الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175402 / تحميل: 6517
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

وزيادة أو نقص العمر سواء بلحاظ القدرة أو بلحاظ العلم والحسابات كلّها بالنسبة إليه تعالى سهلة وبسيطة. وذلك بمجموعه يمثّل جانبا من «آيات الأنفس» التي تربطنا ببداية عالم الوجود والتعرّف عليه من جهة ، كما تعتبر أدلّة حيّة على مسألة إمكانية المعاد من جهة اخرى.

فهل أنّ القادر على الخلق الأوّل من التراب والنطفة غير قادر على إعادة الحياة للناس مرّة اخرى!؟

وهل أنّ العالم بكلّ دقائق وتفاصيل الأمور المرتبطة بتلك القوانين ، يواجه مشكلة في حفظ أعمال العباد ليوم المعاد.

تشير الآية التالية ـ التي تعتبر قسما آخر من آيات الآفاق الدالّة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى ـ إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها ، فتقول الآية الكريمة :( وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ) (١) .

فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من السماء إلى الأرض ، وأنّ كليهما من أصل واحد ، إلّا أنّهما يظهران على هيئتين متفاوتين تماما بشكل كامل وبفوائد متفاوتة أيضا.

والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كلّ منهما :( وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والانتقال( وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

تأمّل الأمور التالية :

١ ـ «فرات» : على ما ذكر في لسان العرب هو الماء العذب جدّا.

__________________

(١) «عذب» كما يذكر الراغب في مفرداته بمعنى «الماء النقي البارد» وفي لسان العرب بمعنى : «الماء الطيّب» ، ويمكن أن يكون النقي والبارد داخلان في مفهوم «الطيّب».

٤١

«سائغ» : الماء الذي يستمرأ بسهولة لعذوبته ، على عكس الماء المالح ـ أو الأجاج ـ وهو الماء المرّ الذي يمجّه الإنسان.

٢ ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ هذه الآية مثال للفرق بين المؤمن والكافر ، ولكن الآيات السابقة واللاحقة لها ، والتي تتحدّث عن الخلقة ، وحتّى نفس هذه الآية ، شاهدة على حقيقة أنّ هذه الجملة أيضا تبحث في أسرار التوحيد ، وتشير إلى تنوّع المياه وآثارها المتفاوتة وفوائدها المشتركة.

٣ ـ ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي : المواد الغذائية ، ووسائل الزينة ، ومسألة الحمل والنقل.

ونعلم بأنّ البحر يشكّل منبعا مهمّا من المنابع الغذائية للبشر ، وكلّ عام يستخرج منه ملايين الأطنان من اللحوم الطازجة ، بدون أن يتحمّل الإنسان في سبيل ذلك تعبا أو مشقّة ، فإنّ نظام التوازن في الطبيعة يشتمل على برنامج دقيق محسوب بحيث يستطيع الناس الإفادة من تلك المائدة الإلهيّة بدون اعتراض وبأقل زحمة ومشقّة.

كذلك يستخرج من البحار أيضا وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ ـ والمرجان ـ والصدف ـ والدرّ) ، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيدا عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس ، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء ، وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة.

وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم أسس التمدّن الإنساني والحياة الاجتماعية ، فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها ، فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات

٤٢

بهذا الخصوص. إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار ، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر ، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الاخرى ، وعلى سبيل المثال فإنّ سفينة واحدة تستطيع حمل عشرات الآلاف من السيارات على ظهرها(١) .

٤ ـ بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالأمور التي ذكرت أعلاه ، والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة ، فهناك مسألة تكون الغيوم ، الأدوية النفط ، الألبسة ، الأسمدة للأراضي البور ، التأثير في إيجاد الرياح إلى غير ذلك من بركات البحار الاخرى.

٥ ـ تأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحما طريّا» إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك.

٦ ـ هنا يثار سؤال وهو أنّ البحار المالحة تملأ الكرة الأرضية في انتشارها ، فأين تقع بحور الماء العذب؟

وللإجابة يجب القول أنّ بحر وبحيرات الماء العذب أيضا ليست قليلة في الكرة الأرضية مثل بحيرات الماء العذب في الولايات المتحدة وغيرها ، إضافة إلى أنّ الأنهر الكبيرة تسمّى بحارا أيضا في بعض الأحيان ، فقد ورد استعمال كلمة «البحر» لـ (نهر النيل) في قصّة موسى ، كما في سورة البقرة ـ الآية ٥٠ والشعراء ـ ٦٣ والأعراف ـ ١٣٨).

كذلك فإنّه يمكن اعتبار مصبّات الأنهار في البحار والمحيطات عبارة عن بحيرات عذبة ، لأنّ مياه الأنهار عند انصبابها في المحيط تدفع مياه البحار وتبقى غير قابلة للاختلاط لمدّة قصيرة.

__________________

(١) لقد صنعت حاليا سفن حمولتها خمسمائة الف طنّ لنقل النفط ، ولا يمكن لأيّة وسيلة اخرى غير السفينة أن تنقل هذا المقدار الضخم من النفط ، كما أنّه لا يمكن لأي طريق أن يحمل مثل هذه الناقلة ، كما أنّ قدرة السفن في السابق كانت أكثر من قدرة الحيوانات.

٤٣

٧ ـ جملة( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) لها معنى واسع وشامل لكلّ فعّالية اقتصادية تعتمد على البحر.

* * *

بحث

العوامل المعنوية المؤثّرة في طول العمر

قام المفسّرون ببحوث مختلفة بما يتناسب مع البحث الوارد في هذه الآيات حول إطالة وإقصار العمر بأمر الله ، وذلك بما يتوافق مع الروايات الواردة في هذا الخصوص.

طبيعي أنّ هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثّر على طول أو قصر العمر ، والتي أصبح أكثرها معروفا عند الناس ، كالتغذية الصحيحة بعيدا عن الإفراط والتفريط ، العمل وإدامة الحركة ، تحاشي المواد المخدّرة ، والإدمانات الخطرة والمشروبات الكحولية ، الابتعاد عن المهيّجات المستمرة ، التمسّك بإيمان قوي يساعد الإنسان على العيش باطمئنان وهدوء في الملمّات ، ويعطيه القدرة على مواجهة ذلك.

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ هناك عوامل اخرى غير واضحة الارتباط ظاهرا بقضيّة طول العمر ، ولكن الروايات أكّدت عليها ، وكنموذج نورد الروايات التالية :

أ ـ عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار»(١) .

ب ـ وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من سرّه أن يبسط في رزقه وينسئ له في أجله فليصل رحمه»(٢) .

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، مجلّد ٤ ، صفحة ٣٥٤ و ٣٥٥.

(٢) المصدر السابق.

٤٤

ج ـ وفيما يخصّ بعض المعاصي مثل الزنا وأثرها في تقصير عمر الإنسان نقرأ في الرواية المشهورة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معشر المسلمين إيّاكم والزنا فإنّ فيه ستّ خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ، أمّا التي في الدنيا فإنّه يذهب بالبهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر»(١) .

د ـ عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «البر وصدقة السرّ ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ، ويدفعان عن سبعين ميتة سوء»(٢) .

كذلك فقد وردت الإشارة إلى المعاصي والذنوب الاخرى كالظلم ، بل مطلق المعاصي.

بعض المفسّرين الذين لم يتمكّنوا من التفريق بين «الأجل المحتوم» و «الأجل المعلّق» اعترضوا على مثل هذه الأحاديث واعتقدوا بأنّها مخالفة لنصّ القرآن وأنّ عمر الإنسان له حدّ ثابت لا يتغيّر.

توضيح المسألة : ـ لا شكّ أن للإنسان أجلا محتوما وأجلا معلّقا.

الأجل المحتوم الذي هو نهاية استعداد الجسم للبقاء ، وبحلوله ينتهي كلّ شيء بأمر الله.

الأجل المعلّق أو المخروم الذي ينتفي بانتفاء شرائطه ، مثلا إنسان ينتحر فلو أنّه لم يقم بتلك الكبيرة فإنّه سيبقى لسنوات اخرى يواصل حياته. أو أنّه نتيجة تعاطي المشروبات الكحولية والمواد المخدّرة وممارسة الشهوات بدون قيد أو شرط ، يفقد الجسم قدراته في مدّة قصيرة. في حال أنّه بالابتعاد عن هذه الأمور يستطيع أن يعيش لسنوات طويلة اخرى.

هذه امور قابلة للإدراك والتجربة بالنسبة إلى الجميع ، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) سفينة البحار ، المجلّد ٢ ، صفحة ٣٣ ـ مادّة صدقة.

٤٥

كذلك فإنّه فيما يخصّ الأقدار فإنّ هناك أمورا ترتبط بالأجل المخروم ، وهي أيضا غير قابلة للإنكار.

وعليه فإذا ورد في الروايات أنّ الإنفاق في سبيل الله أو صلة الرحم تطيل العمر وتدفع أنواعا من البلاء ، فهي في الحقيقة تقصد هذه العوامل.

وإذا لم نفصل بين الأجل المخروم والأجل المحتوم لا يمكننا إدراك كثير من الأمور المتعلّقة بالقضاء والقدر ، وتأثير الجهاد والسعي والعمل الدائب في الحياة ، وسوف تبقى هذه الأمور غير قابلة للحلّ.

هذا البحث يمكن توضيحه بمثال واحد بسيط وهو الآتي :

لو اشترى أحدهم سيارة جديدة بحيث يتوقّع من صناعتها أن تدوم عشرين عاما ، بشرط المحافظة عليها وصيانتها ، وفي هذه الحالة فإنّ الأجل الحتمي لهذه السيارة هو عشرون عاما ، ولكن لو لم تتحقّق لها الصيانة المطلوبة وقام صاحبها بتسليمها إلى أشخاص لا مبالين وغير عارفين بقيادة السيارات ، أو أن يحملها فوق طاقتها ، أو أن يقودها بعنف في طرق وعرة يوميا ، فإنّ أجلها المحتوم ذلك يمكن أن يهبط إلى النصف أو العشر ، وذلك هو الأجل المخروم ، ونحن نعجب كيف أنّ بعض المفسّرين لم يلتفتوا إلى هذه القضية الواضحة.

* * *

٤٦

الآيتان

( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) )

التّفسير

الأصنام لا تسمع دعاءكم!!

تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية ، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي ، وليرجع عن أيّ شرك أو عبادة خرافية ، يقول تعالى :( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ) .

«يولج» من مادّة «إيلاج» بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد المعنيين أو كليهما ، أي : الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة. ممّا يؤدّي إلى حصول الفصول المختلفة بكلّ آثارها وبركاتها ، أو

٤٧

الانتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس ، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الانتقال المفاجئ من النور إلى الظلام وبالعكس(١) .

ثمّ يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى :( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) . وأيّ تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر ، وهذا التسخير يعتبر مصدرا لمختلف أنواع البركات في حياة البشر ، فإنّ السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك في حركة دائبة لكي يستطيع الإنسان إدامة حياته ، وليفيق من غفلته فيذكر الواهب الأصلي لهذه المواهب بالنسبة إلى تسخير الشمس والقمر عرضنا شرحا في تفسير الآية الثانية من سورة الرعد والآية ٣٣ من سورة إبراهيم).

ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر ، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد ، فحتّى هذه السيارات العظيمة بكلّ ذلك النور والإشراق ستصيبها العتمة في النهاية. وتتوقّف عن العمل. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول :( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) .

فبمقتضى( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) (٢) ، فإنّها جميعا ستواجه مصير الانطفاء والفناء.

بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لجملة( لِأَجَلٍ مُسَمًّى ) ، وذلك أنّها تعبير عن حركة دوران الشمس والقمر حول محوريهما ، والتي تتمّ في الاولى في عام ، وفي الثانية في شهر واحد(٣) .

ولكن بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في القرآن الكريم ـ بمعنى

__________________

(١) بحثنا موضوع التغيير التدريجي لليل والنهار في تفسير الآية (٢٧) من سورة آل عمران.

(٢) سورة التكوير ، ١ ـ ٢.

(٣) تفسير «روح البيان» و «أبو الفتوح الرازي».

٤٨

انتهاء العمر ـ يتّضح أنّ التّفسير المشار إليه صحيحا ، كما أنّ التّفسير الأوّل أيضا ـ أي نهاية عمر الشمس والقمر ـ ورد في الآيات (٦١ ـ النحل و ٤٥ ـ فاطر ٤٢ ـ الزمر ٤ ـ النور ٦٧ ـ غافر).

ثمّ يقول تعالى مسلّطا الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ) الله الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكلّ بركاتها.( لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (١) .

«قطمير» : على ما يقول الراغب : هو الأثر في ظهر النواة ، وذلك مثل للشيء الطفيف ، ويقول «الطبرسي» في مجمع البيان والقرطبي في تفسيره : هو الغشاء الرقيق الشفّاف الذي يغلف نواة التمر بكاملها. وعلى كلّ حال فهو كناية عن موجودات حقيرة تافهة.

نعم فهذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ، لا تدفع عنكم ولا حتّى عن نفسها ، لا تحكم ولا تملك حتّى غلاف نواة تمر! فإذا كانت حالها كذلك ، فكيف تعبدونها أيّها المغفّلون ، وتريدون منها حلا لمشكلاتكم.

ثمّ تضيف الآية :( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) ، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر ، جمادات لا شعور لها ،( وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ) .

إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعا ولا ضرّا حتّى بمقدار (قطمير) وعلى هذا فكيف تنتظرون منها أن تعمل لكم شيئا أو تحلّ لكم عقدة.

وأدهى من ذلك( وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . ويقولون : اللهم إنّهم لم يعبدوننا ، بل إنّهم عبدوا أهواءهم في الحقيقة.

هذه الشهادة إمّا بلسان الحال الذي يدركه كلّ شخص بآذان وجدانه ، أو أنّ الله في ذلك اليوم يعطي فيه جوارح الإنسان وأعضاءه إمكانية التكلّم فتنطق هذه

__________________

(١) التعبير بـ «الذين» الذي هو عادة لجمع المذكّر العاقل ، ذكرت هنا للأصنام بسبب إعتقاد المشركين الوهمي بهذه الموجودات الجامدة ، وقد ذكره القرآن هكذا ، ثمّ ردّ عليه بشدّة.

٤٩

الأصنام أيضا ، ويشهدن بأنّ هؤلاء المشركين المنحرفين إنّما عبدوا في الحقيقة أوهامهم وشهواتهم.

ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (٢٨) من سورة يونس حيث يقول تعالى :( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) .

احتمل جمع من المفسّرين أنّ أمثال هذه التعبيرات وردت بخصوص معبودات من أمثال الملائكة أو حضرة المسيحعليه‌السلام ، لأنّ الحديث والتكلّم من خصوصية هؤلاء فقط ، وجملة( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) إشارة إلى أنّهم مشغولون بأنفسهم إلى درجة أنّكم لو خاطبتموهم لا يسمعون دعائكم(١) .

ولكن ـ مع الالتفات إلى سعة مفهوم( الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ) ـ يظهر أنّ المقصود هو الأصنام ، وأنّ جملة( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) ترتبط بالدنيا خاصّة. ثمّ يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر : أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك الله تعالى :( وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) .

فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة ، وتتضايق منكم ، فلا تتعجّبوا من هذا القول ، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكلّ ما في هذا الكون بالتفصيل ، فهو المحيط علما بالمستقبل والماضي والحاضر.

* * *

بحث

الدين أصل التحوّلات :

بسبب إحساس العقائد المادية والشيوعية بالخطر من المذاهب السماوية الحقّة ، فهي تدعوها بـ (أفيون الشعوب) أي أنّها عامل تخدير لأفكار الجماهير!!

__________________

(١) ورد هذا التّفسير في مجمع البيان ، وتفسير الآلوسي ، والقرطبي.

٥٠

وقد سعى المستعمرون في الغرب والشرق إلى تلقين مثل هذا الرأي عن طريق علماء الاجتماع وعلماء النفس ، وذلك لتضليل الجماهير وإبعادها عن فطرتها ، والذي دفعهم إلى هذا هو خوفهم وحذرهم من نهضة الشعوب المؤمنة المسلّحة بالأفكار الدينية السماوية ، ومن استقبالها الشهادة في سبيل الله بصدور رحبة! والأنكى من ذلك أنّهم أو عزوا منشأ الدين لجهل البشر بالعوامل الطبيعيّة.

والجواب على مثل الكلام مرّ في محلّه ، ولسنا هنا في معرض سرد الردود جميعا ، ولكن الآيات التي نحن بصددها تدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر ، واعتبرت طريق التفكّر هو الأساس لتطور وتكامل البشرية.

كيف يمكن أن يكون الإسلام داعية لتخدير أفكار الناس ، أو أنّه نشأ بفعل جهل البشر بالعوامل الطبيعيّة ، ويدعو الناس إلى النهضة والتفكّر والعيش بصفاء في محيط بعيد عن الضوضاء والضجيج الإعلامي المسموم ، بعيدا عن التعصّب والعناد؟! هل يمكن اتّهام الدين الذي يدعو الناس لمثل هذه الأفكار بكونه أفيون الشعب ، أو عامل تخدير لها؟!

ويمكن هنا القول : إنّ على الإنسان أن لا يفكّر لوحده وبشكل انفرادي ، بل عليه مشاورة الآخرين وأن تتعاضد آراؤه معهم ، لسماع دعوة الأنبياء الصادقة ، ومطالعة الدلائل والآيات التي جاؤوا بها عند ذلك يمكن للإنسان الإذعان للحقّ.

إنّ الأحداث التي مرّت في عصرنا الحالي سيّما نهضة المسلمين الثوريين في مختلف البلدان الإسلامية بوجه القوى الكبرى وعملائها في الشرق والغرب ، والتي جعلت الدنيا ظلاما دامسا في وجوههم ، وهزّت كياناتهم ، تشير جميعا إلى أنّ الخطر الكبير الذي يتهدّد هذه القوى هو العقائد الدينية الأصلية ، ومن هنا يفهم هدف الاتّهامات الموجّهة ضدّ العقائد الدينية.

وممّا يثير العجب والغرابة أنّ علماء الاجتماع في الغرب قالوا بعدم وجود عالم ما وراء الطبيعة ، واعتبروا الدين ظاهرة من صنع البشر ، كما قالوا بوجود عوامل

٥١

مختلفة لنشوء الدين ، كالعامل الاقتصادي ، وخوف الإنسان ، وعدم اطّلاعه ، والعقد النفسية إلخ!! كما أنّهم غير مستعدّين للتفكّر ولو للحظة واحدة بعالم ما وراء الطبيعة وبالدلائل المدهشة والواضحة لتوحيد الخالق جلّ وعلا ، والعلامات الصريحة لنبوّة الأنبياء كنبيّنا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وغير مستعدّين أيضا للتنصّل عن أحكامهم التي أثبتت فشلها.

لا يمكن أن نماثل بين هؤلاء وبين مشركي عصر الجاهلية بالتعصّب والعناد وعدم الاطّلاع ، نعم ، هؤلاء متعصّبون ومعاندون ولكنّهم مطّلعون ، ولهذا فهم أكثر خطرا وضلالة من مشركي عصر الجاهلية.

وممّا يجدر ذكره أنّ ذيل أكثر الآيات القرآنية يدعو الإنسان إلى التفكّر والتعقّل والتذكّر : فأحيانا تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (النحل ـ ١١ و ٦٩) واخرى تقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الرعد ـ ٣ ، والزمر ـ ٤٢ ، والجاثية ـ ١٣) وثالثة تقول :( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (الحشر ـ ٢١ ، والأعراف ـ ١٧٦) ، وأحيانا تطرح الآيات القرآنية نفس المفهوم وجها لوجه( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) (البقرة ـ ٢١٩ و ٢٦٦).

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من هذا القبيل ، منه الدعوة إلى الفقه ـ أي الفهم ـ والدعوة إلى العقل والتعقّل ، ومدح الناس المتعلّقين ، والندم الشديد لأولئك المتعصّبين ، وقد جاء ذلك في (٤٦) آية من آيات القرآن المجيد ، وقد قال الكثير من العلماء : إنّنا لو أردنا جمع هذه الآيات وتفسيرها لاحتجنا إلى كتاب مستقل.

وفي هذا المجال ذكر القرآن الكريم أنّ أحد صفات أهل النار هو عدم التفكّر والتعقّل كقوله تعالى :( وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ ) ومنه قوله تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) .

* * *

٥٢

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) )

التّفسير

( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى )

بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان ، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول : ما هي حاجة الله لأن يعبد بحيث يصرّ كلّ هذا الإصرار ، ويؤكّد كلّ هذا التأكيد على عبادته وحده؟ لذا فإنّ هذه الآيات توضّح هذه الحقيقة وهي أنّنا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى ، فتقول الآية الكريمة :( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) .

٥٣

فيا له من حديث مهمّ وقيم ذلك الذي يوضّح موقعنا في عالم الوجود من خالق الوجود ، ويكشف الكثير من الغموض ، ويجيب على الكثير من الأسئلة.

نعم ، فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه ، واحد أحد ، وهو الله تعالى ، وكلّ البشر بل كلّ الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع ارتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم ، فكما أنّه غير محتاج مطلقا ، فإنّ البشر يمثّلون الفقر المطلق ، وكما أنّه قائم بذاته ، فالمخلوقات كلّها قائمة به تعالى ، لأنّه وجود لا متناهي من كلّ ناحية ، وواجب الوجود في الذات والصفات.

ومع حال كهذه ، ما حاجته تعالى لعبادتنا؟! فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته ، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي ، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى :( ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) .

وعليه فإنّ البشر محتاجون له لا لسواه ، لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا رؤوسهم لغيره تعالى ، وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلّا منه تبارك اسمه ، لأنّ ما سوى الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه ، وحتّى أنّ تعظيم أنبياء الله وقادة الحقّ إنّما هو لأنّهم رسله تعالى وممثّلوه ، لا لذواتهم مستقلّة.

وعليه فهو «غني» كما أنّه «حميد» أي إنّه في عين استغنائه عن كلّ أحد ، فهو رحيم وعطوف وأهل بكلّ حمد وشكر ، وفي عين انّه أرحم الراحمين ، فهو غير محتاج لأحد مطلقا.

الالتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين ، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب ، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئا من أنفسهم يستقلّون به ، وأنّهم مؤتمنون على كلّ ما في أيديهم من جانب آخر ، لكي لا

٥٤

يمدّوا يد الحاجة إلى غيره ، ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم ، وأن يتحرّروا من كلّ تعلّق آخر ، ويعتمدوا على همّتهم ، وبهذه النظرة الشمولية يرى المؤمنون أنّ كلّ موجود في هذا العالم إنّما هو من أشعّة وجوده تعالى ، وأن لا ينشغلوا عن (مسبّب الأسباب) بالأسباب ذاتها.

جمع من الفلاسفة عدّوا هذه الآية إشارة إلى البرهان المعروف «الإمكان والفقر» أو «الإمكان والوجوب» لإثبات واجب الوجود ، مع أنّ الآية ليست في مقام بيان الاستدلال على إثبات وجود الله ، بل إنّها شرح لصفاته تعالى ، ولكن يمكن اعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية.

شرح برهان الإمكان والوجوب «الفقر والغنى» :

إنّ جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلّها ذات يوم «عدما» ، ثمّ اكتست بلباس الوجود ، أو بتعبير أدقّ : كان يوم لم تكن شيئا فيه ، ثمّ صارت وجودا ، وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّها معلولة في وجودها لوجود آخر ، وليس لها وجود من ذاتها.

ونعلم بأنّ أي وجود معلول ، مرتبط وقائم بعلّته وكلّه احتياج ، وإذا كانت تلك (العلّة) أيضا معلولة لعلّة اخرى

فإنّها بدورها ستكون محتاجة ، ولو تسلسل هذا الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة الفقيرة ، وبديهي أنّ مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبدا ، لأنّ منتهى الاحتياج احتياج ، ومنتهى الفقر فقر ، وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي عدد ، كما أنّه ممّا لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة استقلال.

من هنا نستنتج أنّنا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته ، ومستقل من جميع النواحي ، وهو علّة لا معلول ، وهو واجب الوجود.

هنا يثار السؤال التالي : لماذا تتعرّض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله

٥٥

فقط؟ بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر؟

والجواب : إذا كان الإنسان ـ الذي يعتبر سيّد المخلوقات ـ غارقا في الحاجة والفقر إلى الله ، فإنّ حال بقيّة الموجودات واضحة ، وبتعبير آخر فإنّ بقيّة الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو «إمكان الوجود».

وتخصيص الحديث في الإنسان إنّما هو لأجل كبح جماح غروره ، وإلفات نظره إلى حاجته إلى الله في كلّ حال ، وفي كلّ شيء وكلّ مكان ، ليكون ذلك أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية ، ذلك الالتفات الذي يؤدّي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص والحسد ، ويبعث على التواضع أمام الحقّ.

ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان يقول تعالى في الآية التالية :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

وعليه فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إليكم أو إلى عبادتكم ، وإنّما أنتم الفقراء إليه.

وهذه الآية شبيهة بما ورد في الآية (١٣٣) من سورة الأنعام حيث يقول تعالى :( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) .

فهو تعالى ليس محتاجا لطاعتكم ولا خائفا من معصيتكم ، وفي نفس الوقت فإنّ رحمته الواسعة تشملكم جميعا ، ولا ينقص من عظمته شيئا ذهاب العالم بأسره ، كما أنّ خلق هذا العالم لا يضيف إلى مقام كبريائه شيئا.

وفي الآية الثالثة أيضا يعود التأكيد مرّة ثانية فيقول تعالى :( وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ) نعم ، فإنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، وهذا يصدق على جميع عالم الوجود.

على كلّ حال ، فإنّه تعالى إذا أمركم بالإيمان والطاعة والعبادة فإنّما ذلك

٥٦

لأجلكم أنتم ، وكلّ ما ينشأ عن ذلك من فائدة أو بركة إنّما يعود عليكم.

الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلّق بما سبق بحثه في الآيات السابقة :

الأوّل : من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) سؤالا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط ، إذ أنّ المؤمنين الصالحين موجودون في كلّ عصر وزمان ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضا معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين ، ويحكمون بالفناء على حد سواء؟

هنا يجيب( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

«وزر» بمعنى الثقل ، وقد أخذ من «وزر» (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل ، وأحيانا يأتي بمعنى المسؤولية ويعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل ، والوزير المتحمّل ثقل المسؤولية من أميره ، والموازرة : المعاونة(١) ، لأنّ الشخص عند المعاونة يتحمّل قسطا من الثقل عن رفيقه.

وهذه الجملة تعتبر واحدة من الاسس الهامّة في الإعتقادات الإسلامية ، والحقيقة أنّها ترتبط من جانب بالعدل الإلهي ، بحيث يرتهن كلّ بعمله. وهو تعالى إنّما يثيب الشخص على سعيه واجتهاده في طريق الخير ، ويعاقبه على ذنبه.

ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة ، بحيث لا يكون أحد مستعدّا لتحمّل وزر عمل غيره على عاتقه مهما كان قريبا منه.

والالتفات إلى هذا المعنى له الأثر الفعّال في البناء الروحي للإنسان ، حيث يكون مراقبا لنفسه ، ولا يسمح لها بالفساد بحجّة فساد الأقران أو المحيط ، ففساد المحيط لا يمكن اعتباره مسوغا لإفساد النفس ، إذ أنّ كلا يحمل وحده وزر ذنبه.

ومن جانب آخر فإنّه يفهم الناس ويبصرهم بأنّ حساب الله للمجتمع لا يكون

__________________

(١) الراغب في مفرداته كتاب الواو.

٥٧

حسابا جميعا ، بل إنّ كلّ فرد يحاسب بشكل مستقل ، أي إنّ الفرد إذا أدّى ما عليه من تطهير نفسه ، ومحاربة الفساد ، فليس عليه أدنى بأس أو خوف إذا كان العالم بأسره ملوّثين بالكفر والشرك والظلم والمعصية.

وأساسا فلن يكون لأي برنامج تربوي أثر ما لم يولّ اهتماما لهذا الأصل المهمّ (دقّق النظر)!!

هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر ، يقول تعالى :( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) (١) .

في حديث عن ابن عبّاس أو غيره ، أنّ امّا وابنها يأتيان في يوم القيامة وكلّا منهما عليه ذنوب كثيرة ، وتطلب الامّ من ابنها أن يحمل عنها بعض تلك المسؤوليات في قبال تربيتها له وحملها به ، فيقول لها ابتعدي عنّي فأنا أسوأ منك حالا(٢) .

ويبرز هنا السؤال التالي : هل أنّ هذه الآية تنافي ما ورد في الروايات الكثيرة حول السنّة السيّئة والسنّة الحسنة؟ حيث أنّ الروايات تقول : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها ووزر من عمل بها».

ولكنّنا إذا التفتنا إلى نكتة واحدة ، يتّضح الجواب على هذا السؤال ، وهي أنّ عدم تسجيل ذنب أحد على آخر ، إنّما هو في صورة أن لا يكون له سهم في ذلك

__________________

(١) «مثقلة» بمعنى «الحامل لحمل ثقيل» ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه ، و (حمل) : على ما يقوله الراغب : معنى واحد اعتبر في أشياء كثيرة ، فسوّي بين لفظة في فعل وفرّق بين كثير منها في مصادرها ، فقيل في الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر (حمل) ، وفي الأثقال المحمولة في الباطن (حمل) كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تشبيها بحمل المرأة ، ولأنّ ما ورد في هذه الآية ، هو تشبيه للذنب بالحمل المحمول على العاتق ، فيجب أن تقرأ بكسر الحاء.

(٢) مع أنّ الحديث ورد في تفاسير مختلفة حينا عن الفضيل بن عيّاض ، وحينا عن ابن عبّاس ، ولكن يستبعد أن يكون الحديث عنهما مستقلا ، فمن الممكن أن يكون أصل الحديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . راجع تفسير (أبو الفتوح ، والقرطبي ، وروح البيان) وقد أوردناه بالمعنى.

٥٨

العمل ، ولكن إذا كان له سهم في إيجاد سنّة ، أو الإعانة والمساعدة أو الترغيب والتشجيع ، فمن المسلّم أنّه يحسب من عمله ويكون شريكا ومساهما في ذلك العمل.

وأخيرا ، في الجملة الثالثة من الآية ، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط ، تقول الآية الكريمة :( إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ ) .

فإن لم يكن خوف الله متمكّنا من القلب ، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوّة غيبية في السرّ أو العلن ، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير بالله في تقوية ذلك الإحساس فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.

وحين لا يكون الإنسان قد اعتنق عقيدة ما ولم يؤمن ، فلو لم تكن لديه روح البحث عن الحقّ ، وإحساس بالمسؤولية تجاه معرفة الحقيقة ، فلن يصغي لدعوة الأنبياء ، ولن يتفكّر في آيات الله في هذه الدنيا.

وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اخرى إلى حقيقة (إنّ الله غير محتاج لأحد) فتضيف :( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ) .

وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهمّية ما دام المصير إلى الله( وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ) وبالتالي فانّه سيحاسب الجميع على أعمالهم.

* * *

٥٩

الآيات

( وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) )

التّفسير

وما تستوي الظلمات ولا النّور :

تذكر الآيات مورد البحث ـ بما يتناسب مع البحوث التي مرّت حول الإيمان والكفر في الآيات السابقة ـ أربعة أمثلة جميلة للمؤمن والكافر ، توضّح بأجلى شكل آثار الإيمان والكفر.

في المثال الأوّل : شبّه «الكافر والمؤمن» بـ «الأعمى والبصير» حيث تقول الآية الكريمة :( وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) .

الإيمان نور وإشراق ، يعطي البصيرة والمعرفة للإنسان في النظرة إلى العالم ، وفي الإعتقاد ، والعمل وفي كلّ الحياة ، أمّا الكفر فظلمة كالحة ، فلا إعتقاد صحيح ونظرة سليمة عن العالم ، ولا عمل صالح.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

به القوى الغادرة، فلمّا قرأ الرسالة قالعليه‌السلام : (آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر).

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت نفسه أسىً وحسرات(1) .

موقف والي الكوفة:

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى وأموي الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين كان - كما يتصور - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشام، وقد ذكر في خطابه:

(أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال وتُسفَكُ الدماء وتُغْصَبُ الأموال، إنّي لا أُقاتل مَنْ لا يقاتلني، ولا آتي على من لم يأت عليَّ، ولا أُنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما أنّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل)(2) .

____________________

(1) اللهوف: 38، وأعيان الشيعة: 1 / 590، وبحار الأنوار: 44 / 339.

(2) الكامل في التأريخ: 3 / 267.

١٦١

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنَّهُ لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وأنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين، فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله(1) .

أنصار الأمويين يتداركون أُمورهم:

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الأمويين والمعارضين لأهل البيتعليهم‌السلام وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنينعليه‌السلام فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الأمويين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيتعليهم‌السلام والتجسس لصالح الحكم الأموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي، الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل، فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: (أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة و بايعته الشيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلا قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضَعَّفُ)(2) .

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي - ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(3) .

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42، وأنساب الأشراف: 77، والفتوح: 5 / 75، والعوالم للبحراني: 13 / 182.

(2) الإرشاد: 2 / 42، وإعلام الورى: 1 / 237.

(3) المصدر السابق.

١٦٢

قلق يزيد واستشارة السيرجون(1) :

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة، وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الأموي ومبايعتهم للإمام الحسينعليه‌السلام فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية فقال له: ما رأيك؟ - إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟، وكان يزيد عاتباً على عبيد الله ابن زياد(2) ، فقال له السيرجون: أَرأيت لو يشير إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟ قال: بلى. فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة،

____________________

(1) السيرجون غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له. واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة والأمة الإسلامية وقادتها الأمناء عليها.

لقد كان لكل من تميم الداري ( الراهب النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر حيث كان يحترمهما ويستشيرهما ويسمح لهما بالتحدث كل اسبوع قبل صلاة الجمعة فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . ( راجع كنز العمّال الحديث رقم 4865 وتذكرة الحفاظ بترجمة عمر وتاريخ ابن كثير: 8 / 107 ).

وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر وتعاظم في عهد الأمويين واستمر في عهد العباسيين بالرغم من أن الإمام عليّاًعليه‌السلام كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في الساحة الإسلامية وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب حيث تلاحظ أن كاتبه ومستشاره نصراني، وهو (السيرجون) كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال) وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل)، والشام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين 2 / 51 - 53 ).

(2) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد، انظر البداية والنهاية: 8 / 152.

١٦٣

وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن (يعني الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية) إلى عبيد الله، فقال له يزيد: أفعلُ. إبعث بعهد عبيد الله ابن زياد إليه... ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي و كتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه:

(أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتى تثقفه فتُوثِقَه أو تقتله أو تنفيَهُ، والسلام)(1) .

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة:

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة و معه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(2) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسينعليه‌السلام و معظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسينعليه‌السلام .

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه و يتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه وتردِّد: مرحباً بك ياابن رسول الله قدمت خير مقدم(3) .

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة، فاضطرب النعمان

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 42 - 43، وإعلام الورى: 1 / 437، وسير أعلام النبلاء: 3 / 201.

(2) إعلام الورى: 1 / 437.

(3) الإرشاد: 2 / 43، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٤

وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: أنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب...(1) .

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر، حتى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة:

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة وراح يُمنّي المطيع والسائر في ركب السياسة القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد، حتى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(2) .

ثم فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال: (... فمن يجيء لنا بهم فهو بريء، و مَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه، وأيُّما عريف وجد في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه الينا صُلب على باب داره وألغيت

____________________

(1) الإرشاد: 2/43، وروضة الواعظين: 173، ومقتل الحسين للخوارزمي: 198، وتهذيب التهذيب: 2 / 302.

(2) مقاتل الطالبيّين: 97، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٥

تلك العرافة من العطاء)(1) .

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه و خطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم، من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانىء بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه، وهانىء يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع(2) .

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد:

لقد كان مسلم بن عقيل - رضوان الله تعالى عليه - يحمل رسالةً ساميةً وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم ابن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانىء بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك و غاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وأدخل الخزانة حتى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثم صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 45، والفصول المهمة: 197، والفتوح لابن أعثم: 5 / 67.

(2) مروج الذهب: 2 / 89، والأخبار الطوال: 213، وإعلام الورى: 1 / 438.

١٦٦

فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من الناس.

ولمس مسلم كراهية هانىء أن يقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من قتله؟ قال مسلم: منعني منه خلّتان: أحدهما كراهية هانىء لقتله في منزله، والاُخرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّ الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن)(1) .

الغدر بمسلم بن عقيل:

اتّخذ ابن زياد كلّ وسيلة مهما كانت دنيئة للقضاء على الوجود السياسي والتحرّك الذي برز منذراً بالخطر بوجود مسلم بن عقيل على النظام الأموي، وسارع للقضاء على مسلم بن عقيل وكلّ الموالين له قبل وصول الإمام الحسينعليه‌السلام وليتمكّن بذلك من إفشال الثورة، فدبّر خطّةً للتجسّس على تحرّكات مسلم ومكانه والموالين له، واستطاع أن يكتشف مخبأه وأن يعلم بمقرّه(2) فكانت بداية تخاذل الناس عن الصمود في مواجهة الظلم.

لقد استطاع الوالي الجديد عبيد الله بن زياد أن يُحْكِمَ الحيلةَ والخداع ليقبضَ على هانىء بن عروة الذي آوى رسول الحسينعليه‌السلام وأحسن ضيافته واشترك معه في الرأي والتدبير، فقبض عليه وقتله بعد حوار طويل جرى بينهما، وألقى بجثمانه من أعلى القصر إلى الجماهير المحتشدةحوله، فاستولى الخوف والتخاذل على الناس، وذهب كلّ إِنسان إلى بيته

____________________

(1) الأخبار الطوال: 187، ومقاتل الطالبيّين: 98، وإعلام الورى: 1 / 428.

(2) إعلام الورى: 1 / 440، والأخبار الطوال: 178، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 91، والفتوح لابن أعثم: 5 / 69، وتأريخ الطبري: 4 / 271، وأنساب الأشراف: 79.

١٦٧

وكأنّ الأمر لا يعنيه(1) .

ولمّا علم مسلم بما جرى لهانىء ورأى تَخاذُلَ عشيرته مذحج الغنية بعددها وعدَّتِها خرج في أصحابه ونادى مناديه في الناس وسار بهم لمحاصرة القصر، واشتد الحصار على ابن زياد وضاق به أمرُه، ولكنّه استطاع بدهائه ومكره أن يتغلّب على المحنة ويُخذِّلَ الناسَ عن مسلم(2) .

لقد دسّ ابن زياد في أوساط الناس أشخاصاً يُخَذِّلونهم ويتظاهرون بالدعوة إلى حفظ الأمن والاستقرار وعدم إراقة الدماء، ويحذّرون من قدوم جيش جرّار من الشام بهدف كسب الوقت وتفتيت قوى الثوار. واستمرّ الموقف كذلك والناس تنصرف وتتفرّق عن مسلم. وبدخول الليل صلّى بمن بقي معه وخرج من المسجد الجامع وحيداً لا ناصر له ولا مؤازر ولا مَنْ يَدُ لُّه على الطريق، وأقفل الناس أبوابهم في وجهه، فمضى يبحث عن دار يأوي إليها في ليلته تلك، وفيما هو يسير في ظلمة الليل وجد امرأةً على باب دارها وكأنّها تنتظر شيئاً، فعرّفها بنفسه وسألها المبيت عندها إلى الصباح، فرحّبت به وأدخلته بيتها، وعرضت عليه العشاء فأبى أن يأكل شيئاً، وعرف ولدها بمكانه وكان ابن زياد قد أعدّ جائزة لِمَنْ يخبره عنه، وما كاد الصبح يتنفّس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر محمد بن الأشعث بمكان مسلم بن عقيل، و فور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوّة كبيرة من جنده(3) بقيادة ابن الأشعث إلى المكان الذي فيه مسلم، وما أن سمع بالضجّة حتى أدرك أنّ القوم

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 3 / 271، والفتوح لابن اعثم: 5 / 83، وإعلام الورى: 1 / 441.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر، القسم الثاني: 63، وإعلام الورى: 1 / 441، ومناقب آل أبي طالب: 4 / 92، والكامل في التأريخ: 3 / 271.

(3) جاء في (الإرشاد) أنّهم كانوا سبعين رجلا.

١٦٨

يطلبونه فخرج إليهم بسيفه.

وقد اقتحموا عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، مع انّهم تكاثروا عليه بعد أن اُثخن بالجراح فطعنه رجل من خلفه فخرّ إلى الأرض فاُخذ أسيراً وحمل على بلغة وانتزع الأشعث سيفه وسلاحه وأخذوه إلى القصر فاُدْخِلَ على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل (رضوان الله عليه) رابط الجأش منطلقاً في بيانه قويّ الحجّة، حتى أعياه أمرُه وانتفخت أوداجه وجعل يشتم عليّاً والحسن والحسين، ثم أمر أجهزته أن يصعَدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه ويرموا جسده إلى الناس ويسحبوه في شوارع الكوفة ثم يصلبوه إلى جانب هانىء بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع لا يحرّكون ساكناً وكأنّهم لا يعرفون من أمره شيئاً.

وكان مسلم قد طلب من ابن الأشعث أن يكتب إلى الحسينعليه‌السلام يخبره بما جرى في الكوفة وينصحه بعدم الشخوص إليهم، فوعده ابن الأشعث بذلك، ولكنّه لم يفِ بوعده(1) .

____________________

(1) يراجع في تفصيلاته إلى: أعيان الشيعة: 1/592، إعلام الورى: 1 / 442، والكامل في التأريخ: 4 / 32، والفتوح: 5 / 88، وتأريخ الطبري: 4 / 280، ومقاتل الطالبيّين: 92.

١٦٩

البحث الخامس: حركة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق

ونترك الكوفة يعبثُ بها ابن زياد ويتتبّع شيعة الإمام الحسينعليه‌السلام ويطاردهم، ونعود إلى مكة لنتابع السير مع ركب الحسينعليه‌السلام حتى الطفّ حيث المأساة الكبرى. قال المؤرّخون: كان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين، وقتلُه يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم عرفة، وكان توجّه الحسين صلوات الله عليه من مكة إلى العراق في يوم خروج مسلم بالكوفة - وهو يوم التروية - بعد مُقامه بمكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوّالاً وذا القعدة وثماني ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين، وكانعليه‌السلام قد اجتمع إليه مدةَ مُقامه بمكة نَفَرٌ من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة انضمّوا إلى أهل بيته ومواليه.

ولمّا أراد الحسينعليه‌السلام التوجّه إلى العراق طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرةً، لأَنّه لم يتمكّن من تمام الحجّ مخافة أن يُقْبَضَ عليه بمكة فيُنْفَذ به إلى يزيد بن معاوية، فخرجعليه‌السلام مبادراً بأهله وولده ومن انضمّ إليه من شيعته، ولم يكن خبر مسلم قد بلغه(1) .

لماذا اختار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق؟

رغم كلّ ما قيل من تحليل ودراسة لوضع المجتمع الكوفي وما ينطوي عليه من إثارة سلبيات يتكهّن بأغلبها المحلّلون من دون جزم فإنّنا نرى أنّ اختيار الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة إلى العراق كان لأسباب منها:

1 - إنّ التكليف الإلهي برفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 67.

١٧٠

المنكر يشمل جميع المسلمين بلا استثناء، إذ أنّنا لا نجد في النصوص التاريخية ما يدلّل على قيام قطر من الأقطار الإسلامية بمحاولة لمواجهة الحكم الأموي سوى العراق الذي وقف ضدّهم منذ أن ظهر الأمويون في الساحة السياسية وحتى سقوطهم.

2 - إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم يعلن دعوته لمواجهة ظلم الأمويين وفسادهم والنهوض لإحياء الرسالة يوم طُلب منه مبايعة يزيد، بل كانت تمتدّ دعوته في العمق الزمني إلى أبعد من ذلك، ولكن لم نرَ نصوصاً تاريخية تدلّل على استجابة شعب من شعوب العالم الإسلامي لنداء الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته غير العراق، فكانت الدعوات الكثيرة والملحّة موجّهة إليه تعلن الولاء والاستعداد لتأييد النهضة ومواجهة الحكم الأموي الفاسد.

3 - لم يكن أمام الحسينعليه‌السلام من خيار لاختيار بلد آخر غير العراق، لأنّ بقية الأقطار إمّا أنها كانت مؤيّدة للأمويين في توجّهاتهم وسياساتهم، أو خاضعة مقهورة، أو أنّها كانت غير متحضّرة وغير مستعدّة للاستجابة للنهضة الحسينيّة. على أنّ كثيراً من شعوب العالم الإسلامي كانت في ذلك الحين إمّا كافرة أو حديثة عهد بالإسلام، أو غير عربية بحيث يصعب التعايش والتعامل معها; ممّا كان سبباً لتضييع ثورة الإمام وجهوده.

4 - كانت الكوفة تضمّ الجماعة الصالحة التي بناها الإمام عليعليه‌السلام والقاعدة الجماهيرية التي تتعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام فأراد الإمام الحسينعليه‌السلام أن لا يضيع دمه وهو مقتول لا محالة، كما أراد أن يعمّق لإيمان في النفوس ويجذّر الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، وكان العراق أخصب أرض تستجيب لذلك، وسرعان ما بدأت الثورات في العراق بعد استشهاد

١٧١

الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأصبح العراق القاعدة العريضة لنشر مبادئ وفضائل أهل البيتعليهم‌السلام إلى العالم الإسلامي في السنين اللاحقة.

5 - إنّ اختيار أيّ بلد غير العراق سيكون له أثره السلبي، إذ يتّخذه أعداء الإسلام وأهل البيتعليهم‌السلام أداة عار وشنار للنيل من مقام الإمام وأهدافه السامية، ويفسّر خروجه إليه على أنّه هروب من المواجهة الحتمية، في الوقت الذي كان يهدف الإمامعليه‌السلام إلى إحياء حركة الرسالة والمُثل الأخلاقية وتأجيج روح المواجهة والتصدّي للظلم والظالمين. وحتى على فرض اختيارهعليه‌السلام بلداً آخر فإنّ سلطة الأمويين ستنال منه وتقضي عليه دون أن يحقّق أهداف رسالته التي جاء من أجلها.

6 - لمّا كان العراق يصارع الأمويين كانت أجواؤه مهيّئة لنشر الإعلام الثوري لنهضة الحسينعليه‌السلام وأفكاره، ومن ثمّ فضح بني أُمية وتستّرهم بالشرعية وغطاء الدين، وحتى النزعة العاطفية المزعومة في العراقيّين فقد كانت سبباً في ديمومة وهج الثورة وأفكارها كما نرى ذلك حتّى عصرنا هذا.

ولعلّ هناك أسباباً لا ندركها، لا سيَّما ونحن نرى أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان على بيّنة واطلاع من نتيجة الصراع، وكان على معرفة بالظروف الموضوعية المحيطة بمسيرته وعلى علم بطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي للمجتمع الذي كان يتوجّه إليه من خلال وعيه السياسي الحاذق، والنصائح التي قدّمها إليه عدد من الشخصيات فضلاً عن عصمته عن الزلل والأهواء، كما نعتقد; فلم يكن اختياره العراق منطلقاً لثورته العظيمة، إلاّ عن دراية وتخطيط رغم الجريمة النكراء التي نتجت عن تخاذل الناس وتركهم نصرة إمامهم ولحوق العار بهم في الدنيا والآخرة.

١٧٢

تصريحات الإمامعليه‌السلام عند وداعه مكة:

صدرت عن الإمام الحسينعليه‌السلام عدّة تصريحات عند ما كان يعتزم مغادرة مكة والتوجّه إلى العراق، وكانت بعض هذه التصريحات تمثّل أجوبتهعليه‌السلام على من أشفق عليه أو مَنْ ندّد بخروجه، وقد تمثّل خطابه للناس بصورة عامة، فنذكرُ منها هنا:

1 - روى عبد الله بن عباس عن الإمام الحسين بشأن حركته نحو العراق قولهعليه‌السلام : (والله لا يَدَعُونَنِي حتى يستخرجوا هذه العَلْقَةَ من جوفي، فإذا فعلوا سُلِّط عليهم مَنْ يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من فَرْم المرأة)(1) .

2 - كان محمد بن الحنفية في يثرب فلمّا علم بعزم الإمامعليه‌السلام على الخروج إلى العراق توجّه إلى مكة، وقد وصل إليها في الليلة التي أرادعليه‌السلام الخروج في صبيحتها إلى العراق، وقصده فور وصوله فبادره قائلا: (يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، ويساورني خوف أن يكون حالك حال من مضى، فإن أردت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من بالحرم وأمنعهم).

فأجابه الإمامعليه‌السلام : (خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية، فأكون الذي تستباح به حرمةُ هذا البيت)، فقال محمد: (فإنْ خفت ذلك فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ فإنّك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد)، قال الحسينعليه‌السلام : (أنظر فيما قلت).

ولمّا كان وقت السَحَر بلغه شخوصُه إلى العراق وكان يتوضّأ فبكى،

____________________

(1) الكامل في التأريخ: 4 / 39.

١٧٣

وأسرع محمد إلى أخيه فأخذ بزمام ناقته وقال له: (يا أخي، ألم تعدني فيما سألتك؟) قال الإمامعليه‌السلام : (بلى ولكنّي أتاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ما فارَقْتُك وقال لي: يا حسين، اُخرج فإنّ الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد: فما معنى حملِ هؤلاء النساء والأطفال، وأنت خارج على مثل هذا الحال؟ فأجابه الإمامعليه‌السلام : (قد شاء الله أن يراهن سبايا)(1) .

ولم يكن اصطحاب الحسينعليه‌السلام لعيالاته حالة غريبة على المجتمع العربي والإسلامي، فقد كان العرب يصطحبون نساءَهم في الحروب وكذا فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزواته فقد كان يقرع بين نسائه، أمّا بالنسبة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام فإنّ اصطحابه لعائلته في حركته إنّما كان لأجل أن يكون وجودها معه بمثابة حجّة قوية على المسلمين لنصرته، فمن تولّى الحسينعليه‌السلام ويسعى لنصرته والدفاع عنه فأولى له أن يدافع عنه وهو بين أهله. وإن اختلف مع الحسينعليه‌السلام فما ذنب عيالاته وهنّ بنات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة أنّ الخلاف بزعم الأمويين إنّما هو لأجل الخلافة.

3 - ذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا أراد الخروج من مكة ألقى خطاباً فيها، جاء فيه: (خُطَّ الْمَوْتُ على وُلْدِ آدم مَخَطّ الْقِلادة على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اِشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسْلانُ الفلواتِ بينَ النواويس وكربلاء، فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سُغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللهعليهم‌السلام لُحْمَتُه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تَقِرُّ بهم عينُه، ويُنْجَزُ بهم وعدُه، مَنْ كان باذلا فينا مهجتَه وموطِّناً على لقاء الله نَفْسَه فَلْيَرْحَلْ معنا،

____________________

(1) اللهوف على قتلى الطفوف: 27، وأعيان الشيعة: 1 / 592، وبحار الأنوار: 44 / 364.

١٧٤

فإنّي راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى)(1) .

يُبَيِّنُ الإمام الحسينعليه‌السلام في هذه التصريحات أنّه مصمّم على عدم مبايعة يزيد; قياماً بتكليفه الإلهي، موضحاً سبب خروجِه من مكة، مخبراً عن المصير الذي ينتظره وأهل بيته جميعاً، داعياً إلى الالتحاق به من كان مُوَطِّناً على لقاء الله نفسه، معلِناً أنّ الله تعالى قرن رضاه برضا أهلِ البيتعليهم‌السلام .

خلاصة الثورة في رسالة:

بوعي القائد الرسالي والفدائي العظيم والثائر من أجل العقيدة صمّم الإمام الحسينعليه‌السلام بحنكة ودراية المسير من مكة إلى العراق، بعد أن أوضح جانباً كبيراً من أهدافه وأسباب نهضته، وقد تطايرت أخباره إلى أرجاء العالم الإسلامي.

وكتب الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب رسالةً يدعوهم فيها إلى الفرصة الأخيرة لنصرة الإسلام والمبادئ والقيم الإلهية والتألّق في سماء التضحية في الدنيا، وخلود الذكر الطيّب والبقاء عنواناً للحقّ والعدل والإباء والفوز في أعلى درجات الجنّة في الآخرة، فقد جاء فيها بعد البسملة:

(من الحسين بن عليّ إلى أخيه محمد ومن قبله من بني هاشم: أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام)(2) .

ولمّا وردت رسالة الإمامعليه‌السلام إلى بني هاشم في يثرب، بادرت طائفة منهم إلى الالتحاق به ليفوزوا بالفتح والشهادة بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

____________________

(1) إحقاق الحق: 11 / 598، وكشف الغمة: 2 / 20.

(2) مناقب آل أبي طالب: 4 / 76، وبصائر الدرجات: 481، ودلائل الإمامة: 77.

(3) راجع تأريخ ابن عساكر: ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام .

١٧٥

ملاحقة السلطة للإمامعليه‌السلام :

ولم يبعُد الإمامعليه‌السلام كثيراً عن مكة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكة عمرو بن سعيد لصدّ الإمامعليه‌السلام عن السفر، وجرت بينهما مناوشات حتى تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط وامتنع الحسين وأصحابه منهم امتناعاً قوياً(1) .

في التنعيم:

ومضى ركب الإمام الحسينعليه‌السلام لا يلوي على شيء، وفي طريقهم بمنطقة التنعيم(2) صادفوا إبلا قد يَمَّمت وَجْهَها شطرَ الشام وهي تحمل الهدايا ليزيد بن معاوية قادمةً من اليمن، فاستأجر من أهلها جِمالا لرحله وأصحابه وقال لأصحابها: مَنْ أحبّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كِراءه وأحسنّا صحبته، وَمَنْ أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراءه على ما قطع من الطريق، فمضى معه قوم وامتنع آخرون(3) .

في الصفاح:

وواصل الإمام مسيره حتى وصل الصفاح(4) فالتقى الفرزدق الشاعر فسأله عن خبر الناس خلفه فقال الفرزدق: قلوبُهم معك والسيوف مع بني أُمية،

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 68.

(2) التنعيم: موضع بمكة في الحلّ يقع بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، جاء ذلك في معجم البلدان: 2 / 49.

(3) الإرشاد: 2 / 68.

(4) الصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش... جاء ذلك في معجم البلدان: 3 / 412.

١٧٦

والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : صدقت، للهِ الأمر، واللهُ يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا هو في شأن، إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعدَّ مَنْ كان الحقُّ نيّتَه والتقوى سريرَتَهُ(1) .

ثمّ واصل الإمامعليه‌السلام مسيرته بعزم وثبات، ولم يثنه عن عزيمته قول الفرزدق في تخاذل الناس عنه وتجاوبهم مع الأمويين.

كتاب الإمامعليه‌السلام لأهل الكوفة:

ولمّا وافى الإمام الحسينعليه‌السلام الحاجر من بطن ذي الرُّمّة - وهو أحد منازل الحجّ من طريق البادية - كتب كتاباً لشيعته من أهل الكوفة يعلمهم بالقدوم إليهم، ولم يكنعليه‌السلام قد وصله خبر ابن عقيل، هذا نصّه:

(بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين:

سلام عليكم، فإنّي أحْمَدُ إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يُخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع مَلَئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت الله أن يُحسن لنا الصنيع، وأن يُثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شَخَصْتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية،

____________________

(1) مقتل الحسين للمقرّم: 203، البداية والنهاية، ابن كثير: 8/180، صفة مخرج الحسينعليه‌السلام إلى العراق.

١٧٧

فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا(1) في أمركم وجِدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)(2) .

وقد بعثعليه‌السلام الكتاب بيد قيس بن مُسهر الصيداوي.

إجراءات الأمويين:

سرى نبأ مسير الإمامعليه‌السلام نحو الكوفة بين الناس فاضطرب الموقف الأموي، وشعرت السلطات بالخوف والحرج، وتحدّثت الركبان بأنباء الثائر العظيم، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد، فأعدّ رجاله وجنده، ووضع خطّة لقطع الطريق أمام الحسينعليه‌السلام والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي، مكلّفاً إيّاه بتنفيذ المهمّة، فاختار الحصين موقعاً استراتيجياً يسيطر من خلاله على طريق مرور الإمامعليه‌السلام ، فنزل بالقادسية واتّخذها مقرّاً لقيادته.

اعتقال الصيداوي وقتله:

انطلق قيس بن مُسهر الصيداوي برسالة الإمام نحو الكوفة، وحينما وصل القادسية اعتقله الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: إصعد فسبّ الكذّاب الحسين بن عليّ، فصعد قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيّها الناس، إنَّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته في الحاجر فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب وصلّى عليه، فأمر عبيد الله

____________________

(1) انكمشوا: بمعنى أسرعوا.

(2) الإرشاد: 2 / 70، والبداية والنهاية: 8 / 181، وبحار الأنوار: 44 / 369.

١٧٨

أن يُرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع(1) .

وروي: أنّه وقع على الأرض مكتوفاً فتكسّرت عظامه وبقي به رمق، فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعِيبَ عليه، فقال: أردتُ أن أريحه.

مع زهير بن القين:

وانتهت قافلة الإمام إلى (زرود) فأقامعليه‌السلام فيها بعض الوقت، وقد نزل بالقرب منه زهير بن القين البجلي وكان عثمانيّ الهوى، وقد حجّ بيت الله في تلك السنة، وكان يساير الإمام في طريقه ولا يحبّ أن ينزل معه مخافةَ الاجتماع به إلاّ أنّه اضطرّ إلى النزول قريباً منه، فبعث الإمامعليه‌السلام إليه رسولا يدعوه إليه، وكان زهير مع جماعته يتناولون الطعام، فأبلغه الرسول مقالة الحسين فذعر القوم وطرحوا ما في أيديهم من طعام، وكأنَّ على رؤوسهم الطير، فقالت له امرأته: سبحانَ الله! أيبعث إليك ابنُ بنت رسول الله ثم لا تأتيه؟ لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثم انصرفتَ. فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أشرق وجهُه، فأمر بفسطاطه وثقله وراحلته ومتاعه، فقُوِّضَ وحُمِل إلى الحسينعليه‌السلام ثم قال لامرأته: أنتِ طالق، إلحقي بأهلك، فإنّي لا أحب أن يُصيبَكِ بسببي إلاّ خير. وقال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، إنّي سأحدثكم حديثاً: إنّا غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنايم، فقال لنا سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أَفَرِحْتُم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ قلنا: نعم، فقال: إذا أدركتم سيّد شباب آل محمد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معه ممّا أصبتم اليوم من الغنائم. فأمّا

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 71، ومثير الأحزان: 42، والبداية والنهاية: 8 / 181.

١٧٩

أنا فأستودعكم الله. قالوا: ثم - والله - مازال في القوم مع الحسينعليه‌السلام حتى قتل رحمة الله عليه(1) .

أنباء الانتكاسة تتوارد على الإمامعليه‌السلام :

ها هي الكوفة تضطرب وتموج، والانتكاسة الخطيرة قد لاحت ملامحها، وبدأ ميزان القوى يميل لصالح السلطة الأُموية، والوهن بدأ يدبّ والانحلال يسري في أوساط المعارضة، وبدأ الإرهاب والتجسس والرشوة تفعل فعلتها، فتلاشت المعارضة ونكص المبايعون، وقُتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وقيس بن مُسهر الصيداوي، وسُجِنَ المختار بن عبيدة الثقفي، وانقلبت أوضاع الكوفة على أعقابها.

وواصل الإمام الحسينعليه‌السلام المسير، وليس لديه معلومات جديدة عن تطور الأحداث، فأرسل عبد الله بن يقطر إلى مسلم بن عقيل ليستجلي الموقف، إلاّ أنّ الحسين اُخبرَ في الطريق في موضع يدعى (الثعلبية) بانتكاسة الثورة واستشهاد مسلم بن عقيل، أمّا رسوله الثاني هذا إلى مسلم فقد وقع أسيراً أيضاً بيد جنود الحصين فنقل إلى ابن زياد في الكوفة، وكان كرسول الحسينعليه‌السلام السابق مثالا للصلابة والجرأة والإخلاص.

ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده إلى الإمامعليه‌السلام في موضع يدعى (زبالة) وهكذا راحت تتوارد على الإمام أنباء الانتكاسة، ولاحت له بوادر النكوص الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهد، فوقف في أصحابه وأهل بيته يبلغهم بما استجدّ من الحوادث، ويضع أمامهم الحقائق، ليكونوا على بصيرة من الأمر، فقال لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنَّه قد أتانا خبر فظيع

____________________

(1) الإرشاد: 2 / 72 - 73، والكامل في التأريخ: 3 / 177، والأخبار الطوال: 246.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581