الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182464 / تحميل: 6251
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

طلبت الملائكة وحملة العرش في أدعيتهم الأخرى أن يحفظ الله المؤمنين ويقيهم من أي سوء أو مكروه في ذلك اليوم ، كي يدخلوا جنّة الخلد براحة بال واطمئنان واحترام كامل.

ثانيا : آداب الدعاء

في هذه الآيات يعلّم حملة العرش والملائكة المؤمنين أسلوب الدعاء.

ففي البداية ينبغي بالتمسك بكلمة «ربّنا».

ثمّ مناداته تعالى بصفات الجلال والجمال ، وطلب العون من مقام رحمته المطلقة وعلمه غير المتناهي :( وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ) .

وأخيرا الدعاء وطلب الحاجة بحسب أهميتها وبشروط توفّر الأرضية للاستجابة :( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) .

ثم ينتهي الدعاء بذكر صفاته تعالى الجمالية والجلالية ، والتوسّل برحمته تعالى مرّة اخرى.

والطّريف في الأمر أنّ حملة العرش الإلهي يعتمدون على خمسة أوصاف إلهية مهمّة في دعائهم وهي : الربوبية ، والرحمة ، والقدرة ، والعلم ، والحكمة.

ثالثا : لماذا تبدأ الأدعية بكلمة «ربّنا»؟

عند قراءة آيات القرآن الكريم نرى أنّ أولياء الله ـ سواء منهم الأنبياء أو الملائكة أو الصالحون ـ كانوا يبدأون كلامهم بـ «ربّنا» أو «ربّي» عند الدعاء

فآدمعليه‌السلام يقول :( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ) .

ونوحعليه‌السلام يقول :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ ) وإبراهيمعليه‌السلام يقول :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) .

أما يوسفعليه‌السلام فيقول :( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) .

٢٠١

وموسى الكليمعليه‌السلام يقول :( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) .

أما سليمانعليه‌السلام فيقول : رب هب( لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) .

أما عيسى المسيحعليه‌السلام فيقول :( رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) (١) .

والرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :( رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ) (٢) .

وعلى لسان المؤمنين نقرأ في أماكن متعدّدة كلمة «ربّنا» في فاتحة الدعاء ، ففي آخر سورة «آل عمران» نرى دعائهم :( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً ) .

من خلال هذه النماذج والمواقف نستنتج أنّ أفضل الدعاء هو ما يبدأ بالربوبية صحيح أنّ الاسم المبارك «الله» هو أكثر شمولية لأسماء الخالق ، ولكن لارتباط الحاجات بمقام الرّبوبية ، هذا المقام الذي يرتبط به الإنسان منذ اللحظة الأولى من وجوده وحتى آخر عمره ، وتستمر بعد ذلك صفة الارتباط بـ «الربوبية» التي تغرق الإنسان بالألطاف الإلهية ، لذا فإنّ ذكر هذه الكلمة في بداية الأدعية يعتبر أكثر تناسبا من باقي الأسماء الأخرى(٣) .

رابعا : ما هو العرش الإلهي؟

لقد أشرنا مرارا إلى أن ألفاظنا ـ الموضوعة أصلا لتوضيح مشخصات الحياة المحدودة ـ لا تستطيع أن توضّح عظمة الخالق ، أو حتى أن تحيط بعظمة مخلوقاته جلّ وعلا ، لهذا السبب فليس أمامنا سوى استخدام ألفاظ ومعاني للكناية عن تلك العظمة.

وفي طليعة الألفاظ التي يشملها هذا الوضع كلمة (العرش) التي تعني لغويا (السقف) أو (السرير ذا المسند المرتفع) في قبال (الكرسي) الذي هو (سرير ذو

__________________

(١) المائدة ، الآية ١١٤.

(٢) المؤمنين ، الآية ٩٧.

(٣) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي في نهاية الآية مورد البحث.

٢٠٢

مسند منخفض). ثمّ استخدمت هذه الكلمة لتشمل (عرش) القدرة الإلهية.

وللمفسّرين والفلاسفة والمناطقة كلام كثير حول المقصود بالعرش ، وما ينطوي عليه من معنى كنائي.

فأحيانا فسّروا العرش بمعنى (العلم اللامتناهي لله تبارك وتعالى).

واخرى قالوا بأن المعنى هو (المالكية والحاكمية الإلهية).

وفسّروا العرش أيضا بأنّه إشارة إلى أي واحدة من الصفات الكمالية والجلالية لله تبارك وتعالى ، لأنّ كلّ واحدة من هذه الصفات توضح عظمة منزلته جلّ وعلا ، كما أنّ عرش السلطان (والأمثال تضرب ولا تقاس) يوضح عظمته.

فالخالق جلّ وعلا يملك عرش العلم ، وعرش القدرة ، وعرش الرحمانية ، وعرش الرحيمية.

وطبقا للتفاسير والآراء الثلاثة هذه ، فإنّ مفهوم (العرش) يعود إلى صفات الخالق جل وعلا ، ولا يعني وجود خارجي آخر له.

وفي بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليه‌السلام ، ما يشير إلى هذا المعنى ، ففي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه أجاب عند ما سئل عن معنى قوله تعالى :( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) أنّ المقصود بذلك علمه تعالى شأنه(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه فسّر (العرش) بأنّه «العلم» الذي كشفه وعلّمه الله للأنبياءعليهم‌السلام ، بينما (الكرسي) هو «العلم» الذي لم يعلمه لأحد ولم يطلع عليه أحد(٢) .

وبين أيدينا تفاسير اخرى استندت إلى روايات إسلامية ، ففسّرت العرش والكرسي بأنّهما موجودات عظيمة من مخلوقات الله تبارك وتعالى.

قالوا ـ مثلا ـ إنّ المقصود بالعرش هو مجموع عالم الوجود.

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٥٨ ، صفحة ٢٨ ، الحديث رقم ٤٦ ، ٤٧.

(٢) المصدر السابق.

٢٠٣

وقالوا أيضا : هو مجموع الأرض والسماء المتجسدة ضمن هذا الكرسي ، بل إنّ السماء والأرض كالخاتم في الصحراء الواسعة مقايسة بينهما وبين (الكرسي) ثم قالوا : إنّ «الكرسي» في مقابل العرش كالخاتم في الصحراء الواسعة.

وفي تفاسير اخرى تستند بدورها إلى روايات إسلامية ، أطلقوا كلمة (العرش) للكناية عن قلوب الأنبياء والأوصياء والمؤمنين التامين الكاملين ، كما جاء ذلك

في الحديث : «إنّ قلب المؤمن عرش الرحمن»(١) .

وفي حديث قدسي نقرأ قوله تعالى : «لم يسعني سمائي ولا أرضي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن»(٢) .

أما أفضل الطرق لإدراك معنى العرش ـ بمقدار ما تسمح به قابلية الإنسان واستيعابه ـ فهو أن نبحث موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن الكريم ، ونتفحص مدلولاتها بشكل متأن.

في آيات كثيرة من كتاب الله نلتقي مع هذا التعبير ، كما في قوله تعالى :( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ) (٣) . ثمّ يرد تعبر( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ) في بعض الآيات التي تأتي بعد مفاد الآية أعلاه (آية العرش) أو ترد جمل اخرى تعبّر عن علم الله ودراية الخالق جلّ وعلا.

في آية اخرى من القرآن الكريم يوصف العرش بالعظمة :( وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (٤) .

وأحيانا تتحدث الآية عن حملة العرش ، كما في الآية التي نحن بصددها.

ومن الآيات ما تتحدث عن الملائكة المحيطة بالعرش ، كما في قوله تعالى :

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٥٨ ، صفحة ٣٩.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ٥٨ ، صفحة ٣٩.

(٣) الأعراف ، الآية ٥٤.

(٤) التوبة ، الآية ١٢٩.

٢٠٤

( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) (١)

وفي آية اخرى نقرأ قوله تعالى :( وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ) .

من خلال مجموع هذه الموارد ، والتعابير الأخرى الواردة في الأحاديث والروايات الإسلامية ، نستنتج بشكل واضح أنّ كلمة (العرش) تطلق على معاني مختلفة بالرغم من أنّها تشترك في أساس واحد.

فأحد معاني العرش هو مقام (الحكومة والمالكية وخلق عالم الوجود) إذ تلاحظ أنّ الاستخدام الشائع للعرش يدلل ـ من خلال الكناية ـ على سيطرة الحاكم على أمور دولته ، فنقول مثلا : «فلان شلّ عرشه» والتعبير كناية عن انهيار قدرته وحكومته.

والمعنى الآخر من معاني العرش هو ، «مجموع عالم الوجود» لأنّ كلّ الوجود هو دليل على العظمة.

وأحيانا يستخدم العرش بمعنى «العالم الأعلى» والكرسي بمعنى «العالم الأدنى».

ويستخدم العرش أحيانا بمعنى (عالم ما وراء الطبيعة) والكرسي بمعنى (مجموع عالم المادة) بما في ذلك الأرش والسماء ، كما جاء في آية الكرسي :( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) .

ولأنّ علم الخالق لا ينفصل عن ذاته المنزهة ، لذا فانّ كلمة (عرش) تطلق أحيانا على «علم الله».

وإذا أطلق وصف (عرش الرحمن) على القلوب الطاهرة لعباد الله المؤمنين ، فذلك يعود إلى أنّ هذا المكان هو محل معرفة الذات الإلهية المنزهة ، وهو بحدّ ذاته أحد أدلة عظمته وقدرته جلّ وعلا.

من كلّ ذلك يتضح أنّ كافة معاني العرش ـ التي وردت آنفا ـ توضح عظمة

__________________

(١) الزمر ، الآية ٧٥.

٢٠٥

الخالق جلّ وعلا.

وفي الآية التي نحن بصدد بحثها يمكن أن يكون المقصود من العرش هو نفس حكومة الله تعالى وتدبيره لعالم الوجود ، وحملة العرش يقومون بتنفيذ إرادة الله الحاكمة في الخلق.

ويمكن أن يكون المعنى هو مجموع عالم الوجود أو عالم ما وراء الطبيعة. أمّا حملة العرش الإلهي فهم الملائكة الذين تقع عليهم مسئولية تدبير أمر هذا العالم بأمر الله تعالى.

* * *

٢٠٦

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) )

التّفسير

اعترفنا بذنوبنا فهل من خلاص؟

تحدثت الآيات السابقة عن شمول الرحمة الإلهية للمؤمنين ، أمّا مجموعة الآيات التي بين أيدينا فهي تتحدث عن «غضب» الله تعالى على الكافرين ، كي يكون بالمستطاع المقارنة بين صورتين ومشهدين متقابلين.

في البداية تقول الآية :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ) .

من الذي ينادي هؤلاء بهذا النداء؟

يبدو أن ملائكة العذاب ينادونهم بهذا النداء لتوبيخهم وفضحهم ، في مقابل ما

٢٠٧

تفعله ملائكة الرحمة من إكرام المؤمنين والصالحين.

ويحتمل أن يكون هذا النداء من نوع التخاطب والتخاصم الذي يقوم بين الكفار في القيامة ، لكن المعنى الأوّل أرجح كما يبدو ، وعلى كلّ حال سينطلق هذا النداء يوم القيامة ، كما أنّ الآيات اللاحقة شاهد على هذا المعنى.

«المقت» تعني في اللغة البغض والعداوة الشديدة. وهذه الآية تبيّن أن غضب الله تعالى على الكافرين هو أشد من عداوتهم لأنفسهم أمّا فيم يتعلق بمقت الكفار لأنفسهم ، فهناك تفسيران :

الأوّل : يتمثل في ارتكاب هؤلاء في الحياة الدنيا لأكبر عداوة إزاء أنفسهم برفضهم لنداء التوحيد ، فهم لم يهملوا مصابيح الهداية وحسب ، بل عمدوا إلى تحطيمها. فهل ثمّة عداء للنفس أكثر من أن يغلق الإنسان أمامه أبواب السعادة الأبدية ، ويفتح على نفسه أبواب العذاب.

وطبقا لهذا التّفسير يكون قوله تعالى :( إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ) بيانا لكيفية مقت وعداوة الكافرون أنفسهم.

الثّاني : أن يكون المقصود بغضبهم وعدائهم لأنفسهم هو أن تصيبهم حالة من الألم والندم الشديد عند ما يشاهدون يوم القيامة نتيجة أعمالهم وما اقترفت أيديهم في هذه الدنيا ، حيث ترتفع آهاتهم وصرخاتهم ، ويعضون على أناملهم من الندم ، ولات ساعة مندم يقول تعالى :( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ) (١) . ويتمنون أن يكونوا ترابا :( وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) (٢) .

وفي ذلك اليوم تنفتح آفاق البصر :( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) وتنكشف الأسرار والحقائق الخفية :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (٤) . وفي ذلك اليوم تنشر الصحف وتكشف

__________________

(١) فرقان ، الآية ٢٧.

(٢) نبأ ، الآية ٤٠.

(٣) سورة ق ، الآية ٢٢.

(٤) الطارق ، الآية ٩.

٢٠٨

الأعمال :( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) (١) . وعندها تكون النتيجة :( كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (٢) . لذلك سيلوم هؤلاء أنفسهم بشدة ويتنفرون منها ويبكون على مصيرهم.

وهنا يأتي النداء :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ) .

وطبقا لهذا التّفسير تكون جملة :( إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ) بيانا لدليل شدة الغضب الإلهي عليهم(٣) .

بالطبع فإن كلا التّفسيرين مناسب ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل بلحاظ بعض الأمور ـ أرجح.

عند ما يشاهد المجرمون أوضاع يوم القيامة وأهوالها ، ويرون مشاهد الغضب الإلهي حيالهم ، سينتبهون من غفلتهم الطويلة ويفكرون بطريق للخلاص ، فيعترفون بذنوبهم ويقولون :( قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) .

عند ما تزول حجب الغرور والغفلة ، وينظر الإنسان بالعين الحقيقية ، فلا سبيل عندها سوى الاعتراف بالذنوب!

إنّ هؤلاء كانوا يصرون على إنكار المعاد ، ويستهزئون بوعيد الأنبياء لهم ،

__________________

(١) التكوير ، آية ١٠.

(٢) الإسراء ، الآية ١٤

(٣) طبقا للتفسير الأوّل تكون (إذ) ظرفية ومتعلقة بـ «مقتكم أنفسكم» أمّا طبق التّفسير الثّاني فتعتبر (إذ) تعليلية ومتعلقة بـ «مقت الله» والجدير بالملاحظة أنّ المقتين الواردين في الآية أعلاه يرتبطان بأربعة احتمالات هي :

الأوّل : أن يكون مكان الإثنين في يوم القيامة.

الثّاني : أن يكون مكانهما في هذه الدنيا.

الثّالث : أن يكون المقت الأوّل في الدنيا والثّاني في الآخرة.

أما الرابع : فهو عكس الثّالث.

ولكن الأفضل وفقا للتفسير أعلاه أن يختص الأوّل بالآخرة. والثّاني بالدنيا ، أو أن يختص الاثنان بالآخرة.

٢٠٩

ولكن بعد توالي الموت والحياة لا يبقى مجال للإنكار ، وقد يكون سبب تكرارهم للموت والحياة ، أنّهم يريدون القول : يا خالقنا الذي تملك الموت والحياة ، أنت قادر على أن تعيدنا إلى الدنيا مرة اخرى كي نعوّض ما مضى.

* * *

ذكر المفسرون عدّة تفاسير حول المقصود من قوله تعالى :( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ) و( أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) ومن بين هذه التفاسير هناك ثلاثة آراء نقف عليها فيما يلي :

أوّلا : أن يكون المقصود من( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ) هو الموت في نهاية العمر ، والموت في نهاية البرزخ. أمّا المقصود من( أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) فهي الإحياء في نهاية البرزخ والإحياء في القيامة.

ولتوضيح لذلك ، نرى أنّ للإنسان حياة اخرى بعد الموت تسمى الحياة البرزخية ، وهذه الحياة هي نفس حياة الشهداء التي يحكي عنها قوله تعالى :( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) ، وهي نفس حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، حيث يسمعون سلامنا ويردون عليه.

وهي أيضا نفس حياة الطغاة والأشقياء كالفراعنة الذين يعاقبون صباحا ومساء بمقتضى قوله تعالى :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) (٢) .

ومن جانب آخر نعرف أنّ الجميع ، من الملائكة والبشر والأرواح ، ستموت في نهاية هذا العالم مع أوّل نفخة من الصور :( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) (٣) . ولا يبقى أحد سوى الذات الإلهية (بالطبع على خلاف ما أوضحناه في نهاية الآية (٨٦) من سورة الزمر بين موت وحياة الملائكة والأرواح ، وبين موت وحياة الإنسان).

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٦٩.

(٢) غافر ، الآية ٤٦.

(٣) الزمر ، الآية ٦٨.

٢١٠

وعلى هذا الأساس فإنّ هناك حياة جسمانية وحياة برزخية ، ففي نهاية العمر يحل الموت بحياتنا الجسمانية ، لكن في نهاية العالم يحل بحياتنا البرزخية.

يترتب على ذلك أن تكون هناك حياتان بعد هذين الموتتين : حياة برزخية ، وحياة في يوم القيامة.

وهنا قد يطرح البعض هذا السؤال : إنّنا في الواقع نملك حياة ثالثة هي حياتنا في هذه الدنيا ، وهي غير هاتين الحياتين ، وقبلها أيضا كنّا في موت قبل أن نأتي إلى هذه الدنيا ، وبهذا سيكون لدينا ثلاث موتات وثلاثة إحياءات.

ولكن الجواب يتوضح عند التدقيق في نفس الآية ، فالموت قبل الحياة الدنيا (أي في الحالة التي كنّا فيها ترابا) يعتبر «موتا» لا «إماتة» وأمّا الحياة في هذه الدنيا فالبرغم من أنّها مصداق للإحياء ، إلا أنّ القرآن لم يشر إلى هذا الجانب في الآية أعلاه ، لإنّ هذا الإحياء لا يشكّل عبرة كافية بالنسبة للكافرين ، إذ الشيء الذي جعلهم يعون ويعترفون بذنوبهم هو الحياة البرزخية أوّلا ، والحياة عند البعث ثانيا.

ثانيا : إنّ المقصود بالحياتين ، هو الإحياء في القبر لأجل بعض الأسئلة ، والإحياء في يوم القيامة ، وإنّ المقصود بالموتتين ، هما الموتة في نهاية العمر ، والموتة في القبر.

لذلك اعتبر بعض المفسّرين هذه الآية دليلا على الحياة المؤقتة في القبر.

أمّا عن كيفية حياة القبر ، وفيما إذا كانت جسمانية أو برزخية. أو نصف جسمانية ، فهذه كلّها بحوث ليس هنا مجال الخوض فيها.

ثالثا : إنّ المقصود بالموتة الأولى ، هو الموت قبل وجود الإنسان في هذه الدنيا ، إذ أنّه كان ترابا في السابق ، لذا فإنّ الحياة الأولى هي الحياة في هذه الدنيا ، والموت الثّاني هو الموت في نهاية هذا العالم ، فيما الحياة الثانية هي الحياة عند

٢١١

البعث.

والذين يعتقدون بهذا التّفسير يستدلون بالآية (٢٨) من سورة «البقرة» حيث قوله تعالى :( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

إلّا أنّ الآية التي نبحثها تتحدث عن إماتتين ، في حين أنّ آية سورة البقرة تتحدّث عن حياة واحدة وإماتة واحدة(١) .

يتّضح من مجموع التفاسير الثّلاثة هذه أنّ التّفسير الأوّل هو الأرجح.

ولا بأس أن نشير إلى أنّ بعض مؤيدي «التناسخ» أرادوا الاستدلال بهذه الآية على الحياة والموت المكرّر للإنسان ، وعودة الروح إلى الأجساد الجديدة في هذه الدنيا ، في حين أنّ الآية أعلاه تعتبر إحدى الأدلة الحية على نفي التناسخ ، لأنّها تتحدّد الموت والحياة في مرّتين ، إلّا أنّ أنصار عقيدة «التناسخ» يقولون بالموت والحياة المتعدّدة والمتوالي ، ويعتقدون بأنّ روح الإنسان الواحد يمكن أن تتجسّد وتحل مرأت اخرى في أجساد جديدة ، ونطف جديدة وترجع إلى هذه الدنيا.

من الطبيعي أن يكون الجواب على طلب الكافرين بالعودة إلى هذه الدنيا للتكفير عمّا فاتهم هو الرفض. وهذا الرفض من الوضوح بحيث لم تشر إليه الآيات التي نبحثها.

لكن نستطيع أن نعتبر الآية التي بعدها دليلا على ما نقول ، إذ تقول :( ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا ) .

فعند ما يدور الكلام عن التوحيد والتقوى والأوامر الحقة تشمئزون وتحزنون ، أما إذا دار الحديث عن الكفر والنفاق والشرك فستفرحون وتنبسط

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين أنّ الآية أعلاه تشير إلى «الرجعة» إلّا أنّ مراعاة عمومية الآية وشمولها جميع الكافرين ، وعدم ثبوت عمومية الرجعة لهم جميعا ، يجعل هذا التّفسير قابلا للنقاش.

٢١٢

أساريركم ، لذلك ستكون عاقبتكم ما رأيتم.

وهنا نطرح هذا السؤال : كيف نربط هذا الجواب مع طلبهم العودة إلى هذه الدنيا؟

إنّ الآية تفيد أنّ حقيقة أعمال هؤلاء لم تكن محدودة بزمن معين ، ولم تكن مؤقتة ، بل كانت دائمية ، لذلك فلو عادوا إلى الحياة مرّة اخرى فإنهم سيستمرون على هذا الوضع ، أمّا هذا الإيمان والتسليم والإذعان الذي رأيناه منهم يوم القيامة ، فهو اضطراري وليس عن قناعة حقيقية.

ثمّ إنّ اعتقادات هؤلاء وأعمالهم ونياتهم السابقة تستوجب خلودهم في الجحيم ، لذا فلا يمكن عودة هؤلاء إلى الدنيا مع هذا الوضع.

وهذا الوضع يختص بالأفراد الذين تجذّر الكفر والشر والذنب في أعماقهم ، وهؤلاء هم الذين يصفهم القرآن بأنّ نفوسهم تشمئز عند ذكر الله تعالى وحده ، ويفرحون عند ذكر الأصنام :( وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (١) .

إنّ هذا الوصف لا يختص بالمشركين في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، إذ يشهد زماننا مثل هؤلاء من ذوي القلوب الميتة ، الذين يفرون من الإيمان والتوحيد والتقوى ، ويقبلون على الكفر والنفاق والفساد.

لذلك نقرأ في بعض الروايات عن أهل البيتعليهم‌السلام ، في تفسير هذه الآية ، أنّها تختص بقضية (الولاية) إذ يتأذى البعض عند سماعها (أي الولاية) ويفرحون عند سماع أسماء أعداء أهل البيتعليهم‌السلام هذا التّفسير هو من باب انطباق المفهوم ، العام على المصداق ، وليس من باب تقييد كلّ المفهوم الذي تطوية الآية بهذا المصداق).

وفي نهاية الآية ، ومن أجل أن لا ييأس هؤلاء المشركون ذوو القلوب

__________________

(١) الزمر ، الآية ٤٥.

٢١٣

المظلمة ، تقول الآية إنّ الحاكمية تختص بذات الله سبحانه وتعالى :( فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) إذ لا يوجد غيره قاض وحاكم في محكمة الآخرة ، ولا يوجد غيره على وكبير ، فلا يستطيع أحد أن يغلبه أو أن يؤثّر عليه أو على حكمه بفدية أو غرامة أو وساطه ، فالحاكم المطلق هو ، والجميع يطيعونه ، ولا يوجد طريق للهرب من حكمه.

* * *

ملاحظة

الدعاء البعيد عن الإجابة!

ليست هذه المرّة الأولى التي تواجهنا فيها طلبات أهل النّار أو الكفار الذين يريدون العودة إلى هذه الدنيا ، فيكون الجواب بالنفي.

لقد طرحت الآيات بالقرآنية هذا الموضوع عدّة مرّات.

ففي سورة الشورى الآية (٤٤) نقرأ أن الظالمين بعد أن يروا العذاب يقولون :

( هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ) .

وفي الآية (٥٨) من سورة الزمر ، ورد على لسان المذنبين وغير المؤمنين عند رؤيتهم العذاب :( أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وفي الآية (١٠٧) من سورة «المؤمنون» نقرأ قوله تعالى حكاية على لسان أمثال هؤلاء القوم :( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) .

مجموعة أخير عند ما يحل بها الموت وترى ملائكة الموت تطلب من الله تعالى العودة فتقول :( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (١) .

إلّا أنّ هذه الطلبات تردع دوما بكلمة «كلّا» أو ما شابه ذلك.

__________________

(١) المؤمنون ، الآيتان ٩٩ ـ ١٠٠.

٢١٤

وبذلك يتضح أنّ المفهوم القرآني يؤكّد على أنّ الحياة في هذه الدنيا هي تجربة لا يمكن تكرارها بالنسبة للشخص ، لذا يجب إبعاد هذا الوهم من العقول بأنّنا إذا متنا وواجهنا العذاب فسوف نعود الى هذه الدنيا ونجبر ما فات حيث لا إمكان للعودة إلى هذه الحياة بعد الموت.

وملاك هذا الأمر واضح ، ففي قانون التكامل لا يمكن الرجوع والعودة ، كما لا يمكن عودة الطفل إلى بطن أمّه وفقا لهذا القانون ، سواء كان هذا الطفل قد اكتمل نموه في بطن أمه أو لم يكتمل وولد ناقصا ، إذ العودة غير ممكنة أصلا.

كذلك الموت الذي هو في الواقع ولادة ثانوية ، وانتقال من عالم الدنيا هذه إلى عالم آخر ، وهناك تعتبر العودة ضربا من المحال.

إضافة إلى ذلك لا يمكن اعتبار اليقظة الاضطرارية التي تنتاب الناس ـ الذين تتحدث عنهم الآية ـ دليلا على الاقتناع أو اليقظة الحقيقية ، إذ عند ما تخف أسبابها سيعود النسيان والغفلة مرة اخرى ، وسيتم تكرار نفس الأعمال ، كما نرى ذلك واضحا في هذه الدنيا لدى الكثير من الناس الذين يتوجهون إلى خالقهم عند ما تضيق عليهم الحياة ، ويلجون أبواب التوبة ، إلّا أنّهم بمجرّد هدوء العواصف ينسون كل شيء وكأنّهم لم يدعوا الله إلى ضر مسّهم!!

* * *

٢١٥

الآيات

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) )

التّفسير

ادع الله وحده رغما على الكافرين :

هذه الآيات المتضمنة للنصيحة والتهديد والإنذار استدلال على المسائل المطروحة في الآيات السابقة ، فهي استدلال على التوحيد والرّبوبية ونفي الشرك وعبادة الأصنام.

تقول الآية أوّلا :( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ) .

فهي نفس الآيات والعلائم الآفاقية والأنفسية التي تملأ عالم الوجود ، وتستوعب بإشراقتها أركانه ، وتضع بصماتها وآثارها العجيبة على جدران الوجود وجميع أرجاءه.

ثم توضح واحدة من هذه الآيات :( وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً ) .

٢١٦

قطرات المطر تعطي الحياة ، ونور الشمس يحيي الكائنات ، والهواء سرّ الوجود والحياة ، حياة جميع الكائنات ، حيوانات نباتات ، أناس كلّها تنزل من السماء. وتشكّل هذه الأثافي الثلاث فيما بينها قوام الحياة ، حيث تتفرع الأشياء الأخرى من أصولها.

بعض المفسّرين أطلق على السماء اسم «عالم الغيب» وعلى الأرض اسم «عالم الشهود» ونزول الرزق من السماء إلى الأرض هو بمعنى الظهور من عالم الغيب إلى عالم الشهود.

ولكن هذا التّفسير فضلا عن منافاته لظاهر الآية ، لم نعثر له على دليل وشاهد ، صحيح أنّ الوحي والآيات ، هما غذاء الروح ، ينزلان من سماء الغيب ، وأنّ المطر والشمس والنور التي تعتبر غذاء الجسد تنزل من السماء الظاهرية ، وهما متناسقان مع بعضهما. ولكن ينبغي أن لا نتصوّر أن عبارة (آياته) التي نحن بصددها تشير إلى مفهوم أوسع ، أو تشير بالخصوص إلى الآيات التشريعية ، لأنّ عبارة( يُرِيكُمْ آياتِهِ ) وردت مرارا في القرآن الكريم ، وهي عادة ما تطلق على الآيات الدالة على التوحيد في عالم الوجود.

مثلا ، في أواخر هذه السورة (المؤمن) وبعد ذكر النعم الإلهية ، من قبيل الزواحف والفلك تقول :( وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ ) (١) .

إنّ تعبير «يريكم» ينسجم في العادة مع الآيات التكوينية ، بينما جرت العادة في الآيات التشريعية على استخدام تعابير مثل (أوحى) و (يأتيكم).

من هنا يتبيّن أنّ اعتبار هذه الآيات بمعنى الآيات التشريعية ، وأنّها أعم من التشريعية والتكوينية ، كما يذهب بعض كبار المفسّرين القدماء والمحدثين إلى ذلك ، لا يستند إلى دليل ، ولا تقوم عليه حجّة.

ولكن من الضروري أن نلتفت إلى أنّ القرآن يختار الإشارة إلى آية الرزق

__________________

(١) المؤمن ، الآية ٨١.

٢١٧

من بين آيات الله المبثوثة في السماء والأرض وفي وجود الإنسان ، ذلك لأنّ الرزق هو أكثر ما يشغل البال والفكر ، وأحيانا نرى الإنسان يستنجد بالأصنام من أجل زيادة الرزق ، وإنقاذه من وضعه المتردي ، لذا يأتي القرآن ليؤّكد أن جميع الأرزاق هي بيد الله ولا تستطيع الأصنام أو غيرها أن تفعل أي شيء.

وأخيرا تضيف الآية الكريمة : برغم جميع هذه الآيات البينات التي تسود هذا العالم الواسع ، وتغمد الوجود بضيائها ، إلّا أنّ العيون العمياء والقلوب المحجوبة لا تكاد ترى شيئا ، وإنّما يتذكر ـ فقط ـ من ينيب إلى خالقه ويغسل قلبه وروحه من الذنوب :( وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ) .

الآية التي بعدها ترتب نتيجة على ما سبق فتقول :( فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) انهضوا واضربوا الأصنام وحطموها بفؤوس الإيمان ، وامحوا آثارها من ذاكرة الفكر والثقافة والمجتمع.

ومن الطبيعي أنّ وقفتكم الرّبانية هذه ستؤذي الكافرين والمعاندين ، لكن عليكم أن لا تسمحوا للخوف أن يسترّب الى قلوبكم ، أخلصوا نيّاتكم :( وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) .

ففي المجتمع الذي يشكل فيه عبدة الأصنام الغالبية ، يكون طريق أهل التوحيد موحشا في بادئ الأمر ، مثل شروق الشمس في بدايات الصباح الأولى وسط عالم الظلام والخفافيش ، لكن عليكم أن لا تركنوا إلى ردود الأفعال غير المدروسة ، تقدموا بحزم وإصرار ، وارفعوا راية التوحيد والإخلاص ، وانشروها في كلّ مكان.

تصف الآية التي تليها خالق الكون ومالك الحياة والموت ، بعض الصفات المهمّة ، فتقول :( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ) فهو تعالى يرفع درجات العباد الصالحين كما في قوله تعالى :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

__________________

(١) المجادلة ، الآية ١١.

٢١٨

وحتى بين النّبيين فقد فضّل الله بعضهم على بعض بسبب اجتيازهم للامتحان والاختبار أكثر من غيرهم ، فأخلصوا لله تعالى بمراتب أعلى وأفضل :( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ) (١) .

لقد استخلف الله الإنسان في هذه الأرض ، وجعل منه خليفته ، وفضّل البعض على البعض الآخر وفقا لاختلاف الخصائص والقابليات لدى الإنسان :( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ) (٢) .

فإذا كانت الآية السابقة قد دعت إلى الإخلاص في الدين ، فإنّ الآية التي بين أيدينا تقول : إنّ الله تبارك وتعالى سوف يرفع درجاتكم بمقدار إخلاصكم ، فهو رفيع الدرجات.

إنّ صحة كلّ هذه المعاني منطوة بتفسير (رفيع) بالرافع ، إلّا أنّ البعض ذهب إلى أنّ (رفيع) في الآية بمعنى (المرتفع) وبناء على هذا المعنى فإنّ( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ) تشير إلى الصفات العالية الرفيعة لله تعالى ، فهو رفيع في علمه ، وفي قدرته ، وفي جميع أوصافه الكمالية والجمالية ، هو تعالى رفيع في أوصافه بحيث أنّ عقل الإنسان برغم قابليته واستعداده لا يستطيع أن يدركها.

وبحكم أنّ اللغة تعطي صلاحية متساوية للمعنيين الآنفين لكلمة (رفيع) فإنّ التّفسيرين واردان ، ولكن لأنّ الآية تتحدث عن إعطاء الأجر لعباد الله الصالحين ، والذي هو الدرجات الرفيعة ، لذا فإنّ المعنى الأوّل أظهر.

لكن لا مانع من الجمع بين التّفسيرين ، لأننا نعتقد جواز استخدام اللفظ لأكثر من معنى ، خصوصا في إطار الآيات التي تشتمل ألفاظها على معاني كبيرة وواسعة.

تضيف الآية بعد ذلك قوله تعالى :( ذُو الْعَرْشِ ) .

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٥٣.

(٢) الأنعام ، الآية ١٦٥.

٢١٩

فكل عالم الوجود تحت حكومته وفي قبضته ، ولا منازع له في حكومته ، وهذا بحد ذاته ذليل على أنّ تحديد درجات العباد حسب أفضليتهم إنّما يتمّ بقدرته تعالى.

وبما إنّنا تحدثنا بالتفصيل عن «العرش» فلا حاجة هنا للتكرار.

وفي وصف ثالث تضيف الآية أنّه هو تعالى الذي :( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) وهذه الروح هي نفس القرآن ومقام النبوّة والوحي ، حيث تحيي هذه الأمور القلوب ، وتكون في الإنسان كالروح بالنسبة لجسد الإنسان.

إنّ قدرته من جانب ، ودرجاته الرفيعة من جانب آخر ، تقتضي أن يعلنعزوجل عن برنامجه وتكاليفه عن طريق الوحي ، وهل ثمّة تعبير أجمل من الروح ، هذه الروح التي هي سرّ الحياة والحركة والنشاط والتقدم.

لقد ذكر المفسّرون احتمالات متعدّدة لمعنى الروح ، لكن من خلال القرائن الموجودة في الآية ، وممّا تفيده الآية (٢) من سورة «النحل» التي تقول :( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) وكذلك ممّا تفيده آية (٥٢) من سورة «الشورى» التي تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح له نزول القرآن والإيمان والروح بقوله تعالى :( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) من كلّ ذلك يتبيّن أنّ المقصود بالروح في الآية التي نحن بصددها ، هو الوحي والقرآن والتكليف الإلهي.

تفيد عبارة (من أمره) أنّ ملك الوحي المكلّف بإبلاغ هذه الروح ، إنّما يتحدث ويتكلّم بأمر الله لا من عند نفسه.

أمّا قوله تعالى :( عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) فلا تعني أنّ هبة الوحي تعطى لأي كان ، لأن مشيئته تعالى هي عين حكمته ، وكل من يجده مؤهلا لهذا المنصب يخصه بهذا الأمر ، كما نقرأ في الآية (١٢٤) من سورة الأنعام حيث قوله تعالى :( اللهُ أَعْلَمُ

٢٢٠

حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

وعند ما نجد بعض الرّوايات المروية عن أهل البيتعليهم‌السلام تفسّر الروح في الآية أعلاه بـ «روح القدس» وتخصّها بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين من أهل البيتعليهم‌السلام ، فإنّ ذلك لا يتعارض مع ما قلناه ، لأنّ «روح القدس» هي نفس الروح العلوية المقدسة والمنصب المعنوي العظيم الذي يتجسّد كاملا في الأنبياء والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، وكثيرا ما يتجلّى جزء منها في الأشخاص الآخرين الذي متى ما ساعدتهم فيوضات روح القدس فإنّه سيقومون بأعمال مهمّة ، وتنطق لسانهم بالحكمة. (لمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية ٨٧ من سورة البقرة).

والملفت للنظر هنا أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث عن رزق الأجساد من مطر ونور وهواء ، فيما تتحدث هذه الآيات عن الرزق «الروحي» والمعنوي المتمثل في نزول الوحي.

والآن لنرى ما هو الهدف من إنزال روح القدس على الأنبياءعليهم‌السلام ، ولماذا يسلك الأنبياء هذه الطرق الطويلة المليئة بالعقبات والصعاب.

الإجابة يقدمها القرآن في نهاية الآية بقوله :( لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) .

أنّه اليوم الذي يلتقي فيه العباد بخالقهم

إنّه اليوم الذي يلتقي فيه السابقون باللاحقين

إنّه اليوم الذي يجمع على ساحة القيامة بين رموز الحق وقادته ، ورموز الباطل وزعامته وأنصاره

إنّه يوم لقاء المستضعفين بالمستكبرين

إنّه يوم التقاء الظالم والمظلوم

هو يوم التقاء الإنسان والملائكة

وأخيرا ، يوم التلاق ، هو يوم التقاء الإنسان مع أعماله وأقواله في محكمة

٢٢١

العدل الإلهي.

إذا ، هدف بعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية هو تحذير الإنسان من يوم التلاقي الكبير إنّه لاسم عجيب (يوم التلاق) الذي انتخبته الآية اسما ليوم القيامة!

* * *

٢٢٢

الآيتان

( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) )

التّفسير

يوم التلاقي!

هذه الآيات والتي تليها ، هي توضيح وتفسير (ليوم التلاق) وهو اسم ليوم القيامة.

في هاتين الآيتين تمّ ذكر بعض خصوصيات القيامة وكلّ واحدة أكثر إثارة من الأخرى.

يبيّن تعالى أن يوم التلاقي ، هو :( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ) إنّه اليوم الذي تزول فيه جميع الحجب والأستار ، وكتوطئة له ستزول الموانع المادية كالجبال الراسيات مثلا ، وتصبح الأرض( قاعاً صَفْصَفاً ) كما يصفها القرآن في الآية (١٠٦) من سورة طه».

ومن جانب آخر سيخرج الناس من قبورهم ، ثمّ تنكشف الأسرا الباطنية

٢٢٣

والمخفية :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (١) .

ويوم تخرج الأرض ما تطويه في بطونها :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) (٢) .

ويوم تنشر صحف الأعمال وينكشف محتواها :( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) (٣) .

في يوم التلاق تتجسّد الأعمال التي اقترفها الإنسان وتبدو حاضرة أمامه :( يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ) (٤) .

وفي ذلك اليوم تنكشف الأسرار التي كان يطويها الإنسان بداخله ويتكتم عليها :( بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ) (٥) .

وفي ذلك اليوم المهول ستشهد الأعضاء على أعمال الإنسان ، وستشهد ـ أيضا ـ الأرض وتكشف ما ارتكب عليها :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٦) .

في ذلك اليوم سيطوى الكون ، وسيظهر الإنسان بكل وجوده ، ويبرز الكون وما عليه ، ولا تبقى من خافية :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) (٧) .

إنّه منظر مهول ومشهد موحش!!

ويكفينا لتصور هول ذلك اليوم نتخيّل ولو للحظة واحدة منظر هذه الدنيا وقد حلّت بها شرائط القيامة؟ لنرى أيّ فزع سينتاب البشرية وتحل بها! وكيف تتقطع العلائق والروابط في ذلك اليوم لذلك على الإنسان أن يستعد ، وأن يعيش بشكل لا يخشى فيه انكشاف المستور من أوضاعه ، وأن تكون أعماله وأفعاله بحيث لا يقلق منها لو ظهرت وانكشفت أمام الملأ.

الوصف الثّاني لذلك اليوم المهول ، هو انكشاف أمر الناس بحيث لا يخفى

__________________

(١) الطارق ، الآية ٩.

(٢) الزلزال ، الآية ٢.

(٣) التكوير ، الآية ١٠.

(٤) النبأ ، الآية ٤٠.

(٥) الأنعام ، الآية ٢٨.

(٦) الزلزال ، الآية ٤.

(٧) إبراهيم ، الآية ٢١.

٢٢٤

شيء منها على الله تعالى :( لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) .

بالطبع في هذه الحياة لا يخفى من أمر الإنسان شيء على الله العالم المطلق ، إذ يتساوى لذي ذاته المطلقة غير المتناهية المخفي والظاهر ، والشاهد والغائب. فلما ذا ـ إذا ـ ذكر القرآن الجملة أعلاه على أنّها تفسير لجملة( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ) ؟

إن سبب ذلك يعود إلى أنّ «البروز» في ذلك اليوم يكون مؤكّدا أكثر ، بحيث أنّ الآخرين سيطّلعون على أسرار بعضهم البعض. أمّا بالنسبة لله فالمسألة لا تحتاج إلى بحث أو كلام.

الخصوصية الثّالثة ليوم التلاقي هو انبساط الحاكمية المطلقة لله تعالى ، ويظهر ذلك من خلال نفس الآية التي تسأل عن الحكم والملك في ذلك اليوم :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ) ؟

يأتي الجواب :( لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

من الذي يطرح السؤال ، ومن الذي يجيب عليه؟

الآية لا تتحدّث عن ذلك ، والتفاسير مختلفة في هذا الصدد.

ذهب البعض الى أنّ السؤال يطرح من قبل الله جلّ وعلا ، أمّا الجواب فيأتي من الجميع ، مؤمنين وكافرين(١) .

وذهب آخرون الى أن السؤال والجواب كلاهما من قبل الخالقعزوجل (٢) .

قسم ثالث يعتقد أنّ «المنادي الإلهي» هو الذي يطرح السؤال ، وهو الذي يجيب عليه.

ولكن يبدو من الظاهر أنّ هذا السؤال وجوابه لا يطرحان من قبل فرد معين ، بل هو سؤاله يطرحه الخالق والمخلوق ، الملائكة والإنسان ، المؤمن والكافر ،

__________________

(١) مجمع البيان ، أثناء تفسير الآية.

(٢) الميزان : ذيل الآية مورد البحث.

٢٢٥

تطرحه جميع ذرات الوجود ، وكلّهم يجيبون عليه بلسان حالهم ، بمعنى أنّك أينما تنظر تشاهد آثار حاكميته ، وأينما تدقق ترى علائم قاهريته واضحه.

فلو أصحت السمع إلى أي ذرة من ذرات الوجود ، لسمعتها تقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ ) وفي الجواب تسمعها نفسها تقول :( لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

وقد نرى في هذه الدنيا نموذجا مصغرا لذلك ، فعند ما ندخل إلى بيت أو مدينة أو بلد معين ، فإنّنا نحسن بقدرة شخص معين ، وبانبساط حاكميته ، وكأنّ الجميع يقولون ـ كلّ بلسان حاله ـ إنّ المالك أو الحاكم هو فلان ، وتشهد على ذلك حتى الجدران!!

وبالطبع ، في هذا اليوم أيضا تطغى الحاكمية الإلهية على كلّ شيء ، وتبسط قدرتها في كلّ الأرجاء ، لكن في يوم القيامة سيكون لها ظهور وبروز من نوع جديد ، فهناك لا يوجد كلام عن حكومة الجبارين ، ولا نسمع ضجيج الطواغيت السكارى ، ولا نرى أثرا لإبليس وجنوده وجيوشه من الإنس والجن.

الخصوصية الرابعة لذلك اليوم ، هو كونه يوم جزاء :( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) . أجل ، إن ظهور وبروز الاحاطة العلمية لله تعالى وحاكميته ومالكيته وقهاريته كلها أدلة واضحة على هذه الحقيقة العظيمة المخيفة من جهة ، والمفرحة من جهة اخرى.

أمّا الخصوصية الخامسة لذلك اليوم ، فهي ما يختصره قوله تعالى :( لا ظُلْمَ الْيَوْمَ ) .

وكيف يمكن أن يحصل الظلم ، في حين أن الظلم إمّا أن يكون عن جهل ، واللهعزوجل قد أحاط بكل شيء علما.

وإمّا أن يكون عن عجز ، واللهعزوجل هو القاهر والمالك والحاكم على شيء ، لذا لا مجال لظلم أحد في محضر القدس الإلهي وفي ساحة القضاء الإلهي العادل.

٢٢٦

الصفة السادسة والأخيرة ليوم التلاقي ، هي سرعة الحساب لأعمال العباد ، كما نقرأ ذلك في قوله تعالى :( إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) .

وسرعة الحساب بالنسبة لله تعالى تجري كلمح البصر ، وهي بدرجة بحيث نقرأ عنها

في حديث : «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر»(١) .

وأساسا فإنّه مع القبول بمسألة تجسّم الأعمال وبقاء آثار الخير والشر فإن مسألة الحساب مسألة محلولة؟ فهل أنّ الأجهزة المتطورة في هذه الدنيا التي تحسب مقدار العمل في أثناء العمل بحاجة الى زمان؟!

وقد يكون الغرض من تكرار( سَرِيعُ الْحِسابِ ) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم هو عدم انخداع الناس العاديين بوساوس الشيطان وإغواءاته ، ومن يتبعه من الذين يثيرون الشكوك بإمكانية محاسبة الخلائق على أعمالهم التي قاموا بها خلال آلاف سحيقة من السنين وعصور التأريخ.

إضافة إلى أنّ هذا التعبير يستبطن معنى التحذير لجميع الناس بأنّ ذلك اليوم لا مجال فيه للمجرمين والظالمين والقتلة ، ولا تعطى لهم الفرصة كما يحصل في هذه الدنيا ، حيث يترك ملف الظلمة والقتلة لشهور وسنين.

* * *

__________________

(١) في مجمع البيان ، نهاية الحديث عن الآية (٢٠٢) من سورة البقرة.

٢٢٧

الآيات

( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) )

التّفسير

يوم تبلغ القلوب الحناجر :

هذه الآيات تستمر ـ كالآيات السابقة ـ في وصف القيامة ـ يوم التلاقي ـ وتحدّد سبع خصائص للقيامة والحوادث المهولة والمدهشة التي تدفع بكل انسان مؤمن نحو التفكير والتأمل بالحياة والمصير.

يقول تعالى :( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ) .

«الآزفة» باللغة بمعنى (القريب) ويا لها من كناية عجيبة ، حيث أطلق سبحانه على يوم القيامة يوم الآزفة كي لا يظن الجهلة أن هناك فترة طويلة تفصلهم عن ذلك اليوم ، فلا ينبغي ـ والحال هذه ـ أن ينشغل المرء بالتفكير به!

وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة

٢٢٨

حيال يوم القيامة ، ولأنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر أىّ تأريخ لهذا اليوم المهول ، حتى للأنبياءعليهم‌السلام ، لذا يجب الاستعداد دائما لاستقبال ذلك اليوم.

الوصف الثّاني ليوم الأزقة هو :( إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ ) من شدة الخوف.

فعند ما تواجه الإنسان الصعويات يشعر وكأنّ قلبه يفر من مكانه ، وكأنّه يريد أن يخرج من حنجرته ، والعرب في ثقافتها اللغوية التي نزل بها القرآن تطلق على هذه الحالة وصف «بلغت القلوب الحناجر».

ويمكن أن يكون (القلب) كناية عن (الروح) بمعنى أنّ روحه بلغت حنجرته هلعا وخوفا ، كأنما تريد أن تفارق بدنه تدريجيا ولم يبق منها سوى القليل.

إنّ هول الخوف من الحساب الإلهي الرباني الدقيق ، والخشية من الافتضاح وانكشاف الستر والحجب أمام جميع الخلائق ، وتحمّل العذاب الأليم الذي لا يمكن الخلاص منه ، كلّ هذه أمور سيواجهها الإنسان ولا يمكن وصفها وشرحها بأي بيان.

الصفة الثّالثة لذلك اليوم تعبر عنها الآية بـ( كاظِمِينَ ) أي إنّ الهم والغم سيشمل كل وجودهم ، إلّا أنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.

«كاظم» مشتقّة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلتي فوهة القربة المملوءة بالماء ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضبا إلّا أنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.

قد يستطيع الإنسان المغموم المحزون أن يهدأ او يستريح بالصراخ ، لكن المصيبة حينما لا يستطيع هذا الإنسان حتى عن الصراخ فما ذا ينفع الصراخ في محضر الخالق جلّ وعلا وفي ساحة عدله وعند ما تنكشف جميع الأسرار امام جميع الخلائق.

الصفة الرّابعة ليوم التلاقي هو يوم :( ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ) . أي صديق نعم ، أنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكاذبين التي تحيط بالشخص كذبا وتملقا ـ كما

٢٢٩

يحيط بالذباب بالحلويات ـ طمعا في مقامه وقدرته وجاهه وماله. إنّ هؤلاء في هذا اليوم مشغولون بأنفسهم لا ينفعون أحدا وهو يوم لا تنفع فيه لا صداقة ولا خلّة.

الصفة الخامسة تقول عنها الآية :( وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ) .

ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن الله تعالى ، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام ، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة الله جلّ وعلا.

وفي المرحلة السادسة تذكر الآية أحد صفات الخالق جلّ وعلا ، والتي تعتبر في نفس الوقت وصفا لكيفية القيامة ، حيث تقول :( يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ) (١) .

إنّ الله تبارك وتعالى يعلم الحركات السرية للعيون وما تخفيه الصدور من أسرار ، وسيقوم تعالى بالحكم والقضاء العادل عليها ، وهو بعلمه سيجعل صباخ الظالمين المذنبين مظلما.

وعند ما سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن معنى الآية فأجاب : «ألم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء وكأنّه لا ينظر إليه ، فذلك خائنة الأعين»(٢) . أي يوهم أنّه لا ينظر إليه.

قد يتأول البعض بنظره إلى أعراض الناس وإلى ما يحرم النظر إليه ، وقد يستطيع الفاعل أن يخفي فعلته عن الآخرين ، لكن ذلك لا يخفى عن علم الله المحيط بكل ذرات الوجود إذ :( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي

__________________

(١) هناك احتمالان من حيث التركيب النحوي لجملة «يعلم خائنة الأعين» : الأول : أن (خائنة) لها معنى مصدري وتعني الخيانة (مثل كاذبة ولاغية بمعنى كذب ولغو). ويحتمل أن تكون (اسم فاعل) من باب تقديم الصفة ، أي أنها تعني في الأصل (الأعين الخائنة).

(٢) تفسير الصافي أثناء الحديث عن الآية.

٢٣٠

الْأَرْضِ ) (١) .

وقد روي أنّه (لما جيء بعبد الله بن أبي سرح إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما اطمأن أهل مكّة وطلب له الأمان عثمان صمت رسول الله طويلا ثمّ قال (نعم) فلما انصرف قال رسول الله لمن حوله : «ما صمّت طويلا إلّا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجل من الأنصار : فهلا أو أومأت إليّ يا رسول الله ، فقال : «إن النّبي لا تكون له خائنة الأعين»(٢) .

وبالطبع فإنّ لخيانة العين أشكال مختلفة ، إذ تتمثل في بعض الأحيان باستراق النظر إلى ما يحرم كالنساء وغيرهن ، وأحيانا تتمثل بإشارات معينة للعين تهدف تحقير الآخرين والاستهزاء بكلامهم. وقد تكون حركات العين مقدمة المخططات شيطانية ضدّ الآخرين.

إنّ من يؤمن بالحساب الدقيق في الآخرة ، عليه أن يراعي حدود التقوي في خائنة الأعين وخطرات الفكر ، وواضح أنّ استحضار عناصر الرقابة هذه لها مؤدّاها التربوي الكبير في سلوك الإنسان وحياته.

وفي قصص الوعظ المتداولة في مجالس العلماء ، يقال أن أحد كبار العلماء عند ما أنهى دراسته الدينية في النجف الأشرف ، طلب من أستاذه عند ما أراد الرجوع إلى بلده أن يعظه وينصحه ، فقال له الأستاذ : بعد كلّ هذا التعب وتحمّل مضايق الدراسة والتحصيل فإنّ آخر نصيحتي لك هي أن لا تنسى أبدا قوله تعالى( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى ) (٣) .

المؤمن الحقيقي يعتبر العالم كلّه حاضرا عند الله تعالى ، وإنّ كلّ الأعمال تتمّ في حضوره ، وينبغي لهذا الحضور الإلهي أن يكون رادعا كافيا للخجل والكف

__________________

(١) سبأ ، الآية ٣.

(٢) تفسير القرطبي ذيل الآية.

(٣) العلق ، الآية ١٤.

٢٣١

عن المعاصي والذنوب.

الآية التي تليها تتحدث عن صفة سابعة للقيامة تتمثل في قوله تعالى :( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ ) .

أمّا غيره :( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ) .

في ذلك اليوم يختص الله وحده بالقضاء ، وهو جلّ جلاله لا يقضي إلّا بالحق ، لأنّ القضاء بغير الحق ـ بالظلم مثلا والانحياز ـ إمّا أن يعود إلى الجهل وعدم المعرفة ، والله محيط بكل شيء ، حتى بما يموج في الضمائر وما تكنّه السرائر. أو أنّه يكون نتيجة للعجز والاحتياج ، وهذه صفات هي أبعد ما تكون عن ذات الله جلّ جلاله.

إنّ هذا التعبير يحمل في مؤدّاه دليلا كبيرا على توحيد المعبود والعبادة ، لأنّ من يكون له حق القضاء في النهاية يستحق العبادة حتما أمّا الأصنام التي لا تنفع شيئا في هذا العالم ، ولا تكون في القيامة مرجعا للحكم والقضاء ، فكيف تستحق العبادة.

ومن الضروري أن نشير أيضا إلى أنّ للحكم والقضاء بالحقّ معاني واسعة ، إذ هي تشمل عالم التكوين وعالم التشريع ، حيث ، وردت كلمة «قضى» في الآيات القرآنية لتشمل المعنيين ، ففي مكان نقرأ قوله تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) (١) حيث تنطوي الآية على القضاء التشريعي. وفي آية اخرى نقرأ قوله تعالى :( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٢) .

وفي الختام وللتأكيد على المطالب المذكورة في الآيات السابقة تضيف الآية (إن الله هو السميع البصير).

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٢٣.

(٢) آل عمران ، الآية ٤٧.

٢٣٢

فهو تعالى سميع وبصير بمعنى الكلمة ، أي إنّ كلّ المسموعات والمبصرات حاضرة عنده ، وهذا تأكيد على إحاطته وعلمه بكل شيء ، وقضاوته بالحق ، إذ ما لم يكن الشخص سميعا وبصيرا مطلقا فلا يستطيع أن يقضي بالحق ،

* * *

٢٣٣

الآيتان

( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) )

التّفسير

اعتبروا بعاقبة أسلافكم الظالمين :

إنّ أسلوب القرآن الكريم في كثير من الآيات أنّه بعد أن يتعرض لكليات القضايا الحساسة والمهمّة يمزجها ببعض المسائل الجزئية والمحسوسة ويأخذ بيد الإنسان ليريه الحوادث الماضية والحالية. لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن أحوال الأمم الظالمة السابقة ومنهم فرعون والفراعنة وما حلّ بهم من جزاء أليم ، وتدعوا الناس للاعتبار بمصير أولئك ، بعد ما كانت الآيات السابقة قد حدّثتنا عن يوم القيامة وصفاته وطبيعة الحساب الدقيق الذي ينطوي عليه.

يقول تعالى :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا

٢٣٤

مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

إنّ الذي تحكيه الآيات وتدعونا للاعتبار به ليس تأريخا مدونا نستطيع أن نشكّك في طبيعة الوثائق والنصوص المكوّنة له ، وإنّما هو تأريخ حي ينطق عنه نفسه ، وينبض بالعبرة والعظمة ، فهذه قصور الظالمين الخربة ، وما تركوه ، من جنات وعيون ، وهذه مدن الأشقياء التي نزل بساحتها العذاب والانتقام الإلهي ، وها هي عظامهم النخرة التي يطويها التراب ، والقصور المدفونة تحت الأرض ها هي كلّها تحكي عظمة الدرس ، وعظيم العبرة ، خصوصا وأنّ القرآن يزيدنا معرفة بهؤلاء فيقول عنهم :( كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ) .

كانوا يملكون السلطات القوية ، والجيوش العظيمة ، والمدنية الباهرة التي لا يمكن مقايستها بحياة مشركي مكّة.

إنّ تعبير( أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) يكشف عن قوتهم السياسية والعسكرية ، وعن قوته الاقتصادية والعلمية أيضا.

أمّا التعبير في قوله تعالى :( آثاراً فِي الْأَرْضِ ) فلعله إشارة إلى تقدمهم الزراعي العظيم ، كما ورد في الآية (٩) من سورة «الروم» في قوله تعالى :( أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها ) .

وقد يكون التعبير القرآني إشارة إلى البناء المحكم العظيم للأمم السابقة ، ممّا قاموا به في أعماق الجبال وبين السهول ، كما يصف القرآن ذلك في حال قوم «عاد» :( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) (١) .

ولكن عاقبة هؤلاء القوم ، بكل ما انطوت عليه حياتهم من مظاهر قوّة وحياة ونماء ، هي كما يقول تعالى :( فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ) .

فلم تنفعهم كثرتهم ولم تمنعهم أموالهم وقدرتهم وشوكتهم من العذاب الإلهي

__________________

(١) الشعراء ، الآية ١٢٨ ـ ١٢٩.

٢٣٥

عند ما نزل بساحتهم.

لقد وردت كلمة «أخذ» مرارا في القرآن الكريم بمعنى العقاب ، وهي إشارة إلى «أخذ» القوم أو الجماعة قبل أن ينزل بها العقاب ، تماما كما يقبض أوّلا على الشخص المجرم ، ثمّ يتمّ عقابه.

الآية التي بعدها فيها تفصيل لما قيل سابقا بإيجاز ، بقوله تعالى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا ) . فلم يكن الأمر أنّهم كانوا غافلين ولم يعرفوا الأمر ، ولم يكن كفرهم وارتكابهم الذنوب بسبب عدم إتمام الحجّة عليهم ، فلقد كانت تأتيهم رسلهم تترا ، كما يستفاد من قوله تعالى :( كانَتْ تَأْتِيهِمْ ) إلّا أنّهم لم يخضعوا للأوامر الإلهية ، كانوا يحطمون مصابيح الهداية ، ويديرون ظهورهم للرسل ، وكانوا ـ أحيانا ـ يقتلونهم!

وحينئذ :( فَأَخَذَهُمُ اللهُ ) وعاقبتهم أشدّ العقاب ـ( إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ) . إذ هو في مواطن الرأفة أرحم الراحمين وفي مواضع الغضب أشد المعاقبين.

* * *

٢٣٦

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) )

التّفسير

ذروني أقتل موسى!!

بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى العاقبة الأليمة للأقوام السابقة ، فقد شرعت الآيات التي بين أيدينا بشرح واحدة من هذه الحوادث ، من خلال قصة موسى وفرعون ، وهامان وقارون.

قد يبدو للوهلة الأولى أنّ قصة موسىعليه‌السلام مكررة في أكثر من سورة من سور

٢٣٧

القرآن الكريم ، ولكن التأمّل في هذه الموارد يظهر خطأ هذا التصوّر ، إذ يتبيّن أن القرآن يتطرف الى ذكر القصة في كلّ مرّة من زاوية معينة ، وفي هذه السورة يتعرض القرآن للقصة من زاوية دور «مؤمن آل فرعون» فيها. والباقي هو بمثابة أرضية ممهّدة لحكاية هذا الدور.

يقول تعالى( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

أرسله تعالى :( إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

لقد ذكر المفسرون عدّة تفاسير في الفرق بين «الآيات» و «السلطان المبين» فالبعض اعتبر «الآيات» الأدلة الواضحة ، بينما «السلطان المبين» هي المعجزات.

والبعض الآخر اعتبر «الآيات» آيات التوراة ، بينما «السلطان المبين» المعجزات.

واحتمل البعض الثّالث أنّ «الآيات» تشمل كلّ معاجز موسىعليه‌السلام ، أمّا «السلطان المبين» فهو المعاجز الكبيرة كالعصا واليد البيضاء ، التي تسببت في غلبته الواضحة على فرعون.

ومنهم من اعتبر «الآيات» المعجزات ، بينما فسّر «السلطان المبين» بالسلطة القاهرة والنفوذ الإلهي لموسىعليه‌السلام والذي كان سببا في عدم قتله وعدم فشل دعوته.

لكن الملاحظ أنّ هذه الآراء بمجموعها لا تقوم على أدلة قوية واضحة ، ولكن نستفيد من الآيات القرآنية الأخرى أنّ «السلطان المبين» يعني ـ في العادة ـ الدليل الواضح القوي الذي يؤدي إلى السلطة الواضحة ، كما نرى ذلك واضحا في الآية (٢١) من سورة «النمل» أثناء الحديث عن قصة سليمانعليه‌السلام والهدهد حيث يقول تعالى على لسان سليمان :( وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ ، لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) فالسلطان المبين هنا هو الدليل الواضح للغيبة.

٢٣٨

وفي الآية (١٥) من سورة الكهف قوله تعالى :( لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) .

أمّا «الآيات» فقد وردت في القرآن مرارا بمعنى المعاجز.

وبناء على هذا فإنّ «آيات» في الآية التي نحن بصددها تشير إلى «معجزات موسى» بينما يشير «سلطان مبين» إلى منطق موسىعليه‌السلام القوي وأدلته القاطعة في مقابل الفراعنة.

إنّ موسىعليه‌السلام كان يزاوج بين منطق العقل ، وبين الأعمال الإعجازية التي تعتبر علامة كافية على ارتباطه بعالم الغيب وبالله تعالى ، ولكن في المقابل لم يكن للفراعنة من منطق سوى اتهامه بالسحر أو الكذب. لقد اتهموه بالسحر في مقابل الآيات والمعجزات التي أظهرها ، وكذّبوه مقابل منطقه واستدلاله العقلاني على الأمور. وهذا ما يؤيد الرأي الذي اخترناه في تفسير «آيات» و «سلطان مبين».

وبالنسبة للطواغيت والفراعنة لا يملكون أصلا سوى منطق الاتهام ، وأسلوب إطلاق الشبهات على رجال الحق ودعاته.

والذي يلفت النظر في الآية الكريمة إشارتها إلى ثلاثة أسماء ، كلّ واحد منها يرمز لشيء معين في سياق الحالة السائدة آنذاك ، والتي يمكن أن تجد مماثلاتها في أي عصر.

«فرعون» نموذج للطغاة والعصاة وحكّام الظلم والجور.

«هامان» رمز للشيطنة والخطط الشيطانية.

«قارون» نموذج للأثرياء البغاة ، والمستغلين الذين لا يهمهم أي شيء في سبيل الحفاظ على ثرواتهم وزيادتها.

وبذلك كانت دعوة موسىعليه‌السلام تستهدف القضاء على الحاكم الظالم ، والمخططات الشيطانية لرموز السياسة في حاشية السلطان الظالم ، وبتر تجاوزات الأثرياء المستكبرين ، وبناء مجتمع جديد يقوم على قواعد العدالة الكاملة في

٢٣٩

المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية. ولكن من وقعت مصالحه اللامشروعة في خطر! قصدوا لمقاومة هذه الدعوة الإلهية.

الآية التي بعدها تتعرض إلى بعض مخططات هؤلاء الظلمة في مقابل دعوة النّبي موسىعليه‌السلام :( فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ ) .

وما نستفيده من الآية هو أنّ قضية قتل الأبناء والإبقاء على النساء فقط لم يقتصر ـ كأسلوب طاغوتي ـ على الفترة التي سبقت ولادة موسىعليه‌السلام فحسب ، وإنّما تمّ تكرار هذه الممارسة أثناء نبوة موسىعليه‌السلام ، فالآية (١٢٩) من سورة الأعراف تؤيد هذا الرأي ، حيث تحكي على لسان بني إسرائيل قولهم لموسىعليه‌السلام :( أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ) .

لقد صدر هذا القول عن بني إسرائيل بعد أن قام فرعون بقتل أبناء المؤمنين منهم بدعوة موسىعليه‌السلام .

وفي كلّ الأحوال ، يعبّر هذا الأسلوب عن واحدة من الممارسات والخطط المشؤومة الدائمة للقدرات الشيطانية الظالمة التي تستهدف إبادة وتعطيل الطاقات الفعّالة ، وترك غير الفاعلين للإفادة منهم في خدمة النظام.

لقد كان «بنور إسرائيل» قبل موسىعليه‌السلام عبيدا للفراعنة ، لذلك لم يكن من العجيب أن تبادر سلطات فرعون بعد بعثة موسىعليه‌السلام وشيوع دعوته إلى اعتماد الخطة المعادية في قتل الأبناء واستحياء النساء ، بهدف الانتقام والإبادة الشديدة لبني إسرائيل كي تتعطل فيهم عوامل الصمود والمقاومة.

ولكن ما هي نتيجة كلّ هذا الكيد؟

القرآن يجيب :( وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) .

أعمالهم سهام تطلق في ظلام الجهل والضلال فلا تصيب سوى الحجارة! لقد قضى الله تعالى بمشيئته أن ينتصر الحق وأهله ، وأن يزهق الباطل وأنصاره.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607