الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175726 / تحميل: 6525
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

1 ـ الشّيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (460 ه‍ ـ ق) ، وله بحث صريح وقاطع بهذا الشأن في أوّل تفسيره المعروف ب (التبيان).

2 ـ الشريف المرتضى ، ويعتبر من كبار علماء الإمامية في القرن الرّابع الهجري.

3 ـ الشّيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين ، حيث يقول في بيان عقائد الإمامية : (إن اعتقادنا بالقرآن أنّه سالم من أي تحريف).

4 ـ المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي ، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا الشأن.

5 ـ المرحوم الشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، من كبار العلماء المتأخرين.

6 ـ المرحوم المحقق اليزدي ، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة.

7 ـ بالإضافة إلى جمع من العلماء الآخرين ، أمثال : الشّيخ المفيد ، الشّيخ البهائي، القاضي نور الله مع سائر محققي الشيعة.

وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة.

وقد نقل عن بعض محدّثي الشيعة وبعض أهل السنة ، اعتقادهم بوقوع التحريف في القرآن. إلّا أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان.

وأفاد العلّامة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) «إن صحة نقل القرآن واضحة وبيّنة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمّة في التأريخ والكتب الشهيرة» فهل هناك من يشك في وجود مدن كمكّة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم يزرها؟! أو هل هناك من ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق ، الثورة الفرنسية ،

٢١

الحرب العالمية الأولى أو الثّانية؟!

فإنّ لم يكن هناك من يشك أو ينكر ، بسبب تواتر ذكر وجودها ، فكذلك آيات القرآن الكريم ، وهذا ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وإذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن ، فغايتهم إشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة ، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.

ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث : (إنّ الآية :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير والزيادة والنقصان في القرآن) ، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة.

وهنا لا بدّ من كلمة : إن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم ، فليس هناك من يعتقد بذلك.

وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة ، فإنّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضا ، وهو ما لم يعتن به من قبل الطرفين.

وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشّيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) بقوله : لا ريب أنّه (أي القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان، كما دل عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في كل زمان ، ولا عبرة بنادر(1) .

إنّ التأريخ الإسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة ، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد ، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أمّة

__________________

(1) تفسير آلاء الرحمن ، 35.

٢٢

مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.

ترى كاتبا معروفا (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول : (والشيعة هم أبدا أعداء المساجد)(1) .

والحال لو أجرينا إحصاء لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن الشيعية لأخذ منّا الوقت الطويل لكثرتها ، لدرجة أنّ بعضا من الشيعة بات يشكل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام والمستشفيات الخيرية وما شاكلها ، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع هذا ترى كاتبا معروفا يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك.

وعليه فلا ينبغي الاستغراب لما افتراه الفخر الرازي.

أدلة عدم تحريف القرآن :

1 ـ أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة ـ فبالإضافة الى الآية محل البحث وآيات أخر ـ كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبّر التأريخ.

وقبل البداء ينبغي التنويه بأنّ من احتمل التحريف في القرآن ، إنّما أراد بذلك حصول النقص فيه ، ولم نر من احتمل الزيادة في القرآن.

ونظرة فاحصة إلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنّهم كانوا يعايشون القرآن في كافة مرافق حياتهم ، فهو القانون والدستور الحاكم ، ونظام الدولة ، وهو الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه الزيادة أو النقصان؟!

يحدثنا التأريخ بأنّ القرآن ما كان ليفارق الإنسان المسلم في : صلاته ، المسجد ، البيت ، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء ، بل إنّ المسلمين كانوا

__________________

(1) الصراع ، لعبد الله علي القصيمي ، ج 2 ، ص 23 ، على ما نقل عنه العلّامة الأميني في الغدير ، ج 3 ، ص 300.

٢٣

يجعلون تعليم القرآن مهورا للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المسلمين ، حتى أن الطفل ينمو على هديه.

ومرّة أخرى نقول : أو يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مرّ التأريخ؟!

لقد تمّ جمع القرآن ـ كما ذكرنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ـ في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واهتمّ به المسلمون الأوائل أقصى درجات الاهتمام ، في مجال تعلم أحكامه ، وحفظه ، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الاجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم ، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث أنّه في إحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم(1) .

وكذلك الحال في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما استشهد سبعون رجلا من الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة ـ وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة ـ(2) .

من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتّضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم.

وهذا طبيعي جدا إذا ما نظرنا إلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن ، باعتباره القانون الحاكم النافذ ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه.

لم يكن القرآن الكريم كتابا مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص ، بل إنّ مسألة حفظه كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنّة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي.

وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع

__________________

(1) منتخب كنز العمال ، كما نقل عنه (البيان في تفسير القرآن) ، ص 260.

(2) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 57.

٢٤

والانتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم ، ولا تخلو مدينة إسلامية من حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال ، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين : أنّه يوجد في بعض بلاد الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن.

وبناء على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف) : إن من شروط امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر ، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة النجاح في ذلك (20) من (40) كحد أدنى.

خلاصة القول : إنّ حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإسلام أصبح سنّة حية في حياة المسلمين ، من خلال ما أمر وأكّد عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وهو ما تعضده الرّوايات الكثيرة) ، وإلى هنا نعاود طرح السؤال : هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف في القرآن؟!

2 ـ بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتّاب الوحي) وهم الأشخاص الذين أو كل إليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهمّة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها ، ويذكر أن عددهم كان بين 14 ـ 43 رجلا.

يقول أبو عبد الله الزنجاني في كتابه القّيم (تأريخ القرآن) : (كان للنبي كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون ، أشهرهم الخلفاء الأربعة ، وكان ألزمهم للنّبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتّاب أن تمتد إليه يد التحريف؟!

3 ـ دعوة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام للعمل بالقرآن الموجود بين أيدينا. ولو تفحصنا كلامهمعليهم‌السلام لوجدنا أنّهم قد دعوا الناس لتلاوة ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم المبارك بين الناس ، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من هذا الكتاب السماوي.

٢٥

وخطب الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الادعاء : فنقرأ

في الخطبة (133): «وكتاب الله بين أظهركم ، ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أعوانه».

ويقول في الخطبة (176): «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ...».

ونطالع قولهعليه‌السلام في نفس الخطبة المذكورة : «وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى».

ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقولهعليه‌السلام : «وإنّ الله سبحانه لم يعط أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل الله المتين ، وسببه الأمين».

ونقرأ في الخطبة (198): «ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقده ، ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، ، وفرقانا لا يخمد برهانه» وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمّةعليهم‌السلام .

ولو فرضنا أنّ يد التحريف قد طالت كتاب السماء ، فهل من الممكن أن يدعو إليه الأئمّةعليهم‌السلام بهذه القوة؟ ويصفونه بأنّه : صراط هداية ، وسيلة التفريق بين الحق والباطل ، النّور الذي لا يطفأ أبدا ، مصباح هداية لا يخبو ، حبل الله المتين والعروة الوثقى.

4 ـ وإذا ما سلمنا ب (خاتمية) النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الدين الإسلامي هو خاتم الأديان الإلهية ، وإنّ رسالة القرآن باقية إلى يوم القيامة.

فهل يصدق أنّ الله سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجّة نبيّه الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإسلام عبر آلاف السنين ودوامه حتى نهاية العالم؟!

5 ـ وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في روايات الثقلين المروية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرق متعددة معتبرة.

٢٦

فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا»(1) .

فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!

6 ـ بالإضافة إلى كل ذلك فالقرآن طرح على المسلمين باعتباره الحد الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة ، وتشير كثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى أن صدق أو كذب أي حديث يتبيّن من خلال عرضه على القرآن ، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو باطل.

فلو افترضنا أنّ تحريفا قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن اعتباره فاصلا بين الحق والباطل ، أو معيارا دقيقا لتمييز الحديث الصحيح من السقيم؟!

روايات التّحريف :

يستند القائلون بتحريف القرآن مرّة على روايات قد أسيء فهمها نتيجة عدم الوصول لما كانت ترمز إليه من معنى ، وأخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن تقسيم روايات التحريف إلى ثلاثة أقسام :

1 ـ الرّوايات القائلة : إنّ عليّاعليه‌السلام شرع بجمع القرآن بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند ما تمّ جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم يقبلوه منه ، فقال عليعليه‌السلام : إنّكم لن تروه بعد الآن أبدا.

وبنظرة فاحصة إلى تلك الرّوايات نصل إلى أن القرآن الذي كان عند علي

__________________

(1) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع من الصحابة مثل : أبو سعيد الخدري ، زيد بن أرقم ، زيد بن ثابت ، أبو هريرة ، حذيفة بن أسيد ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، عبد الله حنطب ، عبد بن حميد ، جبير بن مطعم ، ضمّرة الأسلمي ، أبو ذر الغفاري ، أبو رافع ، أم سلمة وغيرهم.

٢٧

عليه‌السلام لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون ، سوى اختلافه من حيث العرض والترتيب في ثلاثة أمور :

الأوّل : أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النّزول.

الثّاني : تثبيت سبب النّزول لكل آية وسورة.

الثّالث : تضمن تفسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآيات بالإضافة إلى ذكر الناسخ والمنسوخ.

فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنينعليه‌السلام ليس إلّا عين القرآن الموجود سوى أنّه أضاف إليه : (التّفسير) و (التأويل) و (سبب النّزول) و (تبيان الناسخ والمنسوخ) وما شابه ذلك. وبعبارة أخرى ، وكان قرآنا مع تفسيره الأصيل.

كما أنّه ورد في كتاب سليم بن قيس : (إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته ، وأقبل على القرآن ، فلما جمعه كله ، وكتابه بيده ، وتأويله الناسخ والمنسوخ ، بعث إليه أن أخرج فبايع ، فبعث إليه إني مشغول فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(1) .

2 ـ الرّوايات المشيرة إلى «التحريف المعنوي» للقرآن.

إنّ التحريف ـ كما نعلم ـ على ثلاثة ضروب : لفظي ، معنوي ، وعملي.

فالتحريف اللفظي : هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة ـ وجميع محققي الإسلام ـ وننكره إنكارا قاطعا).

والتحريف المعنوي : هو تفسير الآية خلافا لمفهومها ومعناها الحقيقي.

أمّا التحريف العملي : فهو العمل على خلاف المقتضي.

ففي تفسير علي بن إبراهيم عن أبي ذررضي‌الله‌عنه أنّه قال : لما نزلت هذه الآية( يَوْمَ

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 41.

٢٨

تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ترد عليّ أمتي يوم القيامة على خمس رايات ، فراية مع عجل هذه الأمة ، فأسألهم : ما ذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون : أمّا الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا ...»(1) .

وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء الظهور.

3 ـ الرّوايات المختلفة :

فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم ، وتبعهم الجهلة ، في اختلاق بعض الرّوايات للحطّ من شرف القرآن وقدسيته ، ومنها الرّوايات التي رواها أحمد بن محمّد بن السياري والبالغة (188) رواية(2) ، وقد استدل العلّامة الشّيخ النّوري بكثير من هذه الرّوايات في كتابه (فصل الخطاب).

والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان : فاسد المذهب ، لا يعتمد عليه ، وضعيف الحديث.

وعلى قول بعضهم : إنّه من أهل الغلو ، منحرف ، معروف بالتقول بالتناسخ ، وكذاب ، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف) : إنّ الإمام الجوادعليه‌السلام وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنّها باطلة.

مع أنّ روايات التحريف غير مقتصرة على السياري ، إلّا أنّ أكثرها وأهمها تعود إليه.

وبين هذه الرّوايات المزيفة ما تضحك الثكلى ، وينكرها كل ذي لب لبيب ، وعلى سبيل المثال ما جاء في إحداها بخصوص الآية الثّالثة من سورة النساء( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أنّه : قد سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!

__________________

(1) تفسير البرهان ، ذيل الآية (106) من سورة آل عمران.

(2) أورد هذا الإحصاء مؤلف كتاب (البرهان المبين).

٢٩

وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة ، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان ارتباطا تاما ، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة.

أضف إلى ذلك ، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريبا ، فكيف يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتّاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إليه أحد؟!

وكأنّ هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه ، ألم يثبت التأريخ بأنّ الشيء الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أو لم يكن القرآن يتلى في آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إذن فكيف يحتمل إسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إليه أحد ، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!

لا يسعنا إلّا أن نقول : إنّ كذبه بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة واضعي مثل هذه الأحاديث.

وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل الخطاب) المشار إليه آنفا.

ولا بدّ من الإشارة إلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ المؤلف العلّامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني في الجزء الأوّل من كتاب (مستدرك الوسائل) ، حيث يذكر أنّه سمع من استاذه مرارا : إنّ ما في كتاب فصل الخطاب لا يمثل عقيدتي الشخصية ، إنّما ألفته للبحث والمناقشة ، وأشرت فيه إلى عقيدتي في عدم تحريف القرآن دون أن أصرح ، وكان من الأفضل أن أسميه (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب).

ثمّ يقول المحدث الطهراني : هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه ، وأمّا عمله فقد رأيناه يقيم وزنا لما ورد في مضامين الأخبار ، ويراها أخبار آحاد لا بدّ أن تضرب عرض الحائط ، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إلى أستاذنا إلّا من هو غير عارف بعقيدته ومرامه.

٣٠

وأخيرا فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إلّا أن تبذل كل جهودها للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث الخرافات والأباطيل.

وطالعتنا الصحف من مدّة ليست بالبعيدة بأنّ أياد إسرائيلية صهيونية قامت بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيرا من الآيات القرآنية ، وكما هو معهود فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ ، فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان.

وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة ، أن نقطة واحدة لو غيّرت في القرآن فسيعيدها إلى نصابها المفسّرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (1) .

* * *

__________________

(1) التوبة ، 32.

٣١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) )

التّفسير

العناد والتعصب :

تواسي الآيات قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم ، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة.

فتقول أوّلا :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ) .

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة :

٣٢

ـ مرة ، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النّبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة الواعية.

ـ وأخرى ، يحاولون بالاستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللهعزوجل .

ـ وتارة ، يأخذهم الاستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم الموبوءة وتقاليدهم البالية ، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها ، فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد ، لأنّ يستهزءوا.

ـ وأخرى ، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسئوليته.

ـ وقد يكون الاستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد ، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة ، وقيمة الإنسان عندهم من خلال : لباسه الأنيق ، مركبة الفاره ، بيته الفخم ، وحياته المحفوفة بالزخارف وإذا نهض بدعوة الحق إنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا شيئا ، فسيكون موضع سخريتهم!

ـ وأخيرا ، فقبولهم لدعوة الأنبياءعليهم‌السلام ـ حسب تصورهم ـ يستلزم تقويضا لكل شهواتهم الدنيوية ، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها ، فليجؤون للاستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثمّ يقول جلّ وعلا :( كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) أي نوصل الآيات القرآنية الى اعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإظهار المعجزات ، ترى المتعصبين المستهزئين( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وهو ليس بجديد( وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) .

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرين في عنادهم على الباطل إلى أنّهم

٣٣

لا يؤمنون حتى( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) ومع ذلك( لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) .

عجبا ، أن يصل الإنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب!

إن الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة ، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع ، وتمنعهما من إدراك الحقائق ، وإذا لم يتمكن الإنسان من رفع تلك الحجب وإزالة الموانع ، فإنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معا ، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الأولى ، ولكن إذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذرت وأمست «ملكة» وصفة أخلاقية ، فلا يمكن إزالتها بسهولة ، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أي تأثير في قلبه.

* * *

ملاحظات

1 ـ (شيع) جمع (شيعة) ، ويطلق على المجموعة والفرقة التي تمتلك نهجا مشتركا.

يقول الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات) ـ باب شيع : الشياع الانتشار والتقوية ، يقال شاع الخبر أي كثر وقوى ، وشاع القوم انتشروا وكثروا ، وشيعت النّار بالحطب قويتها ، والشيعة : من يتقوى بهم الإنسان.

أمّا العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) فيعتبر أنّ أصلها من المشايعة ، وهي المتابعة، يقال شايع فلان فلانا على أمره أي تابعه عليه ، ومنه شيعة عليعليه‌السلام وهم الذين تابعوهعلى أمره ودانوا بإمامته ، وفي حديث أم سلمة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة» إشارة لهذا المعنى.

وعلي أية حال فالشياع بمعنى الانتشار والتقوية ، أو المشايعة بمعنى

٣٤

المتابعة ، كلاهما دليل على وجود نوع من الاتحاد والارتباط الفكري والديني في مفهوم (الشيعة) و (التشيع).

وإطلاق لفظ (شيع) على الأقوام السابقة يدل على أنّهم في قبال دعوة الأنبياءعليهم‌السلام كانوا متحدين في توجههم ومتآزرين متعاضدين في عملهم.

فإن كان لأهل الضلال هذا الاتحاد والتنسيق أفلا ينبغي لأتباع الحق أن يسيروا على نور هدية متكاتفين ومتآزرين؟

2 ـ مرجع الضمير في «نسلكه» :

من لطف الباري جلّ شأنه أن يوصل ويفهم آياته للمجرمين والمخالفين بطرق شتى ، عسى أن تستقر في قلوبهم ، ولكنّ عدم صلاحية ولياقة المحل يكون سببا لخروجها من تلك الأجواف النتنة ، فتبقى قلوبا غير متأثرة ، شبيها بمرور الغذاء النافع في معدة مريضة فلا تتقبله وتقذفه إلى الخارج. (ويستفاد هذا المعنى من (السلوك) المادة الأصلية لعبارة «نسلكه»).

وعلى هذا الأساس فضمير «نسلكه» يعود إلى «الذكر» أي القرآن كما ورد في الآيات المتقدمة ، وكذلك حال الضمير في( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) يعود إليه أيضا ، أي : إنّهم مع كل ذلك لا يؤمنون بالذكر.

فنلحظ التوافق التام بين الضميرين بالضبط كما جاء في سورة الشعراء في الآيتين 200 و 201.

وذهب بعض المفسّرين إلى أن ضمير «نسلكه» يعود إلى الاستهزاء المذكور في الآية المتقدمة لها ، فيكون المعنى : إنّا ندخل الاستهزاء والسخرية في قلوبهم نتيجة لذنوبهم وعنادهم.

ويكفينا لتضعيف هذا التّفسير أن نقول : إنّه يذهب بالتناسق بين الضميرين.

ونستفيد كذلك من عبارة «نسلكه» أنّ على المبلغ والمرشد أن لا يكتفي في أداء وظيفته بإيصال صوته الى أسماع الناس ، بل عليه أن يطرق كل الآفاق حتى

٣٥

يوصل صوت الحق إلى القلوب ليقرّ فيها.

وبعبارة أخرى ، ينبغي الاستفادة من جميع الوسائل السمعية والبصرية ، البرامج العملية ، الأدب ـ شعرا وقصة ـ والفن الأصيل الهادف. لتكون كلمة الحق واضحة لذوي القلوب الواعية ، والحجة تامة على من ظلم وعاند.

3 ـ سنّة الأولين :

تفيدنا الآية الآنفة الذكر بأنّ أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس ومحاولة تفريقهم وإبعادهم عن أولياء الله لا تختص بزمان ومكان معينين ، بل هي ممارسة موجودة منذ القدم وباقية ما بقي صراع الحق ضد الباطل على الأرض ولهذا لا ينبغي أن نستوحش من ذلك ونتراجع امام المشاكل والعراقيل التي يدبرها الأعداء.

ولا نسمح لليأس من أن يدخل قلوبنا ، ولا لأساليب الأعداء من أن تفقدنا الثّقة بالنفس فذكر سنن الأولين في القرآن ما هي إلّا مواساة وتسلية مؤثرة لقلوب دعاة الإيمان.

وإذا ما تصورنا يوما أن نشر دعوة الحق ورفع راية العدل والهداية لا يواجهان برد فعل الأعداء ، فإنّنا في خطأ كبير ، وأقل ما فيه أننا سنصاب بحالة اليأس المهلكة ، وما علينا إلّا أن نستوعب مسير خط الأنبياءعليهم‌السلام في مواجهاتهم لأعداء الله ، وأن نجسد ذلك الإستيعاب في سلوكنا ، بل وعلينا أن نزداد في كل يوم عمقا في دعوتنا.

4 ـ تفسير( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) :

يظهر هذا المقطع القرآني ـ بوضوح ـ تصويرا لحال المعاندين ، فلو أنّ بابا من السماء فتحت لهم وظلوا يصعدون وينزلون من خلاله ، لقالوا : سحرت عيوننا وحجبت عن رؤية الواقع! (يبدو أنّ المراد من السماء هنا : الفضاء الخارجي الذي لا يمكن النفوذ منه بسهولة).

علما بأنّ كلمة «ظلوا» تستعمل لاستمرار العمل في النهار وتقابلها كلمة

٣٦

(باتوا) من البيتوتة اللّيل.

ويميل إلى هذا المعنى غالب المفسّرين ولكن العجيب أن بعض المفسّرين احتملوا عودة ضمير «ظلّوا» إلى الملائكة ، فيكون المعنى : أنّهم لو رأوا الملائكة تصعد وتنزل من السماء بأمّ أعينهم لما آمنوا أيضا.

ولكن إضافة لعدم انسجام هذا الاحتمال مع تسلسل الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن المشركين ، أن ذكر الملائكة إنّما ورد قبل ست آيات (فعودة الضمير إلى الملائكة بعيد جدّا) فإنّ هذا المعنى يقلل من بلاغة العبارة القرآنية ، لأنّ القرآن يريد أن يقول أنّ المشركين لا يستسلمون للحق حتى لو صعدوا وهبطوا من السماء مرارا في ساعات النهار.

5 ـ معنى عبارة( سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) .

جمله «سكّرت» من مادة (سكر) أي : التغطية.

ويراد بها : أنّ الكافرين المعاندين يقولون : قد غطيت عيوننا عن رؤية الواقعيات ، وإذا رأينا أنفسنا نصعد إلى السماء وننزل إلى الأرض سنحكم على ذلك بأنّه وهم وخيال ، كما في ما يسمّى بالشعوذة التي يستفيد صاحبها من خفة حركة يده فيخدع أنظار الحاضرين بها.

ويضيفون القول :( بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) ، فبالرغم من أنّ الشعوذة هي لون من ألوان السحر ، لكنّهم ربما يشيرون إلى ما هو أشد من الشعوذة التي تختص بخداع البصر فقط ، ألا وهو السحر الكامل الذي يغطي على كل وجود الإنسان ويفقد معه الإحساس بكل ما هو واقع!

فلو أغلقنا عين انسان ما فإنّه لا يفقد الشعور فيما لو أنّه يصعّد به إلى الأعلى أو ينزّل إلى الأسفل.

فمعنى الآية : لو أخذنا المشركين إلى أقطار السماوات لقالوا أوّلا : إنّنا أصبنا بالشعوذة ، وبعد أن يجدوا أنّ هذه العملية لا تتوقف على العين فقط فسيقولون حينها : إنّنا مسحورون!

* * *

٣٧

الآيات

( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) )

التّفسير

تشير الآيات إلى جانب من عالم المخلوقات للدلالة على معرفة توحيد الله ، وبسياقها جاءت تكملة لبحثي القرآن والنّبوة المذكورين في الآيات السابقة.

قوله تعالى :( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) .

«البروج» : جمع «برج» ويعني «الظهور» ، ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون ، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية : هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إلى الذهن : لو نظرنا إلى الشمس والقمر بإمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية : مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول : إنّ الشمس في برج الحمل(1) ـ مثلا ـ أو الثور أو الميزان أو العقرب

__________________

(1) الحمل : مجموع شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريبا. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

٣٨

أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية ، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسّم لعالم وجودنا) ، يعتبر من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جل وعلا.

إنّ هذا النظام العجيب بما يحمل من دقة في حساب تشكيله يكشف لنا وجود هدف لخلق هذا العالم ، وكلما أمعنا النظر في خلق الله ازددنا مقربة من معرفة الخالق الجليل.

ثمّ يضيف :( زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ) (1) .

انظروا لإحدى الليالي المظلمة ذات النجوم الكثيرة فسترون مجموعات نجمية ائتلفت فيما بينها في كل زاوية من زوايا السماء ، وكأنّها حلقات تنظيمية تتجاذب أطراف الحديث ، وترى تلك كأنّها ترمقنا شابحة ، وأخرى تغمزنا باستمرار وكأنّها تدعونا إليها ، ويخال من بعضها وكأنّها تقترب منّا لشدة تلألئها ، وتلك التي تنادينا بخافت ضوئها وينطق لسان حالها من أعماق السماء وجوفها المتباعد إنّني هنا!

هذه اللوحة الشاعرية الرائعة ربّما ألفها البعض على أنّها عادية نتيجة لتكرار المشاهدة ، ومع ذلك فلها جذب خاص وهي جديرة بالتأمل.

وحينما يبزغ القمر (وبأشكاله المختلفة) وسط تلك المجاميع ، يضيف إلى سحرها وجمالها رونقا جديدا.

وتراها خجلة ، لا تقوى على أن ترفع رأسها إلّا بعد غروب الشمس ، فتتلألأ الواحدة تلو الأخرى ، كأنّهن يخرجن على استحياء من خلف ستار وما إن يحل الطلوع حتى نراها تفر فرارا لتختفي.

__________________

(1) ضمير «زيناها» يعود إلى «السماء» لأنّها مؤنث مجازي.

٣٩

ومضافا الى ذلك فإنّ لها من الجمالية العلمية والأسرار المخفية ما لا يصدق ، ويكفيك لجماليتها أنّها جعلت أنظار العلماء تشخص إليها منذ آلاف السنين حتى زماننا الذي ما توصل العلماء إلى صناعة المرقبات (التلسكوبات) ، إلّا للوصول لاكتشاف أسرار جديدة عن هذا العالم الدائب الملتهب رغم صمته.

ويضيف في الآية التالية :( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

الآية المذكورة ، من الآيات التي أشبعت شرحا وتفسيرا من قبل المفسّرين ، وكلّ منهم قد نحى منحى خاصا في فهم معناها.

وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان 6 و 7) وكذلك في سورة الجن الآية (9).

وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلة لم يسعفوا بالإجابة عنها ، فكان لزاما علينا في بادئ الأمر أن نلقي نظرة إلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده ، ومن ثمّ نعرج إلى ما نراه راجحا من هذه الآراء :

1 ـ بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا بالتّفسير الإجمالي ولم يغوصوا إلى كثير من التفاصيل ، ولم يعيروا أهمية لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إدراكها ، وما علينا إلّا أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه الى الحق.

فكتب يقول : وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟

كل هذا غيب من غيب الله لا سبيل لنا إليه إلّا من خلال النصوص ، ولا جدوى في الخوض فيه ، لأنّه لا يزيد شيئا في العقيدة ولا يثمر إلّا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه ، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة ، ثمّ

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

(الشمس) التي لم ترد في تلك الآيات ، ولكنّهم استدلّوا عليها من كلمة (العشي) (التي تعني آخر النهار بعد الزوال) الموجودة في آيات بحثنا.

وبهذا الشكل فإنّ الآيات تعطي المفهوم التالي ، إنّ سليمان كان غارقا في مشاهدة الخيل والشمس قد غربت واستترت خلف حجاب الأفق ، فغضب سليمان كثيرا لأنّه لم يكن قد صلّى صلاة العصر ، فنادى ملائكة الله ، ودعاها إلى ردّ الشمس ، فاستجابت له الملائكة وردّتها إليه ، أي رجعت فوق الأفق ، فتوضّأ سليمان (المراد بمسح السوق والأعناق هو أداء الوضوء الذي كان حينذاك يعمل به وفق سنّة سليمان ، وبالطبع فإنّ كلمة (المسح) تأتي أحيانا في لغة العرب بمعنى الغسل) ثمّ صلّى.

البعض ممّن ليس لديهم الاطلاع الكافي تحدّثوا بأكثر من هذا ، ونسبوا أمورا سيّئة ومحرّمة اخرى إلى هذا النّبي الكبير ، عند ما قالوا : إنّ المقصود من جملة( فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ ) هو أنّه أمر بضرب سوق وأعناق الخيل بالسيف ، أو أنّه نفّذ هذا الأمر بشخصه ، لأنّها شغلته عن ذكر الله والصلاة.

طبيعي أنّ بطلان التّفسير الأخير لا يخفى على أحد ، لأنّ الخيول لا ذنب لها كي يقتلها سليمان بحدّ السيف ، فإن كان هناك ذنب فقد ارتكبه هو ، لأنّه كان غارقا في مشاهدة خيله ، ونسي صلاته.

وأحيانا فإنّ قتل الخيل إسراف إضافة إلى كونه جريمة ، فكيف يمكن أن يصدر مثل هذا العمل المحرّم من نبي ، أمّا الروايات التي وردت من المصادر الإسلاميّة بشأن هذه الآية فإنّها تنفي ـ بشدّة ـ هذه التهمة الموجّهة إلى سليمانعليه‌السلام .

أمّا التفاسير السابقة التي قالت بنسيان سليمان وغفلته عن أداء صلاة العصر ، فهي موضع السؤال التالي ، هل يمكن لنبي معصوم أن ينسى واجبا مكلّفا به؟ رغم أنّ استعراضه للخيول كان واجبا آخر مكلّفا به ، إلّا إذا كانت الصلاة ـ كما قال

٥٠١

البعض ـ صلاة مندوبة أو مستحبّة ، ونسيانها لا يسبّب أيّة مشاكل ، ولكن إن كانت صلاة نافلة فلا ضرورة إذن لردّ الشمس.

إذا انتهينا من هذا ، فهناك إشكالات اخرى وردت بشأن هذا التّفسير.

١ ـ كلمة (الشمس) لم تأت بصورة صريحة في الآيات ، في حين أنّ الخيل( الصَّافِناتُ الْجِيادُ ) جاء ذكرها صريحا ، ونرى من المناسب أن نعود بالضمير على شيء صرّحت به الآيات.

٢ ـ عبارة( عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ) ظاهرها يعني أنّ حبّ هذه الخيل إنّما هو ناشئ من ذكر وطاعة أمر الله ، في حين ـ طبقا للتفسير الأخير ـ تعطي كلمة (عن) معنى (على) ويكون معنى العبارة ، إنّي آثرت حبّ الخيل على حبّ ربّي ، وهذا المعنى مخالف لظاهر الآية.

٣ ـ الأعجب من كلّ ذلك هي عبارة( رُدُّوها عَلَيَ ) التي تحمل صفة الأمر ، فهل يمكن أن يخاطب سليمان الباريعزوجل أو ملائكته بصيغة الأمر ، أن ردّوا عليّ الشمس ، كما يخاطب عبيده أو خدمه.

٤ ـ قضيّة ردّ الشمس ، رغم أنّها في مقابل قدرة الباريعزوجل تعدّ أمرا يسيرا ، إلّا أنّها تواجه بعض الإشكالات بحيث جعلتها أمرا لا يمكن قبوله من دون توفّر أدلّة واضحة عليها.

٥ ـ الآيات المذكورة أعلاه تبدأ بمدح وتمجيد سليمان ، في حين أنّ التّفسير الأخير لها يعطي معنى الذمّ والتحقير.

٦ ـ إذا كانت الصلاة المتروكة واجبة ، فتعليلها يعدّ أمرا صعبا ، أمّا إذا كانت نافلة فلا داعي لردّ الشمس.

السؤال الوحيد المتبقّي هنا ، هو أنّ هذا التّفسير ورد في عدّة روايات في مصادر الحديث ، وإذا دقّقنا جيّدا في إسناد هذه الأحاديث ، يتّضح لنا أنّها جميعا

٥٠٢

تفتقد السند الموثوق المعتبر ، وأنّ أكثر هذه الروايات موضوعة.

أليس من الأفضل صرف النظر عن تلك الروايات غير الموثوقة ، وإرجاع علمها إلى أصحابها ، وتقبّل كلّ ما يبيّنه ظاهر الآيات بذهنية صافية ومتفتّحة ، لنريح أنفسنا من عناء الإشكالات الفارغة.

* * *

٥٠٣

الآيات

( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) )

التّفسير

الامتحان الصعب لسليمان وملكه الواسع :

هذه الآيات تتحدّث عن أحداث اخرى من قصّة سليمان ، وتبيّن أنّ الإنسان مهما امتلك من قوّة وقدرة ، فإنّها ليست منه ، بل إنّ كلّ ما عنده هو من الله سبحانه وتعالى ، هذا الموضوع يزيل حجب الغرور والغفلة عن عين الإنسان ، ويجعله يشعر بصغر حجمه قياسا إلى هذا الكون.

القسم الأوّل من الآيات يتطرّق إلى أحد الامتحانات التي امتحن الله بها عبده

٥٠٤

سليمان ، الامتحان في ترك العمل بالأولى ، وكيف توجّه بعدها سليمان بقلب خاشع إلى الله سبحانه وتعالى طالبا منه العفو والتوبة لتركه العمل بالأولى.

إيجاز محتوى الآيات ، سمح مرّة اخرى لنا سجي قصص الخيال أن ينسجوا قصصا خيالية وهمية اخرى ، ويلصقوا التّهم بهذا النّبي الكبير ما لا يليق بالنّبوة ، ويتنافى مع مقام العصمة ، ويتنافى أساسا مع المنطق والعقل ، وهذا بحدّ ذاته إمتحان للمحقّقين في علوم القرآن ، فلو أنّنا اكتفينا بما تطرحه آيات القرآن لما بقيت ثغرة لنفوذ الخرافات والأباطيل.

الآية الاولى في بحثنا هذا تقول :( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ) .

«الكرسي» يعني الأريكة ذات الأرجل القصيرة ، ويبدو أنّه كان للسلاطين نوعان من الكراسي ، الأوّل : له أرجل قصيرة يستخدم في الأوقات العادية ، والثاني : له أرجل أطول يستخدمها السلاطين في اجتماعاتهم الرسمية ، ويطلق على الأوّل اسم (كرسي) وعلى الثاني اسم (عرش).

«الجسد» يعني الجسم الذي لا روح فيه ، وكما يقول الراغب في مفرداته : إنّ لها مفهوما أكثر محدودية من مفهوم الجسم ، لأنّ كلمة الجسد لا تطلق على غير الإنسان إلّا نادرا ، ولكن كلمة الجسم لها طابع عام.

يستفاد من هذه الآيات بصورة عامّة أنّ موضوع إمتحان سليمان كان بواسطة جسد خال من الروح القي على كرسيّه وأمام عينيه ، أمر لم يكن يتوقّعه ، وآماله كانت متعلّقة بشيء آخر ، والقرآن لا يعطي تفصيلات اخرى في هذا المجال.

وقد أورد المفسّرون والمحدّثون تفسيرات متعدّدة في هذا المجال ، أفضلها وأوضحها ما يلي :

إنّ سليمانعليه‌السلام كان متزوجا من عدّة نساء ، وكان يأمل أن يرزق بأولاد صالحين شجعان ليساعدوه في إدارة شؤون البلاد وجهاد الأعداء ، فحدّث نفسه

٥٠٥

يوما قائلا : لأطوفنّ على نسائي كي ارزق بعدد من الأولاد لعلّهم يساعدونني في تحقيق أهدافي ، ولكونه غفل عن قول (إن شاء الله) بعد تمام حديثه مع نفسه ، تلك العبارة التي تبيّن توكّل الإنسان على الله سبحانه وتعالى في كلّ الأمور والأحوال ، فلم يرزق سوى ولد ميّت ناقص الخلقة جيء به والقي على كرسي سليمانعليه‌السلام .

سليمانعليه‌السلام غرق ـ هنا ـ في تفكير عميق ، وتألّم لكونه غفل عن الله لحظة واحدة واعتمد على قواه الذاتية ، فتاب إلى الله وعاد إليه.

وهناك تفسير آخر يمكن طرحه بعد التّفسير الأوّل وهو : إنّ الله سبحانه وتعالى امتحن سليمان بمرض شديد ، بحيث طرحه على كرسيه كجسد بلا روح من شدّة المرض ، وعبارة (جسد بلا روح) مألوفة ودارجة في اللغة العربية إذ تطلق على الإنسان الضعيف والعليل.

وفي نهاية الأمر تاب سليمان إلى الله ، وأعاد الله إليه صحّته ، وعاد كما كان قبل مرضه (والمراد من (أناب) هنا عودة الصحّة والعافية إليه).

بالطبع هناك إشكال ورد على هذا التّفسير إذ أنّ عبارة (ألقينا) كان يجب أن تأتي بصورة (ألقيناه) حتّى تتناسب مع التّفسير المذكور أعلاه ، يعني أنّا ألقينا سليمان على كرسيّه جسدا بلا روح ، في حين أنّ هذه العبارة لم ترد في الآية بتلك الصورة ، وتقديرها مخالف للظاهر.

عبارة (أناب) في هذا التّفسير جاءت بمعنى عودة الصحّة والعافية إليه ، وهذا أيضا مخالف للظاهر ، أمّا إذا اعتبرنا أنّ معنى (أناب) هو التوبة والعودة إلى الله ، فإنّها لا تلحق أي ضرر بالتّفسير ، ولهذا فإنّ الشيء الوحيد المخالف لظاهر الآية ـ هنا ـ هو حذف ضمير عبارة (ألقيناه).

القصص الكاذبة والقبيحة التي تحدّثت عن فقدان خاتم سليمان ، وعثور أحد الشياطين عليه ، وجلوس ذلك الشيطان على عرش سليمان ، كما ورد في بعض الكتب التي لا يستبعد أن يكون مصدرها هو كتاب (التلمود) اليهودي المليء

٥٠٦

بالخرافات الإسرائيلية بما لا يتناسب مع العقل والمنطق.

وهذه القصص ـ في حقيقة الأمر ـ دليل انحطاط أفكار مبتدعيها ، ولهذا فإنّ المحقّقين المسلمين أينما ذكروها أعلنوا بصراحة زيفها وكونها مجرّد اختلاقات ، وقالوا : إنّ مقام النبوّة والحكومة الإلهية غير مرتبط بالخاتم ، ولم يستردّ الباريعزوجل النبوّة من أحد أنبيائه بعد أنّ بعثه بها ، حتّى يبعث الشيطان بصورة نبي ليجلس مكان سليمان (٤٠) يوما يحكم فيها بين الناس ويقضي بينهم(١) .

على أيّة حال ، فإنّ القرآن الكريم ـ من خلال الآية التالية ـ يكرّر الحديث بصورة مفصّلة حول قضيّة توبة سليمان التي وردت في آخر عبارة تضمّنتها الآية السابقة :( قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) .

* * *

هنا يطرح سؤالان :

١ ـ هل يستشفّ البخل من طلب سليمانعليه‌السلام

ذكر المفسّرون أجوبة كثيرة على هذا السؤال ، الكثير منها لا يتطابق مع ظاهر الآيات ، والجواب الذي يبدو أكثر تناسبا ومنطقية من بقيّة التفاسير هو أنّ سليمان طلب من الباريعزوجل أن يهب له ملكا مع معجزات خاصّة ، كي يتميّز ملكه عن بقيّة الممالك ، لأنّنا نعرف أنّ لكلّ نبي معجزة خاصّة به ، فموسىعليه‌السلام معجزته العصا واليد البيضاء ، ومعجزة إبراهيمعليه‌السلام عدم إحراق النار له بعد أن القي فيها ، ومعجزة صالحعليه‌السلام الناقة الخاصّة به ، ومعجزة نبيّنا الأكرم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو القرآن المجيد ، وسليمان كان ملكه مقترنا بالمعجزات الإلهيّة ، كتسخير الرياح والشياطين له مع

__________________

(١) وللإيضاح أكثر في أنّ كتب اليهود هي مصدر مثل هذه الخرافات ، يراجع كتاب (أعلام القرآن) موضوع سليمان في القصص الصفحة ٣٩٢.

٥٠٧

مميّزات اخرى.

وهذا الأمر لا يعدّ عيبا أو نقصا بالنسبة للأنبياء الذين يطلبون من الله أن يؤيّدهم بمعجزة خاصّة ، كي يبرهنوا للناس على صدق نبوّتهم ، ولهذا فلا يوجد أي مانع في أن يطلب الآخرون ملكا أوسع وأكبر من ملك سليمان ، ولكن لا تتوفّر فيه الخصائص التي أعطيت لسليمان.

والدليل على هذا الكلام الآيات التالية ، والتي هي ـ في الحقيقة ـ تعكس استجابة البارئعزوجل لطلب سليمان ، وتتحدّث عن تسخير الرياح والشياطين لسليمان ، وكما هو معروف فإنّ هذا الأمر هو من خصائص ملك سليمان.

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثاني الذي يقول ، وفقا لعقائدنا نحن المسلمون ، فإنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) سيكون ملكا عاليا ، وبالنتيجة سيكون أوسع من ملك سليمان. لأنّ ملك المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع سعته وخصائصه التي تميّزه عن بقيّة الممالك ، فإنّه يبقى من حيث الخصائص مختلفا عن ملك سليمان ، وملك سليمان يبقى خاصّا به. خلاصة الأمر أنّ الحديث لم يختّص بزيادة ونقصان وتوسعة ملكه وطلب الإختصاص به ، وإنّما اختصّ الحديث بكمال النبوّة والذي يتمّ بوجود معجزات خصوصية ، لتميّزه عن نبوّة الأنبياء الآخرين ، وسليمان كان طلبه منحصرا في هذا المجال.

ولقد ورد في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام في ردّه على سؤال يقول : إنّ دعوة سليمان فيها بخل ، إذ جاء في الحديث أنّ أحد المقرّبين عن الإمام الكاظمعليه‌السلام وهو علي بن يقطين سأل الإمامعليه‌السلام قائلا : أيجوز أن يكون نبي اللهعزوجل بخيلا؟

فقال : «لا».

فقلت له : فقول سليمانعليه‌السلام :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) ما وجهه ومعناه؟

٥٠٨

فقال : «الملك ملكان : ملك مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار الناس ، وملك مأخوذ من قبل الله تعالى كملك آل إبراهيم وملك طالوت وذي القرنين ، فقال سليمانعليه‌السلام : هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يقول إنّه مأخوذ بالغلبة والجور وإجبار النّاس ، فسخّر اللهعزوجل له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، وجعل غدوّها شهرا ورواحها شهرا ، وسخّر اللهعزوجل له الشياطين كلّ بناء وغوّاص ، وعلّم منطق الطير ومكّن في الأرض ، فعلم الناس في وقته وبعده أنّ ملكه لا يشبه ملك الملوك المختارين من قبل والمالكين بالغلبة والجور.

قال : فقلت له : فقول رسول الله : «رحم الله أخي سليمان بن داود ما كان أبخله»؟

فقال : «لقولهعليه‌السلام وجهان : أحدهما : ما كان أبخله بعرضه وسوء القول فيه ، والوجه الآخر يقول : ما كان أبخله إن كان أراد ما كان يذهب إليه الجهّال»(١) .

الآيات التالية تبيّن ـ كما قلنا ـ موضوع استجابة الله سبحانه وتعالى لطلب سليمان ومنحه ملكا يتميّز بامتيازات خاصّة ونعم كبيرة ، يمكن إيجازها في خمسة أقسام :

١ ـ تسخير الرياح له بعنوان واسطة سريعة السير ، كما تقول الآية :( فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ) .

من الطبيعي أنّ الملك الواسع الكبير يحتاج إلى واسطة اتّصال سريعة ، كي يتمكّن صاحب ذلك الملك من تفقّد كلّ مناطق مملكته بسرعة في الأوقات الضرورية ، وهذا الامتياز منحه الباريعزوجل لسليمانعليه‌السلام .

أمّا كيف كانت الرياح تطيع أوامره؟

وبأي سرعة كانت تسير؟

وعلى أي شيء كان سليمان وأصحابه يركبون أثناء انتقالهم من مكان إلى آخر عبر الرياح؟

__________________

(١) كتاب علل الشرائع ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، الصفحة ٤٥٩.

٥٠٩

وما هي العوامل التي كانت تحفظهم من السقوط ومن انخفاض وارتفاع ضغط الهواء ، وغيرها من المشاكل.

خلاصة الأمر : ما هي هذه الواسطة السريّة وذات الأسرار الخفيّة التي كانت موضوعة تحت تصرّف سليمان في ذلك العصر؟

تفاصيل هذه التساؤلات ليست واضحة بالنسبة لنا ، وكلّ ما نعرفه أنّ تلك الأمور الخارقة توضع تحت تصرّف الأنبياء لتسهّل لهم القيام بمهامهم. وهذه القضايا ليست بقضايا عادية ، وإنّما هي نعم خارقة ومعجزات ، وهذه الأشياء تعدّ شيئا بسيطا في مقابل قدرة الباريعزوجل ، وما أكثر المسائل التي نعرف أصلها في الوقت الذي لا نعرف أي شيء عن جزئياتها.

وهنا يطرح سؤال ، وهو : كيف يمكن أن تتطابق عبارة (رخاء) الواردة في هذه الآية ، والتي تعني (اللين) مع عبارة (عاصفة) والتي تعني الرياح الشديدة والواردة في الآية (٨١) من سورة الأنبياء :( وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها ) .

لهذا السؤال جوابان :

الأوّل : وصف الرياح بالعاصفة لبيان سرعة حركتها ، ووصفها بالرخاء لبيان حركتها الهادئة والرتيبة ، أي إنّ سليمان وأصحابه لم يكونوا يشعرون بأيّ انزعاج من جرّاء حركة الرياح السريعة ، فهي كالوسائل السريعة السير الموجودة حاليا ، التي يشعر الإنسان معها كأنّه جالس في إحدى غرف بيته ، بينما تسير به تلك الوسيلة بسرعة عالية جدّا.

وقد ذكر بعض المفسّرين جوابا آخر على ذلك السؤال ، وهو : إنّ هاتين الآيتين تشيران إلى نوعين من الرياح سخّرهما الله سبحانه وتعالى لسليمان ، إحداهما كانت سريعة السير ، والثانية بطيئة.

٢ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها البارئعزوجل على عبده سليمانعليه‌السلام ، هي

٥١٠

تسخير الموجودات المتمردة ووضعها تحت تصرّف سليمان لتنجز له بعض الأعمال التي يحتاجها( وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ) (١) .

أي إنّ مجموعة منها منشغلة في البرّ ببناء ما يحتاج إليه سليمان من أبنية ، واخرى منشغلة بالغوص في البحر.

وبهذا الشكل فإنّ الله وضع تحت تصرّف سليمان قوّة مستعدّة لتنفيذ ما يحتاج إليه ، فالشياطين ـ التي من طبيعتها التمرّد والعصيان ـ سخّرت لسليمان لتبني له ، ولتستخرج المواد الثمينة من البحر.

ومسألة تسخير الشياطين لسليمان وتنفيذها لما يحتاج إليه ، لم ترد في هذه الآية فقط ، وإنّما وردت في عدّة آيات من آيات القرآن المجيد ، ولكن في بعض الآيات ـ كالآية التي هي مورد بحثنا والآية (٨٢) من سورة الأنبياء استخدمت كلمة (الشياطين) فيها ، فيما استخدمت كلمة (الجنّ) في الآية (١٢) من سورة سبأ.

وكما قلنا سابقا فإنّ (الجنّ) موجودات مخفية عن أنظارنا ، ولها عقول وشعور وقدرة ، وبعضها مؤمن وبعضها الآخر كافر ، ولا يوجد هناك أي مانع من أن توضع ـ بأمر من الله ـ تحت تصرّف بعض الأنبياء ، لتنجز له بعض الأعمال.

وهناك احتمال وارد أيضا ، وهو أنّ كلمة الشياطين لها معنى واسع قد يشمل حتّى العصاة من البشر ، وقد استخدم هذا المعنى في الآية (١١٢) من سورة الأنعام ، وبهذا الترتيب فإنّ الله سبحانه وتعالى منح سليمان قوّة جعلت حتّى المتمردّين العصاة ينصاعون لأوامره.

٣ ـ النعمة الاخرى التي أنعمها الباريعزوجل على سليمان ، هي سيطرته على مجموعة من القوى التخريبيّة ، لأنّ هناك من بين الشياطين من لا فائدة فيه ، ولا سبيل أمام سليمان سوى تكبيلهم بالسلاسل ، كي يبقى المجتمع في أمان من

__________________

(١) (الشياطين) معطوفة على (الريح) والتي هي مفعول (سخّرنا) ، و (كلّ بنّاء وغوّاص) بدل من الشياطين.

٥١١

شرورهم ، كما جاء في القرآن المجيد( وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) (١) .

«مقرّنين» مشتقّة من (قرن) وهي تشير إلى ربط الأيدي والأرجل أو الرقاب بالسلاسل.

«أصفاد» جمع (صفد) على وزن (مطر) وتعني القيود التي تكبّل بها أيدي السجناء.

وقال البعض : إنّ عبارة( مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) تعني الجامعة التي تجمع بين الرقبة واليدين ، وهذا المعنى قريب من معنى «مقرنين» اللغوي وأكثر مناسبة له.

وهناك رأي آخر محتمل ، وهو أنّ المقصود من هذه العبارة هو أنّ كلّ مجموعة منهم مغلولة بسلسلة واحدة.

وهنا يطرح هذا السؤال : إن كان المراد من الشياطين هم شياطين الجنّ ، فإنّ أولئك لهم جسم شفّاف لا يتناسب مع استخدام الأغلال والسلاسل والقيود.

لهذا قال البعض : إنّها كناية عن اعتقال ومنع تلك الشياطين من أداء أي نشاط تخريبي ، وإن كان المقصود من الشياطين هم المتمردون والعصاة من بني آدم فإنّ الأغلال والقيود تبقى محافظة على مفهومها الأصلي ، أي إنّ استخدامها هنا وارد.

٤ ـ النعمة الرابعة التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على نبيّه سليمان هي إعطاؤه الصلاحيات الواسعة والكاملة في توزيع العطايا والنعم على من يريد ، ومنعها عمّن يريد حسب ما تقتضيه المصلحة ،( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

عبارة( بِغَيْرِ حِسابٍ ) إمّا أن تكون إشارة إلى أنّ البارئعزوجل قد أعطى لسليمان صلاحيات واسعة لن تكون مورد حساب أو مؤاخذة ، وذلك لصفة العدالة التي كان يتمتّع بها سليمان في مجال استخدام تلك الصلاحيات ، أو أنّ العطاء الإلهي لسليمان كان عظيما بحيث أنّه مهما منح منه فإنّه يبقى عظيما وكثيرا.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه العبارة تخصّ ـ فقط ـ الشياطين المقرنين

__________________

(١) «آخرين» معطوفة على (كلّ بنّاء) وهي بمثابة مفعول (سخّرنا) ، و (مقرنين) صفة لـ (آخرين).

٥١٢

بالأصفاد ، وتخاطب سليمان بأنّه يستطيع إطلاق سراح أي منهم (إن رأى في ذلك صلاحا ، وإبقاء من يشاء في قيوده إن رأى الصلاح في ذلك.

إلّا أنّ هذا المعنى مستبعد ، لأن لا يتلاءم مع ظاهر كلمة (عطائنا).

٥ ـ والنعمة الخامسة والأخيرة التي منّ الله سبحانه وتعالى بها على سليمان ، هي المراتب المعنوية اللائقة التي شملته ، كما ورد في آخر آية من آيات بحثنا( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .

هذه الآية ـ في الحقيقة ـ هي الردّ المناسب على أولئك الذين يدنّسون قدسية أنبياء الله العظام بادّعاءات باطلة وواهية يستقونها من كتاب التوراة الحالي المحرّف ، وبهذا الشكل فإنّها تبرئ ساحته من كلّ تلك الاتّهامات الباطلة والمزيّفة ، وتشيد بمرتبته عند البارئعزوجل ، حتّى أنّ عبارة( حُسْنَ مَآبٍ ) التي تبشّره بحسن العاقبة والمنزلة الرفيعة عند الله ، هي ـ في نفس الوقت ـ إشارة إلى زيف الادّعاءات المحرّفة التي نسبتها كتب التوراة إليه ، والتي تدّعي أنّ سليمان انجرّ في نهاية الأمر إلى عبادة الأصنام إثر زواجه من امرأة تعبد الأصنام ، وعمد إلى بناء معبد للأصنام ، إلّا أنّ القرآن الكريم ينفي ويدحض كلّ تلك البدع والخرافات.

* * *

ملاحظتان

١ ـ الحقائق التي تبيّنها لنا قصّة سليمان

من دون أيّ شكّ ، إنّ القرآن الكريم يهدف من ذكر تاريخ الأنبياء إتمام برامج التربية من خلال عكس عين الحقائق في هذه القصص.

ومن جملة الأمور التي رسمتها قصّة سليمان ، ما يلي :

أ: إنّ إمساكه بزمام امور مملكة قويّة ذات إمكانيات ماديّة واقتصاديّة واسعة

٥١٣

وحضارة ساطعة لا تتنافى مع المقامات المعنوية والقيم الإلهية والإنسانية ، كما ذكرت ذلك الآيات المذكورة أعلاه بعد انتهائها من سرد النعم الماديّة التي أجزلها الله على سليمان ، إذ يقول القرآن المجيد :( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ) .

وفي حديث ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فيه : «أرأيتم ما اعطي سليمان بن داود من ملكه؟ فإنّ ذلك لم يزده إلّا تخشعا ، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعا لربّه»(١) !

ب : لإدارة شؤون مملكته كبيرة مترامية الأطراف ، يجب توفّر وسيلة سريعة للاتّصال ، كما ينبغي الاستفادة من الطاقات المختلفة ، والحيلولة دون نفوذ القوى المخرّبة ، والاهتمام بالقضايا العمرانية ، والحصول على الأموال عن طريق استخراج الثروات من البرّ والبحر ، ووضع الإمكانات تحت تصرّف الولاة والعمّال المناسبين والجديرين بتسلّم المناصب ، كلّ هذه الأمور عكستها قصّة سليمان بصورة واضحة.

ج : الاستفادة من القوى البشرية بأقصى حدّ ممكن ، بل ويمكن الاستفادة حتّى من الشياطين ، إذ يمكن توجيهها وإرشادها للطريق الصحيح ، وغلّ وتصفيد المتبقّي منها الذي لا يستفاد منه.

٢ ـ سليمان في القرآن والتوراة

القرآن المجيد وصف نبي الله سليمان في الآيات المذكورة أعلاه بأنّه إنسان طاهر وصاحب قيم ومدبّر وعادل.

في حين وصفه كتاب التوراة الحالي المحرّف (والعياذ بالله) بأنّه رجل فاجر مطيع لهوى نفسه وذو نقاط ضعف كثيرة. والعجيب في الأمر أنّه استعرض إلى جانب هذه الصفات الكاذبة والمزيّفة مناجاة سليمان لربّه وأشعاره الدينيّة وأمثاله

__________________

(١) روح البيان ، المجلّد ٨ ، الصفحة ٣٩.

٥١٤

وحكمه ، والتي تشهد على أنّه رجل حكيم وحرّ ، وهذا تناقض عجيب يشاهد في كتاب التوراة المحرّف الحالي.

ولمن يريد الاطلاع أكثر بهذا الشأن يمكنه مراجعة تفسير الآيات ١٢ و ١٣ و ١٤ من سورة سبأ ، والذي جاء تحت عنوان (صور سليمان في القرآن وكتاب التوراة الحالي المحرّف).

* * *

٥١٥

الآيات

( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) )

التّفسير

حياة أيّوب المليئة بالحوادث والعبر :

الآيات السابقة تحدّثت عن سليمانعليه‌السلام وعن القدرة التي منحها إيّاه البارئعزوجل ، والتي كانت بمثابة البشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمسلمي مكّة الذين كانوا يعيشون تحت ضغوط صعبة.

آيات بحثنا هذا تتحدّث عن أيّوب الذي كان أنموذجا حيّا للصبر والاستقامة ، وذلك لتعطي درسا لمسلمي ذلك اليوم ويومنا الحاضر وغدا ، درسا في مقاومة مشاكل وصعاب الحياة ، ولتدعوهم إلى الاتّحاد والتعاون ، كما وضّحت العاقبة المحمودة للصبر والصابرين.

٥١٦

وأيّوب هو ثالث نبي من أنبياء الله تستعرض هذه السورة (سورة ص) جوانب من حياته ، وهي بذلك تدعو رسولنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تذكّر هذه القصّة ، وحكايتها للمسلمين ، كي يصبروا على المشاكل الصعبة التي كانت تواجههم ، ولا ييأسوا من لطف ورحمة الله.

اسم «أيّوب» أو قصّته وردت في عدّة سور من سور القرآن المجيد ، منها الآية (١٦٣) في سورة النساء ، والآية (٨٤) في سورة الأنعام التي ذكرت اسمه في قائمة أنبياء الله الآخرين ، وبيّنت وأثبتت مقام نبوّته ، بخلاف كتاب التوراة الحالي الذي لم يعتبره من الأنبياء ، وإنّما اعتبره أحد عباد الله المحسنين والأثرياء وذا عيال كثيرين.

كما أنّ الآيات (٨٣) و (٨٤) في سورة الأنبياء استعرضت بصورة مختصرة جوانب من حياة أيّوبعليه‌السلام ، أمّا آيات بحثنا هذه فإنّها تستعرض حياته بصورة مفصّلة أكثر من أيّ سورة اخرى من خلال أربعة آيات :

فالاولى تقول :( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) .

«نصب» على وزن (عسر) ، و (نصب) على وزن (حسد) ، وكلاهما بمعنى البلاء والشرّ.

هذه الآية تبيّن أوّلا علوّ مقام أيّوب عند الباريعزوجل ، وذلك من خلال كلمة «عبدنا» ، وثانيا فإنّها تشير بصورة خفيّة إلى الابتلاءات الشديدة التي لا تطاق ، وإلى الألم والعذاب الذي مسّ أيّوبعليه‌السلام .

ولم يرد في القرآن الكريم شرحا مفصّلا لما جرى على أيّوبعليه‌السلام ، وإنّما نقرأ في كتب الحديث المعروفة والتفاسير تفاصيل هذه القصّة.

ففي تفسير نور الثقلين نقرأ أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عن بليّة أيّوب التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علّة كانت؟ (لعلّ السائل كان يظنّ أنّ أيّوب ابتلي بما ابتلي

٥١٧

به لمعصية ارتكبها) فأجابعليه‌السلام

بقوله : «لنعمة أنعم اللهعزوجل عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها ، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش ، فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيّوبعليه‌السلام حسده إبليس ، فقال : يا ربّ ، إنّ أيّوب لم يؤدّ إليك شكر هذه النعمة إلّا بما أعطيته من الدنيا ، ولو حرمته دنياه ما أدّى إليه شكر نعمة أبدا ، فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنّه لم يؤدّ إليك شكر نعمة أبدا».

(ولكي يوضّح البارئعزوجل إخلاص أيّوب للجميع ، ويجعله نموذجا حيّا للعالمين حتّى يشكروه حين النعمة ويصبروا حين البلاء ، سمح الباريعزوجل للشيطان في أن يتسلّط على دنيا أيّوب).

«فقال له الباريعزوجل : قد سلّطتك على ماله وولده ، قال : فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولدا إلّا أعطبه (أي أهلكه) فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا. قال : فسلّطني على زرعه يا ربّ ، قال : قد فعلت ، فجاء مع شياطينه فنفخ فيه فاحترق ، فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا ، فقال : يا ربّ سلّطني على غنمه ، فسلّطه على غنمه فأهلكها ، فازداد أيّوب لله شكرا وحمدا ، فقال : يا ربّ سلّطني على بدنه فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه ، فنفخ فيه إبليس فصار قرحة واحدة من قرنه إلى قدمه ، فبقي في ذلك دهرا طويلا يحمد الله ويشكره».

(ولكن وقعت حادثة كسرت قلبه وجرحت روحه جرحا عميقا ، وذلك عند ما زارته مجموعة من رهبان بني إسرائيل).

«وقالوا له : يا أيّوب لو أخبرتنا بذنبك لعلّ الله كان يهلكنا إذا سألناه ، وما نرى ابتلاك بهذا الابتلاء الذي لم يبتل به أحد إلّا من أمر كنت تستره؟ فقال أيّوبعليه‌السلام : وعزّة ربّي لم أرتكب أي ذنب ، وما أكلت طعاما إلّا ويتيم أو ضعيف يأكل معي»(١) .

__________________

(١) هذه الرواية وردت في تفسير نور الثقلين نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم ، ونفس المضمون ورد في (تفسير القرطبي) و (الفخر الرازي) و (الصافي) وغيرها مع اختلاف بسيط.

٥١٨

حقّا إنّ شماتة أصحابه كانت أكثر ألما عليه من أيّة مصيبة اخرى حلّت به ، ورغم هذا لم يفقد أيّوب صبره ، ولم يلوّث شكره الصافي كالماء الزلال بالكفر ، وإنّما توجّه إلى البارئعزوجل وذكر العبارة التي ذكرناها آنفا ، أي قوله تعالى :( أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ) ولكونه خرج من الامتحان الإلهي بنتيجة جيّدة ، فتح الباريعزوجل ـ مرّة اخرى ـ أبواب رحمته على عبده الصابر المتحمّل أيّوب ، وأعاد عليه النعم التي افتقدها الواحدة تلو الاخرى ، لا بل أكثر ممّا كان يمتلك من المال والزرع والغنم والأولاد ، وذلك كي يفهم الجميع العاقبة الحسنة للصبر والتحمّل والشكر.

بعض كبار المفسّرين ، احتملوا أنّ الوساوس التي وسوس بها الشيطان في قلب أيّوب هي المقصودة من أذى وعذاب الشيطان لأيّوب ، إذ كان يقول له أحيانا : لقد طالت فترة مرضك ، ويبدو أنّ ربّك قد نسيك!

وأحيانا كان يقول له : ما زلت تشكر الله رغم أنّه أخذ منك النعم العظيمة والسلامة والقوّة والقدرة!

يحتمل أنّهم ذكروا هذا التّفسير لكونهم يستبعدون إمكانية تسلّط الشيطان على الأنبياء كأيّوب ، ولكن مع الانتباه إلى أنّ هذه السلطة : أوّلا : كانت بأمر من الله.

وثانيا : محدودة ومؤقتة. وثالثا : لامتحان هذا النّبي الكبير ورفع شأنه ، فلا إشكال في ذلك.

على أيّة حال ، قيل : إنّ فترة ألمه وعذابه ومرضه كانت سبع سنين ، وفي رواية اخرى قيل : إنّها كانت (١٨) سنة ، وحالته وصلت إلى حدّ بحيث تركه أصحابه وحتّى أقرب المقربين إليه ، عدا زوجته التي صمدت معه وأظهرت وفاءها له. وهذا شاهد على وفاء بعض الزوجات!

وأشدّ ما آذى وآلم روح أيّوبعليه‌السلام من بين ذلك الأذى والعذاب الذي مرّ به ، هو شماتة أعدائه ، لذا فقد جاء في إحدى الروايات أنّ أيّوبعليه‌السلام سئل بعد ما عافاه

٥١٩

الله ، أيّ شيء كان أشدّ عليك ممّا مرّ؟ فقال : شماتة الأعداء.

في النهاية خرج أيّوبعليه‌السلام سالما من بودقة الامتحان الإلهي ، ونزول الرحمة الإلهيّة عليه يبدأ من هنا ، إذ صدر إليه الأمر( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) .

«اركض» مشتقّة من (ركض) على وزن (فقر وتعني دكّ الأرض بالرجل ، وأحيانا تأتي بمعنى الركض ، وهنا تعطي المعنى الأوّل.

فالله الذي فجّر عين زمزم في صحراء يابسة وحارقة تحت أقدام الطفل الرضيع إسماعيل ، هو الذي أصدر أمرا بتفجّر عين باردة لأيّوب ليشرب منها ويغتسل بمائها للشفاء من كافّة الأمراض التي أصابته (الظاهرية والباطنية).

ويرى البعض أنّ تلك العين عبارة عن ماء معدني صالح للشرب ، وفيه شفاء لكلّ الأمراض ، ومهما كان فإنّه من لطف الله ورحمته النازلة على نبيّه الصابر المقاوم أيّوبعليه‌السلام .

(مغتسل) يعني الماء الذي يغسل به ، وقال البعض : إنّها تعني محل الغسل ، لكنّ المعنى الأوّل أصحّ.

وعلى أيّة حال ، فإنّ وصف ذلك الماء بالبارد ، قد يكون إشارة إلى التأثيرات الخاصّة التي يتركها الماء البارد على سلامة الجسم ، وذلك ما أثبته الطبّ الحديث اليوم. إضافة إلى أنّه إشارة لطيفة إلى أنّ كمال ماء الغسل يتمّ إن كان طاهرا ونظيفا كماء الشرب.

والشاهد على هذا ما جاء في الروايات من استحباب شرب جرعة من الماء قبل الاستحمام به(١) .

النعمة المهمّة الاولى التي أعيدت على أيّوب هي العافية والشفاء والسلامة ، أمّا بقيّة النعم التي أعيدت عليه ، فاستعرضها القرآن المجيد( وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد الأول ، الباب الثالث عشر من أبواب آداب الحمام الحديث ١٣.

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581