الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 581

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 581 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 175737 / تحميل: 6525
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٤

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة: الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والإبن إله، والروح إله، وهو ثلاثة وهو واحد، ويمثّلون لذلك بقولهم: إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد، وابن عمرو والإنسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه: أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة(١) .

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ببيان أنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية، الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله:( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ، أنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

__________________

(١) الميزان: ج ٤ ص ٧٠.

٢٤١

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث:

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً، وهذان لا يجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين، ولأجل ذلك أصبحت عندهم: ١ = ٣ وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة: « برهما »: « الموجد »، و « فيشفو »: « الحافظ »، و « سيفا »: « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة، ولـمـّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين:

الأوّل: تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة ١ = ٣ وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني: إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

٢٤٢

ثلاثة، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٧١ ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقّه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس:

١ ـ عيسى بن مريم ٢ ـ رسول الله ٣ ـ كلمته ٤ ـ ألقاها إلى مريم ٥ ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها:

٢٤٣

١ ـ عيسى بن مريم: وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و لدليل واضح على بشريّته.

٢ ـ رسول الله: ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

٣ ـ كلمة الله: وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / ١٠٩ ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

٤ ـ ألقاها إلى مريم: إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم، الآية ١٦ إلى ٣٦ واختتمها بقوله:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / ٣٤ ).

٥ ـ وروح منه: إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون أنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / ١٣ ) والمعنى أنّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده، ومبتدأ منه، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى:( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / ١١ ).

أضف إلى ذلك أنّ ذلك التعبير لا يفوق في حقّ آدم حيث قال:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / ٢٩ ).

٢٤٤

فقد وصف آدمعليه‌السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح:

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة:

١ ـ كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

٢ ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.

٣ ـ تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة، فيقول سبحانه:

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُمٍّ ووالد، قال سبحانه:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / ٥٩ ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة، قال سبحانه:( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

٢٤٥

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / ٧٥ ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه:( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٧٢ ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق، قال الإمام: يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد وما ننقم على عيسى شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلّا أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا: وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق: من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قطّ وما نام بليل قطّ وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا: فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع(١) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه:

( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

٢٤٦

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

ج ـ المسيح ابن الله:

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض:

١ ـ الجن:( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / ١٥٨ ).

وأمّا ما هذا النسب، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن، كما ورد في قوله سبحانه:( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ) ( سبأ / ٤١ ).

٢ ـ الملائكة:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / ٤٠ ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / ١٩ ).

٣ ـ المسيح: وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر، اشتهاراً بهذه النسبة، غير نافين عن أنفسهم هذا العار، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

٢٤٧

عقلية محتاجة إلى التوضيح، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها:

١ ـ البقرة / ١١٦ ـ ١١٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى الله ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية:

١ ـ سبحانه. ٢ ـ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

٣ ـ بديع السموات والأرض. ٤ ـ وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ ـ « سبحانه »: وهذه الكلمة تفيد تنزيه الله سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة، قال تعالى:( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / ٦٨ ).

واللفظة تفيد أنّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على الله تعالى، يجب تنزيهه عنه، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين والله سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

٢٤٨

ب ـ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د ـ( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة الله تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال:

إنّ قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

٢٤٩

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام(١) .

٢ ـ الأنعام / ١٠٠ ـ ١٠٢:

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / ١٠٠ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٠١ ).

( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم، وإليك بيانها:

أ ـ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج ـ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة والله

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٦١.

٢٥٠

سبحانه منزّه، عن أن تكون له زوجة.

د ـ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان، والمفروض خلافه.

٣ ـ يونس / ٦٨:

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ ـ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية، والله غني عن الجميع.

ب ـ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج ـ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

٤ ـ الكهف / ٤ و ٥:

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا *مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا ) .

٢٥١

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

٥ ـ مريم / ٣٥:

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله( سُبْحَانَهُ ) والثاني( إِذَا قَضَىٰ ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

٦ ـ مريم / ٨٨ ـ ٩٥:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين:

أحدهما قولهُ:( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما: قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

٢٥٢

مسخّر لله سبحانه، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

٧ ـ الأنبياء / ٢٦ و ٢٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

٨ ـ المؤمنون / ٩١:

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله، والمفروض أنّه ليس معه إله.

٩ ـ الزمر / ٤:

( لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة:

أ ـ( سُبْحَانَهُ ) .

٢٥٣

ب ـ( الْوَاحِدُ ) .

ج ـ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل: فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني: أعني كونه واحداً، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث: أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق الله العليّ العظيم حيث قال:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / ٨٢ ).

قسمة ضيزي:

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى الله عزّ وجلّ الإناث من الملائكة، قال سبحانه:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / ٤٠ ).

٢٥٤

وقال تعالى:( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ ـ ٢٢ ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / ١٩ ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رحاله بالمدينة، والتفّ حوله الأوس والخزرج، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

٢٥٥

إدارة التجارة، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج، والنزاعات القبلية بينهما، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه:

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / ٥١ ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة:

١ ـ إفشاء علائم النبوّة:

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله:

١ ـ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / ٧٦ ).

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لاتخبروهم بما

٢٥٦

في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجّوكم به عند ربّكم(١) .

وردّ سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / ٧٧ ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور: يا معشر اليهود اتّقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى قوله:

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

٢ ـ السؤال عن الروح الأمين:

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال لهم رسول الله: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا: نعم، قال: فسألوا عمّا بدا لكم وممّا سألوا عنه نوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: كيف نومك ؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال: حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين، ثمّ قالوا له: فأخبرنا عن الروح ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٢٨٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٧

قال: أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: أللّهم نعم، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٧ و ٩٨ )(١) .

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / ٨٥ ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أيّ تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة:( لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / ٦ ).

٣ ـ إنكار نبوّة سليمانعليه‌السلام :

إنّ رسول الله لـمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبارهم: ألا تعجبون من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً، والله ما كان إلّا ساحراً، فأنزل الله تعالى في ذلك:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / ١٠٢ )(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٣. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٢٤ ( طبع بيروت ).

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٠. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٣٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٨

٤ ـ كتابه إلى يهود خيبر:

كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم بالله، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فادعوكم إلى الله وإلى نبيّه(١) .

٥ ـ إنكار أخذ الميثاق منهم:

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي، فأنزل الله سبحانه في ردّهم:( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلّا الْفَاسِقُونَ *أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / ٩٩ و ١٠٠ ).

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥٩

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم(١) .

٦ ـ الإقتراحات التعجيزيّة:

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزل قوله سبحانه:( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / ١٠٨ ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه، فنزل قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

٧ ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

لـمـّا قدم أهل نجران من النصارى على رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك قولهم:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / ١١٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

عن كيفية عودة عائلته إليه؟ وردت تفاسير متعدّدة ، أشهرها يقول : إنّهم كانوا أمواتا فأحياهم الله مرّة اخرى.

ولكن البعض قال : إنّهم كانوا قد تفرّقوا عنه أيّام ابتلائه بالمرض ، فجمعهم الله إليه بعد برئه.

ويحتمل أنّ جميعهم أو بعضهم ابتلي بمختلف أنواع الأمراض ، وقد شملتهم الرحمة الإلهية وعادت إليهم صحّتهم وعافيتهم ، ليجتمعوا مرّة اخرى حول أيّوب.

أمّا قوله تعالى :( وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ) ، فإنّها إشارة إلى تناسلهم وزيادة عددهم إلى الضعف ، وبهذا إزداد عدد أبناء أيّوب إلى الضعف.

ورغم أنّ الآيات لا تتطرّق إلى إعادة أموال أيّوب إليه ، ولكن الدلائل كلّها تبيّن أنّ البارئعزوجل أعاد إليه أمواله وأكثر من السابق.

الذي يلفت النظر في آخر الآية ـ محلّ البحث ـ أنّ هدف إعادة النعم الإلهيّة على أيّوب تحدّد بأمرين :

الأوّل : (رحمة منّا) والتي كان لها صبغة فردية ، وفي الحقيقة إنّها مكافأة وجائزة من البارئعزوجل لعبده الصابر المقاوم أيّوب.

والثّاني : إعطاء درس لكلّ أصحاب العقول والفكر على طول التأريخ لأخذ العبر من أيّوب ، كي لا يفقدوا صبرهم وتحمّلهم عند تعرّضهم للمشاكل والحوادث الصعبة ، وأن لا ييأسوا من رحمة الله ، بل يزيدوا من أملهم وتعلّقهم به.

المشكلة الوحيدة التي بقيت لأيّوبعليه‌السلام هي قسمه بضرب زوجته ، إذ كان قد أقسم أيّام مرضه لئن برىء من مرضه ليجلدنّ امرأته مائة جلدة أو أقل لأمر أنكره عليها ، ولكن بعد ما برىء من مرضه رغب أيّوب في العفو عنها احتراما وتقديرا لوفائها ولخدماتها التي قدّمتها إليه أيّام مرضه ، ولكن مسألة القسم بالله كانت تحول دون ذلك.

٥٢١

وهنا شمل البارئعزوجل أيّوبعليه‌السلام مرّة اخرى بألطافه ورحمته ، وذلك عند ما أوجد حلّا لهذه المشكلة المستعصية على أيّوب( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) .

«ضغث» تعني ملء الكفّ من الأعواد الرقيقة ، كسيقان الحنطة والشعير أو الورد وما شابهها.

وعن الأمر الذي أنكرته زوجة أيّوب على زوجها والتي تدعى (ليا) بنت يعقوب ، فقد اختلف المفسّرون في تفسيره

فقد نقل عن (ابن عبّاس) أنّ الشيطان ظهر بصورته الطبيعية لزوجة أيّوب ، وقال لها : إنّي أعالج زوجك بشرط أن تقولي حينما يتعافى : إنّي الوحيد الذي كنت السبب في معافاته ، ولا أريد أيّ اجرة على معالجته الزوجة التي كانت متألّمة ومتأثّرة بشدّة لاستمرار مرض زوجها وافقت على الاقتراح ، وعرضته على زوجها أيّوب فيما بعد ، فتأثّر أيّوب كثيرا لوقوع زوجته في شرك الشيطان ، وحلف أن يعاقب زوجته.

وقال البعض إنّ أيّوب بعث زوجته لمتابعة عمل ما ، فتأخّرت في العودة إليه ، فتأثّر أيّوب الذي كان يعاني من آلام المرض ، وحلف أن يعاقب زوجته.

على أيّة حال ، فإنّ زوجته كانت تستحقّ الجزاء من هذا الجانب ، أمّا من جانب وفائها وخدمتها أيّوب طوال فترة مرضه فإنّه يجعلها تستحقّ العفو أيضا.

حقّا إنّ ضربها بمجموعة من سيقان الحنطة أو الشعير لا تعطي مصداقا واقعيا لحلفه ، ولكنّه نفّذ هذا الأمر لحفظ احترام اسم الله ، والحيلولة دون إشاعة مسألة انتهاك القوانين ، وهذا الأمر ينفّذ فقط بشأن الطرف الذي يستحقّ العفو ، وفي الموارد الاخرى التي لا تستحقّ العفو لا يجوز لأحد القيام بمثل هذا العمل(١) .

__________________

(١) نظير هذا المعنى ورد في باب الحدود الإسلامية وتنفيذها بحقّ المرضى المذنبين (كتاب الحدود أبواب حدّ الزنا).

٥٢٢

الآية الأخيرة في بحثنا هذا ـ التي هي بمثابة عصارة القصّة من أوّلها حتّى آخرها ـ تقول :( إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) .

ومن الواضح أنّ دعاء أيّوب البارئعزوجل ، وطلبه دفع الوساوس الشيطانية عنه ، ورفع البلاء والمرض عنه ، كلّ هذه لا تتنافى مع مقام صبره وتحمّله ، ذلك الصبر والتحمّل الذي استمرّ لمدّة سبع سنين ، وفي روايات اخرى لمدّة ثمانية عشر عاما ـ للأوجاع والأمراض والفقر والعسر واستمرار الشكر.

الذي يلفت النظر في هذه الآية أنها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب ، كلّ واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.

أوّلا : مقام عبوديته.

ثانيا : صبره وتحمّله وثباته.

ثالثا : إنابته المتكرّرة إلى الله.

* * *

بحوث

١ ـ دروس مهمّة في قصّة أيّوب

رغم أنّ قصة هذا النّبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة ، إلّا أنّها وضّحت حقائق مهمّة ، منها :

أ ـ الامتحان الإلهي واسع وكبير جدّا ويشمل حتّى الأنبياء الكبار ، إذ يكون امتحانهم أشدّ وأصعب من الآخرين ، لأنّ طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على هذا الأساس ، ومن دون هذا الامتحان فإنّ الإمكانيات والطاقات الكامنة في الإنسان لا تتفجّر.

ب ـ الفرج بعد الشدّة نقطة اخرى تمكن في مجريات هذه القصّة ، فعند ما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كلّ جانب ، عليه أن لا ييأس

٥٢٣

ويفقد الأمل ، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه ، كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام : «عند تناهي الشدّة تكون الفرجة ، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء»(١) .

ج ـ مجريات هذه القصّة توضّح بصورة جيّدة بعض غايات البلاء والحوادث الصعبة في الحياة ، وتجيب على من يرى في وجود الآفات والبلايا تناقضا مع برهان النظم في بحوث التوحيد ، لأنّ وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الإنسان ـ من أنبياء الله الكبار وحتّى عموم الناس ـ يعدّ أمرا ضروريا ، فالامتحان ـ كما ذكرنا ـ يفجّر طاقات الإنسان الكامنة ، ويوصله في آخر الأمر إلى التكامل في وجوده.

لذا فقد ورد في الروايات الإسلامية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثمّ الذين يلونهم ، الأمثل فالأمثل»(٢) .

كما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ في الجنّة منزلة لا يبلغها عبد إلّا بالابتلاء»(٣) .

د ـ أحداث هذه القصّة تعطي درسا في الصبر لكلّ المؤمنين الواقعيين الرساليين ، الصبر والتحمّل الذي يعقبه الظفر والإنتصار في كلّ المجالات ، ونيل المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند البارئعزوجل .

ه ـ أحيانا يكون إمتحان شخص ما ، هو إمتحان في نفس الوقت لأصدقائه وللمحيطين به ، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبّتهم إيّاه ، ومقدار وفائهم له ، فعند ما فقد أيّوب أمواله وثرواته وصحّته تفرّق عنه أصحابه ، ولم يكتفوا بالابتعاد عنه ، وإنّما اتّحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه ، وكشفوا

__________________

(١) نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الكلمة ٣٥١.

(٢) سفينة البحار مادّة (بلاء) المجلّد الأوّل ، الصفحة ١٠٥.

(٣) المصدر السابق.

٥٢٤

بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم ، وكما لاحظنا فإنّ أيّوب كان يتألّم من جراح ألسنتهم أكثر من تألّمه من مرضه ، والشعر المعروف يقول :

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

جراح الكلام ليس لها التئام.

و ـ أحبّاء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء ، وإنّما أحبّاء الله الواقعيون هم أولئك الذين يذكرون الله دائما في السرّاء والضرّاء ، وفي البلاء والنعمة ، وفي المرض والعافية ، وفي الفقر والغنى ، وإنّ تأثيرات الحياة الماديّة لا تترك على إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبته الخاصّة بوصف المتّقين التي بيّنها لصاحبه المخلص «همام» واستعرض فيها أكثر من (١٠٠) صفة للمتّقين ، قال في إحدى تلك الصفات :

«نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء».

ز ـ هذه القصّة أكّدت مرّة اخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة ، ونزول المصائب ، وحلول المشاكل والفقر ، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف البارئعزوجل ، كما أنّ امتلاك الإمكانات الماديّة ليس دليلا على بعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى ، وإنّما يمكن أن يكون الإنسان عبدا مقرّبا لله مع امتلاكه للكثير من الإمكانات الماديّة ، بشرط أن لا يكون عبدا لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي ، وإنّ فقدها لا يفقد الصبر معها.

٢ ـ أيّوبعليه‌السلام في القرآن والتوراة

رغم أنّ البارئعزوجل أشاد بالروح الكبيرة لهذا النّبي الكبير الذي هو مظهر الصبر والتحمّل في قرآنه المجيد في أوّل القصّة الخاصة به وفي آخرها. فإنّ قصّة هذا النّبي الكبير ـ ممّا يؤسف له ـ لم تحفظ من أيدي الجهلة والأعداء ، حيث دسّوا فيها خرافات تافهة لا تليق بمقامه المحمود المنزّه عنها والمطهّر منها ، ومن تلك

٥٢٥

الخرافات القول بأنّ الدود غطّى بدنه أثناء فترة مرضه ، وتعفّن جسده ، بحيث أنّ أهل قريته ضاقوا به ذرعا وأخرجوه من قريتهم.

ودون أدنى شكّ ، فإنّ مثل هذه الروايات مزيّفة رغم ورودها في طيّات كتب الحديث ، لأنّ رسالة الأنبياء تفرض أن يكون النّبي المرسل ـ في أي زمان ـ بعيدا عن مثل تلك التقوّلات ، كي ينجذب إليه الناس برغبة وشوق ، وأن لا تتوفّر فيه أشياء تكون سببا لتنفّرهم فيه وابتعادهم عنه ، كالأمراض والعيوب الجسدية والأخلاق السيّئة ، لأنّها تتناقض مع فلسفة الرسالة ، فالقرآن المجيد يقول بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية (١٥٩) من سورة عمران :( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) .

وهذه الآية دليل على أنّ النّبي يجب أن لا يكون بحالة تجعل المحيطين به يتفرّقون عنه. ولكن ورد في التوراة جزء خاص بأيّوب وقبل موضوع (مزامير داود) وهذا الجزء يشتمل على (٤٢) فصلا ، كلّ فصل يشرح مواضيع مختلفة ، وقد وردت في بعض الفصول مواضيع سيّئة وقبيحة ، ومنها ما ورد في الفصل الثالث والذي يقول : إنّ أيّوب كان كثير الشكوى ، في حين أنّ القرآن الكريم كان يعظّم ويشيّد بمقام صبره وتحمّله.

٣ ـ إطلاق صفة (أوّاب) على الأنبياء الكبار

ثلاثة أنبياء كبار أطلقت عليهم صفة (أوّاب) في هذه السورة ، وهم : داود وسليمان وأيّوب ، وفي سورة (ق) في الآية (٣٢) اطلق هذا الوصف على كلّ أهل الجنّة ، قوله تعالى :( هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ) .

هذه العبارات تبيّن أنّ مقامه في المقام الأعلى ، وعند ما نرجع إلى مصادر اللغة نشاهد أنّ كلمة (أوّاب) مشتقّة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة.

وهذا الرجوع والعودة (خاصّة وأنّ كلمة (أوّاب) هي اسم مبالغة تعني كثرة

٥٢٦

الرجوع وتكراره) يشير إلى أنّ الأوّابين حسّاسون جدّا تجاه الأسباب والعوامل التي تبعدهم عن الله ، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم ، ووساوس النفس والشيطان ، وإن ابتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة ، وإن غفلوا عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها.

هذه العودة يمكن أن تكون بمعنى العودة إلى طاعة أوامر الله واجتناب نواهيه ، أي أنّ أوامره هي مرجعهم وسندهم أينما كانوا.

وكلمة (أوّاب) التي جاءت في الآية العاشرة من سورة سبأ( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) والخاصّة بداود ـ أيضا ـ تعطي معنا آخر ، وهو ترديد الصوت ، إذ أنّ الأوامر صدرت إلى الجبال والطيور أن ردّدي الصوت مع داود ، ولهذا فإنّ (أوّاب) تعني كلّ من يردّد الأوامر الإلهيّة والتسبيح والحمد الذي تردّده كلّ موجودات الكون حسب قوانين الخلقة ، وممّا يذكر أنّ أحد معاني كلمة (أيّوب) هي (أوّاب).

* * *

٥٢٧

الآيات

( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) )

التّفسير

الأنبياء الستّة :

متابعة للآيات السابقة التي تطرّقت باختصار إلى حياة (داود) و (سليمان) وبصورة أكثر اختصارا لحياة (أيّوب) إذ بيّنت أهم النقاط البارزة في حياة هذا النّبي الكبير ، وتستعرض آيات بحثنا هذا أسماء ستّة من أنبياء الله ، وتوضّح بصورة مختصرة بعض صفاتهم البارزة التي يمكن أن تكون أنموذجا حيّا لكلّ بني الإنسان.

والذي يلفت الانتباه ، هو أنّ هذه الآيات استعرضت ستّ صفات مختلفة لأولئك الأنبياء الستّة ، ولكلّ صفة معناها ومفهومها الخاصّ بها.

ففي البداية تخاطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ

٥٢٨

وَيَعْقُوبَ ) .

مقام العبودية هو أوّل ميزة لأولئك الأنبياء ، وحقّا فإنّ كلّ شيء جمع في هذه الصفة فالعبودية لله تعني التبعية المطلقة له ، وتعني الاستسلام الكامل لإرادته ، والاستعداد لتنفيذ أوامره في كلّ الأحوال.

العبودية لله تعني عدم الاحتياج لغيره ، وعدم التوجّه لسواه ، والتكفير بلطفه ورحمته فقط ، هذا هو أوج تكامل الإنسان وأفضل شرف له.

ثمّ تضيف الآية :( أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ) .

إنّه لتعبير مثير للعجب؟ أصحاب الأيدي والأبصار! «أيدي» جمع (يد) ، و (أبصار) جمع (بصر).

الإنسان يحتاج إلى قوّتين لتحقيق أهدافه ، الاولى قوّة الإدراك والتشخيص ، والثانية حسن الأداء. وبعبارة اخرى : يجب عليه الاستفادة من (العلم) و (القدرة) للوصول إلى أهدافه.

وقد وصف البارئعزوجل أنبياءه بأنّهم ذوو إدراك وتشخيص وبصيرة قويّة ، وذوو قوّة وقدرة كافية لإنجاز أعمالهم.

إنّ هؤلاء الأنبياء على مستوى عال من المعرفة ، وأنّ مستوى علمهم بشريعة الله وأسرار الخلق وخفايا الحياة لا يمكن تحديده.

أمّا من حيث الإرادة والتصميم وحسن الأداء ، فإنّهم غير كسولين أو عاجزين أو ضعفاء ، بل هم أشخاص ذوو إرادة قويّة وتصميم راسخ ، إنّهم قدوة لكلّ السائرين في طريق الحقّ ، فبعد مقام العبودية الكامل لله تعالى ، لتسلّحوا بهذين السلاحين القاطعين.

وممّا يستنتج من هذا الحديث أنّه ليس المراد من اليد والعين أعضاء الحسّ التي يمتلكها غالبية الناس ، لأنّ هناك الكثيرين ممّن يمتلكون هذين العضوين لكنّهم لا يمتلكون الإدراك والشعور الكافي ، ولا القدرة على التصميم ، ولا حسن

٥٢٩

الأداء في العمل ، وإنّما هي كناية عن صفتين هما (العلم والقدرة).

أمّا الصفة الرابعة لهم فيقول القرآن بشأنها :( إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) (١) .

نعم ، إنّهم يتطلّعون إلى عالم آخر ، وأفق نظرهم لا ينتهي عند الحياة الدنيا ولذّاتها المحدودة ، بل يتطّلعون إلى ما وراءها من حياة أبدية ونعيم دائم ، ولهذا يبذلون الجهد ويسعون غاية السعي لنيلها.

وعلى هذا فإنّ المراد من كلمة (الدار) هي الدار الآخرة ، لأنّه لا توجد دار غيرها ، وإن وجدت فما هي إلّا جسر أو ممرّ يؤدّي إلى الآخرة في نهاية الأمر.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون المراد من الدار هنا دار الدنيا ، وعبارة( ذِكْرَى الدَّارِ ) إشارة إلى الذكر الحسن الباقي لأولئك الأنبياء في هذه الدنيا ، وهذا الاحتمال مستبعد جدّا ، وخاصّة أنّ كلمة (الدار) جاءت بشكل مطلق ، وكذلك لا تتناسب مع كلمة (ذكرى).

والبعض الآخر احتمل أنّ المراد هو ذكرهم الحسن والجميل في دار الآخرة ، وهذا مستبعد أيضا.

وعلى أيّة حال ، فلعلّ الإنسان يتذكّر الآخرة بين حين وآخر ، خاصّة عند وفاة أحد أصدقائه أو مشاركته في مراسم التشييع أو مجالس الفاتحة ، وهذا الذكر ليس خالصا وإنّما هو مشوب بذكر الدنيا ، أمّا عباد الله المخلصون فإنّ لهم توجّها خالصا وعميقا ومستمرا بالنسبة للدار الآخرة ، فهي على الدوام تتراءى أمام أعينهم ، وعبارة (خالصة) في الآية إشارة إلى هذا المعنى.

الصفتان الخامسة والسادسة جاءتا في الآية التالية( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ

__________________

(١) (ذكرى الدار) من الممكن أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف ، وتقدير العبارة (هي ذكر الدار) ، ومن الممكن أن تكون بدلا من (خالصة).

٥٣٠

الْأَخْيارِ ) (١) .

إنّ إيمانهم وعملهم الصالح كانا السبب في اصطفاء البارئعزوجل لهم من بين الناس لأداء مهام النبوّة وحمل الرسالة ، وعملهم الصالح وصل إلى درجة. استحقّوا بحقّ إطلاق كلمة (الأخيار) عليهم ، فأفكارهم سليمة ، وأخلاقهم رفيعة ، وتصرفاتهم وأعمالهم طوال حياتهم متّزنة ، ولهذا السبب فإنّ بعض المفسّرين يستفيدون من هذه العبارة وأنّ الله سبحانه وتعالى اعتبر أولئك أخيارا من دون أي قيد وشرط ، كدليل على عصمة الأنبياء ، لأنّه متى ما كان وجود الإنسان كلّه خيرا ، فمن المؤكّد أنّه معصوم(٢) .

عبارة (عندنا) مليئة بالمعاني العميقة ، وتشير إلى أنّ اصطفاءهم واعتبارهم من الأخيار لم يتمّ وفق تقييم الناس لهم ، التقييم الذي لا يخلو من التهاون وغضّ النظر عن كثير من الأمور ، وإنّما تمّ بعد التحقّق من كونهم أهلا لذلك وبعد تقييمهم ظاهريا وباطنيا.

وبعد أن أشارت الآية السابقة إلى مقام ثلاثة أنبياء بارزين ، تشير الآية التالية ، إلى ثلاثة آخرين ، إذ تقول :( وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) .

فكلّ واحد منهم كان مثالا وأسوة في الصبر والاستقامة وطاعة أوامر البارئعزوجل ، خاصّة «إسماعيل» الذي كان على استعداد كامل للتضحية بروحه في سبيل الله ، ولهذا السبب اطلق عليه لقب (ذبيح الله) وهو الذي ساهم مع والده إبراهيمعليه‌السلام في بناء الكعبة الشريفة وتثبيت أسس التجمّع العظيم الذي يتمّ في موسم الحجّ كلّ عام.

واستعراض آيات القرآن الكريم لحياة أولئك العظام ليستلهم منها

__________________

(١) (مصطفين) (بفتح الفاء) جمع مصطفى ، وفي الأصل كانت (مصطفيين) حذفت ياؤها الاولى فأصبحت (مصطفين).

(٢) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد ٢٦ ، الصفحة ٢١٧.

٥٣١

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ المسلمين العبر ، ومطالعة حياة أمثال هؤلاء الرجال العظام توجّه حياة الإنسان ، وتبعث فيه روح التقوى والتضحية والإيثار ، وتجعله في نفس الوقت صابرا صامدا أمام المشاكل والحوادث الصعبة.

عبارة( كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ) تشير إلى أنّ الأنبياء الثلاثة (إسماعيل ، واليسع ، وذو الكفل) تنطبق عليهم كافّة الصفات التي وصف بها الأنبياء الثلاثة السابقون (إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب) الذين أطلقت عليهم الآية السابقة صفة (الأخيار) ، كما أنّ (الخير المطلق) له معان واسعة تشمل (النبوّة) و (الدار الآخرة) و (مقام العبوديّة) و (العلم والقدرة).

أمّا (اليسع) فقد ورد اسمه مرتين في القرآن المجيد ، إحداها في هذه السورة ، والاخرى في الآية (٨٦) من سورة الأنعام ، وما جاء في القرآن الكريم يوضّح أنّه من الأنبياء الكبار ومن الذين يقول عنهم القرآن في آياته :( وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ ) .(١)

البعض يعتقد أنّ (اليسع) هو (يوشع بن نون) أحد أنبياء بني إسرائيل المعروفين ، وقد دخلت الألف واللام على اسمه كما أبدلت الشين بالسين ، ودخول الألف واللام على الاسم غير العربي (وهذا اسم عبري) أمر غير جديد ، فمثلها مثل (إسكندر) التي تلفظ وتكتب بالعربية (الإسكندر) إذ هو نوع من التقريب.

في حين أنّ البعض يعتبرها كلمة عربية مشتقّة من (يسع) والتي هي فعل مضارع مشتقّ من (وسعت) ولتحويله إلى اسم أضيف إليه الألف واللام.

الآية (٨٦) من سورة الأنعام بيّنت أنّه من ذريّة إبراهيم ، ولكن لم تبيّن إن كان من أنبياء بني إسرائيل ، أم لا؟

أمّا فصل الملوك في كتاب التوراة فقد جاء فيه أنّ اسمه (اليشع) بن (شافات) ، ومعنى (اليشع) في اللغة العبرية هو (الناجي) فيما تعني (الشافات) (القاضي).

__________________

(١) الأنعام ـ ٨٦.

٥٣٢

وقد اعتبر قسم آخر أنّه (الخضر) ولم يتوفّر بعد أيّ دليل واضح على هذا القول.

واعتبر قسم آخر أنّه (ذو الكفل) وهذا الكلام مخالف بوضوح لما جاء في الآية مورد بحثنا ، لأنّ ذا الكفل معطوفا على اليسع.

وعلى أيّة حال ، فإنّ اليسع هو نبي له مقام رفيع وذو استقامة ، وما ذكرناه بشأنه كاف للاستلهام منه.

وأمّا (ذو الكفل) فهو أيضا معروف بأنّه أحد أنبياء الله ، وذكره ورد مع أنبياء آخرين في الآية (٨٥) من سورة الأنبياء ، وجاء بالضبط بعد اسم إسماعيل وإدريس. والبعض يعتقد أنّه من أنبياء بني إسرائيل ، وأنّه من أبناء أيّوب واسمه الحقيقي (بشر) أو (بشير) أو (شرف) والبعض يرى أنّه (حزقيل) وذو الكفل هو لقب اطلق عليه(١) .

وحول تسمية (ذي الكفل) بهذا الاسم (الكفل يعني النصيب) ويعني (الكفالة والتعهّد) وردت عدّة تفاسير ، منها :

قال البعض : إنّه سمّي بذي الكفل لأنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليه نصيبا وافرا من الثواب وشمله برحمته الواسعة.

وقال بعضهم : لأنّه التزم بتعهّده بقيام الليل بالعبادة ، وصيام النهار ، وعدم السخط من قضاء الله ، وبهذا اطلق عليه هذا اللقب.

وبعض آخر قال : سمّي بذي الكفل لأنّه تكفّل بمجموعة من أنبياء بني إسرائيل ، وأنقذهم من ملوك زمانهم الجبّارين.

وعلى أيّة حال ، فإنّ ما في حوزتنا اليوم من معلومات عن نبي الله ذي الكفل

__________________

(١) أعلام القرآن وتفسير القرطبي وتفسير روح البيان وتفسير الميزان ، كلّ منها أشارت إلى جزء من الموضوع المذكور أعلاه.

٥٣٣

يدلّ على استقامته في طريق طاعة وعبادة الله ، ومقاومة الجبابرة ، وأنّه نموذج بارز ليومنا الحاضر وما بعده ، رغم أنّ البعد الزمني بيننا وبينهم يحول دون المعرفة الدقيقة لتفاصيل أحوالهم.

* * *

٥٣٤

الآيات

( هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) )

التّفسير

هذا ما وعد به المتّقون :

آيات هذه السورة انتقلت بنا إلى شكل آخر من الحديث ، إذ أخذت تقارن بين المتّقين والعصاة المتجبّرين ، وتشرح مصير كلّ منهما يوم القيامة ، وهي بصورة عامّة تكمل بحوث الآيات السابقة.

في البداية ، وكخلاصة لشرح حال الأنبياء السابقين والنقاط المضيئة في حياتهم ، تقول الآية :( هذا ذِكْرٌ ) (١) .

نعم ، لم يكن الهدف من بيان مقاطع من تأريخ أولئك الأنبياء الرائع والمثير سرد بعض القصص ، وإنّما الهدف الذكر والتذكّر ، كما أكّدت عليه بداية هذه السورة( ص

__________________

(١) قال بعض المفسرين في تفسير هذه العبارة : إن المراد من الذكر الجميل هم الأنبياء السابقون.

٥٣٥

وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) .

فالهدف هو إيقاظ الأفكار ، ورفع المستوى العلمي ، وزيادة قوّة المقاومة والصمود لدى المسلمين الذي نزلت إليهم هذه الآيات(١) .

ثمّ أخرجت الأمور من طابعها الخاصّ وبيان أوضاع وأحوال الأنبياء ، إلى طابعها العامّ ، لتشرح بصورة عامّة مصير المتّقين ، إذ تقول :( وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) (٢) .

بعد هذه الآية القصيرة ذات المعاني الخفيّة والتي توضّح تماما حال المتّقين بصورة مختصرة ، يعمد القرآن المجيد مجدّدا إلى اتّباع أسلوبه الخاص ، وهو أسلوب الإيجاز والتفصيل ، ليشرح ما فاز به المتّقون( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) (٣) .

«جنّات» إشارة إلى حدائق الجنّة ، و (عدن) تعني الاستقرار والثبات ، ولهذا اطلق على المنجم الذي تحوي أعماقه أنواع الفلزات والمواد الثمينة كلمة (معدن).

وعلى أيّة حال فالعبارة هنا تشير إلى خلود حدائق الجنّة.

وعبارة( مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ ) إشارة إلى أنّهم لا يتكلّفون حتّى بفتح أبواب الجنّة ، إذ أنّها تنفتح بدون عناء لاستقبال أهل الجنّة ، إذ أنّ الجنّة بانتظارهم ، وعند ما تراهم تفتح لهم أبوابها وتدعوهم للدخول إليها.

ثمّ تبيّن الهدوء والسكينة التي تحيط بأهل الجنّة ، إذ تقول :( مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ ) (٤) . أي إنّهم متكئون على سرر فيها ، وقد هيّئت

__________________

(١) مجموعة من المفسّرين اعتبرت (هذا ذكر) إشارة إلى أنّ كلّ ما قيل بشأن الأنبياء من ذكر خير وثناء جميل كان إشارة إلى أولئك ، فيما تستعرض الآيات التالية مرتبتهم في الآخرة ، ولكن هذا المعنى مستبعد ، وظاهر الآيات لا يتناسب مع ما ذكرناه أعلاه.

(٢) «مآب» تعني المرجع ، وإضافة (حسن) إلى (مآب) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف.

(٣) «جنّات عدن» بدل أو عطف بيان (مآب).

(٤) الضمير (فيها) يعود في كلا الحالتين على (جنّات عدن) ووصف الفاكهة بأنّها كثيرة دليل على وصف (الشراب) بهذا الوصف. (متكئين) حال للضمير (لهم).

٥٣٦

لهم مختلف أنواع الفاكهة والأشربة ، وإنّهم متى ما طلبوها فإنّها تأتيهم في الحال.

وهنا يطرح سؤال هو : هل أنّ هناك من يحمل تلك الفاكهة ، والأشربة ويقدّمها لأهل الجنّة ، أم أنّها تأتيهم من دون أن يحملها أحد إليهم؟

كلا الاحتمالين واردان.

والتأكيد على «الفاكهة» و «الشراب» لعلّه إشارة إلى أنّ الفاكهة هي أكثر غذاء أهل الجنّة رغم وجود أنواع اخرى من الغذاء ذكر في بعض آيات القرآن المجيد ، كما هو الحال في عالم الدنيا إذ أنّ الفاكهة تشكّل أفضل وأسلم غذاء للإنسان.

صفة (كثيرة) تشير إلى وجود أنواع مختلفة من الفاكهة ، وأنواع متعدّدة أيضا من الشراب الطاهر الذي يتوفّر في الجنّة ، وذلك ما أشارت إليه أيضا آيات مختلفة في القرآن المجيد.

بعد هذا تتطرّق الآيات للزوجات الصالحات في الجنّة ، إذ تقول :( وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ) .

«الطرف» جفن العين ، وأحيانا يأتي بمعنى النظر ، ووصف آخر نساء الجنّة بقاصرات الطرف (أي ذوات النظرات القصيرة) يشير إلى اقتصار نظرهنّ على أزواجهنّ فقط ، وحبّهن وعشقهنّ لهم وعدم تفكيرهم بسواهم ، وهذه من أفضل مزايا وحسنات الزوجات.

وقال مفسّرون آخرون : إنّها تعني التغطية بالخمار الذي يضفي على العين جمالا.

ولا يوجد مانع يحول بين جمع المعنيين.

كلمة (أتراب) تعني (الأقران) ، وهو وصف لنساء الجنّة ، فاقتران عمر الزوج والزوجة ـ أي تساويهما ـ يضاعف من المحبّة بين الزوجين ، أو أنّه صفة لنساء أهل الجنّة ، وإنّهنّ جميعا شابات وفي عمر واحد(١) .

__________________

(١) (أتراب) جمع (ترب) على وزن (شعر).

٥٣٧

الآية الأخيرة في هذا البحث تشير إلى النعم السبع التي يغدقها البارئعزوجل على أهل الجنّة ، والتي وردت في الآيات السابقة ، قال تعالى :( هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ) .

وعد لا يخلف ، ويبعث في نفس الوقت على النشاط لمضاعفة الجهد ، نعم إنّه وعد من الله العظيم.

وللتأكيد على خلود هذه النعم ، جاء في قوله تعالى :( إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ) (١) .

أي أنّ النعم في الجنان خالدة ولا تنفد ولا تزول كما في الحياة الدنيا ، وأنّها تزداد دائما من خزائن الله المملوءة وغير المحدودة ، ولا يظهر عليها أي نقص ، لأنّ الله أراد ذلك.

* * *

__________________

(١) (نفاد) تعني (فناء) وإبادة ، و (اللام) في (لرزقنا) جاءت للتأكيد.

٥٣٨

الآيات

( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) )

التّفسير

وهذه هي عاقبة الطغاة!

الآيات السابقة استعرضت النعم السبع وغيرها من النعم التي يغدقها البارئعزوجل على عباده المتّقين ، أمّا آيات بحثنا فإنّها تستخدم أسلوب المقارنة الذي كثيرا ما استخدمه القرآن الكريم ، لتوضيح المصير المشؤوم والعقوبات المختلفة التي ستنال الطغاة والعاصين ، قال تعالى :( هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) (١) .

__________________

(١) كلمة (هذا) مبتدأ وخبرها محذوف ، وتقديرها هو (هذا الذي ذكرناه للمتّقين).

٥٣٩

فالمتّقون لهم (حسن مآب) ، ولهؤلاء العاصين الطغاة (شرّ مآب).

ثمّ تعمد آيات القرآن المجيد إلى الاستفادة من أسلوب الإيجاز والتفصيل ، إذ تقول :( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ ) (١) . أي إنّ جهنّم هي المكان المشؤوم الذي سيردونه ، وإنّهم سيحترقون بنيرانها ، فيا لها من فراش سيء.

والظاهر أنّ عبارة (يصلونها) (أي يدخلون في جهنّم ويحترقون بنيرانها) يراد منها بيان أن لا يتصوّر أحدهم أنّه سيرى جهنّم من مسافة بعيدة ، أو أنّه سيستقرّ بالقرب منها ، كلّا ، بل إنّه سيرد إلى داخلها ، ولا يتصوّر أحدهم أنّه سيعتاد على نار جهنّم ومن ثمّ يستأنس بها ، كلّا ، فإنّه يحترق فيها على الدوام.

«مهاد» كما قلنا من قبل ، تعني الفراش المهيّأ للنوم والاستراحة ، كما تطلق على سرير الطفل.

وبالطبع فإنّ الفراش هو مكان استراحة ، ويجب أن يكون مناسبا ـ في كلّ الأحوال ـ لوضع الشخص وملائما لرغبته ، ولكن كيف سيكون حال الذين خصّصت لهم نار جهنّم فراشا؟!

ثمّ تتطرّق الآيات إلى أنواع اخرى من العذاب الإلهي ، إذ تقول :( هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ) (٢) . أي يجب عليهم أن يشربوا الحميم والغسّاق.

«الحميم» هو الماء الحارّ الشديد الحرارة ، والذي هو أحد أنواع أشربة أهل جهنّم ، ويقابل (الشراب الطهور) الذي ذكرته الآيات السابقة المخصّص لأهل الجنّة.

وكلمة (غسّاق) من (غسق) على وزن (رمق) وتعني شدّة ظلمات الليل. أمّا ابن عبّاس فقد فسّرها بأنّها شراب بارد جدّا (بحيث إنّ برودته تحرق وتجرح أحشاء

__________________

(١) (جهنّم) عطف بيان أو بدل من (شرّ مآب) ، و (يصلونها) حال لها.

(٢) هذه الجملة في الأصل كانت هكذا (هذا حميم وغسّاق فليذوقوه) ، وللتأكيد وضعت عبارة (فليذوقوه) بين المبتدأ والخبر. بعض المفسّرين احتملوا أنّ (هذا) خبر لمبتدأ محذوف كما أنّ (حميم وغسّاق) كذلك ، ولكن يبدو أنّ الاحتمال الأوّل أدقّ وألطف.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581