ، لأنّ الجنّ موجودات لا تدركها الأبصار ، والملائكة كذلك ، ولذلك أطلقوا كلمة «الجنّ» عليها. إذا ، فالمراد من النسبة هي النسبة التي كان يدّعيها عرب الجاهلية من أنّ الملائكة بنات الله.

ويرد على هذا التّفسير أنّ ظاهر آيات بحثنا انّها تبحث في موضوعين ، إضافة إلى أنّ إطلاق كلمة (الجنّ) على الملائكة غير وارد وخاصّة في القرآن الكريم.

وهناك تفسير ثالث يقول : إنّهم كانوا يعتبرون (الجنّ) زوجات الله ، فيما

٤١٦

يعتبرون الملائكة بناته.

وهذا التّفسير مستبعد أيضا ، لأنّ إطلاق كلمة «نسب» على الزوجة غير وارد.

والتّفسير الذي يعدّ أنسب من الجميع ، هو أنّ المراد من كلمة (نسب) كلّ أشكال الرابطة والعلاقة ، حتّى ولو لم يكن هناك أي صلة للقرابة فيها ، وكما نعلم فإنّ مجموعة من المشركين العرب كانوا يعبدون الجنّ ويزعمون أنّها شركاء لله ، ولهذا كانوا يقولون بوجود علاقة بينها وبين الله.

على أيّة حال ، فالقرآن المجيد ينفي هذه المعتقدات الخرافية بشدّة ، ويقول : إنّ الجنّ الذين كان المشركون يعبدونها ويقولون بوجود نسبة بينها وبين الله ، يعلمون جيّدا أنّ المشركين سيحضرون في محكمة العدل الإلهي وسيحاسبون ويجزون( وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) .

والبعض الآخر احتمل أن يكون تفسير الآية بالشكل التالي : إنّ الجنّ الذين يغوون الناس يعلمون أنّهم يوم القيامة سيحضرون في محكمة العدل الإلهي ليحاسبوا وينالوا جزاءهم.

ولكن التّفسير الأوّل يعدّ أنسب(١) .

ونزّه الله تعالى نفسه عمّا قاله أولئك الضالّون في صفاته تعالى ، قائلا :( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) . واستثنى وصف عباده المخلصين (الذين وصفوه عن علم ومعرفة ودراية) حيث وصفوه بما يليق بذاته المقدّسة ، قال تعالى :( إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) .

وبهذا الشكل فإنّ من النادر أن نسمع أناسا عاديين يصفون الله سبحانه وتعالى وصفا لائقا ، كما يصفه عباده المخلصون ، العباد الخالصون من كلّ أشكال الشرك وهوى النفس والجهل والضلال ، والذين لا يصفون الباريعزوجل إلّا بما سمح

__________________

(١) الضمير (هم) يعود في الحالة الاولى على المشركين ، وفي الحالة الثانية على (الجنّ).

٤١٧

لهم به(١) .

وحول عبارة( عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) فقد كان لنا بحث في نهاية الآية (١٢٨) من هذه السورة.

نعم ، فلمعرفة الله لا ينبغي اتّباع الخرافات الواردة عن أقوام الجاهلية التي يخجل الإنسان من ذكرها ، بل يجب اتّباع العباد المخلصين الذين يتحدّثون بأحاديث تجعل روح الإنسان محلّقة في عنان السماء ، وتذيبها في أنوار الوحدانية ، وتطهّر القلب من كلّ شائبة شرك ، وتمحو كلّ تجسيم وتشبيه لله من ذهن الإنسان.

ينبغي لنا مراجعة كلمات الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأدعية الإمام زين العابدينعليه‌السلام في صحيفته ، كي نستنير بضياء وصفهم له جلّ وعلا.

فأمير المؤمنينعليه‌السلام ، يقول في إحدى كلماته : «لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود ، على إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقوله المشبهون والجاحدون له علوّا كبيرا»(٢) .

وفي مكان آخر يصف اللهعزوجل بالقول : «لا تناله الأوهام فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواس فتحسّه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه ، ولا يتغيّر بحال ، ولا يتبدّل في الأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيّام ، ولا يغيّره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والأبعاض ، ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع

__________________

(١) وفقا لهذا التّفسير ، فإنّ عبارة (إلّا عباد الله) استثناء منقطع من ضمير (يصفون) ، والبعض قال : إنّه استثناء منقطع من ضمير (محضرون) كما ذكروا آراء مختلفة اخرى ، ولكن الرأي الأوّل أنسب. وعلى كلّ حال فهو استثناء منقطع.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٩.

٤١٨

ولا غاية»(١) .

وفي مكان ثالث يقول : «ومن قال فيم؟ فقد ضمنه ، ومن قال علام؟ فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة»(٢) .

أمّا الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، فقد قال في صحيفته السجّادية : «الحمد لله الأوّل بلا أوّل كان قبله ، والآخر بلا آخر يكون بعده ، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين وعجزت عن نعته أوهام الواصفين»(٣) .

نعم ، فلمعرفة الله جيّدا علينا مراجعة نهج هؤلاء (عباد الله المخلصين) ودراسة علوم معرفة الله في مدارسهم.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨٦.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١.

(٣) الدعاء الأوّل في الصحيفة السجّادية.

٤١٩

الآيات

( فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) )

التّفسير

الادّعاءات الكاذبة :

الآيات السابقة تحدّثت عن الآلهة المختلفة التي كان المشركون يعبدونها ، أمّا الآيات ـ التي هي مورد بحثنا الآن ـ فتتابع ذلك الموضوع ، حيث توضّح في كلّ بضع آيات موضوعا يتعلّق بهذا الأمر.

بداية البحث تؤكّد الآيات على أنّ وساوس عبدة الأصنام لا تؤثّر على الطاهرين والمحسنين ، وإنّما ـ قلوبكم المريضة وأرواحكم الخبيثة هي التي تستسلم لتلك الوساوس ، قال تعالى :( فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ) .

نعم ، أنتم وما تعبدون لا تستطيعون خداع أحد بوسائل الفتنة والفساد عن

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581