الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل9%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 607

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 607 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182538 / تحميل: 6251
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ١٥

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

يحيى عن سعيد بن المسيب قال: جاء صبيغ التميمي إلى عمر فسأله عن الذاريات الحديث، وفيه فأمر به عمر فضرب مائة سوط فلما برئ دعاه فضربه مائة أخرى ثمّ حمله على قتب وكتب إلى أبي موسى حرّم على النّاس مجالسته، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له أنّه لا يجد في نفسه شيئا، فكتب إلى عمر فكتب إليه خلّ بينه وبين النّاس. غريب تفرّد به ابن أبي سبرة. قلت: وهو ضعيف والراوي عنه أضعف منه ولكن أخرجه ابن السكن من وجه آخر عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عن عمر بسند صحيح، وفيه فلم يزل صبيغ وضيعا في قومه بعد أن كان سيّدا فيهم. قلت وهذا يدلّ على أنّه كان في زمن عمر رجلا كبيرا. وأخرجه الإسماعيلي في حديث يحيى بن سعيد من هذا الوجه وأخرجه أبو زرعة الدمشقي من وجه آخر من رواية سليمان التميمي عن أبي عثمان ألنهدي به وأخرجه الدار قطني في الأفراد مطولا قال أبو أحمد العسكري أتّهمه عمر برأي الخوارج(1) .

هذا ما ذكره ابن حجر، وقد تناول القصّة كثيرون غيره بين مفصّل ومختصر(2) ، وقد اعتمد عليها الفقهاء والمفسّرون وغيرهم في استنباط أحكام يتوقّعون أن تكون مقبولة عند الله تعالى لأنها تستند إلى شخص حاكم، حجته الوحيدة فيما يقوم به هي أنه حاكم. قال السمعاني في معرض ذكر عبد الرحمن بن ملجم المرادي: ويقال هو أي عبد الرحمن بن ملجم الذي كان أرسل صبيغ بن عسل التّميمي إلى عمر بن الخطاب فسأله عما سأله من معجم القرآن، وقيل إن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه كتب إلى عمرو بن العاص أن قرّب دار عبد الرّحمن بن ملجم من المسجد ليعلّم الناس القرآن والفقه، فوسّع له مكان داره التي في الرّاية في الزيارتين إلى جانب دار ابن عديس البلوي قاتل

____________________

(1) الإصابة، ابن حجر، ج 3 ص 458، رقم 4127، دار الجيل بيروت 1412 هـ.

(2) إكمال الكمال لابن ماكولا، ج 5 ص 221: دار الكتاب الإسلامي القاهرة، و وج 6 ص 206، وهامش سير أعلام النبلاء الذهبي ج 10 ص 29 تحقيق شعيب الأرنؤط ومحمد نعيم العرقسوسي: والإصابة، 2 ج ص 198 ومعجم البلدان، ياقوت الحموي ج 4 ص 124 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج 23 ص 408 والاشتقاق لابن دريد ص 228 والوافي بالوفيات ج 16 ص 283 والدر المنثور للسيوطي، ج 2 ص 152 ومسائل الإمام أحمد ج 1 ص 477.

٢٠١

عثمان(1) .

واستفاد المفسّرون من الواقعة على طريقة من يقدّس الحاكم، فأثنوا على عمر بن الخطّاب مبلغ ما استطاعوا، وتهجّموا على صبيغ جهد ما استطاعوا. قال الزرقاني بعد أن أورد قصة صبيغ: والدّبرة بفتحات ثلاث هي قرحة الدّابّة في أصل الوضع اللّغويّ والمراد هنا أنه صيّر في ظهره من الضّرب جرحا داميا كأنّه قرحة في دابّة [!]، ورضي الله عن عمر فإنّ هذا الأثر يدلّ على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة بتتبعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها ويسأل الناس عنها(2) . وقال في مناهل العرفان أيضا: ثم إن كلامهم بهذه الصورة (الكلام في متشابه الصفات) فيه تلبيس على العامّة وفتنة لهم فكيف يواجهونهم به ويحملونهم عليه وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة الأمّة الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو بابن صبيغ وجعل مالكا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن الاستواء(3) . وقال السيوطي في الإتقان: وأخرج الدارمي عن عمر بن الخطّاب قال إنه سيأتيكم ناس يجادلونكم بمشتبهات القرآن فخذوهم بالسّنن فإنّ اصحاب السّنن أعلم بكتاب الله. فهذه الأحاديث والآثار تدل على أن المتشابه مما لا يعلمه إلا الله وأن الخوض فيه مذموم(4) .

وقال الآلوسيّ بعد أن أورد قصة صبيغ مع عمر: ويدلّ هذا أنّ الرّجل لم يكن سليم القلب، وأنّ سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلاّ لم يصنع به عمررضي‌الله‌عنه ما صنع(5) .

وأقول: بناء على قول الآلوسيّ يحق للمسلمين أن يحمدوا الله تعالى على أن أشرك معه عمر بن الخطّاب في علم النيّات والاطّلاع على القلوب! فقد اطلع عمر على قلب صبيغ وعلم أن نيّته لم تكن سليمة.

____________________

(1) الأنساب، السمعاني، ج 1 ص 451.

(2) مناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني، ج 2 ص 207.

(3) مناهل العرفان ج 2 ص 210.

(4) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج 2 ص 9.

(5) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 27 ص 2.

٢٠٢

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى( أَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) : وهذه الآية تعمّ كلّ طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى:( فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) إن لم يكونوا الحروريّة وأنواع الخوارج فلا أدرى من هم. قلت: قد مرّ هذا التّفسير عن أبي أمامة مرفوعا وحسبك. السّادسة قوله تعالى( فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) قال شيخنا أبو العبّاس رحمة الله عليه: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتّبعوه ويجمعوه طلبا للتّشكيك في القرآن وإضلال العوامّ كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع تعالى الله عن ذلك، أو يتّبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال. فهذه أربعة أقسام.. (إلى أن قال).. أن صبيغ بن عسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء فبلغ ذلك عمررضي‌الله‌عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعدّ له عراجين من عراجين النّخل، فلمّا حضر قال له عمر: من أنت قال أنا عبد الله صبيغ فقال عمررضي‌الله‌عنه : وأنا عبد الله عمر. ثمّ قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ثمّ تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه فقال حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي قد اختلفت الروايات في أدبه وسيأتي ذكرها في الذّاريات ثمّ إن الله تعالى ألهمه التّوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته(1) .

هذا مع أنهم قد رووا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأل عن تفسير الآية فيفسرها، ومن السائلين عمر بن الخطّاب نفسه! قال السيوطي: وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاريّ في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن

____________________

(1) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج 4 ص 13.

٢٠٣

المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والآجري في (الشريعة) وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه واللالكائي والبيهقي في (الأسماء والصفات) عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطّاب سئل عن هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ) .. الآية، فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنّة حتّى يموت على عمل من أعمال أهل الجنّة فيدخله الله الجنة، وإذا خلق العبد للنّار استعمله بعمل أهل النّار حتّى يموت على عمل من أعمال أهل النّار فيدخله الله النار(1) .

إذا، سئل عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمحضر عمر ولم يعنف السائل ولا جلده بجريد النخل!

قال السيوطي: وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في الإيمان عن عمر بن الخطّاب قال: الجبت السّاحر والطّاغوت الشّيطان(2) .

وهذه بعض أخبار عمر وهو يجيب السائلين عن آيات القرآن بغير ما أجاب به صبيغ بن عسل التميمي:

نقل السيوطي عن الطبري عن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال سألت عمر بن الخطّاب عن قوله( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ ) قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سألتني فقال: خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ثم أجلسه

____________________

(1) الدر المنثور، ج 3 ص 601.

(2) الدر المنثور ج 2 ص 564.

٢٠٤

فمسح ظهره بيده اليمنى فأخرج ذرا فقال: ذرء ذرأتهم للجنة. ثم مسح ظهره بيده الأخرى - وكلتا يديه يمين - فقال ذرء ذرأتهم للنار يعملون فيما شئت من عمل ثم أختم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار(1) . وهذا يعني أن عمر نفسه سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ولم يضربه بجريد النخل؟!).

وفي تفسير الطبري: قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث عن ابن شهاب أنّ أنس بن مالك حدّثه أنّه سمع عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه يقول: قال الله( وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ) كلّ هذا قد علمناه فما الأب؟ ثم ضرب بيده ثم قال: لعمرك إن هذا لهو التكلف. اتبعوا ما يتبين لكم في هذا الكتاب قال عمر: وما يتبين فعليكم به وما لا فدعوه. وقال آخرون: الأبّ الثّمار الرطبة(2) ..

قال الشّوكانيّ: وقد أخرج مالك في الموطّأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاريّ في تاريخه وأبو داود والتّرمذي وحسه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وأبو الشّيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في (الأسماء والصفات) والضياء في (المختارة): أنّ عمر بن الخطّاب سئل عن هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ ) الآية فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار(3) .

____________________

(1) الدر المنثور، ج 3 ص 600.

(2) تفسير الطبري ج 12 ص 451.

(3) فتح القدير، الشوكانيّ، ج 2 ص 383.

٢٠٥

قال الشّوكانيّ في تفسير قوله تعالى( وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ) : قرأ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه :( الّذِينَ اتّبَعُوهُم ) محذوف الواو وصفا للأنصار على قراءته برفع الأنصار فراجعه في ذلك زيد بن ثابت فسأل أبي بن كعب فصدق زيدا فرجع عمر عن القراءة المذكورة(1) .

أقول:

أليس هو القائل كما في تفسير القرطبي: من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت(2) ؟!

قال الشّوكانيّ: وأخرج وكيع وأبو سعيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يقرأ - صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالّين(3) .

قال السيوطي في الدّرّ المنثور(4) : وأخرج ابن جرير وأبو الشّيخ عن محمّد بن كعب القرظيّ قال مرّ عمر (برجل يقرأ: السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال أبيّ بن كعب. قال: لا تفارقني حتّى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال نعم. قال وسمعتها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال نعم. قال: لقد كنت أرى أنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا!! فقال أبيّ: تصديق ذلك في أوّل سورة الجمعة( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) ، وفي سورة الحشر( وَالّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) ، وفي الأنفال( وَالّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنكُمْ ) . وأخرج أبو الشّيخ عن أبي أسامة ومحمّد بن إبراهيم التيميّ قالا: مرّ عمر بن الخطّاب برجل وهو يقرأ والسابقون الأوّلون... وأورد رواية الحاكم!

____________________

(1) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 2 ص 577.

(2) تفسير القرطبي، ج 18 ص 20.

(3) فتح القدير، الشوكانيّ، ج 1 ص 38.

(4) الدر المنثور السيوطي، ج 3 ص 269.

٢٠٦

آيات منسوخة التلاوة!!

قالوا: لم يبين هنا هل جعل لهن سبيلا أو لا ولكنه بين في مواضع أخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما وقوله في الثّيب الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم، لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة(1) .

أقول:

ومنسوخ التّلاوة من أعجب ما يلاقيه الباحثون؛ وههنا كلام آخر في هذا المعنى، أوردوه تصحيحا منهم لما يذهب إليه عمر من نسخ التلاوة. قال القرطبي في تفسيره: فقد كان الكلام مباحا في الصلاة وقد روي في هذه القصة أنه كان مما يقرأ أفرأيتم اللاّت والعزى ومناة الثالثة الأخرى والغرانقة العلا وإنّ شفاعتهن لترتجى. روي معناه عن مجاهد. وقال الحسن أراد بالغرانيق العلا الملائكة، وبهذا فسر الكلبي الغرانقة أنّها الملائكة، وذلك أنّ الكفّار كانوا يعتقدون أن الأوثان والملائكة بنات الله كما حكى الله تعالى عنهم وردّ عليهم في هذه السورة بقوله( أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى ) فأنكر الله كل هذا من قولهم ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوله المشركون على أن المراد بهذا الذكر آلهتهم ولبس عليهم الشيطان بذلك نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته ورفع تلاوة تلك اللفظتين اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس كما نسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته(2) .

قال الشّوكانيّ: وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: قرأ عمر بن الخطّاب هذه الآية( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ثم قال لي:

____________________

(1) أضواء البيان، ج 1 ص 229.

(2) تفسير القرطبي، ج 12، ص 85.

٢٠٧

ادع لي رجلا من بني مدلج قال عمر: ما الحرج فيكم؟ قال: الضيق(1) .

وقال: أخرج مالك والشافعي والبخاريّ ومسلم وابن حبّان والبيهقيّ في سننه عن عمر بن الخطّاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستمتعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكدت أساوره في الصلاة! فتصبّرت حتّى سلّم فلبّبته بردائه(2) فقلت: من أقرأك هذه السّورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: كذبت فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرسله، أقرئنا هشام. فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذلك أنزلت، ثم قال: أقرئنا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه(3) .

وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال: سئل عمر بن الخطّاب عن (نسبا وصهرا) فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النّسب وأما الصّهر: فالأختان والصّحابة(4) .

وعن ابن عبّاس أنّ عمر بن الخطّاب قام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد أيّها الناس إنّ الله بعث محمّدا بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان في ما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. ورجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده فأخشى أن يطول بالنّاس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله(5) .

____________________

(1) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 3 ص 673.

(2) قال ابن منظور في لسان العرب (ج 1 ص 734) يقال لببت الرجل ولببته إذا جعلت في عنقه ثوبا أو غيره وجررته به والتلبيب مجمع ما في موضع اللبب من ثياب الرجل وفي الحديث أنه أمر بإخراج المنافقين من المسجد فقام أبو أيوب إلى رافع بن وديعة فلببه بردائه ثم نتره نترا شديداً.

(3) فتح القدير الشّوكانيّ، ج 4 ص 86.

(4) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 4 ص 118.

(5) صحيح البخاريّ ج 6 ص 2504، وصحيح مسلم ج 3 ص 1317 وصحيح ابن حبان ج 2 ص 154 وج 10 ص 273 وسنن النسائي الكبرى ج 4 ص 273 وج 4 ص 274 وسنن ابن ماجه ج 2 ص 853 وسنن البيهقي الكبرى ج 8 ص 210

٢٠٨

وعن مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: قال عمر إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرّجم أن يقول قائل لا أجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله ورجمنا والذي نفسي بيده لو لا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنا قد قرأناها(1) .

عن حذيفة قال: قال لي عمر بن الخطّاب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين أو ثلاث وسبعين قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة [!] وإن كان فيها لآية الرجم(2) .

وأخرج البخاريّ في تاريخه عن حذيفة قال: قرأت سورة الأحزاب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها(3) . وأخرج أبو بعيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان المصاحف لم يقرّر منها إلا على ما هو الآن(4) .

قال الرازي: أما قوله تعالى( فَجاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ) فقوله على استحياء في موضع الحال أي مستحيية قال عمر بن الخطّاب قد استترت بكم قميصها(5) .

قال الشّوكانيّ: وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي في دلائله عن بجالة قال: مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم فقال يا غلام حكّها فقال: هذا مصحف أبي؛ فذهب إليه فسأله فقال: إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق(6) .

____________________

وج 8 ص 212 وتلخيص الحبير ج 4 ص 51 وسنن الدارمي ج 2 ص 234 وسنن أبي داود ج 4 ص 144 ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 40.

(1) اختلاف الحديث، ج 1 ص 533.

(2) فتح القدير ج 4 ص 259 وكنز العمال ج 2 ص 203.

(3) التاريخ الكبير ج 4 ص 241.

(4) فتح القدير ج 4 ص 259.

(5) التفسير الكبير، الرازي، ج 24 ص 206.

(6) فتح القدير، الشّوكانيّ، ج 4 ص 372.

٢٠٩

أقول: ومع ذلك فإنّ قوله وهو أب لهم لا توجد في مصحف القرآن الكريم الذي بين أيدي النّاس اليوم!

قال البغويّ: روى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمررضي‌الله‌عنه فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنّه لم يكمل شيء قطّ إلاّ نقص قال: صدقت(1) .

أقول:

عجبا لهؤلاء المفسّرين أعماهم اسم عمر بن الخطّاب حتى غدوا يمجّدون الضّلال، وإلاّ فكيف يمكن أن ينقص شيء أكمله الله تعالى؟ وما هي هذه القوّة التي تتجاوز قوّة الله تعالى وقدرته وتنقص ما أكمله؟ وكيف يحتجّ الله تعالى على الخلائق يوم القيامة بدين ناقص؟!

قال الآلوسيّ: وأخرج مالك في الموطّأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاريّ في التاريخ وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه سئل عن هذه الآية( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ.. ) الخ فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّيّة فقال: خلقت هؤلاء للجنّة وبعمل أهل الجنّة يعملون ثمّ مسح ظهره فاستخرج منه ذريّة فقال: خلقت هؤلاء للنّار وبعمل أهل النّار يعملون فقال الرّجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إذا خلق العبد للجنّة استعمله بعمل أهل الجنّة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنّة فيدخله الله الجنّة؛ وإذا خلق العبد للنّاراستعمله بعمل أهل النّار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النّار، فيدخله الله تعالى النّار(2) ..

أقول:

هذا هو الأدب النبوي الشريف في إجابة السائلين، وكان على عمر أن يجيب صبيغا

____________________

(1) تفسير البغوي، ج 1 ص 10.

(2) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 9 ص 103.

٢١٠

كما أجاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا السائل؛ بل كما أجاب عمر في هذه المرّة.

قال الآلوسيّ: ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه قال لما نزلت( فَمِنْهُمْ شَقِيّ وَسَعِيدٌ ) قلت: يا رسول الله فعلام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كلّ ميسّر لما خلق له(1) .

قال الرازي: المسألة الثالثة روي أن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه كان يقرأ( وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ) فكان يعطف قوله الأنصار على قوله رحيم والسّابقون وكان يحذف الواو من قوله( وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ) ويجعله وصفا للأنصار. وروي أن عمر كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه، قال أبي: والله لقد أقرأنيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا الوجه وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة، فقال عمررضي‌الله‌عنه : صدقت؛ شهدتم وغبنا وفرغتم وشغلنا ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا. وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب والتفاوت أن على قراءة عمر يكون التعظيم الحاصل من قوله والسّابقون الأولون مختصا بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين والله أعلم وروي أن أبيّا احتجّ على صحّة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله( وَالّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا ) بعد تقدّم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى وبأواسط سورة الحشر وهو قوله( وَالّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ ) وبأوّل سورة الجمعة وهو قوله( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) (2) .

وقال الغرناطيّ في التّسهيل: وقرأ عمر بن الخطّاب فامضوا إلى ذكر الله، وهذا تفسير للسعي فهو بخلاف السعي في قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نودي للصلاة فلا تأتونها وأنتم

____________________

(1) روح المعاني، الآلوسيّ، ج 12 ص 147.

(2) التفسير الكبير، الرازي، ج 16 ص 136.

٢١١

تسعون(1) . وقال: سأل عمر بن الخطّاب جماعة من الصّحابةرضي‌الله‌عنه عن معنى هذه السّورة فقالوا إن الله أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتسبيح والاستغفار عند النّصر والفتح وذلك على ظاهر لفظها، فقال لابن عبّاس بمحضرهم: يا عبد الله ما تقول أنت؟ قال: هو أجل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى النصر والفتح. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما علمت(2) .

أقول: هذا حجّة على عمر بخصوص ما جرى بينه وبين صبيغ، فإنّه لا يمكن أن يجوز لعمر ما لا يجوز لصبيغ وهما تابعان لدين واحد؛ فكما جاز لعمر أن يسأل عن معنى الآية يجوز لغير عمر ذلك أيضا، والمسلمون سواسية كأسنان المشط. وفي هذا وأمثاله لا تنفع عمر بن الخطاب تأويلات المتأوّلين وتعديلات المعدّلين.

وينفرد عمر بن الخطاب في قراءة الفاتحة أيضا، علما أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرؤها مرات كل يوم، فمهما اختلف المسلمون لا يعقل أن يختلفوا في شيء يسمعونه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ست مرّات كل يوم(3) . أخرج وكيع وأبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي داود وابن الأنباري كلاهما في المصاحف من طرق عمر بن الخطّاب أنّه كان يقرأ: (صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين)(4) .

قال السّيوطيّ: وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر بن الخطّاب قال إن الله بعث محمّدا بالحقّ وأنزل معه الكتاب فكان في ما أنزل عليه آية الرّجم فرجم ورجمنا بعده؛ ثمّ قال: قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأخرج الطيالسي وأبو عبيد والطبراني عن عمر بن الخطّاب قال كنا نقرأ في ما نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ثم قال لزيد بن ثابت أكذلك يا زيد؟ قال نعم.

____________________

(1) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 4 ص 119.

(2) التسهيل لعلوم التنزيل، ج 4 ص 221.

(3) ست مرات هي مواضع الجهر بالفاتحة يوميا، صلاة الصبح وصلاة المغرب وصلاة العشاء.

(4) قاله السيوطي في الدر المنثور، ج 1 ص 40..

٢١٢

وأخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق عدي بن عدي بن عمير بن قزوة عن أبيه عن جده عمير بن قزوة أن عمر بن الخطّاب قال لأبي: أوليس كنا نقرأ في ما نقرأ من كتاب الله غن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم؟ فقال: بلى؛ ثم قال: أوليس كنا نقرأ الولد للفراش وللعاهر الحجر في ما فقدنا من كتاب الله؟ فقال أبي: بلى! وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرّحمن بن عوف: ألم تجد في ما أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة؟ فإنّا لا نجدها! قال: أسقطت من القرآن. وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عمر قال: لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير! ولكن ليقل قد أخذت ما ظهر منه(1) .

أقول:

اختلط على عمر ما كان يقرأه من التّوراة وما كان يسمعه من التّنزيل فانفرد بآيات لا هي قرآن محض ولا هي توراة صرفة، ولو صحّ شيء مما يقوله لما غاب ذلك عن باب مدينة العلم.

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطّاب أنه خطب فقال: إنّ من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنّه قد مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبيّنه لنا! فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم(2) .

أقول: قال الله تعالى( أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) وقال عمر بن الخطّاب: مات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبيّنه لنا.

قال الآلوسي: قال عمر بن الخطّاب: قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلمّا كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله في آثارهم مصلتا بالسّيف وهو يقول: سيهزم الجمع ويولّون الدّبر، فكانت ليوم بدر(3) .

____________________

(1) الدر المنثور، السيوطي، ج 1 ص 258.

(2) الدر المنثور، السيوطي، ج 2 ص 104.

(3) روح المعاني، الآلوسي، ج 27 ص 73.

٢١٣

أقول:

إن صحّ كلام عمر فهو يعني أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن في العريش!

قالوا: واختلف في معنى الطاغوت فقال عمر بن الخطّاب وغيره: هو الشيطان وقيل هو الساحر وقيل الكاهن وقيل الأصنام(1) .

أقول: يحتاج قول عمر إلى مزيد من الدقّة في البيان، فغن الله تعالى يقول:( شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) .

وكان (أي عمر) لا يفهم معنى قوله تعالى( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى‏ تَخَوّفٍ ) فوقف به فتى فقال: إنّ أبي يتخوّفني حقّي؛ فقال عمر: الله أكبر(2) .

لماذا ينتظر عمر حتى يأتي هذا الفتى ويفهمه معنى التّخوف؟ لماذا لم يسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ لعلّه كان مشغولا عن ذلك بالصّفق في الأسواق كما شهد به هو على نفسه. وقد ذكر الثعالبي القصّة مرّة أخرى في موطن آخر من تفسيره فقال: روي أنّ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك فيروى أنه جاءه فتى من العرب فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أبي يتخوفنى مالي فقال عمر الله اكبر.

وأنت ترى أنّه يريد أن يكتب إلى الأمصار في معنى التخوف ويحاسب صبيغا على سؤاله الصّحابة عن قوله تعالى والذّاريات ذروا.

قال الداودي: بينما عمر بن الخطّاب بطريق مكّة ليلا إذا ركب مقبلين من جهة فقال لبعض من معه: سلهم من أين اقبلوا؛ فقال له أحدهم: من الفجّ العميق يريد البلد العتيق. فأخبر عمر بذلك فقال: أوقعوا في هذا قل لهم: فما أعظم آية في كتاب الله وأحكم آية في كتاب الله وأعدل آية في كتاب الله وأرجى آية في كتاب الله وأخوف آية في كتاب الله؟ فقال له قائلهم: أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي، وأحكم آية في كتاب الله (إن

____________________

(1) تفسير الثعالبي، ج 1 ص 203.

(2) تفسير الثعالبي، ج 1 ص 16.

٢١٤

الله يأمر بالعدل والإحسان، وأعدل آية في كتاب الله (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) وأرجى آية في كتاب الله( إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ) وأخوف آية في كتاب الله (من يعمل سواء يجز به) فأخبر عمر بذلك فقال لهم عمر: أفيكم ابن أمّ عبد؟ فقالوا: نعم، وهو الذي كلّمك. قال عمر كنيف(1) ملئ علما آثرنا به أهل القادسية على أنفسنا(2) !

يقول عمر بن الخطاب عن عبد الله بن مسعود كنيف والكنيف في لغة العربية معلوم(3) !!.

قال الثعالبي: قرأ عمر بن الخطّاب وغيره قل هو الله الواحد الصمد(4) .

وقال ابن كثير: وروى أنس عن عمر بن الخطّاب أنه قرأ على المنبر (وفاكهة وأبا) فقال: هذا الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثمّ رجع إلى نفسه فقال: إنّ هذا لهو التّكلّف يا عمر(5) .

هكذا تساءل صبيغ بن عسل فقال: ما هي الذاريات؟ تماما كما تساءل عمر بن الخطّاب فقال ما هو الأب؟ وما على عمر من بأس أن يتساءل ثم يتراجع عن تساؤله ويصفه بالتكلّف، أمّا صبيغ فيكلّفه تساؤله مائتا سوط بجريد النخل على القدر المتيقن وفق ما ذكرته الرّوايات.

قال البخاري: قال عمر بن الخطّاب يوما لأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في من ترون هذه

____________________

(1) لفظ الكنيف في لغة العرب يدل على مكان مستقذر، ولا يحقّ لمن يدافع عن عدالة جميع الصّحابة أن يسكت ههنا لمجرّد أن القائل هو عمر.

(2) تفسير الثعالبي، ج 4 ص 434.

(3) في المغرب في ترتيب المعرب ج 2 ص 235، الكنيف المستراح، وفي المعجم الوسيط ج 1 ص 381 المستراح: الكنيف أو بيت الخلاء. وفي تاج العروس ج 24 ص 336: ومنه سمّي المرحاض كنيفا وهو الذي تقضى فيه حاجة الإنسان كأنّه كنف في أستر النواحي. وفي المطلع على أبواب المقنع ج 1 ص 11: الخلاء ممدودا المكان الذي تقضي فيه الحاجة عن الجوهري وسمي بذلك لأنه يتخلى فيه أي ينفرد وقال أبو عبيد يقال لموضع الغائط الخلاء والمذهب والمرفق والمرحاض ويقال له أيضا الكنيف للاستشار فيه وكل ما ستر من بناء وغيره فهو كنيف وفي المصباح المنير ج 2 ص 542) والكنف الساتر ويسمى الترس كنيفا لأنه يستر قاضي الحاجة والجمع كنف.

(4) تفسير الثعالبي، ج 4 ص 450.

(5) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 5.

٢١٥

الآية نزلت( أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) ؟ قالوا: الله أعلم فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم! فقال ابن عبّاس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. فقال ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : ضربت مثلا بعمل قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عبّاس: لرجل غني يعمل(1) ..

وعن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطّاب (فقال: إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم(2) ..

أقول: نعم الآمر الناهي من كان كذلك!

ويكفي ألاّ يعجب السؤال عمر كيما يضرب السائل بالدرة. فعن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة فسأله آخر عن هذه الآية:( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً ) ثم قال: مثل هذا فاسألوا ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنّها في تزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز(3) .

وعن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطّاب سئل عن هذه الآية:( وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى‏ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبّكُمْ قَالُوا بَلَى‏ ) الآية فقال عمر بن الخطّاب: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية(4) ..

لماذا لم يضرب عمر الرّجل السائل كما ضرب صبيغا؟ أليسا على دين واحد لهما

____________________

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 1650 والمستدرك على الصحيحين ج 3 ص 625 وإعلام الموقعين ج 1 ص 185 و تفسير ابن كثير ج 1 ص 320 وتفسير البغوي ج 1 ص 253 وتفسير السمعاني ج 1 ص 271 وتفسير الطبري ج 3 ص 76 وتفسير القرطبي ج 3 ص 318 وروح المعاني ج 3 ص 38 ومعاني القرآن ج 1 ص 294 والإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 346.

(2) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 191.

(3) مختصر ابن كثير، ج 1 ص 322.

(4) سنن أبي داود ج 4 ص 226 وصحيح ابن حبان ج 14 ص 37 وسنن الترمذي ج 5 ص 266 وسنن النسائي الكبرى ج 6 ص 347 والأحاديث المختارة ج 1 ص 407 والتفسير الكبير ج 15 ص 39 والدر المنثور ج 3 ص 601 وموارد الظمآن ج 1 ص 447.

٢١٦

نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات؟!

وقال سفيان الثوري عن عمر بن الخطّاب في قوله:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً ) قال: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال: قال ابن عبّاس لعمر بن الخطّاب: يا أمير المؤمنين هذه الآية:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ بَدّلُوا نِعْمَتَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) قال: هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك. فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر وأما أعمامك فأملى الله لهم(1) .

قال ابن عاشور: وقد سأل عمر بن الخطّاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له ما بلغهم في تفسيرها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

وفي صحيح البخاريّ وغيره أن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ في الصلاة سورة الفرقان في حياة رسول الله، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله، فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلبّبته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله. فقلت: كذبت فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت(3) !

أقول:

كاد عمر يساوره في الصّلاة، وقال له كذبت، وتبيّن فيما بعد أن الرجل كان صادقا ولم يثبت أنّ عمر اعتذر إليه! وتراه يلبّب كلّ من يخالفه حتى لو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتصور أنّ كلّ ما غاب عنه باطل لا أصل له، ويتّهم الصّحابة في القرآن الكريم وكأنّه قيّم عليه، ومع ذلك فهو أحد الذين تنتهي إليهم القراءات العشر.

____________________

(1) مختصر ابن كثير، ج 2 ص 425.

(2) التحرير والتنوير، ابن عاشور، ج 1 ص 14.

(3) صحيح البخاري ج 4 ص 1923 وصحيح البخاري ج 6 ص 2744 وصحيح مسلم ج 1 ص 561 وسنن الترمذي ج 5 ص 193 وسنن النسائي المجتبى ج 2 ص 151 والتمهيد لابن عبد البر ج 8 ص 272.

٢١٧

وفي صحيح البخاري وموطإ مالك وغيرهما عن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطّاب يسير معه فسأله عمر بن الخطّاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال: عمر ثكلت أمّ عمر نزرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر: فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ( إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) (1) .

هذا مبلغ ظن عمر بنفسه، يخشى أن ينزل فيه قرآن، وفيه إفحام لمن يحبّون أن يظهروا عمريّين أكثر من عمر نفسه.

في الصحيح عن ابن عبّاس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطّاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها(2) .

وروى عبدالرزاق عن ابن سيرين قال: كان عمر بن الخطّاب إذا قرأ (يبين الله لكم أن تضلوا) قال من بينت له في الكلاله فلم تبين لي(3) .

قال النحاس: وقرأ عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه القيّام(4) .

وقال الزركشي: وقوى هذا الوجه عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال لما

____________________

(1) صحيح البخاري ج 4 ص 1531 وصحيح البخاري ج 4 ص 1829 وصحيح البخاري ج 4 ص 1915 و موطأ مالك ج 1 ص 203 وصحيح ابن حبان ج 14 ص 320 وسنن الترمذي ج 5 ص 385 ومسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 31 والتمهيد لابن عبد البر ج 3 ص 263 والاستذكار ج 2 ص 495.

(2) التحرير والتنوير، ج 1 ص 4475.

(3) تفسير الصنعاني، ج 1 ص 178.

(4) معاني القرآن، النحاس، ج 1 ص 260.

٢١٨

خرجنا إلى العراق خرج معنا عمر بن الخطّاب يشيعنا فقال إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تشغلوهم بالأحاديث فتصدوهم جرّدوا القرآن. قال فهذا معناه أي لا تخلطوا معه غيره(1) .

أقول:

أين الضّرر في أن يتعلم المسلمون حديث نبيّهم ويسجّلوه قبل أن يقدم العهد ويموت من المحدّثين من يموت وينسى من ينسى. وكيف يكون فقيها من يعرف القرآن الكريم ولا يعرف من الحديث شيئا؟! ولو أنّ الصّحابة رووا وحدّثوا كلّ ما سمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نسدّت الأبواب في وجوه الوضّاعين؛ لكن عمر بن الخطاب له نظرته الخاصة في كل شيء وهو دائما على حقّ.

قال المقري في الناسخ والمنسوخ: وأما ما نسخ خطّه وبقي حكمه فمثل ما روي عن عمر بن الخطّاب (أنّه قال لو لا أن أخشى أن يقول النّاس قد زاد عمر في القرآن ما ليس فيه لكتبت آية الرّجم وأثبتّها في المصحف و والله لقد قرأناها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ترغبوا عن آبائكم فانّ ذلك كفر بكم الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم(2) .

العجيب في هذه القصة هو إجماع الصحابة على ترك آية قرأوها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا بناء على قول عمر لقد قرأناها على عهد رسول الله؛ فإنّ يكونوا تركوها بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى لكلام عمر، وإن يكونوا تركوها بدون أمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينفتح عليهم باب واسع للنقد بخصوص نقل القرآن الكريم.

قال المقري: وأما ما نسخ خطه وبقي حكمه فمثل ما روي عن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه أنه قال لو لا أن أخشى أن يقول الناس قد زاد عمر في القرآن ما ليس فيه لكتبت آية الرجم وأثبتها في المصحف ووالله لقد قرأناها على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ترغبوا

____________________

(1) البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ج 1 ص 480.

(2) الناسخ والمنسوخ، المقري، ج 1 ص 21.

٢١٩

عن آبائكم فان ذلك كفر بكم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم فهذا منسوخ الخط ثابت الحكم(1) .

وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه سمع عبد الله بن عباس يقول: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله قد بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف(2) .

قال السيوطي: وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف ألم تجد فيما أنزل علينا إن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة فإنا لا نجدها قال أسقطت من القرآن(3) . وهذا يعني أن قرآن قريش أسقط منه شيء كثير؟ والخبر نفسه يرويه ابن عساكر بزيادة؛ قال: أخبرناه أعلى من هذا بأربع درجات أبوبكر بن المزرفي (نا) أبو الحسين بن المهتدي (نا) عيسى بن علي (أنا) عبد الله بن محمد نا دواد بن عمرو (نا) نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد في ما أنزل الله جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة؟ قال: بلى. قال: فإنّا لا نجدها. قال: أسقطت في ما أسقط من القرآن. قال: أتخشى أن يرجع الناس كفارا؟ قال: ما شاء الله! قال: لئن رجع الناس كفارا ليكوننّ أمراؤهم بني فلان ووزراؤهم بني فلان!

قالوا (في رواية عن عائشة): ثم جاء أبوبكر يستأذن فقال ما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا عائشة؟ فقلت: أغمي عليه منذ ساعة. فكشف عن وجهه فوضع فمه بين عينيه ووضع

____________________

(1) الناسخ والمنسوخ للمقري ج 1 ص 21.

(2) صحيح مسلم، ج 3 ص 1317.

(3) الدر المنثور، السيوطي، ج 1 ص 258. والإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 68 وكنز العمال ج 2 ص 240.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للتأكيد. وأمثال ذلك كثير في الكلمات الفصحى.

ولكن ثمّة تفسير أجمل ، وهو أن يقال أحيانا : مثلك لا يهرب من ساحة الأحداث. أيّ أنّ الذي يملك الشجاعة والعقل والذكاء مثلك ، لا ينبغي عليه الهرب (والخلاصة أن من يملك مثل صفاتك يجب أن يكون هكذا وهكذا).

وفي الآية التي نبحثها سيكون المعنى هكذا : مثل الخالق الذي ذكرنا أوصافه ـ كالعلم الواسع والقدرة العظيمة اللامتناهية ليس له مثل».

ذهب أرباب اللغة وعلماؤها إلى أنّ هناك بعض المصطلحات لها نفس معنى (مثل) إلّا أنّها ليست مثلها فى ـ المفهوم من زاوية عموميتها وشموليتها ، مثلا :

«ند» على وزن «ضد» وتقال عند ما يكون القصد من التشبيه الإشارة إلى المشابهة في الجوهر والماهية.

«شبه» وتقال عند ما يكون الكلام عن الكيفية فقط.

«مساوي» وتقال عند ما يكون الكلام عن الكمية فقط.

«شكل» وتقال عند ما يكون الكلام في التشبيه عن المقدار والمساحة.

إلّا أنّ «مثل» لها مفهوم أوسع وأكثر عمومية ، بحيث تشمل جميع المفاهيم الآنفة الذكر.

لذا فإنّ الله عند ما يريد أن ينفي عن ذاته أي شبيه أو نظير يقول :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (١) .

٣ ـ بعض الملاحظات حول الرزق الإلهي :

أ: معيار بسط الرزق وتقديره :

يجب أن لا نتصوّر أبدا أن بسط الرزق يعني محبة الله لنا ، أو أن تضييق المعيشة هي دليل غضبه ، لأنّ الله قد يختبر الإنسان بواسطة البسط في رزقه ،

__________________

(١) لاحظ مفردات الراغب مادة «مثل».

٤٨١

وأحيانا يريد أن يمتحن صبره ومقاومته عن طريق التضييق بالمعيشة عليه.

وعن هذا الطريق يصار إلى تربية الإنسان.

إنّ الثروة الكبيرة قد تكون أحيانا سببا لعذاب أهلها وتعبهم وسلب استقرارهم وراحتهم النفسية ، حيث يقول القرآن في الآية (٥٥) من سورة التوبة :( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ ) .

وفي الآيتين (٥٥ ـ ٥٦) من سورة المؤمنين ، نقرأ قوله تعالى :( أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ) .

ب : تحديد الأرزاق لا يتعارض مع بذل الجهود :

إنّ الآيات التي تتحدث عن تحديد مقدار الرزق لا تتنافي مع سعي الإنسان في مجال تحصيله للرزق. وينبغي أن لا يكون الأمر مبعثا للخمول والكسل والهروب من تحمل مسئوليات الجهاد الفردي الاجتماعي ، إذ هناك آيات قرآنية كثيرة تؤّكد أهمية وقيمة السعي الإنساني.

إنّ الهدف هو أن ندرك أنّنا رغم سعينا وعملنا فهناك يد خفية تقوم أحيانا بحجب نتائج هذه الجهود ، وتقوم في بعض الأحيان بعكس ذلك ، حتى لا ينسى الناس في حياتهم الاجتماعية الطويلة أن ثمّة قدرة اخرى هي قدرة مسبب الأسباب وهي التي تدبر شؤون العالم.

وينبغي هنا أن لا نلقي تبعات الكسل والإهمال والتقاعس على مفهوم الرزق الإلهي المحدود لكل إنسان ، لأنّه تعالى صرّح بأن عطاء الرزق يساوي ما يبذله الفرد من جهد وعناء.

٤٨٢

ج : عدم اقتصار الرزق على المفهوم المادي :

للرزق معنى واسع بحيث يشمل الرزق المعنوي ، بل إنّ الرزق الأصلي هو الرزق المعنوي ، وفي الأدعية نلتقي مع أمثلة كثيرة تؤكّد ذلك ، فنقول حول الحج مثلا :

«اللهم ارزقني حج بيتك الحرام».

وفي أدعية طلب الطاعة تقول :

«اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية».

وفي أدعية أيام شهر رمضان نقول :

«اللهم ارزقني فيه طاعة الخاشعين»

(دعاء اليوم الخامس عشر).

وهكذا بالنسبة للهبات المعنوية الأخرى.

د : القرآن والأسباب التي تؤدي إلى زيادة الرزق :

لقد ذكر القرآن الكريم بعض الأمور التي تعتبر بحدّ ذاتها درسا لتربية الإنسان وبنائه ، ففي الآية(٧) من سورة «إبراهيم» نقرأ قوله تعالى :( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .

وفي الآية(١٥) من سورة «الملك» قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) .

وفي سورة الأعراف ، آية(٩٦) قوله تعالى :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

ه : التضييق في الرزق والقضية التربوية :

أحيانا يكون ضيق الرزق لمنع الناس عن الطغيان ، كما نقرأ في قوله تعالى :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) (١) .

__________________

(١) الشورى ، الآية ٢٧.

٤٨٣

ز : الرّزاق هو الله

يؤكّد القرآن الكريم أنّ الذي يعطي الرزق للناس هو الله ، وعليهم أن لا يطلبوا من غيره ، وعليهم بعد الإيمان والتوكل أن يعتمدوا على وسعهم وطاقاتهم ، كما ورد في الآية (٣) من سورة «فاطر» في قوله تعالى :( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

والآية(١٧) من «العنكبوت» في قوله تعالى :( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ ) .

وهكذا تقطع التربية القرآنية روح الحاجة لدى الإنسان إلى عباد مثله ، وتجعله مرتبطا بخالقه وبارئه ورازقه ، فتنمي فيه روح الإباء ، والعبودية والانقطاع إلى الله.

ولدينا بحيث مفصل بخصوص الأرزاق والسعي للحياة ، وأسباب الرزق ومصادره في نهاية تفسير الآية(٧١) من سورة «النحل» وكذلك في نهاية تفسير الآية(٦) من سورة «هود» ، فليراجع هناك.

* * *

٤٨٤

الآيتان

( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) )

التّفسير

الإسلام عصارة شرائع جميع الأنبياء :

بما أن العديد من بحوث هذه السورة تتعلق بالمشركين ، وأن الآيات السابقة كانت تتحدث عن نفس هذا الموضوع أيضا ، لذا فإنّ الآيات التي نبحثها تبيّن هذه الحقيقة ، وهي أن دعوة الإسلام إلى التوحيد ليست دعوة جديدة ، إنّها دعوة جميع الأنبياء أولي العزم ، وليس أصل التوحيد فحسب ، بل إن جميع دعوات الأنبياء في

٤٨٥

القضايا الأساسية وفي مختلف الأديان السماوية كانت واحدة.

تقول الآية :( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) والذي هو أوّل نبيّ من أولي العزم.

وأيضا :( وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ) .

وبهذا الشكل فما كان موجودا في شرائع جميع الأنبياء موجود في شريعتك أيضا و «ما يمتلكه الصالحون جميعا تملكه لوحدك».

إنّ عبارة (من الدين) تبيّن أن التنسيق بين جميع الشرائع السماوية لم يكن بخصوص التوحيد أو أصول العقائد فحسب ، بل في كلّ مجموعة الدين الإلهي ، فمن حيث الأساس والجذور كانت واحدة ، بالرغم من أن تكامل المجتمع الإنساني يقتضي أن تكون التشريعات والقوانين الفرعية متناسقة مع تكامل الناس ، وتسير نحو التكامل حتى تصل إلى الحد النهائي وتختتم الأديان.

لهذا السبب هناك أدلة كثيرة في آيات قرآنية اخرى تبيّن أن الأصول العامة للعقائد والقوانين والتعليمات واحدة في جميع الأديان.

فمثلا نقرأ في القرآن الكريم بخصوص شرح حال العديد من الأنبياء ، أنّ أوّل دعوة لهم كانت :( يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ) (١) .

وفي مكان آخر نقرأ :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) .

وأيضا فقد ورد الإنذار بالبعث في دعوة العديد من الأنبياء (الأنعام ١٣٠ ، الأعراف ٥٩ ، الشعراء ١٣٥ ، طه ١٥ ، مريم ٣١).

أمّا موسى وعيسى وشعيبعليه‌السلام فيتحدثون عن الصلاة (طه ١٤ ، مريم ٣١ ، هود ٨٧).

وإبراهيم يدعو إلى الحج (الحج ٢٧).

وكان الصوم مشرّعا عند جميع الأقوام السابقين (البقرة ١٨٣).

__________________

(١) الأعراف (٥٩ ، ٦٥ ، ٧٣ ، ٨٥) هود (٥٠ ، ٦١ ، ٨٤) حيث جاءت بالترتيب بخصوص نوح ، هود وصالحعليهم‌السلام .

٤٨٦

لذا ، وكتعليمات عامّة لجميع الأنبياء العظام تقول الآية في الجملة الأخرى :( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) .

فهي توصي بأمرين مهمّين :

الأوّل : إقامة دين الخالق في كلّ الأرض (وليس العمل فحسب ، بل إقامته وإحياؤه ونشره).

الثّاني : الاحتراز عن البلاء العظيم ، يعني الفرقة والنفاق في الدين.

وبعد ذلك تقول :( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) .

فلقد تطبع هؤلاء على الشرك وعبادة الأصنام بسبب الجهل والتعصب لسنين طويلة ، وعشعش ذلك في أعماقهم بحيث أصبحت الدعوة إلى التوحيد تخيفهم وتوحشهم ، إضافة لذلك فإن مصالح زعماء المشركين اللامشروعة محفوظة في الشرك ، في حين أن التوحيد هو أساس ثورة المستضعفين ، ويقف حائلا دون أهواء الطغاة ومظالمهم.

وكما أن انتخاب الأنبياء بيد الخالق ، كذلك فإنّ هداية الناس بيده أيضا :( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) .

* * *

ملاحظات

وهناك ملاحظات في هذه الآية يجب الانتباه إليها :

١ ـ (شرع) من كلمة (شرع) وهي في الأصل تعني الطريق الواضح ، حيث يقال (الشريعة) للطريق المؤدي إلى النهر ، ثمّ استخدمت هذه الكلمة بخصوص الأديان الإلهية والشرائع السماوية ، لأن طريق السعادة الواضح يتمثل فيها ، وهي طريق الوصول إلى الإيمان والتقوى والصلح والعدالة.

وبما أنّ الماء هو أساس النظافة والطهارة والحياة ، لذا فإنّ لهذا المصطلح

٤٨٧

تناسب واضح مع الدين الإلهي الذي يؤدّي نفس هذه الأعمال من الناحية المعنوية مع روح الإنسان والمجتمع البشري(١) .

٢ ـ لقد أشارت هذه الاية إلى خمسة من الأنبياء الإلهيين فقط (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّدعليهم‌السلام ) لأنّ هؤلاء الخمسة هم الأنبياء أولو العزم ، أيّ أصحاب الدين والشرائع ، وفي الحقيقة فإنّ الآية تشير إلى انحصار الشريعة بهؤلاء الخمسة من الأنبياء.

٣ ـ في البداية ذكرت الآية نوحا ، لأنّ أوّل شريعة (أو الدين الذي يحتوي على كلّ القوانين العبادية والاجتماعية) نزلت عن طريقه ، وكانت هناك تعليمات وبرامج محدودة للأنبياء الذين سبقوه(٢) .

ولهذا السبب لم يشر القرآن ولا الرّوايات الإسلامية إلى الكتب السماوية قبل نوحعليه‌السلام .

٤ ـ من الضروري أن نشير إلى أنّه عند ذكر هؤلاء الخمسة ، ثمّ ذكر نوحعليه‌السلام في البداية ثمّ نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد ذلك إبراهيمعليه‌السلام وموسىعليه‌السلام وعيسىعليه‌السلام ، وهذا الترتيب بسبب أن نوحا كان هو البادئ والفاتح ، ونبيّ الإسلام ذكر بعد ذلك بسبب عظمته ، وذكر الآخرون حسب الترتيب الزمني لظهورهم.

٥ ـ من الضروري أيضا أن نشير إلى هذه الملاحظة ، وهي أن القرآن يستخدم عبارة :( أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) بخصوص نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه استخدم عبارة «وصيّنا» بالنسبة الى الآخرين ، قد يكون هذا الاختلاف في التعبير بسبب أهمية الإسلام بالنسبة لسائر الأديان السماوية الأخرى.

٦ ـ وردت عبارة (من يشاء) بالنسبة الى كيفية انتخاب الأنبياء في نهاية الآية ، والتي قد تكون إشارة مجملة للمؤلهات الذاتية للرسل الإلهيين.

__________________

(١) لقد جاء هذا المعنى بشكل مجمل في لسان العرب والمفردات للراغب وبقية كتب اللغة.

(٢) هناك شرح أوردناه بهذا الخصوص في نهاية الآية ٢١٣ من سورة البقرة.

٤٨٨

أمّا بخصوص الأمم فقد تم استخدام عبارة (من ينيب) «والتي تعني الرجوع إلى الخالق والتوبة عن الذنب» حتى يتّضح معيار الهداية الإلهية وشرائطها للجميع ، ويعثروا على طريق الوصول إلى بحر رحمته.

جاء في الحديث القدسي «من تقرب منّي شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»(١) .

وقد ورد هذا الاحتمال أيضا في تفسير الجملة الأخيرة ، وهو أن (الاجتباء) لا يختص بالأنبياء فحسب ، بل يشمل جميع العباد المخلصين الذين لهم المقام المحمود عند الخالق.

وبما أن أحد أركان دعوة الأنبياء أولى العزم هو عدم التفريق في الدين ، فقد كانوا يدعون لذلك حتما ، لذا فقد يطرح هذا السؤال : ما هو أساس كلّ هذه الاختلافات المذهبية؟

وقد أجابت الآية الأخرى على هذا السؤال وذكرت أساس الاختلافات الدينية بأنّه :( وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) ، فالاختلافات لم تحدث إلّا بسبب حب الدنيا والمنصب والظلم والحسد والعداوة.

نعم ، فعبيد الدنيا الظلمة والحسودون الحاقدون وقفوا حيال أديان الأنبياء جميعا ، ودفعوا كلّ مجموعة باتجاه معين كيما يثبتوا أركان زعامتهم ويؤمّنوا مصالحهم الدنيوية ، ويكشفوا ـ علانية ـ حسدهم وعداوتهم للمؤمنين الحقيقيين دين الأنبياء ، ولكن كلّ هذا حصل بعد إتمام الحجة.

وبهذا الترتيب فإنّ أساس التفرق في الدين لم يكن الجهل ، بل كان الظلم والبغي والانحراف عن الحق ، والأهواء والآراء الشخصية.

«فالعلماء الذين يطلبون الدنيا» و «والحاقدون من الناس والمتعصبون» اتحدوا معا لزرع هذه الاختلافات.

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، المجلد ٢٧ ، ص ١٥٧ (نهاية الآيات التي نبحثها).

٤٨٩

وتعتبر هذه الآية ردّا واضحا على الذين يقولون بأن الدين أوجد الاختلاف بين البشر ، وأدى الى إراقة دماء كثيرة على مدى التاريخ ، فلو دققوا في الأمر لوجدوا أن الدين دائما هو أساس لوحدة والاتحاد في المجتمع (كما حصل للإسلام وقبائل الحجاز وحتى الأقوام في خارج الجزيرة حيث انتهت الاختلافات وأصبحوا أمة واحدة).

إلّا أن السياسات الاستعمارية هي التي أوجدت الفرقة بين الناس ، وحرضت على الاختلافات ، وكانت أساسا لإراقة الدماء ، ففرض سياساتها وأهوائها على الأديان السماوية كان عاملا كبيرا آخر في إيجاد الفرقة ، وهذا بحد ذاته ينبع من (البغي) أيضا.

«البغي» كما يكشف أساسه اللغوي ، يعني (طلب التجاوز والانحراف عن خط الوسط والميل نحو الإفراط أو التفريط) سواء تمّ تطبيق هذا الطلب أم لا ، وتختلف كميته وكيفيته ، ولهذا السبب فغالبا ما يستخدم بمعنى الظلم.

وأحيانا يقال لأي طلب بالرغم من كونه أمرا جيدا ومرغوبا.

لذا فإنّ الراغب في مفرداته يقسم (البغي) إلى نوعين : (ممدوح) و (مذموم) فالأوّل يتجاوز حد العدالة ويصل إلى الإحسان والإيثار ، وتجاوز الواجبات والوصول إلى المستحبات ، والثّاني يتجاوز الحق نحو الباطل.

ثم يضيف القرآن الكريم :( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) حيث يهلك أتباع الباطل وينصر أتباع الحق.

نعم ، فالدنيا هي محل الاختبار والتربية والتكامل ، ولا يحصل هذا بدون حرية العمل ، وهذا هو الأمر التكويني الإلهي الذي كان موجودا منذ بدء خلق الإنسان ولا يقبل التغيير. إن هذه هي طبيعة الحياة الدنيوية ، ولكن ما يمتاز به عالم الآخرة هو أن جميع هذه الاختلافات ستنتهي وسوف تصل الإنسانية إلى الوحدة الكاملة ، ولهذا السبب يتمّ استخدام عبارة (يوم الفصل) للقيامة.

٤٩٠

أمّا آخر جملة فتقوم بتوضيح حال الأشخاص الذين جاؤوا بعد هذه المجموعة ، أي الذين لم يدركوا عصر الرسل ، بل جاؤا في فترة طبع فيها المنافقون والمفرقون المجتمع البشري بطابعهم الشيطاني ، لذا لم يستطيعوا إدراك الحق بشكل جيد ، حيث تقول :( وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) (١) .

وقد ذكروا في حقيقة معنى كلمة (ريب) أن هذه الكلمة تطلق على الشك الذي يتبدل إلى الحقيقة أخيرا بعد أن يزال الستار عنه ، وقد يكون هذا الأمر إشارة إلى ظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأدلة الواضحة ، حيث محى آثار الشك والريب من قلوب طلّاب الحق.

* * *

ملاحظة

نقل تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قول الله تعالى :( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ) قال الأمام ،( وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) كناية عن أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام ثمّ قال :( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) من أمر ولاية علي( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ) كناية عن علي (ع)(٢) .

وبديهي أنّ المقصود ليس تحديد الدين في ولاية علي عليه أفضل الصلاة والسلام ، بل الهدف هو بيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ قضية ولاية أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام تعتبر من أركان الدين أيضا.

* * *

__________________

(١) وفقا لهذا التّفسير الذي يتناسق بشكل كامل مع الجمل السابقة ، فإن ضمير (بعدهم) يعود إلى الأمم الأولى التي أوجدت الفرقة بين المذاهب والأديان ، وليس إلى الأنبياء المذكورين في الآية السابقة (فدقق ذلك).

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الرابع ، ص ٥٦٧.

٤٩١

الآية

( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥) )

التّفسير

فاستقم كما أمرت!

بما أن الآيات السابقة تحدثت عن تفرق الأمم بسبب البغي والظلم والانحراف ، لذا فإنّ الآية التي نبحثها تأمر النّبي بمحاولة حل الاختلافات وإعادة الحياة إلى دين الأنبياء ، وأن يبذل منتهى الاستقامة في هذا الطريق ، فتقول :( فَلِذلِكَ فَادْعُ ) (١) أي ادعوهم إلى الدين الإلهي الواحد وامنع الاختلافات.

ثم تأمره بالاستقامة في هذا الطريق ، فتقول :( وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) .

ولعل جملة «كما أمرت» إشارة إلى المرحلة العالية من الاستقامة ، أو إلى أن

__________________

(١) بعض المفسّرين اعتبر «اللام» في «لذلك» بمعنى «إلى» ، والبعض الآخر بمعنى (التعليل) وفي الحالة الأولى تكون كلمة (ذلك) إشارة إلى دين الأنبياء السابقين ، وفي الحالة الثانية إشارة إلى اختلاف الأمم.

٤٩٢

الاستقامة يجب أن تكون من حيث الكمية والكيفية والزمن والخصوصيات الأخرى مطابقة للقانون الإلهي.

وبما أن أهواء الناس تعتبر من الموانع الكبيرة في هذا الطريق ، لذا تقول الآية في ثالث أمر لها :( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) ، لأن كلّ مجموعة ستدعوك إلى أهوائها ومصالحها الشخصية ، تلك الدعوة التي يكون مصيرها الفرقة والاختلاف والنفاق ، فعليك القضاء على هذه الأهواء ، وجمع الكل في ظل الدين الإلهي الواحد.

وبما أن لكل دعوة نقطة بداية ، لذا فإن نقطة البداية هي شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تقول الآية في رابع أمر لها :( وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ) . فأنا لا أفرّق بين الكتب السماوية ، اعترف بها جميعا ، وكلها تدعو إلى التوحيد والمعارف الدينية الطاهرة والتقوى والحق والعدالة ، وفي الحقيقة فإن ديني جامع لها ومكملها.

فأنا لست مثل أهل الكتاب حيث يقوم كلّ واحد بإلغاء الآخرين ، فاليهود يلغون المسيحيين ، والمسيحيون يلغون اليهود ، وحتى أن أتباع كلّ دين أيضا يقبلون ما يتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم من كتبهم الدينية ، فانا أقبل بالكل لأن الكل له أصول أساسية واحدة.

وبما أن رعاية (أصل العدالة) ضروري لإيجاد الوحدة ، لذا فإن الآية تطرح ذلك في خامس أمر لها فتقول :( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) ، سواء في القضاء والحكم ، أو في الحقوق الاجتماعية والقضايا الأخرى(١) .

وبهذا الشكل فإنّ الآية التي نبحثها مؤلفة من خمس تعليمات مهمّة ، حيث تبدأ من أصل الدعوة ، ثمّ تطرح وسيلة انتشارها ـ يعني الاستقامة ـ ثمّ تشير إلى الموانع في الطريق «كعبادة الأهواء» ثمّ تبين نقطة البداية التي تبدأ من النفس ، وأخيرا الهدف النهائي والذي هو توسيع وتعميم العدالة.

__________________

(١) بعض المفسّرين حدّد (العدالة) هنا بالقضاء ، في حين أنّه لا توجد قرينة على هذه المحدودية في الآية.

٤٩٣

بعد هذه التعليمات الخمس ، تشير إلى المشتركات بين الأقوام والتي تتلخص بخمس فقرات ، حيث تقول :( اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ) وكل واحد مسئول عن اعماله( لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ ) وليس بيننا نزاع وخصومة ، ولا امتياز لأحدنا على الآخر وليست لدينا أغراض شخصية اتجاهكم.

وعادة لا توجد حاجة إلى الاستدلال والإحتجاج ، لأن الحق واضح ، إضافة إلى ذلك فإننا جميعا سوف نجتمع في مكان واحد :( اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ) (١) .

والذي سوف يقضي بيننا في ذلك اليوم هو الأحد الذي :( وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

وعلى هذا الأساس فإنّ إلهنا واحد ، ونهايتنا ستكون في مكان واحد ، والقاضي الذي إليه المصير واحد ، وبالرغم من كلّ هذا فإننا مسئولون جميعا حيال أعمالنا ، وليس هناك فرق لإنسان على آخر إلّا بالإيمان والعمل الصالح.

وننهي هذا البحث بحديث جامع ، فقد ورد في حديث عن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث منجيات ، وثلاث مهلكات ، فالمنجيات : العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وخشية الله في السر والعلانية ، والمهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه»(٢) .

* * *

__________________

(١) الضمير المتكلم مع الغير في (بيننا) يشير إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وضمير الجمع في (بينكم) يشير إلى جميع الكفار ، سواء كانوا أهل الكتاب أو المشركين.

(٢) مجمع البيان ، نهاية الآيات التي نبحثها. وتحف العقول كلمات الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٩٤

الآيات

( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) )

التّفسير

لا تستعجلوا بالساعة!!

الآيات السابقة كانت تتحدث عن واجبات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كاحترامه لمحتوى الكتب السماوية ، وتطبيق العدالة بين جميع الناس وترك أي محاججة أو خصومة بينه وبينهم. أمّا الآيات التي نبحثها ، فلكي تكمّل البحث السابق وتثبت أن حقانية نبيّ الإسلام لا تحتاج إلى دليل ، تقول :( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) وبما أن نقاشهم ومحاججتهم ليس لكشف الحقيقة ، بل للعناد والإصرار تقول الاية( وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) .

٤٩٥

( وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) لعدم وجود غير هذا الجزاء للمعاندين.

وقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المقصود من جملة :( مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ) .

فقالوا : إنّ المقصود هو استجابة عامة الناس من ذوي القلوب الطاهرة ، والذين ليست لهم نوايا خبيثة ، يستسلمون للحق ويخضعون له مستلهمين ذلك من الفطرة الإلهية ومشاهدة محتوى الوحي والمعاجز المختلفة للنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد يكون المقصود بها استجابة دعاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحق معارضيه كما في يوم معركة بدر ، حيث أدى ذلك إلى فناء قسم عظيم من جيش العدو وانكسار شوكته.

وأحيانا اعتبروا ذلك إشارة إلى قبول أهل الكتاب ، حيث كانوا ينتظرون نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ظهوره ، ويذكرون علامات ظهوره للناس من خلال كتبهم ، وكانوا يظهرون الإيمان والحب له ، إلّا أنّه بعد ظهور الإسلام أنكروا كلّ ذلك ، لأن مصالحهم غير المشروعة أصبحت في خطر.

ويبدو أن التّفسير الأوّل هو الأفضل ، لأن التّفسير الثّاني يقتضي أن تكون هذه الآيات نازلة بعد معركة بدر ، في حين أنّه لا دليل على هذا الأمر ، ويظهر أن جميع هذه الآيات نزلت في مكّة.

والتّفسير الثّالث لا يتلاءم مع أسلوب الآية ، لأنّه يجب أن يقال : «من بعد ما استجابوا له».

إضافة إلى أن ظاهر جملة :( يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ) يشير إلى محاججة المشركين بخصوص الخالق ، وليس أهل الكتاب بالنسبة الى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن ما هي المواضيع المطروحة المشار إليها في هذه المحاججة الباطلة؟ هناك اختلاف بين المفسّرين :

فقال البعض : إنّ المقصود هو ادعاء اليهود الذين يقولون بأن دينهم كان

٤٩٦

موجودا قبل الإسلام وإن اسبقيته دليل على أفضليته.

أو ، ما دمتم تدّعون الوحدة فتعالوا وآمنوا بدين موسىعليه‌السلام لأن الطرفين يقبلانه.

ولكن ـ كما قلنا ـ فإن من المستبعد أن يكون الكلام في هذه الآيات مع اليهود أو أهل الكتاب ، لأن «المحاججة في الله» أكثر ما تخص المشركين ، لذا فإنّ الجملة أعلاه تشير إلى الأدلة الواهية للمشركين في قبولهم بالشرك ، والتي منها شفاعة الأصنام أو اتباع دين الآباء والأجداد.

على أية حال ، فالمعاندون الذين يصرون على عنادهم بعد وضوح الحق ، سيفتضح أمرهم بين خلق الله ، وسيشملهم غضب الخالق في هذا العالم والعالم الآخر.

ثم يشير القرآن إلى أحد أدلة التوحيد وقدرة الخالق ، وفي نفس الوقت يتضمّن إثبات النبوة حيال المتحاججين ذوي المنطق الواهي ، حيث تقول الآية :( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ ) .

«الحق» كلمة جامعة تشمل المعارف والعقائد الحقة ، والأخبار الصحيحة والبرامج المتطابقة مع الحاجة الفطرية والاجتماعية ، وما شابه ذلك ، لأن الحق هو الشيء الموجود الذي يطابق مصداقه الخارجي ، وليس له جنبة ذهنية وخيالية.

وأمّا «الميزان» فله معنى عام في مثل هذه الموارد ، بالرغم من أن معناه اللغوي هو وسيلة لقياس الوزن ، إلّا أنّه في معناه الكنائي يطلق على أي معيار للقياس والقانون الإلهي الصحيح ، وحتى شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّةعليهم‌السلام ، حيث أن وجودهم معيار لتشخيص الحق من الباطل وميزان يوم القيامة ، والميزان في القيامة يراد به هذا المعنى.

بناء على هذا فإنّ الخالق أنزل كتابا على نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يعتبر هو الحق ، والميزان للتقييم ، والتدقيق في محتوى هذا الكتاب سواء معارفه وعقائده ،

٤٩٧

واستدلالاته المنطقية ، أو قوانينه الاجتماعية ، وحتى برامجه لتهذيب النفوس وتكامل البشر كلّ ذلك يعتبر دليلا على حقانيته.

إنّ هذا المحتوى العظيم ـ بهذا العمق ـ من شخص أمّي لا يعرف القراءة والكتابة ، وقد نشا في مجتمع يعتبر من أكثر المجتمعات تخلفا ، يعتبر بحدّ ذاته دليلا على عظمة الخالق ، ووجود عالم ما وراء الطبيعة ، وحقانية من جاء به.

وهكذا فإنّ الجملة أعلاه تعتبر جوابا للمشركين ولأهل الكتاب.

وبما أن نتيجة كلّ هذه الأمور ، خاصة ظهور الحق بشكل كامل والعدالة والميزان تتّضح في يوم القيامة ، لذا فإن الآية تقول في نهايتها :( وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) .

فالقيامة عند ما تقام يحضر الجميع في محكمة عدله ، ويواجهون الميزان الذي يقيس حتى حبّة الخردل أو أصغر منها.

ثم يشير القرآن إلى موقف الكفار والمؤمنين حيال القيامة ، فتقول الآية :( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ) .

فهؤلاء لا يقولون ذلك بسبب عشقهم للقيامة والوصول إلى لقاء المحبوب أبدا ، إنّ كلامهم هذا من قبيل الاستهزاء والإنكار ، ولو كانوا يعلمون ما سيحل عليهم يوم القيامة لم يطلبوا مثل هذا الأمر.

( وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ ) (١) .

طبعا لحظة قيام القيامة خافية على الجميع ، حتى بالنسبة للأنبياء المرسلين والملائكة المقربين ، ليكون هذا الأمر أسلوبا تربويا مستمرا للمؤمنين ، واختبارا وإتمام حجة للمنكرين ، ولكن لا يوجد أي شك في أصل وقوعها.

__________________

(١) «مشفقون» من كلمة (إشفاق) وتعني العلاقة المقترنة مع الخوف ، فمتى ما تعدت بحرف (من) يطغى جانب الخوف عليها ، وعند ما تتعدى بحرف (على) يطغى جانب الانتباه والمراقبة عليها ، ولذا فإن الإنسان يقول لصاحبه وصديقه : «أنا مشفق عليك» (تفسير روح المعاني ومفردات الراغب).

٤٩٨

ومن هنا يتّضح مدى التأثير التربوي العميق للإيمان بالقيامة ومحكمة العدل الإلهي الكبيرة على المؤمنين خاصة في احتمالهم حصول هذا الأمر في أية لحظة من اللحظات.

وكإعلان عام ، تقول الآية في نهايتها :( أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) لأن نظام هذا العالم يعتبر ـ بحد ذاته ـ دليلا على أنّه مقدمة لعالم آخر وبدونه سيكون خلق هذا العالم عبثا وليس له أي معنى ، وهذا لا يتناسب مع حكمة الخالق ولا مع عدالته.

وتشير عبارة (ضلال بعيد) إلى أنّ الإنسان قد يضل الطريق أحيانا ، إلّا أنّه لا يبتعد عنه كثيرا ، وبقليل من البحث والجهد يمكنه أن يكتشف الطريق وأحيانا يكون البعد كبيرا جدا بحيث يصعب ـ أو يستحيل ـ عليه العثور على الطريق مرّة اخرى.

والطريف في الأمر أنّنا نقرأ في حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سأل رجل رسول الله في إحدى سفراته وبصوت مرتفع : يا محمّد ، فأجابه الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبصوت مرتفع مثل صوته «ما تقول؟».

قال الرجل : متى الساعة؟

قال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّها كائنة فما أعددت لها؟».

قال الرجل : حبّ الله ورسوله!

قال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مع من أحببت»(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي ، المجلد الخامس والعشرون ، ص ٣٢.

٤٩٩

الآيتان

( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) )

التّفسير

مزرعة الدنيا والآخرة :

بما أن الآيات السابقة كانت تتحدث عن العذاب الإلهي الشديد وعن طلب منكري المعاد للتعجيل بقيام القيامة ، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها هنا تقرن «الغضب» الالهي مع «اللطف» الالهي في معرض ردها على استعجال منكري المعاد :( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ ) .

فعند ما يهددهم بالعذاب الشديد في موضع ، يعدهم باللطف في موضع آخر ، ذلك اللطف الواسع غير المحدود ولا يعجّل في عقاب الجاهلين المغرورين.

ثم تطرح الآية أحد مظاهر لطفه العام وهو الرزق ، فتقول :( يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ) . وهذا لا يعني أن هناك جماعة محرومون من رزقه ، بل المقصود البسط في الرزق لمن يشاء ، كما جاء في الآية ٢٦ من سورة الرعد :( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607