الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182074 / تحميل: 6231
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الآيتان

( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) )

التّفسير

أريد أن أطلع إلى إليه موسى!!

بالرغم من النجاح الذي أحرزه مؤمن آل فرعون في أثناء عزم فرعون عن قتل الكليم ،عليه‌السلام ، إلّا أنّه لم يستطع أن يثنيه عن غروره وتكبره وتعاليه إزاء الحق ، لأنّ فرعون لم يكن ليملك مثل هذا الاستعداد أو اللياقة الكافية للهداية ، لذلك نراه يواصل السير في نهجه الشرير ، إذ يأمر وزيره هامان ببناء برج للصعود إلى السماء (!!) كي يجمع المعلومات عن إله موسى ، يقول تعالى في وصف هذا الموقف :( وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ) . أي لعلي أحصل على وسائل وتجهيزات توصلني الى السماوات.

( أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً ) .

٢٦١

ولكن ماذا كانت النتيجة؟!( كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ ) .

«الصرح» في الأصل تعني الوضوح ، و «التصريح» بمعنى التوضيح ، ثمّ عمّم معنى الكلمة على الأبنية المرتفعة والقصور الجميلة العالية ، وذلك لأنّها واضحة ومميّزة بشكل كامل ، وقد ذكر هذا المعنى العديد من المفسّرين واللغويين.

«تباب» تعني الخسارة والهلاك.

إنّ أول ما يطالعنا هنا هو السؤال عن الهدف الذي كان فرعون يرغب بتحقيقه من خلال عمله هذا.

هل كان فرعون بهذا المقدار من الغباء والحماقة والسذاجة بحيث يعتقد أن إله موسى موجود فعلا في مكان ما من السماء؟ وإذا كان موجودا في السماء ، فهل يستطيع الوصول إليه بواسطة إقامة بناء مرتفع يعتبر ارتفاعه تافها إزاء جبال الكرة الأرضية؟

إنّ هذا الاحتمال ضعيف للغاية ، ذلك لأنّ فرعون بالرغم من غروره وتكبره ، فقد كان يمتاز بالذكاء والقدرة السياسية التي أهّلته للسيطرة على شعب كبير لسنين مديدة من خلال أساليب القهر والقوة والخداع.

لذلك كلّه نرى الموقف يدعونا إلى تحليل هذا التصرف الفرعوني لمعرفة دواعيه وأهدافه الشيطانية.

فمن خلال عملية التأمّل والتمحيص ، يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت تكمن وراء هذا التصرّف والأهداف هذه هي :

أولا : أراد فرعون أن يختلق وضعا يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف أذهانهم عن قضية نبوة موسىعليه‌السلام وثورة بني إسرائيل. وقضية بناء مثل هذا الصرح المرتفع يمكن أن تحوز على اهتمام الناس ، وتهيمن على اهتماماتهم الفكرية ، وبالتالي إلى صرفهم عن القضية الأساسية.

٢٦٢

وفي هذا الإطار يلاحظ بعض المفسّرين أن فرعون خصص لبناء صرحه مساحة واسعة من الأراضي ، ووظّف في إقامته خمسين ألفا من العمال والبنائين المهرة ، بالإضافة إلى من انشغل بتهيئة وسائل العمل والتمهيد لتنفيذ المشروع ، وكلما كان البناء يرتفع أكثر كلّما ازداد تأثيره في الناس ، وأخذ يجلب إليه الاهتمام والأنظار أكثر ، إذ أصبح الصرح حديث المجالس ، والخبر الأوّل الذي يتناقله الناس ، وفي مقابل ذلك يتناسون قضية انتصار موسىعليه‌السلام على السحرة ـ ولو مؤقتا ـ خصوصا مع الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الاهتزاز العنيف الذي ألحق بجهاز فرعون وأساط الناس.

ثانيا : استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطّاع من الناس ، وعلى الأخص العاطلين منهم ، لكي يجد هؤلاء في هذا الشغل عزاء ـ ولو مؤقتا ـ عن مظالم فرعون وينسون جرائمه وظلمه. ومن ناحية ثانية فإنّ اشتغال مثل هذا العدد الكثير يؤدي إلى ارتباطهم بخزانة فرعون وأمواله ، وبالتالي ارتباطهم بنظامه وسياساته!

ثالثا : لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح ، أن يصعد إلى أعلى نقطة فيه ، ويرمق السماء ببصره ، أو يرمي سهما نحو السماء ، ويرجع الى الناس فيقول لهم : لقد انتهى كلّ شيء بالنسبة لإله موسى. والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة بال!!

أما بالنسبة إلى فرعون نفسه ، فقد كان يعلم أنّه حتى لو ارتقى الجبال الشامخات التي تتطاول في علوها على صرحه ، فإنّه سوف لن يشاهد أي شيء آخر يفترق عمّا يشاهده وهو يقف على الأرض المستوية يتطلع نحو السماء!

والطريف في الأمر هنا أنّ فرعون بعد قوله :( فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ) رجع خطوة إلى الوراء فنزل عن يقينه إلى الشك ، حيث قال بعد ذلك :( وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً ) إذ استخدم تعبير «أظن»!

٢٦٣

والجدير بالإشارة هنا أنّ القرآن الكريم من خلال قوله تعالى :( كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ ) ذكر ثلاث قضايا ذات محتوى كبير بجمل قصيرة ، حيث قال أولا : إن السبب الرئيسي في انحراف فرعون عن جادة الصواب يعود إلى تزيين عمله القبيح في نظره بسبب غروره وتكبره.

ثم تناول بعد ذلك نتيجة ذلك متمثلة بالضلال عن طريق الحق والهدى والنور.

وفي الجملة الثّالثة لخصت الآية مال مخططات فرعون ، هذا المآل الذي تمثل بالفشل الذريع والتباب والخسران.

طبعا ، يمكن للخطط السياسة والمواقف المضلّلة أن تخدع الناس شطرا من الزمان ، وتؤثر فيهم لفترة من الوقت ، إلّا أنّها تنتهي بالفشل على المدى البعيد.

فقد ورد في بعض الرّوايات أنّ «هامان» قد زاد في ارتفاع الصرح الفرعوني إلى الدرجة التي باتت الرياح الشديدة مانعا عن الاستمرار بالعمل وعندها اعتذر هامان لفرعون عن الاستمرار بالبناء.

ولكن لم تمض فترة وجيزة من الزمن حتى حطمت الرياح الشديدة ذلك البناء(١) .

واتضح أن قوة فرعون متعلقة في ثباتها بالرياح.

* * *

__________________

(١) يمكن ملاحظة ذلك في بحار الأنوار ، المجلد ١٣ ، صفحة ١٢٥ ، نقلا عن تفسير علي بن إبراهيم.

٢٦٤

الآيات

( وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) )

التّفسير

اتبعون أهدكم سبيل الرشاد :

أشرنا آنفا إلى أنّ مؤمن آل فرعون أوضح كلامه في مجموعة من المقاطع ، وفي هذه المجموعة من الآيات الكريمة نقف أولا على المقطع الرابع ، بعد أن أشرنا في الآيات السابقة إلى ثلاثة منها.

إنّ هذا المقطع من كلام مؤمن آل فرعون ينصب في مضمونه على إلفات نظر القوم إلى الحياة الدنيوية الزائلة ، وقضية المعاد والحشر والنشر ، إذ أنّ تركيز هذه القضايا في حياة الناس له تأثير جذري في تربيتهم.

يقول تعالى :( وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ) .

٢٦٥

لقد قرأنا سابقا أنّ فرعون كان يقول : إنّ ما أقوله هو طريق الرشد والصلاح ، إلّا أنّ مؤمن آل فرعون أبطل هذا الادّعاء الفارغ ، وأفهم الناس زوره ، وحذرّهم أن يقعوا فريسة هذا الادّعاء ، إذ أنّ خططه ستفشل وسيصاب بسوء العاقبة ، فالطريق هو ما أقوله ، إنّه طريق التقوى وعبادة الله.

ثم تضيف الآية :( يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ ) .

يريد أن يقول لهم : لنفرض أنّنا انتصرنا ببذل الحيل والتوسّل بوسائل الخداع والمكر ، وتركنا الحق وراء ظهورنا ، وارتكبنا الظلم وتورطنا بدماء الأبرياء ، ترى ما مقدار عمرنا في هذا العالم؟ إنّ هذه الأيّام المعدودة ستنتهي وسنقع في قبضة الموت الذي يجرنا من القصور الفخمة إلى تحت التراب وتكون حياتنا في مكان آخر.

إنّ القضية ليست فناء هذه الدنيا وبقاء الآخرة وحسب ، بل الأهم من ذلك هي قضية الحساب والجزاء ، حيث يقول تعالى :( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) .

إنّ مؤمن آل فرعون ـ بكلامه هذا ـ آثار أولا قضية عدالة الله تبارك وتعالى ، حيث يقاضي الإنسان بما اكتسبت يداه خيرا أو شرّا.

ومن جهة ثانية أشار في كلامه إلى الثواب والفضل الالهي لذوي العمل الصالح ، إنّه الجزاء الذي لا يخضع لموازين الحساب الكمية ، إذ يهب الله تبارك وتعالى للمؤمنين بغير حساب ، ممّا لم تره عين أو تسمعه أذن ولا يخطر على فكر إنسان.

ومن جهة ثالثة أشار للتلازم القائم بين الإيمان والعمل الصالح.

ورابعة يشير أيضا إلى مساواة الرجل والمرأة في محضر الله تبارك وتعالى ،

٢٦٦

وفي القيم الإنسانية.

لقد استخلص مؤمن آل فرعون من خلال طرحه الآنف الذكر في أنّ الحياة الدنيا وإن كانت متاعا لا يغني شيئا عن الحياة الأخرى ، إلّا أنّه يمكن أن يكون وسيلة للجزاء اللامتناهي هي والعطايا التي تصدر عن المطلق جلّ وعلا. إذن هل هناك تجارة أربح من هذا؟

كما ينبغي أن نقول : إنّ عبارة «مثلها» تشير إلى أنّ العقاب في العالم الآخر يشبه نفس العمل الذي قام به الإنسان في هذه الدنيا ، متشابهة كاملة بكل ما للكلمة من دلالة ومعنى.

أمّا تعبير «غير حساب» فيمكن أن يكون إشارة إلى حساب العطايا يختص بالاشخاص من ذوي المواهب المحدودة ، أمّا المطلق (جلّ وعلا) الذي لا تنقص خزائنه مهما بذل للآخرين (لأن كلّ ما يؤخذ من اللانهاية يبقى بلا نهاية) لذلك فهو عطاء لا يحتاج إلى حساب.

وبقيت مسألة بحاجة إلى جواب ، وهي : هل ثمّة تعارض بين هذه الآية وما جاء في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام ، حيث قوله تعالى :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) .

في الجواب على هذا التساؤل نقول : إنّ «عشر أمثالها» إشارة للحد الأدنى من العطاء الإلهي ، إذ هناك الجزاء الذي يصل إلى (٧٠٠) مرّة وأكثر ، ثمّ قد يصل العطاء الإلهي إلى مستوى الجزاء بـ «غير حساب» وهو ممّا لا يعلم حدّه ولا يمكن تصوره.

* * *

٢٦٧

الآيات

( وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) )

التّفسير

الكلام الأخير :

في خامس ـ وآخر ـ مرحلة يزيل مؤمن آل فرعون الحجب والأستار عن هويته ، إذ لم يستطع التكتم ممّا فعل ، فقد قال كلّ ما هو ضروري ، أمّا القوم من ملأ

٢٦٨

فرعون ، فكان لهم ـ كما سنرى ذلك ـ قرارهم الخطير بشأنه!

يفهم من خلال القرائن أنّ أولئك المعاندين والمغرورين لم يسكتوا حيال كلام هذا الرجل الشجاع المؤمن ، وإنّما قاموا بطرح «مزايا» الشرك في مقابل كلامه ، ودعوه كذلك إلى عبادة الأصنام.

لذا فقد صرخ قائلا :( وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) .

إنني أطلب سعادتكم وأنتم تطلبون شقائي ، إنني أهديكم إلى الطريق الواضح الهادي وأنتم تدعونني إلى الانحراف والضلال!

نعم ، إنّكم :( تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ) .

نستفيد من الآيات القرآنية المختلفة ، ومن تأريخ مصر ، أنّ هؤلاء القوم لم يقتصروا في عبادتهم وشركهم وضلالهم على الفراعنة وحسب ، وإنّما كانت لهم أصنام يعبدونها من دون الواحد القهار ، كما نستفيد ذلك بشكل مباشر من قوله تعالى في الآية (١٢٧) من سورة «الأعراف» حيث قوله تعالى :( أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَ، آلِهَتَكَ ) والآية تحكي خطاب أصحاب فرعون والملأ من قومه لفرعون.

وقد تكرّر نفس المضمون على لسان يوسفعليه‌السلام ، إذ قال لرفاقه في سجن الفراعنة :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (١) .

لقد ذكّرهم مؤمن آل فرعون من خلال مقارنة واضحة أنّ دعوتهم إلى الشرك لا تستند على دليل صحيح ، والشرك طريق وعر مظلم محفوف بالمخاطر وسوء العاقبة والمصير ، بينما دعوته (مؤمن آل فرعون) دعوة للهدى والرشاد وسلوك طريق الله العزيز الغفّار.

إنّ عبارة (العزيز) و (الغفار) تشير من جانب إلى مبدأ (الخوف والرجاء) ومن

__________________

(١) يوسف ، الآية ٣٩.

٢٦٩

جانب ثان تشير إلى إلغاء ألوهية الأصنام والفراعنة ، حيث لا يملكون العزة ولا العفو.

ينتقل الخطاب القرآني ـ على لسان مؤمن آل فرعون ـ إلى قوله تعالى :( لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ ) (١) فهذه الأصنام لم ترسل الرسل إلى الناس ليدعوهم إليهم ، وهي لا تملك في الآخرة الحاكمية على أي شيء.

إنّ هذه الموجودات لا تملك الحس والشعور ، إنّها أصنام لا تتكلم ولا تضر ولا تنفع ، وإنّ عليكم أن تعلموا :( وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ ) .

فهو سبحانه وتعالى الذي أرسل رسله إلى النسا لأجل هدايتهم ، وهو الذي يثيبهم ويعاقبهم على أعمالهم.

ويجب أن تعلموا أيضا :( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .

وهكذا كشف مؤمن آل فرعون ما كان يخفي من إيمانه ، وبذلك فقد انكشف هنا خطّه الإيماني التوحيدي ، وانفصل علينا عن خط الشرك الملوث الذي يصبغ بآثامه وأوحاله الحكّام الفراعنة ومن يلف حولهم ، لقد رفض الرجل دعوتهم ووقف لوحده إزاء باطلهم وانحرافهم.

في آخر كلامه ـ وبتهديد ذي مغزى ـ يقوله لهم :( فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ) .

إنّ ما قلته لكم ستذكرونه في الدنيا والآخرة ، وستعلمون صدقي عند ما تصيبكم المصائب ، وينزل بساحتكم الغضب الإلهي ، لكن سيكون ذلك كلّه بعد فوات الأوان ، فإن كان في الآخرة فلا طريق الرجوع ، وإن كان في الدنيا فهو لا يتم إلّا حين يحل بكم العذاب الإلهي ، وعندها ستغلق جميع أبواب التوبة.

__________________

(١) قلنا سابقا : إنّ «لا جرم» مركبة من (لا) و (جرم) على وزن (حرم) وهي في الأصل تعني القطع واقتطاف الثمر ، وهي ككلمة مركبة تعني : لا يستطيع أي شيء أن يقطع هذا العمل أو يمنعه. لذلك تستخدم بشكل عام بمعنى (حتما) وتأتي أحيانا بمعنى القسم.

٢٧٠

ثم تضيف الآية على لسان الرجل المؤمن :( وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) .

لهذا كلّه لا أخشى تهديداتكم ، ولا أرهب كثرتكم وقوتكم ، ولا تخيفني وحدتي بيّن أيديكم ، لأني وضعت نفسي بين يدي المطلق ذي القدرة اللامتناهية ، والمحيط علمه بكل شيء ، وبأحوال عباده أينما كانوا وحلّوا.

إنّ هذا التعبير يستبطن في طياته دعاء مهذبا انطلق من الرجل المؤمن الذي وقع أسيرا في قبضة هؤلاء الأشقياء الظالمين. لذلك طلب بشكل مؤدب من خالقه (جلّ وعلا) أن يحميه بحمايته وينقذه ممّا هو فيه.

الله تبارك وتعالى لم يترك عبده المؤمن المجاهد وحيدا وإنّما :( فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ) .

إنّ التعبير بـ( سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ) يفيد أنّهم وضعوا خططا مختلفة ضدّه ترى ما هي هذه الخطط؟

في الواقع ، إنّ القرآن لم يذكرها بل تركها مجهولة ، لكنّها ـ حتما ـ لا تخرج عن ألوان العقاب والتعذيب ينزلونه بالرجل قبل أن يحل به القتل والإعدام ، إلّا أنّ اللطف الإلهي أبطل مفعولها جميعا وأنجاه منهم.

تفيد بعض التفاسير أنّ مؤمن آل فرعون انتهز فرصة مناسبة فالتحق بموسىعليه‌السلام ، وعبّر البحر مع بني إسرائيل. وقيل أيضا : أنّه هرب إلى الجبل عند ما صدر عليه قرار الموت ، وبقي هناك مختفيا عن الأنظار(١) .

ومن الطبيعي أن لا يكون هناك تعارض بين الرأيين ، إذ يمكن أن يكون قد هرب إلى الجبل أولا ، ثمّ التحق ببني إسرائيل.

وقد يكون من مؤامراتهم عليه ، محاولتهم فرض عبادة الأصنام عليه وإخراجه من خط التوحيد ، إلّا أن الله تبارك وتعالى أنجاه من مكرهم ورسخ قدمه

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان في نهاية الحديث عن الآية مورد البحث.

٢٧١

في طريق الإيمان والهدى.

أمّا القوم الظالمون فقد كان مصيرهم ما يرسمه لنا القرآن الكريم :( وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ) (١) .

إنّ العذاب والعقاب الإلهي أليم بمجمله ، إلّا أنّ تعبير «سوء العذاب» يظهر أنّ الله تبارك وتعالى انتخب لهم عذابا أشد إيلاما من غيره ، وهو ما تشير إليه الآية التي بعدها ، حيث قوله تعالى :( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ) (٢) ثم :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) .

وهنا نلفت النظر إلى الملاحظات الثلاث الآتية :

أولا : استخدام تعبير (آل فرعون) إشارة إلى العائلة والأنصار والأصحاب الضالين ، وعند ما يكون هذا هو مصير الآل ، ترى ماذا يكون مصير نفس فرعون؟

ثانيا : تقول الآية : إنهم يعرضون على النّار صباحا ومساء ، ثمّ تقول : في يوم القيامة يكون العذاب أشد ما يمكن. وهذا دليل على أنّ العذاب الأوّل يختص بعالم البرزخ ، وهو ممّا يلي موت الإنسان ومغادرة روحه جسده ، ويقع قبل يوم القيامة إنّ العرض على نار جهنّم يهز الإنسان ويجعله يرتعد خوفا وهلعا.

ثالثا : إن تعبير بـ (الغدو) و (العشي) قد تكون فيه إشارة إلى استمرار العذاب.

أو قد يفيد انقطاع العذاب البرزخي ليقتصر على (الغدو) و (العشي) أي الصبح والمساء ، وهو الوقت الذي يقترن في حياة الفراعنة وأصحابهم ومع أوقات لهوهم واستعراضهم لقوتهم وجبروتهم في حياتهم الدنيا.

وينبغي أن لا نتعجب هنا من كلمتي (الغدو) و (العشي) فنسأل : وهل في البرزخ ثمّة صباح ومساء؟ لأنّ الصبح والليل موجودان حتى في يوم القيامة ، كما

__________________

(١) (حاق) بمعنى أصاب ونزل ، ولكن احتملوا أيضا أن يكون أصلها (حق) فتغيرت إحدى القافين فيها إلى ألف فأصبحت (حاق) [يلاحظ ذلك في مفردات الراغب كلمة حاق]. ضمنا فإنّ (سوء العذاب) من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف ، إذ كانت في الأصل (العذاب السوء).

(٢) «النّار» بدل عن (سوء العذاب).

٢٧٢

نقرأ في قوله تعالى :( وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) (١) .

وهذا الأمر لا يتعارض مع دوام نعم الجنّة واستمرارها ، كما جاء في الآية (٣٥) من سورة (الرعد) حيث قوله تعالى :( أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ) حيث يمكن أن تشمل الألطاف الإلهية أهل الجنّة في خصوص هذين الوقتين ، بينما تكون نعم الجنّة دائمة باقية.

* * *

بحوث

أوّلا : مؤمن آل فرعون والدرس العظيم في مواجهة الطواغيت

إنّ القليل من الناس يؤمنون بالأديان الإلهية والمذاهب السماوية في بداية الأمر ويقومون بتحدي الجبابرة والطواغيت ، وإذا توجست هذا القلّة المخلصة خوفا من أعدائها ، أو أنّها شكت بأنّ كثرة دليل على حقانيتهم ، فلن يكون بمقدور الأديان الإلهية أن تمتد وتنتشر في الدنيا.

إنّ الأساس الذي يتحكم في منطلق هذه البرامج الهادية والأطروحات الوضّاءة ، هو

قول أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : «أيّها الناس ، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله»(٢) .

لقد كان مؤمن آل فرعون نموذجا لهذه المدرسة ، وكان من الأوائل في هذا الطريق ، وأثبت أنّ الإنسان المؤمن يستطيع بعزمه وإرادته القوية ـ النابعة من إيمانه بالله تعالى ـ التأثير حتى في إرادة الفراعنة الجبابرة ؛ بل وأن يوفّر سبل النجاة لنبي كبير من أنبياء أولي العزم.

إنّ تأريخ حياة هذا الرجل الشجاع الذكي ، يثبت ضرورة أن تكون خطوات

__________________

(١) مريم ـ ٦٢.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ٢٠١.

٢٧٣

أهل الدعوة والحق على غاية قصوى من الدقة والحذر ، إذ يجب أحيانا التكتم على الإيمان وإخفاء القناعات الحقة ، كما يجب في أحيان اخرى الجهر بدعوة الحق وإظهار الإيمان.

إنّ التقية ليست سوى إخفاء اعتقاد الإنسان والتكتم عليه في فترة معينة في سبيل الأهداف المقدّسة.

وكما يعتبر التسلّح بالسلاح المادي الظاهري من ضرورات المنعة وأسباب دحر العدو ، كذلك فإنّ المنطق القوي والحجّة البالغة هي سلاح ضروري قد يعادل في تأثيره السلاح المادي عدة مرّات. لذا فإنّ العمل الذي قام به (مؤمن آل فرعون) بواسطة منطقة وقوة حجته وحكمة تصرفه لم يكن ليعادله أي سلاح آخر.

ثم إنّ قصة هذا الرجل المؤمن تظهر أنّ الله جلّ وعلا لا يترك عباده المؤمنين وحيدين ، بل يحميهم بلطفه عن الأخطار.

وأخيرا فإن من الضروري أن نشير إلى حياة مؤمن آل فرعون انتهت كما في بعض الروايات إلى الاستشهاد ، وأنّ ما يقوله القرآن من حفظ الله له ووقايته له يمكن تأويله بإنقاذه من براثن خططهم الشيطانية في إغوائه وجرّه إلى ساحة الضلال والشرك ، وأنّ الله أنجاه من سوء المنقلب وانحراف العقيدة(١) .

ثانيا : تفويض الأمور إلى الله

فيما يخص التفويض إلى الله تبارك وتعالى يكفي أن نفتتح الحديث بقول لأمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، جاء فيه : «الإيمان له أربعة أركان : التوكل على الله ، وتفويض الأمر إلى اللهعزوجل والرضى بقضاء الله ، والتسليم لأمر

__________________

(١) جاء في كتاب (محاسن البرقي) : عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير قوله تعالى :( فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ) قولهعليه‌السلام : «أما لقد سطوا عليه وقتلوه ولكن أتدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه» نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٢١.

٢٧٤

الله»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الإمام الصادق أنّهعليه‌السلام قال : «المفوض أمره إلى الله في راحة الأبد ، والعيش الدائم الرغد ، والمفوض حقّا هو العالي عن كلّ همه دون الله»(٢) .

«التفويض» كما يقول الراغب في مفرداته ، يعني «التوكل ، لذا فإنّ تفويض الأمر إلى الله يأتي بمعنى توكيل الأعمال إليه ، وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الجد والجهد ، إذ أنّ هذا السلوك ينطوي على فهم محرّف لمعنى التفويض ، بل عليه أن يبذل كلّ جهده ولا يتخوّف الصعاب التي تواجهه ، أو يترك العمل إذعانا لها ، بل عليه أن يسلّم أمره وعمله إلى الله ، ويستمر في بذل الجهد بعزم راسخ وهمة عالية.

وبالرغم من أنّ «التفويض» يشبه «التوكل» إلى حد كبير ، إلّا أنّه يعتبر مرحلة أفضل منه. لأنّ حقيقة (التوكل) هي أن يعتبر الإنسان الله تبارك وتعالى وكيلا عنه ، لكن التفويض يعني التسليم المطلق لله تعالى. وفي حياتنا العملية نرى أنّ الإنسان الذي يتخذ لنفسه وكيلا يواصل إشرافه على عمله. إلّا أنّه في حالة التفويض لا يبقى أي مجال لإشراف من أي نوع ، بل تترك الأمور إلى من فوّضت إليه.

ثالثا : عالم البرزخ

«البرزخ» ـ كما يدل عليه اسمه ـ هو عالم يتوسط بين عالمنا هذا والعالم الآخر. وفي القرآن الكريم يكثر الحديث عن العالم الآخر ، ولكنّه قليل عن عالم البرزخ. ولهذا السبب هناك هالة من الغموض والإبهام تحيط بالبرزخ ، وبالتالي لا نعرف الكثير من خصائصه وجزئياته ، ولكن عدم معرفة التفاصيل الجزئية لا تؤثر على أصل الاعتقاد بالبرزخ الذي صرّح القرآن بأصل وجوده.

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٦٨ ، صفحة ٣٤١.

(٢) سفينة البحار ، المجلد الثّاني ، صفحة ٣٨٤ ، مادة «فوض».

٢٧٥

إنّ الآيات أعلاه تعتبر من الآيات التي عبّرت بصراحة عن وجود هذا العالم ، حينما قالت : إنّ آل فرعون يعرضون صباحا ومساء على النّار قبل القيامة ، وذلك كنوع من العقاب البرزخي لهم.

من جانب آخر ، فإنّ الآيات التي تتحدث عن حياة الشهداء الخالدة بعد الموت ، والثواب العظيم الذي ينالهم ، تدل هي الأخرى على وجود (البرزخ).

وفي حديث عن رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة ، وإن كان من أهل النّار فمن النّار ، يقال : هذا مقعدك حيث يبعثك الله يوم القيامة»(١) .

أما الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام فيقول عن البرزخ : «ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لأنّ في نار القيامة لا يكون غدو وعشي» ثمّ قال : «إن كانوا يعذبون في النّار غدوا وعشيا ففيما بين ذلك هم من السعداء ، لا ولكن هذا في البرزخ قبل يوم القيامة ، ألم تسمع قولهعزوجل : ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب»(٢) .

الإمامعليه‌السلام لم يقل بعدم وجود الصباح والسماء في القيامة ، بل يقول : إنّ نار جهنّم أبدية خالدة لا تعرف الصباح والمساء. أمّا العقاب الذي له مواقيت في الصباح والسماء فهو عالم البرزخ ، ثمّ يدللعليه‌السلام على الجملة التي بعدها والتي تتحدث عن القيامة ، على أنّها قرينة باختصاص الجملة السابقة بالبرزخ.

لقد تعرضنا إلى عالم البرزخ مفصلا أثناه الحديث عن الآية (١٠٠) من سورة «المؤمنون».

* * *

__________________

(١) ينقل هذه الرواية كلّ من البخاري ومسلم في صحيحيهما (طبقا كما يذكره الطبرسي وصاحب الدر المنثور والقرطبي ، أثناء حديثهم عن الآية المذكورة أعلاه) أما صحيح مسلم فيعقد بابا حول الروايات المتعلقة بالبرزخ ، إذ يمكن مراجعته في المجلد الرابع ، صفحة ٢١٩٩.

(٢) مجمع البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٥٢٦.

٢٧٦

الآيات

( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) )

التّفسير

نقاش الضعفاء والمستكبرين في جهنّم :

لقد لفت مؤمن آل فرعون في نهاية كلامه نظر القوم إلى القيامة والعذاب وجهنم ، لذلك جاءت هذه المجموعة من الآيات الكريمة وهي تقف بشكل رائع دقيق على تحاجج وتخاصم أهل النّار فيما بينهم ، وبالذات تحاجج المستضعفين مع المستكبرين.

يقول تعالى :( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا

٢٧٧

لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ) (١) .

المراد من «الضعفاء» هنا هم أولئك الذين يفتقدون العلم الكافي والاستقلال الفكري ، إذ كان هؤلاء يتبعون زعماء الكفر الذي يطلق عليهم القرآن اسم المستكبرين ، وكانت التبعية مجرّد انقياد أعمى بلا تفكير أو وعي.

ولكن هؤلاء الأتباع يعلمون أنّ العذاب سيشمل زعماءهم ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ، فلما ذا إذن يستغيثون بهم ويلجأون إليهم كي يتحملوا عنهم قسطا من العذاب.

ذهب البعض إلى أنّ ذلك يحصل تبعا لعادتهم في الانقياد إلى زعمائهم في هذه الدنيا ، لذلك تكون استغاثتهم بهم في الآخرة كنوع من الانقياد اللّاإرادي وراء قادتهم.

ولكن الأفضل أن نقول : إن الإستغاثة هناك هي نوع من السخرية والاستهزاء واللوم ، يوم يثبت أنّ كلّ ادعاءات المستكبرين مجرّد تقولات زائفة عارية عن المضمون والحقيقة(٢) .

(وفي الحقيقة فان الإمام أمير المؤمنين ـ يحذر بهذا الكلام أولئك الذين سمعوا وصايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الغدير ـ أو أنّها وصلتهم بطريق صحيح ـ ثمّ اعتذروا بأنّهم نسوها ليتبعوا أناسا آخرين).

إنّ المستكبرين لم يسكتوا على هذا الكلام وذكورا جوابا يدل على ضعفهم الكامل وذلتهم في ذلك الموقف المهول ، إذ يحكي القرآن على لسان قولهم :( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ) .

يريدون أن يقولوا : لو كان بمستطاعنا حل مشاكلكم فالأحرى بنا والأجدر

__________________

(١) يتصور البعض أنّ الضمير في «يتحاجون» يعود إلى آل فرعون ، إلّا أنّ القرائن تفيد أنّ الآية تنطوي على مفهوم عام يشمل جميع الكفّار.

(٢) «تبعا» جمع تابع ، والبعض يحتمل أن تكون مصدرا ، خصوصا وأنّ إطلاق المصدر على الأشخاص الموصوفين بصفة معينة أمر متعارف. والمعنى في هذه الحال هو : إنّنا كنا لكم عين التبعية.

٢٧٨

أن نحل مشاكلنا وما حلّ بنا ، ولكنا لا نستطيع أن نمنع العذاب عن أنفسنا ولا عنكم ، ولا أن نحتمل عنكم جزاء من العقاب!

والملاحظ هنا أنّ الآية (٢١) من سورة «إبراهيم» تتضمن نفس هذا الاقتراح من قبل الضعفاء إزاء المستكبرين ، الذين قالوا جوابا على هذا :( لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) .

والمقصود بالهداية هنا هي الهداية الى طريق الخلاص من العذاب.

وهكذا يظهر أنّ هذين الجوابين لا يتعارضان فيما بينهما ، بل يكمل أحدهما الآخر.

وعند ما تغلق في وجههم السبل ، سبل النجاة والخلاص ، يتوجه الجميع إلى خزنة النّار :( وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ ) (١) .

إنهم يعلمون أنّ العذاب الإلهي لا يرتفع ، لذلك يطلبون أن يتوقف عنهم ولو ليوم واحد كي يرتاحوا قليلا إنّهم قانعون بهذا المقدار!

لكن إجابة الخزنة تأتي منطقية واضحة :( قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ ) ؟

وفي الجواب قالوا :( قالُوا بَلى ) .

فيستطرد الخزنة :( قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) .

إنّكم بأنفسكم اعترفتم بأنّ الأنبياء والرسل جاءوا بالدلائل الواضحة ، ولكنّكم كفرتم بما جاءكم وكذبتم الأنبياء. لذلك لا ينفعكم الدعاء ، لأنّ الله لا يستجيب لدعاء الكافرين.

بعض المفسّرين يرى في تفسير الجملة الاخيرة أنّ المراد هو أنّنا لا نستطيع الدعاء لكم بدون اذن من الله تعالى ، فادعوا أنتم بذلك ، وذلك اشارة الى انغلاق

__________________

(١) «خزنة» جمع خازن ، وتعني الحارس.

٢٧٩

سبل النجاة أمامكم.

صحيح أنّ الكافر يصبح مؤمنا في يوم القيامة ، إلّا أنّ هذا الإيمان لا يقلل من آثار كفره ، لذلك يلازمه لقب الكافر.

لكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أفضل وأكثر قبولا.

* * *

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

تقدم المسلمين في مجال الاقتصاد السياسي وعلم النفس والعلوم الاجتماعية

في هذا الصدد يقول الكاتب المسيحي جورجي زيدان :

« الغريب هو ان الاوروبيين يتصوّرن انفسهم مؤسسوا علم « الاقتصاد السياسي » ، في حين ان الفارابي العالم المسلم الشهير كتب قبل الف سنة كتاب « السياسية المدنية » وبحث في ذلك ، كما ان « ابن خلدون » العالم المسلم الآخر بحث الموضوع أيضاً(1) .

ويذكر «ميلير» : المسلمون هم أول من اخترع علم النفس(2) .

ويقول احد العلماء الاوروبيون : مؤسس العلوم الاجتماعية هو الفيلسوف المسلم الكبير « ابن الجاثب »(3) .

مصطلحات المسلمين وكلماتهم في اوروبا

يقول السيد سديلو(4) :

________________

(1) تاريخ الحضارة الاسلامية.

(2) عظمة المسلمين في اسبانيا.

(3) المصدر نفسه.

(4) Mr. Sedillot

٣٢١

« بما ان المسلمين استطاعوا السيطرة علىٰ البحر المتوسط منذ القرن الثامن الميلادي ، فان اغلب المصطلحات الالفاظ المستخدمة في المجال البحري في اللغتين الفرنسية والايطالية ، مأخوذة عن مفردات عربية بالاساس ، مثل : اميرال(1) وساكادر(2) وفلوت(3) وفرجال وكورفت(4) وكرافل(5) وكذلك بوسورل(6) التي يتصورها الكثير خطأ مأخوذة عن الصينيين في حين ان المسلمين هم الذين جاؤا بها الىٰ اوروبا ، كما ان الجيوش الاوروبية عندما عرفت النظام والمراتب في داخلها فقد تعلمت الرتب والمناصب العسكرية وكذلك الصياح في ساحة القتال من المسلمين كما ان كلمات مثال : البارود والقنبلة والهاون ( نوع من المدفعية ) ، اصلها عربي ، وكذلك العديد من المصطلحات الادارية ، مثل : معون وغابل وتاي وتاريف ودوآن وبازا وغيرها من الكلمات التي دخلت القاموس اللغوي الاوروبي من بغداد وقرطبة.

________________

(1) جنرال في القوة البحرية.

(2) Escadre ( سرب ) ، مجموعة سفن قتال بحرية يقودها شخص واحد.

(3) Flutte آلة موسيقية.

(4) Caracelle

(5) Cravelle

(6) Biussule ( بوصلة ).

٣٢٢

اسباب تقدّم المسلمين ورقيهم

الدكتور : ايها الشيخ ! صحيح أن هؤلاء الأوروبيين الذين يفتخرون علينا اليوم إلى هذا الحدّ كانوا تلامذتنا بالامس ؟! كانوا يستجدوننا العلم للحد الذي اصبحوا يختالون بما كسبوه من علومنا ، ويمتصون دماءنا بهذا الشكل ، نهاية في الوقاحة وعدم الوفاء ؟ ولست أعجب من ذلك ، بل أعجب للسبيل الذي جاء به المسلمون من خلاله كل هذا المجد والعظمة ؟

الشيخ : مجد المسلمين وعظمتهم بالامس كانت في تمسكهم بدينهم واحكام الاسلام ، وهذا الأمر لا يدعوا إلى العجب ، لأن الباري عزّ وجلّ وعد عباده بذلك في القرآن فقال جلّ شأنه :

( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .

سعادة الدكتور ! أن سبب تقدّم المسلمين وتعاليهم هو ما ذكرناه من تمسكهم بالاسلام ، لانه وكما اشرنا في مباحث سابقة ، ليس الاسلام كالمسيحية ، دين رهبانية وعزلة ، أو مجموعة من النصائح الاخلاقية فقط ، فالاسلام دين يدعو ويُرغّب إلى طلب العلم ، ومن الناحية القانونية يمتلك مجموعة متكاملة في جميع شؤون الحياة المادية منها والمعنوية.

اذن ، فأتباع مثل هذا الدين الطبيعي أن تكون نتيجته التكامل على جميع الأصعدة. ولبيان العوامل والاسباب التي ادت إلى تقدم المسلمين وتكاملهم

٣٢٣

بهذا الشكل السريع ، نشير إلى بعضها مما ورد القرآن الكريم ، وبشكل مجمل :

قَسَمُ القرآن :

القسم والايمان التي جاءت في القرآن هي احدى الدوافع التي رغبت المسلمين في الماضي لتلقّي العلوم ، وعادة يكون ما يُقسم به مقدّساً عند الشخص الذي يقسم ، وكلما كان الطرف الذي يقسم جليلاً وعظيماً ، ازدادت قدسية وعظمة ما يُقسم به.

والقسم في القرآن يصدر عن الله عزّ وجلّ ومع ذلك نجده يقسم بالظواهر الطبيعية في العالم ، مثل : الشمس والقمر والسماء والأرض والبحر والليل والنهار والزيتون والقلم و الخ.

أجل هذا القسم القرآني ، هدفه لفت انتباه الانسان إلى عظمة الوجود وظاهره ، والحث على دراسة ذلك والتأمل فيه ، والغريب ! هو أن القرآن يقسم بالقلم في عصر مظلم كانت الجزيرة العربية تعيشه قبل اربعة عشر قرناً ، وليس بالقلم فحسب بل وما يصدر عنه ، قال تعالى :

( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) .

ومثل هذا القسم غير موجود اليوم حتى في أكثر بلدان العالم تقدّماً.

٣٢٤

ظواهر الوجود ومعرفة الله

تعلمون أن الأصل العقائدي الأول في الاسلام هو معرفة الله ، لكن أهم سبيل يعرضه القرآن لمعرفة الله هو التأمل في اسرار الخلق ، وظواهر الوجود. ولمعرفة رب العالمين الحكيم والقادر ، يدعو القرآن الانسان إلى البحث والدراسة في السماوات والارض واسرارهما وللتأمل في خلق الحيوان والنبات والقوانين المعقدة الموجودة في الوجود وكذلك التأمل في الانسان نفسه كمخلوق من قبل الباري عزّ وجلّ.

أجل ففي ذلك العصر الذي لم يكن فيه شيء يذكر عن علم التربة وعلم النبات وعلم الحيوان والفيزيولوجيا والتشريح وعلم الفلك بمفاهيمها العلمية الحديثة.

في ذلك العصر كان القرآن الكريم يدعو البشرية إلى تعلم مثل هذه المسائل ومعرفة حقائق العالم العلمية.

مكانة العلم والعلماء من منظار القرآن

العالم الثالث الذي جعل المسلمون يتجهون نحو العلم والمعرفة العلمية للعالم ، هي التعابير التي طرحها القرآن الكريم عن العلم والعلماء. ففي موارد عديدة عبّر القرآن الكريم عن العلم والمعرفة بالنور ، واعتبر الجهل ظلمة ، قال بأن العلماء هم المبصرون والجهلة هي العمي ، وقد اختصّ القرآن الكريم

٣٢٥

العلماء المتقون بالاجلال والرفعة ، وقد استخدم في ذلك تشابيه جميلة وتعابير ظريفة.

الترغيب والحثّ المثمر

وقد اثمرت بسرعة هذه العوامل الثلاث التي ذكرناه بالاضافة إلى ترغيب وحث القرآن وائمة المسلمين لتعلم العلم ، ولم يمض أكثر من نصف قرن على ظهور الاسلام ونشوء المجتمع الاسلامي ، حتى شهد التاريخ أكبر عملية نهوض معرفية في شتى مجالات المعرفة بين المسلمين ، وكان التقدّم سريعاً للحدّ الذي تمكن من تنشأ مجموعة كبيرة من العلماء البارزين في مختلف المجالات العلمية ومن جميع المناطق التي دخلها الاسلام.

هؤلاء العلماء الذين يعد كل منهم نابغة عصره في مجال تخصصه ، والذين انتشر العلم على ايديهم في العالم.

٣٢٦

ماذا يعني حرمة التشبه بالكفار ؟

اصدقائي الأعزاء !

لا يدفع الاسلام الانسان المؤمن إلى تعلم العلم والمعرفة بجميع فروعها فقط ، بل أنه ألزم المسلمين لتتبع العلم وتعلمه من خلال احكام وأوامر دينية بسيطة في تعابيرها ، لكي يقطع بذلك تبعية المجتمع المسلم إلى غيره من المجتمعات ، وهذه الاحكام كثيرة جداً ، سأكتفي بنقل واحدة منها سمعناها جميعاً ، ولربما ضحكنا منها استهزئنا بها ، واعتبرناها مقولات رجعية ؟ وذلك الحكم ، هو « حرمة التشبّه بالكفار » ومن أجل بيان أفضل للقضية ، وسأقدم لكم هذا الإيضاح :

اصدقائي الأعزاء !

لو ان شعباً غير مسلم ( كافر ) صنع اليوم ـ على سبيل المثال ـ نوع من القبعات سيكون حراماً على المسلمين استعماله ما دام يعتبر وضعه على الرأس تشبّهاً ـ ذلك الشعب الكافر ـ ولكن لو أن مسلماً كان قد اخترع قبعة مشابهة لذلك الطراز ، فان استعامله جائزاً.

وهنا يتّضح أن هذف الاسلام الاساسي من هذا الحكم هو ليس منع المسلمين من استعمال هذا الطراز من القبعات ، بدليل انه كان سيمنعه حتى لو

٣٢٧

كان مخترعه مسلماً ، في حين أن الامر يختلف عن ذلك وأن هدف الاسلام من ذلك التحريم وهذا التجويز هو ايجاد وخلق روح الاستقلال والاعتماد على الذات بين المسلمين ، وتخليصهم من تبعات الحاجة إلى الاخرين وتقليد الشعوب الاجنبية ( الكافرة ) حتى في شؤون حياتهم العادية ، مثل الملابس و الخ.

اصدقاي الأعزاء !

اترك لكم الحكم في هذه القضية ! لو أن المسلمين عملوا بهذا الحكم واحيوه بشكل حقيقي ، أي أنهم أحيوا روح الاستقلال والاعتماد على الذات وعدم التبعية للكافرين ، ألم يكن هذا كافياً لضمان سيادتهم وعزّهم ؟! ولو كانوا عملوا بهذا الأمر المقدس ( عدم التشبه بالكفار ) هل كانوا بحاجة لأن يمدّوا أيديهم نحو الناهبين الدوليين يستعبدونهم ؟! ألم يكن تطبيق هذا الحكم الديني البسيط ، كافياً ، لأن يجعل المسلمين يمتلكون ادواتهم الحضارية دون الحاجة للاخرين ؟ ألم يكن بوسع هذا القانون البسيط أن يجعل المسلمين يخترعون بأنفسهم كل ما يحتاجونه من طائرات وسفن وغواصات و الخ ، كما تمكن المسلمون في الماضي ، ومن خلال فهمهم لحقيقة الحكم المقدس وتطبيقه ، ليس فقط اختراع كل ما يحتاجونه من ادوات ووسائل في حياتهم بل ضمن لهم سيادتهم ومجدهم وعظمتهم على جميع انحاء العالم.

العقيد : كلامك منطقي وصحيح ، ولكن المسلمون اليوم ضعفاء ومضطرون إلى استجداء الدول الأوروبية لتأمين حاجاتهم ومتطلبات حياتهم اليومية.

الشيخ : هذا كلام خاطيء تماماً ، لأنه حتى الدول الصغيرة اليوم تستطيع

٣٢٨

أن تعتمد على نفسها وتقف على قدميها ، وتقطع تبعيتها للعالم الأوروبي المستعمر ، وأن تصنع كل ما تحتاجه بنفسها من خلال عمل جاد وفكر خلّاق ، وأكبر شاهد على ذلك ، دولة اليابان التي تعتبر دولة شرقية صغيرة مقارنة بالكثير من الدول الكبيرة التي لا زالت متخلفة ، فهذا الشعب ومن خلال روح الاستقلال والاعتماد على الذات التي يمتلكها استطاع أن يصنع كل ما يحتاجه ( ويحتاجه الاخرون ! ) في حياتهم اليومية من الابرة حتى السيارة والقطار والسفينة والطائرة و وعشرات البضائع التي تغزوا جميع العالم اليوم. مع أن هذه الدولة الشرقية تمتلك نفس الشروط التي نمتلكها نحن بل وربما اصعب منا ، كما أن عدد سكانها لا يزيد على ثلاثة وثمانون مليون نسمة أيضاً !

لقد قدمت اليابان لجميع الدول الصغيرة درساً في الاعتماد على الذات والروح الاستقلالية من اجل قطع التبعية والخلاص من التخلف ، ( وهو ما أمر به الاسلام قبل قرون من عدم التشبّه بالكفار ) ، وبالاضافة إلى ذلك فالبلدان الاسلامية اليوم تمتلك امكانيات كثيرة بشرية وطبيعية ، وظروفها الاقتصادية والثقافية مساعدة جداً للنهوض والتحرر الحقيقي ، لكنها وبسبب ابتعادها عن الاسلام الحقيقي ، لم تستطع تفعيل امكانيتها وقدراتها العظيمة تلك ، والمؤسف حقاً أن هذه الامكانيات والقدرات اصبحت بذاتها بلاءً على الاُمّة الاسلامية والشعوب المسلمة.

قصة غريبة عن السيد جمال الدين في مصر

حسن ، الطالب الجامعي : بتصوري ان حالة المسلمين اليوم وصلت إلى

٣٢٩

حدّ اليأس من الخلاص والتحرر من هذا العار والذل ، لأنهم ، لم يكتفوا بتقليد اعمى لتلامذة امسهم والتسابق على ذلك ، بل فقدوا جميع قدراتهم البشرية والالهية امامهم وفسحوا المجال بانفسهم للغرب المستعمر أن يتدخل في بلادهم وينفذ في مؤسساتهم كالطاعون ، ومن المستحيل أن تستطيع هذه السفينة المترهلة أن تصل يوماً إلى ساحل الأمان.

الشيخ : اليأس وفقدان الأمل من الذنوب الكبيرة في الاسلام ، وباعتقادي لو رجع الناس إلى الاسلام فانهم يستطيعون تلافي ما فات ، والوقوف امام قوى الاعداء ، بالعمل والسعي المتواصل ، فالاسلام دين الحيوية والنشاط والالهام ، ويمكن أن يبعث الروح في اجساد الشعوب الساكنة ، ولاثبات ما ادعيته لارجع بكم إلى صدر الاسلام حيث تمكن عدّة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة وثلاثة عشر فرداً لا تملك شيئاً يذكر من السلاح والعدّة ، أن تقف امام قوّة كبيرة تفوقها اضعافاً مضاعفة في العدد ومدججة بالسلاح والعتاد ، بل وتنتصر عليها وتهزمها هزيمة فادحة ، بل أروي لكي قصّة غريبة عن ثورة السيد جمال الدين الافغاني في مصر ، والتي حدثت في أواخر القرن الماضي بداية عصر النهضة الذي نشهده حالياً.

تأمّلوا بدقّة ما تقرأون

ملخّص القصّة ، هو أنه في سنة 1300 هجرية كانت جميع الدول الاسلامية تخضع لسيطرة مباشرة من قبل الدول الاوروبية ، وكان الخناق يشتدّ يوماً بعد يوم على المسلمين فيها ، ولم تكن من بين تلك الدول إلّا ايران وتركيا لا

٣٣٠

تخضعان بشكل مباشر للسيطرة الاستعمارية ، وكانتا مستقلّتان اسميّاً.

في تلك الحقبة المظلمة قام أحد المسلمين الغيارى وأحد العلماء الأجلاء ، وهو السيد جمال الدين الاسدآبادي « الافغاني » بحركة نهضوية ، بعد رحلات قام بها في ارجاء العالم الاسلامي واطّلع من قرب على المحنة التي يعاني منها المسلمون ، فدعى المسلمين إلى الثورة على واقعهم والخلاص من الانحطاط الذي يعيشونه ، لكن دعوته تلك لم يستجيب لها احد ، سوى الشيخ محمد عبده ، مفتي الديار المصرية فيما بعد ، فسافر مع السيد جمال الدين إلى باريس واخذا يصدران من هناك مجلة « العروة الوثقى » ، وبالمقالات الثورية التي كانا يكتبانها في المجلة التي كانت ترسل إلى الدول العربية والاسلامية ، كانا يحثان المسلمين على النهوض والخروج من جمودهم وغفلتهم ، ولأن تلك الكلمات كانت تخرج من قلوب متحرّقة على الاسلام ووضع المسلمين ، بدأت تجد اثرها في قلوب وعقول الناس شيئاً فشيئاً ، لكن والدول الاستعمارية التفتتبسرعة إلى الأمر وحالت دون وصول المجلة إلى البلدان الاسلامية ( الدول التي كانت تخضع للسيطرة البريطانية والفرنسية ) ، وبهذا فشلت الخطوة الاُولى التي قام بها السيد جمال الدين لتحرير البلدان الاسلامية ، ولكن هذا الفشل لم يجعله ييأس ، لذلك تحرك مباشرة من باريس ومعه الشيخ محمد عبده وحلّوا في مصر ، وقاما هناك بتأسيس جمعية اسمياها « الجمعية الوطنية » ودعيا الشعب المصري للأنخراط في صفوفها ، ولأن الجمعية لم تكن مثل سائر الجميعات والاحزاب في العالم ، لم يكن فيها مكان للبذيئين والسارقين والمنافقين ، كانت الجميعية خلافاً لجميع الاحزاب السياسية لا تسعى لتسلّم السلطة والجلوس على كرسي الحكم ، أو لدعم والحفاظ على سلطة الآخرين

٣٣١

ومن الشخصيات العميلة والضحلة ، لذلك لم ينخرط فيها من كل مصر سوى اربعين شخصاً فهموا معنى التضحية.

وفي الجلسة الخامسة عشر للجمعية الوطنية ، وبحضور جميع الأعضاء ، قام السيد جمال الدين خطيباً فيهم وقال :

ملخّص كلمة السيد جمال الدين

« الهي ، صدقت حيث قلت :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ، وقولك حقّ ، فقد تأسست هذه الجمعية المقدّسة باسمك ولنصرة دينك ».

ثم خاطب اعضاء الجمعية فقال :

« ايها السادة الأعزاء : القرآن هو الدستور المقدّس الذي يعتبر دليل حقانية الاسلام حتى يوم القيامة وهو أيضاً ضمان سعادة الانسانية.

آه آه ، على هذا القرآن المقدّس الذي غفل المسلمون عنه فأصبح مهجوراً ، هذا القرآن المقدّس الذي تمكن عالم الامس على الرغم من انحطاطه أن يصل إلى تلك المرتبة الحضارية على ضوء تعاليمه النوارنية.

آه آه على القرآن الذي أصبح يستفاد منه فقط فيما يلي :

تلاوته على قبور الموتى في ليالي الجمعة ، امرار وقت الصائمين ، كفارة الذنوب ، العوبة « المكتبخانات »(1) ، دفع الحسد ، القسم الكاذب ، للاستجداء به

________________

(1) المدارس القديمة أو الملا.

٣٣٢

على ارصفة الطرق ، زينة قماط الطفل ، قلائد للعرائس و الخ.

آه ، على هذا الكتاب السماوي الذي اصبح الاهتمام به اليوم اقل من الاهتمام بديوان حافظ وكتاب المثنوي وديوان الشاعر السعدي ، فلو قرأ شيء من تلك الدواوين في محفل ، لرأيت القوم يشهقون ويزفرون ويفتحون قلوبهم فضلاً عن عيونهم واسماعهم ، وكم هي استفادتهم من المعاني العرشية ! والعرفانية ! والخيالية ! الموجودة في تلك الأبيات.

أي وحقّك اللّهمَّ أنت القائل وقولك الحقّ :( نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) .

سبحانك اللّهمَّ أنت القائل وقولك حقّ :( إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) .

لقد ادرنا اوجه قلوبنا عن طاعتك المقدّسة ، فأبدلت سعادتنا وعزّنا بالذلِّ والشقاء ».

بعد ذلك نزل السيد جمال الدين من على المنبر ، فيما كان العديد من اعضاء الجمعية قد اغمي عليهم من شدّة البكاء والآخرون أيضاً يبكون ، والسيد جمال الدين كان يبكي أيضاً ويكرر هذه الجملة :

أي وحقِّك اللّهمَّ ، نسيناك ، فأنسينا انفسنا ، حتى اغمي عليه ووقع على الأرض ، وبقي على تلك الحالة ثلاثة ساعات ، فيما كان اعضاء الجمعية في بكاء ونحيب ، بعد ذلك قام السيد جمال الدين من غيبوبته بعد ان دعي له بطبيب ، فرجع اعضاء الجمعية إلى حالتهم الاُولى واستأنفت الجلسة الرسمية.

٣٣٣

المواد السبعة عشر التي ادت إلى ثورة مصر

ثم عادوا للتباحث ، واقترحوا حلولاً للخروج من ذلك الواقع المرّ والمأساوي ، واتّفق الجميع إلى أن عظمة المسلمين ومجدهم السابق كان بسبب تطبيقهم لاحكام الاسلام المقدّسة ، كما أن العامل الوحيد الذي انتهى بهم إلى هذا الشقاء ، هو ابتعادهم عن الاسلام واحكامه ، وعلى هذا الاساس ، فالعلاج الوحيد للحالة المأساوية هو العمل باحكام الاسلام وقوانينه السامية ، ولهذا تم اقرار برنامج عمل يتضمّن سبع عشرة مادّة ، وتعهّد جميع اعضاء الجمعية العمل على تطبيق ذلك البرنامج بمنتهى الجدّية والدقّة ، وهذا نص البرنامج :

1 ـ على كلِّ واحد من اعضاء الجمعية قراءة ما لا يقل عن حزب واحد من القرآن الكريم بدقّة وتأمّل في اليوم.

2 ـ اقامة الصلوات اليومية ( الواجبة ) جماعة.

3 ـ عدم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4 ـ دعوة غير المسلمين إلى الاسلام.

5 ـ الجدل بالّتي هي أحسن مع المبشرين النصارى.

6 ـ الاحسان للفقراء قدر المستطاع.

7 ـ القيام بأي عمل مشروع يطلب منهم ، أو انهم يقومون بالعمل فور علمهم به حتى لو لم يطلب منهم ذلك.

٣٣٤

8 ـ عدم الاغفال عن صلة الرحم وزيارة الأقرباء.

9 ـ عيادة المرضى.

10 ـ السؤال عن المسلم الذي يفتقد في السوق أو المسجد ، وسبب غيابه ، حتى لو كانت لديه مشكلة ، يسعون في حلّها.

11 ـ زيادة الاشخاص الذين يعودون من سفر مشروع.

12 ـ دفع الحقوق ( المالية ) لمستحقيها.

13 ـ لا يقصروا في ارشاد الناس بقوانين الدين أو شؤوناته.

14 ـ تربية انفسهم وترويضها على الابتعاد عن الصفات الرذيلة خاصة التكبّر والانانية والعجب وحبّ الرئاسة.

15 ـ العفو عن اخطاء وزلّات اخوتهم المسلمين.

16 ـ التعامل بلين مع الناس ومداراتهم.

17 ـ الاحجام عن عمل أو قول ليس فيه نفع مادي أو معنوي لهم أو لسائر المسلمين.

وكان كل عضو يحمل معه دفتراً صغيراً يسجل فيه ما عمله من تلك المواد السبعة عشر ، لكي تسجل جميعها في سجل الجمعية ، ولأن تنفيذ بعض المواد كان يحتاج إلى ميزانية مالية ، لذلك قرّر هؤلاء الاربعون وبشكل أولي بيع كل ما في حياتهم من تجمّلات وتقنعوا باقل العيش واندر الأكل ، لكي يمولوا صندوق الجمعية بتلك الأموال ، لكي لا تتوقّف النشاطات بسبب العجر المالي.

٣٣٥

ابرز اعمال الجمعية الوطنية المصرية لفترة شهر

عمل اعضاء الجمعية الوطنية المصرية بقيادة السيد جمال الدين الاسدآبادي ( الافغاني ) لمدّة شهر واحد بمنتهى الدقّة على ضوء تلك المواد ، وكانت نتيجة العمل وابرز النشاطات كالتالي :

1 ـ عيادة الف وخمسمائة مريض.

2 ـ زيارة الفين وسبمعمائة مسافر.

3 ـ تفقّد خمسمائة مسلم غابوا عن المحافل العامة.

4 ـ قضاء حاجة اثناء عشرة الف محتاج.

5 ـ تاب على ايديهم ثمانمائة سكّير ( معتاد على شرب الخمرة ).

6 ـ ادخال الف وثلاثمائة شخص إلى دائرة المصلّين بعد أن كانوا لا يصلّون.

7 ـ تابت على ايديهم اربعمائة امرأة من الفاحشات والمنحرفات.

8 ـ ونتيجة لنصحهم ، استقال ثمانون شخصاً عن العمل في الدوائر البريطانية.

9 ـ جعلوا خمسمائة ثري مصري يتقاعد عن شراء اشياء للزينة كانت تأتي من الخارج ، خاصة من بريطانيا.

10 ـ منحوا خمسة وسبعين شخصاً متضرراً ، رأسمال للعمل.

٣٣٦

11 ـ أمَّنوا مؤونة مئتين وستّة فقير حقيقي لمدّة سنة.

12 ـ اسلم على ايديهم 35 نصرانيّاً و 15 يهوديّاً و 70 وثني.

13 ـ اقاموا اربع واربعين مجلس مناظرة مع مبشري النصارى الذين كانوا مسنودين من قبل الحكومة الانجليزية في مصر ، وأوردوا عليهم 120 اشكال لم يستطيعوا الاجابة عليها.

كانت هذه اُمّهات اعمال الجمعية التي لا يزيد عددها على اربعين شخصاً ولمدّة شهر واحد فقط.

ردود الفعل على نشاط الجمعية الذي استمر شهراً واحداً

اصدقائي الأعزاء !

إذا اردتم أن تعرفوا كيف أن مجرد العمل بقوانين الاسلام تكون نتيجتها المجد والعظمة للمسلمين واندحار اعداءهم ، انتبهوا إلى ردود الفعل التي حصلت على نشاطات الجميعة الوطنية المصرية والتي استمرت شهراً واحداً :

شاهد اللورد كرومر المستشار المالي البريطاني في مصر ، أن نفوذ بريطانيا في مصر قلّ دفعة واحدة إلى 45% ، فيما تدنّت التجارة البريطانية 35% ، واستقال عن العمل في الدوائر البريطانية ثمانين موظفاً مسلماً مدرّباً ، وليس هناك أحد يتقدّم للعمل في الوظائف الشاغرة ، كما رأى اللورد كرومر وهو لا يصدق من شدّة التعجب ، أن ممثلي الشركات البريطانية وخاصة تلك التي تبيع وسائل الزينة والإناقة والترف ، ارتفعت اصواتهم لعدم وجود

٣٣٧

مستهلكين ، ويقولون أن عوائدنا اقل حتى من ايجارات محلاتنا واجور عمالنا وموظفينا ، كما أن عدداً من المأمورين المصريين المسؤولين عن اخذ الضرائب من محلات المشروبات الكحولية ودور البغاء الرسمية والسينمات والمسارح ، قدموا استقالات عن العمل ، ولاحظ اللورد كرومر نشاطات المبشرين على مدى خمسة وثلاثين سنة لا تعادل 16/1 من نشاطات الجمعية الوطنية المصرية خلال فترة شهر ، كل ذلك خلق عنده وساوس وخوف كبير ، فبعث مباشرة بتقارير مهولة إلى لندن.

تقارير اللورد كرومر

يقول اللورد كرومر في أحد تقاريره التي بعث بها إلى لندن :

« وبهذا اُحذّر قادة بريطانيا من خطر داهم ، فلو بقيت نشاطات الجمعية الوطنية بقيادة السيد جمال الدين سنة اُخرى ، لن تتلاشى سياسة وتجارة الحكومة البريطانية في آسيا وافريقيا فقط ، بل نخاف من وقوع نفوذ جميع الدول الأوروبية بخطر في جميع انحاء العالم ».

ويقول في تقرير ثاني :

« الجمعية الوطنية المصرية ، أسوء صاعقة تقف امام مخطّطاتنا ، لذا يجب اصدار امر عاجل بتشتيت افرادها وحلّها ».

وفي تقرير ثالث له ، يقول :

« الجمعية الوطنية المصرية خير دليل على تسلّط المسلمين المحيّر

٣٣٨

للعقول على ثلث بلدان العالم قبل ثلاثة عشر قرناً ، بفترة قصيرة ».

وفي تقرير لاحد المبشرين النصارى رفعه إلى كنيسة سان بول التي كانت أكبر كنيسة في ذلك العصر ، يقول :

« ليس هناك اغرب من هذه الحادثة ، وهي تقهقر سبعمائة مليون مسيحي من ابناء الانجيل امام اربعين مسلماً يحملون بين جنباتهم روح عالم دين هو السيد جمال ».

وأيضاً ، يذكر أحد الأطباء الاجانب الذي كان يعمل في مستشفى بور سعيد ، في كتابه الصادر في ذلك الوقت والذي يحمل عنوان « فلسفة الجمعيات » :

« لو استمرت نشاطات الجمعية الوطنية المصرية على شكلها المحيّر للعقول هذا ، إلى عشرين سنة اُخرى ، ستحوّل العالم كلّه ميداناً لأفكارها ».

وفي رسالة بعث يها رئيس البرلمان البريطاني في مصر إلى أحد كبار الصيارفة في لندن ، جاء فيها :

« ومن عجائب العصر ، هو أن السياسة الأوروبية في مصر اليوم ، وغداً في جميع انحاء العالم ، سحقت على يد اربعين نفر من المسلمين ، الذين لا يملكون سلاحاً سوى الدين والعمل بالقوانين الدينيّة ».

ويكتب أحد المسؤولين الانجليز إلى زوجته في لندن ، فيقول :

« ان روح السعادة التي تنتشر في المجتمع الاسلامي اسرع من البرق ، ستؤثر على الشعوب الأوروبية بوجه عام والشعب البريطاني بالخصوص ليس

٣٣٩

فقط التخلي عن مستعمراتهم ، بل حصر انفسهم بقلعة حصينة في مركز العالم بين الشمال والجنوب ».

وجراء كثرة التقارير المرفوعة ، رأت الحكومة البريطانية ان افساح المجال امام هذه الجمعية للعمل سنوات اُخرى ، مع هذا البرنامج الذي تمتلكه الجمعية ، سيجعل من الصعب على أية قوة الوقوف امام قدراتها الخارقة ، لذلك ابرقت إلى الحكومة في مصر امراً بسرعة حلّ الجمعية وتشتيت شمل افرادها ومعاقبتهم بأشد العقوبات ، وكانت النتيجة نفي السيد جمال الدين من مصر بعد ان اعلنت الاحكام العرفية هناك ، وحكم على الشيخ محمد عبده بثلاث سنوات سجن.

أمّا سائر أعضاء الجمعية فتعرضوا لضغوطات وأحكام مشابهة بشكل يندى له جبين الانسانية ، وبهذا الشكل أفل النجم الذي سطع لشهر واحد في سماء المسلمين ، وعادت بريطانيا إلى نهب خيرات المسلمين وامتصاص دماءهم دون ان يزعجها احد أو يقض مضجعها.

اصدقائي الاعزاء !

والآن الحكم لكم ، فلو كان اربعون مسلماً ومن خلال تمسكهم بتعاليم الاسلام المقدّسة أن يتحولوا إلى قوة بهذا الحجم ترعب الأعداء ، فكيف لو تمسك ستمائة مليون مسلم في عصرنا الحاضر باسلامهم وأحكام دينهم ، ألا يستطيعون اعادة مجدهم وعظمتهم السالفة وينشروا حكومتهم على جميع العالم ؟

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607