الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182140 / تحميل: 6236
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

وأخيرا يقول تعالى :( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ ) .

إنّ كفرهم وعنادهم سيكون حجابا على قلوبهم وعقولهم ، ولذلك سيتركون طريق الحق ويسلكون سبيل الباطل ، فيحرمون يوم القيامة من الجنّة وينتهي مصيرهم إلى النّار. وهكذا يضل الله الكافرين.

الآية التي بعدها تشير إلى علة مصائب هذه المجموعة ، حيث يقول تعالى :( ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ) .

كانوا يفرحون بمعارضة الأنبياء وقتل المؤمنين والتضييق على المحرومين ، وكانوا يشعرون بالعظمة عند ارتكاب الذنوب وركوب المعاصي. واليوم عليهم أن يتحملوا ضريبة كلّ ذلك الفرح والغفلة والغرور من خلال هذه النيران والسلاسل والسعير.

«تفرحون» من «فرح» وتعني السرور والابتهاج. وقد يكون الفرح ممدوحا ومطلوبا في بعض الأحيان ، كما تفيد الآيتان (٤) و (٥) من سورة «الروم» في قوله تعالى :( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ) .

وفي بعض الأحيان يكون الفرح مذموما وباطلا ، كما ورد في قصة قارون ، الآية (٧٦) من سورة «القصص» حيث نقرأ قوله تعالى :( إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) .

طبعا ينبغي التفريق بين الموردين من خلال القرائن ، ولا ريب من أن «الفرح» في الآية التي نبحثها من النوع الثّاني.

«تمرحون» مشتقّة من «مرح» على وزن «فرح» وهي كما يقول اللغويون والمفسرون ، تأتي بمعنى شدة الفرح ، وقال آخرون : إنّها تعني الفرح بسبب بعض القضايا الباطلة.

٣٢١

في حين ذهبت جماعة ثالثة إلى اعتبارها حالة من الفرح المتزامن مع نوع من الطرب والاستفادة من النعم الإلهية في طريق الباطل.

والظاهر أنّ هذه المعاني جميعا تعود إلى موضوع واحد ، ذلك أنّ شدّة الفرح والإفراط فيه يشمل جميع المواضيع والحالات السابقة. وفي نفس الوقت فهو يتزامن مع أنواع الذنوب والآثام والفساد والشهوة(١) .

إنّ هذه الأفراح المتزامنة مع الغرور والغفلة والشهوة ، تبعد الإنسان بسرعة عن الله تبارك وتعالى وتمنعه من إدراك الحقيقة ، فتكون الحقائق لديه غامضة والمقاييس معكوسة.

ولمثل هؤلاء يصدر الخطاب الإلهي :( ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

هذه الآية تؤّكد مرّة اخرى على أنّ التكبر هو أساس المصائب ، ذلك أنّ التكبر هو قاعدة الفساد ، ويحجب البصائر عن رؤية الحق ويجعل الإنسان يخالف دعوة الأنبياءعليهم‌السلام .

ثم تشير الآية إلى أبواب جهنّم بقوله تعالى :( أَبْوابَ جَهَنَّمَ ) .

ولكن هل الدخول من أبواب جهنّم يعني أن لكل مجموعة باب معين تدخل منه ، أو أنّ كلّ مجموعة منهم تدخل من أبواب متعدّدة؟

أي أنّ جهنّم تشبه السجون المخيفة التي تتداخل فيها الأبواب والدهاليز والممرات والطبقات ، فبعض الضالين المعاندين يجب أن يسلكوا كلّ هذه الأبواب والممرات والطبقات قبل أن يستقروا في قعر جهنّم.

وممّا يؤيد هذا التّفسير ما يروى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنّه أجاب عن سؤال في تفسير قوله تعالى :( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : «الفرح : انشراح الصدر بلذة عاجلة ، وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية. والمرح شدة الفرح والتوسع فيه».

٣٢٢

مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) :(١) أنّه قال : إنّ جهنّم لها سبعة أبواب ، أطباق بعضها فوق بعض ، ووضع إحدى يديه على الأخرى ، فقال هكذا»(٢) .

وثمة تفسير آخر نستطيع أن نقف على خلاصته بالشكل الآتي : إنّ أبواب جهنم ـ كأبواب الجنّة ـ إشارة إلى العوامل المختلفة التي تؤدي بالإنسان إلى دخولها ، فكل نوع من الذنوب أو نوع من أعمال الخير يعتبر بابا.

وثمّة ما يشير الى ذلك في الروايات الإسلامية ، ووفق هذا المعنى فإنّ العدد (٧) هو كناية عن الكثرة ، وما ورد في القرآن الكريم من أنّ للجنّة ثمانية أبواب هو إشارة إلى ازدياد عوامل الرحمة على عوامل العذاب (راجع ذيل الآية ٤٤ سورة الحجر).

وهذان التّفسيران لا يتعارضان فيما بينهما.

* * *

__________________

(١) الحجر ، الآية ٤٤.

(٢) مجمع البيان ، المجلد ٥ ـ ٦ ، صفحة ٣٣٨ ، نهاية الآية ٤٤ من سورة الحجر. هناك روايات اخرى ذكرها العلّامة المجلسي في المجلد ٨ ، من بحار الأنوار ، صفحة ٢٨٩ ، و ٣٠١ و ٢٨٥.

٣٢٣

الآيتان

( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) )

التّفسير

فاصبر حتى يأتيك وعد الله :

بعد سلسلة البحوث السابقة عن جدال الكافرين وغرورهم وتكذيبهم الآيات الإلهية والدلائل النبوية ، تأتي هاتان الآيتان لمواساة النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأمرانه بالصبر والاستقامة في مواجهة المشاكل والصعاب.

يأتي الأمر أوّلا في قوله تعالى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) .

إنّ وعده بالنصر حق ، ووعده بمعاقبة المستكبرين المغرورين حق ، وكلاهما سيتحققان ، على أعداء الحق أن لا يظنّوا بأنّهم يستطيعون الهروب من العذاب الإلهي بسبب تأخر عقابهم ، لذلك تضيف الآية :( فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ

٣٢٤

نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ ) (١) .

إنّ مسئوليتك هي التبليغ البليغ وإتمام الحجة على الجميع ، حتى تتنور القلوب اليقظة ببلاغك ، ولا يبقى للمعاندين عذر!

عليك أن تهتم بإنجاز مهمتك ولا تنتظر أن تحقق الوعيد عاجلا بإنزال العقاب على هذه الفئة الضالة.

والكلام يتضمّن تهديدا إلى تلك الفئة لكي يعلموا أنّ العذاب لا بدّ مصيبهم ، ونازل بساحتهم ، فكما نال بعضهم العقاب الذي يستحقونه في هذه الدنيا في «بدر» وغيرها ، فهناك أيضا يوم القيامة والعذاب المنتظر.

ثم تشير الآية الكريمة إلى الوضع المشابه الذي واجهه الرسل والأنبياء قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي تكون في هذه الذكرى مواساة أكثر للرسول الكريم ، حيث واجه الأنبياء السابقين مثل هذه المشاكل ، إلّا أنّهم استمروا في طريقهم واحتفظوا بمسارهم المستقيم.

يقول تعالى :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) .

لقد واجه كلّ منهم ما تواجهه أنت اليوم ، فصبروا وكان حليفهم النصر والغلبة على الظالمين.

ومن جهة ثانية كان الجميع يطلبون من الرسل الإتيان بالمعجزة ، ومشركو مكّة لم يشذوا على غيرهم في طلب المعاجز من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك يخاطب الله تعالى رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

إنّ جميع المعاجز هي من عند الله وبيده ، وبذلك فهي لا تخضع إلى أمزجة الكفّار والمشركين ، بل إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينبغي له الاستسلام أمام «معجزاتهم المقترحة» بل ما يكون من المعجزة ضروريا لهداية الناس وإحقاق الحق يظهره

__________________

(١) يلاحظ مثلها في الآية (٤٦) من سورة يونس.

٣٢٥

الله على أيدي الأنبياء.

ثم تهدّد الآية من كان يقول : لماذا لا يشملنا العذاب الإلهي إذا كان هذا الرّسول صادقا؟ فتقول الآية :( فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) .

في ذلك اليوم المهول تغلق أبواب التوبة ، ولا تنفع الآهات والصرخات ، ويخسر أهل الباطل صفقتهم ، ويشملهم العذاب الإلهي الأليم ، إذا فلما ذا كلّ هذا الإصرار على مجيء ذلك اليوم؟!

وفقا لهذا التّفسير ينصرف معنى الآية والمقصود بالعذاب فيها إلى «عذاب الاستئصال».

ولكن بعض المفسّرين اعتبر هذه الآية بمثابة بيان للعذاب في يوم القيامة. فهناك يكون القضاء الحق بين الجميع ، ويشاهد أنصار الباطل خسرانهم المريع.

إنّ فيما تضمّنته الآية (٢٧) من سورة «الجاثية» يؤكّد هذا التّفسير ، إذ يقول تعالى:( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) .

ولكن تمّ استخدام «أمر الله» وما شابهها في الآيات المتعدّدة التي تختص بعذاب الدنيا(١) .

ويحتمل أن يكون للآية معنى أوسع يشمل عذاب الدنيا والآخرة ، وفي المشهدين يتوضح خسران المبطلين.

ومن الضروري هنا الإشارة إلى الحديث الذي رواه الشيخ الصدوق رحمة الله في أماليه بإسناده إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام «قال : كان في المدينة رجل يضحك الناس ، فقال : قد أعياني هذا الرجل أن أضحكه ـ يعني علي بن الحسينعليه‌السلام ـ قال : فمرّعليه‌السلام وخلفه موليان له ، فجاء الرجل حتى انتزع رداءه من رقبته ، ثمّ مضى فلم يلتفت إليه الإمامعليه‌السلام فاتبعوه وأخذوا الرداء منه ، فجاءوا به فطرحوه عليه فقال لهم : من

__________________

(١) كما في «هود» الآيات : (٤٣) ، (٧٦) ، (١٠١).

٣٢٦

هذا؟ فقالوا : هذا رجل بطال يضحك أهل المدينة ، فقال : قولوا له إن لله يوما يخسر فيه المبطلون»(١) .

* * *

ملاحظة في عدد الأنبياء؟!

للمفسّرين كلام كثير حول عدد أنبياء الله ورسله.

والرواية المشهورة في هذا المجال تذكر أنّ عددهم مائة وعشرون ألف نبي ، في حين تقتصر روايات اخرى على ثمانية آلاف ، أربعة آلاف منهم هم أنبياء بني إسرائيل ، والباقون من غيرهم(٢) .

وقد جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «خلق اللهعزوجل مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبيّ ، أنا أكرمهم على الله ولا فخر ، وخلق اللهعزوجل مائة ألف وصي وأربعة وعشرين ألف وصي ، وعلي أكرمهم على الله وأفضلهم»(٣) .

وفي رواية اخرى عن أنس بن مالك أنّ رسول الله قال : «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبيّ ، منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل»(٤) .

هذان الحديثان لا يتناقضان فيما بينهما ، إذ يمكن أن يكون الحديث الثّاني قد أشار إلى الأنبياء العظام ، كما يذكر ذلك العلّامة المجلسي في توضيح هذا الكلام.

وفي حديث آخر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاب على سؤال لأبي ذر رضى الله عنه عن عدد الأنبياء قائلا بأنّهم (١٢٤) ألف نبي ، وعن سؤال حول عدد الرسل منهم ، أنّهم

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٥٢٧ ، حديث ١١٨.

(٢) مجمع البيان : أثناء الحديث عن هذه الآية.

(٣) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٣٠ ، حديث رقم ٢١.

(٤) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٣١ ، حديث رقم ٢٢.

٣٢٧

(٣١٣) رسول فقط(١) .

وفي حديث آخر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن ذكر العدد (١٢٤) ألف قال : خمسة منهم أولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

وهناك روايات اخرى في هذا المجال تؤيد العدد المذكور أعلاه.

من هنا يتضح أنّ هذه الرواية (حول عدد الأنبياء) ليست خبرا واحدا كما يقول «برسوئي» نقلا عن بعض العلماء في تفسير «روح البيان» ، بل هناك روايات متعدّدة ومستفيضة تؤّكد أنّ عدد الأنبياء الإلهيين كان (١٢٤) ألف نبي. وأنّ مثل هذه الروايات موجودة في المصادر الإسلامية المختلفة.

والطريق في الأمر أن عدد الأنبياء الذين صرح القرآن بأسمائهم هو (٢٦) نبي فقط هم : آدم ـ نوح ـ إدريس ـ صالح ـ هود ـ إبراهيم ـ إسماعيل ـ إسحاق ـ يوسف ـ لوط ـ يعقوب ـ موسى ـ هارون ـ زكريا ـ شعيب ـ يحيى ـ عيسى ـ داود ـ سليمان ـ إلياس ـ اليسع ـ ذو الكفل ـ أيوب ـ يونس ـ عزير ـ ومحمّد (عليهم الصّلاة والسلام).

ولكن هناك أنبياء آخرون أشار إليهم القرآن وإن لم يذكر أسماءهم صراحة مثل «أشموئيل» الذي ورد ذكره في الآية (٢٤٨) من سورة «البقرة» في قوله تعالى :( وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ) .

والنّبي «أرميا» الوارد في الآية (٢٥٩) من سورة البقرة في قوله تعالى :( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ ) (٣) .

و «يوشع» المذكور في الآية (٦٠) من سورة «الكهف» في قوله تعالى :( وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ ) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٣٢ ، حديث رقم ٢٤.

(٢) بحار الأنوار ، مجلد ١١ ، صفحة ٤١ ، حديث رقم ٢٤.

(٣) ثمّة بحث بين المفسّرين عن اسم هذا النّبي ، إذ فيهم من قال : إنّه «أرميا» والبعض قال : إنّه «الخضر» وقال جمع : إنّه «عزير».

٣٢٨

و «الخضر» الوارد ذكره إشارة في الآية (٦٥) من سورة الكهف في قوله تعالى :( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) .

وورد ذكر لأسباط بني إسرائيل ، وهم زعماء قبائل بني إسرائيل كما في قوله تعالى :( وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ) (١) .

وإذا كان هناك أنبياء من بين إخوة يوسفعليه‌السلام فقد أشير إليهم مرات عديدة في سورة يوسف.

وخلاصة القول هنا أنّ القرآن أشار إلى قصص وحوادث ترتبط بأكثر من (٢٦) نبيا وهم المصرّح بأسمائهم مباشرة في القرآن الكريم.

ويستفاد من بعض الروايات الواردة في مصادر السنة والشيعة أنّ الله بعث بعض الأنبياء من ذوي البشرة السوداء ، كما يقول العلامة الطبرسي مثلا في «مجمع البيان» روي عن علي أنّه قال : «بعث الله نبيّا أسود لم يقص قصته»(٢) .

* * *

__________________

(١) النساء ـ ١٦٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية التي تبحثها. وفي هوامش تفسير الكشّاف هناك روايات عديدة في هذا المجال. يلاحظ المجلد الرابع ، صفحة ١٨٠ ، طبعة دار الكتاب العربي.

٣٢٩

الآيات

( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) )

التّفسير

منافع الأنعام المختلفة :

تعود الآيات التي بين أيدينا للحديث مرّة اخرى عن علائم قدرة الخالق (جلّ وعلا) ومواهبه العظيمة لبني البشر ، وتشرح جانبا منها كي تزيد من وعي الإنسان ومعرفته بالله تعالى ، وليندفع نحو الثناء والشكر فيزداد معرفة بخالقه.

يقول تعالى :( اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) .

فبعضها يختص بالغذاء كالأغنام ، وبعضها للركوب والغذاء كالجمال التي تعتبر بحق سفن الصحاري.

«أنعام» جمع «نعم» على وزن «قلم» وتطلق في الأصل على الجمال ، لكنّها توسعت فيما بعد لتشمل الجمال والبقرة والأغنام ، والمصطلح مشتق من «النعمة»

٣٣٠

بسبب أنّ أحد أكبر النعم على الإنسان هي هذه الأنعام. وفي يومنا هذا ـ بالرغم من تقدم التكنولوجيا في مجال النقل البري والجوي ـ إلّا أنّ الإنسان ما زال يستفيد من الأنعام ، خصوصا في الأماكن الصحراوية الرملية ، التي يصعب فيها استخدام وسائل النقل الأخرى. ويتمّ استخدام الأنعام والحيوانات في بعض المضايق والمناطق الجبلية ، حيث يتعذر استخدام غيرها من وسائل النقل الحديث.

لقد خلق الله الأنعام بأشكال مختلفة ، وبروح تستسلم للإنسان وتنصاع إليه وتخضع لأوامره وتلبي له احتياجاته ، في حين أنّ بعضها أقوى من أقوى الناس ، وهذا الانصياع في حدّ ذاته دليل من أدلة الخالق العظيم الذي سخّر لعباده هذه الأنعام.

إنّ من الحيوانات الصغيرة ما يكون خطره مميتا للإنسان ، في حين أن قافلة من الجمال يكفي صبي واحد لقيادها!

إضافة لما سبق تقول الآية التي بعدها : إنّ هناك منافع اخرى :( وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ) .

الإنسان يستفيد من لبنها وصوفها وجلدها وسائر أجزائها الأخرى ، بل يستفيد حتى من فضلاتها في تسميد الأرض وإخصاب الزرع. وخلاصة القول : إنّه لا يوجد شيء غير نافع في وجود هذه الأنعام ، فكل جزء منها مفيد ونافع ، حتى أنّ الإنسان بدأ يستخلص بعض الأدوية من امصال هذه الحيوانات ، والملفت أن «منافع» جاءت نكرة في الآية لتبيّن أهمية ذلك).

ثم تضيف الآية :( وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ) .

احتمل بعض المفسّرين أن معنى الآية ينصرف إلى حمل الأثقال الذي يتمّ بواسطة الأنعام ، لكن يحتمل أن يكون المقصود بقوله تعالى :( حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ) الإشارة إلى بعض المقاصد والأهداف والرغبات الشخصية ، إذ يستفاد من الإنعام

٣٣١

في الترفيه والهجرة والسياحة والتسابق والتفاخر ، وما إلى ذلك من رغبات تنطوي عليها نفس الإنسان.

ولأنّ الأنعام تعتبر وسيلة سفر على اليابسة ، لذلك تقول الآية في نهايتها :( وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) هناك بحث عن منافع الحيوانات يمكن مراجعته أثناء الحديث عن الآية الخامسة من سورة النحل).

لقد جاء التعبير القرآني «عليها» (أي الأنعام) بالرغم من الإشارة المباشرة إليها سابقا ، ليكون مقدمة لذكر (الفلك). والمعنى أنّ الله جلّ وعلا سخّر لكم الوسائل في البر والبحر للانتقال ولحمل الأثقال كي تستطيعوا أن تبلغوا مقاصدكم بسهولة.

لقد جعلت للسفينة صفة خاصة بحيث تستطيع أن تبقى على سطح الماء بالرغم من الأثقال والأوزان الكبيرة التي عليها ، وجعل الله تعالى الحركة في الريح بحيث تستطيع الفلك الاستفادة منها لتحديد وجهة سفر الإنسان ومقصده.

الآية الأخيرة هي قوله تعالى :( وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ ) هل تستطيعون إنكار آياته في الآفاق وفي أنفسكم؟ أم هل تنكرون آياته في خلقكم من تراب وتحويلكم عبر مراحل الخلق إلى ما أنتم عليه ، أم أنّكم تنكرون آياته في الحياة والموت والمبدأ والمعاد؟ وهل يمكنكم إنكار آياته في خلق السماء والأرض أو الليل والنهار ، أو خلقه لأمور تساعد في استمرار حياتكم كالأنعام وغيرها؟

أينما تنظر وتمد البصر فثمة آيات الله وآثار العظمة في خلقه سبحانه وتعالى : «عميت عين لا تراك».

يقول المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في تفسيره «مجمع البيان» في جوابه على هذا السؤال : ما هو سبب مثل هذا الإنكار مع وضوح الدلائل والعلامات؟

يقول : إنّ ذلك يمكن أن يعود إلى ثلاثة أسباب هي :

٣٣٢

١ ـ عبادة الأهواء والانقياد إليها ، لأنّ ذلك يؤدي إلى حجب الإنسان عن رؤية الحق ، (وينساق وراء غرائزه ، لأنّ الحق يحدّد هذه الغرائز من خلال فرض التكاليف والوظائف الربانية. لذلك يعمد هؤلاء إلى إنكار الحق برغم دلائله الواضحة).

٢ ـ التقليد الأعمى للآخرين ـ خصوصا السابقين ـ وهذا أمر يحجب الإنسان عن الحق.

٣ ـ الأحكام والإعتقادات الباطلة المترسخة في وعي الإنسان ، فيذعن لها وتحجبه عن دراسة الحق والانفتاح على آيات الله تبارك وتعالى.

* * *

٣٣٣

الآيات

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥) )

التّفسير

لا ينفع الإيمان عند نزول العذاب :

هذه الآيات هي آخر مجموعة من سورة المؤمن ، ونستطيع أن نعتبرها نوعا من الاستنتاج للبحوث السابقة ، فبعد بيان كلّ الآيات الإلهية في الآفاق والأنفس ، وكل تلك المواعظ اللطيفة التي تحدثت عن المعاد ، ومحكمة البعث الكبيرة ، هددت هذه الآيات الكافرين المستكبرين والمنكرين المعاندين تهديدا شديدا ،

٣٣٤

وواجهتهم بالمنطق والاستدلال ، وأوضحت لهم عاقبة أعمالهم.

فأوّلا تقول :( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) .

فإذا كان عندهم شك في صحة التأريخ المدون على الأوراق ، فهل عندهم شك فيما يلمسونه من الآثار الموجودة على سطح الأرض ، من القصور الخربة للملوك ، والعظام النخرة تحت التراب ، أو المدن التي أصابها البلاء والعذاب وبقيت آثارها شاهدة على ما جرى عليها؟!

فأولئك :( كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ) . حيث يمكن معرفة عددهم ووقّتهم من آثارهم المتمثلة في قبورهم وقصورهم ومدنهم.

عبارة :( آثاراً فِي الْأَرْضِ ) ـ سبق تفسيرها في الآية (٢١) من نفس السورة ـ فلعلها إشارة إلى تقدمهم الزراعي ، كما جاء في الآية (٩) من سورة الروم ، أو إشارة إلى النباء العظيم للأقوام السابقين في قلب الجبال والسهول(١) .

ومع هذه القوّة والعظمة التي كانوا يتمتعون بها ، فإنّهم لم يستطيعوا مواجهة العذاب الإلهي :( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (٢) .

بل إنّ كلّ قواهم وقدراتهم أبيدت خلال لحظات قصيرة ، حيث خربت القصور وهلكت الجيوش التي كان يلوذ بها الظالمون وسقطوا كما تسقط أوراق الخريف ، أو أغرقوا في خضم الأمواج العاتية.

فإذا كان هذا هو مصير أولئك السابقين مع كلّ ما لديهم ، فبأي مصير ـ يا ترى ـ يفكّر مشركو مكّة وهم أقل من أولئك؟!

الآية التي بعدها تنتقل للحديث عن تعاملهم مع الأنبياء ومعاجز الرسل البينة ،

__________________

(١) كما تذكره الآيات (١٢٨) و (١٢٩) من سورة الشعراء.

(٢) هناك احتمالان في (ما) في جملة «ما أغنى» فإمّا نافية أو استفهامية ، لكن يظهر أنّ الأوّل هو الصحيح ، وهناك أيضا احتمالان في «ما» في جملة (ما كانوا يكسبون) فإما موصولة أو مصدرية ولكن الأوّل هو المرجح

٣٣٥

حيث يقول تعالى :( فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) (١) أيّ إنّهم فرحوا بما عندهم من المعلومات والأخبار ، وصرفوا وجوههم عن الأنبياء وأدلتهم. وكان هذا الأمر سببا لأن ينزل بهم العذاب الالهي :( وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

وذكر المفسّرون احتمالات عديدة عن حقيقة العلم الذي كان عندهم ، والذي اغتروا به وشعروا معه بعدم الحاجة إلى تعليمات الأنبياء ، والاحتمالات هذه هي :

أوّلا : لقد كانوا يظنون أنّ الشبهات الواهية والسفسطة الفارغة هي العلم ، ويعتمدون عليها. لقد ذكر القرآن الكريم أمثلة متعدّدة لهذا الاحتمال ، كما في قوله تعالى :( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٢) والآية حكاية على لسانهم.

وممّا حكاه القرآن عنهم أيضا ، قوله تعالى :( أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٣) .

وقولهم في الآية (٢٤) من سورة الجاثية :( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) .

وهناك أمثلة اخرى لإعاءاتهم.

ثانيا : المقصود بها العلوم المرتبطة بالدنيا وتدبير أمور الحياة ، كما كان يدّعي «قارون» مثلا ، كما يحكي عنه القرآن الكريم في قوله تعالى :( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي ) (٤) .

ثالثا : المقصود بها العلوم ذات الأدلة العقلية والفلسفية ، حث كان يعتقد البعض ممن يمتلك هذه العلوم أنّ لا حاجة له للأنبياء ، وبالتالي فهو لا ينصاع لنبواتهم

__________________

(١) احتمل البعض أن يعود الضمير في (جاءتهم) إلى الأنبياء ، لذا يكون المقصود بالعلوم علوم الأنبياء ، بينما المقصود من (فرحوا) هو ضحك واستهزاء الكفّار بعلوم الأنبياء ، لكن هذا التّفسير احتماله بعيد.

(٢) سورة يس ، الآية ٧٨.

(٣) السجدة ، الآية ١٠.

(٤) القصص ، الآية ٧٨.

٣٣٦

ودلائل إعجازهم.

التفاسير الآنفة الذكر لا تتعارض فيما بينها ، لأنّها جميعا تقصد اعتماد البشر على ما لديهم ، واستعلاءهم بهذه «المعرفة» على دعوات الرسل ومعاجز الأنبياء. بل واندفع هؤلاء حتى إلى السخرية بالوحي والمعارف السماوية.

لكن القرآن الكريم يذكر مآل غرور هؤلاء وعلوّهم وتكبرهم إزاء آيات الله ، حينما يقول :( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) .

ثم تأتي النتيجة سريعا في قوله تعالى :( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ) .

لماذا؟ لأنّه عند نزول «الاستئصال» تغلق أبواب التوبة ، وعادة ما يكون مثل هذا الإيمان إيمانا اضطراريا ليس له ثمرة الإيمان الاختياري ، إذ أنّه تحقق في ظل شروط غير عادية ، لذا من المحتمل جدّا أن يعود هؤلاء إلى سابق وضعهم عند ما ترتفع الشروط الاستثنائية التي حلّت بهم.

لذلك لم يقبل من «فرعون» إيمانه وهو في الأنفاس الأخيرة من حياته وعند غرقه في النيل.

وهذا الحكم لا يختص بقوم دون غيرهم ، بل هو :( سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) .

ثم تنتهي الآية بقوله تعالى :( وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) .

ففي ذلك اليوم عند ما ينزل العذاب بساحتهم سيفهم هؤلاء بأنّ رصيدهم في الحياة الدنيا لم يكن سوى الغرور والظنون والأوهام ، فلم يبق لهم من دنياهم سوى التبعات والعذاب الإلهي الأليم ، وهل ثمّة خسران أكبر من هذا؟!

وهكذا تنتهي السورة المباركة (المؤمن) التي بدأت بوصف حال الكافرين المغرورين ، ببيان نهاية هؤلاء وما آل إليه مصيرهم من العذاب والخسران.

* * *

٣٣٧

المغرورون بالعلم!

في الآيات المختلفة لهذه السورة المباركة ـ كما أوضحنا ذلك ـ يتبيّن أنّ أساس انحراف قسم كبير من الناس هو التكبر والغرور.

قد يكون امتلاك المال من أسباب العلو والتكبر ، أو كثرة الأفراد وامتلاك القدرات العسكرية. أو كمية محدودة من المعلومات في فرع من فروع المعرفة ، يظن الإنسان أنّها كبيرة وكثيرة ، فتدفعه إلى العلو والاستغناء السخرية.

إنّ حالة عصرنا الراهن تعكس نموذج «الغرور العلمي» بشكل جلّي واضح ، ففي ظل التقدم السريع الذي أحرزته المجتمعات المادية في المجالات العلمية والتقنية ، نراها عمدت إلى إلغاء دور الدين من الحياة ، وقد سيطر الغرور العلمي على بعض علماء الطبيعة الى درجة أنّهم تصوروا أن لا يوجد في هذا العالم شيء خارج اطار علومهم ومعارفهم ، وبما أنّهم لم يروا الله في مختبراتهم أنكروا وجوده وجحدوا نعمته.

لقد ذهب بهم الغرور إلى أكثر من ذلك عند ما أصبحوا يجهرون أن الدين ووحي الأنبياء إنّما كانا بسبب الجهل أو الخوف ، أما وقد حلّ عصر التقدم العلمي فإنّ الحاجة إلى مثل هذه المسائل انعدمت تماما ، بل وعمدوا إلى فرض تفسير معين لتطوّر الحياة يماشي ادعاءهم هذا ، فقالوا : إنّ الحياة الفكرية للبشر مرّت عبر المراحل الآتية :

١ ـ مرحلة الأساطير.

٢ ـ مرحلة الدين.

٣ ـ مرحلة الفلسفة.

٤ ـ مرحلة العلم ، والمقصود بها العلوم الطبيعية.

بالطبع ، نحن لا ننكر أنّ السلطة الديكتاتورية للكنيسة على عقول الناس في أوروبا ، وشيوع الخرافات وأنواع التفكير الأسطوري لقرون مديدة في تأريخ تلك

٣٣٨

القارة ، بالإضافة إلى القمع الذي كانت تمارسه طبقة رجال الدين الكنسي (الإكليروس) هناك ؛ كلّ هذه العوامل ساهمت ـ إلى درجة كبيرة ـ في نمو المذاهب التي تقوم على أساس رفض الدين والإيمان والغيب ، والاعتماد بدلا عنها على أسس المادة والتجربة والإلحاد.

ولحسن الحظ لم تستمر هذه المرحلة طويلا ، إذا اجتمعت مجموعة عوامل وساعدت للقضاء على مثل هذه التصورات المنحرفة ، وكأنّ العذاب قد مسّهم عند ما ركبهم الغرور والعلو.

فمن ناحية أظهرت الحرب العالمية الأولى والثانية أنّ التقدم العلمي والصناعي قد جعل البشرية على حافة السقوط والدمار.

ومن ناحية ثانية ، فإنّ ظهور المفاسد الأخلاقية والاجتماعية والقتل والإبادة وأنواع الأمراض النفسية ، وسلسلة الاعتداءات المالية والجنسية ، كلّ ذلك كشف عن عجز العلوم وقصورها لوحدها عن بناء الحياة الإنسانية بشكل سليم صحيح.

من جانب ثالث ، عملت المساحات المجهولة في وعي الإنسان العلمي وقصوره عن الإحاطة بكافة أسباب الظواهر الطبيعية والحياتية إلى اعترافه بالعجز عن إدراك مطلق لأسباب المعرفة من خلال العلم وحده ، فعاد الكثير من العلماء إلى ساحة الإيمان وجادّة الدين ، وضعفت نوازع الدعاوى الإلحادية.

وفي المعترك الصعب هذا تألق الإسلام بتعليماته الشاملة والجامعة ، وبدأت موجات العودة نحو الإسلام الأصيل.

ونأمل أن تكون هذه اليقظة عميقة شاملة قبل أن يشمل البأس الإلهي مرّة اخرى أجزاء من هذا العالم ، ونأمل أن تزول آثار ذلك الغرور باسم العلم حتى لا يكون مدعاة للخسران الكبير.

اللهم احفظنا من الغرور ومن التكبر والعناد وحبّ الذات الذي يقودنا إلى الهلاك وسوء العاقبة والافتضاح.

٣٣٩

إلهي ، اهد المجتمعات البشرية في عصرنا الحاضر إلى ظل تعليمات أنبيائك ، قبل أن يشملهم بأسك الشديد أناس هذا العصر.

اللهم ، اجعلنا ممن يأخذ العبرة من مصير الأقوام السالفة لكي لا نمسي عبرة للآخرين

أمين رب العالمين

نهاية سورة المؤمن

* * *

٣٤٠
٣٤١

سورة

فصّلت

مكيّة

وعدد آياتها أربع وخمسون آية

٣٤٢

«سورة فصّلت»

نظرة في المحتوى العام للسورة :

سورة «فصلت» من السور المكية ، وهي بذلك لا تخرج في مضامينها الأساسية عن مثيلاتها ، بل تعكس في محتواها كامل خصائص السور المكّية ، من التأكيد على المعارف الإسلامية التي تتصل بالعقيدة وبالحساب والجزاء ، والوعيد والإنذار ، وبالبشرى للذين آمنوا.

لكن كون السورة مكّية لا يعني عدم اختصاصها بمواضيع معينة قد لا نجدها فيما سواها من السور القرآنية الأخرى.

بشكل عام يمكن الحديث عن محتويات السورة من خلال الخطوط العريضة الآتية :

أوّلا : التركيز على موضوع القرآن وما يتصل به من بحوث ، كالإشارة الصريحة إلى حاكمية القرآن في جميع الأدوار والعصور ، وصيانته من أيّ تحريف ، وقوّة منطقه وتماسكه بحيث رأينا أعداء الله يخشون حتى من الاستماع إلى آياته ، بل ويمنعون الناس من مجرّد الإنصات إليه.

الآيتان (٤١) و (٤٢) من السورة تتحدثان عن هذه النقطة بوضوح كامل ، إذ يقول تعالى :( وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) .

ثانيا : إثارة قضية خلق السماء والأرض ، خاصة ما يتعلق ببداية العالم الذي

٣٤٣

خلق من مادّة (الدخان) ثمّ مراحل نشوء الكرة الأرضية والجبال والنباتات الحيوانات.

ثالثا : ثمّة في السورة إشارات إلى عاقبة الأقوام المغرورين الأشقياء من الأمم السابقة ، مثل قوم عاد وثمود ، وهناك إشارة قصيرة إلى قصة موسىعليه‌السلام .

رابعا : تتضمّن السورة تهديد المشركين وإنذار الكافرين ، مع ذكر آيات القيامة وما يتعلق بشهادة أعضاء جسم الإنسان عليه ، وتوبيخ الله تبارك وتعالى لأمثال هؤلاء.

خامسا : تتناول السورة قسما من أدلة البعث والقيامة وخصوصياتهما.

سادسا : المواعظ والنصائح المختلفة التي تبعث في الروح الحياة من خلال الدعوة إلى الاستقامة في طريق الحق ، وتوجيه المؤمن نحو أسلوب التعامل المنطقي مع الأعداء وكيفية هدايتهم نحو الله.

سابعا : تنتهي السورة ببحث لطيف قصير عن آيات الآفاق والأنفس ، وتعود كرة اخرى إلى قضية المعاد.

فضيلة تلاوة السورة :

ورد في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من قرأ «حم السجدة» أعطي بكل حرف منها عشر حسنات»(١) .

وفي حديث آخر حول فضيلة قراءة هذه السورة ، قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «من قرأ «حم السجدة» كانت له نورا يوم القيامة مد بصره وسرورا ، وعاش في هذه الدنيا مغبوطا محمودا»(٢) .

وفي حدث عن «سنن البيهقي» أنّ «خليل بن مرّة» كان يقول : إنّ النّبي لم ينم

__________________

(١) مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة ، المجلد ٩ ، صفحة ٢.

(٢) مجمع البيان مطلع الحديث عن السورة ، المجلد ٩ ، صفحة ٢.

٣٤٤

ليلة من الليالي قبل أن يقرأ سورتي «تبارك» و «حم السجدة».(١)

وطبيعي أنّ هذه السورة المباركة بكل ما تتضمّن في مضامينها العالية من أنوار ومعارف ومواعظ إنّما تكون مؤثرة فيما لو تحولت تلاوتها إلى نور ينفذ إلى أعماق النفس ، فتتحول في حياة الإنسان المسلم إلى دليل من نور يقوده في يوم القيامة نحو الصراط والخلاص ، لأنّ التلاوة مقدمة للتفكير ، والتفكير مقدمة للعمل. إنّ تسمية السورة بـ «فصلت» مشتق من الآية الثّالثة فيها. وإطلاق «حم السجدة» عليها لأنّها تبدأ بـ «حم» والآية (٣٧) فيها هي آية السجدة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، ص صفحة ٨٤.

٣٤٥

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) )

التّفسير

عظمة القرآن :

تذكر الرّوايات أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يكف عن عيب آلهة المشركين ، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون : هذا شعر محمّد. ويقول بعضهم : بل هو كهانة. ويقول بعضهم : بل هو خطب.

وكان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا ، وكان من حكّام ، العرب يتحاكمون إليه في الأمور ، وينشدونه لأشعاره فما اختاره من الشعر كان مختارا ، وكان له بنون لا يبرحون من مكّة ، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتجر بها ، وملك القنطار في ذلك الزمان (القنطار : جلد ثور مملوء ذهبا) وكان من المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٤٦

وفي يوم سأل أبو جهل الوليد بن المغيرة قائلا له :

يا أبا عبد شمس ، ما هذا الذي يقول محمّد؟ أسحر أم كهان أم خطب؟

فقال : دعوني أسمع كلامه ، فدنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جالس في الحجر ، فقال : يا محمّد أنشدني من شعرك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هو بشعر ، ولكنّه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال : اتل عليّ منه.

فقرأ عليه رسول الله( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فلمّا سمع (الوليد) الرحمن استهزأ فقال : تدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن ، قال : لا ، ولكني أدعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم.

ثم افتتح سورة «حم السجدة» ، فلمّا بلغ إلى قوله تعالى :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) فلمّا سمعه اقشعر جلده ، وقامت كلّ شعرة في رأسه ولحيته ، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش : يا أبا الحكم ، صبأ أبو عبد شمس إلى دين محمّد ، أما تراه لم يرجع إلينا؟ وقد قيل قوله ومضى إلى منزله ، فاغتمت قريش من ذلك غما شديدا.

وغدا عليه أبو جهل فقال : يا عم ، نكست برؤوسنا وفضحتنا.

قال : وما ذلك يا ابن أخ؟

قال : صبوت إلى دين محمّد.

قال : ما صبوت ، وإني على دين قومي وآبائي ، ولكني سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود.

قال أبو جهل : أشعر هو؟

قال : ما هو بشعر.

قال : فخطب هي؟

قال : إن الخطب كلام متصل ، وهذا كلام منثور ، ولا يشبه بعضه بعضا ، له

٣٤٧

طلاوة.

قال : فكهانة هي؟

قال : لا.

قال : فما هو؟

قال : دعني أفكّر فيه.

فلمّا كان من الغدو قالوا : يا أبا عبد شمس ما تقول؟

قال : قولوا هو سحر ، فإنّه آخذ بقلوب الناس ، فأنزل الله تعالى فيه :( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً ) إلى قوله :( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) (١) (٢) .

إنّ هذه الرّواية الطويلة تكشف بوضوح مدى تأثير آيات هذه السورة ، بحيث أنّ أكثر المتعصبين من مشركي مكّة أبدى تأثره بآياتها ، وذلك يظهر جانبا من جوانب العظمة في القرآن الكريم.

نعود الآن إلى المجموعة الأولى من آيات هذه السورة المباركة ، التي تطالعنا بالحروف المقطعة في أوّلها( حم ) .

لقد تحدثنا كثيرا عن تفسير هذه الحروف ، ولا نرى حاجة للإعادة سوى أنّ البعض اعتبر( حم ) اسما للسورة. أو أنّ (ح) إشارة إلى «حميد» و (م) إشارة إلى «مجيد» وحميد ومجيد هما من أسماء الله العظمى.

ثم تتحدث عن عظمة القرآن فتقول :( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) .

إنّ «الرحمة العامة» و «الرحمة الخاصة» لله تعالى هما باعث نزول هذه الآيات الكريمة التي هي رحمة للعدو والصديق. ولها بركات خاصة للأولياء.

__________________

(١) المدثر ، الآية ١١ ـ ٣٠.

(٢) بحار الأنوار ، المجلد ١٧ ، صفحة ٢١١ فما فوق ، ويمكن ملاحظة القصة في كتب اخرى منها : تفسير القرطبي في مطلع حديثه عن السورة. المجلد الثامن ، صفحة ٥٧٨٢.

٣٤٨

في الواقع إنّ الرحمة هي الصفة البارزة لهذا الكتاب السماوي العظيم ، التي تتجسّد من خلال آياته العطرة التي تفوح بشذاها ونورها فتضيء جوانب الحياة ، وتسلك بالإنسان مسالك النجاة والرضوان.

بعد التوضيح الاجمالي الذي أبدته الآية الكريمة حول القرآن ، تعود الآيات التالية إلى بيان تفصيلي حول أوصاف هذا الكتاب السماوي العظيم ، وذكرت له خمسة صفات ترسيم الوجه الأصلي للقرآن :

فتقول أوّلا : إنّه كتاب ذكرت مطاليبه ومواضيعه بالتفصيل كلّ آية في مكانها الخاص ، بحيث يلبّي احتياجات الإنسان في كلّ المجالات والأدوار والعصور ، فهو :( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ ) (١) .

وهو كتاب فصيح وناطق( قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

وهذا الكتاب بشير للصالحين نذير للمجرمين :( بَشِيراً وَنَذِيراً ) إلّا أنّ أكثرهم :( فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) (٢) .

بناء على ذلك فإنّ أول خصائص هذا الكتاب هو أنّه يتضمّن في تشريعاته وتعاليمه كلّ ما يحتاجه الإنسان وفي جميع المستويات ، ويلبي ميوله ورغباته الروحية.

الصفة الثانية أنّه متكامل ، لأنّ «قرآن» مشتق من القراءة ، وهي في الأصل بمعنى جمع أطراف وأجزاء الكلام.

الصفة الثّالثة تتمثل بفصاحة القرآن وبلاغته ، حيث يذكر الحقائق بدقّة بليغة دون أي نواقص. وفي نفس الوقت يعكسها بشكل جميل وجذّاب.

الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم ، عن طريق أسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب ، فآية تقوم بتشويق

__________________

(١) «كتاب» خبر بعد الخبر ، وبهذا الترتيب فإنّ «تنزيل» خبر لمبتدأ محذوف و «كتاب» خبر بعد الخبر.

(٢) «لقوم يعلمون» يمكن أن تكون متعلقة بـ «فصلت» أو بـ «تنزيل».

٣٤٩

الصالحين والمحسنين بحيث أنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في أشواق الملكوت والرحمة. وأحيانا تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد.

إنّ هذين الأصلين التربويين (الترغيب والتهديد) متلازمان في الآيات القرآنية ومترابطان في أسلوبه.

ومع ذلك فإنّ المتعصبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل ، وكأنّهم لا يسمعونها أبدا بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية ، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق ، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني.

وهؤلاء ـ كمحاولة منهم لثني الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن دعوته ، وايغالا منهم في الغي وفي زرع العقبات ـ يتحدثون عند رسول الله بعناد وعلو وغرور حيث يحكي القرآن عنهم :( وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ) .

ما دام الأمر كذلك فاتركنا وشأننا ، فاعمل ما شئت فإننا عاكفون على عملنا :( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) .

حال هؤلاء كحال المريض الأبله الذي يهرب من الطبيب الحاذق ، ويحاول أن يبعد نفسه عنه بشتى الوسائل والأساليب.

إنّهم يقولون : إنّ عقولنا وأفكارنا موضوعة في علب مغلقة بحيث لا يصلها شيء.

«أكنّة» جمع «كنان» وتعني الستار. أي أن الأمر لا يقتصر هنا على ستار واحد ، بل هي ستائر من العناد والتقليد الأعمى ، وأمثال ذلك ممّا يحجب القلوب ويطبع عليها.

وقالوا أيضا : مضافا إلى أنّ عقولنا لا تدرك ما تقول ، فإنّ آذاننا لا تسمع لما

٣٥٠

تقول أيضا ، وهي منهم إشارة إلى عطل المركز الأصلي للعمل والوسائل المساعدة الأخرى.

وبعد ذلك ، فإن بيننا وبينك حجاب سميك ، بحيث حتى لو كانت آذاننا سالمة فإننا لا نسمع كلامك ، فلما ذا ـ إذا ـ تتعب نفسك ، لماذا تصرخ ، تحزن ، تقوم بالدعوة ليلا ونهارا؟ اتركنا وشأننا فأنت على دينك ونحن على ديننا.

هكذا بمنتهى الوقاحة والجهل ، يهرب الإنسان بهذا الشكل الهازل عن جادة الحق.

والطريف أنّهم لم يقولوا : «وبيننا وبينك حجاب» بل أضافوا للجملة كلمة «من» فقالوا :( وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ) وذلك لبيان زيادة التأكيد ، لأنّ بزيادة هذه الكلمة يصبح مفهوم الجملة هكذا : إنّ جميع الفواصل بيننا وبينك مملوءة بالحجب ، وطبيعي أن يكون حجاب مثل هذا سميكا عازلا للغاية ليستوعب كلّ الفواصل بين الطرفين ، وبذلك سوف لا ينفع الكلام مع وجود هذا الحجاب.

وقد يكون الهدف من قول المشركين :( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) محاولتهم زرع اليأس عند النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو قد يكون المراد نوعا من التهديد له ، أي اعمل ما تستطيعه ونحن سوف نبذل ما نستطيع ضدّك وضدّ دينك ، والتعبير يمثل منتهى العناد والتحدي الأحمق للحق ولرسالاته.

* * *

٣٥١

الآيات

( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) )

التّفسير

من هم المشركون؟

الآيات التي بين أيدينا تستمر في الحديث عن المشركين والكافرين ، وهي في الواقع إجابة لما صدر عنهم في الآيات السابقة ، وإزالة لأي وهمّ قد يلصق بدعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول تعالى لرسوله الكريم :( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) .

فلا أدّعي أنّي ملك ، ولست إنسانا أفضل منكم ، ولست بربّكم ، ولا ابن الله بل أنا إنسان مثلكم ، وأختلف عنكم بتعليمات التوحيد والنبوّة والوحي ، لا أريد أن

٣٥٢

أفرض عليكم ديني حتى تقفوا أمامي وتقاوموني أو تهددونني ، لقد أوضحت لكم الطريق ، وإليكم يعود التصميم والقرار النهائي.

ثمّ تستمر الآية :( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) (١) .

ثمّ تضيف الآية محذّرة :( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ) .

الآية التي تليها تقوم بتعريف المشركين ، وتسلّط الضوء على جملة من صفاتهم وتختص هذه الآية بذكرها ، حيث يقول تعالى :( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .

إنّ هؤلاء يعرفون بأمرين : ترك الزكاة ، وإنكار المعاد.

لقد أثارت هذه الآية كلاما واسعا في أوساط المفسّرين ، وذكروا مجموعة احتمالات تفي تفسيرها ، والسبب في كلّ ذلك هو أنّ الزكاة من فروع الدين ، فكيف يكون تركها دليلا على الكفر والشرك؟

البعض أخذ بظاهر الآية وقال : إنّ ترك الزكاة يعتبر من علائم الكفر ، بالرغم من عدم تلازمه مع إنكار وجوبه.

البعض الآخر اعتبر الترك مع تلازم الإنكار دليلا على الكفر ، لأنّ الزكاة من ضروريات الإسلام ومنكرها يعتبر كافرا.

وقال آخرون : الزكاة هنا بمعنى التطهير والنظافة ، وبذلك يكون المقصود بترك الزكاة ، ترك تطهير القلب من لوث الشرك ، كما جاء في الآية (٨١) من سورة الكهف في قوله تعالى :( خَيْراً مِنْهُ زَكاةً ) .

إلّا أنّ كلمة (لا يؤتون) لا تناسب المعنى أعلاه ، لذلك يبقى الإشكال على حاله.

__________________

(١) «فاستقيموا» مأخوذة من «الاستقامة» وهي هنا بمعنى التوجه بشكل مستقيم نحو شيء معين ، لذا فإنها تعدت بواسطة الحرف (إلى) لأنّها تعطي مفهوم (استواء).

٣٥٣

لذلك لا يبقى من مجال سوى أن يكون المقصود منها هو أداء الزكاة.

المشكلة الأخرى التي تواجهنا هنا ، هي أن الزكاة شرّعت في العام الثّاني من الهجرة المباركة ، والآيات التي بين أيدينا مكية ، بل يذهب بعض كبار المفسّرين إلى أنّ سورة «فصلت» هي من أوائل السور النازلة في مكّة ، لذلك كلّه ـ وبغية تلافي هذه المشكلة ـ فسّر المفسّرون الزكاة هنا بأنها نوع من الإنفاق في سبيل الله ، أو أنّهم تأولوا المعنى بقولهم : إنّ أصل وجوب الزكاة نزل في مكّة ، إلّا أنّ حدودها ومقدارها والنصاب الشرعي لها نزل تحديده في العام الثّاني من الهجرة المباركة.

يتبيّن من كلّ ما سلف أنّ أقرب مفهوم لمقصود الزكاة في الآية هو المعنى العام للإنفاق ، أما كون ذلك من علائم الشرك ، فيكون بسبب أنّ الإنفاق المالي في سبيل الله يعتبر من أوضح علامات الإيثار والحب لله ، لأنّ المال يعتبر من أحبّ الأشياء إلى قلب الإنسان ونفسه ، وبذلك فإنّ الإنفاق ـ وعدمه ـ يمكن أن يكون من الشواخص الفارقة بين الإيمان والشرك ، خصوصا في تلك المواقف التي يكون فيها المال بالنسبة للإنسان أقرب إليه من روحه ونفسه ، كما نرى ذلك واضحا في بعض الأمثلة المنتشرة في حياتنا.

بعبارة اخرى : إنّ المقصود هنا هو ترك الإنفاق الذي يعتبر أحد علامات عدم إيمانهم بالخالق جلّ وعلا ، والأمر من هذه الزاوية بالذات يقترن بشكل متساوي مع عدم الإيمان بالمعاد ، أو يكون ترك الزكاة ملازما لإنكار وجوبه.

وثمّة ملاحظة اخرى تساعد في فهم التّفسير ، وهي أنّ الزكاة لها وضع خاص في الأحكام والتعاليم الإسلامية ، وإعطاء الزكاة يعتبر علامة لقبول الحكومة الإسلامية والخضوع لها ، وتركها يعتبر نوعا من الطغيان ولمقاومة في وجه الحكومة الإسلامية ، ونعرف أنّ الطغيان ضدّ الحكومة الإسلامية يوجب الكفر.

والشاهد على هذا المطلب ما ذكره المؤرخون من «اصحاب الرّدة» وأنّهم من

٣٥٤

«بني طي» و «غطفان» و «بني اسد» الذين امتنعوا عن دفع الزكاة لعمال الحكومة الإسلامية في ذلك الوقت ، وبهذا رفعوا لواء المعارضة فقاتلهم المسلمون وقضوا عليهم.

صحيح أنّ الحكومة الإسلامية لم يكن لها وجود حين نزول هذه الآية ولكن هذه الآية يمكنها أن تكون إشارة مجملة الى هذه القضية.

وقد ذكر في التواريخ أن أهل الردّة قالوا بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا الصلاة فنصلي ، وأمّا الزكاة فلا يغصب أموالنا» وهكذا رأى المسلمون ضرورة قتالهم وقمع الفتنة.

الآية الأخيرة تقوم بتعريف مجموعة تقف في الجانب المقابل لهؤلاء المشركين البخلاء ، وتتعرض إلى جزائهم حيث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) .

«ممنون» مشتق من «منّ» وتعني هنا القطع أو النقص ، لذا فإنّ غير ممنون تعني هنا غير مقطوع أو منقوص.

وقيل إنّ مصطلح «منون» ـ على وزن «زبون» ـ ويعني الموت مشتق من هذه المفردة ، وكذلك المنّة باللسان ، لأنّ الأوّل يعني القطع ونهاية العمر ، بينما الثاني يعني قطع النعمة والشكر(١) .

وذهب بعض المفسّرين إلى القول بأنّ المقصود بـ( غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أنّه لا توجد أيّ منّة على المؤمنين فيما يصلهم من أجر وجزاء وعطاء. لكن المعنى الأوّل أنسب.

* * *

__________________

(١) يلاحظ مادة «من» في مفردات الراغب.

٣٥٥

ملاحظة

الأهمية الاستثنائية للزكاة في الإسلام :

الآية أعلاه تعتبر تأكيدا مجدّدا وشديدا حول أهمية الزكاة كفريضة إسلامية ، سواء كانت بمعنى الزكاة الواجبة أو بمفهومها الواسع ، وينبغي أن يكون ذلك ، لأنّ الزكاة تعتبر أحد الأسباب الرئيسية لتحقيق العدالة الاجتماعية ، ومحاربة الفقر والمحرومية ، وملء الفواصل الطبقية ، بالإضافة إلى تقوية البنية المالية للحكومة الإسلامية ، وتطهير النفس من حبّ الدنيا وحبّ المال ، والخلاصة : إنّ الزكاة وسيلة مثلي للتقرب إلى الله تبارك وتعالى :

وقد ورد في الروايات الإسلامية أن ترك الزكاة يعتبر بمنزلة الكفر ، وهو تعبير يشبه ما ورد في الآية التي نحن بصددها.

وفي هذا المجال نستطيع أن نقف مع الأحاديث الآتية :

أوّلا : في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ من وصايا رسول الله لأمير المؤمنين على بن أبي طالب قوله له : «يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأئمّة عشرة ، وعدّ منهم مانع الزكاة ثمّ قال : يا علي من منع قيراطا من زكاة ماله فليس بمؤمن ولا مسلم ولا كرامة ، يا علي : تارك الزكاة يسأل الله الرجعة إلى الدنيا ، وذلك قولهعزوجل :( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) ١) .

ثانيا : في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهعزوجل فرض للفقراء في أموال الأغنياء فريضة لا يحمدون إلا بأدائها ، وهي الزكاة ، بها حقنوا دماءهم وبها سموا مسلمين»(٢) .

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد السادس ، الصفحات ١٨ و ١٩ «باب ثبوت الكفر والارتداد والقتل بمنع الزكاة استحلالا وجحودا» وقد اعتبر بعض الفقهاء كصاحب الوسائل مثلا ، أنّ الروايات أعلاه تختص بإنكار الزكاة.

(٢) المصدر السابق.

٣٥٦

ثالثا : أخيرا نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «من منع قيراطا من الزكاة فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا»(١) .

وتقدم بحث مفصل عن أهمية الزكاة في الإسلام وفلسفتها وتأريخ وجوب الزكاة في الإسلام ، وكل ما يتعلق بها من أمور ، في تفسير الآية (٦٠) من سورة التوبة.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٥٧

الآيات

( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) )

التّفسير

مراحل خلق السماوات والأرض :

الآيات أعلاه نماذج للآيات الآفاقية ، وعلائم العظمة ، وقدرة الخلق جلّ وعلا في خلق الأرض والسماء ، وبداية خلق الكائنات ، حيث يأمر تعالى النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمخاطبة الكافرين والمشركين وسؤالهم : هل يمكن إنكار خالق هذه

٣٥٨

العوالم الواسعة العظيمة؟

لعلّ هذا الأسلوب يوقظ فيهم إحساسهم ووجدانهم فيحتكمون للحق.

يقول تعالى :( قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) وتجعلون لله تعالى شركاء ونظائر :( وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) .

إنّه لخطأ كبير ، وكلام يفتقد إلى الدليل.( ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) .

إنّ الذي يدبّر أمور هذا العالم ، أليس هو خالق السماء والأرض؟ فإذا كان سبحانه وتعالى هو الخالق ، فلما ذا تعبدون هذه الأصنام وتجعلونها بمنزلته؟!

إنّ الذي يستحق العبادة هو الذي يقوم بالخلق والتدبير ، ويملك هذا العالم ويحكمه.

الآية التي تليها تشير إلى خلق الجبال والمعادن وبركات الأرض والمواد الغذائية ، حيث تقول :( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) وهذه المواد الغذائية هي بمقدار حاجة المحتاجين :( سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) (١) .

وبهذا الترتيب فإنّ تبارك وتعالى قد دبّر لكلّ شيء قدره وحاجته ، وليس ثمّة في الوجود من نقص أو عوز ، كما في الآية (٥٠) من سورة «طه» حيث قوله تعالى :( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى ) .

المقصود من «السائلين» هنا هم الناس ، أو أنّها تشمل بشكل عام الإنسان والحيوان والنبات [وإذا ذكرت بصيغة الجمع للعاقب فهي من باب التغليب].

ووفق هذا التّفسير فإنّ الله تعالى لم يحدّد احتياجات الإنسان لوحده منذ البداية وحسب ، وإنّما فعل ذلك للحيوانات والنباتات أيضا.

__________________

(١) هناك احتمالات متعدّدة حول محل (سواء) و (للسائلين) من الأعراب وبما تختص.

الأوّل : أنّ (سواء) حال بـ (أقوات) و (للسائلين) متعلق بـ (سواء) وتكون النتيجة هي التّفسير الذي أوردناه أعلاه.

الثّاني : أنّ (سواء) صفة للأيام ، يعني أنّ هذه المراحل الأربع تتساوى فيما بينها. وأما (للسائلين) فإما أن تتعلق بـ (قدر) أو بمحذوف ويكون التقدير (كائنة للسائلين) يعني أنّ الأيّام الأربع هذه تعتبر جوابا للسائلين. لكن التّفسير الأوّل أوضح.

٣٥٩

وهنا يثار هذا السؤال : تذكر الآيات القرآنية ـ أعلاه ـ أنّ خلق الأرض تمّ في يومين ، وخلق الجبال والبركات والطعام في أربعة أيّام. وبعد ذلك خلق السماوات في يومين ، وبذا يكون المجموع ثمانية أيّام ، في حين أن أكثر من آية في كتاب الله تذكر أنّ خلق السماوات والأرض تمّ في ستة أيّام ، أو بعبارة اخرى : في ستة مراحل(١) ؟

سلك المفسّرون طريقان في الإجابة على هذا السؤال :

الطريق الأوّل : وهو المشهور المعروف ، ومفاده أنّ المقصود بأربعة أيّام هو تتمة الأربعة أيّام ، بأن يتم في اليومين الأولين من الأربعة خلق الأرض ، وفي اليومين الآخرين خلق باقي خصوصيات الأرض. مضافا إلى ذلك اليومين لخلق السماوات ، فيكون المجموع ستة أيّام أو ست مراحل.

وشبيه ذلك ما يرد في اللغة العربية من القول مثلا بأنّ المسافة من هنا إلى مكّة يستغرق قطعها عشرة أيّام ، وإلى المدينة المنورة (١٥) يوما ، أي إنّ المسافة بن مكّة والمدينة تكون خمسة أيام ومن هنا إلى مكّة عشرة أيّام(٢) .

وهذا التّفسير صحيح لوجود مجموعة الآيات التي تتحدث عن الخلق في ستة أيّام ، وإلّا ففي غير هذه الحالة لا يمكن الركون له ، من هنا تتبين أهمية ما يقال من أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا.

الطريق الآخر الذي اعتمده المفسّرون للإجابة على الإشكال أعلاه هو قولهم : إنّ أربعة أيّام لا تختص ببداية الخلق ، بل هي إشارة إلى الفصول الأربعة للسنة ، والتي هي بداية ظهور الأرزاق ونمو المواد الغذائية التي تنفع الإنسان

__________________

(١) يمكن مراجعة الآيات (٥٤) من سورة الأعراف و (٣) من سورة هود و (٥٩) من سورة الفرقان و (٤) من سورة السجدة و (٣٨) سورة ق و (٤) من سورة الحديد.

(٢) في ضوء هذا التفسير يكون للآية تقديرها بالصيغة الآتية وقدّر فيها أقواتها في تتمة أربعة أيّام أو يكون التقدير كما جاء في تفسير «الكشاف» : «كل ذلك في أربعة أيّام».

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607