الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182985 / تحميل: 6273
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

* بما أنَّ الكتب الأربعة هي أكثر كتبنا الجامعة للروايات قيمةً، وهناك اختلاف كبير في نصوص الروايات في نسخها المختلفة، وهذا الاختلاف يغير المعنى في كثير من موارده، فإلى أيِّ حدٍّ يمكن إصدار الفتوى اعتمادا ًعلى ألفاظ الروايات؟

الشيخ النوري: أنا لا أعتقد بذلك، فلم تكن جميع الكتب المتداولة آنذاك موجودة لدى الكليني والصدوق. ففي التهذيب روايات لا توجد في الكافي للكليني، مع أنَّ المدة الفاصلة بينهما هي مئة وثلاثون عاماً، وقد استغرق الكليني عشرين عاماً في كتابة الكافي. كما أنَّ هناك روايات في(مَن لا يحضره الفقيه) غير موجودة في الكافي، طبعاً الاستبصار أيضاً فيه روايات غير موجودة في التهذيب. فإذا وجد اختلاف في النص الخبري، كان الكافي أكثر ضبطاً من الآخرين، هذا إذا كان الخبر منقولاً لدى الثلاثة. مثل:(مَن حدَّد) و(مَن حدَّث) وعندها يقدِّمون الكليني.

* في باب الشهادة يقولون: يجب أن تكون الشهادة عن حسّ، وعندئذ تكون حُجَّة، بخلاف الشهادة عن حدس. فإذا كانت الشهادة عن حسٍ وحدها الحُجَّة، فكيف تُسوِّغ شهادة عظماء من أمثال: النجاشي، والكشي، والشيخ الطوسي، والعلاَّمة الحلِّي وآخرين، عن أصحاب النبي والأئمة (صلوات الله عليهم)؟

الشيخ النوري: هذا البحث مطروح في علم الرجال، وهو: هل أنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين، مثل: النجاشي، والكشي، والشيخ الطوسي، والعلاَّمة وغيرهم، هو من باب الشهادة، أو أنَّه من باب الرجوع إلى الخبرة وأهل الفن؟ لأنَّهم كانوا من فحول علم الرجال، وفطاحل فيه.

فإذا كان الرجوع إلى قول الرجالي من باب الشهادة، كانت عدالة الشاهد لازمة، وأحياناً يُؤخذ التعدُّد أيضاً بنظر الاعتبار، لكن إذا كان من باب الرجوع إلى الخبرة أيضاً؛ ذلك لأنَّ المعيار والميزان في الرجوع إلى ذي الخبرة هو الاطمئنان. نعم، من حيث المهارة والتخصُّص، لا بد من أن يكون في مستوى يجعل قوله مطمئَناً، كالاعتماد على الطبيب الماهر والمتخصِّص حتى لو لم يكن مسلماً، وكمراجعة المقوِّم ليعيِّن قيمة البضاعة.

١٢١

صاحبالمعالم يعتقد أنَّ الراوي الذي يشكِّل قوله حُجَّة هو الذي يزكِّيه عدلان. فهو يرى أنَّ الخبر الصحيح هو ما أخبر به الراوي العادل؛ لأنَّه يرى أن حُجِّـيَّة قول الرجالي تكون من باب الشهادة.

وفي مقابل ذلك، فإنَّ آية الله العظمى البروجردي يرى أنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين هو من باب الرجوع إلى أهل الخبرة والفن، فيقول: إنَّ النجاشي والكشي وغيرهما، صاروا خبراء في معرفة رجال الحديث لكثرة ممارستهم في تراجم الرجال، وقرب زمانهم من زمان رواة الحديث، ومن القرائن الموجودة لديهم، وبما أنَّ الميزان هو حصول الاطمئنان، لهذا فإنَّ ما نقله أولئك العظماء، يبعث على الاطمئنان لخبرتهم.

* استناداً إلى ما مرَّ، فإنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين هو من باب رجوع العقلاء إلى أهل الفن والخبرة. وهنا يطرح سؤال آخر، وهو: إذا كان الرجوع إلى أقوال الرجاليين من باب رجوع العقلاء إلى أهل الفن والخبرة، عندئذٍ ينبغي ألاَّ نُفرِّق بين شهادة الرجاليين، أي أنَّه لا ينبغي أن يكون هناك فرق بين شهادة العلاَّمة والنجاشي؛ لأنَّ كليهما من أهل الفن في معرفة الرجال؟

الشيخ النوري: رغم أنَّ الرجوع إلى أقوال الرجاليين هو من باب الرجوع إلى إلى الفن والخبرة، فإنَّ الكلام هو في تفاوت الخبرات، وهل يُميَّز ويُرجَّح قول بعضهم على بعضهم الآخر أو لا؟ بطبيعة الحال الإجابة بالإثبات؛ لأنَّ للخبراء مراتب، كما أنَّ للعلم والظن مراتب. فقول أمثال النجاشي يعطي اطمئناناً أكثر.

١٢٢

* هل المعيار في باب جرح الراوي وتعديله أمر تعبُّدي أو عقلائي؟ وإذا كان عقلائياً، فهل يمكن تخطِّي المعيار المذكور في كُتب الرجال؟ وإذا كان التعدِّي أمراً جائزاً - كما يقول الشيخ في المعيار في باب التعادل والتراجيح - فما تفسير الجمود على الشهادة والثقة؟

الشيخ النوري: ظاهراً ليس هذا بأمر تعبُّدي؛ لأنَّ المعيار في حُجِّـيَّة خبر الواحد هو رأي العقلاء، ورأي العقلاء في الحياة هو العمل بأيِّ خبرٍ يُوجب حصول الاطمئنان، واعتباره حُجَّة. والحُجَّة هي ما يحتج به العبد على مولاه وبالعكس، فإذا خالف العبد احتج عليه المولى أنْ لماذا خالفتْ؟

فالعقلاء بنوا على أساس أنَّ خبر الثقة حُجَّة، لهذا إذا تعارض خبران أو أكثر نرجِّح الأكثر إثارةً للاطمئنان.

* ما هو تفسير الجمود على ألفاظ الرجاليين في الشهادة والتوثيق؟ فهناك أشخاص مثل إبراهيم بن هاشم الذي قيل فيه: (إنَّه أول مَن نشر حديث الكوفيِّين في قم)، لكن الرجاليين لا يشهدون بأنَّه ثقة، فهل يكفي ذلك لنفي صحَّة أحاديثه؟

الشيخ النوري: هنا توجد عدة أمور: الشهادة ليست ميزاناً، بل الرجوع إلى أهل الخبرة هو الميزان، وبتعبير المناطقة: هناك (كبرى) و(صغرى). الكبرى، هي:كل خبر يبعث على الاطمئنان حسب رأي العقلاء ، والصغرى، هي:الخبر الذي يكون راويه عادلاً وإمامياً وصحيحاً . وإذا لم يكن راويه عدلاً إمامياً، بل كان فطحياً وناووسياً وواقفياً، وكان خبره يوجب الاطمئنان فهو حُجَّة. فالعدالة ليست مِلاكاً، بل الوثاقة هي المعيار.

١٢٣

إذاً، فكل خبر كان قول راويه موجباً للاطمئنان فهو حُجَّة. وفي تقسيم الأحاديث إلى أربع: (صحيح، موثَّق، حسن، ضعيف) لا يُعَد امتداحه فقط مِلاكاً، بل يُلحظ أيضاً كونه غير كذَّاب. لهذا فالصحيح والموثَّق يوجبان الاطمئنان، لكن كونه حسناً لا يوجب الاطمئنان؛ أي كونه إمامياً ممدوحاً، لا يوجب الوثوق، بل لا بد من حصول الاطمئنان أيضاً؛ لهذا فإنَّ الوثوق محدود في صحته وكونه موثَّقاً، أي أن يكون عادلاً أو ثقة. لهذا إذا كان الخبر في أعلى درجات الضعف، لكن فقهاءنا يعملون به، نكتشف أن هناك قرائن وجدها الفقهاء جعلتهم يطمئنُّون لصدور الخبر، ولهذا عملوا به.

نعم، كان المرحوم السيد الخوئي يشترط وثاقة الراوي من دون غيرها من القرائن، كعمل الفقهاء. أمَّا آية الله البروجردي، فكان يعتقد أنَّ الوثوق بصدور الخبر كافٍ؛ لهذا إذا كان الخبر في أعلى درجات الصحة، لكن أعرض عنه الأصحاب، فإنَّه كان لا يعمل به؛ لأنَّه لا يوجب الوثوق.

والأساس الذي قام عليه رأي السيد الخوئي هو قوله بموضوعية العدالة والثقة، بينما نرى نحن أنَّ المعيار هو حكم العقلاء بكفاية الوثاقة بمضمون الخبر حتى لو كان راويه ضعيفاً.

أمَّا إبراهيم بن هاشم، فالمرحوم البروجردي كان يقول: إنَّه يرفض قول النجاشي أو الكشي عنه من أنَّه: (أول مَن نشر حديث الكوفيين)؛ لأنَّ قم كانت مركز العلماء، وقد انتشرت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام فيها قبل إبراهيم بن هاشم. فالقمِّـيُّون كانوا يتردَّدون على الأئمة في زمان الإمام الباقرعليه‌السلام ، وكانوا رواة للحديث قبل إبراهيم بن هاشم. فطبق التقسيم الذي وضعه آية الله البروجردي كان إبراهيم بن هاشم من الطبقة السابعة، والكليني في الطبقة التاسعة، وعلي بن إبراهيم في الطبقة الثامنة، وعبد الله بن مسكان وحماد بن عثمان في الطبقة الخامسة، وأبي نصير بن البزنطي في الطبقة السادسة. وبما أنَّ أهل الطبقتين الخامسة والسادسة كانوا يتردَّدون على الأئمة المعصومينعليهم‌السلام في المدينة والكوفة؛ لذا لا يمكن القول: إنَّ أول من نشر حديث الكوفيين في قم هو إبراهيم بن هاشم.

١٢٤

من ناحية أخرى، فإنَّ جميع الروايات التي نقلها إبراهيم بن هاشم معروفة، وقد ذكرته في كتابي(الطبقات والثقات) الذي ألَّفته في زمان المرحوم البروجردي.

الأمر الآخر هو أنَّ روايات إبراهيم بن هاشم صحيحة، فالمرحوم بحر العلوم أثبت في كتابالفوائد الرجالية - الذي كان البروجردي مهتمَّاً به - أنَّ إبراهيم بن هاشم هو عادل إمامي. كما أثبت السيد الداماد في كتابالرواشح السماوية أنَّ إبراهيم بن هاشم كان من العدول.

* سماحة الشيخ تجليل، نظراً للعلاقة التي كانت لسيادتك بآية الله العظمى البروجردي، وكونك من أصحاب الرأي والدراية في بحث الرجال، ولك مؤلَّفات فيه، نسألك: إلى أيِّ حدٍّ كان المرحوم السيد البروجرديقدس‌سره يولي علم الرجال أهمية وقيمة بوصفه مقدِّمةً للاستنباط الشَّرعي؟

الشيخ تجليل: كان المرحوم العلاّمة البروجردي يستخدم أسلوباً خاصاً في الاستنباط، على خلاف ما هو متعارف حالياً بين الفقهاء؛ حيث يأتون بالروايات ويجرِّحون فيها ويعدِّلونها، ثُمَّ يقبلون بعضها ويرفضون بعضها الآخر. فقد كان ينظر في جميع الروايات، ويؤكِّد على وجود عدَّة روايات حول أيِّ موضوع، فتعدُّد الأحاديث في موضوع ما يوجب عنده الاعتماد عليه. فأحياناً تصل الروايات إلى حد التواتر، فتفيد القطع، وقد لا تبلغ حد التواتر، بل توجب الوثوق، حيث المعيار في حُجِّـيَّة خبر الثقة هو الوثوق أيضاً. وعندما يحصل الوثوق من جميع النواحي يصبح حُجَّة، فتعدُّد النقل وكثرته لحديث ما تفيد الوثوق عنده.

لهذا كان أسلوبه هو حساب عدد الروايات في كل مسألة، ثم إرجاع الروايات بعضها إلى بعضها الآخر؛ ليعرف هل هناك عشر روايات في هذا الموضع حقيقة أو لا، وسأتحدث في ما بعد عن طريقة استنباطه.

١٢٥

فمن الناحية الرجالية، كان يولي تحديد الأسانيد المعلولة أهمية، والأسانيد المعلولة تُعرف إشكالاتها بالرجوع إلى طبقات الرجال؛ يعني إذا أخذت سنداً من كتابوسائل الشيعة ، ثُمَّ ترجع إلى علم الرجال، تجد أنَّ كل رواته ثقاة، لكنَّه كان يقول: كلاّ، السند غير صحيح؛ لأنَّ هذين الرجلين لا يمكنهما نقل الحديث عن بعضهما، لأنَّهما من طبقتين مختلفتين، فهذا السند معلول رغم أنَّ رواته ثقات.

* يعني يجب أن يكون الراوي والمروي عنه من طبقة واحدة؟

الشيخ تجليل: نعم، يجب أن تكون الطبقات متلائمة مع بعضها. وعندما لا يمكن أن ينقل راويان عن بعضهما لاختلاف طبقتيهما، يظهر عندها أنَّه سقط اسم أحد الرواة بين هذين الاثنين، ومَن هو الذي أسقط؟ لا يُعلم ذلك. هنا يتدخَّل علم الرجال بوصفه مقدِّمة للاستنباط.

* ما هو إبداع السيِّد البروجردي الخاص في علم الرجال؟

الشيخ تجليل: إبداعه كان في الطبقات؛ لأنَّنا لم نكن نمتلك ترتيباً لطبقات الرجال بهذه الصورة. طبعاً كان لدينا في هذا المجال كتاب رجال الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه)؛ حيث كان له كتابالفهرست ، وكتابالرجال، ورجال الشيخ الطوسي مشابه لهذا العمل؛ إذ إنَّه قام بعزل مَن روى عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثُمَّ مَن روى عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثُمَّ مَن روى عن الحسنينعليهما‌السلام ، ثُمَّ مَن روى عن السجادعليه‌السلام ، وهكذا، ثُمَّ جاء في آخر كتابه بباب عنوانه (مَن لم يروِ عنهمعليهم‌السلام بلا واسطة)، وعمله هذا يشبه عمل السيد البروجردي، لكنَّه كان المرحلة الابتدائية لضبط الطبقات. أمَّا المرحلة النهائية، فتتمثَّل في ما قام به المرحوم السيد البروجردي.

١٢٦

* ما معنى مصطلح (الطبقة) الذي استعمله المرحوم السيد البروجردي؟ وما الفرق بينه وبين الطبقة التي اصطلح عليها المرحوم الشيخ الطوسي؟

الشيخ تجليل: لم يستعمل الشيخ الطوسي كلمة(طبقة)، وإنَّما هي من مصطلحات المرحوم العلاَّمة البروجردي؛ حيث قسَّم الطبقات بهذه الطريقة:

الطبقة الأولى: هم الرواة الذين نقلوا أحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون واسطة.

الطبقة الثانية: هم الرواة الذين لا يمكن لهم نقل أحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون واسطة، بل ينقلون عن الطبقة الأولى، ويُطلق عليهم اسم:التابعين .

الطبقة الثالثة: هم الرواة الذين ينقلون عن الطبقة الثانية، فيروون الحديث (معنعن)؛ أي كل طبقة تنقله عن الطبقة التي سبقتها.

فرتَّب السيد البروجردي الرواة من عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عهد شيخ الطائفة الطوسيرضي‌الله‌عنه إلى اثنتي عشرة طبقة، وقد تُوفِّي شيخ الطائفة عام ٤٦٠هـ؛ أي أنَّ المدَّة ما بين الهجرة ونهاية عهد شيخ الطائفة هي ٤٦٠ عاماً، وإذا كان السن المتعارف للناس هو (٧٠) عاماً، وكل راوٍ كان يعيش نصف حياته معاصرا ًلرواة الطبقة السابقة، والنصف الآخر من عمره يقضيه مع الطبقة اللاَّحقة، فإذا كان متوسط أعمار الرواة سبعين عاماً، فيكون الرواة من عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وفاة شيخ الطائفة (١٢) طبقة؛ لأنَّه إذ حسبنا لكل طبقة سبعين عاماً، وكان منها (٣٥) عاماً مشتركة مع الطبقة السابقة واللاَّحقة، فنقسم(٧٠) على اثنين؛ والنتيجة (٣٥)، ثُمَّ نضربها في (١١)؛ تكون النتيجة(٣٨٥) عاماً، إذن إحدى عشرة طبقة متَّصلة. وبما أنَّ الطبقة الأولى والأخيرة لم تعش ٣٥ عاماً مشتركة مع غيرها، فيُجْمَع الحاصل (٣٨٥) مع (٣٥) الأولى والأخيرة، فيكون الناتج( ٤٥٥) عاماً، وهو ما يعادل المرحلة التي سبقت وفاة الشيخ، وإذا حسبنا الأعمار بالتاريخ الهجري يكون الفرق خمس سنوات أيضاً. هذا هو معيار الطبقات لدى المرحوم العلاَّمة البروجردي. وأضيفُ هنا أنَّه لم يدوِّنه بهذه الصورة، لكن يمكن الاستنباط بأنَّه هو صاحب هذا الإبداع.

١٢٧

* ألم يتحدَّث أحد، في كتب الرِّجال السابقة، على هذا المنوال؟

الشيخ تجليل: عندما كنت أكتبُ(معجم الثقات) عثرت، في كتب الرجال التي كنت أبحث فيها، على مخطوطة كتاب لم يكمل تأليفه؛ أي أنَّه لم يكن مرتَّباً، كان واضحاً أنَّه مقدِّمة تأليف أو مسوَّدة، وكان اسم تلك المسوَّدة:(طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال)، ومؤلِّفه هو السيد علي أكبر بن محمد شفيع الموسوي، وكان معاصراً للشيخ الأنصاريرضي‌الله‌عنه ، هذا الكتاب المكتوب بحروف صغيرة، هو نفسه الكتاب النفيسطبقات الرجال، وهو العمل نفسه الذي قام به المرحوم العلاّمة البروجردي، الفرق بينهما هو أنَّه بدأ بطبقات الرجال من نفسه وأنهاها برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أي أنَّ المؤلِّف من الطبقة الأولى، وأستاذه من الطبقة الثانية، إلى أن بلغ إلى أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعلهم من الطبقة الثلاثين. أمَّا المرحوم آية الله البروجردي، فقد بدأ بعكسه، فجعل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطبقة الأولى، إلى أن بلغ شيخ الطائفة، ومن شيخ الطائفة فما بعده عدّهم طبقة طبقة، فكان هو من الطبقة الثانية والثلاثين.

أمَّا فائدة هذه الطبقات، فهي أنَّها تُيسِّر حساب الأحاديث المعلولة، عندما يقرأ السند يقول: إنَّ السند خطأ - وإن كان الجميع ثُقات - واصطلاحه كان:(السند معلول) .

* بالنسبة للعُمْر المشترَك الذي عُدَّ ٣٥ عاماً، لا يمكن حساب العشرة أو الاثني عشر عاماً الأولى من عمر الراوي، رغم ما يقال عن ابن عبَّاس: إنَّ عمره عند وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ١١ أو ١٣ عاماً.

الشيخ تجليل : على أي حال، يصلح لنقل الحديث بعد عمر اثني عشر عاماً، لكن مقدار الزمان لا يختلف، هكذا نحسب مدة ٤٥٠ عاماً، فنرى كم طبقة اتصلت خلال هذه المدة.

١٢٨

* ما أردت قوله: إنَّه إذا حذفنا ١٢ - ١٥ عاماً الأولى يكون كل راوٍ قد عاصر مَن سبقه مدة عشرين عاماً فقط.

الشيخ تجليل: لكنَّه كان معاصراً خلال الخمسة وثلاثين عاماً تلك، والمفيد منها هو العشرون عاماً. على أيِ حال، لا بد من أن يطوي ١٢ عاماً الأولى ليصبح قادراً على تحمُّل الحديث.

* أي أنَّه على الفقيه أن ينتبه إلى الزمن الذي ولد فيه السكوني حتى يتسنَّى له نقل الحديث عمَّن سبقه، وأنَّه كان في سنِّ التحمُّل عند نقل الحديث.

الشيخ تجليل: نعم، وبطبيعة الحال بالترتيب نفسه الذي ذكرتُ فيه الطبقات.

* ما السبب الذي دعاه ليجعل الشيخ الطوسي نهاية الطبقات الاثنتي عشرة؟

الشيخ تجليل: لأنَّ الشيخ الطوسي كان آخر مؤلِّفي الكتب الأربعة، وعُمدة الأحاديث في الكتب الأربعة، فالكليني في الطبقة التاسعة، والصدوق في العاشرة، والمفيد في الحادية عشرة، والشيخ الطوسي في الثانية عشرة.

* ذكرتم أنَّ أحد مميِّزات المرحوم آية الله البروجردي، هو: إرجاع عدَّة روايات إلى رواية واحدة رغم تعدُّد أسانيدها. فما هي كيفية الإرجاع تلك، وما هي معاييرها؟ ثُمَّ إنَّ تَعَدُّد السند - حسب العُرف - يعني تَعَدُّد الروايات، فكيف كان يجمعها؟

الشيخ تجليل: هذا الأمر صحيح، لكن إرجاعه يرتبط بالسند أيضاً، فقد يكون سند جميع رواة ذلك الحديث منذ البداية وحتى النهاية مشترَكاً، وهذا الأمر قليل جداً، وأحياناً يكون جزء من السند مشتركاً، وأحياناً يكون آخر رواته مشتركاً؛ وهذا يدل على أنَّ الرواية واحدة. فمن الطبيعي أن يكون بعض السند مشتركاً؛ لأنَّ كل واحد من مؤلِّفي الكتب الأربعة، كالشيخ الطوسي والكليني والصدوق، كان يمتلك سنداً مستقلاً في المجاميع الأولية والأصول الأربعمائة، ولكن هذه الأسانيد المتعدِّدة جميعها تنتهي إلى مجاميع أولية؟ وهل الحديث متعدِّد في المجاميع الأولية؟ وهل للحديث الذي نقله صفوان بن يحيى في كتابه سندٌ؟ الشيخ ذكر سنده في التهذيب، والشيخ الصدوق أيضاً حدَّد سنده في كتابه (مَن لا يحضره الفقيه)، والكليني كتب سنده الصريح في متنه، لكن كتاب الكافي

١٢٩

يختلف عنهم في كونه قد أورد السند كاملاً. فعندما نفتح كتاب وسائل الشيعة ونجد الحديث في روايات متعدِّدة، فهذا لا يعني أنَّه ثلاثة أو أربعة أحاديث، بل يعني أنَّه حديث واحد رُوي بطريقة مختلفة.

ثانياً: قد يكون هناك اختلاف في السند كلِّه، فنَقَلَه الكافي بالكامل، أو ذكره الكافي والتهذيب بشكل مختلف، ثُمَّ كان آخر راوٍ لهما هو معاوية بن عمّار مثلاً، فمعاوية بن عمّار هذا لم يكن لديه راوٍ، بل كان أستاذاً في الحديث، فأخذ عنه ذلك الحديث أفراد متعدِّدون، كما يشير إلى ذلك علماء الرجال.

حدَّث معاوية بن عمَّار بهذا الحديث في مجلس شخصاً ما، ثُمَّ حدَّث به في مجلس آخر شخصاً آخر، أو أنَّ عدَّة أشخاص كانوا في مجلس واحد، كلٌ منهم ينقل مباشرة عن أستاذه، فهل يدل ذلك على أنَّه حدَّث به أربع مرَّات؟

كلا؛ لهذا فإنَّ الاشتراك في السند كلِّه أو بعضه - بعضه الذي ينتهي إلى المعصوم - حتى الاشتراك في آخر راوٍ، كل ذلك ينفي تعدُّد الحديث. طبعاً إذا كان النص واحداً.

وقد يكون النص مختلفاً تماماً أحياناً، عندئذٍ يُعلم أنَّهما حديثان. فمعاوية ابن عمار أتى الإمام الصادقعليه‌السلام يوماً، وأخذ عنه هذا الحديث، وفي يوم آخر، أخذ عنه الحديث الآخر، عندها يكون الحديث متعدِّداً. لكن أحياناً يكون النص واحداً، قد يختلف في كلمة، يُعلم حينها أنَّ شيئاً ما حدث، فاختلفتْ إمَّا خلال النسخ، أو اختلفتْ عند بعض الرواة. لهذا نشكُّ في تلك الكلمة؛ أي هل قالها الإمام الصادقعليه‌السلام بهذه الكيفية أو لا؟ فتسقط تلك الكلمة من الاعتبار، لكنَّ سقوطها الإجمالي يسقط علْمنا، بل يصبح نفياً ثالثاً، لكنَّه لا يثبت بشكل جازم إحدى تلك الروايتين،هذه هي الفائدة من إرجاع الأحاديث .

١٣٠

الفائدة الثانية للإرجاع هي: أنَّ التعدُّد يأتي بالوثوق، ولإثبات التعدُّد لابدَّ من تلك الإرجاعات؛ لنُثبت هل هذا الحديث متعدِّد أو لا.

* إذا نقل أحدُ الرواة حديثاً ناقصاً، ونقله الآخر كاملاً، فما نفعل؟

الشيخ تجليل: إذا روى راوٍ نصف الحديث، ورواه آخر بكامله، ولو كان ذلك في مجلس واحد، فإنَّ الكامل لا يُسقط الناقص. فنحن لا نأخذ الفقه من الروايات فقط، نرجع إلى الروايات فقط، ثُمَّ نستنبط، بل إنَّنا نعتقد بأنَّ الفقه لم ينقطع أبداً، بل انتقل من يدٍ إلى يدٍ، منذ عهد المعصومينعليهم‌السلام وحتى عصرنا هذا، انتقل من صدرٍ إلى صدر. بعضٌ كَتَبَ الكتب، وبعضٌ آخر لم يكتب، ولم ينقطع وجود الفقهاء والتفقُّه أبداً، فبعض المسائل متَّفق عليها ولا تحتاج إلى دليل. فإذا استنبطتُ أنا من روايةٍ ما، فهناك روايات أخرى. فلا يمكن مخالفة فتوى ثابتة في فقه الإمامية منذ زمان المعصوم وحتى الآن بسبب رواية، حتى لو كانت صحيحة، بل تُتْرَك الرواية المُعْرَض عنها وتسقط.

* نظرية الوثوق بالأصول المُتلقَّاة، هي من النظريَّات المعروفة للمرحوم آية الله العظمى البروجردي، برأيكم لماذا لا نجد في بعض هذه الأصول المتلقَّاة روايةً صحيحة أو موثَّقة، على الرغم من أنَّ هذه الأصول مُتلقَّاة؟

الشيخ تجليل: الإجابة عن هذا السؤال تظهر في توضيح أمور ثلاثة:

١ - المرحوم العلاَّمة البروجردي كان محقَّاً في قوله إنَّه لا يوجد لدى القدماء كتاب موثَّق، والتوثيق الذي نشهده في الكتب الرِّجالية إنَّما هو استطرادي، وقد كُتِبت هذه الكتب لغرض آخر؛ فمثلاً رجال الشيخ الطوسي كُتِب لتبيان الطبقات، فقسَّم الرواة إلى مجموعات، وفصل بين أصحاب كل إمام ورتبهم، إذاً، لم يكن هدفه من تأليف كتاب الرجال التوثيق، بل إنَّه أراد تعيين الطبقات.

١٣١

أمَّا فهرست الشيخ، فواضح أنَّ الهدف منه تثبيت أسماء المؤلِّفين الشيعة؛ حيث بدأ بأسماء المؤلِّفين والمصنِّفين، ثُمَّ يذكر استطراداً كون أحدهم ثقة. وهكذا الحال مع رجال النجاشي، فرجال النجاشي هو فهرس للمؤلِّفين أيضاً. والمتعارف في الفهرسة المتأخِّرة أنَّ أسماء الكتب تأتي مفهرَسة أيضاً بالترتيب، ولكن في تلك الأزمنة القديمة لم يكونوا يدرجون أسماء الكتب بالترتيب، بل كانوا يرتِّبون الكتب حسب أسماء مؤلِّفيها. وما زال هذا مُتَّبعاً في المكتبات الكبرى، فيدوِّنون فهرساً للمؤلِّفين وآخر للكتب.

في ذلك الزمان، كانوا يكتبون التوثيق أحياناً من خلال ترجمة المؤلِّفين، أمَّا رجال الكشي، فقد أورد أيضاً الرواة الذين رووا عن المعصومينعليهم‌السلام أحاديثَهم. لهذا فنحن لا نملك أيَّ كتابٍ توثيقي لنقول: هذه توثيقات القدماء، وإذا لم نجد أحداً ما من بينهم، فهو غير موثوق، بل هناك كثير من الثقات لم يصلنا توثيقهم في الرجال.

وفي الطَّبقات التي جاءت بعد شيخ المحدِّثين، همَّ العلماءُ والفقهاء أنفسهم، فقد انتهجوا النهج نفسه في الأحاديث؛ فما دام الفقهاء لم يحرزوا الثقة بأحدٍ ما بشكل مسلَّم به، فلن يعملوا بحديثه، والوثوق لا ينحصر في قولهم: (هذا الرجل ثقة)، بل قد تحصل الثقة بكلامه وصدق قوله من العدالة وأسباب أخرى؛ ذلك لأنَّ المعيار في حُجِّـيَّة خبر الثقة ليس أمراً تعبُّديَّاً، بل المعيار هو الوثوق، فإذا تحقَّق تمَّت الحُجَّة. وقد ذكر صاحب وسائل الشيعة قرائن كثيرة تُستفاد منها وثاقة الراوي.

٢ - إنَّ مصطلح(صحيح) وجد بعد العلاَّمة الذي يُعَد من المتأخِّرين، ورأس مشايخ المتأخِّرين هو المحقِّق؛ أي أستاذ العلاَّمة. ومصطلح (صحيح) يُطلق على الحديث الذي يكون رواته عدولاً، عدولاً لا ثقات. طبعاً بعد الشيخ الأنصاري أصبح الرأي أنَّ العدالة ليست مطلوبة، بل تكفي الوثاقة، وقالوا: إنَّ كلمة(ثقة) لدى القدماء أخص من العدالة، وقد تستفاد بما هو أكثر من العدل؛ لأنَّ العدالة تتحقَّق من اجتناب الإنسان للكبائر وعدم إصراره على الصغائر. أمَّا في الثقة، فيضاف إلى ذلك أنْ يكون من أهل الضبط؛ أي مَن كان يمتلك حفظاً جيداً وضبطاً.

١٣٢

أمَّا كلمة حديث (صحيح)، قبل العلاَّمة، فكان لها معنى آخر؛ كانت تعني أنَّه حديث موثوق به، وله حجِّـيَّته من أيِّ ناحية كانت، إنْ كان راويه عادلاً أم لا.

ومهما كان الطريق الذي ثبتت به حجِّـيَّته، ولو بعمل الأصحاب، فنقول: عمل الأصحاب يجبر ضعف السند، ومن أيِّ ناحية ثبت لنا صحة السند، فهو حديث صحيح، لا فرق إن كان ثقة أم لا.

٣ - إنَّ مبدأ المرحوم العلاَّمة البروجردي في الأصول المُتلقَّاة، يقوم على تقسيمه للفتاوى الفقهية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوَّل هو مجموعة من فتاوى فقهاء الشيعة، كانت متلقَّاة من المعصوم يداً بيد، من دون أيِّ تصرُّف، حتى أنَّهم لم يكونوا يغيِّرون تعبيرات تلك الفتاوى. فهو يقول: إنَّ الشيخرضي‌الله‌عنه يكتب في أول كتابهالمبسوط ، منتقداً الفقهاء الشيعة لأنَّهم لا يبدون آراءهم الخاصة في مؤلَّفاتهم، بل يذكرون كل ما أخذوه عن المعصومعليه‌السلام فقط، فكتب كتابالمبسوط في الردِّ على هذا الانتقاد، ثُمَّ شرع باشتقاق الفروع.

نحن نعلم أنَّ فقهاء الشيعة لا يعدُّون القياس والاستحسان حُجَّة، ولهذا فإنَّهم يأخذون المسائل التعبُّدية عن الإمام المعصومعليه‌السلام كما هي، فعندما نرى فتوى قد جرت في الكتب الفقهية من عصر إلى آخر، نعلم أنَّها صدرت عن الإمام المعصومعليه‌السلام ؛ سواء كان فيها حديث من بين الأحاديث الموجودة بين أيدينا أم لم يكن.

إنَّ ثبات فتاوى الفقهاء نفسه في المسائل التعبُّدية - من قبل جميع الفقهاء، وفي جميع العصور - التي لم تؤخذ إلاّ من المعصومينعليهم‌السلام ؛ هو دليل على كونها من كلام المعصومعليه‌السلام ، وهي حُجَّة بالنسبة لنا. إنَّه كان يرى، في مثل هذه المسائل، أنَّ الشهرة حُجَّة.

فضلاً عن ذلك، لا يوجد حديث موثَّق - بين الأحاديث التي بين أيدينا - يدل عليه. أمَّا الأحاديث غير الموثَّقة، فكثير منها يدل عليه. فكيف يمكنك دعوى عدم وثاقة الحديث الذي لم تجد توثيقاً لبعض رواته؛ ذلك لأنَّ التوثيق لا يقتصر على ما وصلنا فقط، ثُمَّ إذا كان الراوي ليس بثقة، وثَبَتَ صدقه من طريق آخر، فمن البديهي أنَّ هذه الشهادة ستكون توثيقاً له.

١٣٣

القسم الثاني من الفتاوى هو الفتاوى التفسيرية، وهي الفتاوى التي تُؤخذ عن المعصوم بألفاظها نفسها، لكن هناك وثائق ومصادر لكلام المعصومعليه‌السلام فسَّرها الفقهاء، ومن البديهي أنَّ تفسيرهم لها لا يُعدُ حُجَّة لدينا.

فمثلاً عنوان:(كثير السفر) غير موجود في الأحاديث، فبعض القدماء عبَّّروا بكثير السفر، وغيرهم قالوا: مَن كان سفره أكثر من حضره. فكل منهم بلغ استنباطاً معيناً، لكن النصوص ذكرت:(شغله السفر) ، و(مَن كان بيته معه) ؛ لهذا نجد أنَّ المرحوم السيد اليزدي ترك تعبير القدماء في كتابه العروة الوثقى، واتخذ من العنوانين الأخيرين معياراً. وفقهاء آخرون اقتدوا بالسيد اليزدي. إذاً، القسم الثاني - أي التفسير - ليس حُجَّة أيضاً.

القسم الثالث من الفتاوى هو الفتاوى التفريعية، وهي الفتاوى التي لم تكن مأثورة بعينها عن المعصومعليه‌السلام ، لكنَّها استُنْبطت من المسائل الأصلية، وتفرَّعت عنها. وقد يقع خطأ في هذا التفريع أيضاً؛ لهذا فإنَّ التفريع الموجود في كتب القدماء لا يعد حُجَّة عندنا، بل علينا أن نتأكَّد بأنفسنا من صحَّة ذلك التفريع.

* أي أنَّهم اجتهدوا في حقيقة الأمر؟

الشيخ تجليل: نعم، اجتهدوا.

* إذاً، بعد هذه الأمور الثلاثة التي ذكرتموها، ينتهي رأيه في الفتاوى الأصلية التعبُّدية، التي لا مجال فيها لحكم العقل وآراء العقلاء وغير ذلك.

الشيخ تجليل: إنَّ رسوَّ الفتاوى على مسألةٍ ما؛ يدلُّ على كونها من قول المعصومعليه‌السلام ، ومن الطبيعي أنَّ عدالة الفقهاء لا تسمح بالكذب على المعصومعليه‌السلام ، وكانوا لا يرون في الاستحسان والقياس حُجَّة، بل كان تعبُّدهم بكلام المعصوم إلى درجة أنَّهم كانوا يستعملون لفظ المعصوم نفسه؛ ما عرَّضهم لطعن فقهاء أهل السُّـنَّة واتهامهم بأنَّهم ليسوا من أهل الرأي.

١٣٤

* كان المرحوم آية الله العظمى البروجردي يهتم بما اشتهر بين القدماء، ولا يهتم بما اشتهر بين المتأخرين، ولا بإجماعهم، فهل كان يتصوَّر أنَّ الشهرة بين القدماء تعني الأصول المُتلقَّاة؟

الشيخ تجليل: نعم، أولئك أخذوا من المعصومعليه‌السلام يداً بيد. أمَّا المتأخرون، فقد استنبطوا، وليس لدى المتأخرين ما يضيفونه، كل ما هو موجود هو ما بين أيدينا، وعلينا أن نعود إلى الماضي في استنباطنا، أن نفترض أنفسنا في عصر العلاَّمة، وقبله في عصر شيخ الطائفة؛ لأنَّ النصوص الموجودة هي ما كان موجوداً في أيدي المتقدِّمين نفسه، ومن هنا لا تُعدُّ شهرة المتأخرين حُجَّة لدينا.

* ما هو الفرق بين كتب الفهرسة وكتب الرجال؟ فقد قلتم: إنَّ تلك تبيِّن الطبقات والأخرى تذكر فهرساً بالمؤلِّفين. فلماذا يولي بعض الأساتذة كتب الفهرسة وتوثيقاها اهتماماً أكثر من كتب الرجال؟

الشيخ تجليل: الكتب الرجالية التي كانت بين القدماء، مثل رجال الشيخ الطوسي وفهرست النجاشي، وليس لدينا كتب رجالية سواها.

* يُطرح في بعض الدروس، أنَّ الفرق بين كتب الرجال والفهارس، هو أنَّ المؤلِّف لكتب الرجال يهتم بالطبقات، في حين أنَّ الفهارس تعطي نبذة عن المؤلِّف أيضاً؛ ولهذا فإنَّ الآراء المطروحة في الفهارس أكثر دقَّة، فما هو رأيكم؟

الشيخ تجليل: الفهارس لا تتحدَّث عن الأشخاص وسِيَرِهم، بل تُفهرس أسماء المؤلِّفين. فأكثر ما كان النجاشي يهتم به هو أن يصل بسنده إلى صاحب الكتاب، ولم يعطِ رأيه بتوثيق أحدٍ ما، فلا يبحث الفهرس عن وثاقة ثقة الراوي، بل قد يقول استطراداً: إنَّه ثقة، لكن هدف الكتاب ليس التوثيق؛ لهذا ليس بين أيدينا كتب رجال، سوى رجال الشيخ، وتوثيقاته أيضاً قليلة.

١٣٥

* في بعض الموارد يكون الراوي مجهولاً في كتب الرجال والفهارس؛ أي أنَّ اسمه موجود في سند الروايات، لكن إذا راجعتَ كتب الرجال لا تجد له توثيقاً.

الشيخ تجليل: قد ذكرتُ لكم أنَّ النجاشي جمع أسماء المؤلِّفين فقط، وكثير من الرواة لم يكونوا مؤلِّفين. أمَّا المعاجم المتأخرة للرجال - بعد العلاَّمة - مثل رجال الاسترابادي، ورجال المامقاني، فقد حاولتْ الاستيعاب أكثر؛ لأنَّهم كانوا متأخِّرين من حيث الزمان، فأتوا بأسماء الرجال الذين أتوا في ما بعد.

ثُمَّ إنَّهم تتبَّعوا الأسانيد، واستخرجوا ما فيها من أسماء، مؤلِّفين كانوا أم غير ذلك. لهذا نجد - على ما أذكرُ - ستة آلاف شخص، تقريباً، في رجال المامقاني، في حين أنَّ عددهم كان قليلاً جداً في كتب القدماء.

إذاً، ليس كل راوٍ ورد اسمه في سند الرواية نجده في كتب الرجال، وإذا ورد اسمه في كتب الرجال، فبشكل إضافي عرضي. كما أنَّ أسماء كثير من الرواة ورد، لكن من دون أي شرح عن سِيَرِهم. لمجرد وجود اسمه في السند، أدخل في الرجال. وعلى أيِّ حال، إذا لم يرد اسم أحد الرواة، لا يُعدُّ ذلك جرحاً فيه.

* بما أنَّه يوجد في الروايات والمتون اختلاف بين النُّسخ، ونقل بالمعنى، فما هو الحل للمشكلات الناشئة عن ذلك؟ علماً بأنَّ اختلاف النُّسخ قد يُغيِّر المعنى أحياناً، فماذا تقترحون من حلول لتكون تلك الروايات حُجَّة عندنا؟

الشيخ تجليل: إذا كان هذا الاختلاف في سند الرواية، فعندها ينشأ علم إجمالي يوجب التردُّد والشك في السند الواقعي لهذا الحديث، وبالتالي لا نعلم مَن هُم رواته.

١٣٦

وطريق الحل هو أن نحدِّد الرواية الصحيحة عِبر آلية البحث الدقيق في الأسانيد، ومن خلالها يُعرف راوي الحديث، فلعلَّ خمسين حديثاً في أبواب الفقه المختلفة ذَكرت هذا السند، عند مراجعتها والتدقيق في أسانيدها يُعرف أيُّ النسختين أصح. فمثلاً بالنسبة لعبد الله بن سنان ومحمد بن سنان، كلاهما ابنٌ لسنان، نجد في مكان كتب عبد الله بن سنان، وفي مكان آخر محمد بن سنان، فنلجأ إلى الفحص والتدقيق في الأسانيد، فنجد أنَّ مَن ينقل الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام - بلا وساطة - هو عبد الله بن سنان، في حين أنَّ محمد بن سنان ينقل الحديث عن الإمام الصادق بوساطة واحدة. هذه المسألة تُفهم من خلال الممارسة.

* يختلف نمط الرواة أيضاً؛ فعبد الله بن سنان يسأل أسئلة فقهية، بينما محمد بن سنان له بحوث يمتزج فيها الفقه بعلم الكلام.

الشيخ تجليل: ولكن في الوقت عينه توجد لمحمد بن سنان أحاديث كثيرة في أبواب الفقه. وهناك إشكال في تضعيف بعض المتأخِّرين لمحمد بن سنان.

أمَّا إذا كان الاختلاف في نص الحديث، فأفضل وسيلة هي مراجعة فتاوى الفقهاء، فالفقهاء سلَّمونا الأحاديث يداً بيد، ونجد في الفتاوى أنَّهم أصدروا فتاواهم استناداً إلى هذه النسخة، فيُعلم أنَّ هذه النسخة أصح.

* وما العمل بالنسبة لمشكلة النقل بالمعنى؟ خصوصاً عندما نجد روايات رواها عربي فنقَّح عبارات الروايات، وفي المقابل أعجمي، أو مَن كان تلقِّيه ضعيفاً، فنجد العبارات غير منقَّحة، فضلاً عن أنَّهم كانوا مجازين بالنقل بالمعنى. فكيف نحل هذه المشكلة، وكيف نعتمد على ألفاظ الروايات؟

الشيخ تجليل: لا شك في أنَّ النقل بالمعنى جائز، ليس في الأحاديث فقط، بل في أيِّ خبر. فمَن ينقل رواية لا يجب عليه الإتيان بها بألفاظها نفسها، فقد يترجمها إلى لغة أخرى وينقلها، أو يرويها باللغة نفسها، لكن يستعمل العبارات والمصطلحات المتداولة.

١٣٧

في هذا المجال، أجاز العقلاء الاكتفاء بالترجمة؛ أي استعمال اللفظ الذي يعطي المعنى نفسه من دون أن يستنبطوا، وينسبوا استنباطهم إلى الإمام، فهذا الأمر غير جائز. كما أنَّه في باب الشهادة أيضاً أجاز العقلاء النقل بالمعنى. فمثلاً نقول في الشهادة: يجب أن تكون عن حس، أي سَمَعَ بإذنه ونَقَل، لا أن يكون قد استنبط، وشهد بما استنبطه. فالاستنباط هنا غير صحيح.

إنَّ النقل بالمعنى هو أن يقول فلان: (ماء)، وننقل عنه اسم الماء، ولكن بلغة أخرى، هذا ما أجازه العقلاء في باب الحُجِّـيَّة؛ شهادة كانت أم شيئاً آخر. لكن احتمال الخطأ في نقل المعنى يبقى قائماً. على أيِّ حال... يجري هنا أصل عدم الخطأ الذي هو أحد الأصول العقلائية.

* المشكلة الأساس تبقى في اختلاف تحمُّل الحديث، كما هو الحال في تحمُّل الشَّهادة. فيرى شخصان الحادثة نفسها، ورغم كونها واقعة ملموسة، ولا يقصدون الكذب، ونعلم أنَّ كليهما ثقة، لكن تختلف رواية كل منهما عن الآخر. والأمر كذلك في رواية نقل الحديث، فمثلاً يختلف زيد الشحَّام في تحمُّله للحديث عن محمد بن مسلم.

الشيخ تجليل: إذا كانا متعارضين، يمكن التدقيق في الأمر؛ الأوثق والأقدر على تحمل الحديث. مثلاً عمار الساباطي كان أعجمياً، نلاحظ في أحاديه اضطراباً في بعض الأحيان، فإذا كان هناك مَن يعارضه، كان أرجح.

* لم يكن جميع رواة الحديث أصحاب ألواح، بل كان يسمع أحدهم الحديث في مجلس، ثُمَّ ينقله خارج المجلس، ولم يكونوا في ما سمعوه يقصدون الكذب على الأئمة، فكيف تُحلُّ هذه المعضلة؟

الشيخ تجليل: كلا، فالرواة كانوا يكتبون جميع الأحاديث، فلم يكن الأمر أن يتحدَّث الإمام الصادقعليه‌السلام لمدة ساعة فيبادر أصحابه لكتابه عدَّة أوراق؛ إذ غالباً ما كان الإمام يتحدَّث بحديث من سطرين أو ثلاثة، وكان أصحابه يدوِّنونه. فمن بين أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام كان هناك أربعمائة شخض يكتبون (الأصول)

١٣٨

وبعده كان أصحاب الإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لأنَّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لم تسنح له فرصة لرواية الحديث. وكان أولئك أصحاب كتب ومؤلَّفات، ثُمَّ إنَّ ما نقلوه كان أحكام الله، وكانوا يتوخَّون الدقَّة فيه، فيدوِّنه من دون أدنى تغيير.

نعم، هناك مَن نقل الحديث بكامله، وغيرهُ سجَّل نصفه، وليس من تناقض بينهما، فما نقله الاثنان حُجَّة. أمَّا الباقي، فلا يحكم بنفيه.

وبعبارة أخرى: المعيار عند العقلاء هو الوثوق، وينفي العقلاء احتمالات الخطأ والزيادة والتغيير. نعم، احتمال النقص ممكن، وعدم نقل جزء من الحديث لا يعني الخلل في معناه. أمَّا في احتمال الزيادة، فيطبِّق العقلاء قاعدة أصالة عدم الزيادة.

* استناداً إلى ما قلتموه، يبدو أنَّ العقلاء كانوا يشكُّون في هذه المسائل؛ لأنَّ موضوع أصل الشك كان احتمال الخطأ والنقص والزيادة وما شابه، لكن العقلاء لم يكونوا يعبأون بمثل هذه الاحتمالات.

الشيخ تجليل: نعم، تماماً كحُجِّـيَّة الظواهر، فهناك احتمال دوماً بأن يكون القائل أراد خلاف الظاهر، لكن العقلاء لا يقيمون قواعدهم على هذا الاحتمال.

* هل صحيح أنَّ المعيار لدى العقلاء، هو حيث تكون العبارات والألفاظ منقولة حرفيَّاً. أمَّا إذا كانت منقولة بالمعنى، فلا يعبأ العقلاء بها، أو أنَّ شيئاً كهذا لم يثبت لدينا؟

الشيخ تجليل: ليس الأمر كذلك. فالرأي السائد لدى العقلاء هو جواز النقل بالمعنى، وثانياً إنَّه حُجَّة إن كان نُقِل بالمعنى أو بالألفاظ نفسها. ولا يحق لنا التصرف في النقل بالمعنى، وليس من حق الإنسان الثقة أن يستنبط من أحكام المعصوم شيئاً ثُمَّ ينسبه إليه، بل عليه أن ينقل الكلمات نفسها.

١٣٩

* هل يمكن أن نفسِّر النقل بالمعنى بطريقتين: الأولى أنَّ المراد منه الترجمة...؟

الشيخ تجليل: لا يجوز أكثر من هذا.

* الشكل الثاني أن ينقل المضمون نفسه، ولكن في قالب آخر.

الشيخ تجليل: هذا هو الاستنباط، ولا يمكن نسبة ما يستنبطه الراوي إلى المعصوم.

* لا داعي لأن يستنبط، فعندما ينقل جملة بمعناها قد يفقِد الجملةَ الأصليةَ بعض تفاصيلها، فتتحول (الفاء) إلى (ثُمَّ) مثلاً.

الشيخ تجليل: المفروض أنَّ الراوي يعرف اللغة والعُرف، عليه أن يأتي بالمفهوم العُرفي للفظ عند نقله للمعنى، لا أن يقول مقطعاً ويحذف مقطعاً آخر. فالعقلاء لا يجيزون ذلك، ولا يبقى هذا الشخص ثقةً أو عادلاً. فكيف نحتمل أنَّ إنساناً يغيِّر الأمور من تلقاء نفسه بحيث يؤدِّي إلى تغيير ما كان يريده الإمام. هذا الأمر خلاف الأصل العقلائي. نعم، الاستنباط جائز، فالإمام لم يمنع الاستنباط، لكن يجب ألاّ ينسب الاستنباط للإمام.

والترجمة أيضاً، قد تكون إلى لغة أخرى، وقد تكون باللغة نفسها، ولكن بلفظ آخر. بالنسبة لنصوص الأحاديث تُعَدُّ الكتب الفقهية معياراً، فالاعتماد يكون على نصوص الكتب الفقهية، تماماً كالاعتماد على كتب الرجال في تحديد اختلاف نسخ الأسانيد.

* إلى أيِّ حدٍّ استطاعت كتب مثل: (جامع الرواة)، و(معجم رجال الحديث)، وأمثالها، أن تحلَّ مشكلة أسانيد الروايات في المخطوطات المختلفة؟

الشيخ تجليل: جامع الرُّواة هو أفضل كتاب تقريباً في مجال تحديد الراوي والمروي عنه. فكل راوٍ يذكره يُحدِّد عمَّن روى. أمَّا في سلسلة الأسانيد للحديث كله وللأشخاص الذين رووا عنه، فقد أدَّى ذلكمعجم رجال الحديث بشكل أدق؛ لأنَّ هذا العمل أضحى أسهل بعد طبع جامع الرواة. فضلاً عن أنَّ المرحوم آية الله العظمى الخوئي - على ما يبدو - استفاد من آخرين في عمله وفي المتابعة، وبذل جهداً كبيراً في هذا المجال. ومن أهمِّ الفوائد التي أثمرتها هذه الجهود تحديدُ المشتركات؛ فمثلاً لدينا شخصان باسم أحمد بن محمد، والشخصان في الطبقة نفسها، وهما: أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري،

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

والحيوان(١) .

لكن هذا التّفسير فضلا عن أنّه لا يلائم الآيات أعلاه ، فإنّه أيضا يقصر «اليوم» فيما يتعلق بالأرض ولمواد الغذائية وحسب ، لأنّ معناه يتعلق بالفصول الأربعة فقط ، بينما لا حظنا أن «يوم» في معنى خلق السماوات والأرض يعني بداية مرحلة!

مضافا لذلك تكون النتيجة اختصاص يومين من الأيّام الستة لخلق الأرض ، ويومين آخرين لخلق السماوات ، أمّا اليومان الباقيان اللذيان يتعلقان بخلق الكائنات بين السماء والأرض «ما بينهما» فليس هناك إشارة إليهما!

من كلّ ذلك يتبيّن أنّ التّفسير الأوّل أجود.

وقد لا تكون هناك حاجة للقول بأنّ «اليوم» في الآيات أعلاه هو حتما غير اليوم العادي ، لأنّ اليوم بالمعنى العادي لم يكن قد وجد قبل خلق السماوات والأرض ، بل المقصود بذلك هو مراحل الخلق التي استنفذت من الزمن أحيانا ملايين بل وبلايين السنين.(٢)

* * *

ملاحظتات

تبقى أمامنا ملاحظتان ينبغي أن نشير إليهما :

أوّلا : ما هو المقصود من قوله تعالى :( بارَكَ فِيها ) ؟

الظاهر أنّها إشارة إلى المعادن والكنوز المستودعة في باطن الأرض ، وما على الأرض من أشجار وأنهار ونباتات ومصادر للماء الذي هو أساس الحياة والبركة ، حيث تستفيد منها جميع الاحياء الأرضية.

__________________

(١) ثمّة حديث بهذا المضمون في تفسير علي بن إبراهيم.

(٢) راجع الآية (٥٤) من سورة الأعراف.

٣٦١

ثانيا : بما تتعلق الأيام الاربعة في عبارة :( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) ؟

بعض المفسّرين يعتقد أنّها تخص «الأقوات» فقط. لكنّها ليست كذلك ، بل تشمل الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (أي خلق الجبال ، خلق المصادر وبركات الأرض ، خلق الموارد الغذائية) لأنّه ـ خلافا لذلك ـ فإنّ بعض هذه الأمور سوف لا تدخل في الأيام الواردة في الآيات أعلاه ، وهذا أمر لا يتناسب مع نظم الآيات ونظامها.

بعد الانتهاء من الكلام عن خلق الأرض ومراحلها التكاملية ، بدأ الحديث عن خلق السماوات حيث تقول الآية :( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) .

فكانت الإجابة :( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

وفي هذه الأثناء :( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) ثم :( وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) وأخيرا :( وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ) نعم :( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

في الآيتين المتقدمتين تستلفت النظر عشر ملاحظات سنقف عليها خلال النقاط الآتية ، التي ننهي من خلالها البحث في هذه المجموعة من الآيات ، وهي :

أولا : كلمة «ثم» تأتي عادة للإشارة إلى التأخير في الزمان ، وتأتي أحيانا للدلالة على التأخير في البيان. فإذا كان المعنى الأوّل هو المقصود فسيكون المفهوم هو أنّ خلق السماوات تمّ بعد خلق الأرض وخلق الجبال والمعادن والمواد الغذائية. أما إذا كان المعنى الثّاني هو المقصود ، فليس هناك مانع من أن تكون السماوات قد خلقت وبعدها تمّ خلق الأرض ، ولكن عند البيان ذكرت الآية أوّلا خلق الأرض والأرزاق ومصادرها التي يحتاجها البشر ، ثمّ عرجت إلى ذكر قضية خلق السماء.

المعنى الثّاني بالإضافة إلى أنّه أكثر تناسقا وانسجاما مع الاكتشافات العلمية ،

٣٦٢

فهو أيضا يتفق مع الآيات القرآنية الأخرى ، كقوله تعالى في الآيات (٢٧ ـ ٣٣) من سورة «النازعات» :( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ ) .

إنّ هذه المجموعة من الآيات الكريمة تكشف بوضوح أنّ دحو وتوسيع الأرض وتفجر العيون ونبات الأشجار والموارد الغذائية ، قد تمّ جميعا بعد خلق السماوات. أما لو فسّرنا معنى «ثم» بالتأخير في الزمان ، فعلينا أن نقول : إنّ كلّ تلك قد تكونت قبل خلق السماء ، وهذا يتنافى مع المعنى الواضح للمراد من قوله تعالى :( بَعْدَ ذلِكَ ) أي أن كلّ ما ذكر قد تم خلقه بعد ذلك (أي بعد السماوات).

وبذلك نفهم أن (ثم) هنا قد استخدمت للتدليل على التأخير البياني(١) .

ثانيا : «استوى» من «استواء» وتعني الاعتدال أو مساواة شيئين ببعضهما ، ولكن ذهب علماء اللغة والتّفسير إلى أنّ هذه الكلمة عند ما تتعدّى بـ «على» يصبح معناها الاستيلاء والتسلّط على شيء ما مثل( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (٢) .

وعند ما تتعدى بـ «إلى» فهي تعني القصد ، كما في الآية التي نبحثها( ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ) اي قصد الى السماء.

ثالثا : جملة «هي دخان» تبيّن أن بداية خلق السماوات كان من سحب الغازات الكثيفة الكثيرة ، وهذا الأمر يتناسب مع آخر ما توصلت إليه البحوث العلمية بشأن بداية الخلق والعالم.

والآن فإنّ الكثير من النجوم السماوية هي على شكل سحب مضغوطة من الغازات والدخان.

__________________

(١) أما ما نقل عن ابن عباس من قوله : إنّ خلق الأرض كان قبلا ، وأما «دحو الأرض» فجاء بعد ذلك ، فهو لا يحل المشكلة ، وكأن ابن عبّاس لم يهتم عما بعد الآية من حديث عن خلق الجبال والمواد الغذائية!

(٢) طه ، الآية ٥.

٣٦٣

رابعا : قوله تعالى :( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) لا تعني أن كلاما قد جرى باللفظ ، وإنّما قول الخالق وأمره هو نفسه الأمر التكويني ، وهو عين إرادته في الخلق. أما التعبير بـ «طوعا أو كرها» فهو إشارة إلى أنّ الإرادة الإلهية الحتمية قد ارتبطت يتكوّن السماوات والأرض. والمعنى أنّه يجب أن يحدث هذا الأمر شاءت أم أبت.

خامسا : الجملة في قوله تعالى :( أَتَيْنا طائِعِينَ ) تشير إلى أنّ المواد التي تتشكل منها السماء والأرض من ناحية التكوين والخلقة ، كانت مستسلمة تماما لإرادة الله وأمره ، فتقبلت شكلها المطلوب ولم تعترض أمام هذا الأمر الإلهي مطلقا.

ومن الواضح أنّ هذا الأمر وهذا الامتثال ليس لهما طبيعة تكليفية وتشريعية ، بل حدثت بمحض التكوين فقط.

سادسا : قوله تعالى :( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) يشير إلى وجود مرحلتين في خلق السماوات ، كلّ مرحلة استمرت لملايين أو مليارات السنين ، وكل مرحلة تتضمن مراحل اخرى ، ومن المحتمل أن تكون هاتان المرحلتان هما مرحلة تبديل الغازات المضغوطة إلى سوائل ومواد مذابة ، ثمّ مرحلة تبديل المواد المذابة إلى مواد جامدة.

كلمة «يوم» استخدمت هنا ـ كما أشرنا سابقا ـ بمعنى مرحلة ، وهو ممّا يشبع استخدامه في عدّة لغات ، ويشبع استخدامه أيضا في كلامنا اليومي ، فعند ما تقول مثلا : يوم لك ويوم عليك ، إنّما تشير إلى مراحل الحياة المختلفة. (هناك بحث مفصل حول هذا الموضوع في نهاية تفسير الآية (٥٤) من سورة الأعراف).

سابعا : إنّ العدد «سبع» ربّما جاء هنا للكثرة ، بمعنى أنّ هناك سماوات كثيرة وأجرام كثيرة. ومن المحتمل أن يكون الرقم للعدد ، أي إن عدد السماوات هي سبع بالتحديد. ومع هذا التقييد فإنّ جميع ما نرى من كواكب ونجوم ثابتة وسيّارة هي

٣٦٤

من السماء الأولى ، وبذلك يكون عالم الخلقة متشكلا من سبع مجموعات كبرى ، واحدة منها فقط أمام أنظار البشرية ، وإنّ الأجهزة العلمية الفلكية الدقيقة وبحوث الإنسان ، لم تتوصل إلى ما هو أبعد من السماء الأولى.

ولكن كيف تكون العوالم الستة لأخرى؟ وممّ تتشكّل؟ فهو أمر لا يعلمه إلّا الله تعالى.

والمعتقد هنا أنّ هذا التّفسير هو الأصح. (في هذا الموضوع يمكن مراجعة نهاية تفسير الآية (٢٩) من سورة البقرة).

ثامنا : قوله تعالى :( وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) تشير إلى أنّ المسألة لم تنته بخلق السماوات وحسب ، بل إنّ في كل منها مخلوقات وكائنات ونظام خاص وتدبير معين ، بحيث أن كلّ واحدة تعتبر بحد ذاتها دليلا على العظمة والقدرة والعلم.

تاسعا : قوله تعالى :( وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ) تدل على أنّ جميع النجوم زينة للسماء الأولى ، وتبدو في نظر الإنسان كالمصابيح المعلقة في سقف هذه السماء الزرقاء ، وهي ليست للزينة وحسب ، حيث تجذب بتلألؤها الخاص المتعاقب قلوب عشاق أسرار الخلقة ، بل في الليالي المعتمة تكون مصابيح للتائهين وأدلة لمن يسير في الطريق ، تعينهم على تعيين اتجاه الحركة.

أمّا «الشهب» التي تظهر كنجوم سريعة تظهر في السماء بوميض سريع قبل أن تنطفئ ، فهي في الواقع سهام تستقر في قلوب الشياطين وتحفظ السماء من نفوذهم. (راجع تفسير الآية ١٧ من سورة الحجر ونهاية الآية السابعة من سورة الصافات).

عاشرا : قوله تعالى :( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) تكملة للجمل التسع السابقة ، وتشكل بمجموعها عشرة كاملة ، تقول : إنّ ما حدث في السماء والأرض منذ بداية الخلق إلى مرحلة التشكّل والنظام الدقيق ، كان وفق برنامج محسوب ومقدّر ، تمّ

٣٦٥

تنظيمه من قبل المبدأ الأزلي ذي العلم والقدرة المطلقتين ، وإن أي تفكير في أي بحر من هذه البحور يقودنا نحو المبدأ العظيم جلّت قدرته.

* * *

٣٦٦

الآيات

( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) )

التّفسير

أحذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود!

بعد البحث المهم الذي تضمّنته الآيات السابقة حول التوحيد ومعرفة الخالق جلّ وعلاه تنذر الآيات ـ التي بين أيدينا ـ المعارضين والمعاندين الذين تجاهلوا كلّ هذه الدلائل الواضحة والآيات البينات ، وتحذرهم أن نتيجة الإعراض نزول

٣٦٧

العذاب بهم ، يقول تعالى :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) (١) .

عليكم أن تخافوا هذه الصاعقة المميتة المحرقة التي إذا نزلت بساحتكم تنفيكم وتحل بداركم الدمار.

لاحظنا في بداية هذه السورة المباركة أنّ بعض زعماء الشرك في مكّة مثل «الوليد بن المغيرة» وبرواية اخرى «عتبة بن ربيعة» جاءوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحقيق حول القرآن ودعوة الرّسول وطرحوا عليه بعض الأسئلة وفي سياق إجابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم تلا عليهم الآيات الاولى من هذه السورة ، وعند ما وصل النّبي في تلاوته إلى الآيات أعلاه وهدّدهم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، ارتعشت أجسادهم وأصيبوا بالخوف بحيث أنّهم لم يكونوا قادرين على الاستمرار في الكلام ، لذلك عادوا إلى قومهم وذكروا لهم تأثرهم العميق واضطرابهم ووجلهم من هذه الكلمات.

«الصاعقة» كما يقول الراغب في المفردات ، تعني الصوت المهيب في السماء ، ويشتمل على النّار أو الموت أو العذاب. (ولهذا السبب تطلق الصاعقة على الموت أحيانا ، وعلى النّار وفي أحيان اخرى).

والصاعقة ـ وفقا للتحقيقات العلمية الراهنة ـ هي شرارة كهربائية عظيمة تحدث بين مجموعة من الغيوم التي تحمل الشحنات الكهربائية الموجبة ، وبين الأرض التي تكون شحنتها «سالبة» وتصيب عادة قمم الجبال والأشجار وأي شيء مرتفع ، وفي الصحاري المسطحة تصيب الإنسان والأنعام ، كما أن حرارتها شديدة للغاية بحيث أنّها تحيل أي شيء تصيبه إلى رماد ، وتحدث صوتا مهيبا وهزّة أرضية قوية في المكان الذي تضربه.

__________________

(١) «الفاء» في «فإن اعرضوا» هي «فاء التفريع» كما قيل ، بناء على ذلك فإنّ هذا الإنذار الحاسم يعتبر فرعا ونتيجة للإعراض عن الآيات التوحيدية السابقة.

٣٦٨

الله تبارك وتعالى ـ كما تنص على ذلك آيات القرآن ـ عاقب بعض الأقوام الأشقياء من الأمم السابقة بالصاعقة.

والطريف هنا أنّ عالم اليوم برغم التقدم الهائل في العلوم ، بقي عاجزا عن اكتشاف وسيلة لمنع الصاعقة.

وسيبقى هذا السؤال : لماذا ذكر هنا قوم عاد وثمود من بين جميع الأقوام السابقة؟

السبب يعود إلى أنّ العرب كانوا على اطّلاع بخبر أولئك الأقوام ، وكانوا قد شاهدوا بأعينهم آثار مدنهم المدمّرة ، إضافة إلى أنّهم كانوا يعرفون أخطار الصواعق ، لأنّهم يعيشون في الصحراء والبادية.

يواصل الحديث القرآني سياقه بالقول :( إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) .

إنّ استخدام تعبير( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ) هو إشارة إلى ما ذكرناه أعلاه من أنّ الأنبياء قد استخدموا جميع الوسائل والأساليب لهدايتهم ، وحاولوا طرق كلّ الأبواب حتى ينفذوا إلى قلوبهم المظلمة.

وقد يكون التعبير إشارة إلى الأنبياء الذين بعثوا خلال أزمنة مختلفة إلى هؤلاء الأقوام ، وطرحوا عليهم نداء التوحيد.

لكن لنرى ماذا كان جوابهم حيال هذه الجهود العظيمة الواسعة لرسل الله تعالى؟

يقول تعالى :( قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) لإبلاغ رسالته بدلا من إرسال الناس.

والآن وما دام الأمر كذلك :( فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) . وما جئتم به لا نعتبره من الله.

إنّ مفهوم هذا الكلام لا يعني إيمان هؤلاء بأنّ هؤلاء رسل الله حقّا ، و. أنّهم

٣٦٩

لا يؤمنون بهم ، وإنّما مفهوم الكلام رفض هؤلاء دعوة الرسل في أنّهم مبلغوا رسالات الله من الأساس ، حيث حملوهم على الكذب والادّعاء. (ذلك فإنّ جملة( بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ ) هي للاستهزاء أو السخرية ، أو أن يكون المقصود بها هو : طبقا لادعائكم بأنّكم رسل الله تبلغون عنه).

إنّها نفس الذريعة التي ينقلها القرآن مرارا على لسان منكري النبوات ورسالات الله ومكذبي الرسل ، من الذين كانوا يتوقعون أن يكون الأنبياء دائما ملائكة ، وكأنما البشر لا يستحقون مثل هذا المقام.

مثال ذلك قولهم في الآية (٧) من سورة الفرقان :( وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) .

إنّ قائد البشر يجب أن يكون من صنف البشر ، كي يعرف مشاكل الإنسان واحتياجاته ويحس آلامهم ويتفاعل مع قضاياهم ، وكي يستطع أن يكون القدوة والأسوة ، لذلك يصرح القرآن في الآية (٩) من سورة «الأنعام» بقوله تعالى :( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ) .

بعد المجمل الذي بينته الآيات أعلاه ، تعود الآيات الآن ـ كما هو أسلوب القرآن الكريم ـ إلى تفصيل ما أوجز من خبر قوم عاد وثمود ، فتقول :( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ) .

إنّ هؤلاء القوم كانوا يعيشون في أرض «الأحقاف» من (حضرموت) جنوب الجزيرة العربية ، وكانوا يتصفون بوضع استثنائي فريد من حيث القوّة الجسمانية والمالية والتمدّن المادي ، فكانوا يبنون القصور الجميلة والقلاع المحكمة ، خاصة في الأماكن المرتفعة ، حيث يرمز ذلك إلى قدرتهم ويكون وسيلة لاستعلائهم.

لقد كانوا رجالا مقاتلين أشدّاء ، فأصيبوا بالغرور بسبب قدراتهم الظاهرية ومجدهم المادي ، حتى ظنّوا أنّهم أفضل من الجميع ، وأنّ قوّتهم لا تقهر ، ولذلك قاموا بتكذيب الرسل والإنكار عليهم ، وتكالبوا على نبيّهم «هود».

٣٧٠

لكن القرآن يرد على هؤلاء ودعواهم بالقول :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ) .

أليس الذي خلقهم خلق السماوات والأرض؟

بل هل يمكن المقايسة بين هاتين القدرتين ، فأين القدرة المحدودة الفانية من القدرة المطلقة اللامتناهية الأزلية؟!

ما للتراب وربى الأرباب(١) ؟!

تضيف الآية في النهاية قوله تعالى :( وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ) .

نعم ، إنّ الإنسان الضعيف المحدود سوف يطغى بمجرّد أن يشعر بقليل من القدرة والقوة ، وأحيانا بدافع من جهله ، فيتوهم أنّه يصارع الله جلّ وعلا!!

لكن ما أسهل أن يبدل الله عوامل حياته إلى موت ودمار ، كما تخبرنا الآية عن مآل قوم عاد :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

إنّ هذه الريح الصرصر ، وكما تصرح بذلك آيات اخرى ، كانت تقتلعهم من الأرض بقوّة ثمّ ترطمهم بها ، بحيث أصبحوا كأعجاز النخل الخاوية. (يلاحظ الوصف في سورة «القمر» الآية ١٩ ـ ٢٠ وسورة الحاقة الآية ٦ فما بعد).

لقد استمرت هذه الريح سبع ليال وثمانية أيّام ، وحطّمت كيانهم وكل وسائل عيشهم ، نكالا بما ركبوا من حماقة وعلوا وغرور ، ولم يبق منهم سوى أطلال تلك القصور العظيمة ، وآثار تلك الحياة المرفهة.

هذا في الدنيا ، وهناك في الآخرة :( وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى ) .

إنّ العذاب الأخروي هو في الواقع كالشرارة في مقابل بحر لجي من النّار.

__________________

(١) إنّ هذا التعبير يشبه في الواقع جملة : «الله أكبر» حيث تقوم بتعريف الله (جلّ وعلا) بأنّه أعظم وأكبر من جميع الموجودات ، ذلك أنّنا نعلم أن لا قياس بين الإثنين (التراب ورب الأرباب) ولكن الله يتحدّث إليها بلساننا ، لذلك نرى أمثال هذه الألفاظ والتعابير في كلامه تعالى

٣٧١

والأنكى من ذلك أن ليس هناك من ينصرهم :( وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ) .

فبعد عمر من الجد والعمل في سبيل التظاهر بالعظمة والعلو ، يصيبهم الله تعالى بعذاب أذلهم في هذه الدنيا ، وفي العالم الآخر ينتظرهم ما هم أشد وأصعب!

«صرصر» : على وزن (دفتر) مشتقّة في الأصل من كلمة «صرّ» على وزن «شرّ» وتعني الغلق بإحكام ، لذا تستعمل كلمة «صرّه» للكيس الذي يحتوي على المال وهو مغلق بشكل جيّد. ثمّ أطلقت على الرياح الباردة جدا ، أو التي فيها صوت عال ، أو الرياح المسمومة القاتلة. وقد تكون الرياح العجيبة التي شملت قوم «عاد» تحمل كلّ هذه الصفات جميعا.

( أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) تعني الأيام المشؤومة التي اعتبرها البعض بأنّها الأيّام المليئة بالتراب والغبار ، أو الأيّام الباردة جدا ، وهذه المعاني يمكن أن تكون مرادة من الآيات التي نحن بصددها.

لقد أشار أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في خطب نهج البلاغة إلى قصة عاد ، كي تكون درسا أخلاقيا تربويا يتعظ منه الآخرون. يقولعليه‌السلام : «واتعظوا فيها بالذين قالوا : من أشدّ منّا قوّة؟ حملوا إلى قبورهم ، فلا يدعون ركبانا ، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفات جيران»(١) .

* * *

ملاحظتان

أوّلا : ما هي وسيلة فناء قوم عاد؟

وفقا للآية (١٣) من هذه السورة ، فإنّ قوم عاد وثمود أهلكوا بالصاعقة. في حين أنّ الآيات التي نبحثها تقول : إنّهم أبيدوا بالريح الصرصر العاتية ، فهل هناك

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم (١١١).

٣٧٢

تعارض بين الاثنين؟

في الجواب ذكر المفسّرون وعلماء اللغة معنيين للصاعقة ، أحدهما عام ، والآخر خاص.

فالصاعقة بمعناها العام تعني أي شيء يهلك الإنسان ، وهي كما يقول العلّامة الطبرسي في مجمع البيان : «المهلكة من كلّ شيء».

أمّا المعنى الخاص ، فالصاعقة شرارة عظيمة من النّار تنزل من السماء ، وتحرق كلّ ما يوجد في طريقها ، كما وضحنا ذلك آنفا.

بناء على هذا ، لو كانت الصاعقة بالمعنى الأوّل فلا تعارض بينها وبين الرياح القوية.

يقول الراغب في المفردات : «قال بعض أهل اللغة : الصاعقة على ثلاثة أوجه : الموت كقوله :( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) وقوله :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) والعذاب كقوله :( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) والنّار كقوله :( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) وما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ ، ثمّ يكون منه نار فقط أو عذاب أو موت وهي في ذاتها شيء واحد وهذه الأشياء تأثيرات منها».

وثمة احتمال آخر ، هو أن قوم عاد قد شملهم نوعان من العذاب : الأوّل الرياح الشديدة التي دمّرت كلّ شيء والتي سلطها الله عليهم أيّاما عديدة ، ثم جاء بعد ذلك دور الصاعقة النّارية المميتة التي شملتهم بأمر الله.

لكن المعنى الأوّل يبدو أكثر تناسبا مع الموضوع ، خصوصا إذا لا حظنا الآيات الأخرى التي تتحدث عن عقاب قوم عاد وهلاكهم. (راجع الآيات في سورة الذاريات ـ آية ٤١ ، وسورة الحاقة ـ آية ٦ ، والقمر الآيتان (١٨) و (١٩)).

٣٧٣

ثانيا : أيام قوم عاد النحسة

البعض يعتقد أنّ أيّام السنة نوعان : أيّام نحسة مشؤومة ، وأيام سعيدة مباركة.

ويستدلون على ذلك بالآيات أعلاه ، فيقولون : هناك تأثيرات مجهولة تؤثر في الليالي والأيّام ، ونشعر نحن بآثار ذلك ، بينما أسبابها ما تزال مبهمة بالنسبة لنا.

وقال البعض : إنّ الأيام النحسة في الآية التي نبحثها هي الأيّام المملوءة بالتراب والغبار.

وقوم عاد قد أصيبوا بمثل هذه الرياح الشديدة بحيث باتوا لا يرى أحدهم الآخر ، كما تفيد ذلك الآيتان (٢٤ ـ ٢٥) من سورة «الأحقاف» في قوله تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) .

وسوف نقوم ببحث مفصل حول مفهوم الأيّام النحسة والأيّام السعيدة ، في نهاية حديثنا عن الآية (١٩) من سورة القمر ، إن شاء الله تعالى.

* * *

٣٧٤

الآيتان

( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) )

التّفسير

عاقبة قوم ثمود :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن قوم عاد ، تبحث هاتان الآيتان في قضية قوم ثمود ومصيرهم ، حيث تقول : إنّ الله قد بعث الرسل والأنبياء لهم مع الدلائل البينة ، إلّا أنّهم :( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) .

لذلك :( فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وهؤلاء مجموعة تسكن «وادي القرى» (منطقة بين الحجاز والشام) وقد وهبهم الله أراضي خصبة خضراء مغمورة ، وبساتين ذات نعم كثيرة وكانوا يبذلون الكثير من جهدهم في الزراعة. ولقد وهبهم الله العمر الطويل والأجسام القوية ، وكانوا مهرة في البناء القوي المتماسك ، حيث يقول القرآن عنهم في ذلك :( وَكانُوا

٣٧٥

يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) (١) .

لقد جاءهم نبيّهم بمنطق قوي وقلب ملؤه الحبّ ، ومعه المعاجز الإلهية ، إلّا أنّ هؤلاء القوم المغرورين المستعلين لم يرفضوا دعوته ـ وحسب ـ بل آذوه وأتباعه القليلين ، لذلك شملهم الله بعقابه في الدنيا ، ولن يغني ذلك عن عذاب الآخرة شيئا.

نقرأ في الآية (٧٨) من سورة الأعراف أنّهم أصيبوا بزلزلة عظيمة ، فبقيت أجسادهم في المنازل بدون حراك :( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

وفي الآية (٥) من سورة الحاقة قوله تعالى بشأنهم :( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) .

أمّا الآية (٦٧) من سورة هود فتقول عنهم :( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

أمّا الآية التي نحن بصددها فقد استخدمت تعبير «صاعقة».

قد يتصور البعض أن هناك تعارضا بين هذه التعابير ، ولكن عند التدقيق يظهر أنّ الكلمات الأربع أعلاه (رجفة ، طاغية ، صيحة ، صاعقة) ترجع جميعا إلى حقيقة واحدة ، لأنّ الصاعقة ، ـ كم قلنا سابقا ـ لها صوت مخيف ، بحيث يمكن أن نسميها بالصيحة السماوية ، ولها أيضا نارا محرقة ، وهي عند ما تسقط على منطقة معينة تحدث هزّة شديدة ، وكذلك هي وسيلة للتخريب.

في الواقع إنّ البلاغة القرآنية تستوجب أن تبيّن الأبعاد المختلفة للعذاب الإلهي بتعابير مختلفة وفي سياق آيات عديدة كيما تخلّف أثرا عميقا في نفس الإنسان.

وهؤلاء القوم قد واجهتهم عوامل مختلفة للموت في إطار حادثة واحدة ، بحيث أن كلّ عامل لوحده يكفي لإبادتهم كالصيحة المميتة مثلا ، أو الهزة الأرضية

__________________

(١) الحجر ، الآية ٨٢.

٣٧٦

القاتلة ، أو النّار المحرقة ، وأخيرا الصاعقة المخفية.

ولكن قد يتساءل عن مصير الأشخاص الذين آمنوا بصالحعليه‌السلام بين هذه الأمواج القاتلة من الصواعق ، فهل احترقوا بنيران غيرهم؟

القرآن يجيبنا على ذلك بقول اللهعزوجل :( وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ) .

لقد أنجى هذه المجموعة إيمانها وتقواها ، بينما شمل العذاب تلك الكثرة الطاغية بسبب كفرها وعنادها ، والمجموعتان يمكن أن تكونا نموذجا لفئات من هذه الأمة.

قال بعض المفسّرين : لقد آمن بنبيّ الله صالح (١١٠) أشخاص من بين مجموع القوم ، ولقد أنقذ الله هؤلاء وأنجاهم في الوقت المناسب.

* * *

ملاحظة

أنواع الهداية الإلهية :

الهداية على نوعين : أوّلا «الهداية التشريعة» وهي تشمل إبانة الطريق والكشف عنه بجميع العلائم. ثمّ هناك «الهداية التكوينية» التي هي في واقعها إيصال إلى المطلوب أو الوصول إلى الهدف.

لقد تجمعت الهدايتان معا في الآيات التي نبحثها ، فالآيات تتحدث أولا عن هداية ثمود وهذه هي الهداية التشريعية التي استبانوا من خلالها الطريق.

ثم أضافت الآية عن وصف حالهم بأنّهم استحبوا العمى على الهدى ، وهذه هي عين الهداية التكوينية والتوصّل نحو الهدف.

وهكذا فإنّ الهداية بمعناه الأوّل قد تمّت من خلال بعثة الرسل والأنبياء ، أمّا الهداية بمعناها الثّاني والتي ترتبط بإرادة واختيار أي إنسان ، فلم تتمّ بسبب غرور

٣٧٧

القوم وتكبرهم وعلوهم ، لأنّهم :( فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) .

إنّ هذا ـ بحدّ ذاته ـ دليل على مبدأ «حرية الإرادة الإنسانية» وعدم الجبر.

ولكن ـ برغم صراحة ووضوح الآيات ـ نرى أنّ بعض المفسّرين كالفخر الرازي يصرون على إنكار دلالة الآية ، وذكروا كلاما لا يليق بمنزلة الباحث المحقق ، وذلك بسبب ميولهم نحو عقيدة الجبر(١) !!

* * *

__________________

(١) يلاحظ الفخر الرازي في التّفسير الكبير في نهاية حديثه عن هذه الآية.

٣٧٨

الآيات

( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) )

التّفسير

كانت الآيات السابقة تتحدث عن الجزاء الدنيوي للكفار المغرورين والظالمين والمجرمين. أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدث عن العذاب الأخروي ، وعن مراحل مختلفة من عقاب أعداء الله.

يقول تعالى :( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ ) .

٣٧٩

وكي تتصل الصفوف ببعضها يتمّ تأخير الصفوف(١) حتى تلتحق بها الصفوف الأخرى :( فَهُمْ يُوزَعُونَ ) .

وحينذاك :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٢) .

يا لهم من شهود؟ فأعضاء الإنسان تشهد بنفسها عليه ولا يمكن إنكار شهادتها ، لأنّها كانت حاضرة في جميع المشاهد والمواقف وناظرة لكل الأعمال ، وهي إذ تتحدث فبأمر الله تعالى.

وهنا يثار سؤال : هل تعني شهادة هذه الأعضاء من جسم الإنسان أنّ الله تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور ، وبالتالي القدرة على الكلام؟

أم أنّ آثار الذنوب سوف تظهر في ذلك اليوم (يوم البروز) لأنّها مطبوعة عليها طوال عمر الإنسان ، كما نقول في تعبيراتنا الشائعة : إن صفحة وجهه تحكي وتخبر ما يخفيه فلان في سرّه؟

أو أنّ الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت وأسمعه موسىعليه‌السلام ؟

في الواقع يمكن قبول كلّ هذه التفاسير ، وقد جاءت مبثوثة في تفاسير المفسّرين.

طبعا لا يوجد مانع من أن يقوم تعالى بخلق الإدراك والشعور في الأعضاء ، فتشهد في محضر الله تعالى عن علم ومعرفة ، خصوصا وأن ظاهر الآيات يشير للوهلة الأولى إلى هذا المعنى. وهو ما يعتقده البعض فيما يخص تسبيح وحمد

__________________

(١) «يوزعون» من «وزع» وهي بمعنى المنع ، وعند ما تستخدم للجنود أو الصفوف الأخرى ، فإن مفهومها يعني أن يبقى المجموع إلى أن يلتحق بهم آخر نفر.

(٢) «ما» في قوله تعالى :( إِذا ما جاؤُها ) زائدة ، وهي هنا للتأكيد.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607