الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182813 / تحميل: 6262
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وهو يعلم ان ما يفعله على وفق المصلحة الواقعية التي ارتضاها رب العالمين ونصت به الصحيفة المخصوصة به.

اليس هو القائل لجابر الأنصاري لما قال له:

الا تصالح كما صالح اخوك الحسن ؟

فقال الحسين:

ان أخي فعل بامر من الله ورسوله وأنا أفعل بأمر من الله ورسوله.

ألم يكن الأصلح للحسنين مداراة أخيه المجتبى والتسليم له - لو صدقت المزاعم والأوهام - ويكون كعبد الله بن جعفر لما أبدى له الامام نظرية الصلح فخضع لرأيه وسلم له أمن الجائز ان يكون عبدالله اعرف بحكم الوقت من السبط الشهيد ؟

ويحدث ابن شهراشوب في المناقب ج ٢ ص ١٤٣ طبع ايران ان الحسين ما تكلم بحضرة الحسن اعظاماً له ولا تكلم محمد بن الحنفية بحضرة الحسين اعظاماً له وفي مشكاة الأنوار للطبرسي ص ١٥٤ كان أبوعبدالله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام يقول ما مشى الحسين بين يدي الحسن قط ولابدره بمنطق قد اذا اجتمعا تعظيماً واجلاله له.

فهل يجوز العقل مع هذه الأداب الآلهية ان يخالف سيدالشهداء أخاه حجة الوقت ويخطأ رأيه مع علمه بانه لا يفعل الا وفق المصلحة الربوبية.

١٢١

١٢٢

نظرة اجمالية

علمنا من شتى النواحي مستنبطين من مدونات التاريخ وجوامع الحديث ومما عرفناه من مواقف أئمة الهدى من الاصلاح والتهذيب وخضوع من دونهم من ذوي قراباتهم إلا افراداً اخرجهم النص الصريح ان السيدة سكينة لم تكن متروكة سدى ترتكب الشنع وتقتحم المخاريق وانما كانت بمرصد من أخيها زين العابدين وابنه الباقر والصادق وبعين رعايتهم لها وهب ان الخلافة الصورية والسلطة العامة كانت مبتزة منهم لكن لم تبتز منهم القدرة على نسائهم وعائلتهم كيف وكل من سوقة الناس يقدر على من تحت حيطته من أهل بيته فيكبحهم عما يحط بكرامته أو لا يراه من صالحهم لجهات أخرى.

فهل من المعقول ان الامام زين العابدينعليه‌السلام يدع اخته الكريمة عليه في حيث تنيخ فيه الضعة والصغار وهو القائل لأبي خالد الكابلي حين دخل عليه ورأى الباب مفتوحاً فتعجب من ذلك:

لا تعجب ان الخادمة خرجت من الدار ولا علم لها بفتح الباب ولا يجوز لبنات رسول الله ان يخرجن فيصفقن الباب(١) .

__________________

١ - مدينة المعاجز ص ٣١٨ حديث ٨٦.

١٢٣

أمن المعقول أنه لا يجوز لهن رد الباب وليس فيه إلا الخروج الى مظنة رؤية الأجنبي لهن من وراء الأزر والأخمرة ويكون من الجائز لهن التبرج الى الاجانب والمحادثة معهم والخوض في مجاملاتهم خصوصاً ما تمنع منه الشريعة وهو سماع الغناء وعقد المجالس للمغنين.

ثم ما بال الامام الباقرعليه‌السلام يذر عمته السيدة بين تلكم المخازي وما بال الاباة الهاشميون يغضون الطرف عما هنالك من بواعث العيب والنقص فالى من يدخرون الاصلاح وهم يتركون عقائل بيتهم والى أي زمن يرجئونه ان أخروه عن ايام حياتهم في خفراتهم.

وهذه جبلة فطر الله عليها الأمم جمعاء فضلاً عمن قيضهم المولى سبحانه لهداية البشر وارشادهم الى ما هو الأصلح وقد كان في الأمة العربية من لا يرضخ لمنافيات الغيرة والشهامة وان بلغوا في القساوة كل مبلغ حتى كان من امرهم ان وأدوا البنات كيلا يلحقهم بسببهن العار وكانوا لا يزوجون المرأة من الرجل اذا شبب بها(١)

ولما شبب عبدالله بن مصعب المعروف بعائذ الكلب بامرأة من بني نصر بن دهمان وكان اسمها ( جمل ) عمد اليها اخوتها فقتلوها غيرة منهم(٢) .

ولما بلغ الحجاج الثقفي ان محمد بن عبدالله النميري شبب باخته زينب اسمعه السباب المقذع ولم يتركه حتى كتب الى عبدالملك بن مروان بذلك(٣) ولما شبب وضاح بامرأة الوليد قتله(٤) .

__________________

١ - شرح امالي القالي للبكري ج ٢، ص ٦٥٩.

٢ - المصدر.

٣ - شرح امالي القالي ج ٢ ص ٦٥٨.

٤ - آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ج ١ ص ٢٨٣.

١٢٤

وشبب الهذلي بابنة جندل بن معبد من بني الحساس فساء ذلك أباها فعدا عليه وقتله ثم احرقه(١)

وكان ابن رهيمة يشبب بزينب بنت عكرمة بن عبدالرحمن بن الحرث ابن هشام فاستعدى عليه اخوها هشام بن عبدالملك فأمر بضربه خمسمائة سوط وأباح دمه إن وجد يفعل مثل ذلك.

وغضب يزيد بن معاوية على عبدالرحمن بن حسان لما شبب باخته رملة بنت معاوية واستعدى عليه اباه معاوية بن أبي سفيان(٢) .

واشترى ابن معبد ( سحيم ) الشاعر فلما شبب سحيم بابنته عميرة وشهرها عدا إبن معبد عليه فأحرقه بالنار(٣) .

وفي هذه الشواهد مقنع للتعريف بما جبلت عليه نفوس العرب من الغيرة والشهامة فكيف بالهاشميين منهم الذين لم يرضخوا للدنايا وترفعوا عن كل ما يمس كرامتهم فتراهم ينكرون على من يتناول اعراض غيرهم فضلاً عن أعراضهم.

فهذا الحسن بن زيد بن الحسن المثنى بن الامام السبط الحسن بن اميرالمؤمنينعليه‌السلام بلغه يوم كان والياً على المدينة ان ابن المولى الشاعر يشبب بحرم المسلمين فأغلظ القول له وتهدده ولم يتركه حتى حلف بالايمان المغلظة انه لم يقصد امرأة بعينها وانما عنى في شعره قوسه وسماها ( ليلى ).

__________________

١ - شرح امالي القالي ج ٢ ص ٧٢١.

٢ - شرح امالي القالي للبكري ج ٢ ص ٧٢١.

٣ - شرح امالي القالي للبكري ج ٢ ص ٧٢١.

١٢٥

ولقد أنكر الرشيد على اسحاق الموصلي لما غناه بشعر عمر بن أبي ربيعة وفيه لفظ سكينة ولم يتعين انها ابنة الحسين ولأجل المشابهة في الاسم قال له:

لعن الله الفاسق ولعنك معه ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق في سكينة ألا تتحفظ في غنائك وتدري ما يخرج من راسك.

فهل والحالة هذه ترى الهاشميين الذين هم في المدينة يغضون الطرف عما تفعله خفرة من نسائهم من المخاريق والشنع واذا لم يسعهم ذلك معها فهلا يسعهم ان يوصدوا الأبواب دون من يريد الاجتماع معها من شعراء ومغنين مع انه لم يكن لهؤلاء انصار يخاف منهم سو العاقبة.

ثم هل يعذر إمام قيضه الله تعالى لتأديب البشر عامة وتحت سيطرته من لم يتأدب بآداب الشريعة الذي قيض لأحيائها وهو ومن جرى مجراه من ائمة الهدى يوصون شيعتهم بمنع المرأة عن الابتذال ومزاولة الرجال فيقولون: المرأة عي وعورة فتداواعيهن بالسكوت وعوراتهن بالبيوت(١) وانها اذا خرجت من بيتها لعنها كل ملك في السماء حتى ترجع الى بيتها وان تعطرت وخرجت حتى يوجد ريحها فهي زانية وانها تلعن حتى ترجع الى بيتها وليس لها ان تجلس مع الرجال في الخلاء ولا ان تتعلم الكتابة ولا سورة يوسف لما فيها من الفتن وعليها ان تتعلم سورة النور لما فيها من التهديد والزجر ولا تنزل الغرف فيراها الأجانب وليس عليها اذان ولا

__________________

١ - الوسائل للحر العاملي ج ٣ ص ٣٠ باب ١٣٠ عن ابي عبدالله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٢٦

اقامة كيلا يسمع صوتها الرجال ولا جمعة وجماعة ولا عيادة مريض ولا تشييع جنازة ولا الاجهار بالتلبية ولا الهرولة بين الصفا والمروة ولا إستلام الحجر ولا تولي القضاء ولا الامارة ولا المشاورة في الأمور(١) .

وفي وصية أمير المؤمنينعليه‌السلام للحسن:

وإن استعطت ان لا يعرفن غيرك فافعل.

أيصح على هذا الحال نسبة المسامحة الى امام الأمةعليه‌السلام باسدال الستر على السيدة وكبحها عن محادثة الرجال ام ينسب اليه المروق عن طاعته وعدم قدرته على التوصل الى ذلك بكل صورة.

كبرت كلمة تخرج من افواههم، ان يقولوا إلا زوراً.

ويا فض فم القائل ان لهج بشيء من ذلك.

والذي يهون الخطب ان أحاديث أبا الفرج لا قيمة لها في حق السيدة الزكية بعد ان كان مصدرها الزبير بن بكار وابن أخيه مصعب والهيثم بن عدي وأضرابهم ممن هو شانيء لهذا البيت الطاهر أو مستأجر لسياسة الوقت وان تاريخ حياة السيدة سكينة مما نطق به أقوام أخذهم الحنق على حمله الوحي وسادات الأمة كما لوثوا ساحة غيرها من رجالات هذا البيت الرفيع وخفراته بعد أن أعوزتهم الوسائل الى الطعن في قدس الأئمة الطاهرين فطفقوا يحطون من كرامة ابنائهم وذوي قراباتهم من أمثال هذه النواحي وهم لا يعلمون

__________________

١ - الوسائل للحر العاملي ج ٣ ص ٢٧ باب ١١٧ جملة مما يحرم على النساء وما يكره.

١٢٧

ان المستقبل الكشاف سيوقف أرباب البحث على نواياهم السيئة ودحر ما افتعلوه فان للحق أنصاراً ولا بد للباغي من مصرع.

وقد عرفت فيما تقدم ان سكينة التي تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة في محفل الغناء هي ابنة خالد بن مصعب بن الزبير ومنه تعرف كيف زحزح آل الزبير هذه الشناعة عن ابنتهم وألصقوها بمن شابهتها في الاسم فراجت هذه الأكذوبة حتى على من زعم انه محص الحقائق وأخذت به الثقافة الى حد بعيد وفي الحقيقة لا يعرف من اين تؤكل الكتف.

ولعل هذا البيان الضافي لم يدع القارىء مندوحة عن الأذعان بان المصونة الطاهرة هي تلك البريئة من كل شين وعار والرضية المخفورة تحت خباء النبوة وبين سرادق الامامة يكتنفا الشرف ويحف بها الصون من جميع نواحيها ولم تبرح ترفل في مطارف من الحصافة قشيبة ولها أشواطها البعيدة في مستوى الآداب الأحمدية تزينها العفة والحياء وتجللها الرزانة والوقار ويزدان بذكرها المدح والثناء وإن كان لأرباب الأهواء والمطامع حول حياتها جلبة وتركاض فدعهم يخوضوا ويلعبوا ويلههم الأمل الخائب والأمنية والمخفقة والظن المكدي.

وان كلمة الحسين في حقها:

( أما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى ). نتشوف منها منزلة كبرى في اليقين والتجرد عن هذه العوارض الدنيوية الفانية.

ان هذه الجلبة بسرد هاتيك القصص الخرافية كما غرت أبا الفرج اغتر بها من جاء بعده من المؤرخين فنشروا فضائح في حق

١٢٨

السيدة البريئة سودوا بها صفحة التاريخ حسباناً منهم ان صاحب الأغاني ومن تقدمه لا يرسل ما لا تعويل عليه وعرفت بما أوضحناه ان هؤلاء كحاطب ليل لم يريدوا الا جمع اضغاث من هنا وهنا فألبسوها أطماراً من الظنون والأهوام.

١٢٩

١٣٠

الرباب

التاريخ دراسات لما يعبر في الزمن من خير وشر ودليل لمعرفة سير البشر في المعارف والصناعات والسياسيات والعادات والمؤهلات للرقي الانحطاط ومرآة صافية يتشوف منها الأعمال الصالحة والتعاليم النافعة وسير الأبطال الى اهدافهم المرموقة وما يؤثر عن العظماء من مزايا وآثار تكون قدوة في اقتصاص أثرهم والسير على هداهم ومن المؤسف جدا أهمال المؤرخين ورواة الحوادث واجبهم فنشروا فضائح وستروا فضائل طاعة للأمراء الذين استعبدوهم بالمال أو خضوعا للنزعات والأحقاد فجنوا على الحقايق الراهنة واضاعوا الأمانة المودعة عندهم فزويت معارف الرجال واعمالهم الصالحة واختلط الصحيح بالسقيم وديف السم بالعسل وان كلمة ( مقاتل ) للمنصور الدوانيقي ( اتحب ان اضع تك في فضل العباس )(١) تفيدنا فقهاً بتأثير الأطماع في النفوس وسحق العقائد وان اوجب غضب الرب سبحانه وتعالى خصوصاً اذا كان الوضع على لسان صاحب الشريعة وقد نبه على وخامة عاقبته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستكثر القالة من بعدي فمن كذب علي

__________________

١ - تاريخ بغداد ج ١٣ ص ١٦٧.

١٣١

فليتبوأ مقعده من النار(١) قال السبكي المؤرخون على جرف هار لتسليطهم على أعراض الناس ونقلهم مجرد ما يبلغهم من صادق أو كاذب(٢) وربما وضعوا من اناس ورفعوا اخرين أما لتعصب أو جهل أو اعتمادا على نقل من لا يوثق به والجهل في المؤرخين اكثر منه في اهل الجرح والتعديل وقل ما أرى مؤرخاً خالياً عن التعصب(٣) ولقد كان عيسى بن داب يضع للعباسيين وعوانة بن الحكم يضع لبني امية(٤) ومعاوية يستعبد سمرة بن جندب وابا هريرة وانس وزيد بن ارقم وعروة ابن الزبير(٥) لأهدافه وغاياته فأكثروا من فضائل السلف والطعن في اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب وولده وشوهوا احكام الشريعة وتجرؤا على قدس الرسالة فنسبوا اليه السهو مرة(٦) والخطأ اخرى(٧) وان السحر أثر فيه حتى خيل اليه انه يفعل الشيء ولم يفعله واستمر الحال الى سنة(٨) .

__________________

١ - الاحتجاج للطبرسي ص ٢٤٧ طبع النجف في احتجاج الجواد على يحيى بن اكثم.

٢ - معيد النعم ص ٧٤ باب ٤٦.

٣ - طبقات الشافية الكبرى ج ١ ص ١٩٧ ترجمة احمد بن صالح المصري.

٤ - معجم الادباء ج ١٦ ص ١٦٢ ترجمة عيسى بن داب.

٥ - شرح النهج لابن ابي الحديد ج ١ ص ٣٦٣.

٦ - صحيح البخاري في باب ما جاء في سجود السهو وفي فتح الباري ج ٣ ص ٦٠ ذكر حديث ذي اليدين في السهو النبي وذكره القاضي عياض في الشفا باب عصمة اقواله.

٧ - شرح الشفا للخفاجي ج ٤ ص ٢٥٦ وعمدة القارى شرح البخاري ج ١ ص ٥٧٧ باب كتابة العلم وجلاء العينين للالوسي ص ٢٦٨.

٨ - المغني لابن قدامة الحنبلي ج ٨ ص ١٥٠ والبخاري كتاب الطب وارشاد الساري شرح البخاري ج ٨ ص ٤٠٣ والزواجر لابن حجر، ج ٢ ص ٨٢.

١٣٢

اذا فمن اين تبصر الأجيال المستقبلة الحوادث الصحيحة لتسير على ضوء هدى العظماء الذين لا يخضعون للدينه ويبذلون في تحصيل السعادة كل غال ورخيص.

ومن هنا اظلم الطريق ولم يهتد الباحث الى الصحيح في نسب ( الرباب ) زوجة الحسينعليه‌السلام والقصة التي يحكيها ابو الفرج الأصفهاني في مقال الطالبيين بترجمة عبدالله بن الحسين عن مجاهد عن محمد بن السائب الكلبي لا تأخذ بنا الى جهة نيرة فان القاريء لا يشك في تسطيرها على غير الواقع لغاية الحط من مقام اميرالمؤمنين الذي يقول كنت اتبع رسول الله اتباع الفصيل اثرامه يرفع لي كل يوم علما من اخلاقه ويأمرني بالاقتداء به أرى نور الوحي واشم ريح النبوة.(١)

فان الأخلاق المحمدية التي تحلى بها صاحـب الخلافة الكبرى تتنافى مع الأسطورة التي يقصها مجاهد وابن الكلبي مع ان علمــاء الرجال تكلموا في مجــاهد ولم يقبل جملة منهم مرويــاته ومحمد بن هشام بن السائب الكلبي مجهول الحال عند علماء الشيعة ولم يعتمد عليه علماء السنة(٢) فما يتحدثان عنه في قصة زواج الحسين منها يرمي به عرض الجدار ولم يخف افتعالها على من يقرأها بروية.

ونصها المسطور في مقاتل الطالبيين بترجمة عبدالله بن الحسينعليه‌السلام ان رجلاً دخل المسجد ايام خلافة عمر بن الخطاب فحياه بتحية الاسلام وسأله عمر عن اسمه فقال انا نصراني انا امرء القيس بن عدي الكلبي، وغرض عليه عمر الاسلام فاسلم وعقد له على من

__________________

١ - نهج البلاغة ج ١ ص ٤١٧ من خطبته الفاصعة.

٢ - راجع عنهما تهذيب التهذيب لابن حجر، ج ١٠ ص ٤٢، وج ٩ ص ١٧٨.

١٣٣

أسلم بالشام من قضاعة ولما حمل اللواء وادبر تبعه اميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ومعه ابناه حسن وحسين فقال له انا ابن عم رسول الله وصهره وهذان ابناي وقد رغبنا في صهرك فانكحنا فقال انكحتك يا علي ابنتي المحياة وانكحت الحسن اختها سلمى وانكحت الحسين اختها الرباب.

وهذه القصة لا مساس لها بالواقع فان الامعان في شخصية أميرالمؤمنين المتحلية بالخلاق الشريعة والعادات المألوفة يفيدنا الجزم بمنافات اسراعه في المصاهرة من هذا النصراني الذي هو جديد عهد بالاسلام والمسلمين وكل احد اذا راجع وجدانه يجد منه الانكار على من يرتكب مثل هذا الذي لا يتفق مع الآداب العرفية حتى لو كان سوقة فضلا عمن هو مؤهل للزعامة الكبرى وفرضه المولى سبحانه وتعالى خليفة على البشر عامة بعد النبوة وحاشا مثل اميرالمؤمنين ان يكون مقهوراً لحكم الشهوة وتحفزه الغريزة الجنسية إلى ما تتنفر منه العامة والخاصة.

ومما يبعد القصة اهمالها اختيار رأي البنات في الرضا والعدم كما انها لم تعين المهر مع ان الشريعة المقدسة قررت اختيار الزوجة في الرضا بالزوج ومعرفة الزوجة بالمهر لازم والالتزام بفضولية العقد ووقوفه على الاجازة وان لها مهر امثالها لو لم يسم الصداق انما يتم مع فرض التنازل الى التسليم بمسارعة أميرالمؤمنين وخوف فوات هذا ( الكنز ) منه لو لم يبادر الى مذاكرة الرجل في بناته.

على أنا معشر الامامية نلتزم بان الله تعالى مكن الامام الحجة المؤهل للرياسة العامة من العلم الواسع لقطع شبه المعاندين أو لتركيز عقايد المتبعين للحق وعليه فامير المؤمنين على يقين من ان بنات هذا الرجل لا يغلبه عليهن احد لو انتظر الفرصة المناسبة.

١٣٤

لكن الأحقاد ابت الا ان تشوه مقام ولي الله وتسجل على سيد الأوصياءعليه‌السلام ما تتقزز منه النفوس لعل ان يوجد في الأجيال من يتقبل هذه الأكذوبة فينحاز عنه وقد أصاب وأضعها الغرض فقد آمن بها من لا خبرة له بمكانة ( باب مدينة علم الرسول ) المتحلي باخلاقه الكريمة.

وهناك شيء اخر وهو بقاء الرباب حائلاً عند الحسين أكثر من عشرين سنة فان التزويج منها كان في خلافة عمر بن الخطاب ولا أقل من التقدير بآخر ايامه فانه قتل ٢٥ سنة وولادة سكينة على أقل التقدير في سنة ٤٧ فتكون يوم الطف ابنة ١٣ سنة والعادة بتعد بقاءها حائلاً هذه المدة الطويلة واذا كان الزواج في اوائل خلافته تكون المسافة ابعد.

وعلى هذا فلا حجة واضحة تأخذ بنا الى الايمان بهذه الاسطورة مع ان ابن كثير في البداية ج ٨ ص ٢١٧ يسمى أباها ( انيف ) ولم ينسبه الى احد ولم يذكر هذه الأسطورة.

وعلى كل حال فالرباب من خيرات النساء وأفضلهن جاء بها الحسين مع حرمه الى الطف وحملت معهن الى الكوفة والشام ورجعت مع الحرم الى المدينة فأقامت فيها لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً من البكاء على الحسين ولم تستظل تحت سقف حتى ماتت بعد قتله بسنة كمداً(١) .

وليس بصحيح ما قيل انها أقامت على قبر الحسين سنة(٢) تنوح الليل والنهار وذلك بعد الرجوع من الشام ومرورهم بكربلاء

__________________

١ - كامل ابن الاثير ج ٤ ص ٣٦.

٢ - ابن الاثير.

١٣٥

فان العقيلة زينب الكبرى هي المتكفلة بحياطة الحرم وحفظهم وكلأتهم فلا تستطيع أن تفارقها بتلك البيداء المقفرة من دون عاطف ولا متحنن وهي امرأة عزلاء لا حامي لها ولا كفيل.

وكيف كان ففي تلك السنة التي عاشت فيها خطبها الاشراف فأبت وقالت ما كنت لاتخذ حماً بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وحق لها إذا أمتنعت من التزويج فانها لا ترى أي احد يوازي سيد شباب أهل الجنة لتحضى به أو أن هناك من يباري من هو من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمنزلة هارون من موسىعليه‌السلام لتفوز بمصاهرته:

من يباريهم وفي الشمس معنى

مجهد متعـب لمن بـاراها

قـادة علـمهم ورأى حجـاهم

مسمعا كـل حكمية منظراها

ورثوا مـن محمد سبـق أولا

ها وحازوا مالم تحز اخراها

وهم الأعين الصحيحات تهدي

كـل عـين مكفوفة عيناها

كـم لهم ألسـن عن الله تنبي

هي أقـلام حكمـة قد براها

لـم يكونوا للعـرش إلا كنوزا

خافيات سبحان من أبداها(٢)

على أن الرواية جــاءت عن امـامة بنت زينب ربيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكـانت في عداد أزواج أميرالمؤمنين عنهعليه‌السلام ان ازواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيعليه‌السلام لا يتزوجن بعده فلم تتزوج امرأة ولا أم ولد بعد أميرالمؤمنين عملاً بهذا الحديث(٣) .

____________

١ - تذكرة الخواص ص ١٥٠ وابن الاثير ج ٤، ص ٣٦ والاغاني ج ١٤، ص ١٥٨.

٢ - من الفية ملا كاظم الازري.

٣ - المجلسي في البحار ٩، ص ٦٢١ عن قوت القلوب.

١٣٦

والرباب هذه هي التي طلبت رأس الحسين من ابن زياد فلما رأته اخذته ووضعته في حجرها وقبلته وقالت(١) :

واحسينا فلا نسيت حسيناً

أفصـدته أسنـة الأعداء

غادروه بـكربلاء صريعاً

لا سقى الله جانبي كربلاء

وهذان البيتان وراهما ياقوت في معجم البلدان ج ٧ - ٢٢٩ لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في رثاء الحسين وادعى انها زوجته وكان عجز البيت الثاني في روايته:

( لا سقى الغيث بعده كربلاء )

ولانفراده بهذا عما عليه أهل النسب والتراجم والسيرة من عدم عدها في ازواج السبط الشهيد لا يؤبه به.

وكان من رثاء الرباب لسيد الشهداءعليه‌السلام :

ان الذي كان نوراً يستضاء به

بكربـلاء قتيـل غير مدفون

سبط النبي جزاك الله صالـحة

عنا وجنبت خسران الموازين

قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به

وكنت تصحبنا بالرحم والدين

من لليتامى ومن للسائلين ومن

يغني ويأوي اليـه كل مسكين

والله لا أبتغي صهراً بصهركم

حتى اغيب بين الرمل والطين

ولما رجعت من الشام أقامت المأتم على الحسين وبكت النساء معها حتى جفت دموعهن:

__________________

١ - تذكرة الخواص ص ١٤٧، وتاريخ القرماني ص ٤.

١٣٧

تنعى ليوث البـأس مـن فتيانها

وغيوثها إن عمت البأساء

تبكيهم بدم فقـل بالمهجة الحرى

تسيـل العبـرة الحمـراء

ناحت فلما غضضت من صوتها

بزفيرها أنفاسهـا الصعداء

حنت ولكـن الحنين بكـى وقد

ناحت ولكن نوحهـا ايماء

ولما أعلمتها بعض جواريها بأن السويق يسيل الدمعة أمرت ان يصنع السويق وقالت انما نريد أن نقوى على البكاء(١) .

ويقول ابن كثير توفيت الرباب بنت أنيف امرأة الحسين بن عليعليه‌السلام في سنة ٦٢ وكانت حاظرة اهل العراق اذ هم يعدون في السبت او الجمعة على زوجها الحسين بن علي ابن بنت رسول الله(٢) .

ولدت الرباب من الحسينعليه‌السلام سكينة وعبدالله فاما عبدالله فقتل رضيعاً في حجر أبيه يوم الطف وذلك لما قتل أهل بيته وصحبه وبقي وحده استسلم للقضاء الآلهي بذبحه مظلوماً ممنوعاً من الورود.

وجاء الى عياله يودعهم ويأمرهم بلبس الأزر والصبر على ما يحل بهم من البلاء وعرفهم بأن الله تعالى يجعل عاقبة أمرهم الى خير ويعذب عدوهم بأنواع العذاب.

ثم دعا بولده الرضيع يودعه فأتته زينب بابنه عبدالله فاجلسه في حجره يودعه ويقبله(٣) ويقول:

بعداً لهؤلاء القوم اذا كان جدك المصطفى خصمهم(٤) .

__________________

١ - البحار للمجلسي ج ١٠، ص ٢٣٥ عن الكافي.

٢ - البدايةج ٨ ص ٢١٧.

٣ - اللهوف ص ٦٥.

٤ - البحار ج ١٠، ص ١٠٣.

١٣٨

ثم أتي به نحو القوم يطلب له الماء فرماه حرملة بسهم وذبحه فتلقى الحسين الدم بكفه ورمى به نحو السماء فلم يسقط منه قطرة(١) .

وقال هون ما نزل بي أن بعين الله(٢) اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل آلهي ان كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه وانتقم لنا من الظالمين(٣) واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة لنا في الآجل(٤) اللهم أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) وسمععليه‌السلام قائلاً يقول: دعه يا حسين فان له مرضعاً في الجنة(٦) .

ثم نزل عن فرسه وحفر له بجفن سيفه ودفنه مرملاً بدمه(٧) .

ويقال انه وضعه مع قتلى أهل بيته(٨)

وأما سكينة فقد ذكر المؤرخون انه لقب لها من امها الرباب(٩)

__________________

١ - حديث الامام الباقرعليه‌السلام وزيارة الناحية التي يقول فيها حجة آل محمدعليه‌السلام : السلام على عبدالله الرضيع المرمي الصريع المصعد بدمه الى السماء المذبوح في حجر أبيه لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه.

٢ - ابن شهراشوب ج ٢ - ص ٢٢٢.

٣ - ابن نما ص ٣٦.

٤ - نظلم الزهراء ص ١٢٢.

٥ - المنتخب.

٦ - تذكرة الخواص ص ١٤٤ والقمقام لميرزا فرهاد ص ٣٨٥.

٧ - احتجاج الطبرسي ص ١٦٣ طـ النجف.

٨ - ارشد المفيد وابن نما ص ٣٧.

٩ - ابن خلكان في الوفيات بترجمها وشذرات الذهب ج ١، ص ١٥٤، ونور الأبصار ص ١٥٧.

١٣٩

وكأنه لسكونها وهدوئها وعليه فالمناسب فتح السين المهملة وكسر الكاف التي بعدها لا كما يجري على الألسن من ضم السين وفتح الكاف وهذا الرأي نسبه الصبان الى المشهور فانه قال:

المشهور على الآلسنة في اسمها انه مكبر بفتح السين وكسر الكاف(١) .

والمحكى عن شرح اسماء رجال المشكاة انه مصغر بضم السين وفتح الكاف ومثله في القاموس.

واما اسمها فالذي اختاره ابن تغر بردي انه آمنة(٢) ورواية أبي اسحاق المالكي تؤكده فان فيها قول سكينة:

إنكم سميتموني باسم جدتي ام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمنة بنت وهب.

ويحكى أبوالفرج القول بأنه أمينة واميمة.

ولم يتضح لنا سنة ولادتها ولا مقدار عمرها وان أمكننا القول بأنها قاربت السبعين بعد ملاحظة سنة وفاتها وكونها يوم الطف بالغة مبلغ النساء ولا أقل من التقدير بالعشرة. وذكرنا ولادتها سنة ٤٧.

كما صح لنا ولادتها بالمدينة ووفاتها فيها(٣) يوم الخميس

__________________

١ - اسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ٢٠٢.

٢ - النجوم الزاهرة ج ١، ص ٢٧٦.

٣ - تهذيب الأسماء للنووي ج ١، ص ١٦٣ ومعاوف ابن قتيبة وتذكرة الخواص وابن خلكان بترجمتها والكواكب الدرية للمناوي ج ١ ص ٥٨.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

أضلّهم في الحياة الدنيا ، ويريدون الانتقام منهم.

٥ ـ الفرق بين البشارة الخامسة والسادسة ، أنّ في الخامسة يقال لهم : إنّ ما ترغبونه وتريدونه موجود هناك ، فإنّ مجرّد رغبتكم في شيء ما يتزامن مع مثوله أمامكم.

ولكن قوله تعالى في( تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ) : يستخدم للإشارة إلى الرغبات واللذات المادية ، وإنّ قوله تعالى في( ما تَدَّعُونَ ) : يشير إلى ما تريدونه من المواهب المعنوية والعطايا والملذات الروحانية.

وخلاصة الكلام : أنّ كلّ شيء موجود هناك ، سواء كان ماديا أم معنويا.

٦ ـ «نزل» تعني كما أشرنا سابقا ، ما يقدمه المضيف إلى ضيفه ، بينما فسّرها البعض بأوّل ما يقدّم إلى الضيف. والتعبير في كلّ الأحوال يكشف عن أن جميع المؤمنين ذوي الاستقامة هم ضيوف الله ونزل رحمته وجنته ومائدته.

٧ ـ إنّ التدقيق في هذا البشائر ووعود الحق من قبل البارئ جلّ وعلا ، والتي تعطى للمؤمنين بواسطة ملائكة الله الكرام ، سوف تحرك في وجود الإنسان الدوافع نحو الإيمان والاستقامة ، تجعل الروح البشرية تتعشق السير في هذا الطريق.

وفي ظل هذه الأجواء المضيئة بالطاعة والبشرى ، استطاع الإسلام العزيز أن يصنع من عرب الجاهلية مجموعة نموذجية لا تتوانى عن الإيثار والتضحية بالغالي والعزيز في سبيل منعة الإسلام والمسلمين وانتصارهم على كلّ المشاكل والعقبات.

وينبغي أن ننتبه هنا إلى أنّ «الاستقامة» مثلها مثل «العمل الصالح» هي ثمرة لشجرة الإيمان ، إذ الإيمان يدعو الإنسان إلى الاستقامة متى ما نفذ إلى عمق الإنسان ، وتأسست قواعد وجوده النفسي على التقوى ، مثلما تعمق الاستقامة في طريق الحق والإيمان.

٤٠١

وهكذا يكون لهذين العاملين أثران متبادلان متقابلان.

والذي نستفيده ، من الآيات القرآنية الأخرى ، أنّ الإيمان والاستقامة لا يجلبان البركات المعنوية والروحية وحسب ، وإنّما يرفل الإنسان من خلالهما بالبركات المادية التي تسود عالمنا هذا ، إذ نقرأ في الآية (١٦) من سورة الجن قول الله تعالى :( وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) وستشملهم فيما يشملهم سنوات ملأى بالخير والعطاء والبركة.

* * *

٤٠٢

الآيات

( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) )

التّفسير

ادفع السيئة بالحسنة :

ما زالت هذه المجموعة من الآيات الكريمة تتحدث عن الصورة الأخرى ، عن المؤمنين الذين يتبعون أحسن القول.

يقول تعالى :( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية استفهامية ، إلّا أنّ الاستفهام هنا إنكاري ، بمعنى أنّه ليس هناك أفضل من كلام الشخص الذي يدعو إلى الله وينادي بالتوحيد ، ثمّ يؤكّد

٤٠٣

دعوته اللفظية هذه ويقرنها بالفعل والعمل الصالح.

إنّ اعتقاد هؤلاء بالإسلام وتسليمهم للباري جلّ وعلا ، يدعم عملهم الصالح.

إنّ الآية الكريمة هذه ترسم ثلاث صفات لذي القول الحسن هي : الدعوة إلى الله ، والعمل الصالح ، والتسليم ، حيال الحق.

إنّ أمثال هؤلاء فضلا عن تمسكهم بالأركان الإيمانية الثلاثة (الإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، والإيمان بالقلب) فإنّهم تمسكوا بركن رابع هو التبليغ والدعوة ونشر دين الحق ، وإقامة الدليل على أصول الدين ، ودفع آثار الشرك والتردد من قلوب عباد الله.

إنّ هؤلاء المنادين ، بصفاتهم الأربع ، يعتبرون أفضل المنادين والدعاة في العالم.

وبرغم ما ذهب إليه بعض المفسّرين من قولهم بانطباق الصفات السابقة على شخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو هو والأئمّة الذين يدعون إلى الحق ، أو المؤذنين خاصة. لكن من الواضح أنّ للآية مفهوما أوسع بحيث يشمل كلّ المنادين بالتوحيد ممّن تشملهم الصفات المذكورة. بالرغم من أن أفضل مصداق لذلك هو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [خاصة في فترة نزول الآية] ثمّ يأتي بعد ذلك الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وبعدهم جميع العلماء والمجاهدين في طريق الحق ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والداعين للإسلام من أي طائفة كانوا.

إنّ هذه الآية فخر عظيم وعزّ كبير لكل أولئك ، كي تتقوى عزائمهم ويربط على قلوبهم.

وإذا قيل بأن الآية مدح لبلال الحبشي المؤذن الخاص لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك بسبب أنّه أطلق نداء التوحيد في فترة من أحلك الفترات وأوحشها في تأريخ الدعوة الإسلامية ، وعرّض روحه للخطر.

ثم كمّل هذه الأوصاف بإيمانه الراسخ ، واستقامته التي لا نظير لها ، وأعماله

٤٠٤

الصالحة ، والاستمرار على نهج الإسلام الصحيح.

أمّا قوله تعالى :( وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فللمفسّرين فيه قولان :

الأوّل : أنّ (قال) هنا من (قول) وتعني الاعتقاد ، ويكون المعنى : الذي عنده الاعتقاد الراسخ بالإسلام.

الثّاني : أنّ (قول) بمعنى الحديث والتحدّث ، وحين ذلك يكون المعنى : الذي يفتخر ويتباهى بالدين الإلهي ، وينادي بصوت مرتفع إنني من المسلمين.

المعنى الأوّل يبدو أكثر قبولا بالرغم من أنّ مفهوم الآية يتحمل المعنيين.

بعد بيان الدعوة إلى الله وأوصاف الدعاة إلى الله ، شرحت الآيات أسلوب الدعوة وطريقتها ، فقال تعالى :( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) (١) .

في الوقت الذي لا يملك فيه أعداؤكم سوى سلاح الافتراء والاستهزاء والسخرية والكلام البذيء وأنواع الضغوط والظلم ، ويجب أن يكون سلاحكم ـ أنتم الدعاة ـ التقوى الطهر وقول الحق واللين والرفق والمحبّة.

إنّ المذهب الحق يستفيد من هذه الوسائل ، بعكس المذاهب المصطنعة الباطلة.

وبالرغم من أنّ (الحسنة) و (السيئة) تنطويان على مفهومين واسعين ، إذ تشمل الحسنة كلّ إحسان وجميل وخير وبركة ، والسيئة تشمل كلّ انحراف وقبح وعذاب ، إلّا أنّ الآية تقصد ذلك الجانب المحدّد من السيئة والحسنة ، الذي يختص بأساليب الدعوة.

لكن بعض المفسّرين فسّر الحسنة بمعنى الإسلام والتوحيد ، والسيئة بمعنى الشرك والكفر.

وقال البعض : (الحسنة) هي الأعمال الصالحة. و (السيئة) الأعمال القبيحة.

وهناك من قال : إنّ (الحسنة) هي الصفات الإنسانية النبيلة ، كالصبر والحلم

__________________

(١) تكرار «لا» في «ولا السيئة» هو لتأكيد النفي.

٤٠٥

والمداراة والعفو ، بينما السيئة بمعنى الغضب والجهل والخشونة.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأفضل حسب الظاهر.

في حديث عن الإمام الصادق أنّهعليه‌السلام قال في تفسير الآية أعلاه : «الحسنة التقية ، السيئة الإذاعة»(١) . وطبعا فان هذا الحديث الشريف ناظر الى الموارد التي تكون فيها الاذاعة سببا في إتلاف الطاقات والكوادر الجيدة وافشاء الخطط للأعداء.

ثم تضيف الآية :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) .

ادفع الباطل بالحق ، والجهل والخشونة بالحلم والمداراة ، وقابل الإساءة بالإحسان ، فلا ترد الإساءة بالإساءة ، والقبح بالقبح ، لأنّ هذا أسلوب من همّه الانتقام ، ثمّ إنّ هذا الأسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر.

وتشير الآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير ، فتقول : إنّ هذا التعامل سيقود إلى :( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) .

إنّ ما يبيّنه القرآن هنا ، مضافا إلى ما يشبهه في الآية (٩٦) من سورة المؤمنين في قوله تعالى :( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) يعتبر من أهم وأبرز أساليب الدعوة ، خصوصا حيال الأعداء والجهلاء والمعاندين. ويؤيد ذلك آخر ما توصلت إليه البحوث والدراسات في علم النفس.

لأنّ كلّ من يقوم بالسيئة ينتظر الرد بالمثل ، خاصة الأشخاص الذين هم من هذا النمط ، وأحيانا يكون جواب السيئة الواحدة عدّة سيئات. أمّا عند ما يرى المسيء أنّ من أساء إليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب ، وإنّما يقابلها بالحسنة ، عندها سيحدث التغيير في وجوده ، وسيؤثر ذلك على ضميره بشدّة فيوقظه ، وستحدث ثورة في أعماقه ، سيخجل ويحس بالحقارة وينظر بعين التقدير والأكبار إلى من أساء إليه.

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الحديث عن الآية.

٤٠٦

وهنا ستزول الأحقاد والعداوات من الداخل وتترك مكانها للحبّ والمودّة.

ومن الضروري أن نشير هنا إلى أنّ هذا الأمر لا يمثل قانونا دائما ، وإنّما هو صفة غالبة ، لأنّ هناك أقلية تحاول أن تسيء الاستفادة من هذا الأسلوب ، فما لم ينزل بها ما تستحق من عقاب فإنّها لا تترك أعمالها الخاطئة.

ولكن في نفس الوقت الذي نستخدم العقوبة والشدة ضدّ هذه الأقلية ، علينا أن لا نغفل عن أنّ القانون المتحكم بالأكثرية هو قانون : «ادفع السيئة بالحسنة».

لذلك رأينا أنّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقادة من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام كانوا يستفيدون دائما من هذا الأسلوب القرآني العظيم ، ففي فتح مكّة مثلا كان الأعداء ـ وحتى الأصدقاء ـ ينتظرون أن تسفك الدماء وتؤخذ الثارات من الكفار والمشركين والمنافقين الذين أذاقوا المؤمنين ألوان الأذى والعذاب في مكّة وخارجها ، من هنا رفع بعض قادة الفتح شعار «اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبى الحرمة ، اليوم أذلّ الله قريشا» لكن ما كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنفيذا لأخلاقية «ادفع السيئة بالحسنة» إلّا أن عفا عن الجميع وأطلق كلمته المشهورة : «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ثمّ أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستبدل الشعار الانتقامي بشعار آخر يفيض إحسانا وكرما هو : «اليوم يوم المرحمة ، اليوم أعزّ الله قريشا»(١) .

لقد أحدث هذا الموقف النبوي الكريم عاصفة في أرض مشركي مكّة حتى أنّه على حدّ وصف كتاب الله تعالى بدأوا :( يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً ) (٢) .

لكن برغم ذلك ، نرى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استثنى بعض الأشخاص من العفو العام هذا ، كما نقله أصحاب السيرة ، لأنّهم كانوا خطرين ولم يستحقوا العفو النبوي الكريم الذي عبّر فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن خلق الإسلام ومنطق النّبيين حينما قال : «لا أقول لكم إلّا كما قال يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٢١ ، صفحة ١٠٩.

(٢) سورة النصر ، آية ٢.

٤٠٧

أرحم الراحمين»(١) .

«ولي» هنا بمعنى الصديق. و (حميم) تعني في الأصل الماء الحار المغلي ، وإذا قيل لعرق جسم الإنسان (حميم) فذلك لحرارته ، ولهذا السبب يطلق اسم «الحمّام» على أماكن الغسل ، ويقال أيضا للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص «حميم» والآية تقصد هذا المعنى.

وضروري أن نشير إلى أنّ قوله تعالى :( كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) حتى وإن لم تكن تعني أنّ الشخص لم يكن كذلك حقا ، إلا أنّ ظاهره سيكون كذلك على الأقل.

إنّ هذا الأسلوب من التعامل مع المعارضين والأعداء ليس بالأمر العادي السهل ، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق ، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تبين الأسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معاني كبيرة ، حيث يقول تعالى :( وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ) (٢) .

وكذلك :( وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

على الإنسان أن يجاهد نفسه مدّة طويلة حتى يستطيع أن يسيطر على غضبه ، يجب أن تكون روحه قوية في ظلّ الإيمان والتقوى حتى لا يستطيع أن يتأثر بسرعة وبسهولة بإيذاء الأعداء ، ولا يطغى عنده حب الانتقام ، فتلزمه الروح الواسعة وانشراح الصدر بالمقدار الكافي ، حتى يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من الكمال بحيث يقابل السيئات بالإحسان. وعليه أن يتجاوز مرحلة العفو ليصل إلى منزلة «دفع السيئة بالحسنة» وأن يحتسب كلّ ذلك في سبيل الله تعالى بغية تحقيق الأهداف المقدّسة.

وهنا أيضا ـ كما تلاحظون ـ تواجهنا قضية «الصبر» بوصف هذه الخصلة الأساس المتين لكل الملكات الأخلاقية الفاضلة ، وهي شرط في التقدم المعنوي

__________________

(١) بحار الأنوار ، المجلد ٢١ ، صفحة ١٣٢.

(٢) يرجع ضمير (يلقاها) إلى (الخصلة) أو (الوصية) المستفادة من الجملة السابقة.

٤٠٨

والمادي(١) .

إنّ هناك ـ بلا شك ـ موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم ، وإنّ وساوس الشيطان تمنع الإنسان من تحقيق ذلك بوسائل مختلفة ، لذلك نرى الآية الأخيرة تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصفه الأسوة والقدوة فتقول له :( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٢) .

«نزغ» تعني الدخول في عمل ما لإفساده ، ولهذا السبب يطلق على الوساوس الشيطانية «نزغ» وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم مغلوطة خطرة ، إذ يقوم بعض أدعياء الصلاح بتوجيه النصائح على شاكلة قولهم : لا يمكن إصلاح الناس إلّا بالقوّة. أو يجب غسل الدم بالدم. أو الترحم على الذئب ظلم للخراف وأمثال ذلك من الوساوس التي تنتهي إلى مقابلة السيئة بالسيئة.

القرآن الكريم يقول : إيّاكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس ، ولا تلجأوا إلى القوّة إلّا في موارد معدودة ، وعند ما يواجهكم أمثال هذا الكلام فاستعينوا بالله واعتمدوا عليه لأنّه يسمع الكلام ويعلم النيات.

وأخيرا ، تتضمّن الآية الدعوة إلى الاستعاذة بالله على مفهوم واسع ، وما ذكر هو أحد المصاديق لذلك.

* * *

ملاحظتان

أوّلا : برنامج الدعاء إلى الله

لقد تضمّنت الآيات الأربع ـ أعلاه ـ أربعة بحوث بالنسبة إلى كيفية الدعوة

__________________

(١) اعتقد بعض المفسّرين أن قوله تعالى :( وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) إشارة إلى الثواب العظيم لمثل هؤلاء الأشخاص العافين الذي ينالهم في الآخرة ، لكن هذا التّفسير مستبعد بسبب أنّ الآية تريد أن تبين الأساس الأخلاقي لهذا العمل العظيم.

(٢) «نزغ» في الآية الكريمة يمكن أن تكون بنفس معناها المصدري أو أن تكون «اسم فاعل».

٤٠٩

إلى الله تعالى. والخطوات الأربع هي :

أوّلا : البناء الذاتي للدعاة من حيث الإيمان والعمل الصالح.

ثانيا : الاستفادة من أسلوب «دفع السيئة بالحسنة».

ثالثا : تهيئة الأرضية الأخلاقية لإنجاز هذا الأسلوب والعمل به.

رابعا : رفع الموانع من الطريق ومحاربة الوساوس الشيطانية.

لقد قدّم لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام خير أسوة وقدوة في تنفيذ هذا البرنامج والالتزام به ، والالتزام بهذا البرنامج يعتبر أحد الأسباب التي أدّت بالإسلام في ذلك العصر المظلم الى الاتساع والانتشار.

واليوم يشهد علم النفس العديد من البحوث والدراسات حول وسائل التأثير على الآخرين ، إلّا أنّها تعتبر شيئا تافها في مقابل عظمة الآيات أعلاه ، خصوصا وأن البحوث هذه عادة ما تتعامل مع ظواهر الإنسان وتستهدف الكسب السريع العاجل ولو من خلال التمويه والخداع ، لكن البرنامج القرآني يخوض في أعماق النفس البشرية ويؤسس قواعد تأثيره على مضمون الإيمان والتقوى.

واليوم ، ما أحلى أن يلتزم المسلمون ببرنامج دينهم ، ويعمدون إلى نشر الإسلام في عالم متلهف إلى قيم السماء.

أخيرا تنهي هذه الفقرة بإضاءة نبوية نقتبسها عن تفسير «علي بن إبراهيم» الذي ورد فيه : «أدّب الله نبيّه فقال :( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ، قال : ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك ، حتى يكون( الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) »(١) .

ثانيا : الإنسان في مواجهة عواصف الوسواس :

ثمّة منعطفات صعبة في حياة المؤمنين يمكن فيها الشيطان ، ويحاول أن ينزغ

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الرابع ، صفحة ٥٤٩.

٤١٠

ويحيد بالإنسان عن طريق السعادة وكسب رضا الله تعالى.

وعلى الإنسان في مقابل وسواس الشيطان أن يعتمد في تجاوزها على الله ، وإلّا فإنّه لا يستطيع ذلك لوحده ، فعليه أن يتوكل على الله ليجتاز عقبات الطريق ومخاطره ، ويتمسك بحبل الله المتين.

لقد ورد ، في الحديث أن شخصا أساء لآخر في محضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فثار الغضب في قلبه واشتعلت فيه هواجس الثار ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

فقال الرجل : أمجنونا تراني؟

فاستند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القرآن وتلا قوله تعالى :( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ) (١) .

وهذه إشارة إلى أنّ ثورة الغضب من وساوس الشيطان ، مثلما تعتبر ثورة الشهوة والهوى من وسواسه أيضا.

ونقرأ في كتاب «الخصال» أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام علّم أصحابه أربعمائة باب تنفع المسلمين في الدين والدنيا ، من ضمنها قولهعليه‌السلام لهم : «إذا وساوس الشيطان إلى أحدكم فليستعذ بالله وليقل : آمنت بالله مخلصا له الدين»(٢) .

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ١١١.

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، صفحة ١٥٥١.

٤١١

الآيات

( وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) )

التّفسير

السّجدة لله تعالى :

تعتبر هذه الآيات بداية فصل جديد في هذه السورة ، فهي تختص بقضايا التوحيد والمعاد ، ودلائل النبوة وعظمة القرآن ، وهي في الواقع مصداق واضح للدعوة إلى الله في مقابل دعوة المشركين إلى الأصنام.

تبدأ أوّلا من قضية التوحيد ، فتدعو الناس إلى الخالق عن طريق الآيات

٤١٢

الآفاق(١) :( وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ) فالليل وظلمته للراحة ، والنهار وضوءه للحركة.

وهذان التوأمان يقومان بإدارة عجلة حياة الناس بشكل متناوب ومنظم ، بحيث لو كان أحدهما دائميا أو استمر لمدة أطول ، فستصاب جميع الكائنات بالفناء ، لذا فإنّ الحياة تنعدم على سطح القمر حيث تعادل لياليه (١٥) ليلة أرضية ونهاره بهذا المقدار أيضا.

إنّ لياليه المظلمة الباردة تجعل كلّ شيء جامدا ، أمّا نهاره الطويل الحار فإنّه يحرق كلّ شيء ، لذلك لا يستطيع الإنسان وكائنات أرضنا أن تعيش على القمر.

أمّا الشمس فهي مصدر كلّ البركات المادية في منظومتنا ، فالضوء والحرارة والحركة ونزول المطر ، ونمو النباتات ونضج الفواكه ، وحتى ألوان الورود الجميلة ، كل ذلك يدين في وجوده إلى الشمس.

القمر يقوم بدوره بإضاءة الليالي المظلمة ، وضوءه دليل السائرين في دروب الصحراء ، وهو يجلب الخيرات بتأثيره على مياه البحار وحدوث الجزر والمد فيه.

ولعلّ البعض قام بالسجود لهذين الكوكبين السماويين وبعبادتهما بسبب الخيرات والبركات الآنفة الذكر ، فتاهوا في عالم الأسباب ، ولم يستطيعوا الوصول إلى مسبّب الأسباب.

ولذلك نرى القرآن بعد هذا البيان يقول مباشرة :( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (٢) .

فما ذا لا تتوجهوا بالسجود والعبادة إلى خالق الشمس والقمر؟

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ السجدة هنا واجبة في حال سماع الآية أو تلاوتها.

(٢) يرجع ضمير التأنيث في (خلقهن) إلى الليل والنهار والشمس والقمر كما يقول علماء اللغة وأصحاب التّفسير ، إذ أنّ ضمير جمع المؤنث العاقل قد يعود أحيانا إلى جمع غير العاقل كما يقال مثلا (الأقلام بريتهنّ) والبعض يعتقد أنّ الضمير هنا يرجع للآيات التي هي جمع مؤنث لغير العاقل. واحتمل البعض أن الضمير يعود على الشمس والقمر فقط باعتبار آنها جنس تشمل جميع الكواكب وكأنّها تتمتع بعقل وشعور.

٤١٣

ولماذا تعبدون كائنات هي نفسها خاضعة لقوانين الخلقة ونظام الوجود ، ولها شروق وغروب وتخضع التغييرات؟

إنّ السجود لا ينبغي إلّا لله خالق هذه الموجودات! إنّ خالق هذه الموجودات ومودع النظم والقوانين فيها لا يغرب ولا يأفل ولا تمتد يد التغيير إلى محضر كبريائهعزوجل .

وبهذا الشكل تنفي الآيات أحد الفروع الواسعة لانتشار الشرك وعبادة الأصنام المتمثلة في عبادة الكائنات الطبيعية النافعة ، فينبغي للجميع أن يبحثوا عن علة العلل وأن لا يتوقفوا عند المعلول ، نعم ينبغي البحث عن خالق هذه الموجودات!

إنّ هذه الآية تستدل ـ في الواقع ـ على وجود الخالق الواحد عن طريق النظام الواحد الذي يتحكم بالشمس والقمر والليل والنهار ، وإن حاميته تعالى على هذه الموجودات تعتبر دليلا على وجوب عبادته.

قوله تعالى :( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) فيه إشارة إلى ملاحظة مؤدّاها : إذا كنتم تريدون عبادة الخالق فعليكم إلغاء غيره من الشركاء في العبادة ، لأنّ عبادته لا تكون إلى جانب عبادة غيره.

وإذا لم يؤثر هذا الدليل المنطقي في أفكار هؤلاء ، واستمروا مع ذلك في عبادة الأصنام والموجودات الأخرى ، ونسوا المعبود الحقيقي ، فالله تعالى يخاطبهم بعد ذلك بقوله :( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ) (١) .

فليس مهما أن لا تسجد مجموعة من الجهلة والغافلين حيال جبروت الله

__________________

(١) «لا يسأمون» : من كلمة (السئامة) وتعني التعب من الاستمرار في العمل أو في موضوع معين. ضمنا فإنّ جملة (فإن استكبروا) جملة شرطية جزاؤها محذوف ، والتقدير هو : فإن استكبروا عن عبادة الله وتوحيده فإن ذلك لا يضرّه شيئا».

٤١٤

وذاته المقدّسة الطاهرة ، فهذا العالم الواسع مليء بالملائكة المقرّبين الذين يركعون ويسجدون ويسبحون له دائما ولا يفترون أبدا.

ثم إنّ هؤلاء هم بحاجة إلى عبادة الله ولا يحتاج تعالى لعبادتهم ، لأنّ فخرهم وكمالهم لا يتمّ إلّا في ظل العبودية له سبحانه وتعالى.

ولقد ذكرنا أنّ الآيات أعلاه هي من آيات السجدة ، ، وثمّة اختلاف بين فقهاء أهل السنة في أنّ السجدة هل تكون واجبة بعد بداية الآية الأولى (تعبدون) أو أنّها تكون كذلك بعد تمام الآيتين (يسأمون)؟

ذهب الشافعي ومالك إلى الاحتمال الأول ، بينما رجح آخرون كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل الاحتمال الثّاني.

إلّا أنّ موقع السجدة الواجبة حسب اعتقاد علماء الإمامية ، وفقا للرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، هي الآية الأولى (تعبدون) والآية الكريمة هي من آيات السجدة الواجبة في القرآن الكريم.

وضروري أن نشير هنا إلى أنّ الواجب هو أصل السجدة ، أمّا الذكر فهو مستحب ، ونقرأ في رواية أنّ أقل هذا الذكر في السجدة هو القول : «لا إله إلّا الله حقّا حقّا ، لا إله إلا الله إيمانا وتصديقا ، لا إله إلا الله عبودية ورقا سجدت لك يا ربّ تعبدا ورقا ، لا مستنكفا ولا مستكبرا بل أنا عبد ذليل خائف مستجير»(١) .

نعود مرّة اخرى إلى آيات التوحيد التي تعتبر الأرضية للمعاد ، وإذا كان الحديث قد شمل في السابق الشمس والقمر والآيات السماوية ، فإنّ الحديث هنا يدور حول الآيات الأرضية.

يقول تعالى :( وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ) .

هذه الأرض الميتة اليابسة الخالية من الحركة وآثار الحياة ، أي قدرة حولتها

__________________

(١) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، المجلد الرابع ، صفحة ٨٨٤ ، [باب ٤٦ من أبواب قراءة القرآن ، حديث رقم (٢)].

٤١٥

إلى نبض دائم يمور بالحياة والحركة ، إنّه الماء ، وإنّه لدليل كبير على قدرة الله الأزلية ، وعلامة على وجود ذاته المقدّسة.

ثم تنتقل الآية من قضية التوحيد المتمثلة هنا بالحياة التي ما زالت تحيطها الكثير من الأسرار والخفايا والغموض ، إلى قضية المعاد ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى ) .

نعم :( إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

فدلائل قدرته واضحة في كلّ مكان ، ومع هذا الوضع فكيف نشكّ بالمعاد ونعتبره محالا ، أليس هذا سوى الجهل والغفلة؟

«خاشعة» من (الخشوع) وتعني في الأصل التضرع والتواضع الملازم للأدب.

واستخدام هذا التعبير بخصوص الأرض الميتة اليابسة ، يعتبر نوعا من الكناية.

فالأرض اليابسة الفاقدة للماء ستخلو من أي نوع من أنواع الثبات ، وستشبه الإنسان الساقط أرضا أو الميت الذي لا حراك فيه ، إلّا أن نزول المطر سيهب لها الحياة ويجعلها تتحرك وتنمو.

«ربت» من (ربو) على وزن (غلو) وتعني الزيادة والنمو ، والربا مشتق من نفس هذه الكلمة ، لأنّ المرابي يطلب دينه مع الزيادة.

«اهتزت» من «هز» على وزن «حظ» وتعني التحريك الشديد.

وحول «المعاد الجسماني» وأدلته وكيفية استدلال عليه من عالم النبات تقدم بحث مفصّل في نهاية سورة «يس» من هذا التّفسير.

* * *

٤١٦

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) )

التّفسير

محرفوا آيات الحق :

المجموعة التي بين أيدينا من آيات السورة الكريمة ، بدأت بتهديد الذين يقومون بتحريف علائم التوحيد ، وتضليل الناس ، حيث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ) .

من الممكن لهؤلاء أن يضلّوا الناس بأسلوب المغالطة وباستخدام السفسطة الكلامية ، ويخفوا ذلك عن الناس. إلّا أنّه ليس بوسعهم إخفاء ذرّة ممّا يقومون به عن الله تبارك وتعالى.

«يلحدون» من (إلحاد) وهي في الأصل من (لحد) على وزن (عهد) وتعني

٤١٧

الحفرة الواقعة في جانب واحد ، ولهذا السبب يطلق على الحفرة في جانب القبر اسم «اللحد».

ثمّ أطلقت كلمة (إلحاد) على أي عمل يتجاوز الحد الوسط إلى الإفراط أو التفريط ، وهي لذلك تطلق لوصف الشرك وعبادة الأصنام ، ويقال لمن لا يؤمن بالله تعالى (الملحد).

والمقصود من «الإلحاد في آيات الله» هو إيجاد الوساوس والتموية في أدلة التوحيد والمعاد التي ذكرتها الآيات السابقة بعنوان «ومن آياته» أو جميع الآيات الإلهية ، سواء منها الآيات التكوينية السابقة أو الآيات التشريعية النازلة في القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى.

إنّ المذاهب المادية والإلحادية في عالمنا اليوم التي تعتبر الدين وليد الجهل أو الخوف أو نتاج العامل الاقتصادي والأمور الأخرى لإضلال الناس ، هي بلا شك من مصاديق الخطاب في هذه الآية الكريمة.

القرآن الكريم أوضح جزاء هؤلاء في إطار مقارنة واضحة فقال تعالى :( أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ؟

الأشخاص الذين يحرقون ايمان الناس وعقائدهم بنيران الشبهات والتشكيكات سيكون جزاؤهم نار جهنّم ، بعكس الذين أوجدوا المحيط الآمن للناس بهدايتهم الى التوحيد والإيمان ، فإنّهم سيكونون في أمان يوم القيامة أليس ذلك اليوم هو يوم تتجسد فيه أعمال الإنسان في هذه الدنيا؟

وقال بعض المفسّرين : إنّ الآية تقصد «أبا جهل» «أبو جهل» كنموذج للغواية ولأهل النّار ، وفي الجانب المقابل ذكروا «حمزة» عم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو «عمار بن ياسر» لكن من الواضح أنّ هذا القول لا يعدو أن يكون مصداقا للآية ذات المفهوم الواسع.

والطريق في هذا الجزء من الآية أنّ التعبير القرآني يستخدم كلمة (إلقاء) في

٤١٨

مخاطبة أهل النّار كدليل على عدم امتلاكهم الخيار في أمرهم ، بينما يستخدم كلمة «يأتي» في مخاطبة أهل الجنّة ، كدليل على احترامهم وحريتهم وإرادتهم في اختيار الأمن والهدوء.

وفوق كلّ هذا فقد استخدمت الآية تعبير الأمان من العذاب كناية عن الجنّة ، بينما استخدمت نار جهنم بشكل مباشر ، وفي ذلك إشارة إلى أنّ أهم قضية في ذلك اليوم هي «الأمن».

وعند ما ييأس الإنسان من هداية شخص يخاطبه بقوله : افعل ما شئت. لذا فالآية تقول لأمثال هؤلاء :( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ) .

لكن عليكم أن تعلموا :( إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

لكن هذا الأمر لا يعني أنّ لهم الحرية في أن يعملوا ما يشاءون ، أو أن يتصرفوا بما يرغبون ، بل هو تهديد لهم بأنّهم لا يصغون لكلام الحق ، إنّه تهديد يتضمّن توعّد هؤلاء والصبر على أعمالهم إلى حين.

الآية التي بعدها تتحول من الحديث عن التوحيد والمعاد إلى القرآن والنبوّة ، وتحذّر الكفار المعاندين بقوله تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ) (١) .

إنّ إطلاق وصف «الذكر» على القرآن يستهدف تذكير الإنسان وإيقاظه ، وشرح وتفصيل الحقائق له بشكل إجمالي عن طريق فطرته ، وقد ورد نظير ذلك في الآية (٩) من سورة «الحجر» في قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) .

ثمّ تنعطف الآية لبيان عظمة القران فتقول :( وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ) .

إنّه كتاب لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو أن يتغلب عليه ، ومنطقه عظيم

__________________

(١) لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول خبر «إنّ الذين» أنسبها أن تقول بأنّ الخبر هو جملة (لا يخفون علينا) حيث حذف بقرينة الآية السابقة. وقال البعض : إنّ الخبر هو جملة «يلقون في النّار» المستفادة من الآية السابقة ، بينما قال البعض بأنّه جملة «أولئك ينادون من مكان بعيد» التي ترد في الآيات القادمة ، لكن الرأي الأوّل أرجح.

٤١٩

واستدلاله قوي ، وتعبيره بليغ منسجم وعميق ، تعليماته جذرية ، وأحكامه متناسقة متوافقة مع الاحتياجات الواقعية للبشر في أبعاد الحياة المختلفة.

ثم تذكر الآية صفة اخرى مهمّة حول عظمة القرآن وحيويته ، فيقول تعالى :( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) لأنّه :( تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) .

أفعال اللهعزوجل لا تكون إلّا وفق الحكمة وفي غاية الكمال. لهذا فهو أهل للحمد دون غيره.

لقد ذكر المفسّرون عدّة احتمالات حول قوله تعالى :( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ ) إلّا أن أشملها هو أنّ أي باطل لا يأتيه ، من أي طريق كان ، ومهما كان الأسلوب ، وهذا يعني عدم وجود تناقض في مفاهيمه ، ولا ينقض بشيء من العلوم ، أو بحقائق الكتب السابقة ، ولا يعارض كذلك بالاكتشافات العلمية المستقبلية.

لا يستطيع أحد أن يبطل حقائقه ، ولا يمكن أن ينسخ في المستقبلية.

لا يوجد أي تعارض في معارفه وقوانينه ووصاياه وأخباره ، ولا يكون ذلك في المستقبل أيضا.

لم تصل إليه يد التحريف بزيادة أو نقص في آية أو كلمة ، ولن يطاله ذلك مستقبلا.

إنّ هذه الآية تعبير آخر لمضمون الآية (٩) من سورة «الحجر» حيث قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (١) .

ومن خلال ما قلناه نستنتج أن قوله تعالى :( مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) كناية عن جميع الجوانب والجهات ، بمعنى أنه لن يصيبه البطلان أو الفساد من جميع الأوجه والجوانب ، وما ذهب إليه البعض من أن ذلك كناية للحال والمستقبل ، فان

__________________

(١) لقد اختيار هذا التّفسير الزمخشري في كشافه ، وللعلّامة الطباطبائي حديث يشبه هذا في تفسير الميزان ، في حين حدّد بعض المفسّرين مصطلح الباطل بالشيطان أو المحرفين ، أو الكذب ، وما شابه ، وقد ورد في حديث عن الباقر والصادق قولهماعليهما‌السلام : «إنّه ليس في أخباره عما مضى باطل ، ولا في أخباره عمّا يكون في المستقبل باطل» كما نقل عنهماعليهما‌السلام صاحب مجمع البيان ، وواضح أن ما ذكر هو مصاديق لمفهوم الآية.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607