الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182436 / تحميل: 6250
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الغضب الإلهي جاء وسط حديث الآية عن ثلاث صفات من صفات الرحمة الإلهية ، وفي كلّ ذلك دليل على المعنى المكنون في «يا من سبقت رحمته غضبه».

ثالثا : لا يقتصر المعنى في جملة( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) على عودة الجميع ورجوعهم كافة إليه تعالى في يوم القيامة ، وإنّما تشير أيضا إلى الانتهاء المطلق لكل الأمور في هذا العالم والعالم الآخر إليه تعالى ، وانتهاء سلسلة الوجود إلى قدرته وإرادته.

رابعا : جاء تعبير( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) في ختام الصفات ، وهو حكاية عن مقام التوحيد والعبودية الذي لا يليق بغير الله تعالى ، حيث تنتهي أمام عبوديته كل العبوديات الأخرى. وهكذا يكون تعبير «لا إله إلّا هو» بمثابة النتيجة النهائية الأخيرة للبيان القرآني في هذا المورد.

ولذلك نقرأ في حديث عن ابن عباس أنّه تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) للشخص الذي يقول : لا إله إلّا الله وهو تعالى :( قابِلِ التَّوْبِ ) للذي يقرّ بالعبودية ويقول : لا إله إلّا الله. وهو( شَدِيدِ الْعِقابِ ) للذي لا يقرّ ولا يقول : لا إله إلا الله. وهو( ذِي الطَّوْلِ ) وغني عن الشخص الذي لا يقول : لا إله إلا الله.

من كلّ ذلك يتّضح أن محور الصفات المذكورة هو التوحيد ، الذي يدور مدار الإعتقاد الصحيح والعمل الصالح.

خامسا : من وسائل الغفران في القرآن :

ثمّة في كتاب الله أمور كثيرة تكون أسبابا وعناوين للمغفرة ومحو الذنوب والسيئات ، وفيما يلي تشير إلى بعض هذه العناوين :

١ ـ التوبة : إذ في آية (٨) من سورة التحريم قوله تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

٢ ـ الإيمان والعمل الصالح : حيث نقرأ في سورة (محمّد ـ آية ٢) قوله تعالى :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

١٨١

٣ ـ التقوى : ونرى مصداقها في قوله تعالى :( إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (١) .

٤ ـ الهجرة والجهاد والشهادة : ومصداقها قوله تعالى في الآية (١٩٥) من سورة «آل عمران» :( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

٥ ـ صدقة السر : وذلك قوله تعالى :( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٢) .

٦ ـ الإقراض : كما في قوله تعالى :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) (٣) .

٧ ـ اجتناب كبائر الذنوب : حيث يقول تعالى في(٤) :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) .

وهكذا يتبيّن لنا أن أبواب المغفرة الإلهية مفتوحة من كلّ مكان ، وأنّ عباد الله بوسعهم طرق هذه الأبواب والولوج إلى المغفرة الإلهية. وقد رأينا في الآيات الآنفة الذكر سبعة من هذه الأبواب التي تضمن الخلاص لمن يلج أي واحد منها ، أو كلّها جميعا.

* * *

__________________

(١) الأنفال ، آية ٢٩.

(٢) البقرة ، آية ٢٧١.

(٣) التغابن ، الآية ١٧.

(٤) النساء ، آية ٣١.

١٨٢

الآيات

( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) )

التّفسير

الأمر الإلهي الحاسم :

بعد أن تعرضت الآيات السابقة إلى نزول القرآن ، وإلى بعض الصفات الإلهية التي تستهدف بعث الخوف والرجاء ، ورد كلام في الآيات التي بين أيدينا عن قوم امتازوا بالمجادلة والمنازعة حيال آيات الله الآية الكريمة توضح مصير هذه المجموعة ضمن تعبير قصير وقاطع ، فتقول :( ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ) .

صحيح أنّ هذه المجموعة قد تملك العدة والعدد ، إلّا أنّ ذلك لن يدوم إلّا لفترة ، فلا تغتر وتنخدع إذا لتحركهم في البلاد وتنقلهم في المدن المختلفة ،

١٨٣

واستعراضهم لقوّتهم :( فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) .

إنّها أيّام تنقضي بين الكرّ والفرّ ، ثمّ تنتهي هذه الضجة لتزول معها هذه المجموعة وتمحى تماما ، كما تزول الفقاعات من على سطح الماء ، أو كما يتلاشى الرماد عند هبوب العواصف!

«يجادل» مشتقّة من «جدل» وهي في الأصل تعني لف الحبل وإحكامه ، ثمّ عمّ استخدامها في الأبنية والحديد وما شابه ، ولهذا فإنّ كلمة (مجادلة) تطلق على عمل الأشخاص المتقابلين ويريد كلّ شخص أن يلقي حجته ويثبت كلامه ويغلب خصمه.

ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ كلمة (المجادلة) لا تعتبر مذمومة دائما في اللغة العربية ، بل تعتبر إيجابية ومطلوبة إذا كانت المجادلة في طريق الحق وتستند على المنطق ، وتهدف إلى تبيين الحقائق وإرشاد الأشخاص الجهلة أمّا إذا كانت على أسس واهية من التعصب والجهل والغرور ، وتستهدف خداع هذا وذاك ، فتكون عند ذلك مذمومة.

القرآن الكريم استخدم كلمة (المجادلة) في كلا مورديها ، إذ نقرأ في الآية (١٢٥) من سورة النحل قوله تعالى :( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

إلّا أنّه في موارد اخرى ـ كما في الآية أعلاه وفيما بعدها ـ وردت (المجادلة) لغرض الذم ، وهناك بحث حول الجدال والمجادلة سنتعرض له فيما بعد إن شاء الله.

«تقلب» مشتقّة من «قلب» وتعني التغيير ، و «تقلّب» هنا بمعنى التصرّف في المناطق والبلاد ، المختلفة للسيطرة والتسلّط عليها ، وتعني الذهاب والإياب فيها أيضا.

إنّ هدف الآية تحذير للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين به ـ في بداية البعثة ـ من الذين كانوا من الطبقة المستضعفة المحرومة ، بأن لا يركنوا إلى الإمكانات المالية

١٨٤

أو القوّة السياسية والاجتماعية للكفار ، ويعتبرونها دليلا على حقانيتهم أو سببا لقوّتهم الحقيقية ، إذ هناك الكثير منهم في تأريخ هذه الدنيا ، وقد انكشف ضعفهم وسقطت عنهم سرابيل القوّة المزعومة ليبيّن عجزهم حيال العقاب الإلهي ، ليسقطوا كما تسقط الأوراق الخريفية الذابلة في العواصف الهوجاء.

إنّنا في عالم اليوم نشاهد الكفار والمستكبرين والظالمين وهم يقومون بشتى المحاولات ، من زيارات ومؤتمرات وأحلاف وتكتّلات ومناورات عسكرية ، وتوقيع لاتفاقات سياسية وعسكرية ، واعتماد لوسائل القمع والإرهاب إزاء المستضعفين والمحرومين في العالم ، ولكي يسلكوا من خلال ذلك طريقا إلى تحقيق أهدافهم المشؤومة. لذلك ينبغي للمؤمنين أن يكونوا يقظين وحذرين حتى لا يروحوا ضحية هذه الأساليب القديمة وحتى لا يسكتهم الرعب والخوف فيفتنون بهذا الوضع.

لذلك توضح الآية التي بعدها عاقبة بعض الأمم السابقة التي ضلّت الطريق وانكفأت عن جادة الحق والصواب ، فتقول في عبارات قاطعة واضحة تحكي عاقبة قوم نوح وحالهم ومن تلاهم من أقوام وجماعات :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) .

المقصود من «الأحزاب» هم قوم عاد وثمود وحزب الفراعنة وقوم لوط ، وأمثال هؤلاء ممّن أشارات إليهم الآيتان (١٢ ـ ١٣) من سورة «ص» في قوله تعالى :( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ ) .

هؤلاء هم «الأحزاب» الذين تآزروا ووقفوا ضدّ دعوات الأنبياء الإلهيين ، لتعارض مصالحهم مع روح هذه الدعوات ومضامينها الربانية.

إنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الوقوف ضدّ الدعوات النبوية الكريمة ، بل خططت كلّ أمّة منهم لأن تمسك بنبيّها فتسجنه وتؤذيه ، بل وحتى تقتله :( وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ

١٨٥

بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ) .

ثم لم يكتفوا بهذا القدر أيضا ، بل لجأوا إلى الكلام الباطل لأجل القضاء على الحق ومحوه ، وأصروا على إضلال الناس وصدّهم عن شريعة الله :( وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ) (١) .

إلّا أنّ هذا الوضع لم يستمر طويلا ، ولم يبق لهم الخيرا دوما ، إذ حينما حان الوقت المناسب جاء الوعد الإلهي :( فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ) .

لكم ـ أيّها الناس ـ أن تشاهدوا خرائب مدنهم حين سفركم وأثناء تجوالكم انظروا عاقبتهم المشؤومة المظلمة مدونة على صفحات التأريخ وفي صدور أهل العلم ، فانظروا واعتبروا!

ليس هناك أفضل من هذا المصير الذي ينتظر أشقياء مكّة من الكفار والمشركين الظالمين ، إلّا أن يثوبوا إلى أنفسهم ويعيدوا تقييم أعمالهم.

إذا ، الآية أعلاه تلخص برنامج «الأحزاب» الطاغية ومخططهم في ثلاثة أقسام هي : (التكذيب والإنكار) ثمّ (التآمر للقضاء على رجال الحق) وأخيرا (الدعاية المستمرة لإضلال عامّة الناس).

أمّا مشركو العرب على عهد البعثة النّبوية فقد قاموا بتكرار هذه الأقسام الثلاثة حيال رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيال رسالته ، لذلك فليس ثمّة من عجب أن يهددهم القرآن الكريم بما حلّ بأسلافهم وبمن سبقهم من الأحزاب نفس العاقبة ونفس الجزاء!

الآية الأخيرة ـ في المقطع الذي بين أيدينا ـ تشير إلى الجزاء الأخروي الذي ينتظر هؤلاء ، بالإضافة إلى قسطهم من العقاب الدنيوي( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .

إنّ المعنى الظاهري للآية واسع ، يشمل جميع الكفار والمعاندين من جميع

__________________

(١) «ليدحضوا» مصدرها ثلاثي (إدحاض) وتعني الإزالة والإبطال.

١٨٦

الأقوام ، والآية بهذا المعنى لا تختص بكفار مكّة ، كما يتصور بعض المفسّرين.

إنّ حتمية العقاب الإلهي لهؤلاء القوم يعود إلى ذنوبهم المستمرة ، والأعمال التي يقومون بها بملء إرادتهم خلافا لرسالة الله ولكن العجيب أنّ بعض المفسّرين ـ كالفخر الرازي ـ يتصور أنّ هذه الآية هي من أدلة عقيدة الجبر والمصير الجبري الإلزامي للأقوام المختلفة ، ودليل سلب الإرادة عنهم ، في حين أنّنا لو دققنا في نفس الآية مع ترك التعصّب المذهبي جانبا ، فسيتوضح لنا أنّ هذا المصير الإلهي الذي ينتظرهم هو بسبب سلوكهم لطريق الانحراف المظلم ، وبسبب إصرارهم على السير ، بهذا الطريق بأرجلهم وبكامل حريتهم وملء إرادتهم.

* * *

بحثان

أوّلا : استعراض الكفار لقواهم الظاهرية

يواجهنا في الآيات القرآنية وفي أماكن متعدّدة مؤدّى يفيد أنّ المؤمنين المحرومين ينبغي لهم أن لا يتصوروا أنّ الإمكانات الكبيرة والقوى الظاهرة الواقعة في حوزة الظالمين والكفار ، هي دليل على سعادتهم ، أو شرط لانتصارهم في نهاية المطاف.

ـ ومن أجل القضاء على هذا التصور المنحرف الخاطئ الذي يلازم في العادة الضعفاء ذوي الأفكار المحدودة والأفق الإيماني الضيق ، ومن الذين يرون في إمكانات الخصم دليلا معنويا على حقانيته ، فالقرآن يعالج هذه الظاهرة من خلال تفحص واستعراض تأريخ الأقوام السابقة ، ويشير في استعراضه لهم إلى نماذج واضحة ومعروفة منهم كالفراعنة في مصر ، والنماردة في بابل ، وأقوام نوح وعاد وثمود في العراق والحجاز والشام ، حتى لا يشعر المؤمنون المستضعفون بالضعف والهوان ، ولكي ييأسوا من جدوى المواجهة في حرب هي سجال بين

١٨٧

الطرفين ، لكنّها بالوعد الإلهي الحتمي لا بدّ أن تنتهي لصالح أهل الحق.

إنّ القانون الإلهي لا يقضي دائما بتعجيل العقوبة الآنية لكل من يرتكب عملا منافيا ، أو لمن يخرج عن جادة الصواب ويحيد عن سبيل الرشد ، وإنّما الأمر كما تقول الآية (٥٩) من سورة الكهف ،( وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) .

وفي مكان آخر من الكتاب الإلهي العظيم نقرأ قوله تعالى :( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) (١) .

وفي الآية (١٧٨) من «آل عمران» نلتقي في هذا المورد مع قوله تعالى :( إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً ) .

نستطيع أن ننهي القول في أنّ الهدف من هذا «الإمهال» هو إما لإتمام الحجة على الكافرين ، أو لاختبار المؤمنين ، أو قد يكون زيادة في ذنوب الذين قطعوا جميع طرق العودة على أنفسهم.

وفي عالمنا اليوم تشبه هذه الحالة الشعور بالدونية والحقارة الذي تعيشه بعض الشعوب المسلمة المختلفة ماديا إزاء الدول الكبرى والمتقدمة ، ولكن ينبغي مكافحة هذا الشعور بشدة بأسلوب المنطق القرآني أعلاه.

علاوة على هذا يجب على هؤلاء أن يدركوا أنّ أشكال التخلف والحرمان المادي إنّما تعود بدرجة كبيرة إلى ظلم الظالمين ، فإذا ما تحطّمت سلاسل الظلم والعبودية أمكن تجاوز التخلف بالمثابرة والكدح.

ثانيا : المجادلة في القرآن الكريم

لقد وردت كلمة «المجادلة» خمس مرات في هذه السورة المباركة ، وهي جميعا تختص بالمجادلة السلبية الباطلة ، والآيات التي اشتملت على ذكر المجادلة هي (٤ ، ٥ ، ٣٥ ، ٥٦ ، ٦٩) وبهذه المناسبة لا بأس بالتعرّض إلى بحث عن

__________________

(١) الطارق ، الآية ١٧.

١٨٨

الجدال من وجهة النظر القرآنية.

«الجدال» و «المراء» موضوعان وردا كثيرا في الآيات القرآنية ، وفي الأحاديث والرّوايات الإسلامية أيضا. وكتوطئة للبحث ينبغي أولا أن نميّز أقسام الجدال (الجدال الإيجابي والجدال السلبي) وما هو المقصود من كلّ واحد منها ، وعلائم كلّ واحد منها ، وأخيرا أضرار «الجدال السلبي» وكذلك عوامل الغلبة في «الجدال الإيجابي».

وفي هذا الصدد أمامنا النقاط والعناوين الآتية :

أ ـ مفهوم «جدال» و «مراء»

«الجدال» و «المراء» و «الخصام» ثلاث مفردات متقاربة من حيث المعنى ، وفي نفس الوقت يوجد ثمّة اختلاف بينها(١) .

«الجدال» يعني في الأصل اللغوي لف الحبل ، ثمّ أخذ يطلق بعد ذلك على لفّ الطرف المقابل والنقاش الذي يتضمّن الغلبة.

«مراء» على وزن «حجاب» وتعني الكلام في شيء ما فيه مرية أو شك.

أمّا «الخصومة» والمخاصمة فتعني في الأصل إمساك شخصين كلّ منهما للآخر من جانبه ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على التشاجر اللفظي والأخذ والرد في الكلام.

وكما يقول العلامة المجلسي في (بحار الأنوار) فإنّ الجدال والمراء أكثر ما يستخدمان في القضايا العلمية ، في حين تستخدم المخاصمة في الأمور والمعاملات الدنيوية.

ويحدّد بعضهم الاختلاف بنى الجدال والمراء في أنّ هدف المراء هو إظهار الفضل والكمال ، في حين أنّ الجدال يستهدف تعجيز وتحقير الطرف المقابل.

__________________

(١) الألفاظ الثلاثة مصدرها في باب المفاعلة.

١٨٩

وقالوا أيضا في الفرق بينهما : إن الجدال في القضايا العلمية ، والمراء أعم من ذلك.

وقالوا أخيرا : إنّ المراء ذو طابع دفاعي في قبال هجوم الخصم ، بينما الجدال أعم من الدفاع والهجوم.

ب : الجدال السلبي والإيجابي

يظهر من الآيات القرآنية أنّ للفظ الجدال معاني واسعة ، ويشمل كلّ أنواع الحديث والكلام الحاصل بين الطرفين ، سواء كان إيجابيا أم سلبيا ، ففي الآية (١٢٥) من سورة «النحل» نقرأ أمر الخالق تبارك وتعالى لرسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى :( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

وفي الآية (٧٤) من سورة «هود» نقرأ عن إبراهيمعليه‌السلام :( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) والآية تشير إلى النوع الإيجابي من المجادلة.

ولكن أغلب الإشارات القرآنية حول المجادلة تشير إلى النوع السلبي منها ، كما نرى ذلك واضحا في سورة «المؤمن» التي نحن بصددها ، حيث أشارت إلى «المجادلة» بمعناها السلبي خمس مرّات.

وفي كلّ الأحوال يتبيّن أنّ البحث والكلام والاستدلال والمناقشة لأقوال الآخرين ، إذا كان لإحقاق الحقّ وإبانة الطريق وإرشاد لجاهل ، فهو عمل مطلوب يستحق التقدير ، وقد يندرج أحيانا في الواجبات.

فالقرآن لم يعارض أبدا البحث والنقاش الاستدلالي والموضوعي الذي يستهدف إظهار الحق ، بل حث ذلك في العديد من الآيات القرآنية.

وفي مواقف معينة طالب القرآن المعارضين بالإتيان بالدليل والبرهان فقال :

١٩٠

( هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) (١) .

وفي المواقف التي كانت تتطلب إظهار البرهان والدليل ، ذكر القرآن أدلة مختلفة ، كما نقرأ ذلك في آخر سورة «يس» حين جاء ذلك الرجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يمسك بيده عظما فقال له سائلا :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) فذكر القرآن عددا من الأدلة على لسان الرّسول الأكرم في المعاد وقدرة الخالق على إحياء الموتى.

وفي القرآن نماذج اخرى واضحة على الجدال الإيجابي ، كما في الآية (٢٥٨) من سورة البقرة ، التي تعكس كلام إبراهيمعليه‌السلام وأدلته القاطعة أمام نمرود.

والآيات (٤٧ ـ ٥٤) من سورة «طه» تعكس تحاجج موسى وفرعون.

وكذلك نجد القرآن مليء بالأدلة المختلفة التي أقامها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقابل عبدة الأصنام والمشركين وأصحاب الذرائع.

ومن جهة اخرى يذكر القرآن الكريم نماذج اخرى من مجادلات أهل الباطل لإثبات دعاواهم الباطلة من خلال استخدام السفسطات الكلامية والحجج الواهية لابطال الحق وغواية عوام الناس.

إنّ السخرية والاستهزاء والتهديد والافتراء والإنكار الذي لا يقوم على دليل ، هي مجموعة من الأساليب التي يعتمدها الظالمون الضالّون إزاء الأنبياء ودعواتهم الكريمة ، أمّا الاستدلال الممزوج بالعاطفة والحبّ والرأفة بالناس فهو أسلوب الأنبياء ، رسل السماء إلى الأرض.

في الرّوايات الإسلامية والتأريخ الإسلامي آثار كثيرة وغنية عن مناظرات الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام مع المعارضين ، وإذا ما توفر جهد معين

__________________

(١) البقرة ، الآية ١١١.

(٢) سورة يس ، الآية ٧٨.

١٩١

على جمعها وتصنيفها فإنّها ستشكّل كتابا كبيرا وضخما للغاية. (وقد قام العلّامة الشيخ الطبرسي بجمع بعضها في كتابه «الإحتجاج»).

وبالطبع لم ينحصر مقام المجادلة بالتي هي أحسن ومناظرة الخصوم على المعصومين ، بل إن الأئمّةعليهم‌السلام كانوا يحثون من يجدون فيه القدرة الكافية والمنطق القوي المتين للقيام بهذه الوظيفة ، والّا فقد تضعف جبهة الحق ويقوى عود خصومها ، ويجدون في أنفسهم الجرأة في مواجهة الحق والتمادي في عنادهم.

وفي هذا الاتجاه نقرأ في حديث ، أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام يلقّب بـ «الطيار» ويدعى (حمزة بن محمّد) جاء إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وقال له : «بلغني أنك كرهت مناظرة الناس» فأجابه الإمامعليه‌السلام بقوله : «أما مثلك فلا يكره ، من إذا طار يحسن أن يقع ، وإن وقع يحسن أن يطير ، فمن كان هذا لا نكرهه»(١) .

كلام جميع يشير بوضوح كاف إلى القوة والمتانة في قدرة الاستدلال والمناظرة وخصم الطرف المقابل لمن يريد خوض المناظرة مع الخصوم ، كي يكون بمقدوره استخلاص النتائج وإنهاء البحث ، فلا بدّ من حضور اشخاص مستعدين ولهم تسلط كاف على البحوث الاستدلالية ، حتى لا يحسب ضعف منطقهم بأنّه من ضعف دينهم ومذهبهم.

ج : الآثار السيئة للجدال السلبي

صحيح أنّ البحث والنقاش هو مفتاح لحل المشاكل ، إلّا أنّ هذا الأمر يصح في حال رغبة الطرفين في نشدان الحق والبحث عن الطريق الصحيح ، أو على الأقل يكون أحد الطرفين متمسكا بالحق ومستهدفا السبيل إليه فيما يخوض من

__________________

(١) رجال «الكشي ، صفحة ٢٩٨.

١٩٢

نقاش ومناظرة.

أمّا أن يكون النقاش والجدل بين الطرفين بهدف التفاخر واستعراض القوة ، وفرض الرأي على الطرف الثّاني عن طريق إثارة الضجة ، فإنّ عاقبة هذا الأمر لا تكون سوى الابتعاد عن الحق وعشعشة الظلمة في القلوب وتجذّر العداء والحقد لا غير.

ولهذا السبب نهت الروايات والأحاديث الإسلامية عن المراء والجدال الباطل ، وفي هذه المرويات إشارات كبيرة المعنى إلى الآثار السيئة لهذا النوع من الجدال.

ففي حديث عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب نقرأ قولهعليه‌السلام : «من ضنّ بعرضه فليدع المراء»(١) . لأنّ في هذا النوع من النقاش سوف ينحدر بالكلام تدريجيا ليصل إلى مناحى الاستهانة وعدم الاحترام وتبادل الكلام المبتذل القبيح ، وترامي الاتهامات الباطلة.

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أيضا نقرأ وصيتهعليه‌السلام إذ يقول :

«إيّاكم والمراء والخصومة فإنّهما يمرضان القلوب على الإخوان ، وينبت عليهما النفاق»(٢) .

إنّ مثل هذا النوع من الجدال والذي يكون عادة فاقدا للالتزام بالأصول الصحيحة للبحث والاستدلال ، سيقوي روح اللجاجة والتعصّب والعناد لدى الأشخاص ، بحيث يستخدم كلّ طرف ـ بهدف التغلب على خصمه والإنتصار لنفسه ـ كلّ الأساليب حتى تلك التي تنطوي على الكذب والتهمة ، ومثل هذا العمل لا يمكن أن تكون عاقبته إلّا السوء والحقد وتنمية جذور النفاق في الصدور.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٣٦٢.

(٢) أصول الكافي ، المجلد الثّاني ، باب المراء والخصومة ، الحديث الأول.

١٩٣

إنّ واحدة من المفاسد الكبيرة الأخرى للجدال السلبي المنهيّ عنه ، هو تمسك الطرفين بانحرافاتهم وأخطائهم وإصرارهم على اشتباهاتهم ، في موقف عنيد بعيد عن الحق والصواب ، ذلك لأنّ كلّ طرف يحاول ما استطاع التمسّك بأي دليل والتشبّث بالباطل لفرض رأيه وإثبات كلامه ، وهو في ذلك مستعد لإنّ يتجاهل الكلام الحق الذي يصدر من خصمه ، أو أنّه ينظر إليه بعدم الرضا والقبول. وهذا بحدّ ذاته يزيد من الانحراف والاشتباه والخطأ.

د : أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن :

لا يستهدف «الجدال الإيجابي» تحقير الطرف الآخر أو الإنتصار عليه ، بل يهدف النفوذ إلى عمق أفكاره وروحه ، لهذا فإنّ أسلوب المجادلة بالتي هي أحسن يختلف كليا عن الجدال السلبي أو الباطل.

ولكي يؤثر الطرف المجادل معنويان على الطرف الآخر ، عليه الاستفادة من الأساليب الآتية التي أشار إليها القرآن الكريم بشكل جميل :

١ ـ ينبغي عدم الإصرار على الطرف المقابل بقبول الكلام على أنّه هو الحق ، بل على المجادل إذا استطاع أن يجعل الطرف المقابل يعتقد بأنّه هو الذي توصّل إلى هذه النتيجة ، وهذا الأسلوب سيكون أكثر تأثيرا. بعبارة اخرى : من المفيد للطرف المقابل أن يعتقد بأنّ النتيجة أو الفكرة نابعة من أعماقه وهي جزاء من روحه ، كي يتمسك بها أكثر ويذعن لها بشكل كامل.

وقد يكون هذا الأمر هو سر ذكر القرآن للحقائق المهمّة كالتوحيد ونفي الشرك وغير ذلك على شكل استفهام ، أو أنّه بعد أن ينتهي من استعراض وذكر

١٩٤

أدلة التوحيد يقول :( أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ) (١) .

٢ ـ يجب الامتناع عن كلّ من ما يثير صفة العناد واللجاجة لدى الطرف الآخر ، إذ يقول القرآن الكريم :( وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٢) . كي لا يصر هؤلاء على عنادهم ويهينوا الخالق جلّ وعلا بتافه كلامهم.

٣ ـ يجب مراعاة منتهى الإيضاح في النقاش مع أي شخص أو أي مجموعة ، كي يشعر الطرف المقابل بأنّ المتحدّث إليه يبغي حقّا توضيح الحقائق لا غير ، فعند ما يتحدث القرآن عن مساوئ الخمر والقمار ، فهو لا يتجاهل المنافع الثانوية المادية والاقتصادية التي يمكن أن يحصل عليها البعض منهما ، فيقول :( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) .

إنّ هذا الطراز من الحديث يحمل آثارا إيجابية كبيرة على المستمع.

٤ ـ يجب عدم الرّد بالمثل حيال المساوئ والأحقاد التي قد تطفح من الخصم ، بل يجب سلوك طريق الرأفة والحبّ والعفو ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا ، إذ أنّ الرّد بهذا الأسلوب الودود يؤثر كثيرا في تليين قلوب الأعداء المعاندين ، كما يقول القرآن الكريم ويحث على ذلك :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (٣) .

والخلاصة ، إنّنا عند ما ندقق في أسلوب نقاشات الأنبياءعليهم‌السلام مع الأعداء والظالمين والجبارين ، كما يعكسها القرآن الكريم ، أو كما تعكسها تلك المناظرات العقائدية بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أئمّة أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام وبين أعدائهم وخصومهم ، ننتهي إلى دروس تربوية في هذا المجال تطوي في تضاعيفها

__________________

(١) النمل ، لآية ٦٠.

(٢) الأنعام ـ ١٠٨.

(٣) فصلت ، الآية ٣٤.

١٩٥

أدق الأساليب والوسائل النفسية التي تسهّل لنا النفوذ إلى أعماق الآخرين.

وبهذا الخصوص ينقل العلّامة المجلسي في (بحار الأنوار) رواية مفصّلة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضمنها مناظرة طويلة بين الرّسول الأكرم وبين خمسة مجاميع مخاصمة هي : اليهود والنصارى والدهريين والثنويين (أتباع عقدية التثنية في التأليه) ومشركي العرب ، تنتهي بسبب الأسلوب الحكيم الجميل والمؤثر الذي استخدمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قبول هؤلاء بالحق وإذعانهم وتسليمهم له.

إنّ هذه المناظرة المربية بإمكانها أن تكون لنا درسا بناء في مناظراتنا وأساليب جدلنا ومناقشاتنا مع الآخرين(١) .

* * *

__________________

(١) يمكن ملاحظة نصّها الكامل في بحار الأنوار ، المجلد التاسع ، صفحة ٢٥٧ فما بعد.

١٩٦

الآيات

( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) )

التّفسير

دعاء حملة المستمر للمؤمنين :

يتضح من أسلوب الآيات السابقة أنّها نزلت في فترة كان فيها المسلمون قلّة محرومة ، بينما كان الأعداء في أوج قوتهم ، يتمتعون بالإمكانات الكبيرة ويسيطرون على السلطة.

بعد ذلك نزلت الآيات التي نحن بصددها لتكون بشرى للمؤمنين الحقيقيين

١٩٧

والصابرين ، بأنّكم لستم وحدكم ، فلا تشعروا بالغربة أبدا ، فحملة العرش الإلهي والمقربون منه ، وكبار الملائكة معكم يؤيدونكم ، إنّهم في دعاء دائم لكم ، ويطلبون لكم من الله النصر في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة وهذا هو أفضل أسلوب للتعاطف مع المؤمنين في ذلك اليوم ، وهذا اليوم ، وغدا.

فالقرآن يقول :( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

أمّا قولهم ودعاؤهم فهو :( رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) فأنت عالم بذنوب عبادك المؤمنين ورحيم بهم( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) .

يوضح هذا الكلام للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم الذين تعبدون الله وتسبحونه وتحمدونه ، فقبلكم الملائكة المقرّبون وحملة العرش ومن يطوف حوله ، يسبحون الخالق جلّ وعلا ويحمدونه.

وهي من جانب آخر تحذر الكفّار وتقول لهم : إنّ إيمانكم أو عدمه ليس مهمّا ، فالله غني عن العباد لا يحتاج إلى إيمان أحد ، وهناك الملائكة يسبحون بحمده ويحمدونه وهم من الكثرة بحيث لا يمكن تصوّرهم بالرغم من أنّه غير محتاج إلى حمد هؤلاء وتسبيحهم.

ومن جانب ثالث ، في الآية إخبار للمؤمنين بأنّكم لستم وحدكم في هذا العالم ـ بالرغم من أنّكم أقلية في محيطكم ـ فأعظم قوّة غيبية في العالم وحملة العرش هم معكم ويساندونكم ويدعون لكم ، وهم في نفس الوقت يسألون الله أن يشملكم بعفوه ورحمته الواسعة ، وأن يتجاوز عن ذنوبكم وينجيكم من عذاب الجحيم.

وفي هذه الآية تواجهنا مرة اخرى كلمة (العرش) حيث ورد كلام عن حملته والملائكة الذين يحيطون به ، وبالرغم من أنّنا تحدثنا عن هذا الموضوع في تفسير

١٩٨

بعض السور ، فإنّنا سنقف عليه مرّة اخرى في باب البحوث إن شاء الله(١) .

في الآية التي تليها استمرار دعاء حملة العرش للمؤمنين ، يقول تعالى :( رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ) .

وأيضا :( وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ) (٢) .

لماذا؟ لـ( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

هذه الآية التي تبدأ بكلمة (ربّنا) التي يطلب حملة العرش والملائكة المقرّبون بها من خالقهم ـ بإصرار ـ أن يتلطف بعباده المؤمنين ، ويركّزون في هذا الطلب على مقام ربوبيته تعالى ، وهؤلاء لا يريدون من خالقهم انقاذ المؤمنين من عذاب القيامة وحسب ، بل إدخالهم في جنات خالدة ، ليس وحدهم وإنّما مع آبائهم وأزواجهم وأبنائهم السائرين على خطّهم في الاستقامة والإيمان إنّهم يطلبون الدعم من عزّته وقدرته ، أمّا الوعد الإلهي الذي أشارت إليه الآية فهو نفس الوعد الذي ورد مرارا على لسان الأنبياء لعامة الناس.

أمّا تقسيم المؤمنين إلى مجموعتين ، فهو في الواقع يكشف عن حقيقة أنّ هناك مجموعة تأتي بالدرجة الأولى ، وهي تحاول أن تتبع الأوامر الإلهية بشكل كامل.

أمّا المجموعة الأخرى فهي ليست بدرجة المجموعة الأولى ولا في مقامها ، وإنّما بسبب انتسابها إلى المجموعة الأولى ومحاولتها النسبية في اتباعها سيشملها دعاء الملائكة.

بعد ذلك تذكر الآية الفقرة الرّابعة من دعاء الملائكة للمؤمنين :( وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ) .

ثم ينتهي الدعاء بهذه الجملة ذات المعنى الكبير :( وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

__________________

(١) كما في نهاية الآية (٥٤) من الأعراف ، نهاية الآية (٧) من هود ، ونهاية الآية (٢٥٥) من البقرة.

(٢) جملة (من صلح) معطوفة على الضمير في جملة «وأدخلهم».

١٩٩

هل هناك فوز أعظم من أن تغفر ذنوب الإنسان ، ويبتعد عنه العذاب لتشمله الرحمة الإلهية ويدخل الجنّة الخالدة ، وثم يلتحق به أقرباؤه الذين يودّهم؟

* * *

بحوث

أوّلا : الأدعية الأربعة لحملة العرش

قد يطرح هنا هذا السؤال : ما هو التفاوت الموجود بين الأدعية الأربعة؟ أليس بعضها مكررا؟

عند التأمل والتدقيق يتبيّن أنّ كلّ واحد منها يشير إلى موضوع مختلف. ففي البداية يطلب الملائكة غسل المؤمنين وتطهيرهم من آثار الذنوب ، وهذا الأمر إضافة لكونه مطلوبا بذاته ، فهو يعتبر مقدمة للوصول إلى أي نعمة كبيرة. وإلّا فهل هناك موهبة أعلى من أن يشعر الإنسان بأنّه أصبح طاهرا مطهرا ، وأنّ خالقه جلّ وعلا راض عنه ، وهو أيضا راض عن خالقه الكريم؟

إنّ هذا الإحساس ـ بغض النظر عن قضية الجنّة والنّار يعتبر أمرا عظيما وفخرا كبيرا بالنسبة للعباد.

في مرحلة ثانية يطلب حملة العرش والملائكة إبعاد المؤمنين وإنقاذهم من عذاب جهنّم. وهذا الأمر بحد ذاته يعتبر من أهم وسائل تحقيق الراحة والرضا النفسيّين.

المرحلة الثّالثة تنطوي على دعاء الملائكة وحملة العرش للمؤمنين في طلب الجنّة لهم ولأقربائهم أيضا ، حيث يعتبر هؤلاء الأقرباء الصالحون عاملا من عوامل الراحة والاستقرار النفسي.

وبسبب وجود (مؤذيات) اخرى مهمّة في يوم القيامة غير نار جهنّم ، كهول المطّلع والمحشر ، والفضيحة أمام الخلائق ، وطول الوقفة للحساب وأمثال ذلك ، لذا

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الابتعاد عن إيذاء المؤمنين

يقول الحسين بن أبي العلاء: كنَّا في نحو عشرين نفراً عزمنا على الحَجِّ إلى بيت الله الحرام في مصاريف مُشتركة. وكنت أذبح لهم شاة في كل منزل ننزل فيه. وفي يوم، ونحن في السفر، زرت الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال لي: (يا حسين، أُتذلُّ المؤمنين؟!).

قلت: أعوذ بالله مِن ذلك.

فقال (عليه السلام): (بلغني أنَّك تذبح لهم في كلِّ منزل شاةً).

فقلت: يا مولاي، والله ما أردت بذلك غير وجه الله تعالى.

فقال (عليه السلام): (أما كنت ترى أنَّ فيهم مَن يُحبُّ أنْ يفعل مثل أفعالك فلا يبلغ مقدرته ذلك، فيتقاصر إليه نفسه؟!).

قلت: يا ابن رسول الله، أستغفر الله ولا أعود.

لم يكن الحسين بن العلاء يرى مِن عمله سوى قرى رفاق سفره، دون أنْ ينتبه لما في ذلك في تحقير للآخرين، فبيَّن له الإمام الصادق عيبه الأخلاقي، فتنبَّه الرجل إلى ذلك فوراً، ولم يعد لمثله (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢١

اتَّق الله ولا تَعجل

عن جرير بن مرزام قال:

قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): إنِّي أُريد العُمرة، فأوصني.

قال: (اتَّق الله ولا تَعجل).

فقلت: أوصني. فلم يزد على هذا.

إنَّ العجلة والتسرُّع كانا واضحين في أُسلوب تفكيره، فهو في أول منزل مِن منازل سفره يُصادف مجهولاً ويسمع منه ما لا يُحبُّ أن يسمع. وبدلاً مِن أنْ يُناقش الرجل ويُصحِّح له خطأه، يُقرِّر مُنازلته وقتله، ولكنَّه يلتزم وصية الإمام الصادق (عليه السلام) ويُمسك نفسه عن تنفيذ قراره.

كان مُعلِّم الأخلاق الإسلاميَّة يعرف عيب جرير الخلقي، فاستثمر فرصة طلبه النصح فأوصاه بعدم التسرّع الذي كان مِن أهمِّ عُيوبه، وبذلك نجَّاه مِن خطر السقوط.

٣٢٢

الإسراف مذموم

كان منصور بن عمّار مارَّاً قرب بيت قاضي بغداد، وكان باب البيت مفتوح، فوقف منصور أمام الباب وأخذ ينظر إلى داخل البيت واسع وضخم، ولفت نظره الغرف المفروشة والأواني الفاخرة، وتعدُّد الغُلمان والخُدَّام، وتعجَّب مِن هذه الزخارف والزينة.

طلب منصور ماءً للوضوء، فملأ أحد الغُلمان إبريقاً كبيراً وجاء به إليه، وعندما جلس ليتوضَّأ أراق ماء الإبريق كلَّه، وشاهده قاضي بغداد فقال له:

يا منصور، لماذا هذا الإسراف في الماء؟

أجاب منصور: أيَّها القاضي، أنت تُحاسبي في الماء المُباح للوضوء، ولا تُحاسب نفسك على هذا الإسراف العجيب في البناء!

والله يعلم مِن أين جاءتك هذه الأموال، ولم تكتف بمنزل صغير وخادم؟!

لماذا كلُّ هذا الإسراف وتحمُّل المعصية؟!

انتبه قاضي بغداد مِن غفلته بسبب كلام منصور، واعتدل بعد ذلك في صرف الأموال (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٣

الشيطان لن ينصح مُسلماً

هناك حديث مرويٌّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) يدور حوله حوار يجري بين النبي يَحيى (عليه السلام)، وإبليس العدوِّ اللدود لبني آدم، فيُمعن النبيُّ يحيى (عليه السلام) النظر في أقوال إبليس ويستفيد منها.

قال يحيى: (فهل ظفرت بيَ ساعة قطُّ؟).

قال: لا، ولكنْ فيك خِصلة تُعجبني.

قال يحيى: (فما هي؟).

قال: أنت رجل أكول، فإذا أفطرت أكلت وبشمت، فيمنعك ذلك مِن صلاتك وقيامك بالليل.

قال يحيى: (فإنِّي أُعطي الله بهذا (عهداً) أنِّي لا أشبع مِن الطعام حتَّى ألقاه).

قال له إبليس: وإنِّي أُعطي الله عهداً أنِّي لا أنصح مسلماً حتَّى ألقاه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٤

لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ

أرسل الخليفة العباسي عبد الله بن طاهر والياً على خراسان، فدخل هذا بجنوده مدينة نيسابور، واستقرَّ بهم في المواضع المُخصَّصة لهم، إلا أنَّها لم تتَّسع لهم جميعاً، فوزَّع بعض جنوده على الأهالي وأجبرهم على استضافتهم، فأثار فيهم موجة مِن السخط والتذمُّر.

واتَّفق لأحد الجنود أنْ يسُكن مع رجل غيور زوجته جميلة، فاضطرَّ الرجل إلى أنْ يترك عمله ليبقى في البيت رقيباً لئلا تتعرَّض زوجه لاعتداء مِن الجنديِّ الشابِّ.

في أحد الأيَّام طلب الجندي من صاحب البيت أنْ يأخذ فرسه ليورده الماء غير أنَّ الرجل الذي لم يكن - مِن جِهة - يجرؤ على ترك زوجه مع الجنديِّ وحدهما في البيت، ويخاف - مِن جِهة أُخرى - رفض طلب الجندي، قال لزوجه أنْ تأخذ هي الفرس إلى الماء، ويبقى هو للمُحافظة على أثاث البيت، فأخذت الزوجة بزمام الفرس واتَّجهت نحو موضع الماء.

وفي تلك اللحظة اتَّفق أنْ مَرَّ عبد الله بن طاهر مِن ذلك المكان، فرأى امرأة وقوراً جميلة تقود فرساً نحو الماء، فعُجب مِن ذلك، واستدعى المرأة وقال لها: لا أراك مِن اللواتي يوردن الخيل، فما الذي دعاك إلى هذا؟!

قالت المرأة بغضب: هذا نتيجة عمل عبد الله بن طاهر الظالم، ثمَّ شرحت له الأمر.

تأثَّر عبد الله مِن قول المرأة وغَضب على نفسه؛ لأنَّه كان سبباً في أنْ يَشعر أهل نيسابور بالتعاسة والشقاء، فأمر المُنادين أنْ ينادوا في البلدة أنْ على جميع الجنود الخروج مِن المدينة حتَّى الغروب مِن ذلك اليوم، ومَن بات منهم في المدينة يُهدر

٣٢٥

ماله ودمه.

وترك هو المدينة إلى (شادياخ) القريبة مِن نيسابور حيث لحق به جنوده، فبنى في تلك المنطقة الواسعة لنفسه قصراً ولجنوده مقرَّات يسكنونها.

هذه المرأة التي كانت حياتها عُرضة للخطر ذكرت عبد الله بن طاهر بالسوء، فكان مِن أثر هذا الكلام والذَّمِّ الموجع أنْ حلَّ العُقدة ورفع الظلم، لا عن نفسها وزوجها فحسب، بلْ إنَّه قد أنقذ سائر الناس مِن التعسُّف والجور، وَوُضِع حَدٌّ للحالة المُزرية التي مَرَّت بها مدينة نيسابور.

وهذا هو مصداق الآية القرآنيَّة: ( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ... ) (النساء: 148) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج1.

٣٢٦

اللَّهمَّ إنِّي أمسيت عنه راضياً فارضَ عنه

ومثلما يسعى الناس بدافع مِمَّا فيهم مِن أنانيَّة ورغبة في الحياة، إلى مُعالجة أمراضهم الجسميَّة، ويبحثون عن الدواء والعلاج، كذلك يسعى الذين يتمسَّكون بالحياة الإنسانيَّة والمعنويَّة بدافع مِن حُبِّ الذات وعِشق السموِّ والكمال، مِن أجل إصلاح أفكارهم وأخلاقهم، ويُباشرون بإرادة قويَّة بمُعالجة أنفسهم، فيقومون بواجباتهم، دون أنْ يُبالوا بالمشقَّات والصعاب. هؤلاء يستطيعون تزكية أنفسهم بما يبذلونه مِن سَعي وجُهد، ويتخلَّقون بمكارم الأخلاق والسجايا الإنسانيَّة، ليبلغوا في النهاية الكمال اللائق بمقام الإنسان.

أمثال هؤلاء كثيرون بين المسلمين، مُنذ عهد الرسول حتَّى العصر الحاضر، مِن الرجال والنساء مِن ذوي الإرادة القويَّة والعزم الراسخ، وعلى الرغم مِن أنْ أكثريَّة هؤلاء مجهلون، إلاَّ أنَّ التاريخ احتفظ لنا ببعض الأسماء، وفيها اسم عبد الله ذي البِجادَين.

كان عبد الله مِن قبيلة (هزينة) وكان اسمه عبد العُزَّى - والعُزَّى هو أحد أصنام عرب الجاهليَّة - مات أبوه وهو صغير، فكفله عَمُّه العابد للأصنام فعَني به وربَّاه حتَّى بلغ سِنَّ الشباب، فوهب له بعض أمواله وأغنامه. يومئذ كان الإسلام قد بدأ يُثير الحماس والتحرُّك في الناس، وكان كلام يدور في كلِّ مكان على هذا الدين الجديد، فكان أنْ أخذ عبد العُزَّى الشابّ يبحث عن حقيقة أمر هذا الدين بكلِّ حَماس وعِشق، مُتابعاً جميع الشؤون الإسلاميَّة، وعلى أثر سماعه كلام نبيِّ الإسلام والتعرُّف على التعاليم الإلهيَّة، أدرك فساد المُعتقدات التي كان هو وقبيلته يتَّبعونه، فعافت نفسه الأصنام وعبادتها والعادات الجاهليَّة، وآمن في قلبه بدين الله ولكنَّه لم يُظهر ذلك علانيَّة رعاية لعَمِّه.

٣٢٧

ظلَّت الحال على هذا المنوال بعض الوقت. وبعد فتح مَكَّة قال يوماً لعمِّه: ظللت أنتظرك طويلاً أنْ تعود إلى نفسك فتُسلِم وأُسلم معك، ولكنِّي أراك لا تُريد أنْ تترك عبادة الأصنام، وما تزال تُصرُّ على دينك الباطل، فاسمح لي أنْ أعتنق أنا الإسلام وألتحق بركب المسلمين. كان عَمُّه قد طرق سمعه مِن قِبل ميول ابن أخيه إلى الإسلام؛ لذلك غضب عند سماع كلامه غضباً شديداً، وقال: إنَّه لن يسمح له أبداً بذلك، وأقسم أنَّه إذا خالفه واعتنق الإسلام فسوف يسترجع منه كلَّ ما كان قد وهبه له.

كان الرجل يظنُّ أنَّ ابن أخيه الشابَّ سوف يرجع عن رأيه في الإسلام إذا هدَّده بانتزاع كلِّ شيء منه، وأنَّه سوف يطرد فكرة اعتناق الإسلام مِن رأسه، ويبقى عاكفاً على عبادة الأصنام. ولكنَّ الشابَّ كان مسلماً حقيقيَّاً، لا يُمكن أنْ تتزلزل عقيدته بالتهديد والوعيد، ولا أنْ يرجع عمَّا عزم عليه، فأعلن إسلامه بكلِّ جُرأة وصراحة، ولم يعبأ بالتهديدات الماليَّة.

عند ذلك لم يجد العمُّ إزاء مقالة الشابِّ إلاّ أنْ يُنفِّذ تهديده، فاسترجع منه كلَّ الأموال التي كان قد أعطاها له، ونزع عنه حتَّى الثوب الذي كان يرتديه، فانطلق الشابُّ عارياً إلى أُمِّه وقال لها: أحمل هوى الإسلام، ولا أطلب منك سوى إكساء العُريان. فأعطته أُمُّه قطعة مِن قماش كتَّان عندها، فشقَّها نِصفين كسا عُريِّه بهما واتَّخذ سبيله في الطريق إلى المدينة للتشرّف برؤية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

كان الفتى قد فُتِن بالحقيقة التي اكتشفها، فامتلأ قلبه بالثورة والحماس، والطهارة والخلوص، والصدق والصفاء. كان يغذُّ السير، كطائر أُطلق مِن سجنه وأصبح حُرَّاً يُحلِّق حيث يشاء، يُريد أنْ يرى رسول الإسلام بأسرع ما يستطيع؛ ليعُبَّ مِن عذب نمير تعاليمه الإلهيَّة المُحيية؛ ليصنع نفسه كما يليق به، ولينال السعادة الحقيقية والكمال الإنسانيِّ المنشود.

دخل المسجد بين الطلوعين عندما كان المسلمون قد اجتمعوا لأداء فريضة

٣٢٨

صلاة الصبح، فأدَّاها جماعة معهم بإمامة رسول الله. وبعد الصلاة استدعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسأله عمَّن يكون، فقال له: اسمي عبد العُزَّى.

ثمَّ سرد عليه ما جرى له. فقال الرسول: (اسمك عبد الله).

وإذ رآه يلفُّ نفسه بتينك القطعتين مِن القماش لقَّبه بذي البِجادَين. ومُنذ ذلك اليوم عرفه الناس باسم عبد الله ذي البِجادَين.

وخرج عبد الله ذو البِجادَين مع المسلمين في حرب تبوك مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوفَّاه الله في هذه الغزوة. وعند دفنه قام النبي بنفسه بإنزال جسده إلى القبر. وبعد الانتهاء مِن مراسم الدفن، اتَّجه إلى القبلة، ورفع يديه نحو السماء ودعا له قائلاً: (اللَّهمَّ، إنِّي أمسيت عنه راضياً فارضَ عنه).

٣٢٩

التضرُّع إلى الله وأسباب الانتصار

في إحدى الحروب الإسلاميَّة حاصر جُند الإسلام إحدى قِلاع العدوِّ، بهدف الاستيلاء عليها بالقوَّة العسكريَّة، غير أنَّ القلعة كانت حصينة وطالت أيَّام الحصار. وعلى الرغم مِن أنَّ جُند الإسلام بذلوا خلال تلك المُدَّة جهوداً جبَّارة ومساعي حميدة؛ فإنَّهم لم ينجحوا في اقتحام الحِصن، فأخذت معنويَّات الجيش تهبط شيئاً فشيئاً، ويضعف عزمهم على الاستمرار .

وإذ وجد قائد الجيش أنَّ انتصاره في تلك الظروف مُستبعَد جِدَّاً، توجَّه إلى الله تعالى واستعاذ به مِن ذِلِّ النكوص فصام أيَّاماً، ورفع يديه بالدعاء إلى الله مُخلصاً صادقاً، طالباً الانتصار على العدوِّ، فتقبَّل الله تعالى دعواته، وسُرعان ما استجاب له .

كان القائد في أحد الأيَّام جالساً، فشاهد كلباً أسود يركض بين المُعسكر فشدَّ ذلك انتباهه وراح يُدقِّق فيه. وبعد ساعات وجد الكلب نفسه على حائط القلعة، فأدرك أنَّ للقلعة طريقاً إلى الخارج، وأنَّ الكلب يأتي مِن القلعة إلى المُعسكر بحثاً عن طعام ويعود إليه. فكلَّف بعض الجُند بتقصِّي مسير الكلب لمعرفة الطريق الذي يسلكه، ولكنَّهم لم يوفَّقوا للعثور على الطريق. فأمر بجراب أنْ يلوَّث بالسمن لإغراء الكلب به، ويملأ بالدفن ويُثقب في عِدَّة مواضع لينساب منه الحَبُّ فيما يجرُّ الكلب الجراب إلى حيث يُريد. ففعلوا ما أمر به، وألقوا بالجراب في المُعسكر في طريق الكلب .

وفي اليوم التالي خرج الكلب مِن القلعة مُتَّجهاً إلى المُعسكر حتَّى وصل إلى الجراب المدهون، فعضَّ عليه بأسنانه وكَرَّ راجعاً إلى القلعة، مُخلِّفاً وراءه حبَّات الدفن التي كانت تسقط مِن ثقوب الجراب. وبعد ساعة تتبَّع الجُند آثار الدفن على الأرض حتَّى وصلوا في النهاية إلى نقب كبير كان

٣٣٠

يسمح بالدخول إلى القلعة بيُسر وسهولة. فعيَّن القائد موعداً لجنده فاجتازوا النقب إلى داخل القلعة، وهاجموا العدوَّ الذي لم يجد بُدَّاً مِن الاستسلام، وانتهى الحصار بانتصار الإسلام .

لقد كان هذا الكلب دائم التردُّد على المُعسكر، ولكنَّ أحداً مِن الضباط والجنود لم يلتفت إليه؛ لأنَّ أحداً منهم لم يخطر له أنْ يكون هذا الحيوان سبباً لفتح القلعة ولانتصار المسلمين، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى عندما استجاب دعوة القائد، أوقع في قلبه أنْ يتنبَّه إلى الكلب كسبب مِن أسباب الانتصار، وبذلك أخرج المسلمين مِن مُشكلتهم الكُبرى، وفتح أمامهم باب الظفر، وأنقذهم مِن ذِلِّ الهزيمة والانكسار (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣١

يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ

إنَّ الله تعالى قد يشاء أنْ يصون المؤمنين مِن الأخطار والبلايا، بطُرق خارقة للعادة عن طريق إزالة العِلَّة التي تتهدَّدهم بالخطر، ومِن ذلك صيانة خليل الرحمان مِن الاحتراق بنيران عَبدة الأصنام .

لقد حطَّم النبي إبراهيم (عليه السلام) أصنام المُشركين، فأثار غضبهم، فقرَّروا أنْ يُحرقوه دفاعاً عن أصنامهم، فأوقدوا ناراً عظيمة وألقوا به فيها .

في مثل هذه الحالة لم يكن أمام إبراهيم الخليل مفرٌّ مِن الاحتراق في تلك النيران ليستحيل رماداً، ولكنَّ الله لم يُرِدْ له ذلك، بلْ أراد أنْ يصونه مِن نيرانهم، فقال للنار: ( ... يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (الأنبياء: 69 ).

فانقلبت النار المُحرقة برداً وسلاماً عليه بمشية الله تعالى الخاصَّة، وتبدَّل ذلك السعير المُلتهب إلى جوٍّ مِن السلامة خالٍ مِن كلِّ خطرٍ، وانهارت خُطَّة المُشركين في إحراق نبيِّ الله، وظلَّ سليماً في حفظ الله وصيانته (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٢

لا يَخرج الرجل عن مَسقط رأسه بالدَّين

إنَّ محمد بن أبي عمير كان رجلاً بزَّازاً فذهب ماله وافتقر، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم، فباع داراً له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم، وحمل المال إلى بابه، فخرج إليه محمد بن أبي عمير فقال: ما هذا؟

قال: هذا مالك الذي عليَّ .

قال: ورثته؟

قال: لا .

قال: وهِبَ لك؟

قال: لا .

قال: فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟

قال: لا .

قال: فما هو؟

قال: بعت داري التي أسكنها لأقضي دَيني .

فقال محمد بن أبي عمير: حدَّثني ذريح المُحاربي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (لا يخرج الرجل عن مَسقط رأسه بالدَّين) (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٣

أذلُّ الناس مَن أهان الناس

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (أذلُّ الناس مَن أهان الناس ).

روي أنَّ عمر بن عبد العزيز دخل إليه رجل، فذكر عنده عن رجلٍ شيئاً .

فقال عمر: إنْ شئتَ نظرنا في أمرك، فإنْ كنت كاذباً فأنت مِن أهل هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ) (الحجرات: 6)، وإنْ كنت صادقاً فأنت مِن أهل هذه الآية: ( هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ) (القلم: 11)، وإنْ شئتَ عَفونا عنك؟

فقال: العفو، لا أعود إلى مثل ذلك أبداً (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٤

البادئ أظلم

كان مُعاوية بن أبي سفيان مِن بني أُميَّّة، وعقيل مِن بني هاشم، وكان آل هاشم سادات قريش، مُكرَّمين ومُحترمين، بينما كان آل أُميَّة يشعرون قِبالهم بالصِّغار والضِّعة، فكان ذلك مُدعاة لحِقدهم على آل هاشم، والسعي لمُعاداتهم والانتقام منهم .

كان مجلس مُعاوية في الشام يوماً مُكتظَّاً بالحاضرين، ومنهم عقيل، فأراد مُعاوية أنْ ينتهز الفرصة لينتقص منه، فالتفت إلى الحاضرين وسألهم، أتدرون مَن أبو لهب؟ الذي قال عنه القرآن: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ... ) (المسد: 1) إنَّه عَمُّ عقيل هذا .

فبادر عقيل قائلاً: أتدرون مَن كانت زوج أبي لهب؟ التي قال عنها القرآن: ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ) (المسد: 4 - 5) إنَّها عَمَّة مُعاوية هذا .

كان مُعاوية يومئذ في أوج سُلطانه وفي يده أزمَّة الأُمور في البلاد الإسلاميَّة الشاسعة، فلم يكن أحد ليجرؤ على إهانته، ولكنَّه بكلامه المُهين الذي قاله في عقيل، مزَّق ستار الاحترام عن نفسه وجرَّأ عقيلاً على أنْ يُكلِّمه بغِلظة، وأنْ يردَّ إهانته بمِثلها ويُحقِّره أمام الحاضرين (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٥

لعنة الله على الظالمين

كان الحَكم مِن ألدِّ أعداء الإسلام، وساهم مع مُشركي مَكَّة في إيذاء الرسول والمسلمين، وبعد هِجرة الرسول إلى المدينة، ظلَّ الحَكم في صفوف أعداء الإسلام ولم يترك إيذاء المسلمين، وعندما فتح جُند الإسلام مَكَّة تظاهر باعتناق الإسلام، وترك مَكَّة إلى المدينة، ولكنَّه لم يكفَّ هناك عن أعماله القبيحة، فاضطرَّ الرسول إلى نفيه إلى الطائف حيث ظلَّ حتَّى حُكم عثمان .

بعد موت يزيد بن مُعاوية، تسلَّم مروان بن الحَكم كرسيَّ الخلافة في الشام، وراح يدير شؤون البلاد، غير أنَّ أهل مَكَّة والمدينة لم يُبايعوه؛ لأنَّهم كانوا قد بايعوا عبد الله بن الزبير بالخلافة على نجد والحِجاز .

وبعد موت مروان خَلَفه ابنه عبد الملك، فصمَّم هذا على القضاء علىخلافة عبد الله بن الزبير عن طريق الحرب؛ ليبسط سُلطانه على تلك البلاد أيضاً، فأرسل الحَجَّاج بن يوسف على رأس جيش إلى مَكَّة، حيث اندلعت حرب ضَروس، انتصر فيها الحَجَّاج، وقتل عبد الله بن الزبير، ودخلت منطقة نجد والحِجاز الواسعة في مُلك عبد الملك القويِّ .

كان لعبد الله بن الزبير ولد اسمه ثابت اشتهر بالخطابة، حتَّى سمَّوه بلسان آل الزبير، وفي أحد الأيَّام دخل ثابت على عبد الملك، خليفة بني مروان المُقتدر مبعوثاً مِن قبل شخصٍ ما. فبادر عبد الملك إلى تحقيره وذكر مثالب آل الزبير، وقال له: إنَّ أباك كان يعرفك يوم سبَّك وشتمك .

فغضب ثابت مِن كلامه، وقال له: يا خليفة، أتدري لِمَ كان أبي يسبُّني؟

قال: كلا .

قال ثابت: لأنِّي كنت أنصحه بألاَّ يدخل الحرب اعتماداً على مُساندة أهل مَكَّة؛ لأنَّ الله لا ينصر بهم أحد؛ ولأنَّ أهل مَكَّة هُمْ الذين آذوا الرسول وأخرجوه منها،

٣٣٦

ثمَّ جاؤوا إلى المدينة واستمرُّوا في فسادهم وقبيح أعمالهم، حتَّى نفاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها عقاباً لهم .

كان هذا تعريفاً مِن ثابت بن عبد الله بالحَكم بن أبي العاص، جَدِّ عبد الملك قصد به رَدَّ إهانته والانتقام منه لما تفوّه به عنه، فغضب عبد الملك، وقال: لعنة الله عليك .

فردَّ ثابت في الحال: لعنة الله على الظالمين، كما لعنهم الله في القرآن الكريم .

وكان هذا تعريفاً آخر بعبد الملك، فاشتدَّ غضبه وأمر بسجن ثابت .

عبد الملك بن مروان، الخليفة القويُّ المُقتدر، بذكره مثالب ثابت بن عبد الله عرَّض نفسه لإهانته وتحقيره، وبلعنه زاد مِن جُرأة ثابت على رَدِّ اللعنة، وإنْ كان مِن دون تصريح، وبسجنه دلَّ على ضعفه وكَشف عن عجزه، وكأنَّه في الحقيقة قد اعترف بهزيمته (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٧

ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه

كان ليزيد بن أبي مسلم مقامٌ رفيعٌ في حكومة الحَجَّاج، إذ كان كاتبه الخاصَّ، ولكنَّه كان يتدخَّل في كلِّ أمر. وفي أيَّام خلافة سليمان بن عبد الملك طُرِد مِن وظيفته وأصبح غير مرغوب فيه .

وفي يوم مِن الأيَّام أُدخل على سليمان بن عبد الملك وهو مُكبَّل بالحديد، فلمَّا رآه ازدراه، فقال :

ما رأيت كاليوم قطُّ. لعنَ الله رجلاً أجرك رَسنه وحَكَّمك في أمره .

فقال له يزيد: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنَّك رأيتني والأمر عنِّي مُدبر، وعليك مُقبل، ولو رأيتني والأمر مُقبل عليَّ لأستعظمت منِّي ما استصغرت، ولأستجللت منِّي ما استحقرت .

قال: صدقت، فاجلِس، لا أُمَّ لك .

فلمَّا استقرَّ به المجلس، قال سليمان: عزمت عليك لتُخبرني عن الحَجَّاج، ما ظنُّك به؟ أتراه يهوي في جهنَّم، أمْ قد استقرَّ فيها؟

قال: يا أمير المؤمنين، لا تقلُ هذا في الحَجَّاج، فقد بذل لكم نصَفه وأحقن دونكم دمه، وأمَّن وليكم، وأخاف عدوَّكم، وإنَّ يوم القيامة لعن يمين أبيك عبد الملك ويسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت .

فصاح سليمان: أُخرج عنِّي إلى لعنة الله .

ثمَّ التفت إلى جلسائه فقال: قبَّحه الله! ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه، ولقد أحسن المُكافأة، خلُّوا سبيله (1 ) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٨

لا تذيعَنَّ شيئاً على أخيك تَهدم به مروَّته

محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الأوَّل (عليه السلام)، قال :

قلت له: الرجل مِن إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه، فأسأله ذلك فيُنكره، وقد أخبرني قوم ثقات .

قال لي: (يا محمد، كَذِّب سمعك وبصرك على أخيك، فإنْ شهد عندك قَسَّامة قالوا لك قولاً فصدِّقه وكذِّبهم، ولا تُذيعن عليه شيئاً تُشينه به وتهدم به مروَّته، فتكون مِن الذين قال الله تعالى فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ... ) ) (النور: 19) (1) .

____________________

( 1) الأخلاق، ج1 .

٣٣٩

مُروءة قائدٍ

كان إسماعيل بن أحمد الساماني يحكُم بلاد ما وراء النهر، فعزم عمرو بن الليث الصفاري على أنْ يُحاربه، ويُخرجه مِن ما وراء النهر، ويضمَّ أرضه إلى أرض بلدته التي يحكمها، فجهَّز جيشاً كبيراً في نيسابور، ثمَّ انطلق نحو بلخ، فبعث إليه إسماعيل بن أحمد برسالة قائلاً:

إنَّك تحكم أرضاً واسعة بينما لا أحكم أنا إلاَّ على منطقة صغيرة مِن ما وراء النهر، فاقنع بما عندك واترك لي ما عندي. ولكن عمرو بن الليث لم يلتفت إلى قوله، وواصل سيره وعبر نهر جيحون وطوى المنازل حتَّى بلغ بلخ.

هناك اختار مكاناً لجيشه، حيث حفر الخنادق وأعدَّ المراصد وقضى بضعة أيَّام يتهيَّأ للقتال، بينما ظلَّت فرق جيشه تتوافد وتستقرُّ في المكان المُخصَّص لها.

أمَّا قوَّاد إسماعيل بن أحمد وحاشيته، الذين كانوا قد سمعوا بشجاعة عمرو بن الليث، فعندما شاهدوا كثرة جنوده المُدجَّجين بالسلاح ارتعبوا وتشاوروا فيما بينهم قائلين: إنَّنا إنْ دخلنا الحرب مع عمرو وجنوده الأشدَّاء فإمَّا أنْ نُقتل عن آخرنا، وإمَّا أنْ نولِّي الأدبار عندما يَحمى وطيس الحرب ونرضى بذِلِّ الفرار، وكلا هذين الأمرين ليس فيهما عقل ولا صلاح، فمِن الخير - إذنْ - أنْ نغتنم الفرصة فنتقرَّب إليه ونطلب منه الأمان قبل أنْ تقع الهزيمة المُحتَّمة فهو رجل عاقل وقويٌّ، ولا يُنتظر منه أنْ تشوَّه سمعته بقتل هذا وذاك وهو سلاح العجزة والحَمقى.

فقال أحد الحاضرين: هذا كلام معقول ونصحُ شفوق فلا بُدَّ مِن العمل به.

فتقرَّر أنْ يجتمعوا في ليلة مُعيَّنة؛ لينفذُّوا ما عزموا عليه، وفي الليلة المُعيَّنة اجتمعوا وكتب كلٌّ منهم رسالة إلى عمرو يَعرضون عليه إخلاصهم ووفاءهم له طالبين منه الأمان، ووصلت الرسائل إلى يد عمرو، فقرأها واطّلع على مضامينها، ووضعها في خُرجه وختمه بختمه وأرسل إليهم بالأمان الذي طلبوه.

ودارت رَحى الحرب وانتصر إسماعيل بن أحمد بخلاف ما كان قوَّاده يتوقَّعون،

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607