الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182756 / تحميل: 6259
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

نصوص الإمام الصادقعليه‌السلام على إمامة موسى الكاظمعليه‌السلام

١ ـ عن يعقوب السراج قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام وهو واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه فقال لي:(ادن من مولاك فسلّم، فدنوت فسلمت عليه فردّ عليّ السلام بلسان فصيح، ثم قال لي: اذهب فغيّر اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه اسم يبغضه الله، وكان ولدت لي ابنة سمّيتها بالحميراء. فقال أبو عبد الله: انته إلى أمره ترشد، فغيّرت اسمها) (١) .

٢ ـ عن سليمان بن خالد قال: دعا أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام يوماً ونحن عنده فقال لنا:(عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي) (٢) .

٣ ـ عن فيض بن المختار قال: (إني لعند أبي عبد اللهعليه‌السلام إذ أقبل أبو الحسن موسىعليه‌السلام ـ وهو غلام ـ فالتزمته وقبّلته فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :أنتم السفينة وهذا ملاّحها ، قال: فحججت من قابل ومعي ألفا دينار فبعثت بألف إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام وألف إليه، فلمّا دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام قال:يا فيض عدلته بي ؟ قلت: إنما فعلت ذلك لقولك، فقال:أما والله ما أنا فعلت ذلك. بل الله عَزَّ وجَلَّ

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١١.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١٠، ح ١٢.

٤١

فعله به) (١) .

٤ ـ عن الفيض بن المختار قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : خذ بيدي من النار من لنا بعدك؟ فدخل عليه أبو إبراهيمعليه‌السلام ، وهو يومئذ غلام، فقال:(هذا صاحبكم، فتمسك به) (٢) .

٥ ـ عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: اسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال:(قد فعل الله ذلك) . قال: قلت من هو جعلتُ فداك ؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد فقالعليه‌السلام :(هذا الراقد وهو غلام) (٣) .

٦ ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت عبد الرحمن في السنة التي أخذ فيها أبو الحسن الماضيعليه‌السلام فقلت له: إنّ هذا الرجل قد صار في يد هذا وما ندري إلى ما يصير؟ فهل بلغك عنه في أحد من ولده شيء ؟ فقال لي:ما ظننت أن أحداً يسألني عن هذه المسألة ، دخلت على جعفر بن محمد في منزله فإذا هو في بيت كذا في داره في مسجد له وهو يدعو، وعلى يمينه موسى بن جعفرعليه‌السلام يؤمّن على دعائه، فقلت له: جعلني الله فداك قد عرفت انقطاعي إليك وخدمتي لك، فمن وليّ الناس بعدك ؟ فقال:(إنّ موسى قد لبس الدرع وساوى عليه) فقلت له: لا أحتاج بعد هذا إلى شيء(٤) .

٧ ـ عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: حدّثني إسحاق بن جعفر قال: كنت عند أبي يوماً، فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك إلى من

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٦.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٧، ح ١، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٣) أصول الكافي ١: ٣٠٨، ح٢، والإرشاد: ٢/٢١٧.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٣، والإرشاد: ٢/٢١٧.

٤٢

نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال:(إلى صاحب الثوبين الأصفرين والغديرين ـ يعني الذؤابتين ـ وهو الطالع عليك من هذا الباب، يفتح البابين بيده جميعاً) ، فما لبثنا أن طلعت علينا كفّان آخذة بالبابين ففتحهما ثم دخل علينا أبو إبراهيم(١) .

٨ ـ عن صفوان الجمّال، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قال له منصور بن حازم: بأبي أنت وأمي إنّ الأنفس يُغدا عليها ويراح، فإذا كان ذلك، فمن؟ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(إذا كان ذلك فهو صاحبكم) ، وضرب بيده على منكب أبي الحسنعليه‌السلام الأيمن ـ في ما أعلم ـ وهو يومئذ خماسي وعبد الله بن جعفر جالس معنا(٢) .

٩ ـ عن المفضل بن عمر قال: ذكر أبو عبد اللهعليه‌السلام أبا الحسنعليه‌السلام ـ وهو يومئذ غلام ـ فقال:(هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه) ثم قال لي:(لا تجفوا إسماعيل) (٣) .

١٠ ـ عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: قلت له: (إن كان كون ـ ولا أراني الله ذلك ـ فبمن أئتم؟ قال: فأومأ إلى ابنه موسىعليه‌السلام . قلت : فإن حدث بموسى حدث فبمن أئتم؟ قال:بولده . قلت: فإن حدث وترك أخاً كبيراً وابناً صغيراً فبمن أئتم؟ قال:بولده ، ثم قال:هكذا أبداً ، قلت: فإن لم أعرفه ولا أعرف موضعه ؟ قال: تقول:(اللهم إني أتولى من بقي من حججك من ولد الإمام الماضي، فانّ ذلك يجزيك إن شاء الله) (٤) .

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٣٠٨، ح ٥، والإرشاد: ٢/٢٢٠.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٦، والإرشاد: ٢/٢١٨.

(٣) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٨.

(٤) أصول الكافي: ١/٣٠٩، ح ٧، والإرشاد: ٢/٢١٨.

٤٣

١١ ـ عن فيض بن المختار في حديث طويل في أمر أبي الحسنعليه‌السلام حتى قال له أبو عبد اللهعليه‌السلام :(هو صاحبك الذي سألت عنه ، فقم إليه فأقرّ له بحقه) ، فقمت حتى قبّلت رأسه ويده ودعوت الله عزّ وجلّ له، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام :(أما أنه لم يؤذن لنا في أوّل منك) ، قال: قلت: جعلت فداك فأخبر به أحداً ؟ فقال:(نعم أهلك وولدك) ، وكان معي أهلي وولدي ورفقائي وكان يونس بن ظبيان من رفقائي، فلمّا أخبرتهم حمدوا الله عزّ وجلّ وقال يونس: لا والله حتى أسمع ذلك منه وكانت به عجلة، فخرج فاتبعته، فلما انتهيت إلى الباب، سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول له ـ وقد سبقني إليه ـ :(يا يونس الأمر كما قال لك فيض) . قال: فقال: سمعت وأطعت، فقال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام :(خذه إليك يا فيض) (١) .

١٢ ـ عن صفوان الجمال قال: سألت أبا عبد اللهعليه‌السلام عن صاحب هذا الأمر فقال:(إنّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب) ، وأقبل أبو الحسن موسى وهو صغير ومعه عناق مكّية وهو يقول لها:(اسجدي لربك) ، فأخذه أبو عبد اللهعليه‌السلام وضّمه إليه وقال:(بأبي وأمي من لا يلهو ولا يلعب) (٢) .

١٣ ـ روى زيد النرسي، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال:(إني ناجيت الله ونازلته في إسماعيل ابني أن يكون بعدي فأبى ربي إلاّ أن يكون موسى ابني) (٣) .

١٤ ـ عن يزيد بن أسباط قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام في مرضته التي مات فيها، قالعليه‌السلام :(يا يزيد أترى هذا الصبي؟) وأشار لولده موسى :إذا رأيت الناس قد اختلفوا

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٣٠٩، ح ٩.

(٢) أصول الكافي: ١ / ٣١١، ح ١٥، والإرشاد: ٢/٢١٩.

(٣) أصل زيد النرسي: ق ٣٩.

٤٤

فيه، فاشهد عليَّ بأني أخبرتك أن يوسف إنّما كان ذنبه عند إخوته حتى طرحوه في الجب، الحسد له، حين أخبرهم أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر وهم له ساجدين، وكذا لا بد لهذا الغلام من أن يحسد) ، ثم دعا موسى وعبد الله وإسحاق ومحمد والعباس، وقال لهم:(هذا وصيُّ الأوصياء وعالم علم العلماء وشهيدٌ على الأموات والأحياء) ، ثمّ قال: يا يزيد ( سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) (١)(٢) .

الباب الثالث: وفيه فصول:

الفصل الأول: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام .

الفصل الثاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور.

الفصل الثالث: الإمام الكاظمعليه‌السلام وحكومة المهدي العبّاسي.

الفصل الأوّل: ملامح عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام

لم يغيّر المنصور من سياسته ضد العلويين بعد قتله للإمام الصادقعليه‌السلام ، وبعد قضائه على الثورات العلوية في زمانه، بل بقي هاجس الخوف والقلق يلاحقه، ولم تهدأ ذاته المليئة بالحقد عليهم، فاستمر في اضطهادهم، فزجّ الأبرياء في السجون المظلمة وهدمها عليهم، ودفن البعض وهم أحياء في اسطوانات البناء، وبثّ الجواسيس، لأجل أن يحيط علماً بكل نشاطهم، وأخذت عيونه ترصد كل حركة بعد تحويرها وتحريفها بالكذب لتنسجم مع رغبات الخليفة فكانوا يرفعونها له مكتوبة كما سمح للتيّارات الإلحادية كالغلاة والزنادقة في أن تأخذ طريقها بين عامة الناس لإضلالهم. كما استعمل بعض العلماء واستغلّهم لتأييد سياسته وإسباغ الطابع الشرعي على حكمه.

ــــــــــــ

(١) الزخرف (٤٣): ١٩.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨/٢٠، ح ٣١، نقلاً عن مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب.

٤٥

ويمكن استجلاء هذا الوضع ضمن عدة نقاط:

النقطة الأولى:

إنّ وصية الإمام الصادقعليه‌السلام التي عهد بها أمام الناس لخمسة أشخاص، هم أبو جعفر المنصور، محمد بن سليمان، وعبد الله، وموسى، وحميدة، مع كتابة المنصور لعامله في المدينة بأن يقتل وصيّ الإمام الصادقعليه‌السلام إن كان معيناً، يتضح ـ من هذه الوصية مع أوامر المنصور بقتل الوصيّ ـ نوع الطريقة التي كان يتحرك بها المنصور تجاه الإمام موسىعليه‌السلام ثم يتضح أيضاً حجم النشاط وحجم الاهتمام الذي كان يعطيه المنصور للإمامعليه‌السلام لمراقبة حركته.

ولكن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يستشف من وراء الغيب ما تحمله الأيّام المقبلة من أخطار لابنه موسىعليه‌السلام ومن هنا فقد خاطب شيعته بلغة خاصة ضمّنها الحقيقة التي أراد إيصالها إليهم وإن كان ذلك يستلزم الالتباس عند بعض ، والتحيّر في معرفة ولي الأمر من بعده لفترة تقصر أو تطول ; لأن حفظ الوصي وولي عهده والإمام المفترض الطاعة في تلك الظروف العصيبة كان أمراً ضرورياً بلا ريب لأن استمرار الخط لا يمكن ضمانه إلاّ بحفظ الإمام المعصوم بما يتناسب مع طبيعة تلك الظروف. ولكن الواعين والنابهين من صحابة الإمام الصادقعليه‌السلام لم تلتبس عليهم حقيقة وصية الإمامعليه‌السلام التي تضمّنت الوصية للإمام الكاظمعليه‌السلام .

قال داود بن كثير الرقي: وفد من خراسان وافد يكنّى أبا جعفر، اجتمع إليه جماعة من أهل خراسان، فسألوه أن يحمل لهم أموالاً ومتاعاً ومسائلهم في الفتاوى والمشاورة، فورد الكوفة ونزل وزار قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورأى في ناحية المسجد رجلاً حوله جماعة.

فلما فرغ من زيارته قصدهم فوجدهم شيعة فقهاء يسمعون من الشيخ، فقالوا: هو أبو حمزة الثمالي.

قال: فبينما نحن جلوس إذ أقبل أعرابي، فقال: جئت من المدينة، وقد مات جعفر بن محمدعليه‌السلام فشهق أبو حمزة ثم ضرب بيده الأرض، ثم سأل الأعرابي: هل سمعت له بوصية ؟

٤٦

قال: أوصى إلى ابنه عبد الله وإلى ابنه موسى، وإلى المنصور. فقال: الحمد لله الذي لم يُضلّنا، دلّ على الصغير وبيّن على الكبير، وستر الأمر العظيم. ووثب إلى قبر أمير المؤمنينعليه‌السلام فصلَّى وصلّينا. ثم أقبلت عليه وقلت له: فسّر لي ما قلته ؟ قال: بيّن أن الكبير ذو عاهة ودلّ على الصغير أن أدخل يده مع الكبير، وستر الأمر العظيم بالمنصور حتى إذا سأل المنصور: من وصيّه؟ قيل : أنت. قال الخراساني: فلم أفهم جواب ما قاله(١) . فذهب بعد ذلك إلى المدينة ليطّلع بنفسه على الوصي من بعد الإمام جعفر بن محمدعليه‌السلام .

النقطة الثانية:

لقد شدّدت السلطات في المراقبة على الشيعة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام وعمّ الارتباك أوساطهم وشحنت الأجواء بالحذر والتحسّب.

وعن هذه الفترة الزمنية المهمة في التاريخ الشيعي يحدّثنا هشام بن سالم أحد رموز الشيعة قائلاً:

كنا في المدينة بعد وفاة أبي عبد اللهعليه‌السلام أنا ومؤمن الطاق (أبو جعفر) والناس مجتمعون على أنّ عبد الله (الأفطح) صاحب (الإمام) بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق، والناس مجتمعون عند عبد الله وذلك أنهم رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام :(أن الأمر في الكبير ما لم يكن به عاهة) فدخلنا نسأله عمّا كنا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب ؟ قال: في مئتين خمسة، قلنا:

ــــــــــــ

(١) عوالم العلوم ، الإمام الكاظم: ١٧٥.

٤٧

ففي مئة ؟ قال: درهمان ونصف درهم(١) .

قلنا له: والله ما تقول المرجئة هذا فرفع (الأفطح) يده إلى السماء، فقال: لا ، والله ما أدرى ما تقول المرجئة !

قال: فخرجنا من عنده ضُلاّلاً، لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول(٢) ، فقعدنا في بعض أزقّة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى من نقصد وإلى أين نتوجّه ؟! نقول: (نذهب) إلى المرجئة ؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج(٣) ؟ قال: فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومئ إليَّ بيده، فخفت أن يكون عيناً (جاسوساً) من عيون أبي جعفر (المنصور الدوانيقي). وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على من اتفق شيعة جعفر (الصادق) فيضربون عنقه، فخفت أن يكون (الرجل الشيخ) منهم. فقلت لأبي جعفر (مؤمن الطاق): تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني (الشيخ) ليس يريدك، فتنحّ عنّي ، لا تهلك وتعين على نفسك. فتنحّى غير بعيد، وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه، فما زلت أتبعه حتى ورد بي على باب أبي الحسن موسى (الكاظم)عليه‌السلام ثم خلاّني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: أُدخل، رحمك الله. قال: فدخلت فإذا أبو الحسن (الكاظم)عليه‌السلام فقال لي ابتداءً:لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدرية، ولا إلى الزيدية، (ولا إلى المعتزلة )، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ إليَّ .

قال (هشام): فقلت له: جعلت فداك مضى أبوك ؟ قال:نعم .

قلت: جعلت فداك مضى في موت؟ قال:نعم ، قلت: جعلت فداك فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله يهديك هداك .

قلت: جعلت فداك، إنّ عبد الله (الأفطح) يزعم أنه (إمام) من بعد أبيه فقال:يريد عبد الله الأفطح أن لا يعبد الله .

قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال:إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً .

قلت: جعلت فداك، أنت هو (الإمام) ؟ قال:ما أقول ذلك .

ــــــــــــ

(١) من الثابت عند المسلمين أن لا زكاة في أقل من مائتي درهم، ولكن الأفطح كان يجهل هذا الحكم.

(٢) مؤمن الطاق، أبو جعفر، صاحب الطاق والأحول، كلها ألقاب لرجل واحد (محمد بن علي بن النعمان)، اختيار معرفة الرجال: ٢/٤٢٥.

(٣) الإرشاد للمفيد: ٢/٢٢١ ، مدينة المعاجز: ٦/٢٠٨.

٤٨

قلت ـ في نفسي ـ لم أُصب طريق المسألة (أي أخطأت في كيفية السؤال).

قال (هشام): قلت: جعلت فداك، عليك إمام ؟ قال:لا . فدخلني (دخل قلبي) شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاماً له وهيبة، أكثر ما كان يحلّ بي من (هيبة) أبيه (الإمام الصادق) إذا دخلت عليه.

قلت: جعلت فداك، أسألك عمّا كان يُسأل أبوك؟ قال:سل تُخبر، ولا تُذِع (أي لا تنشر الخبر)فإن أذعت فهو الذبح .

قال (هشام): فسألته فإذا هو بحر !.

قال (هشام): قلت جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضُلاّل، فالقي إليهم (أخبرهم) وأدعوهم إليك؟ فقد أخذت عليّ بالكتمان.

فقال (الإمام):(من آنست منهم رشداً، فألق عليهم (أخبرهم)وخذ عليهم

بالكتمان ،فإن أذاعوا فهو الذبح) وأشار بيده إلى حلقه)(١) .

إنّ هذا الحديث الذي أدلى به هشام يكشف لنا عدة حقائق:

١ ـ كثرة انتشار الجواسيس، وجو الرعب، والحذر، والخوف، وفقدان الأمن الذي عمّ أبناء الأمة وأخيارها خصوصاً سكان المدينة.

٢ ـ كما يكشف لنا عن أنّ إعلان الإمامة لموسىعليه‌السلام وإخبار الشيعة بإمامته، لم يكن ظاهراً لعامة الناس بل كان محدوداً ببعض الخواص من الشيعة(٢) بحيث تجد حتى مثل هشام لا يعلم أن الأمر لمن إلاّ بعد حين، وقد حصل عليه بالطرق الشرعية والعقلية، وهذه الممارسات وغيرها جعلت الشيعة تتدرب وتتمرّس على الأساليب التي تقيها من سيف الظالمين مثل السرّية والتقية، لذا نجد الرواة عند نقلهم لأخبار الإمام موسىعليه‌السلام لا يصرّحون باسمه الصريح بل كانوا يقولون: (قال العبد الصالح) ، أو (قال السيد)، أو (قال العالم) ونحو ذلك.

ــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال: ٢ / ٥٦٥ ، ح٥٠٢ ، والإرشاد: ٢/٢٢١ ـ ٢٢٢ وعنه في إعلام الورى: ٢/١٦ ـ ١٧، وكشف الغمة: ٣/١٢ و ١٣، وبحار الأنوار: ٤٨ / ٥٠.

(٢) منهم زرارة وداود بن كثير الرقي، وحمران، وأبي بصير، والمفضل بن عمر وغيرهم.

٤٩

٣ ـ إنّ الخنق الظالم والممنوعات السلطانية والحبس الفكري وملاحقة من يخالف، وبثّ الإشاعات المضادّة والكاذبة، كل هذه الأمور خلقت مناخاً يتنفّس فيه الأدعياء وهواة الرذيلة والذين زاد نشاطهم وشاع صيتهم وتعددت فرقهم في هذه الفترة فطرحوا أنفسهم قادة للأمة في الفكر والفقه والحديث بتشجيع من الخليفة. لذا نجد هشام بن سالم في حديثه يعدد لنا الفرق في زمانه حيث يقول: نذهب إلى المرجئة؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج؟

٤ ـ مارس الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام أسلوباً في هذا الحديث يُميزه عن غيره من مدّعي الإمامة (مثل عبد الله الأفطح) وذلك بإخباره عن الكلام الذي دار بين هشام ومؤمن الطاق في أحد أزقّة المدينة المنورة حيث قال الإمام لهما:(لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية.... إليَّ إليَّ إليَّ) .

النقطة الثالثة:

من الحقائق التاريخية التي تكشف سياسة المنصور القائمة على الخنق والإبادة والقتل للعلويين هو حديث الخزانة.

حيث يكشف لنا هذا الحديث التاريخي عن سياسة المنصور الخشنة مع العلويين، والتي أراد بها الإيحاء لابنه المهدي بأن الخلافة لا تستقيم إلا بهذه الطريقة، ثم تكشف لنا هذه الرواية عن معاناة الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام لأنه كان بالتأكيد على علم بهذه الأعداد المؤمنة الخيّرة من أبناء الشيعة وهي تساق إلى السجون لتقتل بعد ذلك صبراً، وهذا الحديث مليء بالشجون والأسى فقد ملأ خزانة برؤوس العلويين شيوخاً وشباباً وأطفالاً وأوصى ريطة زوج المهدي أن لا تفتحها للمهدي ولا يطلع عليها إلاّ بعد هلاكه، وقد دوّنها الطبري في تاريخه وهذا نصها :

(لمّا عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر فأوصاها بما أراد)، وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم إليها وأحلفها ووكّد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحداً إلاّ المهدي، ولا هي إلاّ أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى

٥٠

يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته أنه تقدم إليها أن لا تفتحه ولا تُطلع عليه أحداً حتى يصح عندها موته فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل عليهم دكاناً)(١) .

النقطة الرابعة:

ومن المشاكل التي أثيرت في مطلع تسلّم الإمام موسىعليه‌السلام لمسؤولية الإمامة ، والتي كانت تهدف لتمزيق الطائفة الشيعية وإثارة البلبلة والتخريب في صفوفها، هي التشكيك في مسألة القيادة فإنها لمن تكون بعد الإمام الصادقعليه‌السلام بسبب ما ادّعاه (عبد الله الأفطح) أخو الإمام موسى الأكبر بعد إسماعيل، وهذا بطبيعة الحال يُضيف معاناة أُخرى للإمام ؛ لأن أجهزة المنصور العدوانيّة كانت تعدّ عليه الأنفاس وتشك في أيّ حركة تصدر منه(٢) .

النقطة الخامسة:

ومن الأساليب التي استخدمتها السلطات العبّاسية عامة والمنصور بشكل خاص، سياسة اتّخاذ (وعّاظ السلاطين) بعد أن غيّب الإمام

ــــــــــــ

(١) الطبري: ٦ / ٣٤٣ و ٣٤٤ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

(٢) سيرة الأئمة الاثني عشر: ٢/٣٢٥ فصل حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام ط دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت، والإرشاد: ٢/٢٠٩ ذكر أولاد أبي عبد الله عليه‌السلام وعددهم وأسمائهم وطرف من أخبارهم، ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم المقدسة.

٥١

موسى الكاظمعليه‌السلام عن المسرح السياسي والفكري ، وظاهرة وعّاظ السلاطين هي بديل يرعاه الخليفة ويدعمه بما أوتي من قوة ليغطّي له الفراغ من جانب وتؤيد له سياسته من جانب آخر إذ يوحي للأمة بأنه مع الخط الإسلامي السائر على نهج السنة النبويّة، ووجد من (مالك بن أنس) وأمثاله ممن تناغم معه في الاختيار العقائدي الذي لا يصطدم مع سياسته، ووجد من تجاوب مع رغبته وكال له ولأسرته المديح والثناء، الأمر الذي دفع بالمنصور أن يفرض (الموطأ) على الناس بالسيف ثم جعل لمالك السلطة في الحجاز على الولاة وجميع موظّفي الدولة فازدحم الناس على بابه وهابته الولاة والحكّام وحينما وفد الشافعي عليه فشفّع بالوالي لكي يسهّل له أمر الدخول عليه فقال له الوالي: إني أمشي من المدينة إلى مكة حافياً راجلاً أهون عليّ من أن أمشي إلى باب مالك. ولست أرى الذل حتى أقف على باب داره(١) .

النقطة السادسة:

انتشرت في هذه المرحلة عقائد خاطئة وتأسّست فرق منحرفة من الإلحاد والزندقة والغلوّ والجبرية والإرجاء ، عقائد خاطئة ذات أصحاب تدافع عنها ، ولم تكن كل هذه الاعتقادات وليدة هذا الظرف بالذات، وإنما نشطت في هذا الجوّ المساعد لنموها، حيث كان بعض الخلفاء يتبنى بعضاً منها ويسمح لانتشار البعض الآخر.

فالغلاة يعتقدون بنبوّة الأئمة، وبعده بإلهية جعفر بن محمد الصادق وإلهية آبائه، وهؤلاء قد تبرّأ منهم الإمام الصادق ولعنهم لعناً مشدداً.

لكن السلطات شجعت من جانب ، وألصقت التهمة بهم من جانب آخر بهدف التشويه لحقيقة الشيعة، كما استخدموا هذه التهمة فيما بعد ذريعة ومادّة حكم تبرر لهم اضطهاد الشيعة تحت هذا الاسم فأطلقوا على الشيعة اسم زنادقة ويحق للدولة أن تطاردهم.

ــــــــــــ

(١) الأئمة الأربعة لمصطفى الشكعة: ٢/١٠٠، حياة مالك بن أنس، الفصل الخامس، باب ٦ مهابة مالك، سيرة الأئمة الاثني عشر، هاشم معروف الحسني: ٢/٣٢٦، حياة الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام .

٥٢

لقد عاصر الإمام الكاظمعليه‌السلام تيّاراً آخر كان خطيراً على الأمة حاضراً ومستقبلاً وكان قد وقف بوجهه الإمام الصادقعليه‌السلام وحذّر منه الشباب خاصة ألا وهم المرجئة الذين يقولون بتأخير وارجاء صاحب المعصية الكبيرة إلى يوم القيامة فلا يحكمون عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار.

ويحاول أصحاب هذا الاعتقاد أن يخلطوا الأوراق ويدمجوا بين سلوك الخير وسلوك الشر فلا يفرّق بين سلوك الإمام عليعليه‌السلام وسلوك معاوية ولا بين موقف الحسينعليه‌السلام وموقف يزيد; لأن الحكم عليهم في الدنيا ليس من شؤوننا وإنما يترك الأمر ليوم القيامة.

ثم تبنّت هذه الفرقة اعتقاداً آخر لا يقلّ خطورة عن سابقه إذ تكمن خطورته على الشباب خاصة لأن هذا الاعتقاد يفسّر معنى الإيمان المراد عند الله بأنه الإيمان القلبي لا السلوك الخارجي، لأن السلوك الخارجي قد يخادع به الإنسان فالإيمان الذي ينظر إليه الله تعالى هو الإيمان القلبي أمّا الممارسات الخارجية فلا اعتبار لها، فإذا زنا الإنسان أو شرب الخمر أو قتل نفساً فهذه تصرفات خارجية والمهم أن الإنسان يعتقد قلبياً بالله تعالى.

كما روّج في هذه الفترة لفكرة الجبر والتي نشأت في زمن معاوية واستفاد منها بنو العبّاس حيث تقول بأنا لسنا مخيّرين في أفعالنا فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربنا وهكذا.

الملاحظ في كل هذه العقائد والأفكار وأصحابها أنّها تخدم السلطة كل واحدة بطريقتها حيث تبرّر للحكّام تصرفاتهم البعيدة عن الإسلام بأفكار وأحكام اعتقادية وتهدّئ الجمهور الإسلامي حين توجّهه بهذه الأفكار.

من هنا ندرك السبب الذي جعل من الحكام أن يسمحوا بالانتشار لهذه التيّارات الناشئة من أفكار منحرفة جاء بها اليهود وغيرهم إلى العالم الإسلامي.

هذا هو عرض مختصر للظواهر والأحداث السياسية والثقافية والفكرية، التي برزت في عصر المنصور وكان الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام معاصراً لها.

أمّا ما هو منهج الإمام وأساليبه ومواقفه في خضم هذه الأجواء المملؤة بالشبهات والتهم والتضييق ؟ ! هذا ما سوف نتناوله في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.

٥٣

الفصل الثّاني: مواقف الإمام الكاظمعليه‌السلام في عهد المنصور

إنّ حركة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ونشاطه إزاء هذه الظروف التي تحدثنا عنها لم يسعفنا التاريخ بتفاصيلها ولم يحدّد لنا بالأرقام بشكل واضح حركة الإمام فيها، إلاّ أنّ بعض الروايات التاريخية تشير إلى أن الإمامعليه‌السلام قد مارس أُموراً في سنوات حكم المنصور العشرة بعد استشهاد الإمام الصادقعليه‌السلام .

وقد انتقينا بعض ممارسات الإمامعليه‌السلام التي لا تتعارض مع هذه الفترة وتنسجم مع ظروفها. ثم حاولنا بعد ذلك التركيز على الخط الذي سلكه الإمام بشكل عام تاركين التعرض للتفاصيل.

كما أنّ الخط العام والنهج الذي اتّخذه الإمام في هذه الفترة يتضمّن ما كان يهدف إليه من أسلوب علاجي لبعض الظواهر الانحرافية، كما يتضمّن ما كان يريد أن يؤسّس فيه لثوابت مستقبلية. من هنا يقع الكلام في هذا البحث ضمن عدّة اتجاهات:

الاتّجاه الأوّل: الإمام الكاظمعليه‌السلام وإحكام المواقع

ونتناول في هذا الاتجاه دور الإمامعليه‌السلام في إبرازه للقدرات الغيبية التي تميّز الإمام عن غيره من الأدعياء وزعماء الفرق والطوائف الضالّة في زمانه، وبهذا قد لفت أنظار الأمة وأعطاها حسّاً تقارن وتحاكم به هذه التيّارات وتفرز بين الحق والباطل بما أمتلكته من مقاييس مستلهمة من مشاهد مثيرة حسية كان قد حققها الإمامعليه‌السلام .

٥٤

وهذا ينبئ عن محاولات إسقاط الحيرة الفكرية السائدة في هذه الفترة. والنشاطات التي قام بها الإمامعليه‌السلام في هذا الاتجاه هي كما يلي:

النشاط الأول: إخبار الإمام موسىعليه‌السلام لعامة الناس ببعض الغيبيات التي لا يمكن للإنسان العادي أن يتوصّل إليها، والروايات التي تتضمّن هذا النوع من الإخبار كثيرة جداً ننقل بعضاً منها:

المثال الأول: عن إسحاق بن عمار قال: (سمعت العبد الصالحعليه‌السلام ينعى إلى رجل من شيعته نفسه، فقلت في نفسي: وإنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته ! فالتفت إلي شبه المغضَب فقال:يا إسحاق قد كان رشيد الهجري يعلم علم المنايا والبلايا والإمام أولى بعلم ذلك ، ثم قال: يا إسحاق اصنع ما أنت صانع فإنّ عمرك قد فنى وقد بقي منه دون سنتين ... فلم يلبث إسحاق بعد هذا المجلس إلاّ يسيراً حتى مات)(١) .

المثال الثاني: قال خالد بن نجيح: قلت لموسىعليه‌السلام إنّ أصحابنا قدموا من الكوفة وذكروا أن المفضّل شديد الوجع، فادع الله له. فقالعليه‌السلام :(قد استراح) ،

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١/٤٨٤، ح ٧، وفي الخرائج والجرائح: ١/٣١٠، ح ٣: إسحاق بن منصور، وفي إثبات الهداة: ٥/٥٤١، ح ٧٨: إسماعيل بن منصور عن أبيه. وفي بحار الأنوار: ٤٨/٦٨، ح ٩٠ ـ ٩١ عن الكافي والخرائج.

٥٥

وكان هذا الكلام بعد موته بثلاثة أيّام(١) .

المثال الثالث: قال ابن نافع التفليسي: خلّفت والدي مع الحرم في الموسم وقصدت موسى بن جعفرعليه‌السلام فلما أن قربت منه هممت بالسلام عليه فأقبل عليّ بوجهه وقال:(برّ حجك يا ابن نافع، آجرك الله في أبيك فإنّه قد قبضه إليه في هذه الساعة، فارجع فخذ في جهازه) ، فبقيت متحيراً عند قوله، وقد كنت خلّفته وما به علّة، فقال:يا ابن نافع أفلا تؤمن؟ فرجعت فإذا أنا بالجواري يلطمن خدودهنّ فقلت: ما وراكنّ؟ قلن: أبوك فارق الدنيا، قال ابن نافع: فجئت إليه أسأله عمّا أخفاه ورائي فقال لي:أبداً ما أخفاه وراءك ، ثم قال:يا ابن نافع إن كان في أمنيتك كذا وكذا أن تسأل عنه فأنا جنب الله وكلمته الباقية وحجته البالغة )(٢) .

النشاط الثاني: ومن قدرات الإمامعليه‌السلام الخارقة للعادة والتي تميّزه أيضاً عن غيره هي تكلّمه بعدّة لغات من غير أن يتعلّمها بالطرق الطبيعية للتعلّم، وإنّما بالإلهام. وفي هذا المجال تطالعنا مجموعة من الشواهد:

الشاهد الأول: عن أبي بصير قال: دخلت على أبي الحسن الماضيعليه‌السلام ، ما لبثت أن دخل علينا رجل من أهل خراسان فتكلّم الخراساني بالعربية، فأجابه هو بالفارسية. فقال له الخراساني: أصلحك الله ما منعني أن أكلمك بكلامي إلاّ أني ظننت أنك لا تحسن ، فقال:(سبحان الله! إذا كنت لا أحسن أن أجيبك فما فضلي عليك؟!) ، ثم قال:(يا أبا محمد ، إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا طير ولا بهيمة

ــــــــــــ

(١) بصائر الدرجات: ٢٦٤ ح ١٠، واخبار معرفة الرجال: ٣٢٩ ح ٥٩٧، والخرائج والجرائح: ٢/٧١٥ ح ١٣، وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣١١ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/٧٢.

٥٦

ولا شيء فيه روح بهذا يعرف الإمام ، فإذا لم تكن فيه هذه الخصال فليس هو بإمام) (١) .

الشاهد الثاني: روي عن أبي حمزة أنه قال: كنت عند أبي الحسن موسىعليه‌السلام إذ دخل عليه ثلاثون مملوكاً من الحبشة اُشتروا له، فتكلم غلام منهم ـ وكان جميلاً ـ بكلام فأجابه موسىعليه‌السلام بلغته فتعجّب الغلام وتعجّبوا جميعاً وظنوا أنه لا يفهم كلامهم. فقال له موسىعليه‌السلام :(إني أدفع إليك مالاً، فادفع إلى كل (واحد )منهم ثلاثين درهماً) . فخرجوا وبعضهم يقول لبعض: (إنّه أفصح منا بلغتنا، وهذه نعمة من الله علينا. قال علي بن أبي حمزة: فلما خرجوا قلت: يا ابن رسول الله! رأيتك تكلم هؤلاء الحبشيين بلغاتهم ! قال:نعم. وأمرت ذلك الغلام من بينهم بشيء دونهم؟ قال:نعم أمرته أن يستوصي بأصحابه خيراً وأن يُعطي كل واحد منهم في كل شهر ثلاثين درهماً، لأنّه لمّا تكلم كان أعلمهم، فإنه من أبناء ملوكهم، فجعلته عليهم، وأوصيته بما يحتاجون إليه، وهو مع هذا غلام صدق . ثم قال:لعلك عجبت من كلامي إياهم الحبشية ؟ قلت: إي والله. قالعليه‌السلام :(لا تعجب فما خفي عليك من أمري أعجب وأعجب) (٢) .

الشاهد الثالث: قال بدر ـ مولى الإمام الرضاعليه‌السلام ـ: (إنّ إسحاق بن عمار دخل على موسى بن جعفرعليه‌السلام فجلس عنده إذ استأذن عليه رجل خراساني

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ٢٦٥، ح ١٢٦٣ وعنه في بحار الأنوار: ٢٥/١٣٣، ح ٥، واثبات الهداة: ٥/٥٣٥ ح ٧٢.

(٢) قرب الإسناد: ٢٦٢، ح ١٢٥٧ وعنه في بحار الأنوار: ٢٦/١٩٠ و ٤٨ / ١٠٠، ودلائل الإمامة: ١٦٩، والخرائج والجرائح: ١/٣١٢، ح ٥ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٠.

٥٧

يكلّمه بكلام لم يسمع مثله قطّ كأنه كلام الطير.

قال إسحاق: فأجابه موسىعليه‌السلام بمثله وبلغته إلى أن قضى وطره في مساءلته، فخرج من عنده، فقلت: ما سمعت بمثل هذا الكلام.

قال:هذا كلام قوم من أهل الصين وليس كل كلام أهل الصين مثله .

ثم قال:أتعجب من كلامي بلغته ؟ قلت: هو موضع التعجب.

قالعليه‌السلام :أُخبرك بما هو أعجب منه إن الإمام يعلم منطق الطير، ومنطق كلّ ذي روح، وما يخفى على الإمام شيء (١) .

الاتّجاه الثاني: الإمام الكاظمعليه‌السلام ومعالجة الانهيار الأخلاقي

لقد أصاب القيم الإسلامية ـ بفعل الأسباب التي ذكرناها ـ اهتزاز كبير وتعرّضت الأمة إلى هبوط معنوي وتميّع مشهود، تغذّيه وتحركه أيد سلطانية هادفة، هنا سلك الإمام الكاظمعليه‌السلام سبيلين من أجل أن يحدّ من هذا الانهيار الذي تعرّضت له الأمة.

الأول عام. والثاني يختص بالجماعة الصالحة.

وقد اتّخذ الإمامعليه‌السلام أساليب عديدة للموعظة والإرشاد ومعالجة الانهيار الأخلاقي الذي أخذ ينتشر ويستحكم في أعظم الحواضر الإسلامية التي كان الإمامعليه‌السلام يتواجد فيها.

واستطاع الإمامعليه‌السلام من خلال توجيهه لمجموعة من طلاّب الحقيقة وتأثيره عليهم أن يربّي في المجتمع الإسلامي نماذج حيّة تكون قدوة للناس في كبح جماح الشهوات الهائجة وإطفاء نيران الهوى المشتعلة بسبب

ــــــــــــ

(١) دلائل الإمامة: ١٧١ وعنه في مدينة المعاجز: ٤٣٨ ح ٣٨، والخرائج والجرائح: ١ / ٣١٣، ح ٦ وعنه في كشف الغمة: ٢/٢٤٧ وبحار الأنوار: ٤٨/٧٠، ح ٩٤.

٥٨

المغريات المتنوّعة والتي كان يؤججها انسياب الحكّام في وادي الهوى نتيجة للثروات التي كانوا يحرصون على جمعها ويقتّرون في إنفاقها إلاّ على شهواتهم إلى جانب اقتدارهم السياسي والعسكري.

وممّن تأثّر بالإمام الكاظمعليه‌السلام ولمع اسمه في حواضر المجتمع الإسلامي ; أبو نصر بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي الأصل البغدادي المسكن والذي أصبح من العرفاء الزهّاد بعد أن كان من أهل المعازف والملاهي، حيث تاب على يدي الإمام الكاظمعليه‌السلام (١) .

وقد ذكر المؤرخون في سبب توبته أن الإمامعليه‌السلام حين اجتاز على داره ببغداد سمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تعلو من داره، وخرجت منها جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الطريق، فالتفت الإمام إليها قائلاً:(يا جارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟) فأجابت: (حر). فقالعليه‌السلام :صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه . ودخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطأك؟ فنقلت له ما دار بينها وبين الإمامعليه‌السلام فخرج بشر مسرعاً حتى لحق الإمامعليه‌السلام فتاب على يده، واعتذر منه وبكى(٢) وبعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه واتصل بالله عن معرفة وإيمان حتى فاق أهل عصره في الورع والزهد).

وقال فيه إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتمّ عقلاً، ولا أحفظ لساناً، من بشر بن الحارث كان في كل شعرة منه عقل(٣) .

ــــــــــــ

(١) الكنى والألقاب: ٢/٦٧.

(٢) الكنى والألقاب: ٢ / ١٦٧.

(٣) تأريخ بغداد: ٧ / ٧٣.

٥٩

نعم، لقد أعرض بشر ببركة توجيه الإمام الكاظمعليه‌السلام له وتنبيهه عن غفلته حتى أعرض عن زينة الحياة الدنيا ورضي بالقناعة وقال فيها:لو لم يكن في القناعة شيء إلاّ التمتع بعز الغناء (الغنى)لكان ذلك يجزي .

وقال:(مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء) (١) .

وممّا رواه الخطيب البغدادي عنه أنه جعل يبكي يوماً ويضطرب ويقول:(اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا ونوّهت باسمي ورفعتني فوق قدري على أن تفضحني في القيامة، الآن فعجّل عقوبتي وخذ منّي بقدر ما يقوى عليه بدني) (٢) .

وروى عن حجّاج بن الشاعرأ نّه كان يقول لسليمان اللؤلؤي: رؤي بشر بن الحارث في النوم فقيل له: ما فعل الله بك يا أبا نصر؟ قال: غفر لي، وقال: يا بشر: ما عبدتني على قدر ما نوّهت باسمك(٣) .

وإذا تتبّعنا ما أثر عن الإمام الكاظمعليه‌السلام من كلمات وجدنا نصوصاً تشير إلى اهتمامه بمعالجة الفساد الأخلاقي بشتّى نواحيه، فضلاً عن سيرته العطرة وسلوكه السويّ الذي كان قبلة للعارفين وأسوة للمتقين وشمساً مضيئة للمؤمنين وقمراً متلألئاً للمسلمين.

ونختار ممّا قاله الإمامعليه‌السلام بصدد معالجة الانهيار الأخلاقي ما يلي:

١ ـ(إنّ العاقل: الذي لا يشغل الحلال شكره ولا يغلب الحرام صبره) .

٢ ـ(من سلّط ثلاثاً على ثلاث فكأنّما أعان هواه على هدم عقله) .

(من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه وأطفأ

ــــــــــــ

(١) تاريخ بغداد: ٧/٧٩.

(٢) تاريخ بغداد: ٧/٨١.

(٣) تاريخ بغداد: ٧/٨٣.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

المصدّرة بـ «المص» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات وص [أي ما افتتح بـ «ألم» و «ص»] وكذا سورة الرعد المصدّرة بـ «المر» في مضمونها كأنّها جامعة بين مضامين الميمات والراءات».

«ولعلّ المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف ، وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض ، لتبيّن له الأمر أزيد من ذلك»(١) .

وثمّة تفسير آخر أشرنا إليه سابقا ، وهو احتمال أن تكون هذه الحروف إشارات ورموزا لأسماء الخالق ونعمه وقضايا اخرى.

مثلا ، في السورة التي نبحثها اعتبروا الحاء إشارة إلى الرحمن ، والميم إلى المجيد ، والعين إلى العليم ، والسين إلى القدوس ، والقاف إلى القاهر(٢) .

يعترض البعض على هذا الكلام بقولهم : لو كان المقصود من الحروف المقطعة أن لا يعلم بها الآخرون فإنّ ذلك غير صحيح ، لأنّ هناك آيات اخرى تصرّح بأسماء الله ، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الرموز والإشارات لا تعني دائما أن يبقى الموضوع أو المعنى سرّيا ، بل قد تكون أحيانا علامة للاختصار ، وهذا الأمر كان موجودا سابقا ، وهو مشهور في عصرنا الراهن ، بحيث أنّ أسماء العديد من المؤسسات والمنظمات الكبيرة ، تكون على شكل مجموعة مختصرة من الحروف المقطّعة التي يرمز كلّ منها إلى جزء من الاسم الأصيل.

بعد الحروف المقطعة تتحدث الآية الكريمة عن الوحي ، فتقول :( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

«كذلك» إشارة إلى محتوى السورة ومضامينها.

ومصدر الوحي واحد ، وهو علم الله وقدرته ، ومحتوى الوحي في الأصول والخطوط العريضة واحد أيضا بالنسبة لجميع الأنبياء والرسالات ، بالرغم من أنّ

__________________

(١) الميزان ، للعلّامة محمد حسين الطباطبائي ، المجد ١٨ ، صفحة ٨ ـ ٩.

(٢) يستفاد هذا التّفسير عن حديث للإمام الصادقعليه‌السلام . يراجع تفسير القرطبي ، المجلد ٩ ، صفحة ٥٨٢٢.

٤٦١

هناك خصوصيات بين دعوة نبي وآخر بحسب حاجة الزمان والمسيرة التكاملية للبشر(١) .

وضروري أن نشير إلى أنّ الآيات التي نبحثها أشارت إلى سبع صفات من صفات الله الكمالية ، لكل منها دور في قضية الوحي بشكل معين ، ومن ضمنها الصفتان اللتان نقرؤهما في هذه الآية :( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فعزته تعالى وقدرته المطلقة تقتضي سيطرته على الوحي ومحتواه العظيم.

وحكمته تستوجب أن يكون الوحي الإلهي حكيما متناسقا مع حاجات الإنسان التكاملية في جميع الأمور والشؤون.

وتعبير «يوحى» دليل على استمرار الوحي منذ خلق الله آدمعليه‌السلام حتى عصر النّبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار.

قوله تعالى :( لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) .

إنّ مالكيته تعالى لما في السماء والأرض تستوجب ألّا يكون غريبا عن مخلوقاته وما يؤول إليه مصيرها ، بل يقوم بتدبير أمورها وحاجاتها عن طريق الوحي ، وهذه هي الصفة الثّالثة من الصفات السبع.

أمّا «العليّ» و «العظيم» اللذان هما رابع وخامس صفة له (سبحانه وتعالى) في هذه الآيات ، فهما يشيران إلى عدم حاجته لأي طاعة أو عبودية من عباده ، وإنّما قام تعالى بتدبير أمر العباد عن طريق الوحي من أجل أن ينعم على عباده.

الآية التي بعدها تضيف :( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ ) (٢) وذلك بسبب نزول الوحي من قبل الله ، أو بسبب التهم الباطلة التي كان المشركون والكفّار ينسبونها إلى الذات المقدسة ويشركون الأصنام في عبادته.

__________________

(١) بالرغم من الكلام الكثير للمفسّرين حول المشار إليه في اسم الإشارة «كذلك» لكن يظهر أنّ المشار إليه هو نفس هذه الآيات النازلة على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذا يكون مفهوم الآية : إنّ الوحي هو بهذا الشكل الذي أنزله الله عليك وعلى الأنبياء السابقين ، وقد استخدم اسم الإشارة للبعيد بالرغم من قرب المشار إليه ، وذلك للتعظيم والاحترام.

(٢) «يتفطرن» من كلمة «فطر» على وزن «سطر» وتعني في الأصل الشق الطولي.

٤٦٢

ويتّضح ممّا سلف أنّ للجملة معنيين :

الأوّل : أنّها تختص بموضوع الوحي الذي هو حديث الآيات السابقة ، وهو في الواقع يشبه ما جاء في الآية (٢١) من سورة «الحشر» في قوله تعالى :( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) .

إنّه كلام الله الذي يزلزل السماوات عند نزوله وتكاد تتلاشى ، فلو أنّه نزل على الجبال لتصدّعت ، لأنّه كلام عظيم من خالق حكيم.

والويل لقلب الإنسان ، فهو الوحيد الذي لا يلين ولا يستسلم ، ويصر على عناده وتكبره.

التّفسير الثّاني : أنّ السماوات تكاد تتفطّر وتتلاشى بسبب شرك المشركين وعبادتهم للأصنام من دون الله ، بل هم يساوون بين أدنى الكائنات والموجودات وبين المبدأ العظيم خالق الكون جلّ وعلا.

التّفسير الأوّل يناسب الآيات التي نبحثها والتي تنصب حول الوحي والتّفسير الثّاني يناسب ما نقرؤه في الآيتين (٩٠ ، ٩١) من سورة «مريم» حيث يقول تعالى بعد أن يذكر قول الكفار ـ وقبح قولهم ـ باتخاذه ولدا (!!) :( تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ) .

ومن الواضح أن ليس ثمّة تعارض بين التّفسيرين.

أمّا عن كيفية انفطار السماوات وانهدام الجبال وهي موجودات جامدة ، فقد ذكروا كلاما وأقوالا متعدّدة في الموضوع تعرضنا لها في نهاية حديثنا عن الآيتين المذكورتين من سورة مريم.

وإذا أردنا أن نقف على استخلاص عام لما قلناه هناك ، فيمكن أن نلاحظ أنّ مجموعة عالم الوجود من جماد ونبات وغير ذلك لها نوع من العقل والشعور ، بالرغم من عدم إدراكنا له ، وهم على هذا الأساس يسبحون الله ويحمدونه ، ويخضعون له ويخشعون لكلامه.

٤٦٣

أو أن يكون التعبير كناية عن عظمة وأهمية الموضوع ، مثلما نقول مثلا : إنّ الحادثة الفلانية كانت عظيمة جدّا وكأنّما انطبقت معها السماء على الأرض.

بقية الآية ، قوله تعالى :( وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .

أمّا الرابطة بين هذا الجزء من الآية والجزء الذي سبقه ، فهو ـ وفقا للتفسير الأوّل ـ أنّ الملائكة الذين هم حملة الوحي العظيم وواسطته ، يسبحون ويحمدون الله دائما ، يحمدونه بجميع الكمالات ، وينزهونه عن جميع النواقص ، وعند ما ينحرف المؤمنون أحيانا ، تقوم الملائكة بنصرهم ويطلبون المغفرة لهم من الله تعالى.

أمّا وفق التّفسير الثّاني ، فإنّ تسبيح الملائكة وحمدهم إنّما يكون لتنزيهه تعالى عما ينسب إليه من شرك ، وهم يستغفرون كذلك للمشركين الذين آمنوا وسلكوا طريق التوحيد ورجعوا إلى بارئهم جلّ جلاله.

وعند ما تستغفر الملائكة لمثل هذا الذنب العظيم لدى المؤمنين ، فهي حتما ـ ومن باب أولى ـ تستغفر لجميع ما لهم من ذنوب اخرى. وقد يكون الإطلاق في الآية لهذا السبب بالذات.

نقرأ نظيرا لهذه البشرى العظيمة في الآية (٧) من سورة المؤمن في قوله تعالى :( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ ) .

وأخيرا تشير نهاية الآية الكريمة إلى سادس وسابع صفة من صفات الله تبارك وتعالى ، وتنصب حول الغفران والرحمة ، وتتصل بقضية الوحي ومحتواه ، وبخصوص وظائف المؤمنين ، حيث يقول تعالى :( أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

وبهذا الترتيب أتمّت الآيات الكريمات الإشارة إلى مجموعة متكاملة من

٤٦٤

الأسماء الحسنى المختصة بالله تعالى والمرتبطة بالوحي.

وفي نهاية الآية ثمّة إشارة لطيفة إلى استجابة دعاء الملائكة بخصوص استغفارهم للمؤمنين ، بل أنّه تعالى يضيف الرحمة إلى صفة الغفور ممّا يدل على عظيم فضله.

أمّا عن مسألة الوحي فسيكون لنا كلام مفصل في نهاية هذه السورة إن شاء الله عند ما نتحدّث عن الآيتين (٥١ ، ٥٢).

هل تستغفر الملائكة للجميع؟

قد يطرح السؤال الآتي حول قوله تعالى :( وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .

وهو : الآية تفيد استغفار الملائكة لمطلق أهل الأرض سواء المؤمن منهم أو الكافر ، فهل يمكن ذلك؟

لقد أجابت الآية (٧) من سورة المؤمن على هذا السؤال من خلال قوله تعالى :( يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

وبناء على هذا فإنّ شرط الاستغفار هو الإيمان ، إضافة إلى كونهم معصومين ، وهم بذلك لا يطلبون المستحيل للذين يفتقدون إلى أرضية الغفران.

* * *

٤٦٥

الآيات

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) )

التّفسير

انطلاقة من «أم القرى» :

تحدثت الآيات السابقة عن قضية الشرك ، لذلك فإنّ الآية الأولى في المجموعة الجديدة ، تتناول بالبحث نتيجة عمل المشركين وعاقبة أمرهم حيث يقول تعالى :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ) .

حتى يحاسبهم في الوقت المناسب ، ويعاقبهم جزاء أعمالهم.

ثم تخاطب الآية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله تعالى :( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) إنّ مسئوليتك هي تبليغ الرسالة وإيصال نداء الله الى جميع العباد.

٤٦٦

وثمّة في كتاب الله آيات اخرى تشير إلى هذا المعنى :

قوله تعالى :( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) (١) .

قوله تعالى :( ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) (٢) .

قوله تعالى :( وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (٣) .

قوله تعالى :( ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ) (٤) .

إنّ هذه الآيات تبيّن حقيقة حرية العباد واختيارهم الطريق الذي يريدونه بإرادتهم وحريتهم ، لأنّ القيمة الحقيقة للإيمان والعمل الصالح تمكن في حرية الإختيار ، وليس للإيمان أو العمل الإجباري أي قيمة معنوية.

يعود القرآن إلى قضية الوحي مرّة اخرى ، وإذا كانت الآيات السابقة قد تحدّثت عن أصل الوحي ، فإنّ الكلام هنا ينصب حول الهدف النهائي له ، إذ يقول تعالى :( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) و «امّ القرى» هي مكّة المكرمة ، ثمّ تنذر الناس من يوم القيامة وهو يوم الجمع الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء :( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ ) .

وفي ذلك اليوم ينقسم الناس إلى مجموعتين :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) .

وقد يكون التعبير بـ «كذلك» إشارة إلى أنّه مثلما أوحينا إلى الأنبياء السابقين بلسانهم ، فإنّنا كذلك أوحينا إليك بلسانك ، هذا القرآن العربي.

وعليه تكون «كذلك» إشارة إلى :( وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ ) .

ويمكن أن تكون إشارة إلى ما بعدها ، يعني أنّا أوحيناه إليك بهذه الصورة

__________________

(١) الغاشية ، الآية ٢٢.

(٢) سورة ق ، الآية ٤٥.

(٣) الأنعام ، الآية ١٠٧.

(٤) المائدة ، الآية ٩٩.

٤٦٧

قرآنا عربيا يهدف إلى الإنذار.

صحيح أنّنا نستفيد من نهاية الآية أيّ من قوله تعالى :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) أنّ مسئولية النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي التبشير والإنذار ، ولكن بسبب ما للإنذار من تأثير أعمق في نفوس الأفراد المعاندين والجهلة ، لذا فإنّ الآية استندت إلى «الإنذار» مرّتين فقط ، مع اختلاف بينهما ، إذ أنّ الكلام شمل في المرحلة الأولى إنذار المستمعين ، بينما شمل في الثانية تخويفهم من شيء يجب أن يخافوه ، يعني القيامة وما فيها من حساب وفضيحة ستكون مؤلمة وصعبة للغاية ، بسبب حضور الأشهاد والملائكة والناس(١) .

وقد يتساءل البعض هنا : إنّنا نستفيد من قوله تعالى :( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) أنّ الهدف من نزول القرآن هو لإنذار أهل مكّة وأطرافها. أفلا يتنافى هذا المعنى مع مفهوم عالمية الإسلام؟

الجواب على هذا الاستفهام يتمّ من خلال ملاحظة المعنى الذي تستبطنه( أُمَّ الْقُرى ) .

إنّ كلمة «أمّ القرى» وهي أحد أسماء مكّة المكرّمة ، مؤلّفة من كلمتين هما : «أمّ» وتعني في الأصل الأساس والبداية في كلّ شيء ، ولهذا السبب تسمى الأمّ بهذا الاسم لأنّها أساس وأصل الأبناء.

ثمّ كلمة «قرى» جمع «قرية» بمعنى أي منطقة معمورة أو مدينة ، سواء كانت المدينة كبيرة أم صغيرة ، أو مجرّد قرية.

وفي القرآن الكريم ثمّة أدلة كثيرة على هذا المعنى.

والآن لنر لماذا سمّيت «مكّة» بأمّ القرى؟

__________________

(١) ينبغي الانتباه ، إلى أنّ (تنذر) تتعدى إلى مفعولين ، وفي الآية مورد البحث ذكر مفعولها الأوّل في الجملة الأولى ، والثّاني في الجملة الثانية. وقد يصحب المفعول الثّاني بالباء فيقال : أنذره بذلك.

٤٦٨

الرّوايات الإسلامية تصرّح بأنّ الأرض كانت في البداية مغطاة جميعها بالماء ، ثمّ بدأت اليابسة تظهر بشكل تدريجي من تحت هذه المياه. (تؤيد النظريات العلمية الآن هذا المعنى).

ثمّ تخبرنا الرّوايات بأنّ منطقة الكعبة كانت أوّلا منطقة ظهرت من تحت الماء ، ثمّ بدأت اليابسة بالاتساع من جوار الكعبة ، ويعرف ذلك بدحو الأرض.

وهكذا يتّضح أن مكّة هي أصل وأساس لجميع القرى والمدن على سطح الأرض ، لذا فمتى قيل( أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) فالمعنى سيشمل جميع الناس على سطح الكرة الأرضية(١) .

مضافا إلى ذلك ، نحن نعرف أنّ الإسلام بدأ بالانتشار تدريجيا ، ففي البداية أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإنذار المقرّبين إليه ، كما ورد في قوله تعالى :( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٢) كي تتقوى قاعدة الإسلام وتصلب نواته ، ويكون أكثر قدرة واستعدادا للانتشار.

ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة بإنذار العرب ، كما ورد في قوله تعالى :( قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (٣) .

وكذلك في قوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ ) .

وعند ما ترسخت أعمدة الإسلام بين هؤلاء القوم ، وقوي عوده أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأوسع من ذلك ، أن ينذر العالم والناس كافة ، كما نقرأ في أوّل سورة الفرقان في قوله تعالى :( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) وفي آيات اخرى.

__________________

(١) جاء هذا التعبير في سورة الأنعام كذلك الآية (٩٢) وقد ذكرنا هناك توضيحا أوسع ، فليراجع.

(٢) الشعراء ، الآية ٢١٤.

(٣) فصلت ، الآية ٣ ، إنّ ما قلناه هو في حال اعتبارنا كلمة (عربي) بمعنى اللغة العربية ، أمّا إذا فسرناها بالمعنى الفصيح فسيكون للآية مفهوم آخر.

٤٦٩

وبسبب هذا التكليف قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم خارج الجزيرة العربية ، ودعا كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم إلى الإسلام.

ووفق هذه التعليمات قام أتباعه من بعده بالدعوة إلى الإسلام في مختلف بقاع العالم ، ونشروا تعاليم الإسلام في جميع أرجاء المعمورة.

أمّا لماذا سمّي يوم القيامة بيوم الجمع؟ فهناك أقوال مختلفة منها :

بسبب ما يكون فيه من جمع بين الأرواح والأجساد.

أو بسبب الجمع بين الإنسان وعمله.

أو بسبب الجمع بين الظالم والمظلوم.

ولكن يظهر أنّ السبب يتمثل في الجمع بين الخلائق من الأولين والآخرين كما نقرأ ذلك واضحا في قوله تعالى :( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) (١) .

وبما أن قوله تعالى :( فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) يقسّم الناس إلى فئتين ، فإنّ الآية التي بعدها تضيف :( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) على الهداية.

إلّا أنّ الإيمان الإجباري ليست له قيمة ، وكيف يمكن لمثل هذا الإيمان أن يكون معيارا للكمال الإنساني؟

إنّ التكامل الحقيقي هو أن يسير الإنسان بإرادته وبمنتهى الإختيار والحرية.

إنّ الآيات القرآنية مليئة بأدلة حرية الإنسان ، ومثل هذا الإختيار هو ما يميّز الإنسان عادة عن غيره من الكائنات الأخرى ، وإذا سلبت منه إرادته واختياره فكأنما سلبت منه إنسانيته.

__________________

(١) الواقعة ، الآية ٥٠.

٤٧٠

وكما أن سمة الحرية والإختيار طريق إلى التكامل ، فهي أيضا سنّة إلهية لا قبل التغيير.

ولكن العجيب أمر البعض الذين ما زالوا على عقيدة الجبر ، وهم يدعون أتباعهم للأنبياء ، في حين أنّ قبول الجبر يساوي في الواقع نفي مضمون دعوة جميع الأنبياء ، فلا معنى للتكليف حينئذ ، ولا للحساب والسؤال والجواب ، ولا النصيحة والموعظة ، وبشكل أولى الثواب والعقاب!

ومع عقيدة الجبر لا معنى لتردّد الإنسان في أعماله ، ولا معنى لندمه وعزيمته على تصحيح الأخطاء!

تشير الآية بعد ذلك إلى وصف أهل الجنّة والسعادة حيال أهل النّار ، فيقول تعالى :( وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) .

وعند ما يشخّص أهل النّار بوصف «الظلم» فيبيّن أنّ المراد من «من يشاء» في الجملة الأولى هم المجموعة التي لا ترتكب الظلم.

وعلى هذا الأساس يكون أهل العدل هم أصحاب الجنّة في مقابل أهل الظلم الذي هم أهل النّار.

ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ «ظالم» هنا ، وفي العديد من الآيات القرآنية الأخرى لها معنى واسع ولا تشمل الذين يظلمون غيرهم فقط ، بل تشمل الذين يظلمون أنفسهم أيضا ، وتشمل المنحرفين عقائديا ، وهل هناك ظلم أعلى من الشرك والكفر؟

يقول لقمان لابنه وهو يعظه :( يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (١) .

وفي آية اخرى نقرأ قوله تعالى :( أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٣.

٤٧١

سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) .

وقال بعضهم في الفرق بين «ولي» و «نصير» أنّ «الولي» الذي يقوم بمساعدة الإنسان دون طلبه. أما النصير فأعلم من ذلك(١) .

ويحتمل أن تشير كلمة «ولي» إلى المشرف الذي يقوم بالحماية والمساعدة بحكم ولايته ودون أي طلب.

أمّا «النصير» فالذي يقوم بنصر الإنسان ومساعدته بعد أن يطلب العون.

* * *

__________________

(١) يلاحظ ذلك في مجمع البيان ، المجلد ٨ ، صفحة ٧٧٩ ، ذيل الآية (٢٢) من العنكبوت.

٤٧٢

الآيات

( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) )

التّفسير

الولي المطلق :

أوضحت الآيات السابقة أن لا وليّ ولا نصير سوى الله ، والآيات التي بين أيدينا تعطي أدلة على هذه القضية ، وتنفي الولاية لما دونه سبحانه وتعالى.

تقول الآية بأسلوب التعجب والإنكار :( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ) (١) . إلا

__________________

(١) اعتبر بعض المفسّرين (كالزمخشري في الكشاف والفخر ، الرازي في التّفسير الكبير ـ أنّ «أم» هنا بمعنى الاستفهام

٤٧٣

أنّه :( فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ ) .

فلو أراد هؤلاء أن يختاروا وليا ، فعليهم أن يختاروا الله ، لأنّ أدلة ولايته واضحة في الآيات السابقة ، مع بيان أوصافه الكمالية ، فالعزيز والحكيم ، والمالك والعلي والعظيم ، والغفور والرحيم ، هذه الصفات السبع التي مرّت علينا تعتبر ـ لوحدها ـ أفضل دليل على اختصاص الولاية به.

ثم تذكر دليلا آخر فتقول :( وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى ) .

ويجب اللجوء إليه لا لغيره ، لأنّ المعاد والبعث بيده ، وأنّ أكثر ما يخشاه الإنسان هو مصيره بعد الموت.

ثم تذكر دليلا ثالثا فتقول :( وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وهذه إشارة إلى أنّ الشرط الرئيسي للولي هو امتلاكه للقدرة الحقيقة.

الآية التي بعدها تشير إلى الدليل الرابع لولايته تعالى فتقول :( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) . فهو التوحيد الذي يستطيع أن يحل مشاكلكم.

إنّ من اختصاصات الولاية أن يستطيع الولي إنهاء اختلافات من هم تحت ولايته بحكمه الصائب ، فهل تستطيع الأصنام والشياطين التي تعبدونها أن تقوم بذلك ، أم أنّ هذا الأمر يختص بالله الحكيم والعالم والقادر على حل مشاكل عباده ، وتنفيذه لحكمه وإرادته دون غيره؟

إذن فالله العزيز الحكيم هو الحاكم لا غيره.

لقد حاول بعض المفسّرين حصر مفهوم الاختلاف الذي تشير إليه الآية في قوله تعالى :( مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) في الاختلاف الوارد في الآيات المتشابهة ، أو في الاختلاف والمخاصمات الحقوقية فقط ، إلّا أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك ، إذ هي تشمل الاختلاف سواء كان في المعارف الإلهية والعقائد ، أم الأحكام

__________________

ـ الإنكاري ، أما البعض الآخر ـ كالطبرسي في «مجمع البيان» والقرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ـ فقد اعتبروها بمعنى «بل».

٤٧٤

الشرعية ، أم القضايا الحقوقية والقضائية ، أم غير ذلك ممّا يحدث بين الناس لقلّة معلوماتهم ومحدوديتها ، إنّ ذلك ينبغي أن يحل عن طريق الوحي ، وبالرجوع إلى علم الله وولايته.

وبعد ذكر الدلائل المختلفة على اختصاص الولاية بالله ، تقول الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي ) (١) فهو الذي يتصف بهذه الأوصاف الكمالية ولهذا السبب :( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) أيّ أعود إليه في المشكلات والشدائد والزلات.

جملة :( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي ) تشير إلى الربوبية المطلقة لله بمعنى الحاكمية المتزامنة مع التدبير. ونحن نعلم أنّ للربوبية قسمين : القسم التكويني الذي يعود إلى إرادة نظام الوجود ، والقسم التشريعي الذي يقوم بتوضيح الأحكام ووضع القوانين وإرشاد الناس بواسطة الرسل والأنبياءعليهم‌السلام .

وعلى أساس ذلك طرحت الآية فيما بعد قضية «التوكل» و «الإنابة» حيث تعني الأولى رجوع جميع الأمور الذاتية في النظام التكويني إلى الخالق جلّ وعلا.

والثّانية تعني رجوع الأمور التشريعية إليه(٢) .

الآية التي تليها يمكن أن تكون دليلا خامسا على ولاية الله المطلقة ، أو دليلا على ربوبيته ، واستحقاقه دون غيره للتوكل والإنابة ، إذ تقول :( فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

«فاطر» من مادة «فطر» وتعني في الأصل فتق شيء ما ، ويقابلها «قط» التي تعني بقول البعض الشق العرضي.

وكأنّما الآية تشير إلى تفتق ستار العدم المظلم عند خلق الكائنات وخروج

__________________

(١) في بداية هذه الجملة تكون كلمة «قل» مقدّرة ، فهذه الجملة وما بعدها تتحدث عن لسان النبيّ فقط ، أمّا جملة( مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ) فهي استمرار لحديث الخالق جلّ وعلا. والذين اختاروا غير ذلك لم يسلكوا الطريق الصحيح في الظاهر.

(٢) الميزان ، المجلد ١٨ ، الصفحة ٢٣.

٤٧٥

الموجودات منه.

وبهذه المناسبة فإنّ «فطر» تطلق على «طلاع» التمر عند ما يتفتق ويخرج منه التمر.

والمقصود بالسماوات والأرض هنا جميع السماوات والأرض وما فيها من كائنات وما بينها ، لأنّ الخالقية تشملها جميعا.

ثم تشير الآية إلى وصف آخر من أفعاله تعالى فتقول :( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) (١) .

وهذه لوحدها تعتبر إحدى الدلائل الكبيرة على تدبير الله وربوبيته وولايته ، حيث خلق سبحانه وتعالى للناس أزواجا من أنفسهم ، وهو يعتبر أساسا لراحة الروح وسكون النفس ، ومن جانب آخر يعتبر الزواج أساسا لبقاء النسل واستمراره ، وتكاثره.

وبالرغم من أنّ خطاب الآية موجّه للإنسان ، والمعنى منصب عليه من خلال «يذرؤكم» إلّا أنّ هذا الأمر هو حكم سائد وسنة جارية في جميع الأنعام والموجودات الحية الأخرى التي تسري عليها التكاثر بالمثل.

وفي الواقع إنّ توجيه الخطاب للإنسان دونها يشير الى مقامه الكريم ، وأما أمر البقية فيتبيّن من خلال الإنسان كمثال.

الصفة الثّالثة التي تذكرها الآية هو قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

إنّ هذا الجزء من الآية يتضمّن حقيقة أساسية في معرفة صفات الله الأخرى ، وبدونها لا يمكن التوصّل إلى أي صفة من صفات الله ، لأنّ أكبر منزلق يواجه السائرين في طريق معرفة الله يتمثل في «التشبيه» حيث يشبهون الخالق جلّ وعلا بصفات مخلوقاته ، وهو أمر يؤدي للسقوط في وادي الشرك!

__________________

(١) الضمير في «فيه» يعود إلى «التدبير» أو «جعل الأزواج» و «يذرؤ» من «ذرأ» على وزن «زرع» وتعني «الخلق» لكنّه الخلق الذي يقترن ويتزامن مع إظهار الأفراد. وقد وردت أيضا بمعنى الانتشار.

٤٧٦

إنّ وجود الله تعالى ليس له نهاية ولا يحد بحد ، وكل شيء غيره له نهاية وحد من حديث القدر والعمر والعلم والحياة والإرادة والفعل ، وفي كلّ شيء.

وهذا هو خط تنزيه الخالق من نقائص الممكنات.

لذا فإنّ ما يثبت لغيره لا يصح عليه (سبحانه وتعالى) ولا ينطبق على ذاته المنزّهة ، بل ولا معنى له.

فبالنسبة إلينا تكون بعض الأمور سهلة والأخرى صعبة ، وبعض الأحداث وقع في الماضي وبعضها يقع الآن ، ومنها ما يقع في المستقبل. وبعض الأشياء صغير وبعضها كبير.

إنّ مقاييس هذه الأشياء ومدلولاتها ومفاهيمها تحتكم إلى وجودنا المحدود ، وهي تلائم إدراكنا وحاجتنا إلى مقايسة الأشياء بغيرها.

أمّا هذه المواصفات والمقاييس والمصطلحات المحدودة ، فإنّ أيا منها لا ينطبق على صفات الله ، إذ لا معنى لديه للقرب والبعد ، فالكل قريب وفي متناول إرادته ، ولا معنى للصعب والسهل ، فكل شيء سهل وطوع إرادته المطلقة ، ولا يوجد مستقبل وماض ، فكل شيء بالنسبة إليه تعالى حضور وحال.

إنّ إدراك هذه المعاني غير مستطاع من دون تفريغ الذهن وتخليته ممّا هو فيه.

لهذا السبب يقال : إنّ من السهل معرفة أصل وجود الخالق جلّ وعلا ، لكن من الصعب معرفة صفاته.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذا الشأن : «وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلّا سواء»(١) .

تشير نهاية الآية إلى صفات اخرى من صفات الله :( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

هو الخالق والمدبّر ، والسميع والبصير ، وفي نفس الوقت ليس له شبيه أو نظير

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٨٤.

٤٧٧

أو مثيل ، ولهذا لا ينبغي الاستظلال إلّا تحت ولايته ، ولا تصح العبودية والربوبية إلّا له ، وذلك لا يكون ألّا بفك قيود عبودية الغير ، وتصريفها إليه دون غيره سبحانه وتعالى.

الآية التي بعدها تتحدّث عن ثلاثة أقسام أخرى من صفات الفعل والذات حيث توضح كلّ واحدة منها قضية الولاية والربوبية في بعد خاص.

يقول تعالى :( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

فكل ما يملكه مالك هو منه سبحانه وتعالى ، وكل ما يرغب به راغب ينبغي أن يطلبه منه ، لأنّ له تعالى خزائن السماوات والأرض وليس «مفاتيحها» وحسب( وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

«مقاليد» جمع «مقليد» وتعني المفتاح ، وهي تستخدم ككناية للسيطرة الكاملة على كلّ شيء ما ، فيقال مثلا : إنّ مفتاح هذا الأمر بيدي ، يعني أنّ برنامجه وطريقه وشرائطه كلّها تحت قدرتي وفي يدي.(٢) .

وفي الصفة الأخرى ، والتي هي في الواقع ثمرة ونتيجة للصفة السابقة تقول الآية :( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ) لأنّ بيده تعالى جميع خزائن السماوات والأرض فإنّ جميع الأرزاق في قبضته ، ويقسمها وفقا لمشيئته التي تصدر بمقتضى حكمته ، ويلاحظ فيها مصلحة العباد.

إنّ من مقتضيات استفادة جميع الكائنات من رزقه تعالى هو العلم بمقدار حاجتها ، ومكانها وسائر شؤون حياتها الأخرى ، لذا تضيف الآية في آخر صفة قوله تعالى :( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .

وهناك ما يشبه هذا الأمر وهو ما جاء في الآية (٦) من سورة «هود» في قوله تعالى:( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ

__________________

(١) المنافقون ، آية ٧.

(٢) بهذا الخصوص لدينا بحث مفصل يمكن مراجعته في نهاية الحديث عن الآية (٦٣) من سورة «الزمر».

٤٧٨

فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) .

وبذلك يتّضح أنّ الآيات الأربع التي بحثناها ذكرت إحدى عشرة صفة من صفات الله الكمالية سواء الذاتية منها أو الفعلية.

فقد وصفته بصفات الولاية المطلقة ، إحياء الموتى ، قدرته على كلّ شيء ، خلقه للسماوات والأرض ، خلقه للأزواج وتكثير النسل ، لا يوجد مثيل له ، سميع ، بصير ، له خزائن السماوات والأرض ، رزاق ، وعليم بكل شيء.

إنّها صفات تكمل الواحدة منها الأخرى من حيث البيان ، وكلّها دليل على ولايته وربوبيته ، وبالنتيجة تعتبر طريقا لإثبات توحيده في العبادة.

* * *

بحوث

١ ـ معرفة صفات الله تعالى

إنّ علمنا وعلوم الكائنات جميعا محدود ، لذا لا نستطيع أن نصل إلى كنه وحقيقة ذات الخالق غير المحدودة ، لأنّ المعرفة بحقيقة شيء ما تعني الإحاطة به ، فكيف يستطيع الكائن المحدود أن يحيط بالذات غير المحدودة؟

وكذلك الحال بالنسبة لصفات الله ، إذ لا يمكن معرفتها بالنسبة لنا ، خصوصا وأنّ صفاته هي عين ذاته.

لذلك فعلمنا بذات الخالق وصفاته هو علم إجرائي ، وأكثر ما يدور حول آثاره جلّ وعلا.

من جانب آخر لا تستطيع ألفاظنا أن تبيّن ذات الله وصفاته المطلقة غير المحدودة ، لأنّ ألفاظنا موضوعة لتلبية حاجاتنا في حياتنا اليومية ، لذلك سوف نصل إلى معاني خاطئة من خلال استخدام ألفاظنا في توصيف صفات الخالق الكمالية ، كالعلم والقدرة والحياة والولاية والمالكية ، وسائر الصفات الأخرى.

٤٧٩

نقول مثلا : إنّ الله هو «الأول» وهو أيضا «الآخر» هو «الظاهر» وهو «الباطن» هو مع كلّ شيء وليس مع شيء ، وبعيد عن كلّ شيء إلّا أنّه ليس غربيا عنه.

قد يبدو في بعض هذه الألفاظ تناقض أو تضاد ، لأنّ معاني الألفاظ نقيسها على الأشياء والموجودات المحدودة ، فيمكن أن يكون هو الأوّل ولا يكون الآخر ، والظاهر ولا يكون باطن ، ولكن التفكير الدقيق في ذات الله وصفاته يوصلنا إلى إمكانية انطباق معاني هذه الألفاظ عليه ، فهو الأوّل في نفس الوقت الذي هو الآخر ، وهو الباطن في نفس الوقت الذي يكون فيه هو الظاهر أيضا.

وعلينا أن نعترف هنا بأنّ المهم في معرفة أوصافه الجمالية والجلالية هو أن ننتبه إلى حقيقة :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) .

يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام إلى هذه الحقيقة بوضوح فيقول : «ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إيّاه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه»(١) .

وفي مكان آخر يقولعليه‌السلام : «كل مسمّى بالوحدة غير قليل»(٢) .

خلاصة القول : يجب ولوج البحث في صفات الخالق على ضوء قوله تعالى :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وعلينا أن ننظر إلى ذاته المقدسة من خلال قوله تعالى:( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) وعبارة «سبحان الله» في العبادات وغيرها تشير إلى هذه الحقيقة.

٢ ـ ملاحظة أدبية

إنّ الكاف في جملة( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) للتشبيه ، وتعني المثل أيضا. لذا فإنّ هذا التكرار أصبح سببا لأن يعتبر الكثير من المفسّرين أنّها زائدة ، وأنّها جاءت

__________________

(١) الخطبة رقم (١٨٦).

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة رقم ٦٥.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607